الاثنين، 10 أبريل 2023

ج1 سلسلة القصص محمد صالح المنجد قصة هرقل والإسلام

 

ج1 سلسلة القصص محمد صالح المنجد

قصة هرقل والإسلام

في هذا الدرس شرح لحديث ورد في البخاري، جاء فيه بيان لكيفية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم هرقل للإسلام، وصلت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فبحث عن رجلٍ من قريش، فوجد أبا سفيان ثم طلبه وسأله عدة أسئلة استنتج من خلالها حقيقة نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

كما تحدث الشيخ عن الروايات الأخرى للحديث وبعض الفوائد التي يستفيدها المرء من هذا الحديث.

قصة هرقل مع أبي سفيان

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى أن بلغنا هذه العشر الأواخر من شهر رمضان، ونسأله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته فيها.

ونتحدث -يا أيها الإخوة- في هذه الليلة -إن شاء الله- عن قصة عظيمة من القصص التي حدثت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذه القصة هي قصة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام لـ هرقل ودعوته إلى الإسلام.

(1/2)

هرقل يسأل وأبو سفيان يجيب

روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن عباس: (أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش؛ وكانوا تِجَاراً بـ الشام في المدة التي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش) هرقل جاءته رسالة النبي عليه الصلاة والسلام فأراد أناساً من قوم النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليسأل عن حاله، فعُثِر على أبي سفيان وكان مشركاً مع بعضٍ من كفار قريش؛ وقد كانوا تُجَّاراً بـ الشام، فأُتِي بهم إلى هرقل.

قال: (فأتوه وهم بـ إيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً.

فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابَه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه) سأسأل صاحبكم الذي يجلس أمامكم وهو أبو سفيان عن صاحبكم، الذي هو النبي عليه الصلاة والسلام، فإن كَذَب في الإجابة فبيِّنوا لي أنه قد كَذَب.

(يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا عليَّ كذباً لكذبت عنه.

ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قط قبلَه؟ قلت: لا.

قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.

قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.

قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.

قال: فهل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.

قال: فهل يغدِر؟ قلت: لا.

ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعلٌ فيها -نحن الآن في مرحلة صلح الحديبية في هدنة معه لا ندري ماذا يفعل فيها؟ - قال أبو سفيان: ولم تُمْكِني كلمةٌ أُدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة) أي: ما استطعت أن أدخل دسيسة في الجواب إلا في هذا الموضع.

(قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.

قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال -يعني: تناوب في الانتصار، مرة لنا ومرة له- ينال منا وننال منه.

قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف والصلة).

(1/3)

هرقل يبين حقيقة نبوة المصطفى من إجابات أبي سفيان

(فقال للترجمان - هرقل يقول للترجمان الذي يترجم من لغة إلى أخرى-: قل له - لـ أبي سفيان -: سألتك عن نسبه؟ فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.

وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ -يعني: من قبل- فذكرتَ أن لا، فقلت: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلتُ رجلٌ يتأسى بقول قيل قبله) أي: مقلد، لكن ما أحد قال هذا الكلام قبله.

(وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجلٌ يطلب ملك أبيه) سبب هذه الدعوة أنه يطالب بملك أبيه، لكن ليس من آبائه من ملك.

(وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله) يعني: هرقل متأكد من أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق.

(وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) هرقل يعرف أن أتباع الرسل هم الضعفاء.

(وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم -يعني: يبدأ غريباً ثم ينتشر-.

وسألتك: أيرتد أحدٌ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

وسألتك: هل يغدِر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدِر.

وسألتك: بِمَ يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيَمْلِك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخْلُص إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه).

(1/4)

نص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل

دعا هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.

سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: دعوة الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين -وهم الفلاحون الذين كانوا من رعايا هرقل - و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب -أي: الأصوات المختلطة المرتفعة- وارتفعت الأصوات، وأُخْرِجنا.

فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة -لقد عَظُم أمر محمد صلى الله عليه وسلم- إنه يخافه ملك بني الأصفر - أبو سفيان يقول: هرقل؛ هذا ملك الروم يخاف محمداً! صلى الله عليه وسلم (فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام).

(وكان ابن الناظور أو ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سُقُفَّاً على نصارى الشام) ابن الناطور وهرقل كانا من علماء النصارى بالدين، وكانا زميلين في الدين النصراني.

(وكان ابن الناطور -صاحب إيلياء وهرقل - سُقُفَّاً على نصارى الشام يحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته -يعني: الرجال الكبار عنده-: قد استنكرنا هيئتك.

قال ابن الناطور: وكان هرقل حزَّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرتُ في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟) أي: لما سألوه: ما بالك مهموماً؟ قال: رأيت ملك الختان قد ظهر، انظروا من يختتن في العالم في الناس؟! من يختتن؟! (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمك شأنهم، واكتب إلى المدن في ملكك فيقتلوا مَن فيها مِن اليهود.

فبينما هم على أمرهم أُتِي هرقل برجلٍ أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ -الرسول هذا الذي جاء برسالة من محمد صلى الله عليه وسلم انظروا هل هو مختتن أم لا؟ - فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن.

وسأله عن العرب.

فقال: هم يختتنون.

فقال هرقل: هذا مُلْك هذه الأمة قد ظهر.

ثم كتب هرقل إلى صاحب له بـ رومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرِم حمصاً حتى أتاه كتاب من صاحبه -الذي في رومية - يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بـ حمص -بناء كالقصر أمر بأن يُدخلوا إليه- ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطَّلع - هرقل اطَّلع على كل الكبراء الذين أدخلوا- فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصةَ حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقت -اضطربوا وتدافعوا إلى الأبواب- فلما رأى هرقل نفرتهم وأَيِس من الإيمان قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل).

هذه القصة التي رواها البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وكذلك رواها مسلم رحمه الله، والحديث عند الترمذي وأبي داود وأحمد في سياقات مختلفة.

(1/5)

هرقل يرسل رسولاً إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم

وهناك رواية ساقها الإمام أحمد رحمه الله فيها مزيد من التوضيح لبعض الظروف التي حصلت في الخطاب النبوي إلى هرقل، يقول فيه سعيد بن أبي راشد مولى لآل معاوية: (قدمت إلى الشام فقيل لي: في هذه الكنيسة رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدخلنا الكنيسة فإذا أنا بشيخ كبير، فقلت له: أنت رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

قلت: حدثني عن ذلك، قال: إنه لما غزا تبوك كتب إلى قيصر كتاباً وبعث به مع رجل يقال له: دحية بن خليفة الكلبي، فلما قرأ كتابه -لما قرأ هرقل كتاب النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته- وضعه معه على سريره، وبعث إلى بطارقته) إلى رجال الكنيسة، ومفردها: بطريق (ورءوس أصحابه) عظماء القوم، قادة الجيوش، الأمراء، وقادة الألوية (فقال: إن هذا الرجل قد بعث إليكم رسولاً، وكتب إليكم كتاباً يخيركم إحدى ثلاث: - إما أن تتبعوه على دينه.

- أو تقروا له بخَراجٍ يجري له عليكم ويقركم على هيئتكم في بلادكم.

- أو أن تلقوا إليه بالحرب.

قال: فنخروا نخرةً) النخير: هو صوت الأنف، والمراد الغضب والفوران المعبر عن النفور (فنخروا نخرةً حتى خرج بعضهم من برانسهم) والبرنس: هو الثوب الذي يلتصق به غطاء الرأس، مثل: لباس المغاربة اليوم (حتى خرج بعضهم من برانسهم، وقالوا: لا نتبعه على دينه ونَدَع ديننا ودين آبائنا، ولا نقر له بخراج يجري له علينا، ولكن نُلقي إليه الحرب.

فقال: قد كان ذاك، ولكني كرهتُ أن أفتات دونكم بأمرٍ.

قال عباد: فقلت لـ ابن خثيم: أو ليس كان قارب وهمَّ بالإسلام فيما بَلَغَنا) يعني: هرقل، ما كاد يسلم؟ (قال: بلى.

لولا أنه رأى منهم، فقال: أُبغوني رجلاً من العرب أكتب معه إليه جواب كتابه) أي: التمسوا لي رسولاً أكتب معه جواب كتابه.

(قال: فأتيت وأنا شاب فانطُلق بي إليه فكتب جوابه وقال لي: مهما نسيت من شيء فاحفظ عني ثلاث خلال) يقول هرقل لرسوله: إذا ذهبت إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- أعطه كتابي ورسالتي، وإذا نسيتَ فلا تنسَ هذه الأشياء: (انظر إذا هو قرأ كتابي هل يذكر الليل والنهار؟ وهل يذكر كتابه إليَّ؟ وانظر! هل ترى في ظهره عَلَماً؟).

(1/6)

رسول هرقل يقابل رسول الله

(قال - رسول هرقل -: فأقبلت حتى أتيته وهو بـ تبوك في حلقة من أصحابه محتبين فسألت فأُخبرت به، فدفعت إليه الكتاب -رسالة هرقل - فدعا معاوية -وكان من كتاب الوحي، ممن يعرفون القراءة، وقد أسلم رضي الله عنه- فقرأ عليه الكتاب، فلما أتى على قوله: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟) هرقل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء الليل فأين النهار؟) يعني: هذا رد على الشبهة، يقول: إذا جاء الليل فأين النهار؟ أين يذهب النهار؟ (قال: فقال: إني قد كتبت إلى النجاشي فخرَّقه فخرَّقه الله مخرّق المُلك.

قال عبَّاد: فقلت لـ ابن خثيم: أليس قد أسلم النجاشي ونعاه رسول الله عليه الصلاة والسلام بـ المدينة إلى أصحابه فصلى عليه؟ قال: بلى.

ذاك فلان بن فلان، وهذا فلان بن فلان، قد ذكره ابن خثيم جميعاً ونسيتهما) يعني: أن كلمة النجاشي لقب ملك الحبشة، كل مَن ملَك الحبشة يقال له: نجاشي، كل مَن ملَك الروم يقال له قيصر، كل مَن ملَك الفرس يقال له: كسرى، كل مَن ملَك اليمن يقال له: تُبَّع، كل مَن ملَك مصر يقال له: فرعون، كل مَن ملَك الإسكندرية يقال له: المقوقس، كل مَن ملَك الترك يقال له: خاقان، فكلمة ملك بالحبشية: نجاشي، بالمصرية: فرعون، بالإسكندرانية: مقوقس، بالتركية: خاقان، بالفارسية: كسرى، بالرومية: قيصر، لكن القياصرة لهم أسماء مختلفة، الفراعنة لهم أسماء مختلفة، والنجاشي هكذا أيضاً.

فيقول له: النجاشي الذي أرسلت إليه الرسالة غير النجاشي الذي أسلم، ملكٌ آخر من ملوك الحبشة، هذا المقصود.

قيصر ملك الروم الذي أرسلت إليه الرسالة ما اسمه؟ اسمه هرقل، وهو الذي نحن بصدده.

كسرى أنوشروان، له اسم، كسرى هذا لقب، معناه: مَلِك، مَلِك الفرس.

(وكتبتُ إلى كسرى كتاباً فمزَّقه فمزق الله ملكه -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- وكتبتُ إلى قيصر كتاباً فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأساً ما كان في العيش خيرٌ) يقول: الحبشة لن تقوم لهم قائمة، ولن يوجد فيهم مُلكٌ قائم، وسيمزقهم الله لأنهم مزقوا الرسالة، ويقول: دولة فارس لن تقوم فيها مملكة لفارس ولن يحكموها ولن يدوم لهم الحكم، والله سيمزق ملك فارس كما أنهم مزقوا الرسالة، لكن يقول: هرقل ما مزق الرسالة، فسيبقى في الروم قوة.

والناظر في الواقع يرى هذا جيداً، بعد كسرى تمزقت مملكة فارس، ما عاد هناك مِن مَلِك، كلها ثورات وحروب.

وكذلك الحبشة لم يعد لها شأن، وصاروا أناساً متخلفين.

والروم؟ اليوم أوروبا ما زال لهم قوة إلى الآن، والحروب الصليبية لا زالت موجودة إلى الآن.

قال: (وكتبت إلى قيصر كتاباً فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأساً ما كان في العيش خيرٌ، ثم قال لي: مَن أين أنت؟ قلت: من تنوخ -رسول هرقل تنوخي- قال: يا أخا تنوخ! هل لك في الإسلام؟ قلت: لا.

إني أقبلتُ من قِبَل قوم وأنا فيهم على ديني ولست مستبدِلاً بدينهم حتى أرجع إليهم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تبسم، فلما قضيت حاجتي قمتُ، فلما وليت دعاني، فقال: يا أخا تنوخ! هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به -صاحبك أمرك بثلاثة أشياء، وأنت وجدت اثنتين، والثالثة ما أخذت خَبَرها، ما هي الثالثة؟ علامة الظهر- قال: هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به، قال: وكنت قد نسيتُها فاستدرت من وراء الحلقة، ويلقى بردة كانت على ظهره -أو يلقيها عن ظهره- فرأيت غضروف كتفه مثل المحجم الضخم) المحجم: المشرط الذي يشق به موضع الحجامة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بين كتفه مجموعة عظام مثل هيئة بيضة الحمامة، خاتم النبوة، مستدير، بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، كان جميلاً موقعه، جميلاً شكله، وليس بعاهة ولا تشويه.

هذه الرواية التي رواها الإمام أحمد في سندها رجل مقبول، فذكر نحو حديث عبَّاد بن عبَّاد؛ وحديث عبَّاد أتم وأحسن، وزاد فقال: (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام، فأبى أن يسلم وتلا هذه الآية: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) [القصص:56] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك رسول قوم، وإن لك حقاً -يعني: لا بد أن نكرمك ونضيفك-ولكن جئتنا ونحن مُرْمِلون -يعني: نفذ زادنا في تبوك - فقال عثمان بن عفان: أنا أكسوه حلة صَفُورية -ثوب من قطعتين- وقال رجل من الأنصار: عليَّ ضيافته، يعني: أنا أتكفل بضيافة هذا الرسول).

وقد أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه وعزاه إلى الإمام أحمد، ثم قال: هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به، تفرد به الإمام أحمد رحمه الله.

وأورده الهيثمي وقال: رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى ورجال أبي يعلى ثقات، ورجال عبد الله بن أحمد كذلك.

وهناك قصة أخرى تبين أشياء أخرى من التفاصيل رواها الحاكم في المستدرك، وذكرها ابن كثير رحمه الله في تفسيره تحت قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف:157] الآية.

(1/7)

رواية أخرى عند البيهقي في دعوة هرقل للإسلام

يقول: عن هشام بن العاص الأموي قال: [بُعِثْتُ أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطه -يعني: غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني] والغساسنة عرب، لكن ولاؤهم للروم، وكان الروم قد وضعوا الغساسنة على حدود الجزيرة بينهم وبين العرب، حتى لا يدخل العرب بغاراتهم في بلاد الروم، والغساسنة يكفُون الروم العرب على الحدود، والروم لا يطمعون في أرضهم؛ لأنها صحراء قاحلة.

(1/8)

هشام بن العاص يطلب مقابلة هرقل

يقول: [قدمنا الغوطة -يعني: غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني فدخلنا عليه فإذا هو على سرير اللهو، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولاً وإنما بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لن نكلم الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك.

قال: فأذن لنا -من هو الذي أذن؟ جبلة بن الأيهم ملك غسان- فقال: تكلموا.

فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود؛ فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ قال: لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام.

قلنا: ومجلسك هذا -والله- لنأخذنه منك ولنأخذن مُلك الملِك الأعظم -يقول هذا المسلم للغساني: سنأخذ مُلكك وملك الملك الأعظم الذي هو قيصر، إن شاء الله أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سواداً.

فقال: قوموا، وبعث معنا رسولاً إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريباً من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال.

قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك، فأمرهم أن ندخل على رواحلنا فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة اللهو، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح.

قال: فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراش اللهو وعنده بطارقة من الروم وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليهم ثياب من الحمرة.

فدنونا منه فضحك، فقال: ما عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم -لماذا لم تسلموا عليَّ؟ - وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام.

فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيَّا بها لا يحل لنا أن نحييك بها.

قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك.

قال: فكيف تحيون مَلِكَكم؟ قلنا: بها.

قال: كيف يرد عليكم؟ قلنا: بها -يعني: وعليكم السلام-.

قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما تكلمنا بها والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها.

قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، أكُلَّما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك.

قال: لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم، وأني قد خرجت من نصف ملكي.

قلنا: لِمَ؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأن تكون من حِيَل الناس.

ثم سألَنَا عما أراد، فأخبرناه.

ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه.

فقال: قوموا، فأمر لنا بمنزل حسن، ونُزُل كثير فأقمنا ثلاثاً].

(1/9)

هرقل يري هشام بن العاص وصاحبه صور الأنبياء

قال هشام بن العاص: [فأرسل إلينا هرقل ليلاً فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الرضعة العظيمة مذهَّبَة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتاً فاستخرج حريرة سوداء فنشرناها، فإذا فيها صورة حمراء، وفيها رجلٌ ضخم العينين، عظيم الإليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله.

فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعراً -أي: الروم رسموا الأنبياء بناءً على معلومات عندهم-.

ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القَطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن الهيئة.

فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا نوح عليه السلام.

ثم فتح باباً آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا إبراهيم عليه السلام.

ثم فتح باباً آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله- رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرسمة- فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم.

هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وبَكيْنا، قال: والله أعلم أنه قام قائماً ثم جلس، وقال: والله إنه لهو.

قلنا: نعم.

إنه لهو كأنك تنظر إليه.

فأمسك ساعةً ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجَّلته لكم؛ لأنظر ما عندكم -الصورة هذه كانت في آخر شيء، يعني: هو آخر نبي-.

ثم فتح باباً واستخرج صوراً، وأخبرهم عنها.

ثم قال -في نهاية القصة-: أما والله إن نفسي طابت للخروج من مُلكي، وأني كنت عبداً لأشركم حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسَرَّحنا.

فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فحدَّثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين، لو أراد الله به خيراً لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم -يعني: النصارى- واليهود يجيدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم].

الحديث أخرجه البيهقي عن الحاكم رحمه الله في كتاب: دلائل النبوة.

وقال ابن كثير: إسناده لا بأس به.

على أية حال: على فرض صحة هذه القصة فإنها تبيِّن لنا أيضاً شيئاً آخر، لكن الرواية الأساسية هي رواية الإمام البخاري رحمه الله التي تبين أن هرقل فعلاً قارب أن يُسلم، بل هو أوشك على الإسلام، بل هو دعا قومه إلى الإسلام، لكن لما رآهم نفروا وخشي أن يزول ملكه تراجع، وقال بدهائه للروم: كنت أختبر ثباتكم على دينكم.

(1/10)

شرح رواية البخاري في دعوة هرقل للإسلام وفوائد من ذلك

رواية البخاري رحمه الله هي عن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية لما أتى به هرقل ملك الروم في الركب، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها وكانوا تُجَّاراً، والقصة حصلت في مدة صلح الحديبية وكانت في سنة (6) للهجرة، ومدة الصلح عشر سنين؛ لكن قريشاً نقضوا العهد، فالنبي عليه الصلاة والسلام غزاهم سنة (8) للهجرة، يعني بعد الصلح بسنتين، وفَتَحَ مكة، وهذا بعد أن غدروا.

فلما وصلت رسالة النبي عليه الصلاة والسلام لـ هرقل، طلب بعضَ قريش ليسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدهم رسولُه ببعض الشام في غزة.

يقول أبو سفيان: كنا قوماً تُجَّاراً وكانت الحرب قد حصبتنا -هذا يدل على أن الحرب أثرت على قريش اقتصادياً- فلما كانت الهدنة - يعني: صلح الحديبية - خرجت تاجراً إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما عَلِمْتُ بـ مكة امرأة ولا رجلاً إلا وقد حملني بضاعة، فقال هرقل لصاحب شرطته: قَلِّبِ الشام ظهراً لبطنٍ حتى تأتيني برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه، يقول أبو سفيان: فوالله إني لفي أصحابي بـ غزة إذ هجم علينا فساقنا جميعاً.

وإيلياء هي: بيت المقدس، وقيل: معناها: بيت الله، وإيلياء: هي التي سار إليها هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس، وقد كان مكان ملك هرقل في حمص، فسار من حمص إلى إيلياء -إلى بيت المقدس - مشياً شكراً لله تعالى، وكان سبب ذلك القصة التي جاءت من طرق متعاضدة كما قال ابن حجر رحمه الله وملخصها: أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيراً من بلاده، وكان النصر في البداية للفرس على الروم، ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره، فاطَّلع أميرُه على ذلك فباطن هرقل واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس، فكان سبب عودة الكفة في الرجحان للروم انشقاقٌ حصل في الفرس.

فلما حصل ذلك مشى هرقل إلى بيت المقدس شكراً لله تعالى على ذلك.

المهم: أُدخل سفيان ومن معه على هرقل، قال: (فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج، وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان، ودعا بالترجمان.

فقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي -خرج بأرض العرب- يزعم أنه نبي؟ يقول أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً) فـ أبو سفيان يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف؛ وعبد مناف هو الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لـ أبي سفيان، فيجتمعان في عبد مناف.

(1/11)

الإسلام دين عالمي

منها: دعوة كل العالم إلى الإسلام وأن الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بالعرب:- الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بـ الجزيرة، فالإسلام للعالمَين، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من الجزيرة أرسل الرسائل خارج الجزيرة، وبدأت أولى خطوات الجهاد للروم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك، والتحضير لغزو الممالك الأخرى خارج الجزيرة بدأ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجيش أسامة بن زيد كان مجهزاً لهذا الغرض.

المهم: أن الإسلام دعوة لكل العالم وليس مختصاً بفئة دون أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل رسائل دعوة للروم وللفرس ولغيرهم.

(1/12)

ذكاء هرقل في معرفة صدق أبي سفيان

فائدة ثانية: مِن فِعْل هرقل لما جاء بـ أبي سفيان ومعه أقاربه وضعهم وراءه، قال: (إن كذب فكذِّبوه): إن ما أخبر الصدق قولوا بالحقيقة، ولا شك أن القريب أحرى بالاطلاع على الأمور الظاهرة والباطنة من غيره، ثم إنه لا يقدح في نسب قريبه.

لماذا جعلهم وراءه؟ لماذا جعل قوم أبي سفيان وراء أبي سفيان، وليس أمامه؟ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، يعني: يكذبوه دون أن ينظروا في وجهه، يقول أبو سفيان: (فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا -ينقلوا- عليَّ الكذب لكذبت عليه) وهذا دليل على أن الكذب في الجاهلية كان عيباً كبيراً، وربما كان أبو سفيان يضمن أنهم لو كانوا وراءه لن يكذبوه؛ لأنهم مشتركون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما الذي منع أبا سفيان من الكذب؟ حتى لا يُنقَل عن سيد قريش إذا رجعوا أنه كَذَب؛ وهذا عيب كبير.

قال أبو سفيان: (فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف) يعني: هرقل، والأقلف: غير المختون.

سأله عن النسب؛ وهذا يدل على أن هرقل يعلم بأن الأنبياء تُبعث في أنساب قومها، حتى لا يطعن أحد في نسب النبي، فيكون معروفاً لدى كل القوم نسب القبيلة التي يُبعث فيهم.

(1/13)

المؤمن لا يرتد عن دينه سخطاً عليه

وكذلك في الحديث: أن الإنسان إذا آمن لا يرتد عن دينه ساخطاً على الدين وإنما يرتد لأسباب أخرى، وهذا في الإسلام، أما في غير الإسلام فإنه يرتد عن الدين سخطاً على الدين، يعني: ربما الواحد يكون الشخص نصرانياً، فيخرج من النصرانية ساخطاً عليها، وآخر يهوديٌ يخرج من اليهودية ساخطاً على اليهودية؛ لأن ما فيها باطل؛ لكن لا يوجد شخص مسلم يدخل الإسلام ويعرفه ويفقهه تماماً، ثم يخرج من الإسلام؛ لأن هناك أخطاء في الإسلام، أو هناك نقاط ضعف في الإسلام، لا يمكن؛ لكن ربما يخرج من الإسلام لأمور دنيوية، ولذلك قال هرقل: هل هناك أحد من المسلمين ارتد عن دينه سخطةً لدينه؟ -يعني: ساخطاً على دينه- لا يوجد، لذلك قال أبو سفيان: لا.

ففي الإسلام قد يرتد الشخص إما لأنه حديث عهد بالإسلام ولم يفقه الإسلام؛ وإما لأنه لا يريد دفع الزكاة، وإما لأنه أُغْرِي بمال، فـ عبيد الله بن جحش الذي ارتد في الحبشة، وكان من مهاجري الحبشة وارتد في الحبشة، إنما ارتد لحظ في نفسه، وليس لأجل ضعف في الدين الإسلامي، وهذه نقطة مهمة، وهي أنه لا يوجد أحدٌ يدخل في الدين -والحمد لله- ويفقهه جيداً فيتركه ساخطاً عليه، وهذا ربما يقع في أديان أخرى، أما في الإسلام فإنه لا يقع، لكن ربما يعني لهوىً؛ كمال، أو أغروه بمنصب مثلاً؛ فهذا يُمْكِن.

(1/14)

تعامل هرقل مع الدسيسة في كلام أبي سفيان

كذلك نقطة مهمة: هرقل عندما قال أبو سفيان: لكن نحن الآن في مدة لا ندري ماذا يصنع فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأدخل هذه الدسيسة يقول أبو سفيان: (فوالله ما التفت إليها مني): هرقل عاقل وذكي، أخذ إجابات أبي سفيان بالنص، والدسيسة التي أدخلها أبو سفيان في الكلام قال: لكن الآن نحن في هدنة لا ندري ماذا يصنع فيها، هذه الدسيسة الوحيدة التي استطاع أن يُدخلها، ومع ذلك هرقل ما التفت إليها.

(1/15)

الغنى والجهل سببان في الصد عن سبيل الله

كذلك في هذا الحديث: أن أتباع الرسل أكثر ما يكونون من الفقراء، لماذا؟ لأن العظماء والأغنياء يصرفهم غناهم وعظمتهم عن الحق؛ لأن الإسلام سيزيل شيئاً من مزاياهم، أو من ميزاتهم، فالآن هرقل لو دخل في الدين سيصبح مسلماً عادياً، يعني: مُلْكُه سيزول، وسيتنازل عن ملكه.

أبو جهل مثلاً: إذا أسلم فإنه سيقلِّد النبي عليه الصلاة والسلام زمام الأمور.

ما الذي منع عبد الله بن أبي من الإسلام، وصار منافقاً؟ كانوا يريدون أن يتوجوه ملكاً على المدينة، فلما جاء الإسلام شرق به وغص، ما هضم القضية، لماذا؟ لأن المنصب الذي كان سيعيَّن فيه حُرِم منه بسبب دخول الدين الجديد إلى المدينة.

إذاً: من أسباب صد كثير من العظماء والأغنياء عن الدين والحق الغنى والجهل، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني: المال والجاه يفسدان دين الإنسان أكثر من إفساد الذئب الجائع للغنم؛ وهذه مسألة مهمة.

(1/16)

الإيمان إذا وقر في القلب فإن صاحبه لا يرتد

كذلك في هذا الحديث: أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإن صاحبه لا ينحرف: ولذلك كثير من المنتكسين ما خالطت بشاشة الإيمان قلوبَهم، أو أنها لم تلازمهم هذه البشاشة وتبقى معهم، ولذلك انتكس.

(1/17)

الخوف على النفس يمنع من اتباع الحق

كذلك في هذا الحديث: أن الخوف على النفس قد يمنع الشخص من اتباع الحق:- هرقل يقول: (والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته) ولو أن هرقل تفطن إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم) لكان ما أصابه شيء؛ لكن مع ذكائه ما تفطن لقوله عليه الصلاة والسلام: (أسلم تسلم) مع أنه قال: (لو أني كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم لغسلتُ عن قدميه -يعني: مبالغة في العبودية والخدمة له- وقال: لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبِّل رأسه وأغسل قدميه) وكان وقعُ الرسالة على هرقل كبيراً يقول: (ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقاً من كرب الصحيفة) أي: عندما قُرِئ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ومما يقوي أن هرقل آثَرَ مُلكه على الإيمان واستمر على الضلال: أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة (8) هـ بعد هذه القصة بأقل من سنتين، فإن المسلمين نزلوا في معان؛ معان: معروفة في أرض الشام، ونزل هرقل في مائة ألف من المشركين وحدثت غزوة مؤتة.

(1/18)

الاختصار في الدعوة إلى الله

وكذلك فإن في هذا الحديث: أن الإنسان عليه أن يختصر في الدعوة بأسلوب حسن واضح: فإن الرسالة كانت مختصرَة غاية الاختصار: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل.

أدعوك بدعاية الإسلام) يعني: دعوة الإسلام وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

(أسلم تسلم) وهذا في غاية البلاغة.

(يؤتك الله أجرك مرتين): لماذا؟ لأنك تكون آمنت بالنبي الأول، وآمنت بالنبي المبعوث، وكذلك يكون لك الأجر مرتين؛ لأن بإسلامك يمكن أن يسلم أعدادٌ من قومك فتنال مثل أجرهم أيضاً.

(1/19)

فائدة فيمن تجري عليه أحكام أهل الكتاب

وأخذ العلماء من الحديث: أن كل من دخل في دين النصرانية يُجْرَى عليه أحكام أهل الكتاب ولو كان أصلاً ليس من بني إسرائيل: يعني: البوذي الهندوسي إذا تنصَّر هل نأكل ذبيحته؟ نعم.

إذا دخل في الدين، يُجرى عليه حكم أهل الكتاب.

وقال بعض العلماء: الكتابي هو من كان أبواه كتابيين، فهذا الذي تؤكل ذبيحته.

فأهل الكتاب لهم أحكام خاصة مع كفرهم تمييزاً لهم عن بقية المشركين ممن لا أساس لدينهم أصلاً.

وكذلك فإن في قوله: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) وهم الزُّرَّاع والفلاحون الذين كانوا في مملكته، وفيه أن الأصاغر والضعفاء أتباع الأكابر والأقوياء: ويقول لـ هرقل: إذا أصدرت على الكفر فإن كل هؤلاء الضعفاء المقلدين لك في مملكتك من الزُّرَّاع والفلاحين إثمهم عليك، تكسب مثل إثمهم، قال: (فإن عليك إثم الأريسيين).

ففيها: أن من كان سبباً في إضلال غيره فإنه يتحمل مثل إثمه: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13].

{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166].

بعض العلماء قالوا: إن في هذا الحديث دليل على جواز قراءة الجنب للآية والآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى الكفار: فإذا لم يقصد الجنب التلاوة جاز؛ كأن يقول الجنب مثلاً: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وقصد الدعاء فلا حرج، فالجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن عند جمهور العلماء؛ إلا إذا قاله ليس على سبيل التلاوة وإنما على سبيل الدعاء أو الذكر، كأن قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] لو ركب دابةً، أو دعا بدعاء هو جزء من آية أو آية.

(1/20)

حصول التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم بأشياء كثيرة

كذلك في هذا الحديث: أن التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم حصل بعدة أشياء:- حتى من جهة الجن، وحتى من جهة الكهان، وحتى من جهة المنجمين.

يعني: الآن الكهانة والتنجيم ليس فيها علم المستقبل، ولا علاقة للنجوم بالأحداث الأرضية.

ما معنى قول هرقل لما نظر في النجم قال: (هذا ملك هذه الأمة)، أو: (هذا مَلِك الختان) مَلِكُ الختان، أهل الختان، هذا ملكهم؟ أراد البخاري رحمه الله أن يبين أن الإشارات للنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق؛ من الكاهن والمنجم، الإنسي والجني، تعاضدت كلها، مع أن علم النجوم والاستدلال بالنجوم على الأحداث الأرضية باطل، والكهنة لا يعلمون الغيب؛ لكن اجتمعت كل الأدلة في وقت المبعث على هذا، يعني: عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام بالطرق الصحيحة وبالطرق الباطلة، عرفوا أنه سيخرج، وإلا هرقل كان حزَّاءً ينظر في النجوم ويتكهن، والكهان يستندون إلى إلقاء الشياطين، يعني: ما يلقيه الشيطان في نفس هذا الكاهن، وبعضهم يسترقون الخبر من السماء ويأتونه بالخبر، فطرق الحق وطرق الباطل كلها اجتمعت على خروج وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

كان قوم هرقل يظنون أن الختان في اليهود فقط، ولذلك قالوا لـ هرقل: لا تقلق، إذا كنت تخشى من المختونين، المختونون هم اليهود، اكتب إلى كل المدن التي فيها يهود في مملكتك يذبحونهم وتنتهي القضية، لا يُهِمَّنَّك شأنهم، ما كانوا يعرفون أن الختان في المسلمين، ما كانت وصلت الأخبار، ثم وصلت الأخبار بعد ذلك وعُرف عن طريق هذا الرسول الذي جاءهم بالرسالة أن المسلمين يختتنون.

ثم إن ضغاطر -وهو من عظماء الروم- لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أظهر إسلامه وألقى ثيابه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه، ولذلك هرقل خاف أن يلقى نفس المصير، فلم يسلم ثم ركب رأسه بعد ذلك وحارب المسلمين في موقعة مؤتة، فحصل أن بعض عظماء الروم قد أسلموا فعلاً، ولأن قيصر قرأ الكتاب وطواه ثم رفعه، فستكون لدولته بقية، وأما كسرى فلأنه مزق الخطاب، النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه أن يُمَزَّق ملكه، فلن تكون لهم بقية.

قال السهيلي: أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سِبْطِه، قال: فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد - أحد قواد المسلمين- اجتمع بذلك الملك، فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبره، وسأله أن يمكنه من تقبيله فامتنع -امتنع النصراني أن يترك المسلم يقبل الكتاب- فيقال: إن الرسالة -رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - بقيت عندهم.

(1/21)

بيان حقيقة قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

والقصة تبين حلقة من حلقات الدعوة التي كانت موجودة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه نفذ قول الله تعالى وأمره بالدعوة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

وفيها فوائد كثيرة، ذكر بعضها الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح.

فنكتفي بهذا القدر.

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المنقادين إلى الحق الحريصين على اتباعه.

والله أعلم.

(1/22)

الأسئلة

(1/23)

حكم كشف الطبيبة على رحم الصائمة

السؤال

هل الكشف على الرحم يضر بالصيام؟

الجواب

لا.

كشف الطبيبة لا يضر بالصيام.

(1/24)

حكم خلع الجلباب عند النساء

السؤال

ما حكم خلع المرأة للجلباب عند النساء؟

الجواب

إذا كانت تأمن من نظر الرجال فلا بأس، وإذا كانت لا تأمن فلا يجوز، وفي خلعه وعيدٌ شديد يُحمَل على مَن خَلَعَتْه وهي لا تأمن من نظر الرجال.

(1/25)

حكم ترك المكان الذي وقعت فيه المعصية

السؤال

هذا يتحدث عن معصية ابتلي بها ولا يستطيع أن ينساها، وترك مكانه من بلده إلى هذا البلد هرباً منها.

الجواب

هذا جزء من التوبة، جزءٌ من التوبة تركُ البلد إلى بلدٍ آخر؛ لأن الرجل الذي قتل مائة نفس، ماذا قال له العالم؟ اذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم.

فالخروج من البلد الذي حصلت فيه المعصية أو المعاصي، أو فيه من يزين المعصية أو يعين عليها فإن هذا من تمام التوبة.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(1/26)

قصة إسلام أبي ذر

الباحث عن الحقيقة، رجل ذو صرامة وشجاعة، يسمع الكلام بنفسه، ويتقصى الحقائق بنفسه، ليس إمعة أينما ذهب الناس ذهب معهم، بل يتحمل الأذى في سبيل دعوته، وهو ذو فطنة في أمره، والباحث عن الحق يصل.

(2/1)

أبو ذر قبل إسلامه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن إسلام صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو: أبو ذر الغِفاري رضي الله تعالى عنه.

يقول ابن عباس >كما روى البخاري في صحيحه: لما بلغ أبا ذرٍ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني.

فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردته.

فتزود وحمل شنةً له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فرآه عليٌ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت؟ ففعل، فأخبره قال: فإنه حقٌ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل.

فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم.

فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم.

ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا عليه فأكب العباس عليه.

هذا الصحابي الجليل: جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار، وغفار من كنانة، فهو أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه.

هذا الصحابي روى قصة إسلامه ابن عباس، قال لأصحابه يوماً: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى.

قال: قال أبو ذر: كنت رجلاً من غفار -أي: ابن عباس سمع قصة إسلام أبي ذر من أبي ذر.

وقد وردت قصة مشابهة تبين بتفصيلٍ أكثر، كيف بدأت رحلة البحث عن الحق عند أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وهذه القصة رواها مسلم رحمه الله في صحيحه: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أُنيس وأمّنا، فنزلنا على خالٍ لنا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أُنيس.

أي: اتهموه في عرضه بزوجته مع هذا الرجل الذي هو ابن أخته، فذكر ذلك لنا.

أي: قال: أنت تذهب إلى زوجتي في غيابي وتدخل عليها، فقلنا له: أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته -نحن ناس ضيوف نزلنا عليك جئت أنت الآن وسمعت كلاماً من الخارج أن صاحبنا وأخانا هذا يدخل على زوجتك في غيابك، ما عدنا نريد البقاء عندك- أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته -أي: كدرته بهذا الاتهام- فتحملنا عليه وجلس يبكي -أي: كأنه ندم على الاتهام الباطل- فانطلقنا نحو مكة فنافر أخي أُنيس رجلاً إلى الكاهن، فخير أُنيساً فأتانا بصرمتها ومثلها معها -أي: حصل رهان بينهما عند الكاهن وطلع الحظ والنصيب لأخي أبي ذر، وجاء بطعام زيادة، قال أبو ذر: وقد صليت يابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.

قلت: لمن تصلي؟ -لمن كنت تصلي في الجاهلية قبل أن ترى النبي عليه الصلاة والسلام- قال: لله، قال: فأين توجهت؟ -أي: لا إسلام ولا معرفة بالقبلة ولا بالكعبة فأين تتوجه؟ - قال: حيث يوجهني ربي، قال: فقال لي أُنيس: إن لي حاجةً بـ مكة، فانطلق ثم جاء فقال: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بـ مكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس -أي: جماعته وقبيلته الذين حوله ماذا يقولون عنه؟ - قال: يقولون: شاعرٌ، كاهن، ساحر -وكان أُنيس شاعراً- ولقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم -يقول لـ أبي ذر: والله سمعت كلام الكهان، وسمعت كلامه ليس بكاهن- ووضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم عليها، والله إنه لصادق.

فلعل أبا ذرٍ رضي الله عنه كان أراد من أخيه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره، فأرسل أخاه إلى مكة لكن أخاه ما جاء له إلا بشيءٍ مجمل، ما جاء بالتفاصيل الذي تشبع أبا ذر، فلذلك انطلق الأخ الآخر، أرسل أخاً آخر إلى مكة، حتى يأتيه بأخبارٍ أخرى، ولكن الذي رجع به هو أيضاً قوله: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر، أيضاً لم يشفِ غليل أبي ذر.

قرر أبو ذر رضي الله عنه أن يذهب بنفسه، ذهب إلى مكة، لكنه يعرف أن قوم محمد عليه الصلاة والسلام يعادونه فكيف يسألهم عنه ويقول: دلوني على محمد؟ يمكن أن يضربوه أو يضللوه، ولذلك من ذكاء أبي ذر رضي الله عنه أنه دخل مكة دون أن يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً، مع أنه جاء لهذه الحاجة الوحيدة.

أبو ذر كان رجلاً سليم الفطرة يبحث عن الحق، أرسل أخاه مرة أو مرتين وما جاء بأخبار كافية، ذهب هو بنفسه لاستقصاء الأخبار، وكان رضي الله عنه فطناً، ففكر أنه لو سألهم عن النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يؤذوه، أو يؤذوا النبي عليه الصلاة والسلام بسبب من يقصده من خارج مكة، أو أنهم لا يدلون أبا ذر على مكان النبي عليه الصلاة والسلام ويضللونه، أو يمنعونه من الاجتماع به ويحولون بينه وبينه.

(2/2)

قدوم أبي ذر وإسلامه عند النبي صلى الله عليه وسلم

جاء أبو ذر إلى مكة ودخل الحرم فرآه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، اكتشف بفطنته -مع أنه كان صغير في السن ذلك الوقت- أن رجلاً غريباً جاء إلى الحرم.

والقصة هذه حدثت بعد البعثة بأكثر من سنتين، لأن عمر علي رضي الله عنه في ذلك الوقت تقريباً اثنتا عشرة سنة، يعني علي رضي الله عنه يمارس الدعوة ويكتشف الغرباء الذين جاءوا للسؤال عن النبي عليه الصلاة والسلام وعمره اثنا عشرة سنة، يمارس الدعوة وعمره اثنتا عشرة سنة.

فلما رآه علي رضي الله عنه وعرف أنه غريب؛ جاءه فقال: كأن الرجل غريب؟ قلت: نعم.

فلما رآه تبعه أي: انطلق علي إلى المنزل وانطلق أبو ذر معه، ولكن ما أحد فاتح الآخر بالمطلوب، حتى الآن مرحلة الحذر، أبو ذر ما سأل علياً أين محمد عليه الصلاة والسلام؟ ولا علي سأل الرجل قال: لماذا جئت؟ كل واحد مازال عنده شيءٌ من الحذر حتى علي رضي الله عنه كان يخشى أيضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، في النهاية قال علي لـ أبي ذر: أما نال للرجل وفي رواية: أما آن للرجل -ما حان الوقت- أن يعرف منزله؟ فلعل علياً رضي الله عنه أراد أن يقول له: ما آن لك أن توضح مقصودك؟ أما جاء الوقت الذي تبين لي فيه ما هو القصد من مجيئك إلى مكة؟ يقول أبو ذر: قلت: لا.

في البداية، فلما كان اليوم الثالث عاد علي إلى الكلمة، ما آن للرجل أن يعلم منزله وأن يعلم مقصده، أما آن لك أن توضح لي لماذا جئت إلى مكة؟ فـ أبو ذر رضي الله عنه أخذ عليه العهد والميثاق إن أخبره عن السبب الذي حمله على المجيئ إلى مكة أن يرشده إلى السبب أو إلى المقصد الذي جاء من أجله، فأعطاه علي رضي الله عنه العهد والميثاق، فأخبره أنه يريد أن يرى ويقابل النبي صلى الله عليه وسلم.

فـ علي رضي الله عنه حتى لا يؤذي أبا ذر أو النبي عليه الصلاة والسلام؛ بسبب أنه أتى من الخارج، ومعنى ذلك أن الدعوة فيها اتساع حتى أنها خرجت خارج مكة، وهذه مصيبة بالنسبة لكفار قريش أن تخرج الدعوة خارج مكة، ويصبح لها أنصار في القبائل.

فيقول لـ أبي ذر: اتبعني أنت وإذا رأيت شيئاً يريبني سأقوم كأني أصلح نعلي، فتعرف أن الوضع فيه خطر فنتوقف عن إكمال المشوار، ودخل في النهاية ومشى وراءه ودخل معه على النبي صلى الله عليه وسلم فدل علي رضي الله عنه أبا ذر على النبي صلى الله عليه وسلم.

تفاصيل اللقاء وردت في رواية عبد الله بن الصامت قال: قلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، يقول أبو ذر: فكنت أول من حياه بالسلام، قال: من أين أنت؟ قلت: من بني غفار، قال: فوضع يده على جبهته، فقلت: كره أن انتميت إلى غفار، لماذا وضع يده على جبهته؟ وسأله عن مكوثه في مكة كيف كان يطعم؟ وأخبره أبو ذر رضي الله عنه أنه جلس في مكة ثلاثين يوماً قبل أن يراه حتى فطن إليه علي رضي الله عنه وأتى به.

وأنه سأله على أي شيء كان يعيش؟ فأخبره أن كان يشرب من زمزم فقط، وأنه استغنى بها عن الطعام والشراب ثلاثين يوماً وليلة، وأنه تكسرت عكن بطنه؛ لأن الإنسان إذا سمنت بطنه يكون له عكن تظهر من الجانبين ومن الخلف يقسمها العمود الفقري.

وقد قال أحد الصحابة: يا رسول الله! إذا فتح الله عليكم الطائف فعليك ببنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.

أي: أنها سمينة بنت نعمة، قوية على العمل، وكانت هذه الصفات مرغوبة في المرأة في ذلك الوقت، لا يحبون النحيلة فإنها تقبل بأربع يعني: من الأمام من سمنها وامتلاء جسمها لها أربع عكن من الأمام وتدبر بثمان يعني: من الخلف إذا ولت الأربع التي من الأمام تكون أربع على الجنب الأيمن وأربع على الجنب الأيسر وفي الوسط العمود الفقري، هذا معنى تدبر بثمان.

فالشاهد أن السمن يؤدي إلى وجود العكن في البطن وهي الإنثناءات، فـ أبو ذر رضي الله عنه أنه جلس شهراً عند ماء زمزم واستغنى بها عن الطعام والشراب، حتى سمن وتكسرت عكن بطنه، صار له انثناءات، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأن أطعمه من زبيب الطائف.

فحصل أن أبا ذر جاء معه بزادٍ أولاً من قومه؛ فلما فرغ الزاد أقام بـ مكة عند ماء زمزم، ثم حصل التعرف على النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام أسمعه كلامه وأسمعه القرآن وأسلم أبو ذر رضي الله عنه.

ماذا قال له عليه الصلاة والسلام؟: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري).

قال: اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فادعهم إلى الإسلام، فإذا بلغك ظهورنا على أعدائنا فأقبل، وفي رواية أنه قال له: (إني قد وجهت لي أرضٌ ذات نخلٍ -يعني: سأهاجر إلى أرض ذات نخل- فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك؟) فذهب أبو ذر رضي الله عنه وحصل أن أسلم معه أخوه أُنيس وأمهما وتوجهوا إلى غفار، فأسلم نصفهم بسبب دعوة أبي ذر الغفاري، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: اخرج إلى قومك وقال: اكتم هذا الأمر رفض أبو ذر أن يكتمه وقال: لأصرخن بها -أي: كلمة التوحيد- بين ظهرانيهم.

أي: بين المشركين جهاراً، فكأنه فهم أن توجيه النبي عليه الصلاة والسلام له بأن يكتم الأمر هذا ليس على الوجوب، وإنما كأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له هذا من إشفاقه عليه، فأراد أبو ذر أن يأخذ بالعزيمة وليس بالرخصة، وأن يعلن فأعلنها.

وكذلك فإنه لما قام وأعلن هذا، قامت قريش فقال بعضهم لبعض: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه وانتقل إلى دين آخر، فضربوه حتى أوجعوه وقال: فضربت لأموت.

أي: حتى أوشكت على الموت، وفي رواية: أنه أغمي عليه فارتفع حتى صار كالنصب الأحمر.

أي: مثل التمثال الأحمر من كثرة الدماء التي سالت بسبب ضربه، فأنقذه؟ العباس رضي الله عنه، قال لهم: طريق تجارتكم يمر على بني غفار فإذا سمعوا أنكم ضربتم صاحبهم، نهبوا قوافلكم حتى تركوه، وفي اليوم الثاني فعل أيضاً كذلك، وفي هذا دلالة على قوته رضي الله عنه.

(2/3)

الفوائد المنتقاة من قصة إسلام أبي ذر

هذه القصة فيها عدد من الفوائد:- أولاً: أن الإنسان يجب عليه أن يبحث عن الحق، ولابد أن يكون هدف الإنسان دائماً البحث عن الحق، سواء في قضية كبيرة مثل الدين، أو في مسألة فقهية فرعية؛ لأن البحث عن الحق هو ديدن المؤمن، ولذلك ترى الكفار الذين يسلمون؛ عددٌ منهم يكونون من الباحثين عن الحق، يقارن بين الأديان ويسأل، ويكون أصلا ًهو يبحث عن الحق، فعندما يقع على دين الإسلام يلتزم به؛ لأنه يراه هو الحق؛ لأن هذا الدين موافق للفطرة.

ثانياً: أن الإنسان في سبيل بحثه عن الحق عليه أن يتحمل المشاق، أبو ذر رضي الله عنه أرسل أخاه أولاً وثانياً ثم ذهب بنفسه وتزود وتعرض لمشاق، وجلس غريباً في مكة ثلاثين يوماً ليس عنده طعام؛ من أجل البحث عن الحق، فالبحث عن الحق يجشم الإنسان المشاق.

ثالثاً: أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم حق يدخل القلب؛ ولذلك فإن أخا أبي ذر لما سمعه عرف أنه الحق وقال: أنا أعرف الكهانة وأعرف الشعر لا هو كاهن ولا شاعر مستحيل! رابعاً: أن الداعية إلى الحق يحرص أعداء الإسلام على تشويه سمعته، لا حظ معي لما سأل أبو ذر أخاه: ماذا يقولون عنه؟ ماذا قال؟ قال: يقولون: شاعر وكاهن وساحر، وقاموس الشتائم عندهم فيه إضافات وقالوا: به جنة، أي: فيه جني، وقالوا: مُعَلَّم، أي: واحد علمه.

ولذلك رد الله سبحانه وتعالى عليهم في القرآن عندما قالوا: محمد يختلف إلى نجار رومي بـ مكة؛ فيعلمه هذا القرآن ويخرج علينا يقوله.

كان هناك نجار رومي نصراني بـ مكة قالوا: إذاً عرفنا مصدر هذا القرآن وهذه السور، فهو يتردد على هذا النجار النصراني الرومي ويأخذ عنه السور، ثم يعلنوها لنا.

فقال الله في القرآن -رد عجيب مفحم- قال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] قال: هذا النصراني الرومي الذي تتكلمون عنه في مكة أعجمي، رومي، وهذا القرآن لسان عربي مبين، كيف يكون اللسان العربي المبين من الرومي النصراني؟ ولذلك بهتوا؛ لأن السور كانت تنزل رداً على الكفار.

فإذاً: لا بد أن يتحمل الداعية إلى الله تشويه سمعته، والله سبحانه وتعالى قال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] هذه سنة الله في ابتلاء أهل الحق لا بد أن تشوه سمعتهم، لابد أن يقال عنهم: فيهم جنون تطرف إرهاب فيهم وفيهم، لا بد أن يقال عنهم ما يشوه سمعتهم، وأعداء الإسلام يركزون على هذا لماذا؟ لكي ينفروا الناس من الدعاة إلى الله وأهل الخير والحق، والعلم، يقولون عنهم: متزمت رجعي متخلف يعيش في العقلية الأولى مجنون وهكذا من الألفاظ الكثيرة الموجودة في القاموس، التي يخرجون بها يومياً في وصف أهل الحق وأهل الدين وأهل الإسلام.

فلا تجد متمسكاً بالدين، إلا ولا بد أن يهاجم، وتشوه سمعته على وجه العموم وعلى وجه الخصوص، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق تعرض لهذا، فما بالك بمن هو أقل منه؟! سبحان الله!! يقولون: عنه الصادق الأمين، وإذا اختلفوا في شيء رجعوا إليه، ومن عنده أمانة يخشى عليها وضعها عنده، يقولون: الصادق الأمين يُوحى إليه، يخرج على الصفا يا بني فلان يا بني فلان، ثم يجتمعون إليه، يقول: إني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد فيقولون له: كذاب، ساحر، مجنون، كاهن، بالأمس تقولون عنه: الصادق الأمين، اليوم فجأة انقلبت القضية وصار عندكم كذاباً ومجنوناً وساحراً وكاهناً ومُعَلَّماً وبه جنة وو إلخ.

إذاً: لا بد أن يُعلم أن الشخص الذي يسلك طريق الحق لا بد أن يؤذى؛ لأن هذه سنة الله تعالى في ابتلاء أهل الحق.

خامساً: أن الإنسان عليه أن يتقصى الحق بنفسه ولا يركن إلى الآخرين ليأتوه بالأخبار، لأن الأخبار قد تتعرض للتحريف أو للتغيير، أو أن الشخص الذي أرسلته لا يكون بتلك الحكمة فلذلك:

ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك

وبالذات في قضية معرفة حقيقة الدين، بعض الناس يعتمدون على الآخرين في جلب الفتاوى، وقد يكون الواسطة غير ضابط فيأتيه بفتوى خطأ، هذه فتوى ودين فعليه بأن يضبط الكلام بنفسه، ويطلب علو السند ويذهب هو بنفسه للسماع من الشيخ أو السؤال.

أما أن تقول فلان عن فلان عن فلان، وهذا فلان عن فلان مثل ما قال أهل الحديث: إذا كان الرواة ممن يلحنون صار الحديث بالفارسية، أي: إذا صار الراوي لحاناً، لحان: أي: يخطئ بالكلام، صار الحديث بالفارسية؛ لأن كل واحد يحرف قليلاً، حتى يصل الكلام في آخر الأمر، كلاماً غريباً جداً، ولذلك تقصي الحقائق يكون من الشخص نفسه.

سادساً: فطنة أبي ذر رضي الله عنه في أنه لم يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، وإنما انتظر ليتعرف عليه من بعيد، وتقدم ما في هذا من فائدة.

سابعاً: حرص علي رضي الله عنه على تسقط الأخبار والتقاط هؤلاء القادمين؛ لإيصالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لدعوتهم إلى الله.

ثامناً: فطنة علي رضي الله عنه لما قال: إن شعرت بشيء أو أمر مريب قمت كأني أصلح نعلي أو أريق الماء حتى تعلم أنت أن هناك خطراً أو أن هناك شيئاً غير عادي؛ فنتوقف عما كنا بصدده.

وتاسعاً: أن الإنسان إذا أراد أن يستخرج الشيء المخبوء فإنه يُعرِض ولا يأتي بالصراحة، ربما تريب الشخص الآخر، ولذلك قال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ عرض تعريضاً لطيفاً حتى يستخرج به ما عند الآخر.

عاشراً: أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ الشيء على وجه الحقيقة أخذ العهد والميثاق، فأنت إذا أردت أن تعرف الكلام على وجه الصحة لو قلت للآخر تعطيني العهد والميثاق وتعاهدني بالله أن تخبرني بالحقيقة، يكون هذا أقرب إلى معرفة الصدق؛ لأن الشخص الآخر قد يكون فيه شيءٌ من الانحراف، فيذكره عهد الله بالأمر ويغلُظ عليه الشيء ويثقل عليه عهد الله والميثاق؛ فيرجع، لكن لو قال له مباشرة: أعطني الحقيقة ربما لا يعطيه، لكن لو قال: أخذت عليك عهد الله وميثاقه أن تخبرني بالحقيقة يكون أقرب إلى معرفة الحقيقة.

الحادي عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً بأصحابه، أي: لما عرف أن أبا ذر جلس شهراً أظهر التأسف لحاله وأظهر التلطف به.

الثاني عشر: كرم الصديق، لأنه عرض وقال: يا رسول الله! أعطني إياه ضيفاً وأطعمه من زبيب الطائف، وكان طعاماً نفيساً بـ مكة آن ذاك.

الثالث عشر: أن إكرام الداخلين الجدد في الإسلام مما يثبتهم على الدين، مثلاً: موظف في الشركة معك أو أحد العمال أسلم حديثاً فينبغي أن تتخطفه نفوس المؤمنين، فكل واحد يعزمه من جهة يقول: تعال عندي وأنت تعال عندي وأنت المرة التي بعدها عندي، عندما يحس الشخص المسلم الجديد أن هناك إخوان صدق له وكل واحد يريد إكرامه من جهة يعظم الدين في نفسه، وتزداد رغبته فيه وتمسكه به.

ولذلك ينبغي أن نكرم المسلمين الجدد، إذا سمعنا بمسلم جديد من هؤلاء سواء فلبيني أو سرلانكي أو أمريكي أو من أي جنسية أسلم، نحاول أن نكرمه كل واحد يدعوه يوماً بالذات الآن في رمضان، كل واحد يدعوه يوماً وهذا موسم، الآن يقبلون على الإسلام؛ لأنهم يتأثرون بالصيام ويرون من أهل البيوت ومن بعض المسلمين من مظاهر الالتزام بالإسلام في شهر الصيام فيُسلم عدد أكبر من الكفار في شهر رمضان، وبالتجربة عدد المقبلين على الإسلام أكثر من غيره، الكفار لما يرون المسلمين في هذه العبادة وهذا الجو الإيماني تزداد رغبتهم في الإسلام ويدخلون فيه فواجبنا أن نكرمهم.

الرابع عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على توزيع الدعاة في الجزيرة، وألا يكون كل الدعاة متركزين في مكة؛ لأن من المصلحة أن ينتشر الدين في الجزيرة، وأن يكون هناك بُعد، وأن يكون هناك عمق إسلامي في القبائل، بنو غفار فيهم مسلمون.

الطفيل بن عمرو الدوسي يذهب إلى قومه بني دوس يدعوهم إلى الله، أتى بثمانين بيتاً من دوس أسلموا.

أبو ذر الغفاري ذهب يدعو غفاراً فأسلم نصف القوم.

ومن حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أن ليس كل من جاء وأسلم بـ مكة من القبائل الأخرى يقول له: اجلس بـ مكة مكان الاضطهاد والمحنة، لا.

بل كان يقول: اذهب إلى قومك، وأنت اذهب إلى قومك، وفي هذا توزيع الدعاة وهذه سياسة من النبي عليه الصلاة والسلام في غاية الحكمة والحصافة صلى الله عليه وسلم حتى ينتشر الدين في الجزيرة ويعم.

وكذلك الآن لو جاءنا أناس هنا وأسلموا وحسن إسلامهم من الحكمة أن نقول: ارجعوا إلى قومكم؛ لأن الدين إنما ينتشر بالدعاة، ما الذي نشر الإسلام في أصقاع العالم؟ فلم تصل إليها جيوش المسلمين، إندونيسيا أكبر بلد فيه تعداد مسلمين في العالم أسلموا بسبب إرسال الدعاة المسلمين، أو التجار المسلمين الذين نشروا الإسلام في تلك البلدان، وأحد التجار المسلمين كان قد ذهب في الدعوة إلى الله في بلد ففتح دكاناً فيها، في قرية من قرى الهند فصار يداين الناس ويعاملهم بالحسنى والذي عنده ضائقة ييسر ويضع عن هذا ويؤجل هذا وهذا فقير يعطف عليه، فكسب شعبية بين الناس فبعد ذلك لما أحس أنهم قد أحبوه بدأ يدعوهم إلى الإسلام فأسلم على يديه عدد من الناس، فلما أراد عظيم تلك القرية أن يخرجه منها قام أهل البلد عليه وخلعوه، وصار هذا مكانه، فيمكن للإنسان بحكمته بالدعوة إلى الله أن يكون له مجال عظيم في التأثير في الخلق.

وإرسال أبي ذر إلى قومه من باب نشر الدعوة، وحتى لو قضي على الدعوة في مكة يكون هناك في الأرض مسلمون آخرون يقومون بالواجب ونشر الدين، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم.

الخامس عشر: جرأة

(2/4)

الأسئلة

(2/5)

كيفية سجود التلاوة

السؤال

هل يجب أن تكون الأعضاء السبعة على الأرض في سجود التلاوة؟ حيث إن بعض الناس يمسك القرآن بيده ويسجد؟

الجواب

من الأخطاء إذا جاء بعض الناس يسجد سجود التلاوة يمسك المصحف بيد ويسجد باليد الثانية، مع أن الذي ينبغي أن يضع الكفين جميعاً على الأرض، ولو أعطى المصحف لشخص بجانبه أو وضعه في الرف ويسجد، أو يضعه على السجاد فلا مانع مادام السجاد نظيفاً والأرض نظيفة وما قصد إهانة المصحف، ما المانع من وضعه على الأرض وهو ما قصد الإهانة والمكان نظيف.

(2/6)

الدعاء على الظالم

السؤال

هل يجوز الدعاء على الظالم أثناء الصلاة؟

الجواب

نعم.

يجوز الدعاء عليه، لكن إذا أراد الأكثر أجراً والأفضل ألا يدعو عليه، يأخذ حقه كاملاً منه يوم القيامة.

السؤال: وإذا قال: اللهم اكفني فلاناً بن فلان؟ الجواب: نعم، لا بأس بذلك، والغلام ماذا قال؟ قال: اللهم اكفنيهم بما شئت.

(2/7)

قراءة القرآن أثناء الحديث

السؤال

هل يجوز قراءة القرآن أثناء الحديث؟

الجواب

الأولى ألا يكون ذلك، حتى لا يحصل تشويش ويقرأ الإنسان في بيته.

(2/8)

قطرة العين للصائم

السؤال

ماذا عن قطرة العين في الصوم؟

الجواب

ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها لا تفطر.

(2/9)

حكم حلق اللحية

السؤال

نعمل مندوبي مبيعات في شركةٍ يأمرنا المدير بعدم إطلاق اللحية؟

الجواب

لا، هذا لا يجوز، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، لأن عندنا الأوامر في اللحية أوامر مشددة: (أعفو اللحى) (أرخوا اللحى) (وفروا اللحى خالفوا المشركين).

المسألة شديدة، ليست مسألة اختيارية ومخالفة المشركين ليست قضية مباحة بل قضية واجبة، ولم ينقل أن النبي عليه الصلاة والسلام حلق لحيته مرة واحدة، ولا أحداً من الصحابة كلهم، ولا يوجد حديث أن واحداً من الصحابة حلق لحيته أبداً.

فهذا يؤكد أن اللحية شرعاً هي سنة واجبة في هذه الشريعة ولا يجوز إلزام الناس أو اضطهادهم لكي يحلقوا لحاهم كما يفعل بعض هؤلاء يقولوا: ما يتناسب مع العمل، ما شاء الله! كيف لا يتناسب مع العمل؟ هذا دين، الآن تجد اليهود ربما بعضهم يطلقون لحاهم إلى السرة وإذا جاء يركب كمامة غاز اخترعوا له طريقة لكي يركب الكمامة بدون أن يأخذ من اللحية ولا شيء، يعني الذي يريد أن يتمسك بدينه سيتمسك، والذي يريد أن يضيع الدين سيضيع.

(2/10)

دعاء القنوت

السؤال

ما هو دعاء القنوت وهل يجب على المسلم أن يدعو في الوتر في الأيام العادية؟

الجواب

ليس واجباً لكن يستحب أن يدعو في القنوت الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وهو: (اللهم اهدني فيمن هديت إلى قوله: لا منجى منك إلا إليك) فقط، والإمام ينوع ولا يلتزم بدعاء معين، حتى لا يُوهم الناس أن هذه سنة أو دعاء، قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر أو في القنوت.

(2/11)

الصلاة بالبسطار

السؤال

ألبس (البسطار) على طهارة وأصلي به الظهر والعصر والمغرب هل هذا صحيح؟

الجواب

نعم صحيح لكن لا تقذر المسجد بهذا (البسطار) السجاد المفروش له قيمة فلا يجوز إتلافه بالأحذية التي فيها وسخ، أما إذا كان حذاءً نظيفاً ليس فيه أي قذارة فيجوز لك أن تدخل به.

(2/12)

الحلف كاذباً

السؤال

هل يحلف الإنسان كاذباً؟

الجواب

لا، لا يجوز الحلف كاذباً، ولو اضطر فإنه يكفر عن يمينه، فلو جاء ظالم قال: فلان عندك؟ قال: ما هو عندي قال: احلف، وما استطاع أن يوري فيحلف ويكفر وابن القيم ذكر عدداً من الأشياء قال: لو قالوا له في النطق بكلمة الكفر: قل كفرت بالله، يقول: كفرت باللاهي ويقصد اللاهي: لها يلهو لاهي، اسم فاعل، ولا يقصد لفظ الجلالة، يقصد اسم فاعل من لها يلهو لاهي، كفرت باللاهي يعني: بالعابث باللاعب، فإن قالوا له سكن قل: كفرت بالله، فيتأول وجهاً من وجوه اللغة وهو جواز حذف الياء عند الوقوف على المعتل الآخر بالياء كنحو قوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] هي أصلها: قاضي، فيتأول هذا الوجه من أوجه اللغة ويقف يقول: كفرت باللاة، ويتأول ما يأتي، وكذلك إنسان إذا أرادوا أن يحلف على الكذب فلا يحلف على الكذب، بل يوري وإذا ما استطاع أن يوري واضطر للحلف كاذباً عليه أن يكفر عن يمينه.

(2/13)

لبس النقاب في العمرة

السؤال

لبست نقاباً أثناء العمرة وكان عليها غطاء؟

الجواب

وقعت في محظورات الإحرام، وإذا كانت جاهلة فليس عليها شيء، وإذا كانت عامدة عالمة فإن عليها أحد ثلاثة أشياء: أولاً: ذبح شاة.

ثانياً: إطعام ستة مساكين.

ثالثاً: صيام ثلاثة أيام.

{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] مخيرة على التخيير، وإذا كانت جاهلة لا تدري ما عليها شيء.

(2/14)

زكاة الذهب

السؤال

لزوجتي ذهب بمقدار خمسة وثلاثين ألف ريال مهر كيف نخرج زكاته؟

الجواب

نختبر الرياضيات والحساب، كل ألف فيها خمسة وعشرون ريالاً، خمسة وثلاثون ألفاً كم زكاتها؟ [25×35] كم؟ الجواب: على مسئوليتكم، الرجل سيخرج الزكاة فكروا في ذلك، أنتم تحملوا الفتوى!! يقولون: [875].

(2/15)

تفسير قول الله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)

السؤال

ما معنى قول الله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]؟

الجواب

الجودي: اسم جبل، قيل هو جبل في العراق أو بين العراق وتركيا استوت عليه هذا السفينة، وأنها بقيت حتى رآها بعض هذه الأمة، وما هو الدليل على بقاء سفينة نوح حتى رآها الناس بعد نوح من القرآن؟ قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15] تركناها أي: تركنا السفينة، و (آية) أي: رآها الناس أجيالاً بعد نوح (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً) لكن الإثبات صعب، مثلاً يقولون: هذا كهف أصحاب الكهف، ولا تستطيع أن تثبت هذا، وكلها ظنون، أو لو قال مثلاً: وجدنا هيكل سفينة نوح قد تكون سفينة أخرى، ما عندنا إثبات، لكنها ظنون والله أعلم، إنما قطعاً أن السفينة بقيت بعد نوح ورآها أجيال من البشرية: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} [القمر:15] مثل بدن فرعون بقي: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] وبقي بدنه سليماً، أخرج من البحر الذي غرق فيه ورآه الناس عبر الأجيال، رآه الناس محفوظاً {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].

(2/16)

قصة موت أبي طالب

قد ينصر الله عز وجل هذا الدين ولو بالكافر، ولكن العبرة هي بنهاية هذا الكافر، فإنه فعل ما فعل في نصرة دين الله ومات على الكفر، فهو في جهنم خالداً مخلداً فيها، وما حدث لأبي طالب هو خير مثال لذلك.

وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذا الدرس الكثير من الفوائد والعبر المستقاة من هذه الحادثة العظيمة، ومن أعظم الفوائد: أن لا إله إلا الله لابد معها من العمل والعلم بها وبشروطها.

(3/1)

أبو طالب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: هذه القصة التي سنتحدث عنها هذه الليلة -أيها الإخوة- هي قصة وفاة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها من العبر والعظات ما ينبغي أن يتوقف عنده المؤمنون، ويتمعن فيه أهل البصيرة، وقد روى هذه القصة الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وغيرهما، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، أنه أخبره: أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام -وأبو جهل كان يكنى في الجاهلية بـ أبي الحكم، فلما كفر لقبه المسلمون بـ أبي جهل، ولا زالت هكذا كنيته إلى قيام الساعة- وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب: وهو في سياق الموت: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد) وفي رواية: (أحاج لك بها عند الله).

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه -أي: يعرض عليه لا إله إلا الله- ويعودان الكافران بتلك المقالة، وهي: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ أتترك ملة أبيك؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، وهما يعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، آخر شيء قبل أن يموت، والكلمات النهائية الأخيرة: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وأنزل في رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].

أبو طالب اسمه عبد مناف، وهو اسم من أسماء أهل الجاهلية، وقد اشتهر بكنيته، وكان شقيق عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى بالنبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب عند موته أبا طالب، فكفله إلى أن كبر، واستمر على نصرة النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن بُعث إلى أن مات أبو طالب، وكان موته بعد خروج المسلمين من حصار الشعب، وكان ذلك في آخر السنة العاشرة من البعثة.

وكان يذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرد على كل من يؤذيه، وهو مقيمٌ مع ذلك على دين قومه على الشرك، وقد جاء في أثر ابن مسعود: [وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه] وكان أبو طالب قد قطع على نفسه العهد بحماية النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

وكان أبو طالب يعلم حقاً ويقيناً بأن دين النبي صلى الله عليه وسلم دين حق، ويدل على هذا قوله في شعره:

ولقد علمت بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبةٍ لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

كان يعلم أن دين النبي عليه الصلاة والسلام خير أديان البرية، ولكن الذي كان يمنعه من اتباعه الملامة وحذار المسبة، أي: لوم قومه له وسبهم إياه.

(3/2)

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة بعمه أبي طالب

سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ما أغنيت عن عمك؟ أي: ماذا نفعت عمك أبا طالب وقد كان يحوطك -أي: من الحياطة وهي المراعاة- ويرعاك ويدافع عنك؟ لأن خديجة وأبا طالب ماتا في عام واحد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكانت خديجة وزيرة صدق للنبي عليه الصلاة والسلام يسكن إليها، وكان أبو طالب عضداً له وناصراً له على قومه، فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه التراب صلى الله عليه وسلم.

عام الحزن هو العام الذي مات فيه أبو طالب هو وخديجة ولذلك كان وقع المصيبة على النبي عليه الصلاة والسلام مضاعف، ولكن الله سبحانه وتعالى عوضه برحلة الإسراء والمعراج التي كان فيها التخفيف العظيم والتسلية له صلى الله عليه وسلم.

سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا نفعت عمك وقد كان يحوطك ويغضب لك؟ فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي نفع عمه به هو أن أبا طالب صار في ضحضاحٍ من نار -الضحضاح هو ما يبلغ الكعب- والمعنى: أنه خُفف عن أبي طالب العذاب، فنُقل أبو طالب من وسط جهنم وجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.

وقد جاء في حديث مسلم: (إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه) هذا أهون أهل النار.

وفي رواية للبزار: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نفعت أبا طالب؟ قال: أخرجته من النار إلى ضحضاح منها) أي: شفاعته له أثرت فقط أن يُنقل أبو طالب من وسط النار إلى ضحضاح من نار (يغلي منهما دماغه من الحرارة كما يغلي المرجل بالقمقم) والمرجل: الإناء الذي يُغلى فيه الماء، والقمقم: الذي يُسخن فيه الماء، كما يغلي المرجل بالقمقم كما جاء في بعض الروايات.

(3/3)

عبر وعظات من موت أبي طالب

مات أبو طالب على الكفر، وقد قضى الله تعالى أن الذي يموت على الكفر أنه يخلد في النار ولا يخرج منها، وقطع الله بذلك وقضى به وحكم، قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48].

(3/4)

أحكام من مات على الكفر

إذاً: لا يمكن أن يخرجوا من النار، وماذا يعني هذا أيها الإخوة؟ يعني: أن الذي يموت على الكفر لا يمكن أن يدخل الجنة، ولا يخرج من النار، وقد حاول بعض أهل البدع اختراع بعض الروايات التي يؤيدون بها أن أبا طالب أسلم، وأنه نطق الشهادة في النهاية، لكن الحقيقة أنه لم يفعل.

والدليل على ذلك: أن أبا طالب لما مات -في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والنسائي [جاء ولده علي بن أبي طالب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: يا رسول الله! إن عمك الشيخ الضال قد مات].

علي بن أبي طالب من تجرده للحق، والذي مات أبوه، لكن ما منعه أن يقول: [إن عمك الشيخ الضال قد مات] أي: علي يعرف تماماً أن أباه أبا طالب مات على الكفر، ولذلك بعد موته نعته بالضلال، ماذا أفعل به؟ قال: (اذهب فواره) أي: ادفنه، قلت: [إنه مات مشركاً] قال: (اذهب فواره) أي: الكافر يدفن حتى لو كان كافراً، ولا يبقى على وجه الأرض.

ولذلك ألقى قتلى بدر في البئر طوياً خبيثاً منتناً، فيدفن حتى الكافر ولا يبقى على الأرض، لكن لا تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، يُؤخذ مثل الكلب، ويدفن في حفرة، وهكذا يُفعل بالمرتد عن الدين المستهزئ به، المضاد لدين الإسلام ولشريعة الله، والمعاند التارك لدين الله، وكذا تارك الصلاة بالكلية، والشاك في البعث، والذي أعرض عن دين الإسلام لا يتعلمه، ولا يعمل به، والذي يشك في القرآن، ويسب الرسول، أي أحد من هؤلاء: من سب الله، أو سب رسوله، أو سب دينه، أو شك في الله، أو في اليوم الآخر، أو في كتاب الله، أو من زعم أن شريعة غير الله مثل شريعة الله، أو أحسن، أو أقل، لكن يجوز تطبيقها، أو اعتقد أن غير شرع الله يجوز تطبيقه، أو اعتقد جواز التحاكم إلى غير شريعة الله، أو حكم الجاهلية، من اعتقد ذلك كفر، كل هؤلاء إذا ماتوا ما حكمهم؟ يؤخذ إلى حفرة ويدفن فيها مثل الكلب، لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث، ولا يدعى له بالمغفرة والرحمة، بل ولا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة.

(3/5)

عدم جواز الاستغفار للكافر

من دروس القصة العظيمة: أن القريب إذا مات على الكفر، لا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ} [التوبة:113] بعدما ماتوا على الكفر {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].

وبعض الناس أحياناً يقولون: رحم الله فلاناً الفلاني ونحو ذلك، ويكون هذا معلوم كفره، وأنه مات على الكفر، أو مات تاركاً للدين بالكلية، ومع ذلك يترحمون عليه.

أحد الكُتَّاب قال: "وقال برناردشو رحمه الله" فهناك بعض الذين اجتالتهم الشياطين يخلطون الحق بالباطل، ويترحمون على الكفرة.

على أية حال: قد يكون الرجل اسمه محمد وأحمد وعبد الله وهو من أكفر الكفار، والمسألة مسألة عقيدة، فمن اعتقد شيئاً يُضاد دين الله سبحانه وتعالى فإنه كافر.

يقول أحد الناس: أنا أصلي احتياطاً، كيف احتياطاً؟ قال: إذا كان هناك يوم آخر صليت، وإذا لم يكن يوم آخر ما خسرت شيئاً، أي: أنه شاك في البعث.

وأحد الناس تدين ولده، وصار ملتزماً بشريعة الله، وأقبل على الصلاة والعبادة، ورافق أصحاب الصلاح والدين والخير، فلم يعجبه أبوه هذا التدين الشديد، فقال له: على رسلك تمهل، ليس إلى هذا الحد يا ولدي، لماذا؟ ما يدريك ربما لا يكون هناك شيء انظر هذه الكلمة، أي: ربما تعمل وتجتهد وفي الأخير ليس ثمة بعث ولا جزاء ولا حساب ولا جنة ولا نار، وهذه الكلمة كفر أكبر مخرج من الملة.

وكذلك الاستهزاء بالدين، أو سب أهل الدين لأجل دينهم، لا لأجل أشكالهم، أو أشخاصهم، وإنما لأجل دينهم فهذا كفر أيضاً.

وكذلك الرضا بالتحاكم إلى القوانين الوضيعة، واعتقاد جواز التحاكم إلى غير شريعة الله، كل هذا كفر أكبر مخرج عن الملة.

على أية حال! الأشياء التي تخرج من الملة متعددة ذكرها العلماء رحمهم الله، وجمعها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام العشرة، إذا مات الرجل من هؤلاء لا يترحم عليه، ولا يدعى له بالمغفرة والرحمة، هذا أبو طالب الذي نصر الدين، ونصر النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز الاستغفار له.

(3/6)

الحرص على هداية الأقارب خاصة

كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على هداية عمه أبي طالب، وهذا درسٌ عظيمٌ لنا أن يحرص الإنسان على هداية أقربائه، أبوه عمه جده ابن عمه ابن أخيه، كل الأقرباء يجب أن يكون الإنسان حريصاً عليهم أكثر من حرصه على هداية بقية الناس، لأنهم أقرباءك، والذين ينبغي أن تُوصل إليهم الخير أكثر من غيرهم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].

لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أن أبا طالب على فراش الموت حضره، وفي هذا يؤخذ جواز الذهاب إلى الكافر وهو على فراش الموت لدعوته إلى الله.

ويؤخذ كذلك من الحديث: الحرص على هداية الأقرباء.

ومعنى (حضرته الوفاة) أي: قبل أن يدخل في الغرغرة، وإلا لو كان دخل مرحلة الغرغرة، فلا ينفع الكلام، ولا تنفع التوبة، ولا ينفع الإسلام، وبلغ من حرص النبي عليه الصلاة والسلام أن كرر عليه الدعوة، يقول: (يا عم!) بهذا الخطاب اللطيف، وهذا هو أسلوب الدعوة: (يا عم! قل كلمة أشفع لك بها عند الله أحاج لك بها عند الله أشهد لك بها عند الله).

قل: لا إله إلا الله فقط، وأبو طالب يقول: لولا أن تعيرني قريشٌ، يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك.

الله سبحانه وتعالى إذا قضى على رجلٍ بالضلالة، فلن تملك له من الله شيئاً، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يهدوه من دون الله لا يُمكن أن يهتدي، وهل هناك أحسن أسلوباً من أسلوب النبي عليه الصلاة والسلام؟! أو أحسن دعوة من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام؟! أو أحسن طريقة من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم؟! ومع ذلك لم يستطع أن يهديه وهو عمه وقريب من الدين، وكان ينصر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يعرف أن دينه دين الحق.

وكان يقول: لولا أن تعيرني قريشٌ، يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك -لقلتها وقرت عينك يا بن أخي- لكن ما قالها.

ويؤخذ من هذا فائدة عظيمة وهي: أن الإنسان لو اقتنع بالإسلام قناعة تامة وأنه دين الحق، ومات على ذلك، فهو في النار خالداً مخلداً فيها، إلا إذا نطق بالشهادتين ودخل في الدين، فقضية الاقتناع لا تنفع في شيء.

أي: هناك بعض الكفار الأجانب يمكن أن نجدهم معنا في الشركات والمصانع والمؤسسات ومع الشرح والدعوة إلى الإسلام يقتنع أن هذا دين الحق، يقول: أنا أوقن تماماً أن دينكم هذا أحسن من دين النصرانية واليهودية والبوذية والمجوسية والهندوسية، وأحسن ملة في الأرض، لكن لا يقول: لا إله إلا الله، ولا يشهد، ولا يدخل في الإسلام، وإذا مات فهو في النار قطعاً.

فقضية الاقتناع العقلي شيء، والدخول في الدين شيء آخر، ولذلك فإن الاقتناع العقلي يعني أنه قريب من الدين وهو قاب قوسين أو أدنى، وعلى البوابة، لكنه لم يدخل، لأنه لم ينطق بمفتاح الجنة (لا إله إلا الله) ولذلك لا بد أن نبين لهم أن القناعة لا تكفي، وكونه يقتنع أن الإسلام دين حق لا يكفي، بل لا بد أن ينطق بالشهادتين.

(3/7)

نصرة الكافر لدين الله

نلاحظ كذلك أن من فوائد القصة: أن الله تعالى قد يقيض للداعية من ينصره من الكفار أكثر من المسلمين، ربما النبي صلى الله عليه وسلم انتفع من حماية أبي طالب وهو كافر أكثر مما انتفع من حماية غيره من المسلمين، فقد دافع أبو طالب دفاعاً نفع النبي عليه الصلاة والسلام، دافع عنه عدد من الصحابة، لكن أبا طالب كان يمنعه من أذى الكفار أكثر بكثير مما كان يمنعه بعض الصحابة.

فالله سبحانه وتعالى قد يقيض للداعية من يمنعه من الأذى ويحوطه ويدافع عنه، وهذا قد يكون من الأقرباء، وهذا فيه درس لنا أن الإنسان يهتم بأقربائه، لأن وشيجة القربى تلعب دوراً مهماً في حماية الداعية ونصرته، وقد يكون للإنسان قريب كافر، ولكن ينتفع به انتفاعاً كبيراً.

النبي صلى الله عليه وسلم واجه مع اليهود في معركة بني النضير، ما هي قصتها؟ اتفق جماعة من اليهود على أن يطلبوا النبي عليه الصلاة والسلام للمناظرة.

يقولون: اخرج إلينا -مثلاً- في ثلاثين من أصحابك، ونخرج إليك في ثلاثين منا، ثم يتلاقى ثلاثة معك، وتعرض ما عندك ونعرض ما عندنا، ولبس اليهود الثلاثة الخناجر للغدر بالنبي عليه الصلاة والسلام وقتله، فأخبرت امرأة من اليهود أخاً لها من الأنصار، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم بالغدر، فلم يخرج إليهم، ثم ذهب وحاصرهم، وقاتلهم وأجلاهم.

إذاً: قد تكون القرابة حتى لو من الكفار تنفع نفعاً عظيماً، فينبغي ألا يفوت القريب ولو كان كافراً، وأن الإنسان يُحسن الصلة بأقربائه حتى الكفار، وأن بعض الكفار يمكن أن ينفعوا المسلمين، وينفعوا الدعوة من حيث لا يتوقع الإنسان، نعم لا يؤجرون على ذلك في الآخرة، لكنهم ينفعون، فلماذا يفوت مثل هذا؟!

(3/8)

هداية التوفيق والإلهام بيد الله

في هذا الحديث من الفوائد العظيمة قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وفعلاً النبي صلى الله عليه وسلم كم كان يتمنى أن يهتدي عمه الذي حماه ونصره ودافع عنه، ومع ذلك بقي على الكفر ولم يهتد، ولذلك عدد من الأمهات والآباء عندهم أولادهم ضُلال، لا يصلون، ويستعملوا المخدرات، والأب يتمنى أن ولده يهتدي، والأم تتمنى أن ولدها يهتدي، ومع ذلك لا يهتدي، لأن الهداية ليست بأيدي الناس، إنما هي بيد الله تعالى، ولذلك: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125].

وإذا قدَّر الله أن يضله فلن تملك له من الله شيئاً، من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ولذلك كم نتمنى أن يهتدي أناس من العصاة من أقربائنا، ولكن لا يكون باليد حيلة مع الدعوة ومع القيام بواجب النصيحة.

فالإنسان إذا لم يهتد قريبه ماذا يشعر؟ لا يشعر بالحسرة ويتقطع؛ لأنه يعلم بأن الهداية بيد الله، ولذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ِ {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] تتقطع نفسك تموت تريد أن تهلك نفسك، لا تهلك نفسك؛ الهداية بيد الله وليست بيدك: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] مع أنه حبيبه وخليله ومصطفاه من خلقه وأمينه على وحيه، أفضل الخلق وأحب الخلق إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعطه ما يتمناه في كل شيء.

كان يتمنى أن يهتدي عمه، لكن الله لم يعطه الهداية لعمه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يلقن الأمة درساً، يقول: هذا النبي أفضل الناس عند الله لم يهد الله له عمه، ولا أعطاه ما يريد في عمه، ومات عمه كافراً ودخل النار، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام شفع في أبي طالب شفاعة خُفف بسببها العذاب عنه تخفيفاً فقط أما الخروج من النار فلا.

(3/9)

استغلال أوقات الشدة في الدعوة

في هذا الحديث كذلك: انتهاز فرصة مرض الشخص وضعفه لعرض الإسلام عليه، لأنه يكون في أحسن الأوضاع التي يُرجى أن يتقبل فيها، لأن الإنسان إذا كان في حال الصحة والقوة ربما لا يلتفت للكلام، وإذا صار في حال المرض والضعف يكون أقرب للتأثر، ولذلك فإن الإنسان إذا انتهز مثل هذه الفرصة يمكن أن يتأثر الشخص المقابل.

وكذلك من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة لم يُسلم منهم إلا اثنان.

وكان اسم من لم يسلم ينافي أسماء المسلمين، واسم اللذين أسلما يوافق أسماء المسلمين، فعماه اللذان أسلما: حمزة والعباس، وعماه اللذان لم يسلما: عبد العزى وعبد مناف.

من هو عبد مناف؟ أبو طالب، ومن هو عبد العزى؟ أبو لهب، فسبحان الله! اتفاق، قدر الله أن اللذين أسلما أسماؤهما: حمزة والعباس، واللذان كفرا أسماؤهما: عبد العزى وعبد مناف.

(3/10)

قبول التوبة ما لم يغرغر صاحبها

كذلك في هذا الحديث: أن التوبة لا تنفع عند الغرغرة، وقبل ذلك تنفع، وأن الإنسان على فراش الموت يمكن أن يهتدي قبل الغرغرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما عاد شاباً يهودياً في سياق الموت، قال له: أسلم.

فنظر الشاب إلى أبيه اليهودي، قال: أطع أبا القاسم! إشفاقاً من اليهودي على ولده.

اليهودي ملعون ويعرف أنه سيدخل النار، وأشفق على ولده، قال: أطع أبا القاسم، فأسلم الشاب ومات، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).

(3/11)

أثر قرناء السوء حتى عند الموت

كذلك في الحديث فائدة: وهي أن الراوي عندما وصف كلام أبي طالب، قال: " هو على ملة عبد المطلب " مع أن الأصل أن يقول: " أنا على ملة عبد المطلب " لكن كره الراوي أن يقول: " أنا على ملة عبد المطلب " فقال: " هو على ملة عبد المطلب " حتى لا يتوهم منها أنه هو، أي: الراوي مع أنه يحكي عن غيره، لكنه يقول: " هو على ملة عبد المطلب ".

كذلك في هذا الحديث: أثر قرناء السوء، وهذه فائدة بليغة: حضر أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية عند أبي طالب، وكان الثلاثة كفاراً، مات أبو جهل وأبو طالب على الكفر.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام من جهة: (يا عم! قل: لا إله إلا الله) وهما يقولان: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ أتترك دين آبائك وأجدادك؟ أتترك دين أبيك؟ أتموت على غير دين أبيك؟ أثر قرناء السوء هذا درس مهم: أن قرناء السوء كانوا سبباً في دخول الشخص عالم الشقاء الأبدي، ولذلك فهم لا يتركون صاحبهم إلى آخر رمق، ويحاولون فيه.

(3/12)

سنة التدافع بين الحق والباطل

كذلك هذه القصة هذه تمثل حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وبين دعاة الإسلام ودعاة الكفر بين دعاة الخير ودعاة الشر، النبي عليه الصلاة والسلام جاءه يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله) والأذن الأخرى، والجذب من الطرف الآخر: أتموت على غير ملة عبد المطلب؟ أتموت على غير ملة عبد المطلب؟!! إذاً: صراع بين دعاة الخير ودعاة الشر، وهذا شيء معروف ومشهود في أيامنا هذه، تجد الواحد أحياناً له قرينان {حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام:71] ومن الطرف الآخر الشلة وأهل السوء تعال عندنا تعال معنا اترك أولئك صراع بين الحق والباطل، وهذه سنة إلهية في الحياة إلى قيام الساعة، وهي سنة التدافع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251].

التدافع بين الحق والباطل هذه سنة إلهية، ولذلك تتقاتل جيوش المسلمين والكفار، ويتواجه دعاة الإسلام والكفر، ويتواجه علماء الإسلام وعلماء الكفار، ويتناظرون المدافعة سنة إلهية لا بد أن تحدث، لا بد أن يكون هناك صراع، وفائدة الصراع أن يتبين الذي يضحي من الذي لا يضحي، يتبين من الذي يقدم للإسلام من الذي يتكاسل، يتبين من الذي ينصر دين الله من الذي يتقاعس عن نصرة دين الله، يتبين أهل الشر من أهل الخير، رءوس الكفر ورءوس الدين تتبين في الصراع.

فالصراع لا بد منه، أما قضية السلام التام في الأرض فلا يوجد إلا في عهد عيسى، لماذا؟ لأنه سينتهي الكفر من الأرض بالكلية في عهد عيسى بعد القضاء على الدجال ويأجوج ومأجوج، ولذلك قال: (وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، ويصبح الذئب في الغنم كأنه كلبها، ويدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتكفي اللقحة الفئام من الناس، ويكون الفرس بالدريهمات، ويستظل الناس بقحف الرمانة، وتملأ الأرض من البركة).

ما دام أن الكفر قد انتهى من الأرض، لا يوجد صراع، انتهت المسألة، لكن ذلك لن يستمر، لأن بعد عيسى سيعود الكفر مرة أخرى، ولذلك فإن الصراع بين الحق والباطل شيء مستمر إلى قيام الساعة، ولذلك ينبغي على دعاة الإسلام ألا ييأسوا، ولو رأوا الشخص، أو الشاب ينافسهم عليه أهل الباطل، لا يتركوه لأهل الباطل، النبي صلى الله عليه وسلم لم ييأس، وهو واحد والطرف الآخر أكثر في العدد، ولكنه لم ييأس واستمر في الدعوة إلى آخر لحظة، ونحن كذلك عندما يكون الواحد له صاحب، أو صديق طيب يريد هدايته، ولهذا الصديق أصدقاء سوء ينتبه أن يسلمه إليهم، أو يتركه لهم، بل يبقى على دعوته إلى آخر لحظة، النبي عليه الصلاة والسلام اشتغل بدعوة عمه إلى آخر لحظة.

يجب أن يتميز الداعية بطول النفس في الدعوة إلى آخر لحظة.

ونلاحظ كذلك أن الحوار كان سجالاً، يقول: "فلم يزل يعرضها" أي: لا إله إلا الله مراراً، ويعيدانه إلى الكفر بتلك المقالة، كلما عرض عليه لا إله إلا الله، عرضوا عليه الكفر مرةً أخرى حتى قال: على ملة عبد المطلب، ومات.

(3/13)

اقتداء النبي عليه الصلاة والسلام بإبراهيم في استغفاره لأبيه وأمه

كذلك في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم في البداية كان يقتدي بأبيه إبراهيم الذي استغفر لأبيه وهو مشرك: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] فبالمقابل وبالمثل فإن النبي عليه الصلاة والسلام استغفر لعمه أبي طالب لما نزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] ونزل أيضاً: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي: إبراهيم {أَنَّهُ} أي: أبوه آزر {عَدُوٌّ لِلَّهِ} أي: عندما مات على الكفر {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].

إذاً: إبراهيم لم يستمر يستغفر لأبيه، ولما تبين له أن أباه مات على الكفر تبرأ منه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] لأن الدين والعقيدة فوق القرابات.

النبي عليه الصلاة والسلام لم يستطع أن يستغفر لأمه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقبرة، فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلاً، ثم بكى، فبكى الصحابة لبكائه، ورحموه من شدة بكائه عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي) لأن أمه ماتت على الكفر، فأنزل عليَّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] رواه الحاكم وابن أبي حاتم، عن مسروق، عن ابن مسعود.

وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه، وفيه: (نزل بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه قريب من ألف راكب -نزلوا في الطريق عند قبر- لما قدم مكة، ووقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها، فنزلت الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113]).

ولما جاء أعرابي، قال: (يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار" فلما خرج ناداه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رأى أنه تأثر، قال: أبي وأبوك في النار).

لا توجد مجاملات في الدين، فالعقيدة فوق القرابات، أبوه وأمه وعمه، لكن في النار، لأنهم كفار ماتوا على الكفر، ولذلك الإنسان فعلاً يصاب بالحسرة والأسى؛ خصوصاً عندما يكون له أب مشرك، أو أم كافرة، لكن ماذا يفعل؟ لا توجد طريقة، إذا قضى الله بالضلالة عليهم، فلا يملك لهم من الله شيئاً.

وهذا من الإعجاز، والله يُعجز خلقه ويبين لهم أن الهداية بيده لا بأيديهم.

(3/14)

معنى لا إله إلا الله

نأتي إلى فائدة عظيمة وهي: معنى لا إله إلا الله، لو قال شخص: حسناً! وماذا كان يُقدم أو يُؤخر لو أن أبا طالب قال: لا إله إلا الله وتنتهي المشكلة؟ لماذا أصرَّ أبو جهل وصاحبه على منع أبي طالب من أن يقول الكلمة؟ مع أنه سيقول فقط كلمة ويموت، أو عبارة ويموت؟! الإجابة: لأن أبا جهل وصاحبه يعلمان معنى (لا إله إلا الله) أكثر مما يعلمها اليوم كثيرٌ من المسلمين.

لماذا أبو جهل لم يترك أبا طالب يقول: لا إله إلا الله! وهي كلمة ثم يموت ويذهب؟ لأن أبا جهل يعلم أن هذه الكلمة معناها: الانخلاع من الطواغيت، الكفر بهبل واللات والعزى ومناة، الكفر بالآلهة كلها هذه التي عند الكعبة، والاعتقاد فقط بأن الله وحده هو المستحقٌ للعبادة، وأن لا إله إلا الله هي متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، وأن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة باللسان بل كان معناها عند الكفار واضح جداً وهي الانتقال من دين إلى دين، والدخول في هذا الدين الجديد، ولا معبود بحق إلا الله.

أي: عندما يشهد الإنسان أنه لا إله إلا الله، وأنه لا معبود بحق إلا الله، معناها: أنه يَكْفُر بجميع ما عُبد من دون الله.

معناها أنه يُعلن البراءة من أديان الكُفر وملله، ومن الأصنام والطواغيت والأنداد التي تعبد من دون الله، وأن هذه الكلمة تتضمن وتقتضي توحيد الله بالعبادة، وصرف العبادة لله فقط، إنهم كانوا يفقهون معناها فقهاً كبيراً، وكانوا يعرفون ماذا تعني شهادة أن لا إله إلا الله، ولذلك كانوا يصرون على منع أبي طالب من قولها.

وفي الحديث بيان أن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة، وإنما اعتقادٌ بمعناها أيضاً، وأن المطلوب من أبي طالب لم يكن مطلوباً منه فقط أن يقولها بلسانه، وإنما أن يعتقد معناها أيضاً، ولذلك أصرّ أبو جهل وصاحبه، وبالتالي لم يتكلم أبو طالب بها؛ لأنها كانت تعني كما يقول: لو قلتها، سيترتب عليها أشياء، والأشياء التي ستترتب عليها سأعاب بها ويذمني قومي ويلومونني ويسبونني، ويقولون: قالها خوف الموت ترك ملة أبيه، فهذا كله من عظمة كلمة: (لا إله إلا الله) وأن معناها بخلاف ما يظنه كثيرٌ من الناس أنها مجرد كلمة، ليست القضية قضية تلفظ فقط، وإنما اعتقاد لمعنى لا إله إلا الله، وأن بعض الكفار أعرف بتفسيرها من بعض المسلمين.

(3/15)

الأعمال بالخواتيم

أبو طالب له أعمال جليلة كثيرة، لكن ماذا استفاد؟ لا شيء، الأعمال بالخواتيم، فما دام أنه مات على الكفر، إذاً قُضي عليه بالخلود في النار، فإن قال قائل: ما هي شروط لا إله إلا الله؟ وما هو ملخص هذه الشروط؟

الجواب

أنها قد جمعت في قول حافظ حكمي رحمه الله تعالى:

العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول

والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه

فشروط لا إله إلا الله: 1 - العلم: العلم بمعناها.

2 - اليقين: أن يوقن القلب بهذا المعنى.

3 - القبول: أي: الرضوخ لهذا المعنى، والاستسلام لهذه العبارة.

4 - الانقياد: اتباع ما تقتضيه العبارة من صلاة وزكاة وصيام وحج وتحاكم إلى شريعة الله إلخ.

5 - الصدق.

6 - عدم النفاق، أي: الإخلاص لله عز وجل في جميع العبادات.

7 - المحبة، أي: محبة الله عز وجل، لأنه المألوف المحبوب المعبود.

وفقك الله لما أحبه.

هذه بعض الدروس التي اشتملت عليها قصة وفاة أبي طالب على الشرك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا ويهدي أولادنا وذرارينا وأقربائنا إلى الحق والإسلام والدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد.

(3/16)

الأسئلة

(3/17)

تطيب النساء عند الخروج

السؤال

أرجو التنبيه على أنه يوجد في المسجد امرأتان أحضرتا مبخرتين لتبخير المسجد تريدان الأجر، ولكن المصليات والحاضرات قد تبخرن واختنقن من رائحة البخور؟

الجواب

هذا يحتاج إلى تنبيه من جديد، لأنه لا يجوز للمرأة أن تتطيب، والتي تأتي إلى المسجد متطيبة، ثم تمر بالرجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها زانية، أي: عليها إثم الزنا، وأما التي وضِعَ لها البخور بدون قصد، ولا إرادة، وأجبرت عليه، فليس عليها شيء إن شاء الله، والإثم على من أحضره إلى النساء، فهي التي تأثم.

على أية حال: أظن -والله أعلم- أن هاتين المرأتين جاهلتين بالحكم وإنما قصدتا الخير، ولكن كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [كم من مريد للحق لم يدركه] كم من مريد للخير لكنه لا يُوفق للخير.

(3/18)

حكم الجماعة الثانية للعشاء مع وجود جماعة التراويح

السؤال

أتينا المسجد ولم ندرك صلاة العشاء، فوجدنا جماعة من الشباب، فنهانا أحدهم وقال: صلوا العشاء مع صلاة التراويح، فما حكم ذلك؟

الجواب

ليس هو نهياً للتحريم والإلزام، ولكن إذا دخلت معهم منعاً للتشويش فهو الأحسن، وإذا صليت مع جماعة في الخارج بحيث لا تشوش على المصلين في صلاة التراويح أيضاً فلا بأس بذلك.

(3/19)

الصدقة دون علم المتصدق عنه

السؤال

هل يجوز أن نتصدق عن أحد دون علمه؟

الجواب

نعم يجوز ذلك.

(3/20)

إقناع النفس بأنها أفضل من غيرها

السؤال

أحياناً الشيطان يوسوس لي أنك أحسن من غيرك، فغيرك لا يصلي وأنت تصلي، وغيرك لا يقرأ القرآن وأنت تقرأ القرآن؟

الجواب

كل إنسان أحسن من الذي هو أردى منه، لا شك في ذلك، فحتى الذي لا يصلي أحسن من الشيوعي الملحد، والذي لا يصلي ويعتقد أن هناك خالق أحسن من الذي يعتقد أنه لا يوجد خالق، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا في الدين أن ننظر إلى من هو فوقنا، وفي الدنيا أن ننظر إلى من هو أسفل منا أمرنا في الدين أن ننظر إلى من فوقنا حتى نزداد في العبادة ونقتدي، وفي الدنيا أن ننظر إلى من هو تحتنا؛ لأجل أن نعرف نعمة الله علينا، لا أن نعكس القضية فننظر في الدين إلى من هو أسفل منا، ونقول: الحمد لله! نحن في خير، فغيرنا ملاحدة وشيوعيين، وننظر في الدنيا إلى من فوقنا ونقول: يا حسرة! يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون! إذاً: الناس عكسوا القضية، أصبح -الآن- الذي يصلي في المسجد يقول: أنا أحسن من الذي يصلي في البيت، والذي يصلي في البيت يقول: أنا أحسن من الذي لا يصلي، والذي يصلي أحياناً يقول: أنا أحسن من الذي لا يصلي إلا الجمعة، والذي يصلي الجمعة يقول: أنا أحسن من الذي لا يصلي أبداً، والذي لا يصلي أبداً يقول: أنا أحسن من الملحد واليهودي والنصراني! واليهودي والنصراني يقول: أنا كتابي أحسن من الشيوعي، فهذه المسألة لا تنتهي، ولا يمكن أن أحداً يُفكر بهذه الطريقة إلا الكسالى والمقصرين وأرباب المعاصي والفسوق الذين يريدون أن يقنعوا أنفسهم أنهم في خير وعافية.

(3/21)

السبب الحقيقي لغزوة بني النضير

السؤال

يقول: أليست قصة بني النضير في رجل كان يريد إلقاء الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب

هذه القصة ضعيفة، وردت بإسناد فيه ضعف، ولكن الرواية الصحيحة التي رواها أبو داود هي قضية اشتمال اليهود على الخناجر هي سبب الغزوة الحقيقي، رواها أبو داود والحديث صحيح، وأشار الحافظ إلى صحتها في الفتح وكذلك الألباني.

(3/22)

إعطاء الزكاة لمن لا يكفيه راتبه

السؤال

لي أحد الأقارب حالته صعبة، وراتبه لا يكفي آخر الشهر؟

الجواب

إذا كان لا يكفيه فيعطى من الزكاة، وإذا كان يكفيه لا يُعطى.

(3/23)

أخذ النقود من الوالد دون علمه

السؤال

لقد كنت آخذ نقوداً من جيب والدي من دون علمه وأنا لا أدري كم ريال؟

الجواب

تقدرها وتعيدها إليه، ويجوز أن تعيدها خفية كما أخذتها خفية.

(3/24)

قراءة المأموم بالفاتحة خلف الإمام

السؤال

في الصلاة الجهرية هل أقرأ الفاتحة خلف الإمام؟

الجواب

يكفي قراءة الإمام، كما هو مذهب مالك ورأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

(3/25)

فائدة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه

السؤال

كيف نفع أبو طالب عمله بأن خُفف عنه العذاب وهو مشرك؟

الجواب

لأن المشرك لا يخرج من النار وهذا لا يخرج من النار بل هو مخلد فيها، نفعه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، والشفاعة كانت محدودة بشيء معين وهو التخفيف، أما أنه يخرج فلا.

(3/26)

وجه اتخاذ النبي أبا طالب ناصراً له ومعيناً

السؤال

هل اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب ناصراً له ومعيناً يتنافى مع موالاة الكفار، أو مع تحريم موالاة الكفار؟

الجواب

كلا.

لأن الموالاة المحرمة التي فيها محبة لهم، ومحبة لدينهم، ورضاً بباطلهم، وتنازل عن شيء من ديننا، أما أن الإنسان يُقيض له قريب مشرك كافر يدافع عنه، فهذا تأييد من الله.

وكذلك المحبة الطبيعية التي تكون بين المسلم وقريبه الكافر محبة طبيعية ليس فيها ما ينافي الدين، فلو أن مسلماً تزوج كتابية محصنة، ما حكم النكاح؟ صحيح حسناً ليس هناك بين الزوجين محبة؟ هل حبه لها ينافي التوحيد؟ أبداً، لأن هذا من جنس المحبة الطبيعية، مثل: محبة الإنسان مثلاً للحم المشوي، أحدهم يحب العنب، هذه محبة ليس لها علاقة بالعقيدة، هذه محبة طبيعية من ميل نفسي، فمحبات القرابة، أو الزوجية، إذا كان أحد الطرفين مسلماً محبة طبيعية ليس فيها ما ينافي العقيدة.

ثم إن أبا طالب الإنسان يكره عقيدته ولا شك، فهو يحبه من وجه ويبغضه من وجه، قد يحبه محبة طبيعية من جهة القرابة، ويبغضه على دينه الذي هو عليه وعلى عقيدته التي هو عليها ولا شك.

أما محبة الأخوة الدينية، أو المحبة التي وردت: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] التي تربط بين الناس لا يمكن أن تكون لـ أبي طالب، ولا لغيره.

على أية حال: كون الله قيض لنبيه أبا طالب يدافع عنه، هذا لا ينافي الموالاة.

(3/27)

كتاب نهج البلاغة

السؤال

ماذا تعرف عن كتاب نهج البلاغة؟

الجواب

نهج البلاغة كتاب سمٌ مسمومٌ يحذر منه، منسوب إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، وعلي رضي الله عنه وأرضاه بريء من كثيرٍ مما فيه.

(3/28)

رد المرأة على الهاتف

السؤال

ما حكم إذا ردت المرأة على الهاتف وأجابت عن سؤال؟ الجواب: إذا لم يكن خضوع بالقول وكان للحاجة، فلا بأس.

(3/29)

زيارة العديل لمنزل عديله

السؤال

ما هي آداب زيارة العديل لمنزل عديله؟

الجواب

المقصود بالعديل هنا عند الناس هو: زوج أخت الزوجة، فيقولون: هذان عديلان، أو هؤلاء عدلاء، أي: أزواج لأخوات، فإذا زارها في بيتها، أولاً لا يجوز الخلوة بالمرأة وهي أخت زوجته، لأنها ليست من المحارم، وليست من المحرمات عليه على التأبيد، فإذاً لا يجوز الخلوة بها، ولا النظر إليها ولا الاختلاط بها.

(3/30)

البسملة في أوائل السور

السؤال

إنسان بدأ السورة، ولكن لم يسم ما حكم ذلك؟

الجواب

قراءته صحيحة، والسنة أن يسمي من أول السورة.

(3/31)

استقبال القبلة عند قراءة القرآن

السؤال

ما حكم استقبال القبلة عند قراءة القرآن؟

الجواب

ليس واجباً، فلو قرأ إلى غير القبلة فقراءته صحيحة.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد.

(3/32)

قصة الثلاثة العظماء الذين أخرجهم الجوع

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شظف من العيش، وشدة من المعاناة ومما يدل على ذلك: قصة خروجه صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر من شدة الجوع، حتى استضافهم أبو الهيثم بن التَّيْهان.

هذا الحديث هو ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر فوائد عظيمة مستفادة من هذا الحديث، ثم تكلم عن الضيافة وآدابها وما يتعلق بها؛ مذكراً بموقف إبراهيم عليه السلام مع أضيافه.

(4/1)

حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واستضافة أبي الهيثم لهم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن الثلاثة العظماء الذين أخرجهم الجوع: نبي، وصدِّيق، وشهيد وكان ذلك في الصدر الأول من هذه الأمة المرحومة المكرمة بهذا النبي العظيم.

روى هذه القصة الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في هذا الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعةٍ لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟ فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا قد وجدت بعض ذلك، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التَّيْهان الأنصاري، وكان رجلاً كثير النخل والشاء، ولم يكن له خدم، فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبكِ؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقِربة يزعبها، فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويُفَدِّيه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطه، ثم انطلق إلى نخلةٍ، فجاء بقِنْوٍ فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا تنقَّيتَ لنا من رُطَبه؟ فقال: يا رسول الله! إني أردتُ أن تختاروا، أو قال: تخيروا من رُطَبه وبُسْره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة؛ ظل بارد، ورُطَب طيب، وماء بارد.

فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذبحن ذات دَرٍّ، قال: فذبح لهم عَناقاً أو جَدْياً، فأتاهم بها، فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادمٌ؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فائتنا، فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسَين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهما.

فقال: يا نبي الله! اختر لي.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المستشار مؤتمَن، خذ هذا، فإني رأيته يصلي، واستوصِ به معروفاً، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغٍ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاًَ، ومن يوقَ بطانة السوء فقد وُقِي) قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.

(4/2)

شرح بعض ألفاظ الحديث

هذا الحديث يقول فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنظر في وجهه، والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسول الله).

وفي رواية مسلم: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو ليلةٍ فإذا هو بـ أبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) الساعة غير المعتادة التي لا يخرج فيها الناس عادة.

(قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما) وهذا فيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلُّل من الدنيا، وما ابتُلوا به من الجوع وضيق العيش في أوقات (فقال لهم: فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم الأنصاري): وأبو الهيثم رضي الله عنه، اسمه: مالك بن التَّيْهان أو ابن التَّيِّهان.

قال أبو هريرة: (وكان رجلاً كثير النخل والشاء -والشاء هي الغنم، جمع شاةٍ- ولم يكن له خدم، فما وجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبكِ؟) وفي رواية مسلم: (فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ فقالت: خرج يستعذب لنا الماء): أي: يطلب لنا الماء العذب الذي لا ملوحة فيه.

(ثم بعد ذلك جاء أبو الهيثم رضي الله تعالى عنه بقربةٍ يزعبها) ومعنى (يزعبها) أي: إنه احتملها وهي ممتلئة، يتدافع بها ويحملها لثِقَلِها.

فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم هشَّ له غاية الهشاشة، والتزمه وعانقه وضمَّه إلى نفسه، ثم انطلق بهؤلاء الثلاثة الضيوف الكرام إلى حديقته، الروضة ذات الشجر، فجاء بقِنْوٍ وهو: العِذْق من الرُطَب، فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتَمْر ورُطَب، ولما جاء به وضعه بين أيديهم (فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا تنقَّيت لنا من رُطَبه؟ -أي: اخترتَ لنا من الرُطَب- فقال أبو الهيثم: إني أردتُ أن تختاروا أو تخيروا من رُطَبه وبُسْره) وثمر النخلة عندما يطْلُع يكون طَلْعاً، ثم بعد ذلك يصبح بَلَحاً، ثم بعد ذلك يصبح بُسْراً، ثم بعد ذلك يصبح رُطَباً.

(ولما أكل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة) وفي رواية مسلم: (فلما أن شبعوا وروَوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: والذين نفسي بيده لتسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم!).

ولما أراد الرجل أن يذبح لهم شاةً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحنَّ ذات دَرٍّ) أي: ذات لبن، وفي رواية مسلم: (إياك والحلوب، فذَبَح لهم عَناقاً -وهي الأنثى من أولاد المَعْز- أو جَدْياً -وهو الذكر من أولاد المَعْز- وقدَّمه إليهم، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ -لأن هذا المال يحتاج إلى من يخدمه- قال: لا، فقال: فإذا أتانا سبي -أي: مِن أسارى المشركين- فائتنا، فجيء للنبي عليه الصلاة والسلام برأسين من العبيد، وجاء أبو الهيثم، فقال عليه الصلاة والسلام: اختر منهما -اختر واحداً منهما- فقال: اختر لي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم -توطئةً وتمهيداً قبل الاختيار-: إن المستشار مؤتمَن) أي: إن الذي يُطلَب منه الرأي وتطلب منه النصيحة لا بد أن يؤدي الأمانة، ولا يجوز له أن يخون المستشير بأن يكتم ما فيه مصلحة له.

فأشار عليه الصلاة والسلام إلى واحدٍ منهما وقال: (خذ هذا، فإني رأيته يصلي) ظهر على هذا الأسير آثار الصلاح، وكان يصلي، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعطاه هذا الرجل، وقال له: استوصِ به معروفاً أي: اصنع به معروفاً، وأحسن إليه.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه هذا العبد، رجع إلى بيته فقال لامرأته: (إن النبي عليه الصلاة والسلام أوصاني بأن أستوصي به خيراً.

فقالت المرأة: ما أنت ببالغٍ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه -أي: أحسن شيء تستوصي به خيراً أن تعتقه- فقال الرجل: هو عتيق) متى ما تلفظ الإنسان بالعتق وقع العتق.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام على إثر ذلك: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفةً إلا وله بطانتان) والبطانة: هم خاصة الرجل الذين يعرفون أسراره لثقته بهم، شبَّههم ببطانة الثوب؛ لأن البطانة مما يلي الجسد من الداخل، فشبه الخاصة -المجلس الخاص للإنسان، أصحاب سره وأهل ثقته- شبههم بالبطانة مِن قُرْبِهم للرجل ومِن علمهم بباطنه وحقيقة أمره وأسراره، هؤلاء هم البطانة.

قال: (إن الله لم يبعث نبياً إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف -وهو ما عرفه الشرع وحكم بحسنه- وتنهاه عن المنكر -وهو ما أنكره الشرع ونهى عن فعله- وبطانة لا تألوه خبالاً) أي: لا تقصِّر في إفساد أمره، كقوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118] يأمرونه بالشر، ويسعون في إفساده.

(ومن يوقَ بطانة السوء فقد وُقِي).

هل النبي عليه الصلاة والسلام وهو نبي له بطانتان؟ قيل: إن المراد بالبطانتين في حق النبي: الملَك، والشيطان، وشيطان النبي عليه الصلاة والسلام قد أَسْلَمَ، أعانه الله عليه فدخل في الإسلام، وقيل: أَسْلَمُ، أي: أَسْلَمُ مِن شره، فما من نبي ولا غيره من الخلفاء إلا وله بطانتان.

وقال عليه الصلاة والسلام: (من ولِي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً، إن نسي ذكَّره، وإن ذكَر أعانه) ولو أن الإنسان لم يوجد له بطانة من الشر، فإن نفسه أمارة بالسوء (ومن يُوقَ بطانة السوء فقد وُقِي) الذي يَمنعه الله من بطانة السوء ويعصمه الله من بطانة السوء فقد وُقِي الشر كله.

(4/3)

من فوائد الحديث

هذا الحديث فيه فوائد:-

(4/4)

جواز الإخبار بالألم إذا لم يكن على سبيل التشكي

الفائدة الأولى: أن الإنسان يجوز له أن يخبر بما ناله من ألم، إذا لم يكن ذلك على سبيل التشكِّي وعدم الرضى، بل للتسلية والتصبير فقد قال أبو بكر: أخرجني الجوع.

وقال عمر: أخرجني الجوع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أخرجني إلا هذا، أو إني أجد بعض هذا أو وأنا قد وجدت بعض ذلك) كل واحد أخبر الآخَرَين بما ناله من الجوع.

ففيه جواز أن يشتكي الإنسان لصاحبه، وأن يخبر الإنسان بما عنده من الألم؛ من مرض، أو جوع، أو فقر، إذا لم يكن على سبيل التسخط على القضاء والقدر، وإذا لم يكن على سبيل شكاية الخالق إلى المخلوق، إذا لم يكن على سبيل التضجر والتبرم من قضاء الله وقدره، وإذا لم يكن على سبيل الشحاذة، فإذا كان كل واحد يخبر أصحابه أو صاحبه بظرفه لعلَّه يساعده في رأي، أو لعله يسليه، أو يعطيه كلمة طيبة؛ فهذا لا بأس به.

إذاً شكوى الأخ لإخوانه مما لقيه من صعوبة، أو بلاء، أو فقر، أو ألم، أو مرض يكون على حالَين: الحالة الأولى: أن يخبرهم بذلك لكي يُسَلُّوه ويصبروه، فهذا لا بأس به، وهو من باب التواصي.

الحالة الثانية: إذا كان على سبيل التشكِّي والتبرُّم والتضجُّر من قضاء الله وقدره، والشكاية للمخلوقين، وإذلال النفس، والطلب، ومد اليد؛ فهذا مذموم.

(4/5)

زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

الفائدة الثانية: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا هو ووزيراه: أبو بكر، وعمر هؤلاء أعظم الناس على الإطلاق في ذلك الوقت، والنبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس في كل وقت، ومع ذلك ما عندهم شيء، الإمام الأعظم ووزيراه ما عندهم في بيوتهم شيء، هذا شيء عجيب! إنه فعلاً يستدعي الانتباه والوقوف قائد الأمة وإمام الأمة ما عنده شيء في بيته، ووزيره الأول أبو بكر الصديق ما عنده شيء في بيته، والوزير الثاني عمر بن الخطاب ما عنده شيء في بيته، كلهم خرجوا من بيوتهم في ساعة لا يخرج الناس في مثلها، ما الذي أخرجهم؟! إنه الجوع.

إذاً: فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلُّل من الدنيا، وما ابتُلوا به من الجوع وضيق العيش.

(4/6)

الإتيان إلى الإخوان عند الحاجة إليهم

الفائدة الثالثة: أن الإنسان إذا اشتكى من مثل هذا فلا بأس أن يأتي إلى صاحبٍ له ليس بينه وبينه حرج أو كُلفة، فيطعم عنده فمِن الأخوة أنه إذا جاع أتى أخاً له ليس بينه وبين كُلفة ولا حرج ولا رسميات -كما يقولون- فيطعَم عنده، وهذا يسميه العلماء: الإدلال على الأخ أو على الصاحب، ما دام أن بينه وبينه مَعَزَّة كبيرة، وأخوَّة عالية، وصاحبه لا يتضجر إذا أتاه، ولا يثقل عليه، فإنه لا بأس بأن يأتي إليه.

وكفى شرفاً بـ أبي الهيثم بن التَّيْهان أن يكون ضيفه النبي صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الرابعة: أن الإنسان إذا ذهب إلى شخصٍ لطعامٍ، وكان يعلم أن هذا الشخص لا يتحرج من إتيان آخرين، فإنه لا بأس أن يصطحبهم فلو دعاك شخص وكان معك واحد أو اثنان أو أكثر، وأنت تعلم أن الذي دعاك لا يمانِع ولا يتحرج ولا يثقل عليه، ولا يتضجر من أن تصطحب معك بعض أصحابك إلى هذه الدعوة، فإنه لا يعتبر شيئاً مذموماً أن تأخذهم معك، مادام أنك تعلم رضاه، وأنه لا يثقل عليه، ولا يُحرج، وأن عنده ما يكفي الجميع، فلا حرج من أن تذهب بهم إليه.

وأما إذا ذهب الإنسان ومعه شخص ولا يدري هل يأذن صاحب البيت أو لا يأذن، فإنه يستأذن لهذا الشخص، فيقول: يا فلان يا صاحب الدار! أنا مدعوٌّ عندك، ومعي واحد لم يُدْعَ، هل تسمح له فيدخل أو ينصرف فيرجع؟ فإذا أذِنَ صاحب البيت بدون إحراج، فإنه لا بأس أن يدخل هذا الشخص ولو لم يُدْعَ.

(4/7)

استخدام المال في طاعة الله

الفائدة الخامسة: أن الإنسان إذا كان غنياً فإنه يستخدم غِناه في طاعة الله؛ فيُكْرِم أهل العلم، ويُكْرِم الصالحين، ويفرح إذا قدم عليه الضيوف الصالحون.

ولذلك فرح أبو الهيثم بقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وقام يعتنقه، وقال: مَن أكرم أضيافاً مني؟! لا أحد اليوم أكرم أضيافاً منه؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، مَن بقي أكرم أضيافاً من هؤلاء؟! من هو أكرم من هؤلاء؟! لا يوجد، ولذلك كان فرحه عظيماً.

فيُسَر المؤمن ويفرح إذا قدم إلى بيته أحد الصالحين أو العلماء، وهذا من علامات الإيمان، أن الإنسان يُسَر ويفرح بقدوم أهل الْخَير إلى بيته، وبالذات إذا جاءوا من غير دعوة، إنها مفاجأة سارة جداً، أن يقْدُم أهل الْخَير إلى بيته.

(4/8)

جواز الكلام مع المرأة الأجنبية إذا لم يكن هناك فتنة

الفائدة السادسة: جواز الكلام مع المرأة الأجنبية بدون فتنة إذا كان بغير فتنة، ولا محذور شرعي، فإنه لا بأس على الإنسان أن يتكلم مع المرأة الأجنبية.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى هذا الرجل قال للمرأة: (أين صاحبكِ؟) والصاحب هو الزوج، وما هو الدليل على أن الزوج يسمى صاحباً والزوجة تسمى صاحبة؟ قال الله تعالى: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] إذاً: الزوجة تسمى صاحبة، والزوج صاحبها؛ لأن بينهما مصاحَبة، فهو يصاحبها في هذه الحياة بالعشرة الزوجية.

فقال: (أين صاحبكِ؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فرحَّبَت بهم وتركتهم يدخلون).

(4/9)

يجوز للمرأة أن تُدخِل بيت زوجها من أذن لها في ذلك

الفائدة السابعة: أنه يجوز للمرأة أن تُدْخِل إلى بيت زوجها مَن كانت تعلم يقيناً أن زوجها لا يمانع في دخوله، أما إذا كان زوجها منعها من إدخال فلان من الناس فلا يجوز لها أن تدخله، وفي الحديث: (ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا تُدخل أحداً إلى البيت، لا جارَةً، ولا قريبةً، ولا بعيدةً، ولا رجلاً، ولا رجالاً لا تدخل أحداً إلا بإذنه، فإن كانت تعلم أنه يأذن أدخلَتْه.

(4/10)

حرمة الخلوة بالأجنبية

الفائدة الثامنة: حرمة الخلوة بالأجنبية فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جاء ومعه أبو بكر وعمر، هؤلاء جماعة من الصالحين، لا يُخشى من دخولهم إلى البيت، لكن لو كانوا فَسَقَة فربما يتعاونون على المرأة.

ولذلك ينبغي الحذر الشديد من إدخال الأجنبي أو الأجانب إلى البيت، إلا إذا كانوا أناساً صالحين، والزوجة تعرف يقيناً أن الرجل لا مانع لديه من دخولهم، وكانوا صالحين، فهنالك يدخلون، أما أن يدخل واحد فقط فلا يجوز أن يخلو بالمرأة ولو كان من أصلح الصالحين.

وقول عائشة رضي الله عنها: [ولا والله ما مست يد النبي صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، ما بايَعَهن إلا كلاماً] أي: مِن بعيد، وما مَسَّتْهُنَّ يدُه، مع أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولم تمس يدُه في بيعة يد امرأة، ومع وجود الحاجة لمس اليد في البيعة؛ لأن المبايِع يضع كفَّه في يد المبايَع، ويعاهده بالله أن يفعل كذا وكذا ولا يفعل كذا وكذا، فمع الحاجة لوضع اليد في البيعة إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام ما بايع النساء مصافحةً، إنما بايعهن كلاماً، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] إلى آخر الآية، قال فيها: {فَبَايِعْهُنَّ} [الممتحنة:12].

فالمبايعة كانت بالكلام، وعائشة تقول: [ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط].

إذاً: لا خلوة، لا مع صالح ولا مع غير صالح، ولا مصافحة؛ لا من صالح ولا من غير صالح، المصافحة حرام.

أما دخول البيت فيكون بإذن الزوج، أو من كانت تعلم يقيناً أن الزوج لا يمانع في دخولهم، وكانوا صالحين، لا يُخشى منهم؛ لأن الفاجر إذا دخل: أولاً: قد يُفضي دخوله إلى حرام مع المرأة.

ثانياً: قد يسرق من البيت.

ثالثاً: قد يضع فيه سحراً، أو يضع فيه شيئاً، وكم من الناس ابتُلوا في بيوتهم من جراء دخول أناس فَجَرَة فَسَقَة لا يؤمَنُون إلى البيوت! وقد يطَّلعون على أسرار في البيوت وأشياء؛ ولذلك لا يُدخل الإنسان بيتَه إلا من يثق به، خصوصاً في هذا الزمن، الذي يجب أن يتحرى الإنسان في دخول بيته أكثر من أي زمن آخر، لأن الفتن فيه عمَّت، وكثرت فيه المحرمات والفُحش والفسوق والعصيان، فيجب الحذر التام من إدخال الأشخاص إلى البيوت.

(4/11)

إكرام الضيف بما تيسر قبل قدوم الطعام

الفائدة التاسعة: أن مِن أدب الضيافة: استحباب المبادَرة إلى إكرام الضيف بما تيسر ريثما ينضج الطعام فإذا جاءك ضيف مفاجئ، وأنت لم تستعد بطبخ وليمة ولا ذبيحة ولا شيء، فالسنة ما فعله هذا الصحابي، أولاً: أتى لهم بعِذْق تَمْرٍ ورُطَبٍ وبُسْرٍ، يأكلون منه؛ لتسكين جوعتهم في البداية؛ ريثما يصنع لهم طعاماً.

وبعضهم استدل به على تقديم الفاكهة على الخبز واللحم، وأن الله يقول أيضاً: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] فقدَّم الفاكهة على الطعام؛ لكن الصحيح أنه ليس في هذه الآية ما يدل على ذلك، هذا كلام عن نعيم أهل الجنة، ونعيم أهل الجنة يختلف بطبيعته عن أهل الدنيا، والفاكهة سواء وُضِعت قبل الطعام أو بعد الطعام حسب مصلحة الناس، وما تعود عليه الناس، فلا بأس بذلك.

وربما بعض الناس لو وضعت له فواكه وأشياء في البداية لقال لك: هاتِ الدسم، هاتِ الخلاصة، هاتِ الشيء المهم، أتريد أن تشغلنا بالأشياء الجانبية؟! فإذاً: الناس على ما تعودوا، ويكون إكرام الناس على ما تعودوا عليه؛ لكن الإنسان قد يفاجأ بضيف، فماذا يقدم له لتسكين جوعته؟ يقدم له ما يقدمه الناس في الغالب، مثلاً: تَمْراً وقهوةً، ريثما يأتوا بالطعام.

فـ أبو الهيثم بن التَّيْهان رضي الله عنه لما فوجئ بهؤلاء الضيوف الكرام قدَّم لهم -أولاً- هذا الرُطَب والتَمْر ريثما يذبح لَهُم ويطبخ لَهُم.

(4/12)

السؤال يوم القيامة عن المباحات

الفائدة العاشرة: أن الإنسان سيُسأل يوم القيامة عن المباحات وهذه هي المشكلة الكبيرة؛ لأننا إذا كان سنسأل عن المباحات فما بالك بغيرها؟! والنبي صلى الله عليه وسلم فسَّر الآية بهذا الشيء الواقعي الذي حصل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] فقال لهم: (ظلٌ بارد، وماءٌ بارد، وفاكهة، ولحم ((لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)) [التكاثر:8]) فهذا هو الذي يُسأل عنه يوم القيامة.

والقضية -يا إخوان- أنه كم مرة حصل للنبي عليه الصلاة والسلام ظلٌ بارد، وماء باردٌ، وفاكهة، ولحم، في وجبة واحدة؟! قليلٌ جداً، هذه إحدى المرات النادرة في حياته التي حصلت له، أما نحن -والحمد لله- كل يوم تقريباً عندنا ظل، وماء بارد، وفواكه، ولحم، إذا لم يكن دجاج فسمك أو لحم أحمر أو غيره.

الصحابة حصل لهم هذا الأمر مرة واحدة -التي نقلت إلينا- وحصل لهم مرات أخرى، ربما وجد في بعض الأحاديث أنهم أكلوا؛ لكنها قليلة، والأكثر أنهم ما عندهم كل يوم لحم وفاكهة، لذلك قالت عائشة: (كان يمر الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال -ثلاثة أهلة في شهرين- وما يوقد في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم نار) لا يوجد طبخ، ولا يوجد غيره؛ لأنه ليس هناك شيء يُطبخ.

(4/13)

تجنب التكليف على المضيف

الفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان يتجنب تكليف المضيف بما يشق عليه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحن ذات دَرٍّ) أي: ذات لبن، خَلِّها واتركها لِلَّبن؛ لتستفيد منها في الحَلْب، اذبح شاةً ليست ذات لبن، دع الحلوب ليستفاد منها، واذبح شيئاً آخر، فيرشد المضيف إلى أن ينتقي له ما لا يضر بمصلحته، أو ما لا يحرمه من الانتفاع به.

(4/14)

مكافأة من أحسن إليك

الفائدة الثانية عشرة: مكافأة من أحسن إليك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طعم عنده سأله وقال له: (هل لك خادم؟ قال: لا.

قال: فإذا أتانا سبيٌ فائتنا) ولما أتاه سبيٌ أعطاه، وكافأه بعبدٍ على هذه الوجبة.

(4/15)

أخذ الرأي من الصلحاء والعقلاء

الفائدة الثالثة عشرة: أن الإنسان يأخذ رأي الصلحاء والعقلاء في اختيار الأشياء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُحْضِر له الرأسان وأتاه أبو الهيثم قال عليه الصلاة والسلام: (اختر منهما.

فقال: يا نبي الله! اختر لي) أي: أنت أبصر مني وأخبر، وأخير مني وأنصح لي، وأعلم بمصلحة نفسي من نفسي، فاختر لي.

فيأخذ الإنسان رأي الصلحاء والعقلاء في اختيار الأشياء، مع أنها أشياء دنيوية، قد تكون سيارة، وقد تكون امرأة، وقد يكون بيتاً، وقد تكون سلعة، وقد تكون غير ذلك.

(4/16)

المستشار مؤتمن

الفائدة الرابعة عشرة: أن المستشار مؤتمَن، وأن الإنسان إذا طُلب منه نصيحة فلا بد أن يأتي بها لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حقوق الإخوة: (وإذا استنصحك فانصح له) فهذا أمر يدل على الوجوب، أي: لا بد أن تبذل له الوسع في نصحه، وتجتهد، ولا تختر له اعتباطياً وعشوائياً، وإنما يجب أن تفكر وتجتهد وتبذل الوسع في الدلالة على الخير، لتخبره: هل هذا أفضل له أم ذاك؟ وهذه مسألة تحتاج إلى تحرٍ ونظر وتفكير، وليس شيئاً عشوائياً، ما دام أنه استشارك لا بد أن تبذل له الرأي مجاناً (وإذا استنصحك فانصح له) هذا يدل على وجوب إعطاء النصيحة للأخ المسلم من قبل أخيه المسلم وجوباً شرعياً.

وما هي الأشياء التي تجعل المستشار يؤدي النصيحة بشكل سليم؟ أولاً: أن يعرف ظرف المستشير وما حوله وحاله وإمكاناته.

ثانياً: أن يفكر وينظر في المسألة.

ثالثاً: أن يستشعر بأن القضية أمانة.

رابعاً: لا تكون الإشارة هذه صحيحة إلا إذا كان لم يكتم شيئاً من المصلحة، لا أن يقول: هذا أعطاني فكرة، أنا الآن أدله على أي شيء وأسبقه إليه، كما يفعل بعض الناس، يقول: أنا أوصله إلى أي شيء استثماري، قد لا يكون مفيداً أو فائدته بسيطة، وأنا أسبقه إليها، وبعض الناس من خيانتهم في الإشارة إذا جاء واحدٌ وقال له: أنا عندي صفقة مع فلان كذا ومع فلان كذا، فيقول له: لا، خذ هذه، ويدله على الأقل، ثم يذهب هو ويأخذ تلك ويسبقه إليها هذه من الخيانة.

إذاً: من خيانة المستشار أن يكتم المصلحة، ومن خيانة المستشار ألا يُعْمِل الجهد في الرأي، بل يعطي رأياً اعتباطياً عشوائياً.

فالمستشار مؤتمَن، أي: أنه يجب عليه أن يتوخَّى الأمانة في إخبار المستشير.

(4/17)

خطورة البطانة وأهميتها

الفائدة الخامسة عشرة: خطورة البطانة وأهميتها المرأة هذه لما كانت نِعْم البطانة لزوجها أشارت عليه بأن يعتق العبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف ذلك: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يُوْقَ بطانة السوء فقد وُقِي).

إذاً: بطانة الشخص من الأهمية والخطورة بمكان؛ لأنهم: أولاً: يعرفون أسرار الإنسان.

ثانياً: لأن العادة والغالب أنه يتأثر بهم، ويمشي على حسب إشارتهم وقولهم، ويعمل برأيهم؛ فإذا كانوا بطانة خير كانت الأشياء التي يعملها الشخص في الغالب خيراً؛ لأن البطانة يشيرون عليه بالخير، وإذا كانوا أهل سوء فهو يتأثر بهم؛ لأنهم ندماؤه وجلساؤه وأهل ثقته وخاصته والمقربون إليه، فإذا دلوه على شر فإنه سيفعل الشر في الغالب (ومن وُقِي بطانة الشر فقد وُقِي).

الفائدة السادسة عشرة: أن الإنسان لا يكاد يسلم من بطانة سوء إما صديق سوء، أو قريب سوء، أو زوجة سوء، أو سكرتير سوء، لا يسلم من بطانة سوء، ولذلك قال: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان) الشخص العظيم صاحب القدر الكبير إلا وله بطانتان، وإذا لم يوجد إنس فالشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

الفائدة السابعة عشرة: أن السعيد من وُقِي بطانة السوء، وأنه يجب على الإنسان أن ينقِّي بطانته، فينخلهم نخلاً، وينظر في هؤلاء المقربين إليه جلسائه، أصدقائه، ندمائه، أصحاب سره، وأهل ثقته، مَن منهم الصالح فيحتفظ به، ويشتريه ويضعه على رأسه، ومَن منهم صاحب السوء فيتخلص منه ويستغني عنه ويبيعه، لأنه لا خير للإنسان في الاحتفاظ ببطانة السوء، ولا يكاد يوجد فينا واحد إلا وهو محتك بأشخاص سيئين وأشخاص طيبين، لكن قد يكون عند الواحد -مثلاً- الطيبون أكثر، وعند الآخر السيئون أكثر؛ لكن لا يخلو أن يكون لك تعرض بوجه من الوجوه إلى شخص سيئ، فينبغي نبذه وتركه وهجره ومقاطعته ومنابذته والاستغناء عنه.

الفائدة الثامنة عشرة: أن بعض الناس غرضهم الإفساد ماذا يعني (لا يألونه خبالاً) أي: أنَّهم لا يقصِّرون في إفساده، يبذلون المحاولات الشديدة في إفساده، قال عليه الصلاة والسلام: (وبطانة لا تألوه خبالاً) أي: أن هذه البطانة ليس تأثيرها عليه تأثيراً عشوائياً وبفعل وجودهم فقط، وإنما هم يخططون لإفساده، (لا يألون) أي: يجتهدون، ولا يتركون وسيلة لإفساده إلا سلكوها، وهذا يدل على وجود تعمد وتخطيط، وعلى وجود تواطؤ منهم.

ولذلك فإن هذه المسألة في غاية الخطورة، فهناك أناس نذروا أنفسهم للشر، يندسون للإفساد، ويعملون، ويشتغلون ليلاً ونهاراً، مكر الليل والنهار.

(4/18)

توافق مشاعر بعض الصالحين وأحوالهم

وفي هذا الحديث: أن بعض الصالحين قد تتوافق مشاعرهم، وتتوافق أحوالهم مع بعض فمما يثير الانتباه أن هؤلاء جاعوا معاً وخرجوا معاً بدون توافق، كل واحد خرج من بيته، ثم اتضح في النهاية أن أسباب الخروج واحدة عند الجميع بدون توافق، فتجد أن الناس القريبين من بعض أو الأصدقاء والخلان -أحياناً- تتواطأ مشاعرهم على شيء واحد.

(4/19)

أهمية الخادم المصلي

وفيه كذلك: أهمية الخادم المصلي أهمية أن يكون الخادم من المصلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختار له واحداً منهم اختار بناءً على الصلاة، وقال: (خذ هذا، فإني رأيته يصلي) فلو عُرض على أحد خادمة تصلي وخادمة لا تصلي، أو سائق يصلي وسائق لا يصلي، أو موظف يصلي وموظف لا يصلي، فعليه أن يختار الذي يصلي، لأن الغالب أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر نعم، قد يوجد كافر عنده أمانة، ومسلم مصلّ لكنه خائن، لكن الأكثر والأغلب أن المصلي أكثر أمانة من غيره، وعلى الأقل هناك بينه وبين الله صلة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].

إذاً: يؤخذ من الحديث: انتقاء المصلين في الأعمال.

ولا يعني هذا أنك لا تنظر إلى الصفات الأخرى، وتقول: المهم أنه مصلٍّ؛ سواء كان غبياً أو لا يفهم، بل عليك أن تنظر إلى الصفات الأخرى {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] فالأمانة من ضمنها الصلاة؛ لأن الصلاة أمانة وعبادة، والأمانات كثيرة: أمانة بين العبد وربه، وأمانة بين العبد والعبد، والقوي، أي: الخبير، القادر.

إذاً: الإنسان يعتمد المصلي كأساس، ويبحث -أيضاً- عن الصفات الجيدة في المصلين.

(4/20)

الضيافة وما يتعلق بها

هذا الحديث -أيها الإخوة- قد اشتمل على مسألة الضيافة وما يتعلق بها، ولعلنا نشير إشارات سريعة إلى بعض الأشياء المتعلقة بالضيافة.

(4/21)

إكرام الضيف من آداب الإسلام

أما مسألة الضيافة فإن إكرام الضيف من آداب الإسلام ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

وضيافة المسلم المسافر المجتاز واجبة على النازل به مجاناً يوماً وليلة فإذا كنتَ في طريق مسافرين، وكان عندك مزرعة أو بيت ونزل عليك مسلم، فإنه يجب عليك أن تبذل له ضيافة يوم وليلة مجاناً على قدر الكفاية، وهذا الحق الذي يمكن أن يطالب به عند القاضي، يذهب إلى قاضي البلد ويقول: نزلت عند فلان في طريق السفر وهو قادر، فأبى أن يضيفني، والقاضي يرغمه شرعاً على ضيافته.

فالمسألة إذاً واجبة، ويأخذ القاضي من صاحب المكان مالاً بقدر الضيافة ولو بغير إذنه ويعطيه للضيف.

(4/22)

الضيافة ثلاثة أيام

ويسن أن يكرمه يوماً وليلة أخرى ثانية وثالثة فالواجب الأُولى، والثانية والثالثة مستحبة، والسنة ثلاثة أيام الأفضل المستحب ثلاثة أيام، وبعد الثلاثة الأيام من حقه أن يسرِّحَه، ولا يجوز الإثقال على الإنسان بأن يمكث عنده الضيف أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) جائزته يومٌ وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة.

ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه فلا يجوز للضيف أن يقيم عند صاحب البيت بعد ثلاثة أيام من غير استدعاء من صاحب البيت وإذن منه ورغبة، أما أن يجلس عنده حتى يحرجه فلا، فإن الناس -مثلاً- يسكنون مكة والمدينة، فيأتي أناس من الخارج، ويجلسون عندهم أسبوعاً أو عشرة أيام أو شهراً، ضيف ثقيل دم، ولذلك فإن هذا المكث حرام؛ لأنه فيه إحراجاً؛ إلا إذا كان الإنسان طيبة نفسه بالضيف، ويأنس به، ويرغب أن يجلس عنده، أما أن يأتي ويجلس ويضع عنده أولاده وأهله فهذا فيه حرجٌ وضيق، ولذلك فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك.

وكذلك فإن الإنسان يكرم من نزل عليه حتى علف الدابة، وكل ما يحتاجه الضيف على حسب القدرة والطاقة.

(4/23)

آداب متفرقة في الضيافة

وينبغي للمضيف أن يخرج مع ضيفه إلى باب الدار قال ابن عباس رضي الله عنه: [من السنة إذا دعوتَ أحداً إلى منزلك أن تَخرج معه حتى يَخرج، وهذا من مكارم الأخلاق].

وكذلك السنة للضيف: ألا يقعد في صدر المجلس إلا إذا أذن صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت أحق بصدر مجلسه وصدر دابته من غيره.

وكذلك فإن الضيف إذا جلس في مكان فلا يجلس في المكان الذي يرى فيه الباب، ويرى ما وراء الباب إذا انفتح، وما وراء الستارة؛ حتى لا يطَّلع على عورات صاحب البيت.

وقد حدثت قصة لطيفة بين أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله والإمام أحمد.

أبو عبيد القاسم بن سلام من كبار أئمة اللغة، والإمام أحمد معروفٌ مَن هو.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: زرت الإمام أحمد، فلما دخلتُ قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه، فقلت: أليس يُقال: صاحب البيت أو المجلس أحقُّ بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم، يَقعُد ويُقعِد مَن يريد إذا كان هذا حقه فآثرَ به آخر فإن له الحق أن يُجلسه.

قال: قلتُ في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة أبو عبيد كان يظن أن صاحب البيت فقط هو الذي يجلس في صدر البيت، والإمام أحمد أجلسه في صدر البيت، ولما سأله أبو عبيد قال: صاحب البيت أَولى؛ لكن إذا هو آثَر الضيف بصدر المجلس فإنه يَجلس.

قال: قلت في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة، ثم قلت -يقول أبو عبيد للإمام أحمد -: لو كنتُ آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم أي: أنت يا إمام أحمد يستحق الواحد أن يأتيك كل يوم، لما يوجد عندك من الفائدة، وأنه يجب أن نقدرك.

فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم يقول: هناك أناس بيني وبينهم علاقات ما ألقاهم في السنة إلا مرة أعز عليَّ من أناس أراهم كل يوم، فالمسألة ليست بكثرة الترداد إنما بالمنازل التي في القلوب.

قال: قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد -الفائدة الثانية- فلما أردتُ القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله! فقال: قال الشعبي: مِن تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، وتأخذ برِكابه.

قلت: يا أبا عبد الله! مَنْ عَنِ الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي قلت: هذه ثالثة يا أبا عبيد أي: هذه الفائدة الثالثة.

وهكذا كان السلف رحمهم الله تعالى يتعلمون، يذهب بعضهم إلى بعض من أجل أن يتعلموا الفوائد.

(4/24)

إبراهيم عليه السلام وأدب الضيافة

وقد ضرب إبراهيم الخليل صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم المثل العظيم في إكرام الضيف، فقد جاءه ضيف، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:24 - 28].

هذه الآيات اشتملت على آداب الضيافة مِن قبل إبراهيم الخليل عليه السلام؛ فتعالَوا بنا نُنْهِي هذا الموضوع باستعراض بعض الفوائد في الضيافة التي حصلت من إبراهيم الخليل عليه السلام:- أولاً: أنه قرَّب الطعام إليهم، ولم يأمرهم أن يتقدموا إلى الطعام وهذا واضح من قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:27] حتى يكفيهم مئونة الإتيان إلى الطعام، وهو من مزيد التكريم، أن تقدم الطعام للضيف؛ لكن مع كثرة الأطعمة التي نضعها اليوم، يمكن أن يجلس الواحد نصف ساعة وهو يقدم الأطعمة إلى الضيف، ولذلك لو أنه جهَّز السُّفْرَة ثم قربهم إليها، فلا بأس بذلك.

ثانياً: من آداب الضيافة: السرعة في الإتيان بالطعام أخذناه من قوله تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] (فَجَاءَ) بحرف الفاء، ولم يقل: ثم جاء، ولكن (فجاء).

ثالثاً: إحضار الطعام بدون إعلامهم أو بدون استئذانهم لئلا يُحرَجوا وبعض الناس يقول: هل نأتي لكم بغداء؟! معنى ذلك أنه لا يريد أن يأتي لهم بشيء؛ لأنه لو كان صادقاً لأتى بالغداء قبل أن يستأذنهم أو يستأمرهم، وهكذا فعل إبراهيم الخليل؛ فإن الله تعالى قال عنه: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] و (راغَ) أي: ذهب خفيةً لئلا يحرجهم، وما أحسوا به لما ذهب من الباب، فانسل خفيةً وأتاهم بالطعام.

رابعاً: اختيار أحسن الطعام قال تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] والآية الثانية: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] والحنيذ هو اللحم المشوي على الرضخ، والرضخ هي الحجارة المحمَّاة، وهو ألذ الطعام وأصحُّه، فاللحم المشوي على الحجارة المحماة أصح شيء، وهو في القمة واسأل به خبيراً! وليس ذلك أنا، فإني لم أشوِ على الحجارة أبداً، لكن المقصود أنك تسأل الذين يشوُون على الحجارة، ويقال: إن طعام الكبراء من هذا النوع، أكثره على الحجارة المحمَّاة، فهو جيد من ناحية الصحة، ومن ناحية اللذة والنضج على الحجارة.

سادساً: أسلوب العرض جميل قال تعالى: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] لما قربه إليهم ما مدوا أيديهم {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] أسلوب في غاية اللطف.

سابعاً: حُسن الاستقبال فإبراهيم كان بابه مفتوحاً {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] والكريم دائماً بابه مفتوح.

ثامناً: أنهم لَمَّا قالوا له: سَلاماً، قَالَ: سَلامٌ سلاماً: جملة فعلية، وسلامٌ: جملة اسمية.

سلاماً: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نسلم سلاماً.

سلامٌ: خبر {سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد استقرار المعنى وثباته أكثر مما تفيده الجملة الفعلية {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:25].

قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].

تاسعاً: لم يسألهم عن أسمائهم، إنما أشعرهم بأن قال: {سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] أي: أهلاً بالضيوف الذين لا أعرفهم، فهو يرحب بمن يعرف وبمن لا يعرف، وهذا من كرمه صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكرم الجميع، فقد جاء بعجلٍ حنيذ لأناس لا يعرفهم، وهذا من إكرام أبي الأنبياء عليه السلام.

عاشراً: أن الإنسان يراقب أحوال الضيف حتى يأتيه أو يعينه على المقصود قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] وفي الآية الأخرى: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] فإن الإنسان يراعي أحوال الضيف: ماذا ينقصه؟ ربما ينقصه ماء، ربما ينقصه شيء؛ والآن بعض الناس يضعون السفرة ويمشون، ولا يدري عن الضيوف ماذا ينقصهم، وماذا يحتاجون، فتفقُّد أحوال الضيوف على المائدة من إكرام الضيوف.

الحادي عشر: المبالغة ذَبَح لهم عجلاً، لم يذبح لهم ثوراً، أو جاموساً قاسي اللحم، إنما ذبح العجل الذي هو صغار البقر، وهذا يكون لحمه طرياً طيباً.

الثاني عشر: من إكرام الضيف أن الإنسان يحادثه:- يحادث ضيفه؛ ليحصل الاستئناس، ولذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم في السمر للمصلي والمسافر والذي عنده ضيف، لا بأس أن يسمر معه الإنسان في الليل، وإلا فإن الأصل أن بعد العشاء نوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كره السهر، إلا لمصلٍّ، أو مسافر، أو صاحب ضيف يسمر معه ويحادثه.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(4/25)

وليمة أهل الخندق

غزوة الخندق حولت مجرى الأحداث بين قريش والإسلام، ففي هذه الغزوة من الدروس والعبر الشيء الكثير، وفي هذه المحاضرة نقف مع درس من دروسها في حفر الخندق، وما لاقاه المسلمون من الشدة، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام، وتبشيره لأصحابه بالفتح.

(5/1)

روايات حديث تكثير الطعام في الخندق

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فنذكر في هذه الليلة إن شاء الله تعالى حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه؛ في عمل من أعمال الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وهم جياع، نرقق قلوبنا بسيرتهم معه، ونتأمل كيف عانوا ما عانوا لنصرة الدين، وكيف ذاقوا ألم الجوع وصبروا عليه ابتغاء وجه الله الكريم، وكذلك ما حصل من معجزاته عليه الصلاة والسلام في تكثير الطعام، الذي رآه الصحابة أمامهم فزاد إيمانهم.

(5/2)

رواية البخاري لقصة طعام الخندق

إنها قصة جابر التي يرويها رضي الله عنه يقول: (إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كديةٌ شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أُهِيل، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت.

فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر، أفعندك شيءٌ؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأكافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيمٌ لي؛ فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له.

قال: كثير طيب! قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فقال: قوموا.

فقام المهجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار معه، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم.

فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يقسم الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذوا منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة) هذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب المغازي.

(5/3)

رواية الإمام مسلم لقصة طعام الخندق

وكذلك رواه الإمام مسلم رحمه الله عز وجل، ولفظ الإمام مسلم في صحيحه: عن جابر بن عبد الله: (لما حفر الخندق، رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصة) أي: رأيته ظاهر البطن من الجوع (فانكفأت إلى امرأتي) يعني رجعت إلى زوجتي (فقلت لها: هل عندك شيءٌ؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً، فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن) -البهيمة: الصغيرة من أولاد الضأن تطلق على الذكر والأنثى كالشاة من أولاد المعز، والداجن: ما ألف البيوت.

(قال: فذبحتها وطَحنَتْ، فَفَرغَتْ إلى فراغي، فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بهيمةً لنا وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر من أصحابك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع لكم سوراً -وهو الطعام الذي يدعى إليه، وهي لفظة فارسية- فحيهلا بكم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت لما رأت العدد الكبير: بك وبك) أي أنها ذمته قال الشراح: أو: بك تلحق الفضيحة ويتعلق الذم، أو جرى هذا بسبب سوء نظرك، وبرأيك، وأنك تسببت في جلب الفضيحة بأن جئت بعدد كبير وليس عندنا إلا هذا الشيء لا يكفيهم (فقلت: قد فعلت الذي قلته لي، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم سراً) قال جابر: (وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: ادعي خابزةً فلتخبز معك ثم قال: واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها) أي اغرفي المرق في قدح.

يقول جابر رضي الله عنه: (وهم ألف! فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا -يعني شبعوا وانصرفوا- وإن عجينتنا وإن برمتنا لتغط كما هي).

(5/4)

شرح الحديث والجمع بين الروايات

أما بالنسبة لحديث البخاري رحمه الله والذي يقول فيه جابر رضي الله عنه: إنا يوم الخندق نحفر، فمعروف أن الصحابة رضوان الله عليهم حفروا الخندق في غداة باردة في الشتاء، ولم يكن لهم عبيد يعملون فكانوا يعملون بأنفسهم، ومعروف أن المنطقة التي حفر فيها الخندق -وهي موجودة إلى الآن- صخرية شديدة الصخور، وعرة، صلبة، حتى أنهم لما أرادوا أن يمهدوا شارعاً ويحفروا فيها تكسرت الآلات واستسلم المقاول، وجاءوا بمقاول آخر فحفر شهراً كاملاً إلى أن عبدوا الطريق، والصحابة حفروه في أسبوع بدون آلات مثل هذه الآلات الموجودة الآن، وحفروا بأيديهم في البرد الشديد، وحفروا هذا الخندق عمقاً وعرضاً حوالي ستة آلاف متر.

يقول جابر: فعرضت كديةٌ، وهي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض لم يستطيعوا قطعها وأعجزتهم، فلجئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه كدية قد عرضت في الخندق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رشوها بالماء، فرشوها، ثم قال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر من الجوع، أصابهم جهدٌ شديدٌ حتى ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من الجوع.

كانوا يأتون بحجارة رقاق صفائح على قدر البطن تشد على الأمعاء فائدتها ثلاثة أشياء: أولاً: أن الإنسان من الجوع ينحني ظهره فإذا شدوا عليه الحجارة اعتدل الظهر.

ثانياً: أن هذه الحجارة تبرد حرارة الجوع، والجوع له حرارة، فهذه الحجارة ببرودتها تطفئ شيئاً من حرارة الجوع، أو تمتص من حرارة الجوع التي بالبطن فتجعل الإنسان أصبر وأقدر على المقاومة.

ثالثاً: أن شدها على البطن والأمعاء يجعل الطعام قليل التحلل، فلا يتحلل منه كما لو لم تكن مربوطة.

شد النبي عليه الصلاة والسلام على بطنه حجراً وكان بإمكانه أن يكون أعظم ملوك الأرض، وعنده مفاتيح خزائن الأرض.

قال جابر: ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، أي: لا نطعم شيئاً ولا نقدر عليه، لما عرضت هذه الحجر، كان الناس جياعاً يعملون بأيديهم في حفر صخور صلبة في البرد، والمطلوب إنجاز المهمة بسرعة قبل أن يأتي كفار قريش ومن معهم من العرب، فلما وصلوا إلى هذه الصخرة الصلبة التي أعيتهم، استدعوا النبي عليه الصلاة والسلام فقال: رشوا عليه الماء، ونزل عليه الصلاة والسلام وبطنه معصوب بالحجر، فأخذ المعول أو المسحاة فضرب هذه الصخرة.

وفي رواية: فسمى ثلاثاً ثم ضرب، وفي روايةٍ لما ضربها قال: باسم الله وبه بدينا -يعني بدأنا- ولو عبدنا غيره شقينا، فحبذا رباً وحب دينا -حب: من ألفاظ حبذا، لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الصخرة، قال الراوي: فعاد كثيباً أهيل، أي: تحولت الصخرة إلى رمل يسيل ولا يتماسك، فصارت الصخرة الصماء الصلبة رملاً ناعماً يسيل، كما قال الله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:14] أي: تحول الجبال إلى رمل سائل.

(5/5)

تفصيل ضرب صخرة الخندق عند أحمد والنسائي

جاء تفصيل هذه الضربة عند الإمام أحمد والنسائي بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: (لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق؛ عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، وفي رواية: تكسرت معاولهم عليها، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول فقال: باسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلثها وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة).

إنها من غنائم المسلمين وفتوحاتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام في وقتٍ الحصارُ فيه آتٍ، والعرب قد اجتمعت على حربه صلى الله عليه وسلم، واليهود من خلفه قد نقضوا العهد، والمنافقون يرجفون في المدينة.

ضرب الصخرة بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة.

(ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض -وهذا هو إيوان كسرى- ثم ضرب الثالثة وقال: باسم الله! فقطع بقية الحجر وقال: أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة) وفي رواية أنه لما قال ذلك فرح المسلمون واستبشروا وكان كلما كبر كبروا بتكبيره فرحاً واستبشاراً.

فجاء جابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! ائذن لي إلى البيت، جاء تفصيل ذلك في رواية ابن عباس: احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق هو وأصحابه وقد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل دللتم على رجل يطعمنا أكلةً) قال رجل: ٌ نعم.

وهذا كأنه جابر رضي الله عنه ولذلك استأذن رسول الله ليذهب إلى أهله، فذهب إلى امرأته وهي سهيلة بنت مسعود الأنصاري رضي الله عنها وسألها عما يوجد عندها فقالت: عندي شعير، في رواية: أنه صاع من شعير فقط، وله بهيمةٌ داجن، فذبحت وطحنت وصنعت خبزاً وقوله في الحديث: والعجين قد انكسر، أي: رطب وتمكن منه الخمير، لأنه يحتاج إلى تخمر حتى يخبز، والبرمة بين الأثاث هي الحجارة التي توضع عليها القدر، وتكون في العادة ثلاثة أحجار، وهي أمكن لئلا يميل القدر ولا يسقط.

ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله طُعيمٌ لي -وطعيم تصغير طعام، يعني أنه قليل- فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، وفي رواية: فقم أنت ونفر معك، وفي رواية: أن جابراً قال: كنت أريد أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فقط، لكنه عليه الصلاة والسلام فاجأه بقوله: (قوموا) فقام المهاجرون وتبعهم الأنصار ومن معهم.

(5/6)

فضل سهيلة بنت مسعود وموقفها من قصة الطعام

وذهب جابر إلى امرأته يقول: ويحك! جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار.

المرأة لعلها أولاً قالت: بك وبك، ثم استدركت فقالت: هل سألك عن الطعام؟ قال: نعم، وفي رواية قال جابر: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، أي: من هذا العدد الكبير من الناس وليس عندي ما أطعمهم، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت! جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين فقالت: هل كان سألك عن طعامك؟ فقلت: نعم.

فقالت: الله ورسوله أعلم.

فكشف عني غماً شديداً كلامُ المرأة.

ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، وقالت: بك وبك، فلما أعلمها سكن ما عندها، ثم تحولت القضية إلى إيمان فقالت: الله ورسوله أعلم، وهذا يدل على وفور عقلها، وكمال فهمها رضي الله عنها، هذه سهيلة بنت مسعود الأنصاري نسأل الله أن يحشرنا معها.

هذه المرأة وقع لها قصة أخرى مع جابر، أي قصة التمر، وهي أن جابراً أوصاها لما زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تكلمه (كان على جابر دين عظيم تركه أبوه، وزاره النبي عليه الصلاة والسلام لحل مشكلة هذا الدين، وقد أوصى جابر زوجته أن إذا جاءنا النبي عليه الصلاة والسلام فلا تكلميه ولا تتحدثي معه، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف نادته المرأة: يا رسول الله! صل علي وعلى زوجي -أي: ادع لي ولزوجي- قال: صلى الله عليك وعلى زوجك، فعاتبها جابر لأنه قال لها لا تتكلمي فتكلمت، فقالت له: أكنت تظن أن الله يورد رسوله بيتي ثم يخرج ولا أسأله الدعاء) أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن.

المهم أن جابراً رجع إليه فبين له، فأتاه فقال: يا رسول الله! إنما هي عناق وصاع شعير قال: (فارجع فلا تحركن شيئاً من التنور ولا من القدر حتى آتيها، واستعر صحافاً) كما في رواية.

ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه أمرهم بالدخول وقال: (ولا تضاغطوا) يعني لا تزدحموا وادخلوا برفق، ثم أخرج العجين، وتفل فيه صلى الله عليه وسلم، ودعا بالبركة، ثم إلى البرمة كذلك ودعا بالبركة وجعل يخمر البرمة أي: يغطيها، ثم ينزع اللحم من البرمة، وأمر الخابزة أن تأتي لتخبز، وأمر بالغرف، وأقعدهم عشرةً عشرةً، فأكلوا عشرة عشرة.

قال جابر: وبقيت بقية فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وفي رواية: فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعون، ويعود التنور والقدر أملأ مما كانا أي: أكثر امتلاءٍ مما كانت قبل أن يأكل منها ألف رجل، وقال عليه الصلاة والسلام في ختام القصة للمرأة: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة، قالت: فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع.

(5/7)

من فوائد قصة تكثير الطعام في الخندق

(5/8)

خصائص النبي ومعجزاته

وهذه القصة العظيمة تعتبر من معجزاته صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته صلى الله عليه وسلم كثيرة، كما أن خصائصه صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكان عليه الصلاة والسلام قد كثر الله له الطعام، وكذلك الشراب من اللبن وغيره، وكذلك نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم, وكان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يديه صلى الله عليه وسلم، وكان حجر يسلم عليه بـ مكة، وانشق القمر له صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد حصل له من المعجزات في هذه القصة في مسألة فلق الصخرة، وأنه رأى اليمن والشام والعراق قد فتحت عليه.

هذه القصة فيها أيضاً علمان من أعلام النبوة؛ تكثير الطعام القليل، وعلمه صلى الله عليه وسلم أن الطعام الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر ويكفي ألفاً، فدعا ألف رجل قبل أن يصل؛ مع إنه يعلم أنه صاع من شعير وبهيمة، وكذلك آمن الصحابة بين يديه وهم يرون هذه المعجزات.

وقد جمع المعجزات عدد من العلماء منهم: القفال الشاشي في الدلائل، وصاحبه أبو عبد الله القديمي وكذلك أبو بكر البيهقي، قال النووي رحمه الله: وأحسنها كتاب البيهقي وهو دلائل النبوة مطبوع في مجلدات، وهذه القصة فيها نصر الصحابة للدين، وقيامهم بحفر هذا الخندق.

وكذلك في هذه القصة أن الأمل لا يفقد بالمؤمن؛ حتى مع الحصار وقوة الأعداء، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يوقن بنصر الله عزوجل، وأن الله سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.

(5/9)

جواز المسارة في جماعة

كذلك في هذا الحديث جواز المسارة بالحاجة بحضرة الجماعة؛ لأن جابراً جاء فأسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي إنما جاء عن تناجي اثنين دون الثالث؛ لأن ذلك يحزنه؛ فإنهما إذا تناجيا دونه شعر بالغربة والوحشة، أو أنهما يريدان به شراً، أو أنه أقل مستوى من أن يسمع الكلام ونحو ذلك، لكن لو كانوا جماعة فجاء رجل فسر إلى رجل في وسط الجماعة فهذا لا بأس به.

ويعتبر من التناجي أن يتكلما بلغة لا يفهمها الثالث إذا كان معهما في المجلس وحده، فإنه يعتبر أيضاً تناجياً محرماً.

(5/10)

من آداب الضيافة اختيار الزوجة الصالحة

وكذلك في هذا الحديث أنه يجوز للإنسان أن يدعو إلى بيت من دعاه أناساً إذا كان يعلم أن صاحب البيت يرضى، وهذا يفهم من عنوان الحديث من صحيح مسلم: (من دعا معه أشخاصاً وهو يعلم أن صاحب البيت راضٍ) لكن إذا كان لا يعلم أهو راضٍ أم لا، فلا بد أن يستأذن من صاحب البيت، فإذا جاء إلى البيت فطرق الباب فليقل: معي فلان أيدخل أو يرجع؟ وأما إذا كان يعلم أنه لا يأذن فإنه لا يأتي به أصلاً.

فإذاً إما أن يعلم إذن صاحب البيت فيأتي بالأشخاص، أو يعلم أن صاحب البيت لا يرضى فلا يأتي بهم، أو لا يعلم هل هو راضٍ أو لا، فإذا أتى بأحد معه استأذن له قبل أن يدخل.

وكذلك في هذا الحديث: أن المرأة تعين زوجها على أمر الله ورسوله، وأن هذه المرأة الصالحة سهيلة بنت مسعود رضي الله عنها سألت زوجها: هل سألك عن الطعام؟ ثم قالت مستسلمة: الله ورسوله أعلم، وهذا من إيمانها، وهذا الذي قال جابر بسببه أنه قد كشف عنه الغم الذي كان به، فالمرأة الصالحة يكون كلامها سبباً في كشف الغم عن زوجها إذا اغتم.

وكذلك في هذا الحديث بركة ريقه عليه الصلاة والسلام.

وفي هذا الحديث الدعاء بالبركة وأنه يكون سبباً في كفاية الطعام القليل للعدد الكثير.

وكذلك في هذا الحديث أنه ينبغي الرفق عند صاحب الوليمة وعدم التضاغط، وكذلك فيه التحلق عشرة عشرة إذا كان المكان ضيقاً، يأكل مجموعة ويمشون، ثم تأتي مجموعة يأكلون وينصرفون، وتأتي مجموعة ثالثة يأكلون وينصرفون، فيجعلون على نوبات كما حصل في حديث جابر هذا، فإنهم جاءوا عشرة عشرة فأكلوا وانصرفوا.

(5/11)

فوائد أخرى

وكذلك في هذا الحديث أن الالتزام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم مجلبة للخير فإنه قال: (لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى يأتي عليه الصلاة والسلام) ومن يقينه عليه الصلاة والسلام بربه أنه قال: (ادعي خابزة) ثم قال: (استعر صحافاً) فطلب منه أن يستعير آنية ليسكب فيها، ونادى الألف رجل.

وكذلك في هذا الحديث أن المهاجرين رضوان الله عليهم أفضل الصحابة، ولذلكم خصهم بالذكر فقال: فقام المهاجرون.

وفي هذا الحديث أيضاً أن اليقين بنصر الله يكون مع المؤمن باستمرار، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بغنائم كسرى وقيصر وفتح صنعاء، والمنافقون يقولون: محمد بـ يثرب والكفار من فوقنا، واليهود من أسفل منا، وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته، وهو يقول: إننا سنفتح مدائن كسرى وقصور قيصر! فأما المنافقون فازدادوا ريبةً إلى ريبتهم وهم في ريبهم مترددون، وأما المؤمنون فزادهم إيماناً، ولذلك فرح المسلمون واستبشروا.

وكذلك في الحديث خدمة المرأة لضيوف زوجها، وأنها تعجن وتخبز وتغرف لهم الطعام.

وفي الحديث بيان ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الشدة، وأنها فتحت لهم الأمصار مع ما كانوا فيه من الجوع والفقر، ومع ما كانوا فيه من الظروف الصعبة الشديدة، ولكن علم الله سبحانه وتعالى إخلاصهم ففتح عليهم.

وفيه الافتخار بالرب والدين في قوله صلى الله عليه وسلم: (فحبذا رباً وحب دينا) رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً.

ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأُ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

أنت الرب وأنا العبد.

فكون الله سبحانه وتعالى هو ربنا فخر، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم نبينا فخر، وأن الإسلام ديننا فخر، والقرآن كتابنا كذلك: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: شرف لك ولقومك.

وفي هذا الحديث أن على المسلم إكرام أضيافه، وأن الله عزوجل يبارك إذا اتسع الصدر واتسع القلب.

هذا ما تيسر من شرح هذا الحديث، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن ينصر بهم الدين، وممن يبارك في أوقاتهم وأبدانهم إنه رب العالمين.

(5/12)

الأسئلة

(5/13)

استبعاد نصر الله

السؤال

يقول: في هذا الزمان الذي تكالب فيه الأعداء والمنافقون على المسلمين يستبعد بعض المسلمين النصر نظراً لإعراضهم عن دينهم، فما قولكم في هذا؟

الجواب

{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فالذي يظن أن الله لا ينصر المسلمين فهو مسيء الظن بربه، مرتكب لكبيرة هي سوء الظن بالله، وهذا مصادم للتوحيد ومنافٍ له.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً متيناً في الذي يسيء الظن بربه، ونقل كذلك الشيخ سليمان رحمه الله في كتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد في الفصل الذي عقده المصنف الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد لوجوب حسن الظن بالله وخطورة سوء الظن بالله، وأنه منافٍ للتوحيد، فالذي يظن أن الله لا ينصر المسلمين، وأنهم سيبقون هكذا مهزومين إلى قيام الساعة، فهو إنسان سيئ الظن بربه، ثم إنه إما مكذب بالبشارات، أو إنه ضعيف إيمان، ألم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا سنفتح روما؟ ألم يخبرنا أننا سنتغلب على النصارى الذين سيسيرون إلينا في ثمانين راية، تحت كل رايةٍ ثمانون ألفاً، تسعمائة وستين ألف نصراني من بني الأصفر -من الروم- سيسيرون إلينا، وأننا سنلتقي معهم في مرج دابق قريباً من حلب في بلاد الشام في سوريا، وأن المسلمين سينتصرون عليهم نصراً مؤزراً، وأنه سيموت ثلث أفضل الشهداء عند الله، والثلث الذين ينهزمون لا يتوب الله عليهم، والثلث الأحياء الباقون الذين ثبتوا سيكتب الله على أيديهم النصر، وأخبرنا أن مدينة قسطنطينية ستفتح بالتكبير جزء في البر وجزء في البحر، وأن المسلمين سيكبرون جميعاً فيسقط جزئها الذي في البر، ثم يكبرون جميعاً ويسقط جزؤها الذي في البحر، وتدخل في أيدي المسلمين.

ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين سيقاتلون اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله؟ ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن عيسى عليه السلام سينزل من السماء، وأنه سيكون مع المهدي في قيادة المسلمين لقتال الدجال وقتله، ومعه سبعون ألفاً من يهود أصفهان، عليهم الطيالسة قد لبسوها، وأن عيسى سيقتله بحربة بيده؟ ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن عيسى سيحكم الأرض بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه لن يقبل إلا الإسلام أو القتل، وأن هذا الدين سيدخل كل بيت، سواء بيت صحراوي في الصحراء، أو في المدن، لا يبقى بيت مدر ولا وبر ولا حجر، ولا بيت صوف أو شعر إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر.

فكل هذه المبشرات لا يجوز بعدها أن يقال: إن المسلمين سيبقون مهزومين إلى قيام الساعة، ومن قال ذلك فإما أنه ضعيف إيمان، أو جاهل، أو مكذب بأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الله سينصر المسلمين على اليهود والنصارى قطعاً [100%] لاشك في ذلك، وإن لم ينتصر هذا الجيل فالجيل الذي بعده، أو الذي بعده وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، حتى يكون آخرهم مع المسيح بن مريم).

والجهاد لا ينقطع إلى قيام الساعة، ولعل تجميع الله تعالى لليهود من أقاصي الدنيا في هذا المكان تمهيداً لاستئصالهم، وأن تكون هزيمتهم عامة وشاملة، وكذلك لعل اتحاد أوروبا الآن وتقاربها هي التي ستمهد للحرب التي ستكون بيننا وبين النصارى، وهم الروم (بني الأصفر) الذين جاء ذكرهم في الحديث.

والذي يوقن بوعود الله، ويؤمن بقضاء الله تعالى وقدره يوقن بـ: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] فقد حصلت في الماضي أحداث كثيرة ولم يكن يتوقع حصولها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وحده هارباً من مكة مع صاحبه، والكفار قد وضعوا مائة بعير لمن يأتي برأسه، ومع ذلك يقول لـ سراقة بن مالك الجعشمي بأنه سيلبس سواري كسرى، ومن ذلك الموقف الذي حصل في الخندق ومر معنا، فإن المنافقين ما صدَّقوا أنه ستفتح كنوز كسرى وقيصر وصنعاء للمسلمين.

فهذه أمور كثيرة في التاريخ كانت لا تصدق إلا من قبل مؤمن بمن أخبر بها ثم حصلت، فما الذي يجعل من البعيد أن يحصل ما أخبرنا به، والمتأمل للواقع يجد أن الأحداث تتجه إلى تحصيل ما أخبرنا به من المعارك الفاصلة والملاحم التي ستقع في آخر الزمان.

(5/14)

تمحيص المؤمن

السؤال

كيف يكون التمحيص للمؤمن في الدنيا والآخرة؟

الجواب

التمحيص للمؤمن في الدنيا يكون بأشياء، منها المصائب التي يقدرها الله عليه فيمحصه بها، فينظر أيصبر، فإذا صبر فالأجر العظيم لتكفير السيئات، يمحصه أيضاً بابتلائه بالعبادات؛ هل يقوم بها أو لا يقوم، يمحصه أيضاً بتسليط من يؤذيه من الأعداء، فيكون في ذلك فتنة: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:141] {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة).

ولذلك لا يدخلها إلا من حصل له التمحيص، ومن التمحيص أيضاً هذه المبشرات التي أخبرنا بها؛ هل نصدق أم نشك، ثم التمحيص في القبر بفتنة تكفر الذنوب، فإن كفى وإلا فزحام المحشر مع الحر والشمس التي تصهر الذنوب وتكفرها، والمرور على الصراط، حتى يدخل الجنة في النهاية طاهراً نظيفاً.

(5/15)

أجر من فطَّر صائماً وقدر ما يفطره به

السؤال

هل تفطير الصائم قدر الإشباع هو الذي يجزئ الأجر؟

الجواب

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن إذا أطعمه وأشبعه فإنه يحصل له الأجر، ولو أطعمه بأقل من الشبع يحصل له الأجر، لكن الأجور تتفاوت، وكلما كان الطعام أكثر في الإشباع كان الأجر أكثر.

(5/16)

اختراع ذكر في وقت محدد

السؤال

ما حكم قول بعضهم عند قيام التراويح (الوتر) رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين؟

الجواب

إذا لم يثبت هذا الحديث فهي بدعة، فبعض الناس مثلاً إذا قام إلى الصلاة قال: أقامها الله وأدامها وهذا ورد في حديث لكنه ضعيف فلا نقوله، أو إذا قام للتراويح أو الوتر قال هذا الدعاء، الدعاء صحيح، لكن التوقيت غير صحيح قال زكريا عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] وبعض الناس بعد السلام من الصلاة يقول: تقبل الله وحافظ عليها، وبعضهم يقول: حرماً -أي: يصلي في الحرم- فيقولوا: جمعاً -يعني أجمعين- وبعضهم بعد الوضوء يقول: زمزم، ونحو ذلك فيجعلون عبارات معينة لم ترد في الشرع، فمن واظب عليها تحولت إلى بدعة، لأنه اختراع ذكر لم يرد في الشريعة، بقصد التعبد إلى الله، فهذا هو البدعة، وتعريفها: اختراع في الدين يقصد منه التقرب إلى الله.

جاء أبو موسى إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أبا عبد الرحمن إني خرجت من مسجد الكوفة فرأيت فيه عجباً.

قال: وما رأيت؟ قال: رأيت قوماً حلقاً حلقاً، على رأسهم واحد يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة.

كبروا مائة، فيكبرون مائة وهكذا.

قال: وما قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار أمرك، قال: هلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وأنا ضامنٌ لهم أن لا ينقص من حسناتهم شيء، ثم تلثم وخرج، فدخل المسجد فوجدهم على هيأتهم حلقاً، وقائل يقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، كبروا مائة فيكبرون مائة، فكشف اللثام عن وجهه، وقال: أنا أبو عبد الرحمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد! هذه ثياب نبيكم لم تبل، وآنيته لم تكسر، ثم زجرهم ووبخهم، وأمرهم أن يكفوا عن هذا الصنيع المبتدع.

قال: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنون يوم النهروان، يعني من الخوارج.

فلا يجوز إحداث شيء في الدين، أو ذكر من الأذكار لم يرد في الشريعة، ومن فعل ذلك يأثم، لأنه يزيد على الدين وكأنه يقول: إن الإسلام ناقص فجئت وأكملته، أو إن رسول الله قد خفي عليه ما علمته.

وهكذا المبتدع من جميع الجهات خاسر متضرر، ويزول الدين بهذه الطريقة، كل واحد يزيد فيه قليلاً حتى يصبح متغيراً، والقاعدة: أنه كلما أحييت بدعة أميتت سنة، وكلما أحييت سنة أميتت بدعة، ولذلك ترى البلاد التي فيها بدع كثيرة؛ السنة فيها ميتة، وليس عندهم من علم السنة إلا القليل، والبلاد التي فيها السنة ظاهره تجد البدعة فيها قليلة، وهذا قانون المدافعة الإلهي، إذا انتصرت السنة وهيمنت زالت البدع أو خفت، والعكس بالعكس.

(5/17)

من قام بعد سلام الإمام من الوتر ليزيد ركعة

السؤال

هل يجوز لأحد المأمومين أن لا يسلم مع الإمام في صلاة الوتر ويأتي بركعة أخرى؟

الجواب

نعم.

ولكن الأفضل أن يسلم مع الإمام وينصرف معه حسب الحديث، حتى ينصرف وقد كتب له قيام ليله، ثم يصلي مثنى مثنى إذا أراد الزيادة في بيته.

(5/18)

حكم لبس الجورب قبل إكمال الطهارة

السؤال

ما حكم من توضأ وحين وصل عند غسل القدم اليمنى نزع جوربه الأيمن، ثم لبسه، ثم نزع الجورب الأيسر وغسل رجله، ثم لبسه عندما أتى وقت الصلاة؟

الجواب

هذا يقصد والله أعلم أنه غسل القدم اليمنى ثم لبس الجورب الأيمن ثم غسل القدم اليسرى ولبس عليها الجورب الأيسر؛ فيكون قد لبس الأيمن قبل أن يكمل طهارته، فلا يجوز له المسح عليهما إلا على طهارة كاملة: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) أي: بطهور كامل، فعليه أن ينزع اليمنى ويعيد لبسها على طهارة كاملة.

وأبى شيخ الإسلام ذلك -رحمه الله- وهذا رأيه، وقال: بأن ذلك عبث لا تنظر إليه الشريعة ولكن الأحوط للإنسان أن لا يمسح إلا على جوربين قد لبسهما على طهارة تامة.

(5/19)

قصة الخصومة بين العمرين

الخصومة والخلاف طبيعة عند البشر، فقد وقع الخلاف في خير القرون، غير أن خلافهم لم يفسد للود قضية، وهنا بيان لذلك، يشتمل على بعض أخلاقهم وفضائلهم وغير ذلك.

(6/1)

قصة الخصومة بين أبي بكر وعمر بن الخطاب

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فقصتنا في هذا الدرس عن شيء حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين العمرين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

(6/2)

أحداث قصة الخصومة بين العمرين

وهذه القصة يرويها أبو الدرداء -رضي الله تعالى عنه- يقول: (كانت بين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- محاورةٌ، فأغضب أبو بكر عمر؛ فانصرف عنه عمر مغضباً، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء: ونحن عنده) وفي رواية: (أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثة، ثم إن عمر ندم على ما كان منه فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا.

فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي، فما أوذي بعدها).

(6/3)

شرح ألفاظ حديث الخصومة بين العمرين

هذا الحديث فيه وقُوع شيء من الخلاف -كما يقع بين البشر- بين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فأخطأ أبو بكر في حق عمر، ثم ندم أبو بكر فأراد أن يستسمح من عمر فأبي عليه، فذهب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاسراً ثوبه عن ركبتيه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة قال: (أما صاحبكم فقد غامر) أي: دخل في غمرة الخصومة، وقيل: سبق بالخير، (فسلم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وجلس إليه وقص عليه القصة وقال: كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ -أي: محاورة، أو مراجعة، أو مقاولة، أو معاتبة-فأسرعت إليه -أي: فأغضبته- فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضباً فاتبعه أبو بكر، قال أبو بكر: ثم ندمت على ما كان، فسألته أن يغفر لي -أي: أن يستغفر لي- فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهي فأبى عليّ)، وفي رواية: (فتبعته إلى البقيع حتى خرج من داره وتحرز مني بداره، فاعتذر أبو بكر إلى عمر فلم يقبل منه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثة -أي: أعاد هذه الكلمة ثلاث مرات- ثم إن عمر ندم فذهب إلى بيت أبي بكر الصديق لكي يصافيه ويعتذر منه فسأل عنه، فقالوا: خرج من المنزل، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجده عنده، فلما سلم عمر وجلس جعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر -أي: تذهب نضارته من الغضب- وكان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض جميلاً كأن القمر يجري في وجهه صلى الله عليه وسلم، فجعل وجهه يحمر من الغضب وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وفي رواية: (فجلس عمر فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام فجلس بين يديه فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله! ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ -أي: أيُ خيرٌ لي في هذه الدنيا وفي هذه الحياة إذا كنت معرضاً عني- فقال: أنت الذي اعتذر إليك أبو بكر فلم تقبل منه -أي: طلب أخوك أن تستغفر له فلا تفعل! - فقال: والذي بعثك بالحق ما من مرةٍ يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما خلق الله من أحدٍ أحب إليّ منه بعدك، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك).

ولما تمعر النبي صلى الله عليه وسلم أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر ما يكره، فجثا أبو بكر -أي: برك- على ركبتيه، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله أنا كنت أظلم) وقال ذلك؛ لأنه كان هو البادئ، فجعل أبو بكر يعتذر حتى لا يجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه على عمر، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن فضل الصديق، وقال: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله).

وواساني من المواساة، وسميت مواساة لأن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟) في رواية: (تاركو) وجزم بعضهم بأنها خطأ، ووجه بعضهم بوجه من وجوه اللغة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها).

(6/4)

فوائد حادثة الخصومة بين العمرين

هذه الحادثة يؤخذ منها فوائد متعددة، فمن هذه الفوائد:

(6/5)

فضل الصديق ومكانته في الإسلام

أولاً: فضل الصديق -رضي الله عنه- وهو السابق إلى الإسلام وهو أكثر الصحابة نفعاً للدعوة على الإطلاق، واسى النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله ونفسه، ولما جعل الكافر يخنق النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر يذب عنه، ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28].

وهو الذي دفع ماله كله في سبيل الله، وحمى النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وكان يبذل ماله للمسلمين، وكان يدعو إلى الله، وأسلم على يديه عدد من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهو الوزير الأول للنبي صلى الله عليه وسلم، وصاحب الرأي الأعظم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خليفته من بعده، وهو الذي تصدى للمرتدين لما غُمّي الأمر على عددٍ من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقام بالأمر، وهو الذي وقف ذلك الموقف المشهود، وكان أفقه الصحابة لما مات عليه الصلاة والسلام واضطرب الأمر، ثم تلا عليهم قول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30] فكأن الناس سمعوها لأول مرة، ويظنونها نزلت الآن، فلما تلا عليهم الآية علم الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام قد مات، وهو الذي قال في ذلك الموقف العظيم: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه للنبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه].

فلما رأى عمر إصرار أبي بكر علم أنه هو الحق، وأن الله قد شرح صدر أبي بكر للحق، وهو الذي أنقذ المسلمين في سقيفة بني ساعدة من التفرق رضي الله عنه، وهو الذي استتب بسببه الأمن في الجزيرة لما كفر العرب أجمعون، إلا أهل المدينة ومكة، وطائفة قليلة من العرب.

وبدأ في عهده التجهيز لغزو بلاد فارس والروم.

هذا الصديق هو أحب الرجال إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وبنته أحب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حدث بينه وبين عمر هذه الخصومة.

(6/6)

ترك إغضاب الفاضل لمن هو أفضل منه

الفائدة الثانية: أن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه، وينبغي أن يحفظ له حقه، وأن الشخص الفاضل ينبغي أن يكون له مكانة في المجتمع، ولا يرد عليه، ولا يمنع طلبه، وإنما يعطى حقه ويلبى طلبه لفضله ومكانته.

(6/7)

جواز مدح المرء عند أمان الفتنة

ثالثاً: جواز مدح المرء في وجهه إذا أُمنت الفتنة، فإن الأصل عدم جواز مدح المرء في وجهه، ولكن إذا أمنت الفتنة جاز ذلك كما مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في محضرٍ من الصحابة، لما علم الله أن أبا بكر من الأتقياء، الذين لا يغترون بالمدح، والنبي صلى الله عليه وسلم -وهو الذي يوحى إليه والمؤيد من ربه- مدح الصديق في حضرة الصحابة، فإذا أمن الافتتان والاغترار بالشخص جاز مدحه للمصلحة، كتبيان فضله حتى لا يعتدى عليه.

(6/8)

مفاسد الغضب

ورابعاً: أن الغضب يحمل الإنسان على ارتكاب خلاف الأولى وترك الأفضل، أو ترك ما ينبغي أن يكون في ذلك الموقف، لكن الغضب يصرف الإنسان عن الرؤية الصحيحة فلا يتخذ الموقف الصحيح.

(6/9)

الرجوع عن الخطأ من صفات الفضلاء

والخامس: أن الفاضل في الدين يُسرع بالرجوع، فإن الناس يخطئون والصحابة بشر يخطئون، ولكن ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة؟ أنهم أقل أخطاءً منا بكثير، ولكن إذا أخطئوا سرعان ما يرجعون إلى الصواب وإلى الحق رضي الله عنهم.

فالمشكلة حصلت بين أبي بكر وعمر ولكن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما رجعا بسرعة، فندم أبو بكر ليس بعد هذه الخصومة بساعات طويلة أو أيام أو شهور وإنما ندم مباشرةً، فرجع إلى بيت عمر، ولما أخطأ عمر ولم يقبل اعتذار أبي بكر، ندم عمر بسرعة وذهب إلى بيت الصديق، وهذه السرعة العجيبة في الرجوع إلى الحق هي التي ميزت أولئك القوم؛ حتى صاروا أفضل هذه الأمة، واختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه، والجهاد مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومعايشة التنزيل ونزول الوحي، فهم أنصاره ووزراؤه رضي الله تعالى عنهم، وهم أفقه الأمة وأعلمها بالحلال والحرام وأبرها قلوباً، ولا يبغضهم إلاَّ منافق ولا يسبهم إلا ملعون.

وينطبق في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] أي: هؤلاء المتقون إذا مسهم طائف من الشيطان كغضب في خصومة، أو سوء تفاهم فإنهم سرعان ما يرجعون، ولذلك قال الله: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وسرعة رجوعهم إلى الحق هذه من مناقبهم وفضائلهم رضي الله تعالى عنهم.

إن الصحابة بشر يخطئون، وهل هناك أعظم من أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟!! ومع ذلك حصل منهم ما يحصل من البشر من سوء التفاهم والخصومة، فهم بشر! وليسوا ملائكة، وهم يخطئون ويقع منهم الخطأ، لكنهم رجاعون إلى الحق، وهذه هي الميزة العظيمة التي عندهم.

(6/10)

التحلل من المظالم

والسادسة: الاستغفار والتحلل من المظلوم؛ فإن الإنسان إذا ظلم أخاه وتعدى عليه وأساء إليه وأخطأ في حقه؛ فإن المندوب له أن يأتيه ويطلب منه أن يستغفر له، وأن يتحلل من هذا المظلوم ويقول له: سامحني وحللني واستغفر لي وتجاوز عني ونحو ذلك ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له عند أخيه مظلمة -من ظلم أخاه- فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم ولكن بالحسنات والسيئات).

(6/11)

ترك ذكر الاسم مباشرة عند الغضب

وسابعاً: أن الإنسان إذا غضب على صاحبه ربما لم يذكر اسمه مباشرة، وإنما ينسبه إلى أبيه أو جده، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (كان بيني وبين ابن الخطاب شيء).

(6/12)

الركبة ليست عورة

والفائدة الثامنة: أن الركبة ليست بعورة، لأن أبا بكر جاء وقد حسر عن ركبتيه والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه.

(6/13)

قبول اعتذار المخطئ

والفائدة التاسعة: أن الإنسان لا ينبغي له أن يرد اعتذار من اعتذر إليه، ويغلق الباب في وجهه، أو يرفض قبول الاعتذار، وهذا يفعله عدد من الناس من فجورهم في الخصومة، فتراهم لا يقبلون الاعتذار ولا يرجعون ويبقون سنوات على ذلك، وكلما حاول فيهم الشخص أن يعتذر إليهم لم يقبلوا منه، بل ربما ظلوا على ذلك حتى الممات لا يقبلون المعذرة ولا يسامحونه، وليست هذه من شيم المؤمنين ولا من أخلاق المتقين؛ بل هذه من صفات المعاندين الذين ركب الشيطان في رءوسهم فنفخهم فجعلوا يرفضون الاعتذارات، ويرفضون العودة والقبول، وإن من شيم المؤمن أن يكون هيناً ليناً يقبل اعتذار أخيه.

(6/14)

معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لحال أصحابه بالتوسم

الفائدة العاشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف بالتوسم حال أصحابه، فبمجرد ما رأى أبا بكر قال: (أما صاحبكم هذا فقد غامر) فعرف ما به وحاله من هيئته وشكله ومنظره، وطريقة تشميره عن ثيابه، وعرف أن أبا بكر قد دخل في خصومة قبل أن يتكلم أبو بكر رضي الله عنه.

(6/15)

الإتيان إلى البيت للاعتذار

الفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان إذا أراد أن يستسمح من آخر فليأته إلى بيته، فـ أبو بكر لما أخطأ في حق عمر جاء إلى بيت عمر ولحقه إلى بيته، ولما ندم عمر جاء إلى أبي بكر في بيته؛ لأن الإتيان إلى البيت فيه مزيد من تطييب الخاطر، وكذلك فيه إظهار الكرامة للمخطي عليه؛ لأنه يأتيه في بيته، وكذلك فيه مزيد من الاعتناء بالاعتذار؛ لأنه ليس في الشارع أو الهاتف، أو يرسل له رسالة، أو يوكل أحداً من الناس يقول له: اعتذر لي من فلان، وإنما يأتيه في بيته، فإتيانه فيه مزيد من الاعتناء بالاعتذار، وهذا ما ينبغي أن يفعل عند حدوث الأخطاء.

(6/16)

اللجوء إلى أهل العلم في حل المشاكل

الفائدة الثانية عشرة: أن الإنسان إذا حدثت بينه وبين أخيه مشكلةٌ لم يستطع أن يحلها؛ فإن عليه أن يلجأ لأهل العلم، وأن يقص القصة دون زيادةٍ ولا نقصان، فإن أبا بكر لما أيس من مسامحة عمر له جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه الخبر؛ حتى يقوم النبي عليه الصلاة والسلام بالتدخل والمصالحة -مثلاً- أو بيان الحق في المسألة أو الحكم ونحو ذلك.

(6/17)

تواضع الصديق رضي الله عنه

والفائدة الثالثة عشرة: تواضع أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما جعل يقول: (والله يا رسول الله! لأنا كنت أظلم)، ولم يشأ أبو بكر ولم يسره أن يسكت حتى يشتد النبي عليه الصلاة والسلام على عمر أكثر، وإنما كان أبو بكر يريد سرعة إنهاء الموضوع، وبدون أن يعنف النبي عليه الصلاة والسلام على عمر بمزيدٍ من التعنيف؛ ولذلك تدخل أبو بكر ولم يدع النبي عليه الصلاة والسلام يكمل الاشتداد على عمر، وجعل يعترف ويقول: (أنا كنت أظلم أنا كنت أظلم) رأفة ورحمة وإنقاذاً لأخيه عمر من هذا الموقف الحرج؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم وليس كلامه ككلام غيره وبحضرة الصحابة الآخرين، فهو موقف صعب على عمر، فلم يقل أبو بكر: دعه يلقنه درساً لا ينساه، ولأدع عمر يقف هذا الموقف المحرج حتى يتعلم مرة ثانية ألا يسيء إليّ ونحو ذلك مما يقع من بعضنا في مثل هذا الموقف، لكن لأن الصديق أرفع درجةً من ذلك فقد تدخل لإنقاذ أخيه وصاحبه عمر من الموقف المحرج.

(6/18)

حفظ حق الفاضل وترك أذيته

الفائدة الرابعة عشرة: أن الفاضل ينبغي ألا يُؤذى ويحفظ حقه، وأن يندب إلى ذلك، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل أنتم تاركون لي صاحبي؟) فينبغي أن يشهر ويعلن بين الناس أن يتركوا فلاناً من الأذى إذا كان له سابقة وفضل، وأن ينوه بسابقته وفضله؛ حتى يترك الناس إيذاءه، ويعرفوا مقداره، ويكفوا شرهم عنه، ويوقروه ويعرفوا حقه وقيمته وقدره، فقال عليه الصلاة والسلام: (إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟) فنوه بفضله وقيمته ومنزلته حتى لا يعتدى عليه.

(6/19)

خشية المخطئ على نفسه من العقوبة

الفائدة الخامسة عشرة: أن الإنسان المخطئ عليه أن يخشى على نفسه من العقوبة؛ ولذلك لما جاء عمر رضي الله عنه جلس عن يمين النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم عن شماله ثم بين يديه، ثم قال: (يا رسول الله! فما خير حياتي وأنت معرض عني) فهذه كلمة بالغة في الرقة حيث يقول: إذا أنت غضبت عليَّ فما خير العيش لي بعد ذلك مع غضبك؟! فلا يمكن أن يطيب لي عيشٌ وأنت عليّ غضبان، فهذا فيه استرضاء.

(6/20)

استرضاء العالم والقدوة حال غضبه

الفائدة السادسة عشرة: استرضاء العالم والقدوة والكبير إذا غضب، والمسارعة إلى التخفيف من غلواء غضبه، والمبادرة إلى الاعتذار والرجوع.

(6/21)

الإعلان بالرجوع عن الخطأ

الفائدة السابعة عشرة: الإعلان بالرجوع عن الخطأ؛ لأن بعض الناس ربما لا يقوى على الإعلان بالرجوع عن الخطأ، وإنما يريد أن يعتذر سراً، وليس أمام الناس، ولكن أبا بكر يقول: (أنا كنت أظلم) أمام الجميع، وعمر جاء يعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم أمام الجميع، فلم يكن ليمنعهم عن إظهار الاعتذار أن يكون بعض الناس حاضرين، ويقولون: نحفظ ماء وجهنا بأن نأخذ النبي عليه الصلاة والسلام على جنب ونكلمه ونعتذر له، ولكنهم لا مانع عندهم أن يعتذر الإنسان، ويعترف بخطئه أمام الآخرين، ولم ينقص قدرهم رضي الله عنهم.

(6/22)

أخطاء العمرين لا تنقص من قدرهما

الفائدة الثامنة عشرة: أن أفضل رجلين في الإسلام بعد النبي عليه الصلاة والسلام ما غض من قدرهما، ولا نقص من قيمتهما، أنهما أخطئا ورجعا، فهما أخطئا وجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت القصة، والقصة في صحيح البخاري ومسند أبي يعلى وغيره من المصنفين، ومع ذلك فلا نجد في أنفسنا حرجاً ولا غضباً ولا شيئاً على الصديق وصاحبه أبداً؛ بل نجد كامل المحبة لهما؛ لأن خطأهما فائدة لنا، أي: إن من بركتهم أن أخطاءهم فائدة لنا، يتعلم المرء منها أشياء كثيرة، مما ينبغي أن يكون عليه الموقف.

(6/23)

أهمية تقديم المال للدعوة إلى الله

الفائدة التاسعة عشرة: أهمية تقديم المال والدعم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان إذا قدم المال والنفس في الدعوة إلى الله فإن ذلك مما يرفع قدره ومنزلته، ويستوجب صيانة حرمته والكف عن إيذائه؛ لأن التقديم في سبيل الدعوة الحقيقية عبادة عظيمة؛ لأن النفع متعدٍ، ونشر الخير والهداية إلى الآخرين، سبب في إنقاذ الناس من النار والكفر؛ ولذلك من أسباب علو منزلة الصديق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق وواساني بنفسه وماله).

فإذاً: تصديق أبي بكر للداعية الأول عليه الصلاة والسلام، ومواساته بالنفس؛ حيث عرض نفسه للخطر في عدد من المواضع من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وواساه -كذلك- بماله، فالتقديم للدعوة كتقديم النفس والمال، والجهد، والتضحية لا شك أن لها فضلاً عظيماً؛ لأن الدعوة مجالٌ لهداية الناس، ونشر النور إلى الآخرين.

(6/24)

فضل السابقين في الدعوة

الفائدة العشرون: أن الإنسان كلما كانت سابقته أقدم في الدعوة، وتقديمه أبكر من غيره كلما كان أفضل؛ ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] أي: الذي أنفق في وقت غربة الدين وضعف المسلمين، وفي المرحلة المكية، وأنفق في وقت الاضطهاد، وفي وقت الحاجة الماسة، لما كان الناس لا يجدون شيئاً، وكان المسلمون في غاية الشدة والعسر، فهذا لا شك أن بذله أكثر أجراً ممن بذل في وقت الرخاء والسعة.

ولذلك فإنه كلما أمكن الإنسان أن يبكر بالتقديم والعطاء والدعوة في سبيل الله يكون أجره أكبر -ولا شك في ذلك- وكلما كان العطاء في وقت الشدة، وفي وقت مبكر يكون أفضل قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] وكلهم له أجر {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].

(6/25)

حادثة الخصومة بين الصديق وربيعة الأسلمي

هذه قصة مشابهة حصلت مع أبي بكر -رضي الله عنه- وفيها شيءٌ مما يجب أن يكون في الخصومة بين الإخوة.

(6/26)

أحداث قصة الخصومة بين ربيعة والصديق

وهذه القصة سندها جيد يرويها الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده عن ربيعة الأسلمي قال: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ربيعة ألا تزوج؟ قلت: والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج -عرض عليه الزواج لما في الزواج من صيانة العرض والدين- قال: يا رسول الله: ما أريد أن أتزوج؟ ما عندي ما يقيم المرأة -أي: ليس عندي نفقة- وما أحب أن يشغلني عنك شيءٌ -أي: أخشى أن تشغلني الزوجة عنك وعن خدمتك يا رسول الله، فهو يريد أن يخدم النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه ويوقف عليه- فأعرض عني -أي: ترك دعوته للزواج- فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: يا ربيعة ألا تزوج؟ فقلت: ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة وما أحب أن يشغلني عنك شيءٌ، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني -أي: أنا راغب عن الزواج من أجل الأجر في خدمته عليه الصلاة والسلام، لكن هو الذي أشار عليَّ بالزواج فمعنى هذا أن الزواج فيه أجر لي أكثر من أن أترك الزواج لخدمته- فقال: والله لئن قال تزوج لأقولن: نعم يا رسول الله مرني بما شئت، قال: فقال: يا ربيعة -المرة الثالثة- ألا تزوج؟ فقلت: بلى مرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان حي من الأنصار، وكان فيهم تراخٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم -أي: لم يكونوا يواظبون على حضور مجالسه عليه الصلاة والسلام؛ لأجل مشاغلهم الضرورية من كسب العيش وغيره، وهذا معنى تراخيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم- فانطلق ربيعة إليهم قال: فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانةً -لامرأةٍ منهم- فقالوا: مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يرجع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته -أي: إلاَّ وحاجته مقضية- فزوجوني وألطفوني وما سألوني البينة -أي: لم يسألوا عني ولا استوضحوا عن خبري ولا عن أخلاقي وديني- فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً، فقال لي: ما لك يا ربيعة؟ فقلت: يا رسول الله أتيت قوماً كراماً فزوجوني وأكرموني وألطفوني وما سألوني بينةً؛ لأنهم وثقوا -أي: ما دام أنه من عند النبي عليه الصلاة والسلام فلم يسألوا عن أي شيء- قال: وما سألوني بينةً وليس عندي صداقٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بريدة الأسلمي اجمعوا له وزن نواةٍ من ذهب قال: فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب بهذا إليهم فقل: هذا صداقها، فأتيتهم فقلت: هذا صداقها -أي: هذا المهر- فرضوه وقبلوه وقالوا: كثيرٌ طيب) -ليسمع هذا أصحاب المغالاة في المهور فقد يصل المهر في هذا العصر إلى الخمسين والمائة ألف والمائتين ألف- (فرضوه وقبلوه وقالوا: كثيرٌ طيب قال: ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً فقال: يا ربيعة ما لك حزينٌ؟ فقلت: يا رسول الله! ما رأيت قوماً أكرم منهم رضوا بما آتيتهم وأحسنوا، وقالوا: كثيرٌ طيب وليس عندي ما أولم -أي: قد انحلت مشكلة العقد فعقدنا، والبنت قد وجدناها، والمهر اديناه، وبقيت الوليمة- قال: يا بريدة اجمعوا له شاةً) فلننظر كيف تنحل المشاكل بسرعة في العهد النبوي، فليس هناك مشكلة تجلس السنة والسنتين، فيقول لهم: اجمعوا فيجمعوا له بسرعة؛ لأن الحلول جاهزة للمشكلات، والأمور ميسرة وبسيطة، وتمشي الأمور على السعة.

لأن الغاية أن يحصل العفاف والزواج قال: (فجمعوا لي كبشاً عظيماً -أي: ما يكفي لشراء كبش كبيرٍ سمين- فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عائشة فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام -والمكتل: زنبيل ووعاء يسع خمسة عشر صاعاً- قال: فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع شعير -والآصع: جمع صاع، ويجمع على: أصوع وصيعان- وقالت: لا والله إن أصبح لنا طعامٌ غيره -أي: لا والله ما عندنا طعام غير هذا الذي طلبه النبي عليه الصلاة والسلام، فكل الموجود عندنا تسع أصواع من الشعير، وهذا هو كل الذي في مطبخ عائشة إذا كان عندها مطبخ، وإنما هي حجرة لـ عائشة - فقالت: خذه -لأن زوجها أمر بذلك، فهي لم تبخل به- قال: فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ما قالت عائشة، فقال: اذهب بهذا إليهم فقل: ليصبح هذا عندكم خبزاً، فذهبت إلى أهل العروس وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم فقال: ليصبح هذا عندكم خبزاً وهذا طبيخاً) -أي: أنا أتيت لكم بالمواد الخام، وأنتم عليكم الصناعة لأهل العروس، فهذا الشعير اخبزوه، وهذا الكبش اذبحوه واطبخوه- (فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم) -فهو أخذ أناساً من جماعته من بني أسلم فقالوا: الخبز مقدور عليه عندنا لأن لدينا من يخبز، وأما الكبش فعليكم، فلننظر إلى سلاسة وسهولة المسألة، فليس هناك اعتراضات، يقول لي أحد الإخوة: لما جئنا نتناقش في موضوع زواج البنت وجلسنا مع الرجل وأب الزوج كان نقاشاً عجيباً حتى ذكروا الشروط والنقاش وأشياء أخرى، حتى أن أباه قال: على من الببسي؟ قلنا: الببسي علينا، قال: إيه لا بد أن يكون كل شيء واضحاً- (قالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا في الصباح خبزٌ ولحم، فأولمت ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: -أي ربيعة الأسلمي - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً -أي: بعد الزواج جاء الخير- وأعطاني أبو بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة) -يبدو أن بعض النساخ أو بعض الشراح قال: إن كلمة أعطاني خطأ من خطأ النساخ وأن الصحيح (أعطاني أرضاً وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة -فقلت أنا: -أي: ربيعة الأسلمي - هي في حدي وقال أبو بكر: هي في حدي) -أي: أن الدنيا جاءت، وكل واحد يقول عن النخلة أنها في حده، والحد هو: الحاجر بين الشيئين، فكل واحد منهما يظن أن النخلة في أرضه المملوكة -قال: (فكان بيني وبين أبي بكر كلامٌ، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم -أي: أثناء المحاورة- فقال لي: يا ربيعة رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً) -فـ أبو بكر رضي الله عنه قال كلمة غليظة في الحوار وندم مباشرة، ومع أنه تلك الشخصية المباركة، إلاَّ أنه ندم فوراً على الكلمة، وقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً فلابد أن تقول لي نفس الكلمة وترد بها علي فلو قلت لك: يا غبي لا بد أن تقول لي: يا غبي حتى تصير قصاصاً، ولو قلت لك: يا طماع لا بد أن تقول لي: يا طماع حتى تصير واحدةً بواحدة، فـ أبو بكر يصر على القصاص؛ لأن القصاص في الدنيا أهون من القصاص في الآخرة- قال: (قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أشتكيك- فقلت: ما أنا بفاعل قال: ورفض الأرض -أي: أن أبا بكر ترك النخلة- وقال: خذ النخلة، وترك الأرض التي فيها العذق المتنازع عليه، فتركها لـ ربيعة تكرماً -أي: تكرماً من الصديق ترك الأرض لـ ربيعة وبقيت الكلمة؛ لأن الأرض عند الصديق ليست مشكلة، إنما المشكلة في الكلمة- وانطلق أبو بكر -رضي الله عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه -أي: أتبعه- فجاء ناسٌ من أسلم -من قبيلة ربيعة - فقالوا لي: لما علموا القصة رحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قال لك ما قال؟ -أي: لماذا يشتكيك وهو المخطئ؟! - فقلت: أتدرون ما هذا؟ هذا أبو بكر الصديق وثاني اثنين وذو شيبة المسلمين، إياكم! لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته وحدي -بدون جماعة- حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم -أي: الصديق - فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا ربيعة ما لك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله! كان كذا، كان كذا، قال لي: كلمةً كرهها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل.

لا ترد عليه ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، فولى أبو بكر -رضي الله عنه- وهو يبكي).

فالآن التشابه بين القصتين في أنه حصل شيءٌ من سوء التفاهم بين أبي بكر -رضي الله عنه- وبين ربيعة الأسلمي، ولكن لننظر السرعة العجيبة في رجوع أبي بكر الصديق والاعتذار والتنازل عن الأرض أصلاً، ثم إن ربيعة رضي الله عنه يعرف قدر الصديق، ولذلك قال: (أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، ثاني اثنين وذو شيبة المسلمين) أي: هذا شيبتنا، وكبيرنا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلو غضب يمكن أن يغضب الله علينا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك فإن ربيعة لم يرد أن يتكلم ع

(6/27)

فوائد من قصة الخصومة بين ربيعة والصديق

القصة هذه لوحدها فيها فوائد كثيرة في مسألة تيسير الزواج والمهور، وكيفية استقبال الناس لصاحب الدين إذا جاءهم ليتزوج، وكيفية جمع المهر وتيسير الأمور، وحل المشكلات بين أهل الزوجة والزوج وأهل الزوج والشخص المتقدم، وكيف أن الدنيا يمكن أن تكون سبباً للمشكلات بين الإخوة، وهذه من أهم الفوائد.

قال ربيعة كلمة عظيمة: (وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة فقلت أنا: هي في حدي، وقال أبو بكر: هي في حده) فهذه الدنيا هي سبب الخلاف، وهي التي تجر الخصومة، ثم تجر الكلام الذي لا يليق بين الإخوة.

وكيف أن الصديق أراد أن يتحلل في الدنيا قبل الآخرة، وأن الإنسان لا يستعين بقومه على الباطل، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن الذي يعين قومه على غير الحق مثل البعير المتردي بذنبه، فإذا تردى بذنبه فلا يمكن لأحدٍ أن يخرجه؟ وإذا تردى في بئر لا يمكن لأحدٍ أن يسحبه؛ ولذلك يدفعونه إلى الهلاك دفعاً، ورجوعه صعب إذا قام قومه معه بالباطل.

فهذه قصة الصديق رضي الله عنه في الحالتين تبين أشياء كثيرة من حقوق الأخوة، وتبين الحالة التي يجب أن تكون بين الإخوة، وتبيّن كذلك أن الخلاف بنيهم لا يمكن منعه بالكلية، وتبين كذلك الموقف الصحيح لمعالجة هذه الأمور الخلافية.

(6/28)

الأسئلة

(6/29)

الحج وغفران الذنوب

السؤال

هل الحج يغفر الغيبة والنميمة والحلف في اليمين؟

الجواب

أما الكبائر فتحتاج إلى توبة خاصة، وأما حقوق البشر فلا بد من إرجاعها والتحلل منهم، وأما بقية الأشياء فيمكن أن تغفر بالحج كلها.

(6/30)

حكم علاج المريض من أموال الزكاة

السؤال

مرض قريبٌ لي فأدخل المستشفى ولم يكن لديه ما يسد به نفقات العلاج، فهل يجوز أن يكون ذلك من الزكاة؟

الجواب

نعم، إذا كان لا يقدر على العلاج وهو محتاج فيُعطى من الزكاة.

(6/31)

حكم إعطاء الزكاة للخدم

السؤال

ما حكم إعطاء الزكاة للخادمة؟

الجواب

لا يجوز للإنسان أن يستفيد من الزكاة بشيء، ولا أن يرغب الخادمة بالبقاء، أو أن يجعل الزكاة وسيلة لتحسين خدمتها -مثلاً- ولذلك لا يعطيها من الزكاة، وهذا هو رأي الشيخ عبد العزيز -حفظه الله-.

(6/32)

ميقات الإحرام للعمرة

السؤال

جئت إلى الظهران للدراسة لمدة سنة، وأعود يوم الأربعاء إلى الجمعة من كل أسبوع إلى مدينة جدة، فإذا أردت العمرة هل يكون الإحرام من جدة أو من الظهران؟

الجواب

إذا كان لك بيتٌ في جدة، فيجوز لك أن تحرم من جدة من بيتك؛ لأنك من أهل جدة، فيكون لك بيت هنا، وبيت في جدة وإذا لم يكن لك بيتٌ في جدة فإنك تحرم من المكان الذي يحرم منه أهل المنطقة هنا.

(6/33)

إعطاء الحقوق العامة عند الهجران

السؤال

إذا كان صديقك يبتعد عنك، ولا يقوم بواجب الصداقة، وهو قام بالخصومة فهل أفارقه؟

الجواب

( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، فأنت عليك أن تلقاه وتسلم عليه، وتعطيه الحقوق العامة على الأقل: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) فهذه الحقوق العامة تعطيه إياها، ثم بعد ذلك إذا هو صدك فأنت ليس عليك إثم، وإذا سلمت عليه ولم يرد عليك رد عليك من هو خيرٌ منه وأطيب وهم الملائكة كما جاء في الحديث الصحيح.

(6/34)

جواز الاعتذار بالهاتف والرسالة عند الخطأ

السؤال

هل يجوز الاعتذار بالهاتف أو الرسالة؟

الجواب

نعم، ولا شك في ذلك، لكن الأولى أن يأتيه في بيته ويعتذر إليه، ولكن قد يكون ذاك في بلد بعيد أو أن في الإنسان بعض الحساسيات والاحراجات، ويريد أن يتلافى المواجهة بالرسالة فلا بأس.

(6/35)

حكم ميداليات المفاتيح المطلية بالذهب

السؤال

ما حكم ميدالية المفاتيح المطلية بالذهب؟

الجواب

لا يستعمل الرجال المطلي بالذهب.

(6/36)

حكم الهدايا المقدمة من المرابين

السؤال

ما حكم الهدايا التي تقدم من المرابين؟

الجواب

إذا كانت أموالاً ربوية فلا تقبل، ويمكن أن توضع في مكان عام، أو تعطى لفقراء أو أناس يستفيدون منها، كالمال الضائع الذي ليس له صاحب.

(6/37)

حكم من نوى الإفطار في السفر ولم يفطر

السؤال

كنت على سفر فنويت الإفطار، ولكني لم أفطر؟

الجواب

هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فذهب بعضهم: إلى أنه يفطر بمجرد نية الإفطار، وقال بعضهم: لا يفطر إلا إذا تعاطى مفطراً كالأكل أو الشرب أو الجماع وهذا هو الراجح إن شاء الله، ولكن الأحوط أن يقضي خروجاً من خلاف أهل العلم.

(6/38)

حكم شرب الماء عند أذان الفجر

السؤال

شربت ماءً بعدما بدأ أذان الفجر؟

الجواب

ينبغي على الإنسان إذا أذن أن يمتنع عن الطعام والشراب، ولكن مثل هذا الذي أكل أو شرب أثناء الأذان لا يؤمر بالقضاء، إلا إذا كان الأذان على طلوع الفجر الصادق حقيقة يراه أمامه، فعند ذلك يكون قد أكل في نهار رمضان وشرب فيؤمر بالقضاء والتوبة.

(6/39)

جواز كشف المرأة لشعرها عند إقامة حلقة قرآنية في المنزل

السؤال

هل يجب على المرأة أن تغطي شعرها أثناء إقامة حلقة القرآن في البيت؟

الجواب

يجوز أن تقرأ وهي كاشفة الشعر.

(6/40)

حكم إجابة دعوة من يعمل في الربا

السؤال

ماذا نفعل في رجل ممن يعمل في الربا، ولكنه يدعونا إلى بيته، وإذا امتنعنا يحصل قطيعة رحم؟

الجواب

يمكن أن تذهبوا إليه ولا تطعموا عنده، أو تدعوه إلى بيتكم أو تذهبوا بطعامكم إليه، أو إذا كان له كسبٌ مختلط يجوز الأكل من طعامه حينئذٍ، أو إذا كانت زوجته موظفة والمال مشترك بينهما يؤكل من طعامهم؛ لأن الحرام لم يتميز.

(6/41)

حكم الصدقة بخلاف نية المتبرع

السؤال

أعطى أحدهم المؤذن مائة ريال، وقال: اشتر سجادة للإمام، والمسجد مفروش والحمد لله والذي أعطى المال لا نعرفه حتى نرجع المال إليه فماذا نفعل؟

الجواب

إذا كان لا يُشرع فرش السجاد على السجادة، ولا وضع السجادة للإمام والمسجد مفروش فإننا نشتري به مفرشاً لمسجدٍ غير مفروش، أو نضعه في فرش مسجدٍ آخر، فإذا لم يمكن تنفيذ نية المتبرع فنجعلها في أقرب شيء إلى نية المتبرع.

(6/42)

(معنى قول: (اغسل حوبتنا

السؤال

ما معنى اغسل حوبتنا؟

الجواب

الحوبة: الذنب العظيم والذنب الكبير وورد في القرآن: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2].

(6/43)

قصة إبراهيم وسارة والجبار

هذه قصة من السنة الصحيحة، تعرض فيها أبونا إبراهيم عليه السلام لمحنة عظيمة، وكربة شديدة، حيث دخل وزوجته بلاداً يحكمها أحد الجبابرة، فحاول هذا الجبار اغتصاب هذه الزوجة، فكفه الله عنها بدعائها وإخلاصها.

وفي هذه المحاضرة بيان ثلاث عشرة فائدة من هذه القصة، وإسهاب في بيان إحدى هذه الفوائد، وذلك فيما يتعلق بالمعاريض والتورية وأمثلة عليها من حياة الرسول والصحابة والسلف.

(7/1)

نص حديث قصة إبراهيم وسارة والجبار

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: فسنتحدث إن شاء الله في هذه الليلة عن قصة رواها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخيه وأفضل الأنبياء بعدَه: إبراهيم عليه السلام.

هذه القصة رواها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]، وواحدةً في شأن سارة، فإنه قد قَدِم أرض جبارٍ ومعه سارة، وكانت أحسن النساء، فقال لها -إبراهيم يقول لزوجته سارة -: إن هذا الجبار -هذا الملك الكافر الطاغية في هذا البلد- إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه -هذا القريب للجبار أتى الجبار- فقال له: لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبِضت يده قبضةً شديدة، فقال: ادْعِي الله أن يُطْلِق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد، فقبِضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقُبِضت أشد من القبضتين الأولَيَين، فقال: ادعِي الله أن يطلق يدي، فلكِ الله ألا أضرك، ففعلت وأُطْلِقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخْرِجْها من أرضي وأعطها هاجر، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مَهْيَمْ؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر، وأخدم خادماًَ قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء).

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات).

قال في الحديث عن الكذبة الأولى حين دُعِي إلى آلهتهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وذلك أنه لم تكن به علة ولا مرض؛ ولكنه كان سقيم النفس، كاسف البال، حزيناً على شرك قومه؛ لأنهم لم يلبوا نداءه، ولم يطيعوه في دعوته.

فإذاً عندما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] لم يكن في الحقيقة كذاباً، وإنما استخدم التورية، ويقصد بالمرض (المرض النفسي) أنه مريض النفس، اعتلت نفسه من إصرارهم على الشرك والكفر، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] لما دعوه للخروج معهم إلى عيدهم، وكانوا يخرجون إلى عيد خارج البلد، قال لهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وقبل أن يقول لهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] نظر نظرة في النجوم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وكان هؤلاء القوم كفاراً عبادَ الكواكب والنجوم، ويعتقدون أن النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، وفي مرض الناس، والإنجاب، والرزق ونحو ذلك، فأراد إبراهيم الخليل أن يقيم عليهم الحجة، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] عاملهم من حيث كانوا؛ لئلا يُنْكِروا عليه {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90] تركوه وذهبوا إلى عيدهم خارج البلد.

لما خلت البلد وصار معبد الأصنام فارغاً دخل إبراهيم على الأصنام، فكسَّرها، ثم وضع القدوم (الفأس) في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار غِيْرةً لنفسه، وأنف أن تُعبد معه الأصنام الصغار، فقام عليها وكسرها.

فلما رجعوا من عيدهم وجدوا أصنامهم مكسَّرة، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] لأنه لم يتخلف عن حضور العيد غيره، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وأشار بإصبعه {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] أي: غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرها.

ماذا أراد إبراهيم من هذا الكلام؟ أن يقيم عليهم الحجة، ولذلك قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، اسألوا الأصنام المكسرة، حتى يخبروكم من كسرها، {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63].

فلما قال لهم ذلك رجعوا إلى أنفسهم، وعرفوا أنها لا تنطق، {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:65] رُدُّوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.

لما قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] رجعوا إلى أنفسهم، قالوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64] كيف تعبدون أشياء لا تسمع ولا تبصر.

لكن لما كان القوم على فسادٍ في الطريقة أجيالاً استمرءوا الكفر، وأصروا على الباطل، وعاندوا وتعصبوا لمبدئهم، ورفضوا الحق ورجعوا مرة أخرى، {ثُمَّ نُكِسُوا} [الأنبياء:65] هذا معنى: {ثُمَّ نُكِسُوا} [الأنبياء:65] رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى بعد أن لاح لهم الحق، وأقنعهم إبراهيم، وتبينت لهم القضية بالحجة؛ لكنهم رجعوا، نكسوا على أنفسهم، مثل المريض إذا صارت له صحوة ثم انتكس مرة أخرى ورجع إلى المرض، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:65] كيف نسألهم وهم لا ينطقون؟ فانتهز إبراهيم الخليل الفرصة، وقال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ} [الأنبياء:66 - 67] تباً لكم وهلاكاً لكم، {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:67].

(7/2)

قصة حرق إبراهيم

فلما غلبوا على أمرهم وخافوا الفضيحة ولم تبق لهم حجة اجتمعوا هم وملكهم النمرود على إحراق إبراهيم الخليل عليه السلام، وجعلوا له بنياناً {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] بنوا له بنياناً كالحظيرة، وجعلوه في هذا البنيان، وجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب، حتى قيل: إن الرجل منهم كان إذا مرض يقول: لئن عوفيت لأجمعن حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر إن أصابت ما تريد وحصل لها ما تبتغي لتحتطبن في نار إبراهيم، وقيل: إن المرأة منهم كانت تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه في البنيان إعداداً لحرق إبراهيم، تحتسب الدفاع عن الأصنام والانتصار لها.

وجمعوا الحطب -فيما قيل- شهراً، ولما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب النار، واشتدت النار، وعلت في السماء حتى أن الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، حتى إذا اشتدت لم يعلموا كيف يلقوا إبراهيم فيها، فأتاهم إبليس بفكرة المنجنيق على ما ذكر بعض أهل التفسير، فوضعوه مقيداً مغلولاً، وأطلقوه بالمنجنيق مِن بُعد على هذه النار؛ لأنهم لا يستطيعون الاقتراب منها من شدتها، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] والله تعالى له الأمر من قبل ومن بعد، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وهو الذي خلق النار فسلب منها خاصية الإحراق، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً} [الأنبياء:69] لو لم يقل: {سَلاماً} [الأنبياء:69] لربما مات إبراهيم من شدة البرد وتجمد، {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً} [الأنبياء:69] حتى لا تؤذيه بالبرد.

وقال إبراهيم كلمة واحدة فقط وهو في الهواء، يلقى بالمنجنيق إلى النار، في اتجاه النار، ذاهبٌ في الهواء، قال: حسبي الله ونعم الوكيل؟ قال ابن عباس كما في صحيح البخاري: [حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار].

وقال محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] بعد غزوة أحد، قيل لهم: لقد عاد المشركون مرةً أخرى لاستئصالكم، {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].

كل الدواب كانت تنفخ -بأمر الله- النار عن إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم، ولذلك أمرنا بقتل الأوزاغ إحياءً لذكرى أبينا إبراهيم، وإظهاراً للكراهية لهذا الحيوان الدابة الذي كان تنفخ النار على إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح: (وقالت سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة: دخلتُ على عائشة، فرأيتُ في بيتها رمحاً موضوعاً، قلت: يا أم المؤمنين! ماذا تصنعون بهذا الرمح؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن بالرمح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار لم تكن في الأرض دابةٌ إلا تطفئ النار عنه غير الوزغ، كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله).

وأخبرنا في الحديث الصحيح: (أن من قتل وزغاً من أول ضربة فله مائة حسنة، ومن قتلها من الضربة الثانية فله خمسون حسنة نصفها).

وورد في بعض الآثار: [أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنارٍ في العالَم].

(7/3)

كذب إبراهيم في ذات الله

وهذه قصة الكذبتين الأوليتين: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، و {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63].

وقيل: إنه استخدم التورية أيضاً، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63] وأشار إلى إصبعه.

وعلى أية حالٍ كانت من إبراهيم الخليل عليه السلام طريقة لإقناع قومه ومحاجتهم.

نعود إلى قصتنا: - {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63].

- {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89].

- وكذلك عندما قال عن زوجته: إنها أخته.

قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الثلاث الكذبات: (ثنتين منهن في ذات الله) ما معنى في ذات الله؟ مع أن قول إبراهيم عن زوجته: هذه أختي، أيضاً فيها معنى من جهة الدفاع عن عرض زوجته وتخليص زوجته في سبيل الله أيضاً؛ لكن خص هاتين بقوله: (في ذات الله) مع أن الثالثة في ذات الله أيضاً؛ لكن الثنتين الأوليتين ما تضمنتا حظاً لنفسه، بخلاف الثالثة، فإن فيها حظاً له وهي: نجاته ونجاة زوجته.

الثالثة التي هي في ذات الله؛ لكن فيها فائدة له أو حظاً له، وسعيه لتخليص زوجته، وهو مقصد شرعي مباح لا غبار عليه على الإطلاق؛ لكن امتدح الثنتين الأوليتين؛ لأنها لله محضة ما فيها حظ لنفس إبراهيم وشخصه أبداً.

(7/4)

دخول أرض الجبار وطمع الجبار بزوجة إبراهيم

قال: (بينما هو ذات يومٍ وسارة قدم أرض جبارٍ ومعه سارة) قيل: إنه ملك مصر في ذلك الوقت هذا الجبار الكافر الطاغية، وأن إبراهيم لما خرج من أرض العراق بعدما أحرق الله النمرود وقومه اتجه إلى بلاد الشام وبلاد مصر، فلما دخل بلاد مصر وكان عليها هذا الرجل الجبار قيل له: إن هنا رجلٌ -لما دخل أرض مصر وكان فيها هذا الجبار- قيل للجبار: إن هنا رجل -وهو إبراهيم- ومعه امرأة، هناك رجل معه امرأة دخلوا مملكتك، المرأة جميلة جداً في غاية الجمال، لا تصلح إلا لك.

وإبراهيم تزوجها لَمَّا هاجر من بلاد قومه إلى حران، قيل: إنه تزوجها في ذلك الوقت، ولما دخل بها مصر وكان على مصر ذلك الملك الطاغية بعض أقرباء الملك، كما ورد في الحديث رأى إبراهيم ورأى معه سارة، وكانت قد أوتيت من الحسن شيئاً عظيماً، وقال له: إني رأيتها تطحن، وإنها في غاية الجمال، فالملك كان لا يدع شيئاً مثل هذا يفوته من ظلمه وعسفه وبغيه، فأرسل إلى إبراهيم وإلى سارة وجيء بها، وجيء معه، فسأله عنها، فقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، ظاهر الحديث أنه أتي بإبراهيم أولاً وسأله من هذه؟ قال: هذه أختي، رجع إبراهيم إلى زوجته، قال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيركِ، ثم طلب منها، إذا سألها الملك عن قرابتها منه مَن تكون بالنسبة له أن تقول له: إنها أخته؛ حتى لا يتناقض كلامه مع كلامها؛ ولئلا يظهر بمظهر الكاذب، فقال: فصدقيه إذا سألك عني، فقولي: هذا أخي؛ لأنني قلت له: إنك أختي، يقصد إبراهيم أختي في الإسلام.

فلعل إبراهيم أحس مسبقاً أن الملك سيطلبها، فأوصاها بما أوصاها به، ولما وقع ما كان يظنه أعاد عليها الوصية لما استدعاه الملك، وقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، رجع إليها، وقال: إذا سألك فاصدقيني إذا سألك فقولي له: أنك أختي، ولا تكذبيني.

ما هو السبب؟ لماذا لم يقل: إنها زوجتي؟ ولماذا لم يخبر بالحقيقة؟ قيل: إن الملك إذا عرف أنها زوجته لا يمكن أن يصل إليها إلا بالتخلص من زوجها، فيَقْتُل إبراهيم للوصول إلى المرأة؛ لكن لو عرف أنها أخته ربما وصل إليها بطريقة أخرى كالزواج أو غيره، وإن كان رجلاً رَكَّاباً للحرام، كما يتبين من القصة؛ لكنه كان ظالماً يريد اغتصابها، فلعله كان إذا عرف أن المرأة متزوجة قتل الزوج أولاً، فأراد إبراهيم أن يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، بين أن يكذب أو يخبر بالحقيقة، ويُقْتل، فارتكب أدنى المفسدتين، وأخبر بتلك الكلمة، وقال لها: (ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك).

لو قال قائل: ولوط عليه السلام؟! فيمكن أن يقال: إن إبراهيم يقصد الأرض التي هو فيها الآن، دخلنا بلد مصر، لا يوجد مؤمن غيري وغيرك، أما الأرض الأخرى ففيها لوط، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] وقال إبراهيم: {إِنِّي مُهَاجِرٌ} [العنكبوت:26] وهاجر إبراهيم، {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26].

لما أُخِذَت سارة من إبراهيم قام إبراهيم يصلي، ولما أدخلت سارة على الملك لم يتمالك أن بسط يده إليها من شدة جمالها، لأنه لم يستطع أن يقاوم نفسه فقبِضَت يده قبضة شديدة، وفي رواية: (فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي -أي: تدعو- فغُطَّ) وفي رواية: (رُكِض برجله) يعني: اختنق، كأنه مصروع، والغط: صوت النائم، من شدة النفخ، غطيط.

فمجموع الروايات يؤخذ منها: أنه عوقب أولاً بقبض يده؛ أي: شُلَّت يده ولم يستطيع أن يحركها، وثانياً: أنه صُرِع.

جاء في رواية الأعرج: أن سارة توضأت ودعت الله عز وجل قائلةً: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر) هي تعلم أنها آمنت به لكن تواضعاً قالت هذا الدعاء.

ولما شلت يد هذا الملك وصرع قال: (ادعي الله لي ولا أضرك) وفي رواية مسلم: (ادعي الله أن يطلق ففعلتْ) قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: قالت: (اللهم إن يمت يقال: هي التي قتلته) إن يمت الآن من هذه الصرعة يقول قومه: هي التي قتلته، فربما قتلوها، فدعت الله له فأرسلها، لما تحرر الرجل ورجع إلى حاله الأولى هل توقف؟ أبداً.

تناولها الثانية، ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي ودعت الله عز وجل فأخذ مثلها أو أشد، أشد من القبضة الأولى.

وفي المرة الثالثة دعا الرجل الذي جاء له بـ سارة وقال له: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، ما أرسلتم إلي إلا شيطانة أرجعوها، ولعله لما صُرع ظن أن الشيطان هو الذي تدخل، وكانوا قبل الإسلام في الجاهلية يعظمون أمر الجن جداً، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعل الجن؛ لما رأى الملك نفسه مصروعاً مشلولاً قال: هذا من فعل الجن، هذا شيطان، هذا ليس بإنسان.

أطلق سراح سارة وقال: أعيدوها إلى إبراهيم، وزيادة على ذلك: أعطاها خادمة وهي هاجر وهبها لها لتخدمها، لأنه سمع أنها كانت تعجن العجين أو تخدم نفسها، قال: هذه لا يليق أن تخدم نفسها، فأعطاها خادمة وهي: هاجر.

فلما أطلق سراحها ومعها هاجر أتت سارة إلى إبراهيم وكان يصلي، فقال إبراهيم بعدما انصرف من صلاته: (مَهْيَمْ-أي: ما الخبر؟ - فقالت سارة ملخصةً ما حصل: رد الله كيد الكافر وأخدم هاجر) رد الله كيد الكافر في نحره، أَشَعَرْتَ أن الله كبت الكافر وأخدم وليدةً؟ وهي الجارية.

أبو هريرة ماذا قال عن هاجر في آخر القصة؟ قال: [تلك أمكم يا بني ماء السماء] يخاطب أبو هريرة العرب يقول لهم: [تلك أمكم] هذه هاجر التي كانت خادمة وأُعْطِيَت خادمةًَ وجاريةً لـ سارة، ثم وهبتها لزوجها إبراهيم، قال: [فتلك أمكم يا بني ماء السماء] لماذا يطلق على العرب (بني ماء السماء)؟ لكثرة ملازمتهم للفلوات والصحاري؛ لأن فيها مواقع القطر وهو الماء النازل من السماء، يغشون البراري لأجل رعي أغنامهم، ولذلك سُمُّوا ببني ماء السماء؛ لأن عيشهم على ماء السماء.

وقوله: [تلك أمكم يا بني ماء السماء] قيل: إن العرب كانوا من ولد إسماعيل، وهناك عرب قبلهم؛ لكن هؤلاء العرب المتأخرون كانوا من ولد إسماعيل.

(7/5)

فوائد من قصة إبراهيم وسارة والجبار

هذا الحديث فيه فوائد كثيرة ومتعددة:- فمن الفوائد:

(7/6)

مشروعية أخوة الإسلام

أولاً: مشروعية أخوة الإسلام، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [حجرات:10] وأن رابطة الدين رابطة عظيمة، وأن أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب، والدليل على ذلك: أن الأخوين إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً جاز للمسلم أن يقتل أخاه في سبيل الله، إذا التقيا في صفين يمكن أن يعمد إليه فيقتله، فهذا دليل على أن أخوة الدين أقوى من أخوة النسب.

(7/7)

الرخصة في الانقياد للظالم وقبول هديته

ثانياً: الرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، فيمكن أن يقال: لماذا لم تقاوم؟ قد تقاوم وتقتل وتذل وتهان، وهنا رخصة في أن المرأة إذا أجبرت بالقوة على الانقياد إلى ظالم، فإنها إذا لم تجد طريقة للهرب ولا للتخلص، وقِيْدت بالقوة، فإنها تكون معذورة بهذا.

ثالثاً: يؤخذ من الحديث: قبول هدية المشرك؛ فإنه لما أعطاها هاجر قَبِلَت الهدية وأقرها إبراهيم، وهو نبي يأتيه الوحي، فأُخِذَت هدية المشرك.

(7/8)

إجابة دعاء المخلص

ومن أعظم الفوائد: إجابة الدعاء بإخلاص النية؛ فإنها دعت الله تعالى، ففرج الله عنها، والله تعالى مع المكروب، ومع الملهوف، ومع المظلوم، يجيب دعوة المظلوم، والمضطر، ولا شك أن سارة في ذلك الموقف كانت في اضطرار عظيم، فلما دعت الله وقالت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك) فكانت صادقة مؤمنة فاستجاب الله دعاءها.

وهكذا المرأة المسلمة والرجل المسلم إذا وقع في ضرورة في ورطة في أزمة فتوجه إلى الله بالدعاء فإن الله سبحانه وتعالى يخلصه إذا كانت نيته حسنة.

(7/9)

مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة

خامساً: مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا سبق لنا في قصة أصحاب الغار الثلاثة.

وهذا دليل آخر، فإنها قالت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر) فتوسلت إلى الله تعالى بالإيمان وبالعفة، (وأحصنت فرجي إلا على زوجي) وهذه من الأعمال الصالحة، امرأة عفيفة تقول: ما مسني أحد من الأجانب أبداً (أحصنت فرجي إلا على زوجي) التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، وأن الله سبحانه وتعالى يقبل الدعاء بالأعمال الصالحة، وأنه عز وجل يستجيب.

(7/10)

الحكمة من ابتلاء الصالحين

سادساً: يؤخذ من هذه القصة أيضاً: ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم؛ فإن الله ابتلى إبراهيم بأخذ زوجته منه ابتلى إبراهيم بهذا الملك الظالم ابتلاه باستدعائه له ابتلاه بالموقف الصعب الذي مر به ابتلاه بالشدة، وهذا ليرفع درجته ويزيد أجره وحسناته.

(7/11)

أهمية الفزع إلى الصلاة ومشروعية الوضوء لمن قبلنا

سابعاً: أن الإنسان إذا نابه كرب أو وقع في شدة فإن عليه أن يفزع إلى الصلاة؛ فإن إبراهيم الخليل لما أُخِذت منه زوجته ماذا فعل؟ اشتكى إلى مَن؟ إلى ملك الملوك.

ويلجأ إلى من؟ الذي خصمه الآن أكبر سلطان في البلد وهو الملك، أخذ زوجته، يشتكيه إلى مَن؟ لا يوجد حل إلا من الله سبحانه وتعالى، فتوجه إلى الله تعالى وقام يصلي.

وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا فزعه أمر صلى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].

ولما أخبر ابن عباس أن أخاه قد توفي وهو في طريق السفر، نزل عن دابته إلى جانب الطريق فصلى ركعتين وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].

فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أو كربه أمر صلى، وهكذا إبراهيم الخليل لما حصل له ما حصل فزع إلى الصلاة، قام إبراهيم يصلي، طيلة فترة غياب الزوجة عنه وهو في صلاته، هذه من أسوأ الفترات التي يمكن أن تمر بالإنسان، الزوج إذا أُخِذَت زوجته إلى مكان مجهول، ولا يدري ماذا يُفعل بها، وليس عنده قوةً ليس عنده جيشٌ يحارب به، ولا قوة يستطيع أن يقتحم قصر الظالم ويستخرج زوجته، أو أنه يهرب بها، لا يستطيع، دخل في سلطان هذا الفاجر.

فإذاً كان يأوي إلى ركنٍ شديد وهو الله عز وجل.

ثامناً: من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الوضوء كان مشروعاً للأمم من قبلنا، وليس خاصاً بهذه الأمة ولا بالأنبياء؛ لأن ذلك ثبت عن سارة أنها قامت تتوضأ، وجمهور العلماء على أن سارة ليست بنبية وإنما هي من أولياء الله.

(7/12)

إثبات كرامات الأولياء

تاسعاً: من فوائد القصة: إثبات كرامات أولياء الله تعالى؛ لأن سارة أكرمها الله بأن فكها من يد الظالم وكرامة لها، ثم إن هذا الظالم لما شلت يده وصرع قال: ادعي الله لي ولا أضرك، دعت الله وفُك ورجع إلى ما كان عليه، فمن كرامات أولياء الله أن يستجيب الله دعاءهم، والاعتقاد بكرامات أولياء الله من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله قد يخرق العادة لبعض أوليائه.

وقد اختلف في هذا الشيء أصناف من الناس: - فذهب الأشاعرة إلى أن كلما كان معجزةً لنبي جاز أن يكون كرامةً لولي، فسوَّوا بين الكرامة والمعجزة.

- وذهبت المعتزلة إلى النقيض من ذلك، فأنكروا كرامات الأولياء، وقالوا: ليست هناك كرامات، لأنهم عقلانيون، فالقضايا الغيبية لا يؤمنون بها.

- وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا بإثبات كرامات الأولياء؛ ولكن كرامة الولي لا يمكن أن ترقى إلى درجة معجزة النبي، فمعجزة النبي أعظم لا شك في ذلك؛ لأنه مؤيد من الله بمعجزات لبيان صدقه وإقامة الحجة على قومه، أما الولي فقد تقع له الكرامة وهو في الصحراء فمفرده، فيعطش مثلاً وليس عنده زاد، فالله سبحانه وتعالى ينزل عليه شيئاً أو طعاماً أو شراباً، أما معجزة النبي فيراها الناس؛ لأنه مؤيد من الله والمعجزة تكون لأجل أن يؤمن الناس ليقيم الله الحجة عليهم.

فإذاً عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء إذا ثبتت، وإلا فإن الصوفية وغيرهم ادَّعوا كرامات كثيرة، وكذب كثيرٌ من الناس في الكرامات، كل أحد يدعي كرامة من جهة، لكن إذا ثبتت الكرامة فإن عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء، ولكنها مقام دون مقام معجزات الأنبياء ولا شك.

فـ أهل السنة والجماعة وسطٌ بين الأشاعرة والمعتزلة في هذا المقام.

تاسعاً: من الفوائد: أن الكذب في ذات الله تعالى لإعلاء شأن الدين جائزٌ ولا حرج فيه.

عاشراً: أن على الإنسان أن يكون حكيماً يحسب للأمر حسابه، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول لزوجته: (إذا سألك فأخبريه أنك أختي) حتى لا أكون كذاباً عنده، ولا تتناقض الأقوال.

(7/13)

تحذير النساء من الفجرة

حادي عشر: أن بعض الفجرة لا يتورعون عند رؤية المرأة أن يمدوا أيديهم إليها مباشرةً؛ ولذلك فإن على المرأة المسلمة أن تحتشم {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].

فالمرأة إذا تبرجت صارت نهباً وعُرضة لكل فاسق وفاجر؛ لأنها تصبح مجالاً للإغراء والفتنة، ويطمع فيها الطامعون، وأما إذا احتشمت وتحجبت ولم يظهر منها شيء فلا يطمع فيها أحد؛ لأنها ليست مغرية -عند الحجاب ليست مغرية- لكن المتبرجة تغري بنفسها، هذه المتبرجة سفيهة؛ لأنه لسان حالها يقول للناس في الشوارع: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يلمسني، يلمسني؛ والذي يريد أن يعطيني رقماً، يعطيني؛ والذي يريد أن يجيء ورائي، يجيء، هذه الفاجرة، المرأة التي تتبرج ما معناها الآن؟ إذا تبرجت امرأة في الشارع؛ مكياج، وزينة، وحسرت عن وجهها وشعرها، وخرجت تمشي في السوق بين الرجال الأجانب، ما معناها؟ معناها دعوة للفحشاء، تلم الناس تقول: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يجيء، هذا معناه أن تلفت إليها الأنظار، فهي المجرمة الأولى، والفاجر الذي وراءها المجرم الثاني.

ولذلك النساء اللاتي يتبرجن في الأسواق لا يعلم الإثم الذي عليهن إلا الله عز وجل، لأنها لا تفتن واحداً ولا اثنين ولا عشرة، طيلة مشيها في الشارع تفتن الناس، والناس أكثرهم فيهم ظلمٌ وفجور، ينظرون ولا يتورعون، يطلقون البصر ويلحقونها؛ ولذلك تجد أحياناً امرأة في الشارع يسير وراءها ثلة من الفجرة؛ لأنها كلما تبرجت تبرجاً ملفتاً للنظر مثيراً، كلما زاد عدد الأتباع الذين يتبعونها، وبعض النساء تريد هذا أن يتبعها أكبر عدد من الشباب.

ولذلك يا إخوان، الله سبحانه وتعالى حكيم عندما قال: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، و {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].

ولما قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31].

ولما قال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].

ولما قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].

ولما قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].

ولما قال: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31].

كل هذه إجراءات للعفاف وتطهير المجتمع المسلم، ولما خالفت النساء هذا، انتشرت الفاحشة في المجتمع، ورأيتَ الآن رمي الأرقام وهذا شيء مشاهَد، لا يحتاج إلى زيادة تدقيق وأصبح شيئاً عادياً، وتجد المسألة عادية، والعياذ بالله، وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يسامح فيه، الله يغضب لحرماته، وإذا أصبح المجتمع فاجراً فإن الله عز وجل ينزل بأسه وسطوته وعذابه انتقاماً من هذا المجتمع.

ولذلك لا بد من الحذر الشديد في هذه القضية، وأن يقوم كل إنسان على زوجته، وبنته، وأمه، وأخته، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجار ينصح جاره في زوجته، والقريب ينصح أقرباءه في زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم، لا نترك أحداً؛ لأن المسألة عامة، والعذاب عام؛ إذا نزل عمَّ الجميع، ثم يبعثون على نياتهم، لا ينجو من العذاب إلا الذي كان ينهى عن السوء {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].

ثاني عشر: من فوائد هذه القصة: تواضع سارة لما قالت: (كف الله يد الفاجر) ما قالت: بصلاحي بدعائي! لا، قالت: (كف الله يد الفاجر) الفرج من عند الله (وأخدم خادماً).

(7/14)

مشروعية المعاريض والتورية

ثالث عشر: قضية مشروعية المعاريض، استخدام التورية:- وعند هذا سنقف وقفةً أخيرة في هذه القصة بين الكذب والتورية.

(7/15)

عقوبة الكذاب ومراتب الكذب

أما الكذب: فإنه من الكبائر، قال الله تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، وقال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والكذب، فإن الكذاب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار -فالكذب طريق مباشر إلى جهنم- ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً).

وكذلك من صفات المنافق أنه (إذا حدث كذب) فالكذاب فيه صفة من صفات المنافقين.

وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي: قم، فقمتُ معه، فإذا أنا برجلين: أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلُّوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله) يشرشره من الجنب إلى القفا، ويرجع يأخذ الجنب الثاني إلى القفا، يعود إلى الجنب الأول سليماً، يشرشره إلى القفا، كلاليب من حديد، (فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ قال: هذا رجلٌ كذاب، يعذب في قبره إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (هذا رجل يكذب فتبلغ كذبته الآفاق) يكذب كذبة وتنتشر، كأن تنتشر الآن عبر القنوات الفضائية، كذبة تنتشر في الآفاق في المشرق والمغرب، فهؤلاء هذا عذابهم في القبر، غير عذاب النار، وسيأتي عذاب جهنم بعد عذاب القبر.

إذاً: الكذب لا شك أنه كبيرة من الكبائر، ومُتَوعد عليها باللعن، أما الكذب على الله وعلى رسوله فهذا أسوأ أنواع الكذب، لأن الكذب درجات، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مَن فعله فإنه يتبوأ مقعده من النار مباشرةً، ومن استحل الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يكفر ولا شك.

والكذب على الله مثل أن تخبر عن الشيء الحرام أنه حلال، كما يفعل بعض المفتين، ينتقد البنوك الربوية؛ لأنها تفتح فروعاً إسلامية، يقول: لماذا تفتحوا فروعاً إسلامية، أنتم إذا فتحتم فروعاً إسلامية معناها كأنكم تقولون للناس: إن شغلكم الآخر حرام، فأنتم لا يجب أن تفتحوا فروعاً إسلامية؛ لأنه أصلاً كله حلال جائز؛ لماذا تفتح فرعاً إسلامياً، ألا لعنة الله على الكاذبين، {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] والعامة الذين يتبعونهم كلهم أوزارهم فوق ظهر هذا الكذاب.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخوف ما خاف على أمته: (الأئمة المضلين الذين يضلون بأهوائهم)، {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].

فيأتي يقول على الربا: إنها حلال، لعنة الله على مَن قال ذلك، وهذا غيض من فيض.

المهم: الكذب على الله وعلى رسوله أسوأ أنواع الكذب، والكذب العام الذي يبلغ الآفاق هذا، أو الشائعة التي تنشر، أو الخبر الكذب الذي ينشر هذا عقوبته في القبر مرت معنا وعرفناها.

والكذب على أفراد الناس لا شك أنه محرمٌ أيضاً، الكذب مراتب ودرجات.

(7/16)

هل يباح الكذب أو يجب؟

هل هناك كذب مباح؟ نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول: خيراً وينمِي خيراً) ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس (رخص النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).

فإذاً: الكذب في الحرب جائز؛ لأجل مخادعة العدو، والحرب خدعة، مثل أن يقول: إن جيش المسلمين كثير، عشرة آلاف، وربما هم لا يتجاوزون الألفين أو الثلاثة، فيكذب على العدو بإعطائهم أخباراً عن جيش المسلمين أنه كثير لأجل إخافة العدو، هذا ماذا؟ كذب مشروع، ولا حرج فيه، ويُتَقَرَّب به إلى الله.

كذلك الكذب للإصلاح بين متخاصمَين، كأن يقول: يا فلان! لم لا تكلم فلاناً، فيقول: هذا عدوي يتكلم علي، هذا بلغني أنه تكلم علي في المجلس الفلاني، فيقول: أنا كنت حاضراً ولم أسمعه يتكلم، وهذه إشاعة، ولا تصدق هذا الكلام؛ لأجل الإصلاح بينهما.

أو يقول: إنني سمعته يثني عليك وهو لم يسمعه يثني عليه، ولكن لأجل الإصلاح بين المتخاصمَين، فهذا لا حرج فيه.

أما حديث الرجل لزوجته: لو قال إنسان لزوجته: أنتِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي، ومن المؤكد أنها ليست أجمل امرأة؛ لكن من باب التحبب إليها.

أو يقول: هذه الطبخة أحسن طبخة أكلتها في حياتي، ما أكلت ألذ منها، من باب التلطف مع الزوجة وحسن المداعبة والمعاشرة، مع أنه ربما أكل في مطعم أحسن منها، لكنه يقصد التقرب إلى الزوجة، والحديث معها ليس حديثاً يأكل به حقها ولا مهرها ولا يعتدي عليها أو يهضم شيئاً من حقوقها، لا يقول مثلاً: أنا ما أخذت ذهبك وهو الذي أخذه، كذاب.

وكذلك المرأة لا تقول: إنني ما أخذت مالك، وهي التي أخذت ماله، وإنما الكذب الذي يكون من نوع المِلْح الذي تُحَسَّن به المعيشة.

وكذلك من الكذب الواجب: ما لو قصد إنسان ظالم قتل رجلٍ مختفٍ عندك وجب عليك أن تكذب؛ لئلا يعلم أين هو، فلو قال: هو عندك؟ تقول: لم أره جاز ذلك.

مثلاً لو أن ظالماً يريد أن يأخذ مال واحد قال: هل مال فلان عندك؟ قال: لا.

لم يضع عندي ولا قرشاً، بالعكس أنا لي عنده فلوس، فالكذب لإنقاذ روح إنسان معصوم الدم، أو لتخليص مال مسلم من الهلاك، هذا مشروع.

ونَظَم أحد الشعراء المسلمين أقسام الكذب فقال:

لِخَمْسَةٍ ينقسم الكذب فما لا نفع شرعاً فيه قطعاً حُرِما

وما لوالدٍ لجبر خاطرهْ أو خاطر الزوجة دعه فكُرِهْ

وهو لإرهاب العدو يندبُ للمسلمين إن هم تأهبوا

وإن تخلص مسلماً أو مالَهُ به فعلت واجباً تجزى لََهُ

ولصلاحٍ بين ناسٍ قد أبيحْ وقيل: إن الكذب كله قبيحْ

فإذا كان الكذب لتخليص مسلم أو ماله من الهلاك فإنه يكون واجباً.

وإذا كان لإرهاب أعداء الدين كأن يخبرهم بكثرة عدد المسلمين، وأنهم آتون، وأنهم قريبو المجيء، فهذا أيضاً مشروع ومستحب.

قيل: إن الإصلاح بين الناس من قسم المباح، ولا يبعد أن يكون من قسم المشروع.

وقيل: ما كان جبراً لخاطر، فإنه مكروه، وما لا نفع فيه شرعاً فإنه محرم.

ولا شك أنه إذا كان مضراً فهو محرم، مثلك أن يكذب ويقول: سآتيك بالمال، وهو كذاب لن يأتيه به، مالك عندي وجاهز متى تريد أعطيك حقك، وهو كذاب ما عنده المال ونحو ذلك، فهذا الكذب أكثره محرم، وقسم قليل هو الذي يكون جائزاً.

(7/17)

التورية مخرج من الكذب

وهناك مخرجٌ مهم يمكن أن يلجأ إليه الإنسان ألا وهو التورية: إذا احتاج إلى الكذب استخدم التورية، فما هي التورية؟ بعد أن عرفنا أن الكذب حرام ومرت معنا قصة إبراهيم الخليل، وأن الأنبياء لا يحوز الكذب في حقهم مطلقاً في قضية تبليغ الشريعة والوحي، وأنهم معصومون من الكذب في تبليغ الشريعة قطعاً، والكذب في غير ذلك من الصغائر، المسألة فيها قولان مشهوران للسلف والخلف: - أما منصب النبوة فلا يمكن أن يكذبوا فيه مطلقاً، والله سبحانه وتعالى يبعث الصادق، حتى في الجاهلية كان النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق.

ينبغي على الإنسان إذا احتاج للوقوع ليخبر عن شيء بخلاف الحقيقة أن لا يكذب وإنما يستخدم التورية فما هي التورية؟ التورية: أن تأتي بكلامٍ له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، هذه قضية المعاريض.

والأصل في مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب).

وهذه المعاريض لا تجوز مطلقاً في ظلم الناس أو إسقاط حقوق الخلق أبداً.

لنأخذ شيئاً من معاريض النبوة حتى يتبين لنا ما هي المعاريض: النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، بعض العرب في غزوة ما، ولم يتعرفوا من هو، وأرادوا أن يعرفوا شخصيته، فقالوا: (من أنتم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء) ويقصد بذلك الماء الذي خلق منه الإنسان؟ وقال أيضاً: (لا يدخل الجنة عجوز!) ما المعنى القريب الذي فهمته المرأة وبكت؟ أن العجائز لا يدخلن الجنة.

لكن المعنى الآخر: أن الله عز وجل لا يُدخل العجوز على هيئة عجوز، وإنما يغير هيئتها وتعود شابة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:35 - 36] وليس المعنى أن العجوز التي في الدنيا عجوز لا تدخل الجنة، وإنما المقصود أنها عند دخولها الجنة لا تكون عجوزاً؛ بل تنقلب إلى بكرٍ شابة في سن الثالثة والثلاثين.

لما قال للمرأة: (زوجك الذي في عينه بياض) والبياض يفهمون أنه العمى، لكن كل واحد منا في عينه بياض وسواد.

فالمعرِّض يقصد معنىً بعيداً، اللفظ يحتمله، ولو أن اللفظ لا يحتمله يكون كذباً، والسامع يفهم المعنى القريب لهذا اللفظ.

ولا يجوز استعمال التورية مطلقاً في إسقاط حق.

مثال: يقول القاضي لرجل: أنت أخذت مال فلان؟ فيقول: لم آخذ ماله، وهو يقصد مال رجل آخر، فهذا لا يمكن؛ لأن معنى ذلك: أن يسقط حقاً، وهذا حرام ولا يجوز.

(7/18)

أمثلة في التورية

من الأمثلة مثلاً: لما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته، وعنده زوجة شديدة الغيرة، فلما وطئ جاريته رأته امرأته فأخذت السكين وجاءته، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لَوَجأتُ بها في عنقك، فقال: ما فعلت! فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن تعرف أن الجنب لا يقرأ القرآن- فقال:

شهدتُ بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا

فقالت: آمنت بكتاب الله وكذَّبتُ بصري، وهذه طبعاً القصة في إسنادها شيء، ولها طرق لكنها لا تخلوا من ضعف، وهذه المرأة يمكن أن يكون فيها غفلة، لأنها لم تعرف أن تميز بين الشعر والقرآن.

لكن نأخذ أمثلة أخرى: دُعِي أبو هريرة إلى طعام فقال: (إني صائم -ما أراد أن يأكل من هذا الطعام- فرأوه يأكل بعد ذلك، فقالوا: ألم تقل إنك صائم؟ قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، فأنا أصوم ثلاثة أيام من كل شهر).

وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه، مثلاً: أعطاه رجل مالاً وجاء يريد المال، وهو مسكين ليس عنده شيء، وهو لا يريد أن يُذهب أموال الناس، يقول: [أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله] فالسامع يفهم؟ أنه يطيه المال غداً أو بعده، وهو يقصد يومي الدنيا والآخرة، أحد اليومين، إما في الدنيا أعطيك، أو في الآخرة تأخذه.

وكذلك أبو بكر الصديق لما هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام وسئل: (من هذا الذي معك؟ -كانت خطورة أن يخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه معه- فقال: هذا رجلٌ يهديني الطريق) ماذا يقصد؟ ماذا يفهم العربي والبدوي في الصحراء؟ أي: هذا دليل، أنا مسافر وهذا دليل في السفر، بينما هو قصد (هذا رجلٌ يهديني الطريق) يعني: طريق الإسلام طريق الخير؛ حِفاظاً على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، هذه تورية واضحة ومشروعة، ما أراد أن يكذب لم يقل: هذا فلان الفلاني، جاء بأي اسم كذب، قال: (هذا رجلٌ يهديني الطريق).

وقال حماد عن إبراهيم أنه سئل عن رجل أخذه رجل فقال: إن لي عندك حقاً، فقال: لا.

فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال له إبراهيم: احلف بالمشي إلى بيت الله واعنِ مسجد حيك؛ لأن المساجد كلها بيوت الله، وذاك سيفهم بيت الله أي: بيت الله الحرام.

وذكر هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أن رجلاً كان يُصِيْب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، كان شريح ذكي رحمه الله وكان عنده بغله حسنه، فرأها أحد العيانين الحساد الذي كان إذا أصاب شيئاً بالعين لا يخطئ كأشعة الليزر، وهذه نوعية موجودة في البشر، فلما رأى بغلة شريح أراد أن يعينها، ففطن له شريح قبل أن يعينها فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تُقَام -قال: هذه إذا جلست لا تقوم حتى تقام- قال الرجل: أفٍ أفٍ.

فزهد العائن فيها فما حسدها، وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، أي: لا تقوم حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى، كما يأمر كل شيء فيكون.

وكذلك قال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له - إبراهيم النخعي كان عنده جارية والمرأة تغار من الجارية جداً- وكان بيد إبراهيم مروحة يروح بها في الصيف فلما جاءت المرأة، وأكثرت عليه الكلام عند الناس والضيوف، قال: أشهدكم أنها لها -لتسكيت المرأة- فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: لا، أما رأيتموني أشير إلى المروحة، إنما قلت: اشهدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.

وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به من بعض مضيعي الأوقات كان يضع يده على ضرسه، ويقول: ضرسي ضرسي ويمشي، ضرسي ضرسي وهو لا يكذب؛ لأن كل واحد عنده ضرس.

وأُحْضِر الثوري إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقوم، وكان المهدي متمسكاً به يريد أن يجلس عنده، والثوري رحمه الله يريد الذهاب، فمُنع من القيام فحلف بالله أنه يعود، وعلى هذا الأساس تركه الخليفة يمشي، فترك نعله ومشى ثم رجع فلبس نعله وأخذها ولم يعد، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.

وكان المروزي من أذكى أصحاب الإمام أحمد وأنجبهم، فجاء واحد يسأل عن المروزي يريد أن يأخذه من مجلس أحمد فأراد الإمام أحمد ألا تفوت المروزي الفائدة من الدرس، فقال الرجل: المروزي موجود عندك؟ فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال للسائل ينظر إليه: ليس المروزي هاهنا، وما يفعل المروزي هاهنا؟ يقصد أحمد رحمه الله في كفه ليس المروزي هاهنا، ما يفعل المروزي هاهنا؟ وهذا كله من أجل التوقي من الكذب وعدم الوقوع فيه.

فهذه أمثلة على التورية نلاحظ منها أن الذين فعلوها كانوا يقصدون إما جبر خاطر، أو تحقيق مصلحة مثلاً، أو تخلصاً من موقف محرج، وحفاظاً على وقتهم.

ولذلك فإن هذه التورية مباحة وتغني عن الكذب، إذا احتاج الإنسان أن يتكلم بكلام لا يكذب يمكن أن يستخدم التورية ويحصل على مقصودة.

أما استخدام التورية لبيان المهارة وخداع الناس، لكي يثبت الإنسان أنه أذكى من الآخرين، فهذا مزلق شيطاني، وتجد بعض الناس يفعلون التورية بحاجة وبغير حاجة، ولذلك يقعون في الكذب.

وكذلك فإن كثرة استخدام التورية تؤدي إلى الوقوع في الكذب في النهاية، ولذلك فإننا عندما نتكلم عن التورية لا نقصد التوسع بها وأن يجرب الإنسان مهاراته على الآخرين، إنما نقصد أنك إذا احتجت أن تتكلم بكلام تتخلص به من موقف فهناك مجالات أخرى غير الكذب وهي التورية.

هذا ما تيسر ذكره من فوائد هذه القصة.

والله تعالى أعلم.

(7/19)

الأسئلة

.

(7/20)

أجر الملتزم في هذا الزمان

السؤال

يوجد حديث شريف ينص على أن أجر الالتزام في هذا الزمان بأجر خمسين صحابياً.

الجواب

الأجر المقصود ليس أجر الصحبة، ولكن أجر التمسك بالدين؛ لكثرة الفتن والمنكرات في هذا الزمان.

(7/21)

كيفية قتل النمرود

السؤال

يقول: كيف قتل النمرود؟

الجواب

قيل بأن النار خرجت على النمرود وقومه فأحرقتهم.

(7/22)

بلاد سيدنا إبراهيم

السؤال

ما أصل سيدنا إبراهيم؟

الجواب

من أرض العراق، وهو من ذرية نوح.

(7/23)

هل ينتقض الوضوء بنزع الجورب؟

السؤال

إذا مسحت على الجورب لصلاة العصر وقمت بعد ذلك بنزع الجورب، هل ينتقض الوضوء بنزع الجورب؟

الجواب

لا، لم يرد في الشريعة أن من نواقض الوضوء نزع الجورب.

(7/24)

دليل وجوب تغطية وجه المرأة

السؤال

ما هو سند تغطية وجه المرأة في القرآن والسنة؟

الجواب

ذكرنا قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، وقول عائشة: (عندما جاء صفوان فخمَّرت وجهي) والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

(7/25)

السنة في العقيقة

السؤال

ما هي السنة في العقيقة؟

الجواب

أن تُذْبَح في اليوم السابع، شاتان متشابهتان في السن والحجم قدر الإمكان، عن الذكر، وواحدة عن الأنثى.

(7/26)

صحة وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بسابع جار

السؤال

ما صحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى سابع جار؟

الجواب

لا أعرف حديثاً صحيحاً في هذا، ولكن ورد عن بعض السلف هذا الكلام، (السابع) و (الأربعون).

(7/27)

هل يشترط تتابع التسبيح؟

السؤال

هل إذا أردت أن أقول: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة أن أقولها متتابعة؟

الجواب

لو وزعتها على اليوم لا بأس.

(7/28)

الإفرازات التي تخرج من المرأة

السؤال

امرأة تعاني من خروج إفرازات كثيرة، وهذه الإفرازات كالماء في لونها إلا أنها لزجة فهل تغتسل منها؟

الجواب

ينبغي أن نعرف الأشياء التي يمكن أن تخرج من الإنسان: أولاً: المني: وهو أصل خلقته، ويجب منه الغسل، وهو طاهر، ورائحته كقرع النخل أو خميرة العجين، وله أثر إذا يبس معروف.

الثاني: المذي: وهو يخرج عند الشهوة، من نظر، أو تقبيلٍ، أو تفكيرٍ، وهو ماءٌ رقيق شفافٌ، إذا يبس لا يترك أثراً، وهو نجس، ويجب منه الوضوء، وغسل الأنثيين، أسفل الذكر.

الثالث: البول: وهو معروف.

الرابع: الودي: وهو ماءٌ ثخين يشبه المني، يخرج بعد التبول، وهو نجس، ويجب منه الوضوء.

الخامس: ما يخرج من المرأة من الإفرازات مثل: العرق، الرطوبة التي تكون في موضع خروج الولد، تخرج باستمرار، والصحيح أنها طاهرة، ولا تنقض الوضوء.

فبعد ذلك تبين ما هو نوع هذا وبناءً عليه يُعرَف الحكم.

(7/29)

مشورة وإرشاد

السؤال

كان من المفترض أن أقوم بإجازة لبلدي في الثامن والعشرين من رمضان، وفجأة قررت إدارة الشركة وقف جميع الإجازات، وبعد محاولات قَرَّرَتْ أن مَن يريد أن ينزل فعليه أن ينزل على حسابه؛ لأن الشركة من المحتمل أنها لا تجدد عقدها، وكنت سأتزوج بعد نزولي، وأريد أن ترشدني هل أذهب وأتوكل على الله علماً أن علي بعض الديون، أو انتظر ستة أشهر أخرى؟

الجواب

إذا كان غلب على ظنك أن هذه الشركة لن تجدد العقد، وأنك إذا نزلت سينقطع عملك فيها فابْقَ، وإذا غلب على ظنك أن هذا الاحتمال ضعيف، وأن لك مكاناً إذا أردت أن تعود، فاستخر الله تعالى واذهب.

(7/30)

تعليم اللغات الأجنبية للأطفال

السؤال

ما حكم ذهاب الأطفال للتعلم في مدارس اللغات الأجنبية وأعمارهم من سن أربع سنوات؟

الجواب

من أكبر الجرائم توجيه الأطفال الصغار لتعلم اللغات الأجنبية، وخلط اللغات يسبب ازدواجية عند الولد تضر بتربيته ومهاراته وتفكيره وتؤثر على نبوغه؛ لأن الولد إذا أصبح يفكر بلغتين ويتكلم بلغتين من أول الأمر لا لحاجة ولا لضرورة، فإن هذا الحال يؤدي إلى تأخر.

لقد أثبت التربويون أن ابتداء تعلم الولد للغتين في أول أمرة يسبب بطئاً وتأخراً عنده في مهاراته ونموه العقلي، حتى تفكيره واستنباطه؛ لأن عنده حيرة في استخدام أي اللغتين، ولذلك ترى بعض الذين درسوا في الخارج أولادهم لا يجيدون اللغة العربية ولا الانجليزية وربما يتكلم بالإنجليزي أكثر من العربي، وتصبح مواقف مخجلة وأيضاً فصاحة اللغة العربية تتأثر بتعلم لغات أخرى من البداية، فلو قلنا: بعدما تمكن من اللسان العربي أصبح عنده سليقة جيدة، وصار عنده موسوعة من كلمات اللغة العربية الكثيرة، بعد ذلك لا مانع أن يتعلم اللغة الأجنبية للفائدة كما تعلم زيد بن ثابت السريانية في ستة عشر يوماً، لكن هذا يتكلم من أربع سنين على لغتين، هذا أمر مضر، ومع ذلك تراهم يتباهون، روضة لتعلم الإنجليزي، ما شاء الله.

(7/31)

عدم مشروعية تنبيه المصلين لسجود التلاوة

السؤال

هل يُشرع للإمام تنبيه المصلين لسجود التلاوة؟

الجواب

لا.

لا يتكلم ولا يقل: سنسجد سنسجد، لأن هذا ليس هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

(7/32)

الجمع للمسافر عبر المطار

السؤال

سوف أصل إلى مطار جدة الساعة الواحدة ظهراً، هل أجمع الظهر والعصر؟

الجواب

نعم، لا بأس.

(7/33)

كذب الأطفال

السؤال

إذا كان الولد صغيراً وكذب هل عليه أثم؟

الجواب

إذا كذب وهو صغير معنى ذلك أنه سيتعود الكذب، وفي المستقبل يبلغ وهو كذاب.

(7/34)

عمل المأموم في دعاء القنوت

السؤال

ماذا يفعل المأموم أثناء دعاء القنوت؟

الجواب

يرفع يديه ويدعو الله ويؤمِّن مع الإمام في الدعاء، وإذا مر بشيء فيه تسبيح لله سبح.

(7/35)

حكم الإكثار من التورية

السؤال

بعض المسلمين يجعل التورية حياته كلها فما حكم ذلك؟

الجواب

هذه مصيبة، وهذا أكيد أنه يقع في الكذب (100%)، وربما يصاب بشيء من التباهي والفخر بنفسه، يعني: أنه كيف خدع الناس واستطاع أن يفهمهم شيئاً وهو يقصد شيئاً آخر، ثم مع كثرة التورية الناس لا يثقون بكلامه.

(7/36)

قصة أبي هريرة والشيطان

الشيطان هو ذلك العدو الملازم للإنسان، مختص بغوايته وإضلاله، ولكنه رغم عدائه وكذبه صدق مع أبي هريرة في نصيحته له بقراءة آية الكرسي، فمن قرأها فلا يزال عليه من الله حافظ.

وقد وضح الشيخ في هذه المادة أسباب فضل آية الكرسي، والوسائل التي تعين على الحذر من الشيطان، وقبل هذا وذاك ذكر فوائد قصة أبي هريرة والشيطان، والتي تربو على عشرين فائدة، بعد أن صدر المادة بذكر نص الحديث وبعض مواقف الصحابة مع الجن.

(8/1)

نص حديث أبي هريرة مع الشيطان وشرح ألفاظه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فلقاؤنا في هذه الليلة وقصتنا -أيها الإخوة- مع أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لنلتقي معه في هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن أبي هريرة قال: (وَكَّلَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعليَّ عيالٌ ولي حاجةٌ شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود.

فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيالٌ ولن أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود.

فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال: دعني وسوف أعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي - ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم)) [البقرة:255]- حتى تختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح؛ فخليت سبيله.

فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: - {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255]- وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا.

قال: ذاك الشيطان).

هذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل الموكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، ورواه رحمه الله كذلك في كتاب: فضائل القرآن من صحيحه.

هذا الحديث في شرحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان، والمقصود زكاة الفطر ليفرقها النبي صلى الله عليه وسلم على الفقراء، وفي رواية: أن أبا هريرة كان على تمر الصدقة، فوجد أثر كفٍ كأنه قد أخذ منه.

- وقوله: (من الطعام) المراد بالطعام: البر ونحوه مما يزكى به، وهذا دليل على أن صدقة الفطر تخرج من الطعام، فقد جمعها النبي عليه الصلاة والسلام من الطعام ووكَّل بحفظها أبا هريرة.

- وفي الحديث قوله: (لأرفعنك) أي: لأذهبن بك أشكوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ليقطع يدك لأنك سارق.

- وقوله: (إني محتاج وعلي عيال) أي: فقير في نفسي، (وعليَّ عيال) أي: أظهر حاجة أخرى وهي وجود عيال له، ثم قال مؤكداً حاجته: (ولي حاجةٌ شديدة) أي: زائدة، وشديدة: صعبة كدينٍ أو جوعٍ مهلك ونحو ذلك، فهذا تأكيد بعد تأكيد، يقول: (إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجةٌ شديدة).

- وقوله: (إني محتاج وعلي عيال) وفي رواية: (إنما أخذته لأهل بيتٍ فقراء من الجن).

- وقوله: (فرصدته) أي: ترقبت مجيئه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي.

- وقوله: (إنه سيعود) هذا تأكيد من الصحابي رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك.

- وقوله في آخر الحديث: (لن يزال عليك من الله حافظ) أي: لن يزال من عند الله أو أمر الله حافظٌ عليك من قدرته سبحانه أو من الملائكة، لا يقربك شيطان لا إنسي ولا جنيٌ، لا أمر ديني ولا دنيوي.

- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك -أي: في تعليمه لك- وهو كذوب) أي: في سائر أقواله؛ لأن هذه عادة الشيطان.

هذا الحديث يبين حلقة من حلقات الصراع بين المسلم والشيطان.

(8/2)

مواقف متفرقة للصحابة مع الجن

لقد حصل لعددٍ من الصحابة مواقف مثل موقف أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمن هذه المواقف: 1 - أن أبا أيوب الأنصاري حدَّث أنه كانت له عكة فيها تمر، وكانت تجيء الغيلان من الجن -ومنه قول الصحابي: [إذا تغولت الغيلان فعليكم بالأذان] إذا تراءت الغيلان أمامكم وظهرت فعليكم بالأذان؛ لأن الأذان يطردها- وتأخذ منه، وفي الرواية: أنها علمته آية الكرسي، وأنه لا يقربه شيطان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب).

2 - كذلك قصة أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: أن أباه كعباً أخبره أنه كان له جرين فيه تمر -والجرين: هو البيدر الذي يجمع فيه الطعام- وكان يتعاهده، وكلما جاء يتعاهد هذا البيدر وجده قد نقص، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابةٍ كهيئة الغلام المحتلم، قال: فسلم فرد السلام، فقال: ما أنت جنٌ أم إنس؟ قال: جنٌ، فقلت: ناولني يدك، فإذا هي يد كلب وعليها شعر كلب، فقلت أهذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن فيهم من هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك.

فقلت: ما الذي يحرزنا منكم؟ قال: هذه الآية -آية الكرسي- فتركته ثم غديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: صدق الخبيث.

رواه ابن حبان في صحيحه.

3 - وحدثت كذلك حادثة أخرى رواها عبد الله بن مسعود قال: لقي رجلٌ من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذريعتيك ذريعتا كلب -تصغير ذراع- فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: لا والله.

إني منهم لضليع.

يقول الإنسي: أنا أراك ضئيلاًً -أي: دقيق الجسم- شخيتاً -أي: مهزولاً- فهل أنتم الجن هكذا أم أنك أنت ضعيف من بينهم؟ قال: لا والله إني من بينهم لضليع- أي: جيد الأضلاع، ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، قال: نعم.

فصارعه فصرعه قال: تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] فإنك لا تقرأها في بيتٍ إلا خرج منه الشيطان له خبجٌ -أي: ريحٌ- كخبج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح.

وهذه الروايات في بعض أسانيدها ضعف، لكن ثبت أن عمر رضي الله عنه صارع جنياً فصرعه، وهذا من قوة عمر رضي الله عنه، وعاوده فصارعه فصرعه.

4 - وجاء في بعض الروايات كذلك: أن أبا هريرة رضي الله عنه عندما كان يحرس تمر الصدقة اشتكى لما رأى ذلك الرجل يأخذ منه، قال: فأخذته فالتفت يدي على وسطه فقلت: يا عدو الله! وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته وكانوا أحق به منك، لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفضحك، وفي رواية قال: ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟ قال: أنا شيخ كبير فقير ذو عيال، وما أتيتك إلا من حاجة، ولو أصبت شيئاً دونك ما أتيتك، ولقد كنا في مدينتكم هذه حتى بُعث صاحبكم، فلما نزلت عليه آيتان تفرقنا منها، فإن خليت سبيلي علمتكهما، قلت: نعم.

قال: آية الكرسي، وآخر سورة البقرة من قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] إلى آخرها.

هذه بعض الروايات التي جاءت في حديث معاذ رضي الله عنه أيضاً، لكن قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان أثبت القصص كما هي في صحيح البخاري.

(8/3)

فوائد من قصة أبي هريرة مع الشيطان

هذه القصة يؤخذ منها فوائد كثيرة ومتعددة، فمن هذه الفوائد: أولاً: أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن.

ثانياً: أن الحكمة قد يعلمها الفاجر ولكنه لا ينتفع بها؛ لأنه لا يعمل بها، وربما تأخذ علماً من رجل فاجر، والعلم هذا نافع؛ ولكن الفاجر لا ينتفع به لفجوره.

ثالثاً: أن الشخص قد يعلم الشيء ولا يعمل به، وهذا كثير حاصل، وكثيرٌ من الناس عندهم معلومات كثيرة لكن لا يعملون بها، لو كانوا يعملون بالمعلومات التي عندهم لتغيرت أحوالهم؛ لكنها معلومات بدون عمل، ومعلومات بدون عمل لا تنفع، ولو كنا نعمل بعشر ما نعلم لتغيرت أحوالنا كثيراً.

رابعاً: أن الشيطان قد يَصْدُق أو يُصَدِّق ببعض ما يصدق به المؤمن، ومع ذلك لا يكون مؤمناً، هذا الشيطان يقول: إن هذه الآيات تحفظك من الشياطين، هو صدق بهذا لكن هذا التصديق لا يعني أنه مؤمن.

خامساً: أن الكذاب قد يصدق، فبعض الكذابين يمكن أن يَصدقوا في بعض الأحيان مع أنهم كذابون، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشيطان: (صدقك وهو كذوب).

سادساً: أن العادة والغالب على الشيطان الكذب، وأنه نادراً ما يصدق.

وكذوب صيغة مبالغة من قوله: (صدقك وهو كذوب).

سابعاً: أن الشيطان قد يتصور بصورةٍ يمكن للإنسي أن يراه من خلالها؛ لأن الله يقول في كتابه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، الشيطان يراكم وأنتم لا ترونه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف:27] هو ومن على شاكلته من الشياطين يرونكم وأنتم لا ترونهم، فإذا كان الله يقول: {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فكيف رآه أبو هريرة؟ وكيف رآه الصحابة الآخرون؟ فنقول: عندما تصور بصورة أخرى غير الصورة الأصلية، أي: أنه لو كان هو على شكله الأصلي الحقيقي فلا يمكن أن نراه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] لكن إذا تشكل بصورة كلب أو حية أو على صورة هذا الكائن المهزول كأن ذراعيه ذراعي كلب، فحينها يمكن أن نراه؛ لأنه تشكل بصورة أخرى، فنراه بهذه الصورة التي تشكل عليها، لكن الصورة الأصلية التي خلقه الله عليها لا يمكن أن نراه وهو عليها {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].

ثامناً: أن الشخص الذي يقام على حفظ الأشياء يسمى وكيلاً، فمن يوكل بحفظ الصدقة فهو وكيل.

تاسعاً: أن الجن يأكلون من طعام الإنس، قال الله عز وجل: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] والطعام يدخل في الأموال، فإذا أردت أن تمنع الشيطان من مشاركتك في الطعام فقل: باسم الله، وإذا دخلت منزلك فقل: باسم الله فإنه لا يدخل معك، وإذا قدم الطعام فقلت: باسم الله فإن الشيطان يقول: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذاً تستطيع أن تحرم الشيطان من مشاركتك في الطعام عندما تسمي الله عليه.

وكذلك إذا كان إناء فيه طعام غطه، وقل: باسم الله، فإن من فائدة تغطيته وقول: باسم الله منع الشيطان من الأكل منه، وإن الشيطان يأكل ويشرب من الإناء المفتوح، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولو أن تعرض عليه عوداً وتسمي الله) فلو وضعت عوداً دون الغطاء، وقلت: باسم الله، فلا يستطيع الشيطان أن يأكل أو يشرب منه.

وكذلك يفيد في منع نزول الداء من السماء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها داء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء غيبي، فإذا غطيت الإناء فلا ينزل الداء، فإذاً فائدة تغطية الإناء، وقول: باسم الله ما يلي: أولاً: منع الداء.

ثانياً: منع الشيطان من أن يشاركك في مطعومك ومشروبك.

ثالثاً: أن باسم الله تمنع الشيطان من النظر إليك.

فإذا قال إنسان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فإننا نريد أن نخلع ثيابنا، وأن ندخل للاغتسال، وأن يأتي الرجل أهله فما هو الحل؟ وهل نبقى نحن نهباً لأعين الجن يرون عوراتنا؟ فنقول: لا.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الرجل إذا أراد أن يخلع ثيابه فسمى الله، فإن الشيطان لا يستطيع أن ينظر إلى عورته، وهذا حفظ للعورة، وإذا خلع الثياب قال: باسم الله، وإذا أتى أهله قال: باسم الله.

وكذلك باسم الله تمنع من المشاركة في الأولاد؛ فإنه ورد في تفسير قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64]: أن الشيطان يشارك الإنسان في وطء زوجته، فيشاركه في الأولاد، فإذا قلت: باسم الله قبل الجماع منعت الشيطان مشاركتك في الأولاد.

فباسم الله تمنعه من دخول بيتك، ومن طعامك، وشرابك، ومن رؤية عورتك، ومشاركتك زوجتك، ومن هذا يتبين لنا أهمية هذه الكلمة.

عاشراً: أن الشياطين قد يتكلمون باللغة العربية، وقد تسمعه أيضاً باللغة التي عليها هذا الرجل، قد يتكلم باللغة الإنجليزية أو الفارسية.

حدثوا أن أبا علقمة النحوي -وكان رجلاً متقعراً في الكلام يأتي بالكلام الوحشي- كان ذات مرةٍ يمشي في الطريق، فأصابه شيء فسقط، فتجمع عليه أهل السوق، هذا يعصر إبهامه، وذاك يقرأ في أذنه، وذلك يؤذن في الأذن الأخرى، فقال: مالكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني.

فقالوا: شيطانه يرطن بالفارسية أو بالهندية.

فقوله: (تكأكأتم علي) أي: تجمعتم علي كتجمعكم على ذي جنة، أي: كتجمعكم على من دخل فيه الجني، (افرنقعوا عني) أي: انفضوا واذهبوا عني، فقالوا: هذا شيطانه يتكلم بالهندية أو بالفارسية.

إذاً يمكن للشيطان أن يتكلم باللغات الحية المعروفة، ولا شك أنهم يعلمون أن منهم من يتكلم العربية، ومنهم من يتكلم غيرها، وفيهم أهواء وبدع؛ عندهم قدرية ورافضة ومرجئة ومبتدعة، ومشركون، وضُلاَّل {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11] حتى البدع موجودة عند الجن.

حادي عشر: في هذا الحديث أن الشياطين يسرقون ويخدعون، ما هو وجه السرقة هنا؟ لما جعل يحثو من الطعام ويأخذ منه بكفيه، وفي الرواية الأخرى: أنه كان يأخذ فينقص الطعام، ويخدعون لما قال له: لا أعود ثم عاد وقال له: لا أعود ثم عاد، هذا خداع.

ثاني عشر: فضل آية الكرسي، ومن الروايات الأخرى يؤخذ فضل آخر سورة البقرة.

ثالث عشر: أن الجن يصيبون من الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه.

رابع عشر: أن يد السارق لا تقطع في المجاعة، ويمكن أن يقال: إن المسروق لم يبلغ نصابه.

خامس عشر: قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، فإذا جاء أحد ظهر لك منه الصدق، وأمسكت به وهو يسرق شيئاً من عندك، وعندما حققت معه شكا الحاجة والفقر والعيال ولا يظهر منه خلاف ذلك، فالذي يظهر منه -فعلاً- الفقر والشدة والمسكنة، فالأفضل لك أن تعذره بما فعل، ولا تأخذه بما اقترف، من باب قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، وأبو هريرة رضي الله عنه في المرة الأولى هكذا كان حاله، فقد ظن به أنه محتاج فعلاً، وأنه أهلٌ للرأفة والرحمة فتركه.

سادس عشر: اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على المغيبات؛ لأن أبا هريرة لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام لم يقص عليه القصة، بل النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قال له: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فما الذي أدرى النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان هناك أسير مع أن أبا هريرة لم يخبره؟ جاء أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام وبادأه بالقول: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يطلعه الله على شيء من الغيب.

سابع عشر: جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر لتفريقها بعد ذلك، وأنه يجزئ إخراجها قبل العيد، وكما قال العلماء: يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومٍ أو يومين، وكان يقوم العامل في عهد الصحابة الموكل من بيت المال من الخليفة بأخذ الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين، وإذا كان الشهر ثلاثين فثلاث ليال، ولو كان تسعة وعشرين فقبلها بيوم أو يومين، يوم وتسعة وعشرين.

ثامن عشر: أن زكاة الفطر تخرج طعاماً كما تقدم ذكره.

تاسع عشر: يقين الصحابة بكلام النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقهم به، عندما قال أبو هريرة: (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود) لمجرد أن الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعود أيقن أبو هريرة أنه سيعود.

عشرون: فضل قراءة آية الكرسي قبل النوم؛ لأن الشيطان قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] فإذاً متى تقرأ بناءً على تعليمات الشيطان الرجيم؟ إذا أويت إلى فراشك، ليس لأنها وصية الشيطان بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك، وإلا فالشيطان لا سمع له ولا طاعة، فلم يصبح تشريعاً بكلام الشيطان بل صار تشريعاً لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صدقك)، وهذه الفائدة التالية.

حادي وعشرون: لما قال:) صدقك)، هو التشريع وليس كلام الشيطان.

ثاني وعشرون: أن آية الكرسي تمنع شياطين الإنس والجن في ظاهر النص -سواء كان في الأمور الدينية- من أن يقترب من الإنسان؛ لأنه يقول: ولا يقربنك شيطان، وكلمة (شيطان) نكرة (ولا يقربنك) نفي، فلا يقربك شيطانٌ حتى تصبح.

ثالث وعشرون: كرامة الله تعالى لـ أبي هريرة عندما استطاع أن يلقي القبض على الشيطان، وليس آحاد الناس يستطيعون القبض على الشيطان، لكن أبا هريرة استطاع أن يلقي القبض عليه، فما استطاع الشيطان أن يفر منه، فلذلك قال: (فرحمته فخليت سبيله) وإلا لو لم يخل سبيله لما استطاع الشيطان أن يهرب منه, إذاً

(8/4)

أسباب فضل آية الكرسي

إن قال قائل: ما هي الميزة الموجودة في آية الكرسي حتى تمنع الشياطين من إيذائنا؟ ف

الجواب

إن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله تعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي، وأن هذه الآية إذا قرأها رجل في دبر كل صلاة -أي: بعد كل صلاة- لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي رحمه الله وغيره، فآية الكرسي إذاً تقرأ قبل النوم وكذلك في أدبار الصلوات، وهي أفضل آية في كتاب الله عز وجل.

ومن أسباب فضلها: 1 - اشتمالها على الاسم الأعظم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] في البقرة، وفي آل عمران {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، وفي طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].

2 - وكذلك فإن هذه الآية هي عشر جمل مستقلة: أ- {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:255] متفرد بالألوهية.

ب- {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، والقيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] فكل الموجودات لا قوام لها إلا بالله عز وجل، ولا غنى لها عن الله عز وجل أبداً، فكل الموجودات مفتقرة إلى الله.

جـ- {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لا تعتريه سبحانه وتعالى غفلة ولا ذهول، ولا نعاس، ولا نوم: أي: استغراق في النوم وغياب عن الوعي أبداً.

د- {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] الجميع عبيده وتحت قهره وملكه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93].

هـ- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] لا يتجاسر أحد أن يشفع لأحد عند الله إلا إذا أذن الله، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لكي يشفع لا بد أن يستأذن، وإذا أراد يوم القيامة أن يستأذن يأتي تحت العرش ويخر ساجداً، فيدعه الله ما شاء أن يدعه، ويعلمه من المحامد ويفتح عليه من الثناء أشياء لم يُعلمها أحداً فيعلمه إياها، وبعد ما يقولها ينتظر الناس النتيجة، ويسجد من تحت العرش ما شاء الله أن يسجد من الوقت، بعد ذلك يقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فهذا سيد الخلق لا يمكن أن يشفع إلا إذا أذن الله.

و {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] إحاطته سبحانه وتعالى بجميع الكائنات، وإحاطته بالحاضر والماضي والمستقبل، والجن من الغيب، والله سبحانه وتعالى يحيط بهم ويعلمهم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255].

ز- {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فلا يطلع أحد على شيء من علم الله إلا من أطلعهم الله، ولولا أنه أطلعهم ما اطلعوا ولا عرفوا.

م- {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] الكرسي: موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، الكرسي عظيم جداً وفي غاية الاتساع {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] هذا الكرسي كيف العرش؟ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطت ووصل بعضها ببعض ما كانت في الكرسي إلا مثل الحلقة في صحراء من الأرض، والسماوات السبع والأرضين لو بسطت ووصل بعضها ببعض فإن مساحتها بالنسبة للكرسي مثل الحلقة التي ألقيت في صحراء من الأرض، هذا الكرسي الذي هو موضع قدمي الرب فكيف العرش العظيم؟ (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاةٍ في الأرض).

الآن نسبة كل السماوات السبع والأرضين إلى الكرسي مثل حلقة في صحراء، والكرسي نسبته إلى العرش -أيضاً- مثل حلقة في صحراء، والله أكبر من العرش، وهذا يعطيك معنى عظيماً عندما تقول: الله أكبر من كل شيء، السماوات والأرض تضيع في الكرسي، والكرسي يضيع في العرش، والله أكبر من الكرسي ومن العرش ومن السماوات ومن الأرض، استوى على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته، فعندما نقول: الله سبحانه وتعالى عظيم كبير، فهو شيءٌ لا يوصف أبداً، ولا يمكن أن يتخيله المتخيلون ولا يصفه الواصفون.

نحن -الآن- في الأبعاد الفلكية هذه عقولنا تضيع ولا نستطيع جمع مسافات هذه السنوات الضوئية، وهذه كلها لا شيء بالنسبة لله سبحانه وتعالى، وبالنسبة للعرش والكرسي، ولذلك فإن الله عز وجل من عظمته أنه خلق هذه الأشياء العظيمة وهي لا تقارن به سبحانه.

ط- {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] لا يثقله، ولا يكرثه، ولا يعجزه، ولا يتعبه، ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض ومن فيهن، فهو سهل يسير عليه سبحانه وتعالى.

أنت كم تستطيع أن ترعى من ولد في نفس الوقت؟ المرأة كم تستطيع أن ترعى من الولد في البيت في نفس الوقت؟ تحافظ عليهم؟ إذا زادوا عن عدد معين هذا يسقط، وهذا يجرح، وهذا يصطدم بجدار، وهذا يضرب، وهذا وهذا، لا تستطيع السيطرة عليهم، فالله سبحانه وتعالى لا يئوده حفظ كل من السماوات والأرض وما فيهما من الإنس والجن والملائكة وجميع العوالم، وهذا شيء يسير على الله سبحانه وتعالى.

ي- {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] آخر جملة في الآية هي قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] كقوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9].

فهذه تبين لنا بجلاء عظم قدرة الله عز وجل، وأنه سبحانه قائم على جميع الأشياء التي منها الجن، وأنه لا يخرج شيءٌ منها عن ملكه، فالتحصن بهذه الآية التي معناه: أنك تلتجئ إلى الله، وتعتصم به وبقدرته وبحفظه وكلاءته ورعايته فيقيك من شر الشيطان، فإنك في الحقيقة إذا قرأتها بهذه النية فأنت تلتجئ إلى من لا ينام ولا يغفو ولا يسهو، وأن له ما في السماوات وما في الأرض، وأن الجن هؤلاء والشياطين لا يخرجون عن ملكه ولا عن قدرته، وأنه يعلم حركات الجن والشياطين، ولا يئوده حفظهما وما فيهما {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] فأنت في الحقيقة تعتصم بالله بقدرته وبعظمته، فلذلك ينجيك هذا الاعتصام ويحفظك بالتأكيد إذا كنت بالله مؤمناً وعليه متوكلاً ولا بد من هذا، والمسألة مسألة يقين وتوكل.

(8/5)

وسائل التوقي من الشيطان

إذا قال قائل: ما هي الوسائل التي نستطيع أن نحذر بها من الشيطان؟ ف

الجواب

الوسائل كثيرة، فمن ذلك: 1 - الحذر، والحيطة -أخذ التأهب- والاعتصام والالتزام بالكتاب والسنة.

2 - الالتجاء إلى الله والاحتماء به سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98].

3 - الاستعاذة عند دخول الخلاء، وعند الغضب، وعند الجماع: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا).

عند الغضب: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم).

وعند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (إذا نهق الحمار تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم -لماذا؟ - لأنه رأى شيطاناً).

عند قراءة القرآن تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى أولادك وأهلك تعوذهم، وكان الحسن والحسين يعوذهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) والهامة: مفرد الهوام، وهو كل من يهم بسوء.

4 - الاشتغال بذكر الله تعالى مما يحمي العبد من الشيطان، وعلى رأس الذكر القرآن، وعلى رأس القرآن آية الكرسي.

والأذكار كثيرة، وآية الكرسي واحدة من هذه الأذكار، وإذا لازم الإنسان الصالحين فإن في ذلك حفظاً له من الشيطان؛ لأن الذئب يأكل من الغنم القاصية، فالذي يتفرد عن جماعة المسلمين فإن الشيطان يتسلط عليه، (الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد) ولذلك إذا كان الإنسان مع القوم الصالحين فإنه يحمي نفسه من الشيطان الشيطان يأكل بشماله وأنت تأكل بيمينك الشيطان يشرب بشماله وأنت تشرب بيمينك الشيطان يعطي بشماله وأنت تعطي بيمينك الشيطان يأخذ بشماله وأنت تأخذ بيمينك، حتى اللقمة إذا وقعت منك لا تدعها للشيطان، وإذا علمت أن العجلة من الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العجلة من الشيطان) فلا تستعجل بل تتأنى، التثاؤب مدخل للشيطان فعليك أن تسد الطريق عليه وتضع يدك عند التثاؤب على فمك، الاستغفار -مثلاً- يقطع الطريق على الشيطان فعليك أن تلزمه وهكذا.

فهناك وسائل كثيرة تنجي العبد من الشيطان، فينبغي الالتزام بها، والمحافظة عليها، وهذا ذكر بعض ما تضمنه حديث أبي هريرة من الفوائد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(8/6)

الأسئلة

.

(8/7)

حكم من كان على الطريقة الصوفية

السؤال

هل جميع من هم على الطريقة الصوفية مبتدعون، لأنني أعرف شخصاً على الطريقة الصوفية يقوم بدروس في الفقه وكتب العلم من كتب أهل السنة والجماعة، ويتكلم في عظمة الله وتقوى الله، ويأتي بالدليل من القرآن والسنة، ويزور تاركي الصلاة، ويذهب إلى الخارج للدعوة؟

الجواب

كلمة الصوفية قيل: هي نسبة إلى الصوف؛ لأنهم كانوا يلبسون الصوف تزهداً، وقيل: نسبة إلى الصفاء، فتىً تصافى فصوفي حتى سمي صوفي، وقيل: غير ذلك.

هذه الطائفة نشأت في البداية كردة فعل لما أصاب الناس في عهد بني أمية من الترف، وجاءت الفتوحات والأموال والغنى، واشتغل الناس بالأطعمة وتشييد القصور والبساتين، وانغمس الناس في الدنيا، وبدأت تخرج بعض ردود الفعل العكسية التي فيها عزوف تام مقابل ذلك الترف، فإذاً مبدأها كان تزهداً، وعزوفاً عن النعيم، فلا يلبسون الناعم بل يلبسون الصوف، ويعيشون على الأشياء البسيطة، ولا يشتغلون، ولا يأكلون الأطعمة الفاخرة؛ بل يعيشون على العدس والأطعمة البسيطة، ثم بعد ذلك تطور الأمر شيئاً فشيئاً، ودخل أعداء الدين في باب الصوفية دخولاً كبيراً، ومبدأ الصوفية مماثل لمبدأ الرهبان {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].

هكذا كان بعض الصوفية، ونشأت صلة خطيرة جداً بين التصوف والتشيع، وصار هناك بعد ذلك كيان فيه انحرافات عظيمة جداً، وأيضاً اليهود كان لهم آثار على الطرق الصوفية التي نشأت.

فإذاً هناك ارتباط وثيق جداً بين الباطنية والصوفية، فرق الباطنية والصوفية، وهذا ما حكاه علماء المسلمين، وهم الآن يحاولون تمجيد الحلاج، وتؤلف فيه بعض الرسائل في بعض الجامعات في الخارج، وهو من أكفر الكفار الموجودين على ظهر الأرض؛ لأنه واحد ممن يقولون: كل ما ترى بعينك فهو الله، ويعتقد أن الإنسان جزء من الله، وأنه الجدار، ويقولون:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته!!!

تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فهم يذكرون أشياء شنيعة جداً تطورت لها الأمور بعد ذلك.

والصوفية بين البدعة وبين الكفر الأكبر، إما أن تكون أحياناً مسابح مائة أو تسعمائة أو ألف مسبحة، أو أذكار الصمدية، والصلاة النهارية، ويذكرون -مثلاً- أذكاراً معينة لم ترد في الكتاب والسنة، ويعتقدون في الأولياء والأوتاد والأقطاب والغوث الأعظم، وكل طريقة تمجد صاحبها؛ فـ الرفاعية يمجدون الرفاعي، والقادرية يمجدون عبد القادر الجيلاني، والمرسية يمجدون المرسي ابن عباس، والبدوية يمجدون البدوي ويقولون: ولي، وأنه كان على جدار فبال على الناس وهم ذاهبون إلى المسجد فهموا به، فقال: أنا رجل مالكي والناس يغتابونني وبول كل ما أكل لحمه طاهر -لأن الغيبة أكل لحم أخيك- وبولي كبول ما أكل لحمه فهو طاهر!!! انظر كيف الاعوجاج؟! ويحجون إلى القبور ويطوفون بها ويستغيثون، وعندهم قضية المولد والتوسل الشركي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالأموات، وإذا أردت أن تقرأ دواوين الصوفية تجد فيها الأشعار العجيبة في الشرك:

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

يتوسلون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويستغيثون به، إني دعوتك من أين دعوتك يقول: من برع من يمن دعوتك يا رسول الله! وأغثني يا رسول الله! وانصرني يا رسول الله! وإذا لم تكن معي يا رسول الله في الآخرة فمن معي، وأنا إلى من أشكو إلا إليك يا رسول الله! وأين الله عز وجل؟ أجعلتم له بدلاً؟! {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] نسيتم الله وذهبتم إلى الخلق تسألون هذا وتطلبون من هذا، وهم أموات لا يسمعون: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] ويسألون الأموات، ويكتبون الإلحاد في الأوراق ويضعونها في القبر، ويأخذون الإجابات والبركات، والمرأة التي لا تحمل تتمسح بالصخرة الفلانية فهذا شغلهم، ترى في الهند رجل قذر وسخ لا يغتسل مطلقاً رائحته قذرة يتمدد على سرير موضوع خارج كهف وأمامه الناس في صف طويل جداً وهو ماد رجله، كلما جاء أحد يمسح ويمشي، والذي بعده يمسح هذه الرجل ويمشي هكذا، يزعمون أنهم يلتمسون البركات.

جاءوا إلى الخضر قالوا: هذا هو الولي، كل من التشريعات الآن من الخضر، والخضر عنده العلم اللدني، والصوفية لا يوجد عندهم سند حدثنا فلان عن فلان؛ لأن وليهم يقول: حدثني قلبي عن ربي، ويقولون عن أسانيدنا: إنها ميت عن ميت، وأسانيدهم: عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي وكأنها برقية، الخط الساخن مفتوح نتلقى عن الله مباشرة.

وعندهم عقيدة الخرقة، وهي أن الخرقة أعطاها الشيخ للشيخ فلان بعد وفاة الشيخ فلان، وهذا الشيخ هذا بايع الخضر.

وهذا أحمد التيجاني ليلة سبع وعشرين من رمضان عند غار حراء يجتمع بالأقطاب المسئولين عن إدارة العالم، ويوزعون الأرزاق على الخلق في تلك السنة، هذا الغوث الأعظم وهذا القطب الأكبر، وهذا فلان بن فلان، هؤلاء مسئولون عن إدارة العالم، الله سبحانه وتعالى لا ينشغل بهذه الأشياء الصغيرة فأوكلها إلى الأقطاب والأوتاد، فهؤلاء يصرفون العالم، ولذلك نحن ندعوهم ونقول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] نحن ذنوبنا كثيرة، ولا يجوز لنا أن ندخل إلى الله مباشرة، فلابد من واسطة حتى يقبل الله منا، فواسطتنا الجيلاني والبدوي والمرسي، ثم كل ولي له تخصص.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(8/8)

قصة المستهزئ الذي هداه الله

الاستهزاء بالدين قضية خطيرة، ترمي بصاحبها في مكان من النار سحيق، واللسان من أكثر ما يقع في ذلك، ولكن قد يهدي الله مستهزئاً بفضله، ليعود من خير الناس ديناً، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث إسلام أبي محذورة، ومعه بيان لخطر الاستهزاء بالدين وبعض صور الاستهزاء.

(9/1)

هداية أبي محذورة بعد استهزائه بالدين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: ففي هذه الليلة أيها الإخوة موعدنا مع قصة المستهزئ الذي هداه الله تعالى، وهذه قصة عظيمة في مجال الهداية، هداية الله تعالى للإنسان إذا أراد أن يهديه.

وهذه القصة روى أصلها الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، ورواها مطوَّلة الإمام أحمد، وابن ماجة.

وهذه القصة من مسند الإمام أحمد رحمه الله يرويها عبد الله بن محيريز، وكان يتيماً في حجر أبي محذورة.

قال روح بن معير حين جهزه إلى الشام: قلت لـ أبي محذورة: يا عمِّ! إني خارج الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك، فأخْبَرَني أن أبا محذورة قال له: (خرجتُ في نفرٍ فكنا ببعض طريق حنين - أبو محذورة رضي الله عنه يروي له ويعلمه الأذان قبل أن يخرج إلى الشام - يقول له أبو محذورة: خرجتُ في نفرٍ -يعني: مع المشركين بعد فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم- خرجتُ في نفرٍ فكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلَقِيَناه ببعض الطريق، فأذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متَنَكِّبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعتُ صوتَه قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليَّ وصَدَقوا، فأرسل كلهم -أطلقهم- وحبسني، فقال: قم فأذن للصلاة، فقمتُ ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله -منخفضاً- ثم قال لي: ارْجِع فامدد من صوتك، فقل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أَمَرَّها -أي: مر بيده الشريفة- على وجهه مرتين، ثم مرتين على يديه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيك فقلت: يا رسول الله! مُرْني بالتأذين بـ مكة فقال: قد أمرتك به، وذَهَب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَدِمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ مكة، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم).

انتهى كلام أبي محذورة رضي الله عنه.

(9/2)

شرح حديث أبي محذورة في قصة هدايته

كانت هذه القصة مرجع النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة حنين، لما نَكَبَ عن الطريق وعَدَلَ عنه وتَنَحَّى، وكان هؤلاء يصرخون بالأذان استهزاءً لأنهم كفار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤذن، وأن يخفض صوته بـ (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) ثم يرفع بها صوته.

وأبو محذورة اسمه: أوس بن مِعْيَر، وولاه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان يوم الفتح، وكان أحسن الناس أذاناً، وأنداهم صوتاً.

وقد جاء مروياً عند الدارمي بإسناد متصل بـ أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنحو عشرين رجلاً فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان.

وجاء لبعض شعراء قريش في مدح أذان أبي محذورة:

أما ورب الكعبة المستورةْ وما تلا محمدٌ من سورةْ

والنغمات من أبي محذورةْ لأفعلن فعلة مذكورةْ

(9/3)

السنة في الأذان من الترجيع وغيره

وهذا الحديث يحتوي على التكبير مرتين، والروايات المشهورة بأن التكبير في أول الأذان مربع، أي: أربع تكبيرات، والشهادتان المشهور في الأذان كل واحدة مرتان، وحسب أذان أبي محذورة كل واحدة أربع، أشهد أن لا إله إلا الله أربع مرات، وأشهد أن محمداً رسول الله أربع مرات؛ ولكن المرتين الأولَيَتَين من كل واحدة سراً أو بصوت منخفض، والمرتين الأخرَيَتَين بصوت مرتفع، وهذا هو الترجيع المذكور عند الفقهاء، وهو أن المؤذن إذا قام إلى الصلاة فإن السنة أن يجهر بالتكبيرات الأربع، ثم يقول بصوت منخفض: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك يعود فيرفع صوته بهذه الشهادات.

وقد توفي أبو محذورة رضي الله تعالى عنه بـ مكة سنة تسعٍ وخمسين، وقيل: سبعٍ وسبعين، ولم يزل مقيماً بـ مكة، وتوارثت ذريته الأذان رضي الله تعالى عنهم.

والأذان له أكثر من كيفية، وكذلك الإقامة لها أكثر من كيفية.

والمشهور من أذان عبد الله بن زيد الذي رأى الرؤيا: التربيع في التكبير.

وكذلك قال بالتربيع الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء، أن المؤذن يقول في بداية الأذان: الله أكبر أربع مرات.

وذهب مالك رحمه الله إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين، واحتج بأذان أبي محذورة.

وبالتربيع عَمَلُ أهلِ مكة، وهي مجمع المسلمين في المواسم وغير المواسم.

المهم: أن أذان أبي محذورة يؤخذ منه سنة الترجيع وهي ثابتة ومشروعة، وصفتها كما سبق.

وبعض العلماء قالوا بحديث عبد الله بن زيد الذي ليس فيه ترجيع؛ ولكن جمهور العلماء على هذا الحديث الصحيح ولا تَعارُض! وأيهما متقدم، وأيهما متأخر، حديث أبي محذورة أم حديث عبد الله بن زيد؟ حديث عبد الله بن زيد متقدم، وحديث أبي محذورة متأخر.

ولا تَعارُض بين حديث أبي محذورة مع حديث عبد الله بن زيد، فحديث أبي محذورة يتضمن الترجيع، وحديث عبد الله بن زيد لا يتضمن الترجيع.

فيمكن أن نقول للمؤذن: إذا أردت التزام السنة والحرص عليها فطبق سنة الترجيع.

فإذا رأيت مؤذناً بعدما يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، يسكت فترة وبعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فاعلم بأنه يطبق سنة، ألا وهي سنة الترجيع.

وسنة الترجيع هي للمؤذن فقط، أما المستمع فيردد ما جهر به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول).

(9/4)

من فوائد حديث إسلام أبي محذورة

(9/5)

تغير حال الإنسان لمؤثر ما

أولاً: أن الإنسان قد ينقلب من كافر إلى مسلم في لحظة: وأبو محذورة رضي الله عنه كان كافراً فلما أسلم ولقَّنَه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان، ومَسَح وجهه، ومسح على كبده، ودعا له بالبركة، انقلب الكُرْه إلى محبة، وانقلب الكفر إلى إيمان، وانقلب بُغْض الأذان إلى محبة الأذان، بل وطلب أن يصبح مؤذناً، وانقلب الاستهزاء بالأذان إلى الجِدِّيَّة في إقامة هذه الشعيرة: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف:178] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] ويجعل الله تعالى النور في قلبه، والهداية ربانية من الله عز وجل، كم حاول النبي صلى الله عليه وسلم هداية أبي طالب، ولم يُسلِم أبو طالب، وأما أبو محذورة فقد مَسَحَ عليه ودعا له فهداه الله عز وجل، مع أن أبا طالب أقرب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أبي محذورة، ذاك عمُّه؛ ولكن الله عز وجل هو الذي بيده الهداية.

فإذاً يؤخذ من الحديث: أن الهداية بيد الله، وأن الإنسان مهما كان حريصاً على هداية شخص، فلا يمكن أن يهديه إذا كتب الله عليه الضلالة، وكذلك إذا كان الشخص مهتدياً، وقدر الله له أن يستمر على الهداية، فلا يمكن أن يضل مهما اجتمع عليه من شياطين الإنس والجن.

(9/6)

فوائد حول الأذان والمؤذنين وانتقائهم وأجرة الأذان

وكذلك يؤخذ من الحديث: أن الإنسان قد يُوْلَع بالشيء حتى يصبح له عادة يطلبه ويحرص عليه: فهذا أبو محذورة رضي الله عنه صار مؤذناًَ.

وفي هذا الحديث: انتقاء صاحب الصوت الندي لأجل الأذان: لأن صاحب الصوت الندي يُسمع له، وينجذب الناس لأذانه، وبالتالي للصلاة في المسجد أكثر من صاحب الصوت غير الندي، ولأن المؤذن وظيفته خطيرة؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة، بل ربما بعض الناس لا يأتي إلى المسجد إلا من أذان المؤذن، فإذا كان المؤذن نَدِيَّاً تجد أن النفوس تنشرح وتُقْبِل على المسجد، والمؤذن داعٍ يدعو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فيقول لهم: أقبلوا تعالوا إلى الصلاة، يدعوهم إلى الصلاة.

وبما أنه لا يمكن أن يقوم العبد إلى شيء من الطاعات إلا بقَدَر الله وتوفيقه وإعانته، فإنا نقول إذا سمعنا حيَّ على الصلاة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لولا أن أعطانا الله قوة وأعطانا حولاً نَقْدِرُ به على الإتيان إلى الصلاة؛ لما أمكن أن نأتي ولا أن نستطيع، ولذلك لما يقول: الله أكبر، الله أكبر، نقول: الله أكبر، الله أكبر، ينطق بالشهادتين، فننطق بالشهادتين، عندما يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، تريد أن تقول عبارة معناها: استعنا بالله، وهذه العبارة التي معناها استعنا بالله هي: لا حول ولا قوة إلا بالله، ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) لا طاقة لنا ولا قدرة، ولا إمكان لنا أن نأتي إلى المسجد أو نقوم إلى الصلاة إلا إذا وفقنا الله لذلك، وأعاننا عليه ويسره لنا، وأعطانا الحول والقوة؛ لأنه هو صاحب الحول والقوة، ومنه نستمد الحول والقوة سبحانه وتعالى.

وأقول: إن وظيفة المؤذن في المجتمع وظيفة خطيرة، ولذلك لابد أن ينتقى من الناس المخلصون أصحاب الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المؤذنين (أمناء الناس، على أذانهم يفطرون، وعلى أذانهم يمسكون) فهم مؤتَمَنُون، فينبغي أن يكونوا من أصحاب الأمانة، ولذلك أوصى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً أن يتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً؛ لأن المؤذن المحتسب يكون إخلاصه أشد ولا شك، ولذلك يستجيب له الناس أكثر من المؤذن الذي يأخذ المال أو يؤذن لأجل المال.

ولعل من أسباب عدم التوفيق لدى بعض الناس في الصلاة: أن بعض المؤذنين لا يؤذنون إلا من أجل المال، وتجد بعض الناس إذا أراد أن يبحث عن وظيفة ويتزوج أسرع شيء يخطر في باله الأذان، مع أن المؤذن ينبغي أن يكون ذا صفات متفوقة؛ حتى يحصل له القبول عند الناس، وحتى يكون لصوته القبول عند الناس، ولذلك إذا احتسب المؤذن الأجر في الأذان وما أخذ عليه أجرة؛ فإنه من أطول الناس أعناقاً يوم القيامة وفي الحديث: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

كما أن الجزاء من جنس العمل، فبأذانهم صاروا أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، وكذلك إذا أذن ردَّد معه وشهد له يوم القيامة ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر، وجن وإنسٍ.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في مناقب بلال أنه سمع دف نعليه في الجنة، أمامه عليه الصلاة والسلام.

وحكم أخذ الأجرة على الأذان: أن من أذن لأجل المال، وجعل الأذان وسيلة للمال، فهو آثم وأذانه غير مقبول؛ لأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، ودفع العمل الأخروي الديني لأجل أن ينال الأجرة الدنيوية.

وبناء على ذلك من جعل الأذان وسيلة للتكسب فليس له عند الله من خلاق.

لكن إذا لم يوجد مؤذن محتسب، ولا يوجد من الناس من يتفرغ للأذان، فعند ذلك يعطى المؤذنون من بيت المال ما يفرغهم للأذان؛ لأن الناس لا بد لهم من مؤذنين، فإذا لم يوجد مؤذنون محتسبون، فلا بد من تفريغ بعض الناس للأذان، ولكن على هذا الشخص الذي يأخذ من بيت المال ألا يكون هدفه المال، وإنما هدفه الأجر وليس الأجرة، فيأخذ الأجرة للتفرغ للأذان، فهو يأخذ ليؤذن، لا أنه يؤذن ليأخذ، يأخذ ليتفرغ للقيام بهذه الشعيرة العظيمة، وليس أنه يقوم بهذه الشعيرة لكي يأخذ المال.

وفرق بين من يؤذن ليأخذ ومن يأخذ ليؤذن، كما أن هناك فرقاً عظيماً بين من يحج ليأخذ والذي يأخذ ليحج.

فإذا قال: أنا أريد رؤية المشاعر، والذهاب إلى بيت الله الحرام، وأن أدعو هناك، وأذكر الله هناك، لكن لا أجد مالاً، وأنا أتمنى وأشتهي، فقال له إنسان: أنا أريدك تحج عن ميتي فخذ هذا المال لتحج به، فهذا هدفه ونيته؛ الحج والذهاب إلى هناك، ورؤية المشاعر، وذكر الله هناك، والدعاء هناك، فهذا يؤجر؛ فهو يأخذ المال ليتمكن من الذهاب، فالمال وسيلة، والحج هي الغاية.

أما الذي يقول: يا أخي، ابحثوا لنا عن أناس عندهم حجج لأموات لنستفيد، أو يفاوض إمام مسجد لينظر له من يعطيه أجرة حجة عن ميت على أن يكون للإمام من ذلك نصيب، فهذا ليس له عند الله خلاق.

كما بين شيخ الإسلام رحمه الله الفرق بين من يحج ليأخذ، وبين من يأخذ ليحج، فالذي يحج ليأخذ مأثوم.

وأما من يأخذ ليحج والحج هو الهدف، والأخذ إنما هو وسيلة، ومن علاماته: أنه إذا بقي مال بعد الحج أعاده إلى أصحابه.

وأما من يحج ليأخذ فتجده يفاوض ويريد أكثر، وإذا زاد شيء لا يرجعه، ولا يمكن أن يعيده.

فإذا أذن المرء محتسباً وجُعِل له من بيت المال مبلغ لتفريغه للأذان فإنه يؤجر، أما الذي يبحث عن أذان، ليستفيد من البيت الذي للمسجد، ويستفيد من الأجرة، فهذا ليس غرضه الأذان، ولا الأجر على الأذان، بل غرضه البيت (بيت المؤذن) لأنه مجاني، وغرضه راتب المؤذن.

ثم من أسوأ الأشياء التي تُفعل: أن يوكل شخصاً آخر، فيأتي بواحد من الخارج؛ من بنغلاديش مثلاً أو من الهند أو من باكستان، يقول له: تعال يا أخ أنت أذِّن، ولك خمسمائة ريال شهرياً، ثم يضع في جيبه سبعمائة فبأي حق يدخر السبعمائة لنفسه؟! وأيضاً يؤجر الشقة التي للمؤذن ويقول: هذا مصدر دخل، سبحان الله! أنت لا تقوم بالعمل، ثم تأخذ البيت، وتأخذ أكثر من نصف الراتب الذي رُتِّب للمؤذن ثم تقول: هذا مصدر دخل؟! هذا سُحْت، وكسب حرام.

وهذا من أسباب عزوف الناس عن الصلاة.

ولو وجد المؤذنون المحتسبون وشاعوا لَوَفَّقهم الله بـ (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) بناس كثيرين يأتون، لكن إذا صار هدفه المال هل هو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح من قلبه، ويرجو بها أن كل واحد يأتي إلى المسجد؟ إن أجر المؤذن عظيم! وكل واحد يأتي إلى المسجد يؤجر المؤذن مثل أجره، لأنه هو الذي دعاه (الدال على الخير كفاعله) (الداعي إلى الخير له مثل أجور من تبعه) فحين يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يناديهم، ويأتون له أجر عظيم.

فانظر كم يضيع على هؤلاء المساكين الذين ينوون الدنيا من الأجر، وكم يكون لهم من الأجر إذا نووا وجه الله تعالى! ونفس الكلام على الأئمة والخطباء، والقضاة والمفتين؛ هؤلاء يُرَتَّب لهم من بيت المال ما يفرغهم للقيام بالإمامة، والأذان، والإفتاء، والقضاء، لأن هذه وظائف دينية لا يجوز أخذ المقابل عليها؛ لكن يعطى ما يفرغه، ولا يقال: هذه أجرة الفتوى، هذه أجرة الإمامة، هذه أجرة الصلاة بالناس، هذه أجرة الأذان، هذا ليس عملاً دنيوياً حتى يجوز أخذ الأجرة عليه، فإنه لا يجوز أخذ الأجرة على الأعمال الدينية، ولا يجوز أن يبتغي الإنسان بهذه الأعمال الدينية المال أو الدنيا، لكن يبتغي وجه الله، وما يأخذه من بيت المال إنما هو للحاجة، ولأجل تفرغه وتركه السعي والمشاغل الأخرى، وإلا اضطُرَّ أن يشتغل ويترك الإمامة والأذان.

(9/7)

تأليف القلوب بالمال والتكفير بالحسنات مكان السيئات

كذلك في هذا الحديث: استعمال المال لتأليف قلوب الكفار: النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أبو محذورة أعطاه صرة فيها شيء من فضة، وكان عليه الصلاة والسلام يستخدم المال في تأليف قلوب الكفار، ودخل في الدين أناس كثيرون بسبب التأليف بالمادة، ثم بعد ذلك خَلُصت نياتهم وأصبحوا صالحين، وأصبحوا يدفعون المال في سبيل الله.

فأحياناً الواحد يكون مدخله إلى الدين المادة، ثم يهديه الله فيصير من المنفقين في سبيل هذا الدين ونشره.

فلا مانع أن يكون المدخل مادياً، مثل سهم المؤلفة قلوبهم، ثم بعد ذلك تتحول النيات وتتغير، ويصبح الشخص هو الذي يعطي من جيبه.

مثل الداعية إلى الله ربما ينفق على شخص من جيبه، ويدعوه إلى طعام، ويخدمه، وينفق عليه من المال، فإذا اهتدى هذا الشخص صار هو الذي ينفق على الآخرين، وهو الذي يعطي في سبيل الله، ويفعل مثل ما فُعِل معه.

ولذلك فإن استخدام المال للدعوة ونشر الدين أمر في غاية الحكمة، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما وجدنا في هذه القصة.

ثم كذلك: أهمية الدعاء بالبركة: قال: (بارك الله فيك).

ثم إن من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الإنسان إذا كان عدواً للدين، مستهزئاً بشعيرة من شعائره، فإن من كفارة ذلك أن يقوم بعمل ديني يخدم به الدين؛ فهذا أبو محذورة لما هداه الله قال: (قلتُ: يا رسول الله! مُرْني بالتأذين بـ مكة) أي: الآن أنا مستعد أن أؤذن، وأنا أطلب منك أن تجعلني مؤذناً بـ مكة (فقال: قد أمرتك به، وذهب أبو محذورة إلى عتاب بن أسيد) وعتاب هو أمير مكة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة ولَّى عليها عتاب بن أسيد، وكان رجلاً شاباً مُبَكراً في السن، لكن عنده قدرات كبيرة، ولاه على قريش في مكة، فصار عتاب الأمير والإمام، وأبو محذورة هو المؤذن، وسبحان الله! كيف ينشأ جيل جديد في الدعوة، فهذه مكة التي كانت تنجب الفجرة الكفرة أعداء الدين، خرج من أصلابهم مَنْ عبد الله، وأذَّن، ونشر التوحيد، بعدما كانوا ينشرون الكفر.

(9/8)

فوائد في التعلم والتعليم والتأثر والتأثير

وكذلك في هذا الحديث: الحرص على أخذ العلم من صاحبه الأصلي: ولذلك ذهب إلى أبي محذورة وقال له: (علمني الآذان قبل أن أُسْأَل عن تأذينك) إني خارج إلى الشام وأخشى أن أُسْأَل عن تأذينك، إذا علموا أني صاحبك، وأني كنت عندك سيسألونني عن أذانك، فأخبرني عن الأذان وعلمني إياه، حتى إذا سألوني أخبرتهم.

ففيه الاستعداد بالجواب قبل السؤال، وكذلك الحرص على القصة من صاحب القصة، والحرص على العلم من صاحب العلم، وأعلم واحد بالأذان هو من ألقي عليه الأذان.

وكذلك فيه: أن رفقه السوء تساعد على الوقوع في الباطل: ولذلك يقول: (فسمعنا صوت المؤذن ونحن مُتَنَكِّبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به) هم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، رفقة السوء هؤلاء الذين كانوا مع أبي محذورة كانوا كفرة، وهم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، وهذا يبين خطورة رفقة السوء، وأن الإنسان ربما لو ترك لوحده لما استهزأ بالدين، لكن إذا كان معه من الفاسدين من يحوطه، فإنهم يجرئ بعضهم بعضاً على المنكر، وهذه من خطورة رفقة السوء، فبسببهم حصل ما حصل.

ثم أيضاً من فوائد القصة: أن الشيء السيئ قد ينقلب بأمر الله في مصلحة صاحبه: فـ أبو محذورة رفع صوته مستهزئاً، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم الصوت واستدعاهم، فشاء الله أن يكون رفع الصوت بالاستهزاء سبباً في هداية الرجل، فسبحان من جعل هذا السوء ينقلب على صاحبه خيراً.

وفي هذا الحديث طريقة من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم: أن يقول: قل كذا قل كذا، وذاك يقول، يلقيه عليه إلقاءً، ولذلك فالإنسان لا ينسى أن يلقن تلقيناً مباشرة، فإنه من طرق التعليم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، ويُملي عليه الكلام إملاءً.

وفيه كذلك: أن مشاعر الإنسان يمكن أن تتغير في لحظة: الكره ينقلب إلى محبة، والمحبة تنقلب إلى كره، العداوة تنقلب إلى صداقة، والصداقة تنقلب إلى عداوة، الحزن ينقلب إلى سرور، والسرور ربما ينقلب إلى حزن، وذلك في لحظة.

وفاطمة: (أسَرَّ إليها النبي كلمات، فَبَكَت، ثم أسر إليها كلمات، فضحكت وربَعت) أولاً: أخبرها بدنو أجله، فبَكَت، فقال لها: إنها سيدة نساء العالمين، فضَحِكَت.

فالإنسان بحسب ما يناله ويحيط به من الظروف تتقلب مشاعره، والقلب يتقلب، وما سُمِّي القلب قلباً إلا أنه يتقلب.

فهذه البغضاء يقول أبو محذورة: (وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم).

وفيه: أن حسن معاملة المدعو الكافر مِن قِبَل الداعية المسلم هو الذي يغير صورة الداعية وسمعته، والشبهات التي كانت حول الداعية، أو الشكوك، أو العداوات في نفس الشخص الآخر، تتغير بفعل المعاملة الحسنة من الداعية، أعطاه المال، ولان له في الكلام.

ثم إننا نلاحظ أن من وسائل الدعوة: أن تجعل الشخص يتلبس بالطاعة:- فلو أتيتَ بمُغنٍ كان معك فحضر وقت الصلاة، فقلت له: يا أخي! لماذا لا تؤذن لنا؟! هل من الممكن أن تؤذن لنا؟ فيمكن أن يكون طلبك من المغني أن يؤذن سبباًَ لهدايته إلى طريق الحق؛ لأن استخدام الطاقة في الشر إذا عُكِس، وطُلِب منه أن يؤديها في الخير يحس بلذة الخير، فتتغير قناعاته، ويتغير مسلكه وطريقه.

ولذلك ربما شعر أبو محذورة -لما أذن- بطعم الأذان، وذاق شيئاً من طعم الإيمان، وأحس بجمال الأذان.

فالشخص حين يقوم بالعمل، ويقوم بالطاعة، وعندما توعز إليه أن يقوم بها يكون إيعازك له طريقةً لقلب حاله وهدايته، وهذه حكمة بالغة من النبي عليه الصلاة والسلام، جاءه شخص مستهزئ بالدين فقال له: (قم فأذن للصلاة).

ثم لاحظ: أن النبي عليه الصلاة والسلام جرد الشخص من أعوانه الفجرة الكفرة؛ قال: (فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليَّ، وصَدَقُوا، فأرسل كلهم وحبسني) فجرد الشخص عن المحيط السيئ الذي هو فيه، وهنا يمكن التأثير عليه، بخلاف ما لو كان مع هذه الرفقة السيئة، فاستفراد الداعية بالمدعو يجعل التأثير ممكناً أكثر.

(9/9)

هيبة النبي ومسارعة الصحابة في تنفيذ أوامره

ثم نلاحظ: هيبة النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه لما أتى بهؤلاء الكفرة وقال لهم: (أيكم الذي سمعت صوته؟) -ما استطاعوا أن يكذبوا عليه، بل كلهم أشار إلى أبي محذورة.

ثم نلاحظ: سرعة الصحابة في القبض على هؤلاء:- قال: (فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه) جيء بهم بسرعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: أن بعض الكفار قد يخرج وراء الدنيا مع المسلمين، فـ أبو محذورة ومن كان معه خرجوا من مكة طلباً لغنائم حنين، فلما لم يستفيدوا عادوا وحصل ما حصل مما كان سبباً في إسلام أبي محذورة.

(9/10)

الاستهزاء بالدين بيانه وأحكامه

نريد أن نتحدث الآن في ختام هذه القصة عن مسألة مهمة جداً ألا وهي: قضية الاستهزاء بالدين؛ لأن أبا محذورة رضي الله عنه أول ما حصل له هو ومن معه الاستهزاء بالدين.

والاستهزاء بالدين من الأعمال الشنيعة، والداء الفتاك الذي انتشر بين كثير المسلمين مع الأسف، حتى صارت السخرية ببعض آيات الله، وبعض ما يتعلق بالإيمان، والعقيدة، والعبادات الشرعية موجودةً عند عدد من الناس، يتندرون بها في المجالس، وينشرونها ويتكلمون بها.

والاستهزاء والسخرية قريبان، الهزء هو السخرية، استهزأ به يعني: سخر منه وضحك، والله سبحانه وتعالى توعد المنافقين قائلاً لهم: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64].

(9/11)

الاستهزاء بالدين من صفات المنافقين

فالاستهزاء بالدين من صفات المنافقين.

وفي غزوة تبوك استهزأ بعض الناس بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية قد رواها ابن جرير رحمه الله وغيره، وهو حديث حسن.

عن عبد الله بن عمر قال: (قال رجل في غزوة تبوك في المجلس قال: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت؛ ولكنك منافق، ولأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقاً بِحِقْب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْكُبُه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) وفي رواية: (فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله! {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]).

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الكفر الذي كفروا به كفر حقيقي، وليس مجرد كفر باللسان، بل هو كفر قلبي، ولذلك ما أظهروه إلا لبعض خواصهم، قال: (ما رأينا مثل قرائنا) ونُقل الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا دال على الكفر ولا شك.

فبيَّنت هذه الرواية أن الاستهزاء بآيات الله كفر، وأن المستهزئ كافر، فلو أن شخصاً استهزأ بشيء من الدين، أو بآية من القرآن مثلاً، ثم قال لك: يا أخي! والله أنا قصدي المزاح فقط، نقول: لا، الاستهزاء بالقرآن كفر، قلتَ مازحاً أو ما قلتَ مازحاً أنت كافر، هذه هي المسألة واضحة.

(9/12)

أقوال العلماء في الاستهزاء بالدين وذكر بعض صوره

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطراً إرادات القلوب.

وكذلك قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فيه مسائل: الأولى وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الآية التي هي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] قال: وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر.

وقال أيضاً: وقد دلت هذه الآية على أن كل من تَنَقَّصَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر.

وقال رحمه الله: فهؤلاء لما تَنَقَّصُوا النبي صلى الله عليه وسلم، حيث عابوه والعلماء من أصحابه قالوا: ما رأينا مثل قرائنا، والقراء هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستهانوا بخبره، أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاءً، فكيف بما هو أغلظ من ذلك، وإنما لم يُقِمِ الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أُمِر به إذ ذاك، بل كان مأموراً بأن يدع أذاهم؛ ولأنه كان له أن يعفو عمن تَنَقَّصَه وآذاه.

وعلى ما سبق فإن أي استخفاف أو ازدراء بالدين، أو استهزاء بأي شعيرة من الدين؛ بالله، أو آياته، أو رسوله، أو أركان الإيمان؛ أو الجنة، أو النار، أو الملائكة، أو الأنبياء، مَن استهزأ بشيء من ذلك فقد كفر، والكفر الذي يكفر به كفر أكبر مخرج عن الملة.

قال العلامة السعدي رحمه الله: إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله، وتعظيم دينه ورسوله، والاستهزاء بشيء من ذلك منافٍ لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة.

وقال النووي رحمه الله: ولو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: باسم الله، استخفافاً باسم الله تعالى كفر.

أي: لو أن واحداً أخذ كأس خمر وقال: باسم الله تعالى، ويقصد بذلك الاستهزاء فإنه يكفر بذلك.

وقال ابن قدامة رحمه الله: من سب الله تعالى كفر؛ سواء كان مازحاً أو جاداً، وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو بآياته، أو برسله، أو كتبه، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية} [التوبة:65].

وينبغي أن لا يُكْتَفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام، يعني: نقول له: كفرتَ يقول: بسيط! أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نقول: لا.

حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك، فلا نكتفي بعودته بالدخول في الدين من جديد، ولا بد أن يؤدب؛ يسجن أو يضرب، لا بد أن يؤدب تأديباً يردعه عن العودة إلى ذلك.

فالاستهزاء بالدين لا يدخله المزح واللعب، ولا يصح العذر بأنه غير قاصد، وأنه ما أراد حقيقة الكلام، نقول: بمجرد النطق بها والإنسان في وعيه وعقله فإنه يكفر مباشرة، سواء قال: أنا قصدي الهزل، أو المزح، أو قال: أنا مؤمن، أنا قلبي فيه إيمان، نقول: حتى لو، فإن الله يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65 - 66] لا تقولوا: هي كلمات باللسان، هو حديث بيننا، هي مزحة، لم نقصد الحقيقة، نقول: لا.

الله يقول: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].

وكذلك فإن هذا الوعيد الشديد الذي جاء ينال كل من قام بشيء من ذلك، والاستهزاء قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وبعض الناس يقصد أن يُضْحِك القوم في مجلس من المجالس فيهزأ بالملائكة، أو بالجنة، ويسمون ذلك نُكَتاً، وهي طبعاً ليست نكتاً ولا شيء، إنما هي سخرية واستهزاء بالدين.

قال بعض العلماء: ومن البدع القولية مزح الإنسان بشيء من كتاب الله تعالى، فهو مما يَكْفُر فاعلُه أو يُذَم، أما الذي يَكْفُر فاعله كمن يصعد في مكان مرتفع والناس تحته، فيتشبه بالواعظ والخطيب، يتلو كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ في مد صوته وهز رأسه ويقول: (أيها الناس) وهم تحته يتضاحكون؛ كفروا كلهم أجمعون.

وقال رجل لبعض الفقهاء: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رِضاً لطالب العلم) فقال واحد في المجلس مازحاً: لأجل ذلك سَمَّرْتُ (قُبْقَابي) لكسر أجنحتهم، فما كان إلا قليلاً حتى وقع في تهمة، فقُطِعَت فيها رجله، أي: قدر الله عليه بشيء تسبب في قطع رجله، لأنه قال: أنا جئت إلى حلقة العلم، ومعي مسامير في القبقاب لكسر أجنحتهم، لاحظ الكلمة! وكذلك لو أن إنساناً استهزأ بأي شيء يتعلق بجهنم أو أهل النار، أو طعام أهل النار، وضربوا أمثلة فيما يُكْفَر به من كلام، وهذه الأمثلة منها ما هي سب صريح، أو فيه استهزاء صريح، ومنها ما يحتمل المزاح؛ ولكن مع ذلك عده العلماء من المكفرات.

وأيضاً فإن اللاعب والجاد في إظهار كلمة الكفر سواء، كما دلت عليه هذه الآية.

ونلاحظ أن بعض الناس يستخدمون أجزاء من آيات في مجال استهزاء أو سخرية، يأتي بشيء من القرآن في مكان لا يناسب أبداً، فهذا يُخشى عليه من أن يدخل في هذه الآية.

كما قال أحد المدعوين: ما لي لا أرى الخبز أم كان من الغائبين، فقال صاحب الدعوة: سآتيك به قبل أن تقوم من مقامك، ونحو ذلك من الكلام نعوذ بالله.

وكقول بعضهم: ولكم في العدس أسوة حسنة، فيضحكون ويقهقهون، هؤلاء يُخشى عليهم من الكفر الوارد في هذه الآية صراحةً.

وكقول بعضهم لما جيء له بالطعام فقال: أفطر عندكم الصائمون، أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة إلا جبريل، قالوا: ولِمَ؟ قال: لأنه لا يأتي إلا مع الشاي.

هذا فيه استهزاء بجبريل، أنه لا يأتي إلا مع الشاي، فهذه الكلمة يمكن أن تودي به في مهاوي الكفر والعياذ بالله.

ويقع من بعض الناس على سبيل المزاح، أن يأتي بمقطع من آية، أو مقطع من حديث مثلاً، يأتي لك به على سبيل الاستهزاء والسخرية، ويتضاحك الناس في المجلس، يأخذونها على أنها طرفة، مع أن القضية في غاية الخطورة.

وينبغي على الإنسان إذا سمع كلام الله عز وجل أن يعظِّمه، وأن يخشع له، وأن يطرق مفكراً فيه متدبراً، لا أن يستعمله في مجالات الاستهزاء والسخرية والمزاح، فما أُنْزِل القرآن لكي نقطعه مقاطع، ونأتي بها في مناسبات على سبيل السخرية والتنكيت والمزاح وإضحاك الناس، ما أُنْزِل القرآن لهذا مطلقاً! وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بعض الناس ربما يقول عن سنته أشياء، فهذه الأشياء التي تقال في سنته استهزاءً به، ربما تؤدي أيضاً بصاحبها إلى النار.

وكيف يجعل المسلم أعظم المقدسات عنده في الدين مجالاً للاستهزاء والسخرية! وكذلك ما يقع فيه البعض من الاستهزاء بالمتدينين في قضايا دينية، ليست قضايا شخصية، مثلاً يستهزئ بشكله بأنفه، لو استهزأ بذلك يكون مرتكباً لذنب عظيم، مخالفاً لقول الله: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] لكن أحياناً لا يستهزئ بشخصه، وإنما يستهزئ بشعيرة دينية يقوم بها هذا المتدين، كأن يرى أحداً مثلاً يلبس ثوباً وقد جعله حسب السنة فيقول: هذا لابسٌ (شانِيْل) مشبهاً له بفستان المرأة، فإطلاق (الشانِيْل) على الثوب الذي جاء بحسب السنة لا شك أنه يوقع في مهاوي الكفر والعياذ بالله؛ لأن معنى ذلك أنك تستهزئ بالسنة مباشرة؛ بحديث: (إزرة المسلم إلى نصف ساقيه) معناه أنك جعلت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالاً للاستهزاء والسخرية، فهذا إنسان يدخل في الآية، ويُخشى عليه من الكفر الصريح والعياذ بالله تعالى.

ونحو هذا أمثلة كثيرة توجد عند بعض الناس؛ يعملون نكتاً وأشياء على الجنة والنار، يدخلون جحا في الجنة والنار، يعملون بها طرائف، ويتناقلونها في المجالس، ولا شك أن تقليد المؤذن بصوت يحاكي صوت المؤذن استهزاءً به، أو يقول بعض الناس إذا سمع المؤذن: نهق الحمار، ولاحظ هذه الكلمة! فإنها استهزاءٌ صريح بشعيرة من شعائر الدين وهي الأذان، ولذلك كم يكفر من الناس يومياً! وبعض الممثلين قد يضع لحية مستعارة وعمامة، يقلد بها شيخاً صاحبَ دين، أو يعمل كأنه يقلد عالماً أو إماماً ونحو ذلك، يكون أيضاً داخلاً فيمن استهزأ بأهل الدين لدينهم، لأن أهل الدين لهم سمات ولهم علامات، فلو استهزأ بثيابهم وأشكالهم وهيآتهم، ومَثَّل دوراً فيه شخص متدين أو عالم، وجلس يقلد صوت هذا العالم على سبيل الاستهزاء والسخرية، فهذا أيضاً يُخشى عليه من الكفر والعياذ بالله تعالى.

وكما حدَّث بعضهم قال: ما هو مصير أهل فلسطين؟ قال: تركنا لهم مخيمات بين الجنة والنار، لاحظ! هذه داخلة في عملية الاستهزاء؛ لأنك الآن دخلت في اليوم الآخر وفي الجنة والنار، وفي القضايا العقدية، وجعلتها مجالاً أو محلاً للاستهزاء والسخرية، وكأنْ يسمع الإنسان شيئاً من نعيم الجنة فيقول: أنا لا أحب هذا، أو الرمان أنا لا أشتهيه ولا كذا، فربما يُخشى عليه أن يُحرم منه.

وعملية الاستهزاء والتشويه لشخصيات التاريخ الإسلامي، وشخصيات العلماء التي تكون في بعض المسلسلات؛ مثل إخراج دور صحابي يقع في حب فتاة، أو يخاطب امرأة متبرجة، أو يقول كلاماً فيه شيء من الغزل ونحو ذلك، لا شك أنه استهزاء بالصحابة، كذلك يظهرون مثلاً صورة عمر بن عبد العزيز أو شيخ الإسلام ابن تيمية، أو صلاح الدين الأيوبي، أو فلان أو فلان من شخصيات المسلمين، يجعلونها مثاراً للحب والغرام وكذا، فيعرضون علماء المسلمين بقالب فيه هذا الشيء، فهؤلاء يكونون قاصدين لتشويه أهل العلم، مثل ما قال المنافق في غزوة تبوك، قال: (ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطوناً الخ) هذا كذلك يريد أن يجعل علماء المسلمين مثاراً للسخرية، وأنهم أصحاب غزل، وأصحاب حب وغرام ونحو ذلك.

فكم من كلمة أودت بصاحبها في

(9/13)

الأسئلة

(9/14)

قراءة السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة

السؤال

ما حكم قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة بعض الأيام؟

الجواب

لا بأس، وهذه هي السنة، أما إذا كان يشق على المصلين بحيث أنهم ينفرون أو يتركون الصلاة، فيمكن أن يتألف قلوب هؤلاء بأن يقرأ سوراً أقصر منها؛ مع تعليمه للسنة، ويفعلها أحياناً لتعويدهم، ولا يكثر منها حتى لا يهربوا أو ينفروا، ثم إن الإنسان يجب أن يكون حكيماً في نشر السنة بين الجهلة بها.

(9/15)

أخذ الأجر على تعليم القرآن

السؤال

ما حكم أخذ الأجرة على تدريس القرآن؟

الجواب

إذا نواها لله فلا يجوز أن يأخذ أجرة عليها، كما دل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (لما علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن، فأحس ذلك الرجل بأن لـ عبادة عليه فضلاً، فأهداه قوساً حسن الصنعة، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأنه قوس من نار) وهذا يُحمل على ما إذا قَصَدَ وجه الله وثوابه، فلا يجوز بعد ذلك أن يأخذ شيئاً لئلا يعتاض عن ثواب الله بشيء من الدنيا.

أما لو أن الإنسان احتاج إلى أخذ شيء على تعليم القرآن، وإذا لم يعلم فقد لا يوجد من يعلِّم غيرَه من المتبرعين، فاحتاج أن يأخذ أجرة لكي يتفرغ للتعليم فلا بأس بذلك، مثل ما يأخذ القارئ الذي يرقِي أجرة مقابل القراءة، كما جاء في قصة أبي سعيد مع اللديغ، حيث اشترطوا عليهم جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فأخذوه مقابل تلك الرقية، وهو لا يأخذ مقابل العبادة، وإنما يأخذ مقابل العمل.

(9/16)

تقديم الأذان قبل وقت الإفطار بدقائق

السؤال

إذا تقدم المؤذن بالأذان قبل دخول الوقت بدقائق، فما الحكم؟

الجواب

لا نفطر حتى يأتي الوقت الصحيح، ثم إن الاعتماد على التقويم، المؤذن يعتمد على التقويم، وأنت عندك التقويم، فإذا قدم المؤذن فلا يكون هذا عذراً في الإفطار، وإذا علم أن المؤذن ثقة فيجوز للإنسان أن يفطر على أذانه.

(9/17)

الترجيع في الأذان

السؤال

هل الترجيع في الأذان عند كل أذان؟

الجواب

نعم، عند كل أذان السنة أن يرجع في الأذان.

(9/18)

من أذن ثنتي عشرة سنة فله الجنة

السؤال

( من أذن ثنتَي عشرة سنة محتسباً الأجر عند الله وجبت له الجنة) هل يصح هذا؟

الجواب

نعم.

هذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(9/19)

استغلال العمال

السؤال

هل يجوز لشخص أن يأتي بعمال ويقول لهم: اذهبوا فاعملوا، ثم يأخذ منهم ثلاثمائة ريال شهرياً؟

الجواب

هذا أكل مال بالباطل، ولا يجوز، ولا يقال إن ذلك مقابل الكفالة، فإن الكفالة من عقود الإرفاق والإحسان، ولا يجوز أخذ المال عليها.

(9/20)

من أفطر بأكل قبل الجماع ليسقط الكفارة

السؤال

رجل أراد أن يجامع زوجته في نهار رمضان، فشرب ماءً حتى يفلت من الكفارة، ثم جامع، هل تسقط الكفارة؟

الجواب

لا.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: كيف نقول للشخص يستعين على الجماع بالطعام والشراب قبل الجماع ثم نقول: ليس عليك إلا قضاء هذا اليوم، وإذا جامع قبل أن يأكل ويشرب نقول: عليك شهران، وعليك الكفارة المغلظة؟! قال: هذا عبث، لا يمكن أن تأتي بمثله الشريعة، ولذلك إذا أكل أو شرب بقصد الهرب من الكفارة المغلظة، فإنه يعاقَب بنقيض قصده، وتُجعل عليه الكفارة المغلظة.

(9/21)

حكم صلاة التراويح جماعة في مسجد العمل

السؤال

أنا إمام في مسجد العمل ولا يوجد من يصلي التراويح إلا شخصين أو ثلاثة علماً أن عددهم عشرة فما الحكم في عدم صلاتي بهم لرغبة الحضور مع الجماعة؟

الجواب

لا بأس، أن تذهب إلى المسجد وتصلي، إذا كان ذلك لا يخالف وقت العمل، وهم كل واحد مسئول عن نفسه بعد ذلك؛ ولكن إذا صليتَ في المسجد -وهو الواجب عليك- صلاة الفريضة، ثم عدت وصليت بهم التراويح رجاء أن يجتمعوا، فتعتبر هذه دعوة للآخرين، وهذا شيء طيب إن شاء الله.

(9/22)

تزاحم المؤذن المحتسب والمستأجر

السؤال

إذا كان هناك مؤذن يؤذن بمقابل، وجاء أحدهم وقال: إنه يريد أن يؤذن مكانه محتسباً، فهل له ذلك؟

الجواب

يُقَدَّم الذي يؤذن محتسباً، لكن يُقَدَّم بشرط أن يمسك الأذان، لا أن يأتي في كل أذان شخص ليقول: أنا محتسب ويؤذن، ويأتي بعد أسبوع يقول: أنا محتسب، وهكذا.

(9/23)

كيفية تقصير شعر المرأة في النسك

السؤال

كيف تقصر المرأة من شعرها بعد العمرة؟

الجواب

تجمع شعرها ثم تأخذ منه قيد أنملة، وإذا كان شعرها في الأمام والخلف، تجمع الذي من الأمام والذي من الخلف، وتأخذ.

(9/24)

الإحرام في الطائرة

السؤال

إذا لبست ملابس الإحرام في المنزل، فهل أستطيع عقد نية العمرة في الطائرة فوق الميقات أو قبله؟

الجواب

نعم.

(9/25)

لباس الناس إذا أوهم الشهرة

السؤال

إذا تشبهنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فصارت الأنظار تلتفت إلينا فهل يعتبر هذا من لباس الشهرة؟

الجواب

لا.

هذا دعوة إلى السنة، ثياب الشهرة تفصيل غريب، موديل عجيب، تلبسه امرأة أو رجل ليُلفت أنظار الناس، وليس من لباس البلد، بل فيه غرابة عما حوله من الناس، بعض الموديلات فيها غرابة، تصميم الزي نفسه فيه غرابة، فيلفت أنظار الناس، يلتفتون إليه بمجرد مروره بينهم، يرفعون إليه أبصارهم، يشيرون إليه بأصابعهم، فهذا الذي فعله يريد أن يتميز عن الآخرين بهذا الشيء الدنيوي وليس سنة، فهذا الشيء الدنيوي ثوب شهرة.

(9/26)

الوسوسة المؤثرة في الخشوع

السؤال

أثناء الصلاة تراودني أفكار سيئة ورديئة تؤثر في الخشوع؟

الجواب

اذكر الموت في صلاتك، وفكر في معاني الآيات والأذكار، واستعذ بالله من الشيطان، وانفث عن يسارك ثلاثاً، فإنه يذهب إن شاء الله.

(9/27)

ترك بعض الراتب للبقاء مع الأم

السؤال

هل أترك العمل وأذهب إلى عمل بجانب أمي، وأحصل على وظيفة نصف الراتب؟

الجواب

إذا طلبت أمك ذلك فمن البر أن تفعل إذا كان لا يضرك، بمعنى أنه لا يؤثر على نفقاتك الواجبة، كنفقة الزوجة والأولاد، فإنك تحتسب الأجر في برها، وإذا لم تطلب منك ذلك ولم يكن لديها مانع أن تبقى بعيداً عنها، فإنك تبقى في عملك وتبرها بما ترسل إليها من المال أو الهدايا.

(9/28)

قراءة الإخلاص في نهاية التراويح

السؤال

هل لا بد من قراءة سورة الإخلاص في نهاية التراويح؟

الجواب

لا.

لكن السنة أن يقرأ الإمام: (سَبِّحِ) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الشفع، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الوتر.

(9/29)

قول المردد عند الأذان (الصلاة خير من النوم)

السؤال

ماذا يقال عند قول المؤذن: الصلاة خير من النوم؟

الجواب

يقال: الصلاة خير النوم؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) وما ورد الاستثناء إلا في حيَّ على الصلاة، وحيَّ على الفلاح فقط، ولذلك إذا قال: الصلاة خير من النوم يقول: الصلاة خير من النوم.

(9/30)

إذا دخل الوقت ولا مؤذن

السؤال

عند دخول وقت الأذان ولم يؤذن أحد هل يجوز لشخص أن يؤذن بعد دخول الوقت؟

الجواب

نعم.

لأنه دعوة للصلاة وطرد للشيطان، فالأذان فيه فوائد، فليس مجرد إعلان بدخول الوقت، بل فيه فوائد أخرى: دعوة الناس للصلاة، إظهار الشعيرة في البلد، طرد الشيطان.

(9/31)

اعتزال الزوجة عن زوجها

السؤال

ما حكم اعتزال الزوجة زوجها عدة أيام في غرفة لوحدها، وعدم الكلام معه، ولا السلام عليه لسبب ما؟

الجواب

هذا إذا حدث منها فهو نشوز، خاصةً إذا كان ليس لسبب ديني، فإذا هَجَرَت فراش زوجها لعنتها الملائكة، فالواجب عليها أن تتوب إلى الله، وأن تعود إلى زوجها، أما إذا هجرته لسبب ديني؛ كأن تهجره في وقت سكره ونحو ذلك، أو أنه تارك للصلاة فاعتزلته ولا تستطيع أن تذهب لأهلها، فاعتزلته في البيت، فهذا واجب عليها.

(9/32)

ترك العمل المحرم والبحث عن مباح

السؤال

هذا سؤال عن ترك عمل محرم للبحث عن عمل مباح؟

الجواب

فنقول: اتركه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] فالمسألة تعتمد على أمرين: - تقوى الله عز وجل.

- والأخذ بالأسباب.

تقوى الله: أن يترك العمل.

مع الأخذ بالأسباب: البحث الجاد.

(9/33)

تطييب ملابس الإحرام قبل لبسها

السؤال

تطييب ملابس الإحرام قبل لبسها، والدخول في نية الإحرام؟

الجواب

هذا من المحاذير التي يترتب عليها أنه لو خلع الرداء المطيب لسبب ما كمن أراد أن يغتسل، أو أن يتوضأ، فإنه لا يجوز له أن يلبسه؛ لأنه لا يجوز للمحرم أن يلبس شيئاً مطيباً، فبمجرد خلعه لا يجوز له أن يلبسه، ولذلك لا يطيبه حتى لا يقع فيه هذا الإشكال.

(9/34)

لا يشترط تتابع الطواف والسعي في العمرة

السؤال

ذهبت لأداء العمرة، وعند وصولنا طفت الأشواط السبعة، ولكن من شدة التعب لم أستطع السعي مباشرة، فذهبت إلى الفندق ونمت واحتلمت ثم اغتسلت، وغسلتُ ملابس الإحرام، ثم ذهبت للسعي، فما حكم عمرتي هذه؟

الجواب

عمرتك صحيحة، ولا يُشترط أن يكون السعي واقعاً بعد الطواف مباشرة، لو فَصَل بينهما براحة فلا بأس بذلك.

(9/35)

زينة المسجد

السؤال

ما حكم الزينة في المساجد؟

الجواب

الزينة في المساجد لا شك أنها منهي عنها، لا تحمَّر، ولا تصفَّر، ولا تنقش، ولا يجوز أن يكون هذا في مساجد المسلمين؛ لأن المساجد لم تُبْنَ للزخرفة: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) كما جاء في الحديث الحسن، وعلى الإنسان أن يصرف بصره، وينشغل بذكر الله تعالى.

(9/36)

من توفي أبوه وهو عليه ساخط

السؤال

إذا توفي أحد الوالدين وهو على ولده غضبان، ماذا يفعل الولد لينال رِضا الله تعالى، علماً بأن رِضا الله للولد في رِضا الوالدَين؟

الجواب

عليه أولاً: أن يتوب إلى الله، لأن هنا حق لله تعالى أيضاً، وهو أنه عصى الله؛ لأن الله قال له: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وهو لم يبر بهما.

ثانياً: أن يستغفر لأبيه، ويدعو له، ويتصدق عنه، يبر أباه في قبره، يصل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي كما جاء في الحديث: (إن من أبر البر أن يَصِل الرجل أهل ودِّ أبيه بعد أن يولي الأب) يزور أصدقاء أبيه مثلاً، يرسل هدايا إلى صديقات أمه مثلاً، يُشْركه في الأضحية، يحج عنه، يعتمر عنه، يتعهد دَيْنَه والكفارات التي عليه، وهكذا.

(9/37)

من لحق الإمام في غير قيام الفاتحة لا يقرأ الاستفتاح

السؤال

إذا جاء الإنسان ليصلي وكان الإمام يرفع من الركوع فهل يقول دعاء الاستفتاح؟

الجواب

لا.

طبعاً، هو ينضم مع الإمام مباشرة.

(9/38)

قصة المقداد والأعنز

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم في ضيق من العيش، وفي جهد ومشقة، ومع ذلك صبروا وتحملوا في سبيل الله، وفي سبيل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وفي سبيل طلب العلم والاستزادة منه يجسد هذا المفهوم هذه القصة التي تكلم عنها الشيخ حفظه الله، فقد ذكر الحديث نصاً، ثم ذكر ما يستفاد منه على شكل نقاط

(10/1)

حديث قصة المقداد والأعنز

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة تشبه إلى حدٍ ما قصة أبي هريرة التي مرت معنا مع إناء اللبن وأهل الصفة، ولكنها مع صحابي آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العظام، الذين عرفنا سيرتهم بالخير، وذكرهم بالطيب، وثناء العلماء الحسن عليهم، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها فهماً وعلماً، وهم الذين عاينوا الوحي والتنزيل، وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أعلم الأمة بالقرآن والسنة رضي الله عنهم.

هذه القصة يرويها الإمام مسلم والترمذي باختصارٍ، وأحمد رحمهم الله تعالى.

يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه: (أقبلت أنا وصاحبان لي وفي رواية: قدمت أنا وصاحبان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابنا جوعٌ شديدٌ، فتعرضنا للناس، فلم يضفنا أحد وفي رواية لـ مسلم: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، ومن الجوع والمشقة -ولا شك أن الجوع يؤثر على سمع الإنسان وبصره- فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أحدٌ منهم يقبلنا) كل الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا من الفقراء، وهذا يبين الشدة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والفقر الذي عاينوه ولاقوه، ومع ذلك صبروا على الدعوة، وعلى العلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ما وُجِدَ أحد يستطيع أن يطعمهم؛ لأن كل الذين عرضوا عليهم كانوا مقلين ليس عندهم شيءٌ يواسون به، ما هناك أحد عنده طعام زائد يعطي هؤلاء، جاء هؤلاء الثلاثة: المقداد وصاحباه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يجدوا أحداً يقبلهم، قال: (فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله) وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل، يأتيه الرجل الجائع ولا يوجد من يطعمه، فيذهب به إلى أهله، قال: (فإذا ثلاثة أعنز -والعنز هي: الشاة أنثى الماعز التي بلغت سنة يطلق عليها عنزٌ- وفي رواية: أربعة أعنز- فلعل واحدةً أضيفت بعد ذلك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا، قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه وفي رواية: فقال لي: يا مقداد! جزأ ألبانها بيننا أرباعاً، فكنت أجزؤه بيننا أرباعاً) ثلاثة أعنز تحلب والحليب الذي ينتج منها يقسم إلى أربعة أقسام: للنبي صلى الله عليه وسلم قسم، وللمقداد قسم، ولصاحبيه قسمان يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه: (فاحتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة -أي: تأخر عن موعد عودته المعتاد- فحدثت نفسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى بعض الأنصار، فأكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو شربت نصيبه).

شرب المقداد شرب نصيبه الخاص به، وأبقى نصيب النبي عليه الصلاة والسلام، ولما تأخر النبي عليه الصلاة والسلام ذات ليلة، قال: جاءني وارد في نفسي أنه عليه الصلاة والسلام قد دعي إلى عشاء هذه الليلة، وأنه قد أكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو أنني شربت نصيبه، وفي رواية مسلم: (فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه، فيجيء من الليل -هذه العادة النبوية- فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان -لا يكون بصوت مرتفع، ولا بهمس، وإنما يسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان- ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة، وقد شربت نصيبي، فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه -والشيطان لا يقول: صلى الله عليه وسلم، أي: محمد صلى الله عليه وسلم ليس عليه خوف، الناس كلهم يضيفونه- ويصيب عندهم -أي: يطعم عندهم- ما به حاجة إلى هذه الجُرعة) أو الجَرعة، والفعل منه: جرعت، وهي: الحثوة من المشروب.

وسوس الشيطان للمقداد وقال: ما بمحمد حاجة إلى هذه الجرعة، أكيد أنه الآن قد شبع، قال: (فأتيتها فشربتها وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته، ثم غطيت القدح) يقول: في النهاية استسلمت لهذا الرأي، ولهذا الوارد، وأتيت إلى نصيب النبي صلى الله عليه وسلم فشربته وغطيت القدح، قال: (فلما أن وغلت في بطني -أي: دخلت بطني وتمكنت من بطني- وعلمت أنه ليس إليها سبيل، ندمني الشيطان وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته ثم غطيت القدح، فلما فرغت، أخذني ما حدث، فقلت: يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ولا يجد شيئاً! وفي رواية أخرى لـ أحمد يقول: فلما وغلت في بطني -أي: الشربة- وعرف -أي: الشيطان- أنه ليس إليها سبيلٌ، ندمني، فقال: ويحك! ما صنعت؟ شربت شراب محمد، فيجيء ولا يراه، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك وفي رواية مسلم قال: ندمني الشيطان، فقال: ويحك! ما صنعت؟ أشربت شراب محمد فيجيء، فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، قال: وعليَّ شملة -أي: كساء يتغطى ويلتف به- إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي -أي: أن الذي عنده كساءٌ قصيرٌ لا يكفي، وهذا من فقره رضي الله عنه- وفي رواية أحمد: وعليَّ شملةٌ من صوف، كلما رفعتها على رأسي خرجت قدماي، وإذا أرسلتها على قدميَّ خرج رأسي، وجعل لا يجيء لي نومٌ وفي رواية مسلم: وجعل لا يجيء لي النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت -أنا الذي أجرمت وأذنبت، وأخذت شربة النبي صلى الله عليه وسلم- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فسلَّم كما كان يسلِّم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه، فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ فأهلك، حضرت ساعة الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، فلما سمع هذه الدعوة، قال: اغتنمت الدعوة -وذلك لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة- فعمدت إلى الشملة، فشددتها عليَّ -تأهب- وأخذت الشفرة -أي: السكين- فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها للرسول صلى الله عليه وسلم -مع أنها ليست ملكه- فجعلت أجتسها أيها أسمن) وهو يجتسها فوجئ بمفاجئة غريبة جداً، كان قد حلب الأعنز قبل قليل، وقسم اللبن وشرب نصيبه ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والعنز إذا حلبت تحتاج حتى يمتلئ ضرعها مرة أخرى إلى يوم، أو بعض يوم، فيقول: (فلا تمر يدي على ضرع واحدةٍ إلا وجدتها حافلاً -أي: ممتلئة باللبن، والحيوان كثير اللبن يقال له: حافل، والجمع: حفل- وإذا هنُّ حفلٌ كلهن -أي: كل الأعنز ممتلئة الضرع باللبن- فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم، ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه -إناء كبير- فحلبت فيه حتى علته رغوة -وهو زبد اللبن الذي يعلو اللبن بعد حلبه، يقال: رغوة، أو رِغوة، أو رُغوة، أو رُغاية، أو رِغاوة، كلها صحيحة- فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء اللبن، فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب -ما أجاب، هرب من الجواب- فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب، فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وفي رواية: فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب عليه الصلاة والسلام حتى تضلع صلى الله عليه وسلم، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، ضحكت حتى استلقيت على الأرض من الضحك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! -أكيد أنك فعلت سوءةً من الفعلات، هذه الضحكة ما وراءها إلا فعلة فعلتها وسوءة أقدمت عليها، فما هي؟ - قال: فقلت: يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا وفي رواية: فقال: ما الخبر؟ فأخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: هذه بركة وفي رواية: ما هذه إلا رحمةٌ من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك من أصابها من الناس) بعدما أصابتني البركة الآن وأصابتني دعوتك لا أبالي بعد ذلك شرب من شرب.

(10/2)

الفوائد المنتقاة من حديث المقداد

1 - هذا الحديث -ولا شك- فيه بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

2 - وفيه: معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أن هذه الأعنز كانت فارغة قد حلبت، والآن بعد فترة يسيرة جداً رجع اللبن إليها أكثر مما كان، فإحداث اللبن في غير وقته على خلاف العادة؛ هذه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي قصدها بقوله: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) وفي رواية قال: (هذه بركة) وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، لأنه رد الأمر إلى الله، لم يقل: هذا بسببي، وهذا بدعائي، وإنما قال: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) ولذلك إذا حصل للإنسان كرامة، أو حصل له شيء وفضل، فلا يقل: هذا بعرقي بذكائي بجهدي، وإنما يقول: هذا من الله وهذه فائدة عظيمة؛ أن أي فضل يحدث لك ونعمة تحدث لك، انسبها إلى المنعم، وقل: هذه من الله، وهذا من شكر النعمة؛ لأن شكر النعمة له صور كثيرة: أ- فمن شكر النعمة ألا تجحدها.

ب- ومن شكر النعمة أن تنسبها إلى الله.

جـ- ومن شكر النعمة أن تستخدم في طاعة الله.

د- ومن شكر النعمة أن تحدث بها ولا تكتمها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].

فشكر النعمة لها عدة طرق، وهذا منها: نسبة النعمة إلى الله سبحانه وتعالى.

3 - فيه: ما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من الجهد والمشقة والجوع، ومع ذلك تحملوا ما تحملوا في سبيل الله، لم يذهبوا يشتغلوا بالتجارة ويتركوا الدين والدعوة والعلم، وإنما كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

4 - وفيه: حِلم النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه، وكرم نفسه، وصبره.

5_ وفيه: إغضاؤه عن حقوقه، لم يقل: أين نصيبي من اللبن؟ بل قال: أشربتم شرابكم الليلة؟ ولو كان واحداً منا لقال: أين نصيبي؟ من الذي أخذ نصيبي؟ وربما سب ودعا على الذي أخذ نصيبه، كما يفعل بعض الناس إذا ذهب نصيبه؛ يدعو ألا يبارك لمن أخذه ولمن شربه، فمما نستفيد: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده كرم نفس وصبر، وكان يتغاضى عن حقوقه.

6 - وفيه: الدعاء للمحسن والخادم، ولمن سيفعل خيراً فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الإناء فارغاً، قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) وهذه الدعوة لمن سيطعمه ولمن سيسقيه، ولأنه ما رأى اللبن، فقال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) لعله يأتي أحد يطعمه ويسقيه، فدعا له، وهذا دعاء لمن سيفعل له معروفاً.

إذاً: الدعاء يكون لمن صنع لك المعروف في الماضي، أو لمن يصنع لك الآن، لكن هذا دعاء عجيب، هذا دعاء لمن سيصنع له معروفاً في المستقبل (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) في المستقبل.

لذلك لو قال أحد الناس: ما هو المبرر؟ لماذا أراد المقداد أن يذبح الأعنز؟ لأنه لما سمع الدعوة: (اللهم أطعم من أطعمني) ذهب يذبح ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام، وفسر لي شيخنا عبد العزيز هذه اللفظة: بأن المقداد لعله فعلها ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام؛ متأولاً راجياً بركة الدعاء لما قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني).

7 - وفيه: أن الإنسان إذا جاء إلى مجموعة ظاهرهم النوم، ولكن يحتمل أن بعضهم ما ناموا بعد، فإن طريقة السلام حينئذٍ أن يسلم بصوت متوسط لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان حتى يرد السلام، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

8 - وفيه: إشفاق الصحابي على نفسه، وخوف الصحابي على نفسه من أن يدعو عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تسبب له في شيء من الأذى في حرمانه من نصيبه وإبقائه على الجوع، ولذلك لما علم المقداد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد روي وأجيبت دعوته من شدة الفرح بزوال الغم الذي كان في صدره؛ ضحك حتى سقط إلى الأرض من كثرة ضحكه، لما ذهب من حزنه، وانقلاب هذا الحزن فرحاً وسروراً بشرب النبي عليه الصلاة والسلام، وشبع النبي عليه الصلاة والسلام، ودعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وإجابة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأن ذلك جرى على يد المقداد؛ لأنه هو الذي جاء إلى الأعنز فوجدها حفلاً، وهو الذي كان سبباً عندما شرب اللبن.

9 - وفيه: أن الشيطان يسول للإنسان فعل المعصية ثم يندمه عليها الشيطان لا يكتفي بأن يوقع الإنسان في المعصية، بل بعدما يحدث كل شيء يأتي الشيطان ويزيد الطين بلةً، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] فالشيطان لا يترك الإنسان حتى يقع في المعصية، وإذا وقع في المعصية كرَّ عليه مرة أخرى بالتعرض له بسيئات وسلبيات المعصية؛ حتى يركب الإنسان الهم والغم والحزن نتيجة ما حصل، فلا يكون عليه فقط سوء المعصية، وإنما عليه الهم والغم الذي حصل بعد ذلك.

10 - وفيه: أن المقداد عزا ما حصل إلى الشيطان وإلى تسويل نفسه، وأن الشيطان يضع الخطة، فإنه قال له: النبي صلى الله عليه وسلم عنده أصحاب، وعنده أكل، فما تأخر إلا وقد شرب وشبع وأكل، ولا زال بـ المقداد حتى جعله يشرب نصيب النبي عليه الصلاة والسلام.

11 - وفيه: تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وفطنته وفراسته؛ فإنه عندما نظر إلى المقداد وهو يضحك عرف أن في أمره شيئاً، وقال: (إحدى سوءاتك يا مقداد).

12 - وفيه: أن الإنسان إذا حضره خير لا ينسى أصحابه، ولا ينسى جيرانه؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمقداد: (أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)، وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يستيقظ الآخران ليشربا أيضاً.

13 - وفيه: تقاسم ما حضر مع الفقراء، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد الأعنز تقاسم حلبها مع هؤلاء الثلاثة الفقراء، والاقتسام هذا يجعل فيها بركةً وأجراً، وأن الشيء إذا كان محدوداً فلا بأس أن يعطى كل واحد قسطاً، يجعل له نصيب حتى لا يتعدى على نصيب الآخر (جزأ ألبانها بيننا أرباعاً) يجعل لكل واحد ربع خاص به، فيعرف ما هو له فيشربه ولا يتعدى على نصيب غيره.

14 - وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى المسجد صلى وهكذا لما دخل صلى ثم جاء إلى الشراب.

15 - وفيه: إكرام الصحابة والأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم بما كانوا يتحفونه به ويطعمونه ويسقونه رضي الله عنهم، وهذا من إكرامهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من الأسباب التي حصل لهم بها رضوان الله تعالى عليهم.

16 - وفيه: أن الإنسان إذا جاع وبلغ الجوع به غايته، فلا بأس أن يعرض نفسه على من يطعمه، وأن ذلك لا يجعله يأثم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم المسألة إلا لصاحب الحاجة، وأخبر أن الذي يسأل الناس من غير حاجة إنما يسأله خدوشاً في وجهه يوم القيامة، تأتي المسألة يوم القيامة في وجه صاحبها خدوشاً، وهذا إذا سأل وله ما يغنيه، أما هؤلاء الصحابة فإن الجوع بلغ بهم أن ذهبت أسماعهم وأبصارهم، اختلت الرؤية والسمع من شدة الجوع.

17 - وفيه: حمد الله سبحانه وتعالى على النعمة، وأن الإنسان إذا كان به جوع فلا بأس أن يزداد من الطعام، كما يحمل عليه الشبع الذي حصل في حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره.

18 - وفيه: أن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام مستجابة.

هذه بعض ما تضمنته هذه القصة اللطيفة من الفوائد.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الآخرة، وأن يجعلنا ممن يستعين بالدنيا على مرضاة الله عز وجل.

(10/3)

الأسئلة

(10/4)

حكم الاستمناء في نهار رمضان

السؤال

أنا شابٌ أعزبٌ ولم أتزوج لأني فقير، وفي يوم من أيام رمضان الحالي غلبت عليَّ نفسي، فأفسدت صومي بالاستمناء في نهار رمضان، فما هو الحكم في هذه الحالة؟

الجواب

لا شك أن إفساد الصيام جريمةٌ من الجرائم، وكبيرةٌ من الكبائر؛ لأن هذا الصوم لما فرضه الله عز وجل لا بد من الوقوف عند حدوده فيما فرض، وعدم انتهاك حدود الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث القدسي: (ويدع شهوته من أجلي) وبهذا استدل العلماء على تحريم الاستمناء متعمداً في نهار رمضان؛ لأنه قال: (ويدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) والشهوة تشمل الزوجة، وتشمل الأمة، وتشمل الاستمناء؛ كل هذا داخلٌ في الحديث: (ويدع شهوته من أجلي) ولذلك فهو حرامٌ مفسد للصيام، والشيطان بعدما يوقع الإنسان في المعصية يندمه ويقول له: انظر إلى المصيبة التي فعلت! حتى ربما يصاب باليأس من رحمة الله والقنوط، فمن فعل هذا فعليه: أولاً: أن يمسك بقية يومه؛ لأن حرمة الشهر وحرمة اليوم باقية في رمضان، وبعض الناس يقول: قد فسد الصيام، فيستمر في المعاصي، وهذا خطأ، فعليه أن يمسك بقية اليوم.

ثانياً: أن يقضي يوماً آخر بدلاً منه، وبما أنه ليس فيه وطءٌ، فليس فيه كفارة مغلطة: العتق، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، وإنما عليه قضاء يوم بدلاً منه.

ثالثاً: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وعمل ما يلزم من المكفرات، من الحسنات الأخرى، كصيام النوافل؛ لأن الإنسان إذا خرق صيام الفرض، فإن الذي يرقعه الإكثار من النوافل، وإذا خرق صلاة الفرض لا يرقعها إلا الإكثار من صلاة النوافل، وكذلك إذا خرق حجه بالرفث والفسوق والجدال، فيحج حجة نافلة ترقع ما انخرق من حج الفريضة، هذا بالنسبة لمن فعل ذلك.

(10/5)

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

السؤال

رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا نائمة، فهل هي رؤيا صحيحة؟

الجواب

لا نحكم لأحد أبداً أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً إلا إذا رآه بصفته، فإذا قال أحد: رأيته، فنقول له: صفه لنا، فلو قال: رأيته وعيناه عسليتان، نقول: لا، عيناه صلى الله عليه وسلم في شدة سواد مع شدة بياض، ولو قال: رأيتها صغيرة، نقول: ليست كذلك، ولو قال: رأيته أسود، أو حنطي اللون، نقول: لا، هو أبيض مشرب بالحمرة، ولو قال: رأيت شعره أجعد، نقول: لا، شعره لا سبط ولا أجعد، وإنما وسط، ولو قال: رأيته قصيراً، نقول: لا، هو بين الطويل والقصير صلى الله عليه وسلم، لا طويل مفرط في الطول ولا قصير، معتدل القامة، عريض ما بين المنكبين، عظيم المشاش التي هي فقرات الأصابع، ولو قال مثلاً: رأيته سميناً، نقول: لا، هو صلى الله عليه وسلم معتدل، لا بالسمين ولا بالنحيف، ولو قال مثلاً: رأيت لحيته قصيرة جداً، أو ليس له لحية، نقول: ليس هو؛ لأن لحيته صلى الله عليه وسلم كانت تملأ ما بين منكبيه، ولو قال: رأيت اللحية كلها بيضاء، نقول: لا، شعرات الشيب معدودة في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وفي لحيته، الصحابة ما تركوا شيئاً، حتى عدد الشعرات البيضاء في شعر النبي عليه الصلاة والسلام ولحيته كلها نقلوها.

إذاً: إذا رآه بصفته فهو هو بالتأكيد، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) لا يستطيع الشيطان أن يتمثل في صورة النبي عليه الصلاة والسلام الحقيقية، لكن يمكن أن يتمثل بصورة أخرى ويقول في المنام لصاحب الرؤيا: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، ونحو ذلك، لكن لا يستطيع الشيطان أن يتمثل بشكل النبي عليه الصلاة والسلام الحقيقي، ولو أمره بشرٍ -أيضاً- فليس هو صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر بالشر.

(10/6)

الجمع بين الصلاتين في السفر

السؤال

سوف أسافر في الطائرة في وقت الظهر، فماذا أفعل في صلاة الظهر؟

الجواب

إذا كنت ستصل إلى هناك في وقت العصر فاجمع جمع تأخير، وإذا أردت أن تصلي في الطائرة، كأن تطلع -مثلاً- بعد العصر، أو قبل العصر من هنا، كأن يكون الإقلاع الساعة الثالثة، فما استطعت أن تصلي العصر هنا، والطائرة ستصل هناك ربما بعد أذان المغرب، فعليك أن تصلي في الطائرة، لأن العصر لا تجمع إلى المغرب حتى نقول: تصليها إذا نزلت في مطار جدة مثلاً، فلا بد من المحافظة على الصلاة في وقتها، فالوقت أهم شروط الصلاة.

(10/7)

معنى قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)

السؤال

هل معنى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] أن أخبر الناس كم أملك من النقود؟

الجواب

قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] كأن يقول الإنسان: كنت ضالاً فهداني الله، وكنت فقيراً فأغناني الله، وكنت طالباً ليس عندي شيء فأعطاني الله سبحانه وتعالى وأكرمني، وكنت مريضاً فشفاني الله سبحانه وتعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ولا يلزمه أن يقول: أنا عندي في البنك كذا وكذا، ويقول: هذا من الإخبار بالنعمة، وإلا فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على نجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمةٍ محسود) معناه: أن الإنسان إذا خشي من حاسد فلا يتكلم في المجلس بما عنده من الأشياء والممتلكات حتى لا يصاب بعين هذا الحاسد، ويكون ذلك سبباً في تلف ماله، أو تلف ما عنده من النعم، هذا هو الوزن بين قضية {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وبين: (فإن كل ذي نعمةٍ محسود) يحدث الإنسان بنعم الله عليه، ولا يحدث بطريقة تستجلب حسد الحساد، كأن يقول: عندي كذا وكذا، ثم إذا عرض ممتلكاته، ربما يكون فيها شيء من الخيلاء والفخر والغرور، فإن بعض الناس قد يقول: هذا فلان عنده ما يكفي حفيده السابع، فربما تذهب كل أمواله في طرفة عين، فإن قارون ذهبت أمواله بطرفة عين {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] لا يزال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقد قيل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن (رجلٍ مسبلٍ يجر إزاره كبراً وخيلاءً وغطرسة، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل بها إلى يوم القيامة) قالوا: هذا قارون، خرج على قومه في زينته {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81].

(10/8)

وسوسة النفس ووسوسة الشيطان

السؤال

ما هو الفرق بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان؟

الجواب

النفس أمارة بالسوء، والشيطان يأمركم بالفحشاء، فكلها تجتمع في الأمر بالسوء، وربما يكون الاثنين جميعاً، وربما تكون وسوسة النفس فقط، ولو قال أحد الناس: حسناً! إذا كانت الشياطين مصفدة في رمضان، فمن أين هذه المعاصي؟ نقول: أولاً: المصفدة هي المردة وليس كل الشياطين.

ثانياً: لو كانت كل الشياطين مصفدة، فمعك النفس الأمارة بالسوء {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ولو كان كل الشياطين مصفدة المردة وغير المردة، فعندك شياطين الإنس يشتغلون ليلاً ونهاراً، هذه القنوات الفضائية هي من شياطين الإنس، والظاهر الآن أن الشيطان استراح، بعض الناس لا يحتاج إلى أن يشتغل معهم؛ لأن العمل مستمر تلقائياً، لا يحتاج إلى تدخل، وعندما جاء أحد الناس وقال لأحد علماء المسلمين: إن أحد الأحبار والرهبان يقول: إننا نحن اليهود لا نشعر بأي وسوسة في الصلاة، عندما ندخل الكنائس أو البيع!! فقال: وماذا يفعل الشيطان في البيت الخرب؟ هو كافر ومشرك، وكل الطقوس الذي يقوم بها في الكنيسة أو في المعبد شرك في شرك، فلا يحتاج الشيطان إلى أن يتعب نفسه، ماذا يفعل الشيطان في البيت الخرب؟ الشيطان يذهب إلى هؤلاء الموحدين ويؤذيهم في صلواتهم.

(10/9)

حكم استعمال الحقنة في الدبر في نهار رمضان

السؤال

هل الحقنة المائية في الدبر تفطر أم لا؟

الجواب

رجح شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الحقنة في الدبر لا تفطر، ومن العلماء من ذهب إلى أنها تفطر، ولكنهم قالوا: ليس هذا منفذ طبيعي لدخول الغذاء إلى الجسم، ولذلك فإنها لا تفطر.

(10/10)

الصلاة بوضوء مس المصحف

السؤال

إذا توضأت لقراءة القرآن فهل تصح الصلاة بهذا الوضوء؟

الجواب

إذا قصدت رفع الحدث والطهارة -وهذا الذي يقصده من أراد أن يقرأ القرآن ويمس المصحف- فإنه يجوز لك أن تصلي بهذا الوضوء.

والحمد لله رب العالمين.

(10/11)

قصة جريج العابد

هو رجل صالح من بني إسرائيل، قيل: إنه ان يشتغل بالتجارة، وأنه كان ينقص مرة ويزيد أخرى، أي: يربح ويخسر، فقال: ليس في هذه التجارة خير؛ لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، فجاء ذكر قصته على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، لما فيها من العظة والعبرة، وقد ذكر الشيخ الحديث بنصه ثم شرحه شرحاً موسعاً.

(11/1)

حديث جريج

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي بين أيدينا هي قصة مِن أنباء مَن قد سبق، قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهي قصة جريج الراهب، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم:4]، التي حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء عنه في الحديث الصحيح.

وهذه القصة رواها البخاري رحمه الله، ورواها الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وكذلك رواها الإمام أحمد رحمه الله.

ورواية الإمام مسلم رحمه الله تعالى، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي -أيهما أقدم؟ - فأقبل على صلاته، فانصرفت -أي: أمه- فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: أي ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال: أي ربِّ! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.

فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفْتِنَنَّه، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها -الراعي- فحملت.

فلما ولدت قالت: هو من جريج -الولد ولد الزنا من جريج - فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغي، فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبِّلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا.

أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا).

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا قصة المرأة التي كان معها الرضيع في هؤلاء الثلاثة؛ ولكن سنقتصر على قصة جريج؛ لأنها هي موضوعنا في هذه الليلة.

(11/2)

شرح حديث جريج

قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة): لقد نُقِل أن عدداً من الناس قد تكلموا في المهد، مثل: صاحب الأخدود، وغيره؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بحسب ما يعلم، وبحسب ما أوحي إليه في ذلك الوقت، هذا إذا صحت الروايات برابع أو خامس أو ما زاد عن هؤلاء الثلاثة المذكورين في الحديث: عيسى، والولد في قصة جريج، وكذلك ولد المرأة الذي كان يرتضع، ثم تكلم عندما تمنت أن يكون مثل فلان، ودعت ألا يكون مثل فلان.

فـ جريج رحمه الله كان في بني إسرائيل، وقيل: إنه كان رجلاً تاجراً في بني إسرائيل، وكان ينقُص مرة ويزيد أخرى، يعني: تجارته ترتفع وتنخفض، تربح وتخسر، فقال: ليس في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعةً وترهَّب فيها، وهذا يدل على أن جريجاً كان بعد عيسى عليه السلام، وأنه كان من أتباعه؛ لأن أتباعه هم الذين ترهبنوا وحبسوا أنفسهم في الصوامع.

والصومعة: بناء مرتفع محدد الأعلى، رأسه دقيق، كان رهبان بني إسرائيل يعتكفون فيها -في الصوامع- يعبدون الله.

وبينما كان جريج يتعبد في صومعته جاءته أمه، وفي العادة كانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فيكلمها فأتته يوماً وهو في صلاته، فنادته، ثم المرة التي بعدها صادف أن كان في الصلاة، فنادته، والمرة الثالثة نادته وكان في صلاة فقالت: أيْ جريج! أشرف علي أكلمك، أنا أمك، فكان يختار الإقبال على صلاته، احتار في البداية، أبى أن يجيبها، وقال في نفسه: (رب أمي وصلاتي) أي: اجتمع عليَّ واجبان، اجتمع علي إجابة أمي وإتمام صلاتي، فوفقني لأفضلهما، وفي رواية: (فصادفته يصلي فوضعت يدها على حاجبها فقالت: يا جريج! فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته -اجتهد واجتهاده أن يقبل على صلاته- فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي فقالت: يا جريج! أنا أمك فكلمني، فقال مثل ذلك) ثلاث مرات تناديه في كل مرة وهو يؤثر صلاته على أمه.

هو قال ذلك في نفسه؛ لأنه لا يتكلم في الصلاة، قال في نفسه: أمي أو صلاتي؟! ويحتمل أنه يكون نطق بذلك لأن الكلام عندهم كان مباحاً في العبادة، وكذلك كان في صدر الإسلام، ثم لما نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] امتنع الكلام في الصلاة، في ديننا كان الكلام في الصلاة مباحاً، فكان الرجل إذا جاء إلى الجماعة وجدهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ النبي عليه الصلاة والسلام آية، فيقول لمن بجانبه: متى نزلت هذه؟ أو هذه من أي سورة؟ ونحو ذلك، فيجيبه، فلما نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] امتنعوا عن الكلام في الصلاة، وحرم الكلام في الصلاة.

ويقول: وجاء في بعض الروايات: (لو كان جريجٌ عالماً لعلم أن إجابة أمه أولى من صلاته) لما صادف ثلاث مرات أن جريجاً لا يطيع أمه لما نادته ولا يكلمها لاشتغاله بالصلاة وترجيحه الصلاة على إجابة أمه، تضايقت الأم ودعت الله، فقالت: (اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات) وفي رواية: (حتى ينظر في وجوه المياميس).

وفي رواية: (حتى تريه المومسة).

وفي رواية: (فغضبت فقالت: اللهم لا يموتن جريج حتى ينظر في وجوه المومسات) المومسات: جمع مومسة، والمومسة هي: الزانية، وتُجمع على مواميس أيضاً.

ووقع في رواية: (قالت: أبيتَ أن تطَّلِع، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة).

بعد ذلك حدث أن بني إسرائيل الذين كانوا في بلده ومعه تناقشوا في عبادة جريج، وذكروا كيف كان يعبد ويطيل العبادة ويتفرغ للعبادة، وينقطع للعبادة، فقالت بغي منهم: (إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا -وكانوا قومَ بُهْت، كانوا قوماً فَسَقَة فَجَرَة، ما عندهم مانع أن تتعرض الزانية للعابد- قالوا: قد شئنا، فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راعٍ -راعي غنم- كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج) الراعي كان يؤوي الغنم إلى أصل صومعة جريج في الأسفل، فهذه المرأة لما لم يلتفت إليها جريج ولا تعرض لها، أمكنت نفسها من هذا الراعي، فزنى بها، ووقع عليها، وكانت تعمل الفساد، وظنت أنها تستطيع أن تفتن جريجاً، ولكن لم يتعرض لها ولم يلتفت إليها.

لما وقع عليها الراعي حملت فولدت غلاماً: (فأتت بني إسرائيل فقيل لها: ممن هذا؟ -ممن هذا الغلام؟ - قالت: من صاحب الصومعة -نزل إلي من صومعته-.

وفي رواية: فقيل لها: مَن صاحبك؟ -أي: الزاني؟ - قالت: جريج الراهب، نزل إلي فأصابني.

وفي رواية: فذهبوا إلى الملك فأخبروه، قال: أدركوه فأتوني به، فأتوه، فكسروا صومعته، وأنزلوه.

وفي رواية: فأقبلوا بفئوسهم ومساحيهم إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره فما شعر حتى سمع بالفئوس في أصل صومعته فجعل يسألهم: ويلكم! ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى، أخذوه وضربوه وسبوه، قال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه.

وفي رواية: فقالوا: أي جريج انزل، فأبى، يقبل على صلاته -مشتغلٌ بالصلاة- فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلاً وجعلوا يطوفون بهما في الناس، فقال له الملك: ويحك يا جريج! كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه.

وفي رواية: فجعلوا يضربونه ويقولون: مُراءٍ، تخادع الناس بعملك، قال: دعوني حتى أصلي، فتوضأ -وهذا دليل على أن الوضوء كان في الأمم مِن قبلِنا، وصلى ودعا الله تعالى -صلى ركعتين، ودعا الله تعالى- ثم أتى الغلام فطعنه بأصبعه في بطنه - جريج طعن الغلام بأصبعه في بطنه لكي ينتبه الغلام مع أن الغلام رضيع لا يفقه شيئاً- فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ قال الغلام: أنا ابن الراعي.

وفي رواية: ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ فقال: راعي الضأن.

وفي رواية: فأُتي بالمرأة والصبي وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام! من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي وقال: أبي راعي الضأن -فيُحمل هذا على أنه مسح برأس الصبي أولاً، ووضع إصبعه، طعن بإصبعه في بطنه، وسأله بعد ذلك- فنطق الغلام فأبرأ الله جريجاً، وأعظم الناس أمر جريج، فسبح الناس وعجبوا، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا.

إلا من طين، ابنوها طيناً كما كانت.

وفي رواية: قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا.

ولكن أعيدوه كما كان.

وفي رواية: فقال له الملك: نبنيها من ذهب؟ قال: لا.

قالوا: من فضة؟ قال: لا.

إلا من طين.

وفي رواية: فردوها كما هي فرجع في صومعته، فقالوا له: بالله مِمَّ ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها أمي).

(11/3)

فوائد حديث جريج

في هذا الحديث:

(11/4)

إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع

إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع إذا نادته أمه: الواحد منا إذا نادته أمه أو ناداه أبوه، وهو يصلي صلاة نافلة، فإن كان يعلم أن أمه ستغضب إذا لم يجبها فإنه يقطع الصلاة ويجيبها، وإذا علم أنها تتحمل لو أتمها خفيفة، أتم النافلة خفيفة وأجاب أمه وأباه وإذا كانت صلاةَ فريضة خَفِّفْ الفريضة، قَصِّر القراءة والركوع والسجود ثم سلم وأجب أمك أو أباك.

إذاً: يؤخذ من هذا الحديث: - تقديم إجابة الأم على صلاة النافلة، وإذا أمكن التخفيف فليخفف ثم يُجب.

- الفرض يخففه ويجيب أمه.

(11/5)

تقدير شعور الأم

ثانياً: أن الأم تشتاق إلى ولدها فتزوره وتقتنع برؤيته وتكليمه وأن مناها في رؤية ولدها هو الكلام والحديث إليه: ولذلك فينبغي على الابن أن يقدر شعور الأم، ولا يقول: وماذا يفيدها النظر إلى وجهي؟! وماذا يفيدها الكلام معي؟! فنقول: هذا قلب أم والأم تشتاق إلى ولدها، وتحن إليه، وهي متعلقة به، ورؤياه عندها تساوي الدنيا وما فيها، وحديثها إلى ولدها جد مهم بالنسبة لها، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يقدر شعور أمه.

وبعض الناس إذا كبروا وانشغلوا بالحياة والوظائف والسفر من بلد إلى بلد، أصبحوا لا يقدرون شعور الأم، وربما لا يقدر إلا إذا صار أباً أو صارت البنت أماً في المستقبل، فتتذكر وتقول: رحمة الله على أمي، أو رحم الله أمي، كانت تقنع بنظرة وتريد الرؤيا واللقيا والكلمة، فعند ذلك يحس الإنسان بشعور الأب أو الأم إذا صار هو أباًَ أو صارت هي أماً.

ولذلك ينبغي أن ينتبه قبل فوات الأوان، وأن الإنسان لو طلبَت منه أمه أن يأتي إليها، كأن تتصل به من بلدها وهو -مثلاً- من الجنوب ويسكن في الشرقية، أو كانت أمه في مصر وهو يعمل هنا، فطلبت منه أن يأتي لرؤيتها، فلا يقل: أنا أين وهي أين! أنا في شغل وأشغال مهمة وهي تريد رؤيتي! وماذا تستفيد من رؤيتي؟! فنقول: الأم هكذا قلبها، معلق بولدها، تريد رؤيته والحديث إليه، وتقر عينها عندما يكون ولدها عندها، ولذلك لا يقول الإنسان: أسافر الآن من أجل أمي؟! فنقول: إذا كان السفر ممكناً ولا يضرك فسافر من أجلها والقَها وانزل إليها ومُرَّ بها فإن في ذلك البركة.

ولذلك فإن الإنسان إذا كان عند والديه في البلد لا أقل من أن يمر بهما يومياً من الباب ويسلم عليهما، وأن يحييهما في المساء، أو في الصباح تحية، والرؤيا فيها فائدة عظيمة للأم، فلا يصح أن تُفَوَّت عليها بحال.

(11/6)

كراهية دعاء الأم على ولدها بشر

الفائدة الثالثة من فوائد الحديث: أن الأم لا ينبغي أن تدعو على ولدها بشر: لأن دعاء الأم مستجاب، ولو دعت عليه بشر ربما وقع ذلك فتتأسف وتقول: يا ليتني لم أدعُ عليه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11] من رحمة الله أنه لا يستجيب لنا كل دعاء دعونا به على أنفسنا أو على أولادنا، ولو أن الله يستجيب لنا كل دعاء ندعو به على أنفسنا أو أولادنا لهلكنا وهلك أولادنا منذ زمن بعيد، ولكن قد توافِق الدعوة وقت استجابةٍ وسماءٍ مفتوحةٍ فيقع المكروه بسبب الغضب والاستعجال.

ولذلك فإنه لا ينبغي للأب أو الأم الدعاء على الولد، إنما يدعو للولد بالهداية والصلاح.

ثم إن أم جريج كان دعاؤها أن يجري على ولدها ما يؤدبه، دعت دعاء خاصاً، ما دعت عليه بأن يقع في الفاحشة، وما دعت عليه بأن يقتل ويموت، دعت عليه بأن يريه الله وجوه المومسات، حتى ينتبه ويعي ويرجع ويعرف قدر الأم ودعوة الأم إلى أين تصل.

(11/7)

دعوة الوالدة على ولدها مستجابة

والفائدة الرابعة: أن دعوة الوالدة مستجابة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة الوالد لولده ودعوة الوالد على ولده كلاهما مستجاب).

(11/8)

صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن

والفائدة الخامسة: أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن: فنلاحظ أن جريجاً لما كان متفرغاً للعبادة مقبلاً على الله كان صاحب قلب قوي، وإيمان سوي، ولذلك ما ضرته المرأة لما تعرضت له، والإنسان لو كان إيمانه ضعيفاً، فدعته امرأة وهي ذات جمال ربما يقع، لكن عندما يكون الإنسان صاحب دين وصاحب عبادة، ليس فقط لا يقع، وإنما لا يلتفت أصلاً، ولذلك جاء في القصة أن جريجاً رحمه الله تعالى لم يلتفت إليها، قال في الحديث: (وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له فلم يلتفت إليها) فلم يلتفت، فالإنسان إذا كان صاحب دين قوي عصمه الله من الفتن.

(11/9)

سد الذرائع

سادساً: سد الذرائع: لا يكفي أن الإنسان ينظر بعينه ويقول: لا.

أنا أخاف الله رب العالمين، وإنما لا يلتفت أصلاً.

فيستفاد من القصة: غض البصر، وأن الدفع أسهل من الرفع، يعني: إذا دفعتَ عنك المنكر من أوله، فقد قطعت الطريق من أوله، وذلك أسهل من أن تتمادى فيه ثم تريد أن تخرج، نضرب مثالاً: لو أن إنساناً معه فرس، فأراد الفرس أن يدخل في دهليز ضيق، لو أنه منع الفرس من دخول هذا الدهليز الضيق لسهل عليه توجيه الفرس إلى أي جهة يريد؛ لأنه لم يدخل بعد، لكن إذا دخل الفرس في الدهليز الذي لا يكاد يتسع لدخول فرس واحد فما رأيكم بسهولة إخراجه؟! يصعب على الفرس أن يلتفت يميناً، وشمالاًَ؛ لأن رأسه صار إلى الداخل، وكذلك إذا توجه الشخص فالخروج صعب، وكلما أوغل في هذا الدهليز، يصعب إخراجه أكثر وأكثر.

ولذلك إذا منعه من الدخول كان توجيهه أسهل ما يكون، أما إذا دخل فإن توجيهه من أصعب ما يكون.

ولذلك ينبغي قطع الطريق عن الوقوع في المعصية من أولها بمسألة غض البصر.

فإن قال لك قائل: هذه الشهوات طرائق وسبل، على كل سبيل شيطان، يدعونا للدخول في هذه الشهوات.

ما هي الطريقة لكي ننقذ أنفسنا من الشهوات، فلا نستجيب للشهوات، ولا نتأثر بها، ولا نجري وراءها، ولا تستقر في نفوسنا وقلوبنا، ولا تتشرب قلوبنا هذه الشهوات؟ نقول: أسهل طريقة أن تغض بصرك، ولذلك الأعمى من منة الله عليه في كثير من الأحيان أنه لا يرى، يعني: لا يُفْتَن بالنظر؛ لأنه لا يرى، والمبصر مبتلى بالنظر، ولذلك كلما قوي الإيمان كان حجز النفس عن المعصية أقوى، ولذلك جريج لم يلتفت إليها أصلاً.

(11/10)

الفزع إلى الصلاة عند حدوث المكروه

الفائدة السابعة: الفزع إلى الصلاة عند حدوث المكروه: فإن جريجاً لما ضربوه وسبوه وشتموه واتهموه بأنه هو الذي زنى بالمرأة قال: (دعوني أصلي) فصلى حتى تقوى الصلة بالله، ويكون الدعاء أحرى بالإجابة، ثم دعا الله.

وهذا فيه تأكيد وإعادة لما سبق استخراجه من أحاديث متقدمة وقصص: أن الفزع إلى الصلاة عند الملمات من الأمور المهمة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، (كان إذا حزبه أمر صلى)

(11/11)

قوة اليقين والرجاء بالله تعالى

الفائدة الثامنة: قوة اليقين والرجاء بالله تعالى، وأن الإنسان إذا كان يقينه بالله قوياً خرق الله له العادة: وقد انخرقت العادة من قوة يقين جريج قال: (يا غلام! من أبوك؟) ما أنزل عليه وحي بأن الغلام سينطق: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة:60]! {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]! لا.

هو أقبل عليه وقال: (يا غلام! من أبوك؟) بكامل اليقين بالله والتوكل على الله، فأنطق الله الولد، وانخرقت العادة بقوة إيمان جريج ويقينه بالله تعالى، ولولا صحة رجاء جريج بالله وتعلقه به ورجائه من الله أن ينقذه ما نطق الغلام، ولكن لصحة رجاء جريج نطق الغلام.

(11/12)

إثبات كرامات الأولياء

تاسعاً: إثبات كرامات الأولياء: وقد مر معنا هذا سابقاً، إثبات كرامات الأولياء، وجريج من أولياء الله، ومن كرامات جريج نُطْق الغلام ببراءته.

(11/13)

بعد كل شدة مخرج

عاشراً: أن الله يجعل لأوليائه عند الابتلاء مخارج:-

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجت وكنت أظنها لا تُفْرَجُ

ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرجُ

فإذا استحكمت حلقاتها وضاقت يأتي الفرج، متى يأتي الفرج؟ حين يظن الشخص أنه لا حيلة، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] فيأتي الفرج عندما تضيق الأمور وتصل إلى القمة في الشدة، وعند ذلك يأتي الفرج، ضربوه وشتموه وسبوه وكسروا صومعته واتهموه وبعدها جاء الفرج.

(11/14)

إذا تعارض أمران بدئ بأهمهما

والحادي عشر: إذا تعارض أمران بُدِئ بأهمهما: إذا تعارض عندك أمران ولا تستطيع أن توفق بينهما، تبدأ بالأهم.

تؤخذ هذه القاعدة من قول جريج في الحديث: (أمي أو الصلاة).

قلنا: إن الإنسان إذا كان في فريضة خففها.

وإذا كان في نافلة: فإن كان تخفيفها لا يغضب أمه خففها وأتمها وأجاب.

وإن كانت تغضب أمه قطعها.

فإذا علم تأذي الوالد وجب عليه الترك وإجابة الوالد، وإلا فالأصل إتمام الصلاة، يقول الله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فالإنسان لا يقطع الصلاة لأي سبب ويمشي، وإنما إذا وُجِد سبب قوي قطع الصلاة، وإذا لم يجد سبباً أقوى من الصلاة فيستمر في الصلاة، ولا يبطل عمله؛ لأن الصلاة تلزم بالشروع، يعني: إذا كبرت تكبيرة الإحرام وجب عليك إتمامها، مثل الحج والعمرة إذا أحرم الإنسان وجب عليه الإتمام لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] حتى لو كان نفلاً يجب عليه أن يتمه، فالصلاة إذا دخل الإنسان فيها ولو كانت نافلة فإنه يجب إتمامها؛ لأن قطعها فيه دلالة على اللامبالاة بالدين وبأمره، ولو كانت نافلة، ما دام أحرم بها يجب عليه أن يتمها، ولذلك قال العلماء: تلزم بالشروع.

هل هذا الحكم -كما قلنا- يختص بالأم؟ ذهب إلى ذلك بعضهم، ولكن الصحيح أن الأب والأم في هذا الحكم سواء.

فإذاً: نرجع إلى القاعدة وهي: إذا تعارض عندك أمران فإنك تبدأ بالأهم.

مثال آخر: إذا شرعت في نافلة اللحظة وأقيمت صلاة الفرض: هذا تعارض ولا يمكن أن تتم الفرض وتتم النافلة وقد أقيمت الفريضة، فعند ذلك ماذا تفعل؟ تقطع النافلة بالنية، بدون تسليم، وتدخل مع الإمام في الفريضة؟ مثال آخر: حلول الدين والحج: فإذا صار الإنسان مطالباً بالدين يقدم الدين على الحج؛ لأن الحج يجب عند الاستطاعة، وحيث أنه مطالبٌ فلا استطاعة.

وإذا تعارض الزواج والحج فأيهما يقدم؟ فيها تفصيل: إذا كان يخشى العنت، ويخشى الوقوع في الإثم، أو في الحرام، ففي هذه الحالة يقدم الزواج.

أما إذا علم من نفسه أنه يستطيع أن يصبر فيقدم الحج.

مثال آخر على التقديم إذا تعارض أمران: الجهاد وبر الوالدين: يقدم بر الوالدين، ولا يذهب للجهاد إلا بإذنهما، لكن إذا دهم العدو بَلَدَه وجب عليه الخروج للجهاد ولو ما أذن الوالدان؛ لأن هذا أهم، في الحالة الأولى كان بر الوالدين أهم، وفي الحالة الثانية أصبح الجهاد أهم.

إذاً: هناك حالات تتغير الأمور فيها، في نفس القضية الحكم يتغير بحسب الحال.

مثال آخر على تعارض أمرين، وتقديم الأوجب! لكن كيف نتصور التعارض؟ مثال: امرأة عليها من رمضان عشرة أيام، وولدت في العشرين من رمضان، وطهرت في العشرين من شوال، ولو أنها أرادت أن تقضي الصيام لا يتوفر لها ستة أيام من شوال؛ لأن القضاء سيأتي على بقية الشهر، ولو قدمت صيام ستة أيام من شوال لقدمت النفل على الفريضة.

في هذه الحالة ماذا تقدم؟ تقدم الفريضة؛ لأن الوقت لو كان مُتَّسِعاً لقلنا لها: صومي عشرة أيام قضاء أولاً، ثم صومي ستاً من شوال.

لكن الشهر لم يبق منه إلا عشرة أيام فتقدم إذاً صوم رمضان.

ثم إن الأجر في الحديث مقيد: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال) فلا بد أن يستوفي أول شيءٍ عدة رمضان كاملة، ثم يصوم ستاً من شوال، وليس: (مَن صام عشرين يوماً من رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال)! فيشترط استيفاء رمضان كله.

مثالٌ آخر! الصلاة ومدافعة الأخبثين، وكذلك إذا حضر العِشاء والعَشاء: إذا حضر العِشاء والعَشاء فيقدم العَشاء وليس هذا دليلاً على أن الأكل أهم من الصلاة، لا.

لكن الخشوع أولى من عدم الخشوع.

فإذاً: صلاة بخشوع مقدمة على صلاة بغير خشوع.

وكذلك يقدم قضاء الحاجة على الصلاة.

مثال آخر: رجل اكْتُتِب في غزوة وامرأته قد ذهبت للحج بغير محرم فكيف يصنع؟ عليه أن يلحق بامرأته؛ لأن هذا أهم وأوجب وأولى من ذاك، وقد يغزو غيرُه؛ ولكن زوجته هو المحرم الوحيد لها.

وكذلك لو تعارض -مثلاً- إنقاذ نفس معصومة مع الصيام: فيقدم إنقاذ النفس المعصومة، ويقضي بعد ذلك هذا اليوم.

المهم أن هناك أمثلة عديدة يتعارض فيها واجبان مع بعضهما البعض، فيقدم الإنسان الأهم، لكن هذا يعتمد على ماذا؟ على الفقه؛ كيف يعرف الأهم؟ هنا السؤال، إدراك التعارض ممكن، يعني: قد يدرك بعض الناس التعارض، لكن ما هو الأهم؟ وكيف تعينه؟ هذا يحتاج إلى علم، ويحتاج إلى فقه.

(11/15)

جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه القدرة على ذلك

الفائدة الثانية عشرة: جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه القدرة على ذلك: فمثلاً الانقطاع للعبادة إذا كان الإنسان سيصبر ولا يسأل الناس، ويكتفي بالقليل ويقنع بما عنده، وما عنده يكفيه لو أن إنساناً تصدق بماله كله في سبيل الله، ما هو الحكم؟ جائز، وكيف لا يجوز وقد فعله أبو بكر الصديق؟!.

نقول: إذا كان يطيق ويصبر، يتصدق بماله كله، أما أن يتصدق بماله كله اليوم، وغداً نلقاه عند باب الجامع، فهذا لا يمكن، ولم يفعل الشيء المستحب ولا الأفضل.

فإذا كان سيصبر ويقينه بالله قوي، وأن الله يرزقه غداً أو بعد غدٍ، وأنه لو جاع اليوم ستنفرج غداً، فيتصدق بماله كله لا مانع، قال أبو بكر: [أبقيت لهم الله ورسوله] هو نفسه قال: [أبقيت لهم الله ورسوله] فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت، وأقر على ذلك؛ ولكن قال لـ كعب بن مالك: (أمسك عليك بعض مالك) لما نذر أن يتصدق بماله كله اكتفى منه بالثلث.

(11/16)

مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة

الثالثة عشرة: أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة: ولذلك ضربوه وسبوه وشتموه وكسروا صومعته، ولكن كان بريئاً، لكن لو عُثِر عليه وهو يرتكب الفاحشة فيشتم ويُسَب ويُضْرَب ويُهان ويُذَل؛ لأنه ارتكب فاحشة.

(11/17)

ابن الزنا ينسب لأمه

الرابعة عشرة: أن ابن الزنا في شريعتنا ينسب لأمه، وفي شريعتهم الله أعلم ماذا كان الأمر: هو قال أنه ابن الراعي، قال: (يا غلام! من أبوك؟ قال: الراعي).

ويُحتمل أن يكون تجري بينهم أحكام الأبوة والبنوة، ولكن في شريعتنا لا يُنسب الولد للزاني وإنما يُنسب للزانية.

(11/18)

اتخاذ مكان للعبادة

الفائدة الخامسة عشرة: اتخاذ المكان للعبادة: لو أن إنساناً جعل في بيته مكاناً نظيفاً هادئاً طاهراً يصلي فيه، فهذا أمر طيب، ولا بأس بذلك.

(11/19)

جواز التفكير أثناء الصلاة في أمرٍ مشروع

الفائدة السادسة عشرة: أن الإنسان قد تتنازعه مسألة علمية وهو في الصلاة، قال: (يا ربِّ! أمي وصلاتي)، (أيْ ربِّ! أمي وصلاتي) فلا بأس أن يفكر بجوابها إذا كان لا بد أن يخرج بقرار الآن وهو في الصلاة، مثل أن يتردد هل يسجد للسهو أو لا، وجلس يفكر في الصلاة، هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ وظل يتذكر أقوال العلماء ونحو ذلك، فهذا لا يضر بالصلاة؛ لأنه من مصلحة الصلاة.

(11/20)

دعاء الله بالتوفيق والصواب

الفائدة السابعة عشرة: أن الإنسان المسلم يحتاج أن يدعو ربه بالتوفيق للصواب؛ لأن جريجاً قال: (أيْ ربِّ! أمي وصلاتي) فالإنسان إذا تعارضت عنده مسألتان أو قولان أو رأيان ولم يدر أيهما أصوب، ماذا عليه أن يفعل بالإضافة إلى البحث والسؤال؟ أن يسأل الله أن يوفقه للقول الصواب، (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) هذا الدعاء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، يدعو الله عز وجل، وهو النبي الذي يوحى إليه وهو أرجح الأمة عقلاً، وأعلمها بما علمه الله ومع ذلك يقول: (اهدني لما اختلف فيه) لاحظ! سبحان الله! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) نحن أولى؛ لأن الأمور تختلف علينا أكثر بكثير، فأولى أن نسأل الله إصابة الصواب.

وكان شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي رحمه الله تعالى إذا استشكل عليه الأمر، وصَعُب عليه يقول: يا معلم إبراهيم! علمني، ويا مفهم! سليمان فهمني، ولا زال يلح على الله ويدعو الله عز وجل حتى تنجلي له المسألة.

فأحياناً لا تكفي قضية البحث والتمعُّن وإمعان النظر، فإذا لم يأت من الله عون لا يمكن للإنسان أن يدرك الراجح.

(11/21)

وجود الحسدة في كل زمان ومكان

الفائدة الثامنة عشرة: أن هناك حَسَدَة.

بنو إسرائيل لما تذاكروا جريجاً وعبادته حسدوه، والبَغِيُّ لما قالت: (إن شئتم لأفْتِنَنَّه! قالوا: شئنا) {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] فحسد الصالحين على صلاحهم شيء موجود، وبعض الناس يُحْسَدون على أموالهم، ويُحْسَدون على ثيابهم، وعلى سياراتهم وبيوتهم، يعني: حسد على الدنيا، وبعض الناس يُحْسَدون على دينهم، فإن كان حسداً بمعنى الغبطة، يعني: أن يتمنى الإنسان أن يكون عنده إيمان قوي وعبادة مثل ما عند فلان من العباد، أما إن كان حسداً كأن يتمنى أن هذا الصالح يُفْتَن ويَضِل، كما قال بنو إسرائيل للبغي: (شئنا) يعني: تعرضي له، فهذه من المصائب، وهي موجودة، وقد يُبْتَلى بها بعض عباد الله الصابرين، يبتلون بمن يريد أن تزول عنهم الهداية، أن تزول عن هذا العابد الهداية وعن طالب العلم العلم، والعياذ بالله، فليس إلا الصبر والاعتصام بالله عز وجل.

(11/22)

وجود من يستغل إمكانياته في إضرار الناس

الفائدة التاسعة عشرة: أن بعض الفجرة يستعملون إمكاناتهم في إضرار الناس: انظر إلى المرأة هذه، فهي تستطيع أن تفجر مع أي إنسان، يعني: الباب مفتوح، تذهب إلى الراعي مباشرة من غير شيء؛ لكن قد يستجريها الشيطان ويجعلها تتفنن وتريد إضلال الإنسان التقي، يعني: هناك بعض الفاجرات يمكن أن تتخصص وتوجه جهودها لفتنة الصالحين، فالمسألة عندها ليست فقط مسألة قضاء وطر وشهوة مع فاجر مثلها وتنتهي القضية وإنما قضية كيد أيضاً.

(11/23)

كيد النسوة عظيم

الفائدة العشرون: أن كيد النسوة عظيم: والدليل على هذا أن هذه البغي خططت وذهبت إلى راعٍ يأوي إلى صومعة جريج، ما ذهبت إلى شخص بعيد، لا.

بل إلى راعٍ عند صومعة جريج، وأمكنته من نفسها، وأتت بالغلام بعد ولادته، ومرت به عند بني إسرائيل وقالوا: من أبوه؟ قالت: ذاك الرجل الذي في الصومعة، يعني: كأنها لا تعرف اسمه، فهذا من كيدهن، (إن كيدهن عظيم) وإذا استخدمت المرأة كيدها في الشر، فإنها تأتي بما لا يستطيعه الرجال طبعاً، مع أنها ضعيفة؛ لكن إذا كادت ابتعد عنها.

فهذه المرأة كادت له لتغويه، وتعرضت له، أول شيء قامت به أنها تزينت وتعطرت وتجملت وكشَفت وتعرضت له، يعني: وقفت في مكان يراها.

ولما لم يلتفت إليها انتقلت إلى الخطة رقم [2] أمكنت نفسها من الراعي، ولما حملت وولدت جاءتهم، ما قالت: أنا أحمل جنيناً، لا.

وإنما انتظرت حتى تلد، وهذا كله من أجل الكيد لهذا الرجل الصالح وتشويه سمعته.

وهذه القضية من القضايا المعاصرة، أن بعض الفاجرات تريد تشويه سمعة داعية أو رجل صالح، أو كذا، فتسارع إلى اتهامه، وتخطط لإيقاعه في حبائل الشر، فعلى الصالحين أن يحذروا، ولا يكون الإنسان مغفلاً.

حكى لي شخص قال: اتصلت بي فتاة، فأغلقت السماعة، ثم اتصلت مرة أخرى فأغلقت السماعة، وفي المرة الثالثة قالت: أيقظنا الفجر، فانظر إلى المداخل، المدخل هو الشيطان: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] والخطط يعني: مكر الليل والنهار، شيء متواصل، يدخلون من باب العبادة، أيقظني الفجر! وكذلك لو قالت مثلاً: لماذا لا تأتي إلى وتصلح بيني وبين زوجي؟! مَن التي دعته؟ هي التي دعته، إذاً هذا فخ، فالإنسان لا يذهب، ويكون مغفلاً! ويدخل، ويقول: أريد الإصلاح بين المتخاصمَين، ويقول في نفسه: هذه عبادة! انظر! المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح، لما جاءت إلى موسى ماذا قالت له؟ هل قالت: تفضل معي، أريدك في موضوع؟ لا.

وإنما قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] من هو صاحب الدعوة؟ أبوها، ما هو السبب؟ ليجزيك أجر ما سقيت لنا، إذاً جاءت بكل وضوح، لو كان الرجل الصالح قادراً على الإتيان لأتى، لكنه كبير في السن وعاجز، فجاءت البنت، ما قالت له بوقاحة وقلة حياء: تعال معي، أريدك في موضوع، تفضل عندنا في البيت بل قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25] ولِمَ الدعوة؟! ما هو الهدف؟! حتى يكون كل شيء واضحاً! {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ولذلك قيل: إنه لما مشى وراءها وهبت الريح قال: سيري خلفي وانعتي لي الطريق، أو قال: ارمي بحصاة، يعني: إن كنت تريدين مني أن ألف يميناً ارمي الحصاة يميناً، وإن تريدين أن ألف شمالاً ارمي الحصاة شمالاً، حتى لا يراها ولا يسمع شيئاً.

وينبغي أن أقول: هذا درس مهم جداً؛ لأن هذه سبب مصائب كبيرة، أن الإنسان لا يُسْتَدْرج إلى الفخ الذي تنصبه الفاجرة، ثم تلبسه التهمة فتقول: هو الذي تعرض لي، هو الذي جاءني، مع أنها هي التي جاءته، لكن تقول: هو الذي جاءني.

وكذلك هناك من الشياطين من الرجال من يوقعون النساء بطرق ملتوية، وربما يزينون لهن الفجور، وكما أن المرأة تكيد للرجل فكذلك الرجل أيضاً كما هو مُشْتَهَر الآن، ويُسجل لها مكالمات ويهددها بإرسال الأشرطة إلى أبيها حتى تعطيه مفتاح البيت، وغيرها من القصص التي تسمعونها.

لكن المقصود: أن الإنسان يحذر أن يُسْتَدْرَج، ثم لو أنه وقع في أول الفخ لا يكمل الطريق؛ لأن العودة أسهل من الفضيحة التي ستكون بعد ذلك، سواء كان في الدنيا عندما يستفحل الأمر ويصل إلى الفاحشة والعياذ بالله، أو في الآخرة.

(11/24)

حرمة بناء المساجد من ذهب أو فضة

الفائدة الواحدة والعشرون: أن أماكن العبادة لا يجوز أن تكون من ذهب أو فضة أو أشياء تلهي الناس: يجب أن تكون بسيطة ما فيها تكلف ولا زينة ولا زخرفة ولا نقوشات ولا ألوان ولا كتابات.

فتتعجب من محاريب بعض المساجد مكتوب فيها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] من هو الذي في المحراب؟ مريم أم إمام، هذا الرجل الذي في المحراب؟! ما هي علاقة الآية بالمحراب الذي في المسجد؟! أولاً: الكتابة في المساجد وزخرفتها حرام وتضييع الأموال فيها حرام فبعض المساجد لا يحنث الإنسان إذا حلف أن قيمة الزخرفة التي فيها يمكن أن تبني بها عشرة مساجد في بعض دول المسلمين الفقراء.

(11/25)

ابتلاء الله للأولياء

الفائدة الثانية والعشرون: أن أولياء الله يبتلَون: كما ابتلي جريج بالضرب والسب وكسر بيته أو مكان عبادته.

وقد ابتلي بعض العلماء بحرق مكتبته.

وابتلي بعض الصالحين بأشياء كثيرة، أنواع من الابتلاءات يُبتلى بها الصالحون.

وقد كان ابتلاء جريج ابتلاء مادياً ومعنوياً، وذلك بأنهم كسروا صومعته وضربوه وشتموه وسبوه.

(11/26)

الحُسن قد لا يأتي بخير

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الحُسْن قد لا يأتي بخير، الجمال يمكن أن يكون نقمة على صاحبه، قال في الحديث: (وكانت امرأة بَغِيٌّ يُتمَثَّل بحسنها) يعني: يُضْرَب المثل بجمالها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين) والمرأة قد تكون جميلة؛ يمكن أن يوقعها الحسن والجمال في المعصية والفاحشة، وتكون هدفاً تُسْتَهْدَف، وبالتالي تقع، ولذلك الإنسان يكون حكيماً ولا يجري وراء الجمال، لا بد أن يكون الأساس هو الدين، وإن حصل الجمال فالحمد لله نعمة إلى نعمة، لكن إن تعارض الجمال والدين أيهما الأولى؟ تعارض الأولويات، فيقدم الدين بطبيعة الحال.

فالجمال قد يكون نقمة على صاحبه، وربما يكون إنسانٌ معرضاً للوقوع في الفواحش، وربما يستهدف من قبل الآخرين إذا كان عنده جمال، بينما إذا كانت خلقته عادية أو قبيح المنظر لا يتعرض له أي أحد، ولذلك الجمال ربما يكون نقمة وأحياناً قد يكون عدم الجمال نعمة في بعض المواضع.

(11/27)

تمسح الجهلة بالأولياء

وكذلك من فوائد الحديث: أن الجهلة إذا رأوا أمامهم كرامة يتمسحون بصاحبها: فإنه قال في الحديث: (فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به).

فيجب على الإنسان لو حصل منه شيء من ذلك ألا يفتح المجال لقضية التمسح وأن يبعد هؤلاء، ولكن قد يغلبونه بسبب كثرتهم، ولكن ينبغي أن يبين لهم الحكم وأن البركة من الله.

بعض الناس يتمسح بشخص ويقول: بركاتك يا سيدنا الشيخ، والبركة من الله، وليست موجودة في فلان ولا فلان، فمن هو مصدر البركة؟ الله عز وجل.

ثم قد يجعله الله في ماء زمزم؛ فيكون ماءً مباركاً.

وقد يجعله في ماء السماء؛ فيكون ماءً مباركاً.

وقد جعله في البيت الحرام؛ فكان بيتاً مباركاً.

وقد يجعله في بقعة؛ فتكون بقعة مباركة، مثل المسجد الأقصى وما حوله في بلاد الشام.

وقد يجعله في نوع من الطعام؛ {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور:35].

وكذلك قد يجعل الله البركة في أشياء قليلة فيكون القليل منها يكفي الكثير.

لكن مصدر البركة من الله، الناس ليسوا هم مصدر البركة، وإنما البركة من الله؛ لأن الكثرة والنماء والزيادة من الله، لأنها أشياء غير محسوسة، يعني: أنها لا تحس وإنما ترى نتائجها وآثارها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (البركة وسط الطعام فكلوا من أطرافه) يأتي رجل ويقول: أنا أريد البركة، فيأكل من وسط الطعام، كل من حوافه؛ فإن البركة تنزل من الوسط على الجوانب؛ فإذا أذهبتَ الوسط ما الذي سينزل؟

(11/28)

تواضع العابد

ومن الفوائد كذلك تواضع العابد: فإنه قال: (أعيدوها من طينٍ كما كانت) ما قال: أريد تعويضاتٍ، وذهباً وفضةً، وأريد أمولاً، وما قال: ردوا اعتباري، قبِّلوا يديَّ، تمسحوا بي، ابنوها ذهباً، ما فعل ذلك، وإنما قال: فقط أنا عندي مطلب: (أعيدوها من طين كما كانت) وهذا يدل على تواضعه رحمه الله تعالى.

(11/29)

التذكر بعد حدوث مصيبة أو كارثة

وكذلك من الفوائد: أن الإنسان قد لا يتعلم إلا إذا نزلت به مصيبة أو كارثة: عند ذلك يتغير، فهو ضحك (قالوا: مِمَّ ضحكت؟ قال: من دعوة دعتها أمي) الآن عرف ما يمكن أن تصل إليه الأمور.

فالإنسان أحياناً لا يتعلم إلا بدرس يتلقنه، وما يعرف الصواب إلا بعد أن يُمْتَحن، وعندها يعلم ما كان ينبغي عليه أن يفعله.

فهذا بعض ما اشتملت عليه هذه القصة من الفوائد.

وننتقل بعد ذلك إلى الأسئلة.

(11/30)

الأسئلة

(11/31)

جواز الوقف قبل إتمام الآية إذا كان هناك عذر

السؤال

ما هو سر وقوفك في منتصف سورة الحمد، هل هناك دليل على ذلك؟

الجواب

ليس عندنا أسرار وإنما قد يحدث ضيق في النفس أو كتمة في الصدر أو في الصوت فأضطر إلى الوقوف، وإلا فلا فيها دليل ولا سنة معينة في الوقوف في موضع معين في الفاتحة، السنة الوقوف عند رءوس الآي فقط.

(11/32)

إعلام فاعل الخير فيما ينفق ماله

السؤال

أتى رجل بمائة ريال وقال للمؤذن: اشترِ بهذه سجادة للإمام، والجامع الحمد لله مفروش ولا يحتاج؟!

الجواب

يعيدها إليه ويقول: يا فلان! لا يُشرع أني أشتري سجادة للإمام؛ لأنها متوفرة ولكن وكلني أتصرف بها في شيء للمسجد أو طعام لمساكين ونحو ذلك.

(11/33)

التحذير من الفتوى بغير علم

السؤال

صلى نساء في مسجد فقرأ الإمام: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فسجد الإمام وسجد المأمومون، وركعت امرأة والمأمومون ساجدون، فلما قضيت الصلاة أخذت المرأة تقول: يا أخوات! لماذا سجدتن ولم تركعن؟ ألم تسَمْعَن عن ركوع التلاوة؟!

الجواب

ماذا تعني كلمة خَرَّ؟ تعني: من أعلى إلى أسفل، {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فالسجود قد يطلق عليه ركوع، والخرور من أعلى إلى أسفل، وليس هناك شيء اسمه ركوع التلاوة، وإنما سجود التلاوة، فهذه المرأة عليها ألا تفتي بغير علم.

(11/34)

جواز قطع الصلاة للحاجة

السؤال

إذا سقط شخص مغشياً عليه أثناء تكبير الإمام تكبيرة الإحرام، هل يخفف الصلاة أحد المأمومين أو يقطعها؟

الجواب

إذا رأى الوضعَ خطيراً يقطع الصلاة لإسعاف الشخص.

(11/35)

(حال حديث: (لا يدخل الجنة ولد الزنا

السؤال

ما صحة حديث: (لا يدخل الجنة ولد زنا)؟

الجواب

حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة) محمول على أنه إذا عمل بعمل والدَيه، وإذا صح الحديث؛ فإنه لا يدخل إذا عمل أو وقع في هذه الفاحشة، أما أن ولد الزنا في ذاته لا يدخل الجنة أو محروم من الجنة فهذا كلام باطل؛ لأن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ما له ذنب، فهو إنسان آدمي مثله مثل غيره، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] فإن كان صالحاً تقياً فإنه يدخل الجنة، وإن كان فاجراً شقياً يدخل النار.

(11/36)

كراهية وضع المباخر أمام المصلين

السؤال

هل المباخر في المساجد تشبهٌ بالمجوس؟

الجواب

إذا وضعت أمام المصلين، فإن ذلك يُكره؛ لئلا يكون فيها تشبهٌ بالمجوس أثناء الصلاة.

(11/37)

الواجب على من ترك قضاء أيام رمضان التي أفطر فيها

السؤال

والدتي تقول: إنها كان يمضي عليها شهر رمضان -قبل الزواج- وتأتيها الدورة الشهرية فتفطر، ولكنها لم تكن تعلم بأنها ملزمة بالقضاء، ولذلك لم تقضِ ما فاتها، وسألتها عن عدد الأيام التي أفطرتها فلم تستطع إحصاءها لمرور السنين العديدة!

الجواب

عليها التوبة إلى الله؛ لأنها لم تسأل مع إمكان السؤال، والمرأة المسلمة يجب عليها أن تتفقه في الأحكام الشرعية؛ الطهارة، الصلاة، الصيام، وإذا أرادت أن تحج تسأل عن الحج، وإذا أرادت أن تعتمر سألت عن العمرة، وهكذا، أما أن تبقى هكذا في جهل تنتظر الصدفة التي تتيح لها معرفة شيء، هذا خطأ.

فهذه المرأة عليها أن تقدر ما فاتها وتقضيه، وتطعم مسكيناً عن كل يوم كفارة التأخير.

(11/38)

نهي الوالدين عن المنكر بالتي هي أحسن والصبر على أذاهما

السؤال

إذا غضب علي والداي لإخراج منكر من البيت؟

الجواب

لا يستجاب لهما فيك ما دام أنك اتقيت الله، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وبالحسنى وبالمعاملة الطيبة وبالكلمة الحسنة لعلك إن شاء الله تستجلب رضاهما.

(11/39)

ثبوت الوضوء في الشرائع السابقة

السؤال

هل الوضوء في الأمم السابقة نفس الوضوء الآن؟

الجواب

لا يشترط؛ لكن كان عندهم وضوء.

(11/40)

دعاء الأم ليس دائماً مستجاباً

السؤال

هل دعاء الأم دائماً مستجاب؟

الجواب

لا.

قد لا يستجاب، لكن في كثير من الأحيان يستجاب، ومظنة استجابة دعاء الأم والأب أكثر من غيرهما في الولد، ولذلك قال: (دعاء الوالد لولده، ودعاء الوالد على ولده) فدعاء الوالد والوالدة للولد وعلى الولد مظنة الاستجابة.

(11/41)

عدم وجوب الغسل عند الميقات

السؤال

هل الغسل عند الميقات واجب؟

الجواب

لا.

(11/42)

جواز الإحرام بدون غسل إذا كان هناك عذر

السؤال

في شدة البرد نحرم بدون غسل؟

الجواب

نعم.

(11/43)

دفع زكاة الفطر قبل وقتها

السؤال

دفعت زكاة الفطر يوم خمسة عشر من رمضان؟

الجواب

إذا دفعتها لشخص وكلته في إخراجها في الوقت الصحيح وهو ثقة فيجزئك ذلك.

(11/44)

قصة خشبة المقترض

أيها الأحبة: هذه رسالة تتعلق بعدة أبواب من أبواب الفقه، قد ساق الشيخ حفظه الله فيها حديث خشبة المقترض الذي أخرجه البخاري في صحيحه، وقد ذكر الشيخ الأحكام المستفادة من هذا الحديث، ثم تعرض لذكر طرق الشريعة في توثيق الدَّين، وحفظ الحقوق، وأحكام أخرى تتعلق بالدَّين.

(12/1)

حديث خشبة المقترض

الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي سنتحدث عنها الليلة -أيها الإخوة- تتعلق بباب من أبواب الفقه الإسلامي، أو عدة أبواب من أبواب الفقه.

وهذه القصة قد أخرجها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب: الكفالة، وكتاب: الزكاة، وكتاب: الاستقراض أو القرض.

وروى هذه القصة أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى -فدفع إليه الألف دينار على أجل مسمى- فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبها ليقدم عليه للأجل الذي أجَّله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفتُ من فلانٍ ألف دينارٍ فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بذلك، وإني جَهَدْتُ أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني استودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك -يعني: مع هذا الإجراء- يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه -على حسب الموعد- ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قَدِم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار -أخرى- فقال: والله ما زلتُ جاهداً في طلب مركبٍ لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإن الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة فانصرف بالألف الدينار راشداً).

هذا الحديث فيه ذكر رجل من بني إسرائيل، جاء في بعض الروايات أن الذي سلفه هو النجاشي، وأنه أُلْحِق ذكره ببني إسرائيل ونُسب إليهم بطريق الاتباع لهم لا أنه من نسلهم، فالله أعلم هل هو النجاشي أم غيره! رجل من بني إسرائيل كان يُسَلِّف الناس إذا أتاه الرجل بكفيل سلفه، جاءه شخص يريد أن يستلف ألف دينار، والألف دينار مبلغ باهظ، وإذا أردنا أن نحسبها الآن، فالدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، أي: (1000 × 4.

25) أربعة كيلوات ذهباً وربع كم تكون، إذا حسبنا الكيلو بخمسين ألفاً؟ حوالي ربع مليون (225.

000)، يريد أن يستلف منه ربع مليون، قال: هات كفيلاً، (فأتني بالكفيل) -هذا ما عنده كفيل، رجل صادق لكن ما عنده كفيل- قال: كفى بالله كفيلاً -يعني: جعلت الله كفيلي، كفى بالله كفيلاً بيني وبينكم، لما لمس هذا صدق صاحبه- قال: صدقتَ.

وفي رواية: سبحان الله! نعم، والشهيد؟ قال: كفى بالله شهيداً

(12/2)

طرق توثيق الدَّين في الشريعة الإسلامية

الدَّين يوثَّق في الشريعة بأربعة أشياء هي طرق توثيق الدَّين في الشريعة: أولاً: الكتابة.

ثانياً: الشهود.

ثالثاً: الكفيل.

رابعاً: الرهن.

والأجل مجرد موعد.

وهذا من عِظَم الدَّين في الشريعة وحفظ حقوق الناس.

قال: (فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً.

قال: ائتني بالشهيد، قال: كفى بالله شهيداً، قال: صدقت، فدفعها إليه، فخرج في البحر فقضى حاجته) ركب هذا الرجل المستلف البحر بالمال يتاجر فيه، ويضارب ويتاجر به، فلما قضى حاجته وحل الأجل.

وفي رواية: (أنه لما جاء ليرجع أُرْتِج البحر بينهما) اضطرب البحر ولا يمكن ركوب البحر، أو أنه لم يجد مركباً يوصله إلى صاحبه على حسب الموعد، فالرجل ملتزم بالموعد، حريص على الموعد، رجل مؤمن، ما قال: كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً إلا وهو صادق، فلما جاء ليرجع اضطرب البحر، أو أنه ارتج البحر بينهما، أو أنه لم يجد مركباً.

وفي رواية: (وغدا رب المال إلى الساحل يسأل عنه) على حسب الموعد كان في الشاطئ الآخر من البحر صاحب المال يسأل عنه ويقول: (اللهم أَخْلَفَني وإنما أعطيت لك) أنا أعطيت لك يا الله وهذا صاحبي أخلفني، والرجل الصالح -المستلِف- لم يجد سفينة يركبها، ولا مركباً يوصله، (فأخذ خشبه فنقرها -يعني: حفرها-.

وفي رواية: فنَجر خشبةً، وجعل فيها الألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه.

وفي رواية: وكتب إليه صحيفة: من فلان إلى فلان، إني دفعت مالك إلى وكيلي الذي توكل بي -لاحظ! لا توجد حيلة؛ فأنا وضعتها وعلى الوكيل -أن يؤديها إليك- ثم زجج موضعها) يعني: أصلح موضع النقر والحفر، أصلحه وسده؛ ليحفظ ما فيه، وجعل فيه شيئاً يغلقه ورماه في البحر متوكلاً على الله؛ لأن هذه الطريقة الوحيدة حتى يصل المال في الموعد، مع هذا دعا الله تعالى قائلاً: (اللهم إني تسلفتُ من فلان فسألني الكفيل وسألني الشهيد، ورضي بك وإني جهدت أن أرد إليه ما استطعت، اللهم أدِّ حَمالَتك) ودفعها حتى ولجت في البحر، وعلى الشاطئ الآخر كان الرجل ينتظر حسب الموعد، فلم يجد صاحبه، لكنه في النهاية وجد خشبه تتهادى على سطح الماء حتى ألقاها اليم بالساحل، فبدلاً من أن يعود بخفي حنين أخذ هذه الخشبة حطباً لأهله، فلما نشرها وقطعها بالمنشار وجد المال.

وفي رواية: (وغدا رب المال يسأل عن صاحبه كما كان يسأل، فيجد الخشبه فيحملها إلى أهله فقال: أوقدوا هذه، فكسروها فانتثرت الدنانير منها والصحيفة فقرأها وعرف -قرأ الرسالة ووصلت الأمانة- ثم قدم الذي قد كان أسلفه -وجد مركباً بعد ذلك وجاء- فأتى بالألف دينار، فأتاه رب المال -في رواية- فقال: يا فلان، مالي؟ قد طالت النظرة -الانتظار طال لم تأتِ- فقال: أما مالك فقد دفعته إلى وكيلي -الله - وأما أنتَ فهذا مالك -وأعطاه ألفاً أخرى.

وفي رواية: هذا ألفك، فقال: لا أقبلها منك حتى تخبرني ما صنعتَ، فأخبره بالذي صنع فقال: لقد أدى الله عنك، انصرف بالألف الدينار راشداً) يعني: ألفك هذا أمسكه؛ لأن الألف الأولى وصلت.

وفي رواية: قال أبو هريرة: (ولقد رأيتنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبُر مراؤنا ولغطنا أيهما آمَن) أيهما أكثر أمانة؟ الأول أم الثاني؟! الأول الذي كان حريصاً على دفع المال حسب الموعد أم الثاني الذي قال: ألفك وصلت.

(12/3)

ما يستفاد من الحديث

هذا الحديث فيه فوائد عظيمة للغاية منها: أولاً: مشروعية الاقتراض عند الحاجة.

ثانياً: أن الأجل في القرض جائز.

وكتابة الأجل في القرض جائز، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].

ثالثاً: وجوب الوفاء بالدين.

أي: وجوب الوفاء بالموعد الذي حدده الإنسان لنفسه فيما بينه وبين صاحبه.

وكثير من الناس الآن الذين يعَدِون بإرجاع المبالغ في الوقت المعين لا يرجعونها في الوقت المعين، فإما أن يؤخروه وإما أنهم لا يعيدوه أصلاً؛ وهذا حال كثير من الناس مع الأسف.

رابعاً: اتخاذ كافة الوسائل والأسباب لإعادة الدَّين إلى صاحبه في الوقت المعين.

ولنا في هذا الرجل مثلٌ وقدوة، كيف أنه لما لم يجد مركباً ولا يريد أن يتأخر عن صاحبه، والمسألة فيها الله شهيداً وكفيلاً، فوضعها في الخشبة، وأرسلها في البحر مع احتمال الوصول وعدمه؛ خشبة في البحر ربما تغرق، أو تذهب إلى شاطئ آخر، ولو وصلت إلى الشاطئ نفسه ربما يظهر عليها شخص آخر ويأخذها.

خامساً: أن الله إذا استودِع شيئاً حفظه.

قال: (اللهم إني أستودعكها) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله إذا استودِع شيئاً حفظه) قال تعالى: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ودع رجلاً يقول: (أستودِع اللهَ دينَك وأمانتَك وخواتيمَ عملك) لأن الله إذا استودِع شيئاً حفظه.

سادساً: التوكل على الله، وأن من صح توكله على الله تكفَّل الله بعونه.

ودليل ذلك في الخشبة لأنها وصلت في الوقت السليم؛ ربما تضيع، أو تصل بعد شهر، لكن عناية الله جعلتها تصل في الوقت المعين، والموعد عند الرجل الذي كان ينتظر على الشاطئ.

سابعاً: أن لقطة البحر تؤخذ:- فلقطة البحر طبعاً حكمها حكم اللقطة وهذا الرجل وجد الرسالة وعرف أنه هو المقصود، وأن المال ليس لشخص آخر، وإنما المال له ولذلك أخذها.

ثامناً: مشروعية الكفالة.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث بذلك وقرره.

تاسعاً: فيه التحديث عن أنباء الأمم ممن قبلنا مما كان لديهم من العجائب؛ لتتعظ هذه الأمة وتتأسى.

فنحن ننقل أخبار مَن قبلَنا لكي نتأسى بها، ونستفيد، من هذه الخبرات والتجارب.

عاشراً: فيه أن الكاتب يبدأ بنفسه في الكتابة.

إذا شرع الإنسان بكتابة مكتوب يقول: من فلان؛ يعني: هو الكاتب الآن، من فلان إلى فلان.

والبخاري رحمه الله وضع هذا الحديث في كتاب: الاستئذان في باب: بمن يُبدأ في الكتاب؟ باسم المرسِل أم باسم المرسَل إليه؟! ونحن الآن عادتنا نقول: الأخ فلان الفلاني، السلام وعليكم ورحمة الله.

والطريقة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يكتب بها الرسائل، وكان العلماء يكتبون بها الرسائل: من فلان إلى فلان، فالمرسِل يكتب اسمه أولاً ولعلها قد حصلت بعض الظروف التي جعلت بعض الصحابة يكتبون المسألة بالعكس، مع أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو مستحب وليس بواجب أن يبدأ الكاتب بنفسه.

وغالب أحوال ابن عمر أنه كان يفعل ذلك، ولكن جاء بإسناد صحيح أن ابن عمر أراد أن يكتب حاجة إلى معاوية فأراد أن يبدأ بنفسه من عبد الله بن عمر إلى معاوية، فلم يزالوا به حتى كتب: [بسم الله الرحمن الرحيم، إلى معاوية].

وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك يبايعه: [بسم الله الرحمن الرحيم، لـ عبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر، سلام عليك] فالأصل والسنة في الكتابة أن يكتب اسمه أولاً.

الحادي عشر: ومن فوائد هذا الحديث: أن ما يلفظه البحر مما نشأ في البحر أو عطب وانقطع ملك صاحبه فإنه يجوز للإنسان أن يأخذه ودليل ذلك أن الرجل الذي وجد الخشبة قد أخذها حطباً.

والبخاري رحمه الله وضع هنا الحديث أيضاً في كتاب: الزكاة في باب: ما يستخرج من البحر، ما يستخرج من البحر من اللؤلؤ والمرجان والياقوت ليس فيها زكاة عند جمهور العلماء.

الثاني عشر: كذلك من فوائد هذا الحديث: أن الإنسان المسلم يتعامل مع الناس بحسب الناس.

فإذا رأى ملامح الصلاح وتفرس في وجه مَن يطلب منه طلباً الصدق هون معه في المعاملة ولان، وإذا رأى في ملامح وجهه أنه يتعامل معه شيء من الغدر أو اللؤم أو الخبث، فإنه يحتاط، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تستجاب دعوتهم: … ذَكَرَ منهم: ورجل آتى سفيهاً مالاً ولم يُشهد عليه) والمقصود لا يستجاب لدعوتهم في خصومهم، فلو أنه أعطى مالاً لفاسق ولم يُشهد عليه، يستحق إذا ضاع ماله.

ولو ادعى عليه فلا يستجاب له لأنه هو المقصر، فكيف يعطيه مالاً ولا يشهد عليه؟! فإذاً إذا كان الإنسان يتعامل مع صاحب دين وأمانة فيمكن أن يخفف معه في الشروط، ويتسامح معه في الشهود والكتابة أما إذا تعامل مع واحد صاحب فسق وفجور وخيانة، أو إنسان مجهول فيحتاط، وإذا لم يأخذ الاحتياطات استحق ما يأتيه بعد ذلك، فبعض الناس يقولون: والله أنا وثقت في فلان وجاءني وأعطيته، ولا يوجد لديه كتابة ولا شهود إذاً بأي وجه تطالب الآن؟! أنت المقصر في كتابة الدين والإشهاد عليه، والشريعة جعلت لك أربعة طرق لتوثيق الدين، ولم تستخدم واحداً منها.

إذاً: الإنسان لا بأس عليه أن يكتب، وبعض الناس يظنون ويعتبرون أن الكتابة عيب؛ وهذه من المشاكل التي تواجه بعض الناس فإذا جئت تستلف منه، ويريد أن يقول لك: اكتب، يستحي، ولو طلب تجد الآخر يقول له: عيب يا أخي، ليس بيننا كتابات، وأوراق.

فنذكرهم بقول الله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] لأنه سيشهد على نفسه، فالمستلف هو الذي يملي، قال الله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة:282].

وهذه الإجراءات شديدة لأجل حفظ حقوق الناس، والحيلولة في وقوع الناس في الشحناء، والبغضاء، والعداوات، والمقاطعات، والهجر.

فلذلك تُكتب الأشياء حفظاً لها من الضياع، ومنعاً للخصومات والكتابة تمنع هذه العداوات وقد يكون كلا الطرفين ثقة لكن لما يأتي يطلب منه يظن أن المبلغ شيء آخر، وكلاهما أمين وصادق، لكن يقول: يا أخي أنا الذي أذكر أنك أعطيتني ثلاثة آلاف، يقول: لا.

يا أخي، ثلاثة آلاف وخمسمائة، فالآن تظهر فائدة الضبط والكتابة وهي ليست فقط قضية أني لا أثق فيه، أو قضية أني خائف أن يخونني، أيضاً هي قضية قطع الخصومات والجدال؛ لأننا إذا كتبنا عَرَفَ كل من الطرفين ما عليه وما له، وإذا لم نكتب فإنه مع الزمن وتوالي الأيام ينسى الإنسان والذهن معرَّض للنسيان.

وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ ولا القلب إلا أنه يتقلبُ

فما دامت المسألة معرضة للنسيان، فالعمل بالكتابة أحوط.

وكثير من الحقوق ضاعت بسبب عدم الكتابة فعندما يأتي إلى الساعة الحرجة، وليس عنده إثبات، ويقول: نحن إخوان، ولقد استحيت أن أطلب منه.

وقالوا الجماعة: عيب أن تكتب.

والله سبحانه وتعالى أمر بالكتابة وهذا يقول: الكتابة عيب، يقولون: عيبٌ الكتابة، والله أمر بالكتابة: {فَلْيَكْتُبْ} [البقرة:282] وبعض العلماء ذهب إلى وجوب كتابة الدَّين، وجمهور العلماء على أن الكتابة مستحبة؛ وهي غير قضية التوثيق والضبط حتى لا يختلفا في المبلغ، وكم أدت هذه إلى مشاحنات ومقاطعات بين الناس!

(12/4)

أحكام القرض في الشريعة

بعد هذا تعالوا نلقي نظرة على الدَّين، وأحكام القرض في الشريعة الإسلامية.

أما الدَّين: فإنه القرض، أَدَنْتُ فلاناً، أي: أَقْرَضْتُهُ، والدَّين لزوم حقٍ في الذمة.

والقرض: القطع؛ لأن المقرض يقطع شيئاً من ماله ليعطيه للمقترض.

وتعريف القرض شرعاً: دفع مالٍ لمن ينتفع به، ويرد بدله.

(12/5)

ألدين أعم أم القرض؟

وهناك مسألة هل الدَّين أعم أم القرض أم كلاهما بنفس المعنى؟ الدَّين أعم.

لأنه يشمل المال والحقوق غير المالية أيضاً؛ كالصلاة الفائتة، والزكاة، والصيام، حتى ديون الله، فلو أن واحداً مثلاً لم يصم لسبب، فيكون عليه دين لله فيقضيه في أيام أخر.

الدين ما ثبت بسبب قرض، أو بيع، أو إجارة، أو إتلاف، أو جناية، ويشمل حقوق الله وحقوق الآدميين، ويشمل الأشياء المالية وغير المالية.

أما القرض فهو خاص بالأشياء المالية؛ سُمِّي القرض قرضاً؛ لأن المقرض يقطع شيئاً من ماله ليعطيه للمقترض.

إذاً القرض هو: دفع مالٍ لمن ينتفع به، ويرد بدله.

لماذا قلنا: يرد بدله؟ لأنه ليس المطلوب أن يرده هو وإنما يرد مثله، وإلا لو كان يرده هو لتحول القرض إلى عاريَّة، لكن القرض أن يأخذ شيئاً فيرد مثله؛ وهو من باب الإرفاق، وهو مستحب وفيه أجر عظيم: (ما من مسلم يُقرِض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) والقرض يجري مجرى شطر الصدقة، وإذا سلفه وحل الوقت له مثله، وتجاوز الوقت له مثليه من الأجر، وفيه تفريج كربات المسلمين، ومنع لهم من الاستدانة بالربا ونحو ذلك.

ولا يصح القرض إلا من إنسان جائز التصرف.

ولا يجوز الاقتراض من: مجنون: المجنون لا يقرض، لأنه غير مؤهل.

الصغير الذي لا يميز.

وكذلك ولي اليتيم: لا يجوز له أن يُقرض من مال اليتيم.

وكذلك الأمانات: لا يجوز الإقراض منها؛ وهذا خطأ يقع فيه عدد من الناس، يقرضون من الأمانات المودوعة عنده لرجل ثانٍ من غير إذن صاحب الأمانة؛ وهذا حرام، فالأمانة تُحفظ ولا يستلف منها.

وبعض الناس يقرضون من التبرعات مثل: رجل عنده أموال لبناء مسجد، فيذهب يقرض منها، بأي حق؟! هذه لبناء مسجد فلا يجوز الإقراض منها، وما حصل هذا إلا بسبب الجهل الذي جعل بعض الناس يتورطون في مثل هذا.

(12/6)

كل قرض جر نفعاً فهو ربا

كذلك من قواعد القرض: أن (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، هذا ليس حديثاً صحيحاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه قاعدة شرعية صحيحة، (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، فلو شرط القارض على المقترض زيادة، أو شرط عليه فائدة، أو شرط عليه هدية، أو شرط عليه خدمة، قال: أقرضك بشرط أن توصلني إلى كذا، نقول: حرام لا يجوز، اشترط عليه: أن يسكنه داره سنة، قال: أقرضك بشرط أنك تعطيني سيارتك سنة، فهذا حرام؛ (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) لأن القرض عقد إرفاق وإحسان يبتغي فيه المقرض وجه الله، إذا جاء يشترط على الناس ويأخذ مقابلاً، ويأخذ خدمات على ذلك يبتغي به وجه الله، وخرج عن موضوعه الذي هو التقرب إلى الله، وصار يريد استفادات دنيوية، والربا شديد (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).

ولو تساءلنا ما هي الزيادة الممنوعة؟ والخدمة الممنوعة المشروطة؟ أما إذا كانت غير مشروطة فلا بأس بأخذها، كأن يكون أقرض الآخر مالاً فلما جاء ليعيده إليه أعاده إليه مع هدية، ولا يوجد شرط سابق أبداً، إذا كانت العادة جرت بينهما على هذا فلا بأس أن يأخذها.

(جرت العادة) هذا متعلق بمسألة أخرى غير هذه المسألة: هل يجوز للمقترض أن يؤدي شيئاً من الخدمات، أو من الهدايا إلى المقرض قبل أداء القرض؟ الآن عرفنا إذا اقترض إنسان منك مبلغاً ثم أعاده إليك زائداً بهدية؛ سواء الهدية مالاً أو غير مال، ولم يكن مشروطاً من قبل، فإنه يجوز لك أن تأخذه، و {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] إنما جزاء السلف: (خياركم أحسنكم قضاءً) وقد استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً فرد خيراً منها، (خيركم أحسنكم قضاءً) هذا من مكارم الأخلاق، ما دام أنه لم يكن شرطاً ولم يتواطئوا، وإنما هو تبرع وهدية من المقترض من باب الإحسان والشكر والعرفان، فلا بأس أن تأخذها وليست رباً ولا حراماً.

ما حكم أن يعطيك شيئاً قبل أن يرده؟ يعني: الآن الموعد بعد سنة، وبعد ستة أشهر أعطاك هدية، ما حكمها؟ إن جرت العادة بينك وبينه بأخذ هذه الهدية، أو مثل هذه الهدية، بينك وبينه مثل هذه التعاملات قبل القرض، فلا بأس أن تأخذ هذه الهدية، وإلا فلا.

ويجب على الإنسان أن يلتزم بالموعد الذي حدده بالأجل بينهما، وإلا كان ظالماً، وهذه المماطلات التي يأتي الإنسان يطلب حقه، يقول: ما عندي، فيما بعد، ويكذب، يعد ويُخلف، ونحو ذلك؛ هذا الذي جعل كثيراً من الناس يحجمون عن الإقراض، وبالتالي اضطر أناس آخرون أن يقترضوا بالربا.

(12/7)

الدين بالعملات

من الأحكام المتعلقة بالقرض أيضاًَ: أن الإنسان إذا استلف بعملة فما دامت العملة معمولاً بها ولها قيمة فإنه لا يرد إلا بها طلعت أو نزلت، لا يرد إلا بالعملة التي استلف بها إلا إذا كانت العملة هذه صارت لا تساوي شيئاً، كانت الألف ريال بليرة، صار مثلاً الريال بمليون ليرة، إذاًَ: صارت الليرة هذه تقريباً ما لها قيمة، فإذا كانت العملة ألغيت أو صار لا قيمة لها، فعند ذلك ننظر مثلاً: المبلغ الذي اقترضه كم يساوي من الذهب؟ مثلاً: مائة غرام، نقول: رد عليه مائة غرام ذهباً، أما إذا كان لها قيمة ولا زالت موجودة فإنه لا يرد إلا بالعملة التي اقترض بها طلعت أو نزلت، فكما أنها معرضة للنزول فهي معرضة للصعود.

كذلك فإن الدين -كما تقدم- منه ما هو دَين لله عز وجل؛ كصدقة الفطر، وفدية الصيام، والنذور، والكفارات.

ومنها: ما هو دَين للعباد؛ كأجرة الدار، ومقابل الإتلاف، وأرش الجناية.

وكذلك فإن الدين ينقسم إلى قسمين باعتبار وقت الأداء: فمنه ما هو دين حالٌّ: وهو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن ويسمى الدين المعجل.

ومنه ما هو دين مؤجل: وهو الذي لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل.

مثل: أن يقول: سلفني، يقول: هذه ألف، ومتى ما طلبتُها منك تعطيني إياها، مفتوحة الأجل وهذا معجل.

والدَّين المؤجل أن يقال: هذا الدين إلى سنة، قبل السنة لا يطالب به صاحب المال، لا حق له بالمطالبة؛ لأنه أعطاه سنة، وأجلاً معيناً.

وكذلك فإن التوثيق بالكتابة المذكور في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] يتأكد فيمن يخشى ضياع الدَّين، أو النسيان، أو الإنكار.

وكذلك: فإن الشهادة تكون بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين ممن ترضون من الشهداء من العدول الثقات.

وكذلك: فإن الإنسان إذا استلف مالاً يجوز له أن يتصرف فيه كما يشاء؛ لأن القاعدة تقول: (الدين عقد تمليك) عقد تمليك يعني: بمجرد ما استدنت أنت ملكت المال، وصار ملكك، ولذلك عليك الزكاة، لو بقي المال في ملكك، سنة فعليك زكاته؛ لأنك ملكت المال، ودار عليه الحول فوجبت فيه الزكاة.

(12/8)

حكم بيع الدين

وكذلك من الأحكام: أن الدَّين لا يجوز بيعه، مثلاً: أقول: أنا مقترض من واحد مثلاًَ مائة ألف، أو أقرضتُ واحداً مائة ألف، فأذهب وأقول لشخص: هات تسعين، واذهب أنت وحصِّل الدَّين، أبيعك المائة المؤجلة هذه بتسعين، هات التسعين، بعتُك الدَّين، الذي لي على فلان بِعْتُكَهُ بتسعين؛ هذا بيع للديون ولا يجوز.

فهذه بعض الأحكام المتعلقة بالدَّين.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الأوفياء الذين يوفون بالعهد.

(12/9)

الأسئلة

(12/10)

حكم من أحرم بالعمرة ثم تركها

السؤال

شخص أراد العمرة وعند وصوله إلى مكة هو وزوجته مع ابنه الرضيع خاف على ابنه من الزحام ورجع ولم يعتمر فما الحكم؟

الجواب

كان وضع الابن مثلاً مع الزوجة، وكونه رجع الآن فهو لا زال على إحرامه وعليه أن يعود، ويحرم عليه قربان الزوجة، يجب عليه أن يعود، ولا ينفك الإحرام إلا بالعمرة.

(12/11)

إدراك الصلاة الثلاثية وراء إمام يصلي رباعية

السؤال

هل يمكن أداء صلاة ثلاثية وراء إمام يصلي رباعية؟

الجواب

نعم.

إذا قام إلى الركعة الرابعة، تجلس أنت وتنتظر حتى يسلم وتسلم معه.

(12/12)

حكم ترك الصلاة في المسجد المجاور

السؤال

هل يجوز أن يَتَعَدَّى المسجد الذي في الحي؟

الجواب

نعم، يحوز أن يتعدى المسجد الذي في الحي إلى مسجد آخر لسبب، كأن يحضر درساً، أو أن يكون يرتاح إلى ذلك الإمام أكثر، أو يخشع وراء قراءته أكثر، لكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى مفسدة كعداوة بينه وبين إمام الحي، أو أن يقول له: أنت لا تصلي وراءنا، أنت مثلاً تشك فينا، أنت كذا، أو لا يؤدي إلى هجر مسجد الحي بحيث لا يكاد يصلي فيه أحد، أما إذا كان في مسجد الحي جماعة ولا يُخشى من وجود سوء علاقة بينه وبين الإمام فإن له أن يتخطاه.

(12/13)

حكم استخدام مال فائض جمع لصيانة مسجد

السؤال

جمعنا تبرعاتٍ لصيانة المسجد ثم زاد بعض المال من التبرع، هل نجعله لصالح تحفيظ القرآن؟

الجواب

لا بد من استئذان المتبرع، وإذا لم يأذن، أو لم تجده تُجْعَل وتَبْقَى للصيانة، وربما في المستقبل يحتاج إلى صيانة، أو يُنقل إلى صيانة مسجد آخر مثلاً، إذا تعطل لا يمكن الانتفاع به في صيانة هذا المسجد، أقرب ما يمكن لنية المتبرع.

(12/14)

موقف المأموم من الإمام في الصلاة

السؤال

إذا صلى اثنان جماعة أين يقف المأموم بالضبط؟

الجواب

يقف بمحاذاة الإمام بالضبط، لا يتقدم عنه ولا يتأخر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام في الليل قام ابن عباس بجانبه فتأخر عنه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قدمه إلى جانبه، فتأخر، بعد الصلاة قال له عليه الصلاة والسلام: (ما لي أجعلك حذائي في الصلاة فتخنس؟! -لماذا أجعلك بجانبي في الصلاة وأنت ترجع إلى الخلف؟! - فذكر له ابن عباس رضي الله عنه أنه لا يليق به أن يكون بجانب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عند صاحب المقام المعلوم فتأخَّرَ عنه فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالخير).

والمقصود: أن الإنسان إذا صلى بجانب إمام يصلي بجانبه بالضبط لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

(12/15)

جمع الصلاة الفائتة

السؤال

سوف أذهب إلى مكة ثلاثة أيام، هل أجمع في الفندق إذا نمت عن الصلاة؟

الجواب

نعم، إذا لم تصل مع الجماعة وفاتت عليك الصلاة تجمع.

(12/16)

حكم لبس القفازات للمرأة

السؤال

هل لبس القفازات للمرأة واجب؟

الجواب

إذا سترت يديها بأكمام العباءة لا بأس، وإذا لك تستر يديها لا بد أن تلبس شيئاً كالقفاز.

(12/17)

حكم مال الربا للوارث

السؤال

رجل يتعامل بالربا هل ماله للورثة حلال؟

الجواب

إذا علموا منه الربا أخرجوه من ماله.

(12/18)

معنى: (اللهم لا مانع لما أعطيت)

السؤال

ما معنى: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)؟

الجواب

يعني: إذا أعطيتَ شيئاً لا يمنع أحدٌ عَطِيَّتَك، ويعني: إذا منعتَ أحداً لا يمكن لشخص أن يعطيه، والجَدُّ هنا معناه: الحظ والنصيب والمال، يعني: صاحب الجاه والمال لا ينفعه جاهه ولا ماله عندك، لا ينفعه إلا عمله الصالح، (ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ) وهذا من أدعية الاستفتاح.

(12/19)

السنة في المضمضة والاستنشاق

السؤال

ما هي السنة في المضمضة والاستنشاق؟

الجواب

أن يأخذ بكفٍ واحدة، جزء للمضمضة وجزء للاستنشاق، ثم يعيد العملية ثلاث مرات.

(12/20)

حكم قراءة سورة (الكافرون والصمد) في صلاة المغرب

السؤال

هل قراءة (الكافرون) و (الصمد) في ركعتي المغرب والفجر ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب

نعم، وكذلك هي ثابتة في ركعتي الطواف، والسنةٌ أن يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الركعة الثانية.

(12/21)

كيفية دفن المرأة الكافرة وبها جنين

السؤال

ما هي كيفية دفن امرأة ماتت على الكفر وبها جنين على الفطرة؟

الجواب

طبعاً الجنين يُلْحَق بوالدَيه، تُدفن في أرض الكفار، لكن إذا كان زوجها مسلماً؛ وهي كتابية محصنة، وعقد الزواج صحيح، وحملت ثم ماتت والجنين في بطنها، فالجنين يتبع أباه؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، والجنين تابع للأب؛ وتجري عليه أحكام المسلمين، والأم كافرة يهودية أو نصرانية، قال العلماء: تُدفن في أرض ثالثة، لا هي من مقابر المسلمين، ولا هي من مقابر الكفار، أرض خاصة معدَّة لمثل هذه الحالات، لا تُدفن في أرض المسلمين لأنها كافرة، ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن فيها جنيناً لرجل مسلم فتُخَصَّص قطعة في المقبرة خاصة لمثل هذه الحالات تُدفن فيها.

(12/22)

حكم المسابقات التي يكون فيها جوائز

السؤال

ما حكم المسابقات التي يكون فيها جوائز؟

الجواب

سبق الكلام أنه لا يجوز جعل جوائز عن مسابقات إلا إذا كانت مسابقات فيها تدريب على أمور الجهاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا في نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حافِر) يعني: الجياد والخيل والإبل، والنصال: السهام، وما يُقاس عليها من الأسلحة الحديثة، وأَلْحَقَ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم المسابقة في حفظ القرآن والسنة؛ أما المسابقات الأخرى المباحة غير ما يُعِين على نشر الدين فلا يجوز أن تُجعل فيها جوائز؛ وهذا قول جمهور العلماء وإن خالف الملايين في عصرنا!

(12/23)

ترتب الإثم على المماطلة في سداد الدَّين

السؤال

إذا كان شخص عليه دين وفي وقت التسديد لم يحضر لأنه لا يستطيع السداد وظل يعد ويماطل، فهل عليه إثم؟

الجواب

عليه إثم في المماطلة، يقول: يا أخي ليس عندي، لا أستطيع أن أعدك، حالما يتوفر آتي لك بالمال، أما أن يعد ويعلم أنه لا يستطيع فلا يجوز.

(12/24)

حكم استعمال السواك الأخضر في رمضان

السؤال

ما حكم استعمال السواك الأخضر في رمضان؟

الجواب

من المفطرات، ولا يجوز استعمال السواك الأخضر؛ أما السواك العادي الطبيعي المعروف فيجوز استعماله، والسواك الأخضر؛ هو الغصن.

(12/25)

مذهب أهل السنة والجماعة في القدر

السؤال

ما مذهب أهل السنة والجماعة في القَدَر؟

الجواب

نؤمن أن الله سبحانه وتعالى قدَّر الأقدار قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنه عَلِمَ ما كان وما يكون وما لو كان كيف سيكون، وأنه خلق أفعال العباد سبحانه وتعالى، عِلْمُ الله الأزلي الكامل من جميع الجهات، تقدير الله للمقادير، التقدير الذي قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة أن الله خلق أفعال العباد.

(12/26)

تغيير الرأي بعد الاستخارة

السؤال

هل يجوز للإنسان أن يغير رأيه بعد الاستخارة؟

الجواب

نعم، ممكن، يريد أن يغير رأيه إلى نية أخرى وشيء آخر ويستخير مرة أخرى.

(12/27)

الوقف في القراءة

السؤال

الوقف الذي حصل في الصلاة في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]!

الجواب

هذا تنبيهٌ طيب بلفت النظر إلى موضع الوقف الصحيح، وأي وقف يغير المعنى فإنه وقفٌ خاطئ؛ إلا إذا انقطع النَّفَس فإن الإنسان يرجع إلى موضعٍ مناسب ويبدأ منه، أي: قبل هذا المكان الذي وقف فيه، ويبدأ منه، وأنا قد يحصل معي في الصلاة في سورة الفاتحة بالذات أحياناً شيء من الانحباس في النَّفَس فأقف لا لأجل وجود سنة في هذا الموضع ولا شيء؛ لكن لأجل احتباس النَّفَس فقط، أما السنة فهي الوقوف عند رءوس الآيات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1] تقف، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2] تقف.

(12/28)

حكم من مات وعليه دين

السؤال

إذا استلف رجل من آخر فمات؟

الجواب

على ورثته أن يؤدوا دَينَه من تركته، أو يتحملوها هم؛ يؤدونها مأجورين.

(12/29)

حكم ترجمة الخطبة إلى غير العربية

السؤال

نحن من مسلمي بنغلاديش، وهناك في بعض المخيمات مساجد يصلي فيها بنغلاديشيون، نترجم لهم بالبنغالية قبل الخطبة بالعربية، فما حكم ذلك؟

الجواب

لا بأس بذلك، ولكن لو جَعلتم الترجمة بعد الخطبة أحسن، يعني: تكون البداية في الخطبة بالعربية ثم تترجمون لهم بعد ذلك بالبنغلاديشية بعد الصلاة.

(12/30)

قصة صاحب الحديقة

إن أولياء الله عز وجل يعرفون حق الله عليهم؛ فيؤدون أعظم ما طلب الله منهم، ويتنافسون في الخير والقربى إلى الله عز وجل؛ لذلك كانوا يستحقون أن يكونوا أولياء، وأن تقع لهم الكرامات الإلهية؛ جزاء أعمالهم الطيبة، وقد تناول الشيخ حديث صاحب الحديقة، وما له من كرامات، ثم تطرق بعد ذلك لبيان أحكام النفقة، ومن تجب عليهم ومن لا تجب.

(13/1)

نص حديث صاحب الحديقة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه قصة عظيمة تتعلق بالصدقة والنفقة، يرويها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة يقول: اسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرَّة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحوِّل الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال: يا عبد الله! لِمَ تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أمَّا إذا قلتَ هذا، فإني أنظر إلى ما يَخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأردُّ فيها ثلثه) هذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى وأحمد في مسنده في كرامة وليٍّ من أولياء الله كان مشهوراً بالصدقة، والإنفاق في سبيل الله.

وقد حصل أن رجلاً كان يمشي بفلاةٍ من الأرض فسمع صوتاً في سحابة، ولعل هذا الصوت صوت ملَك من ملائكة الله عز وجل، يقول: (اسقِ حديقة فلان) -يأمر السحاب، فالسحاب تنحَّى إلى حرَّة؛ وهي الأرض الملبسة بالحجارة السوداء، تنحَّى السحاب إليها، وأفرغ ماءه فيها كله- (فإذا شرجة من تلك الشراج) شرجة من تلك الشراج، وهي: مسايل الماء في الحِرار أو الحرَّة، فيها طرق وأخاديد تمشي فيها المياه وتسيل، إحدى الشراج استوعبت الماء الذي أُمطر على الحرَّة كله، فتتبع الماء إلى أين يذهب؛ فإذا الماء يذهب إلى حديقة وبستان معين، وإذا رجل في البستان يحوِّل الماء بمسحاته، صاحب الحديقة يحوِّل الماء بالمسحاة وهي: المجرفة من الحديد.

فالذي سمع الصوت في السحابة يقول: (اسق حديقة فلان) جاء إلى صاحب الحديقة وقال له: (يا عبد الله -وهذا الذي ينادَى به الشخص غير المعروف الاسم، قال له بدل ما يقول: يا فلان قال: يا عبد الله- ما اسمك؟ قال: فلان) سمَّى نفسه، فإذا بالاسم يطابق الاسم الذي سمعه في السحابة، الصوت الذي قال: (اسق حديقة فلان).

ثم إن صاحب البستان استغرب من سؤال هذا الرجل عن اسمه، فسأله: (لماذا تسأل عن اسمي؟) -فأخبره أنه سمع صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه لأنه تتبع المطر الذي نزل من هذه السحابة حتى وصل إلى هذا البستان- (فقال له: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان باسمك -نفس الاسم، تطابَقَ الاسم- فما تصنع فيها؟) لماذا الماء الذي نزل من السحابة على الحرَّة نَزَل كلُّه في إحدى الشراج التي تؤدي إلى بستانك أنت بالذات؟ ماذا تصنع في هذه الحديقة؟ (قال: أمَّا إذا قلتَ هذا -أمَّا وقد قلتَ ما قلتَ وغُلِبْتُ ولا طريقة لإخفاء عملي- فإني أنظر إلى ما يَخرج منها -ثمار هذا البستان- فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه) فقسَّم الغلة ثلاثة أقسام.

(13/2)

فوائد حديث صاحب الحديقة

يؤخذ من هذا الحديث:

(13/3)

إثبات كرامات أولياء الله

أولاً: إثبات كرامات أولياء الله تعالى: وأن الله عز وجل قد يسخر سحاباً لسُقيا حديقة معينة وبستان معين من بين جميع البساتين في المنطقة؛ وذلك لصلاح صاحبه، ونفقته في سبيل الله.

(13/4)

فضل الإنفاق في سبيل الله وعلى الأهل والولد وأن الله يخلفه

ثانياً: فضل الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على الأهل والأولاد.

الفائدة الثالثة: أن الله سبحانه وتعالى يخلف النفقة ولا يضيع أجر المحسنين لا في الدنيا ولا في الآخرة: ولذلك فإنه سبحانه يعوِّض هذا الرجل كلما أنفق بماء يسقي بستانه من غير حفر من صاحبه ولا تعب، ماء يسيل بالذات لأجل إكرام هذا العبد.

(13/5)

إمكان سماع صوت الملائكة

ورابعاً: أنه يمكن شرعاً أن يسمع بعض الناس صوت الملائكة: وقد حدث أن الله سبحانه وتعالى أرسل بعض الملائكة لبعض الناس مثل: الملَك الذي أرسله الله على مدرجة رجل ذهب ليزور أخاً له في الله، فسأله واستوثق منه عن سبب ذهابه إليه، ثم أخبره أن الله يحبه على هذا الفعل.

وكان عمران بن حصين من الصحابة رضوان الله تعالى عنهم يسمع تسليم الملائكة عليه.

فإذاً: يمكن لبعض الناس البشر أن يسمع صوت الملائكة.

(13/6)

للسحاب ملائكة موكلون

وخامساً: أن الله تعالى قد وكل بالسحاب ملائكة يسوقونها إلى المكان الذي قدر الله عزوجل وشاء أن تمطر فيه فتمطر.

(13/7)

الحكمة في التصرفات المالية

والفائدة السادسة: أهمية الحكمة في التصرفات المالية:- فإن بعض الناس سفهاء، لا يجوز أن يوضع المال في أيديهم أصلاً، قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]؛ لأنهم لا يحسنون التصرف فيها، ولذلك جُعل على مال السفيه وليٌّ في الشريعة، يشرف على إنفاق ماله وتنميته له: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] فالمال قوام الحياة والعيش.

هذا الرجل يحسن ما لا يحسنه كثير من الناس.

هذا الرجل قد قسم غلة بستانه إلى ثلاثة أقسام: - قسم يتصدق به: وهذا الذي بدأ به في الحديث، قال: (فإني أنظر إلى ما يَخرج منها فأتصدق بثلثه) هذا أولاً.

- (وآكل أنا وعيالي ثلثاً).

- (وأرد فيها ثلثاً).

فانظر إلى حكمة هذا الرجل وحسن تصرفه، كيف قسَّمها أثلاثاً.

إذاً توزيع الدخل إلى نسب معينة هذا من الحكمة وحسن التخطيط؛ أن يعرف الإنسان الراتب الشهري الذي يأخذه مثلاً، العائد الذي يعود عليه، الرزق الذي يُرْزَقَه يقسم أقساماً، فتقسيم الراتب، أو تقسيم العائد ليست عمليةً مبتدَعة جديدة جاء بها الاقتصاديون الجدد أبداً، وإنما هو شيء قديم ومعروف فعله هذا الرجل الصالح من قبلِنا، فعله هذا الرجل الصالح الذي قسَّم دخل بستانه إلى هذه الثلاثة أقسام.

فإذاً تقسيم المدخول إلى أقسام معينة يُصرف كل قسم في مصرف معين لا شك أنه من الحكمة، وبُعد النظر، وحسن التصرف، وهذا شيء مطلوب شرعاً.

(13/8)

لا بد من رعاية المال

الفائدة السابعة: أن الإنسان عليه أن يرعى ماله: ولذلك قال الرجل: (وأرد فيها ثلثاً) فالمزرعة والبستان تحتاج إلى نفقة؛ قيمة بذور، أجرة عمال، ونحو ذلك من الأشياء، وهذه النفقة قد أخذها هذا الرجل من الغلة التي تعود عليه لإصلاح ماله وتنميته والقيام عليه، وهذا من الحكمة أيضاً.

(13/9)

(الشخص الذي لم يعرف اسمه ينادى بـ (عبد الله

وثامناً في هذه القصة: أن الإنسان إذا لم يعرف اسم شخص فإنه يناديه: بعبد الله: إذا أردت أن تنادي شخصاً في الشارع لسبب من الأسباب، أو في محل وأنت لا تعرف اسمه فلا تقل يا بعض الناس يقول: يا بدون شيء؛ وهذا من قلة الأدب، أو يقول: أنت يا هاء؛ وهذا أيضاً ليس من الأدب، فما هو الأدب الشرعي في هذه الحالة؟ الأدب الشرعي كما ورد في عدد من الأحاديث: أن ينادَى بعبد الله، فيقال: يا عبد الله، وهو فعلاً عبدٌ لله، فأنت صادق في إطلاق هذا الاسم عليه لأنه عبدٌ لله، وبعد ذلك يمكن سؤاله عن اسمه: (يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان).

(13/10)

رفع الحرج في سؤال الشخص عن اسمه

وفيه أنه لا حرج شرعاً مطلقاً في سؤال الشخص عن اسمه بهذه الطريقة: (يا عبد الله! ما اسمك؟) فأجابه.

وأنه لا حرج على الإنسان أن يسأل السائل عن اسمه لماذا يسأله عن اسمه، فيقول له: (لِمَ تسألني عن اسمي؟) كما فعل هذا الرجل.

(13/11)

الإخبار بالكرامة مع عدم أمن الفتنة

الفائدة العاشرة: أنه لا بأس بإخبار الشخص عن كرامة الله له إذا كان يؤمن عليه من الفتنة: فمن باب البشارة يقال له: حصل كذا وكذا من الأشياء الصالحة، أو النعم، أو الكرامات التي أكرمه الله بها.

(13/12)

الأصل والأفضل إخفاء الأعمال الصالحة

الفائدة الحادية عشرة: أن على الإنسان أن يخفي عمله الصالح: وألا يجاهر به، وألا يعرضه للبطلان والحبوط بالرياء السمعة.

والفرق بين الرياء والسمعة: أن الإنسان يفعل العمل أمام الناس ليراه الناس، هذا الرياء.

السمعة: أن يتحدث الإنسان عن أعماله الصالحة، العبادات مثلاً ليسمعه الناس؛ كلا هذين الأمرين خطير جداً ويُبطل العمل، والله يقول يوم القيامة للعبد هذا: (اذهب خذ أجرك من الذين راءيتهم، أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك معي فيه أحد غيري تركته وشركه).

فإذاً إخفاء الأعمال مطلوب.

ولكن الإنسان إذا اضطر إلى الإجابة عن شيء معين تطييباً لخاطر شخص، أو أن يُقتدى به فلا بأس أن يُخبِر عن عمله الصالح، ما دام لا يقصد الرياء والسمعة واحتيج إلى ذلك، دعت الحاجة إليه، لا بأس أن يُخبِر بما عمل إذا كان هناك مصلحة شرعية في هذا العمل.

(13/13)

جواز التحديث عن أخبار من قبلنا

وفي هذا الحديث أيضاًَ من الفوائد: التحديث عن أخبار من قبلَنا حتى يكون في ذلك عبرة لنا وقدوة:- وهكذا دائماً دأب الصالحين الاقتداء بمن قبلَهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].

(13/14)

تعريف النفقة وأحكامها

وبعد هذا نأتي إلى ذكر بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالنفقة وهو أحد الأشياء التي ذكرها هذا الرجل فقال: (وآكل أنا وعيالي ثلثاً).

فما هي أحكام النفقة؟ وعلى من يجب على الإنسان أن ينفق؟ وكم ينفق؟ أما النفقة فهي في اللغة: الدراهم ونحوها من الأموال، هذه تسمى نفقه لأنها تنفَق.

تعريف النفقة شرعاً: كفاية من يمونه بالمعروف قوتاً، وكسوةً، ومسكناً، وتوابعه.

أنت مسئول عن شخص معين؛ زوجة أو ولد؛ كفايته أن تعطيه ما يكفيه بالمعروف من الكسوة والقوت وتوابع ذلك المسكن، هذه هي النفقة الشرعية، النفقة.

وأول ما يجب على الإنسان النفقة بعد نفسه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك) ثانياً: زوجته، فيلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً، وكسوةً، وسكنى بما يصلح لمثلها.

(13/15)

الزوجة ومراعاة النفقة عليها

فإذاً يراعي في الإنفاق حال الزوجة، البيت الذي هي منه، كيف كانت تعيش عند أبيها، القوم الذين هي منهم، فإذاً يراعى في الإنفاق على الزوجة ما يصلح لمثلها، قد تكون مثقفة تحتاج إلى نفقة غير الأمية، قد تكون من عائلة غنية غير العائلة الفقيرة، ونحو ذلك.

إذاً لا بد من مراعاة حال الزوجة عند الإنفاق عليها، ما هو الدليل؟ قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).

إذاً لو أن أحداً قال: كم أنْفِق عليها؟ أعطيها شيئاً بيدها، هي تصرف على نفسها؟ أو أن أُنْفِق أنا عليها؟ وكم أنفق عليها؟ وكم يجب عليَّ؟ وما هي النسبة؟ وما هو المقدار؟ فالآية أجابت عن ذلك بقول الله تعالى: {بِالْمَعْرُوف} [البقرة:241] ما تعارف عليه الناس بينهم من الأمور المقرَّة بينهم.

فإذاً ينفق عليها بالمعروف، مثلاً: تحتاج إلى طعام لا بد أن يعطيها الطعام، تحتاج إلى شراب لا بد أن يوفر لها الشراب، تحتاج إلى فستان، تحتاج إلى جورب، تحتاج إلى خمار، حجاب، فلا بد أن يعطيها ذلك، فإذاً مرد الإنفاق إلى العرف وليس هناك مقدار معين للنفقة حددته الشريعة، وإنما جعل ذلك إلى العرف وإلى يسار الزوج وإعساره.

إذاً هناك أمران يتحكمان في النفقة على الزوجة: الأول: العرف.

والثاني: حال الزوج من الغنى والفقر، واليسار والإعسار.

هل هو متوسط الحال، هل هو فقير الحال، هل هو غني.

وعند النزاع يقدر القاضي مقداراًَ معيناً يوجب على الزوج أن ينفقه على زوجته عند النزاع، ويُراعي القاضي هذين الأمرين، مثلاً: إذا كان حال الزوج مع العرف ينفق عليها ألفاً في الشهر إذاً ينفق عليها ألفاً، يفرض لها ألفاً، سبعمائة، خمسمائة، فيُفرض للموسرة تحت الموسر من النفقة قدر كفايتها، مما تأكل الموسرة تحت الموسر في محلهما، ويُفرض لها كذلك من الكسوة، والفرش، والأثاث، ما يليق بمثلها في البلد، وكذلك المتوسط مع المتوسطة، والفقير مع الفقيرة، ونحو ذلك.

وعلى الزوج نفقة نظافة زوجته.

وكذلك فإن عليه أن ينفق عليها إذا طلقها طلاقاً رجعياً لأنها ما زالت في عصمته، أما طلاق البينونة الكبرى فلا نفقة لها، ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس عندما طلقها زوجها البتة -يعني: بالثلاث انتهت- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نفقة لها ولا سكنى) إلا إذا كانت حاملاً فإنه لو طلقها الطلقة الأخيرة وهي حامل فلها النفقة لأجل الجنين الذي في بطنها الذي هو ولده وهو مكلف بالإنفاق عليه، ولا يمكن فصل الولد عن الأم؛ لأنه ما زال في بطنها، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فإذاً لها سكنى ولها نفقة طيلة حملها حتى لو كان الطلاق مبتوتاً بالثلاث.

(13/16)

أسباب تسقط بها نفقة الزوجة

تسقط نفقة الزوجة بأسباب: - منها: إذا امتنعت عن تسليم نفسها له، أو حُبست عنه؛ لأنه لا يمكن أن يستمتع بها، والنفقة واجبة مقابل الاستمتاع.

- كذلك من الأحوال التي تسقط نفقة المرأة فيها: إذا نشزت عنه، نشزت أي: خرجت من البيت ورفضت الرجوع، امتنعت عن الفراش، امتنعت من الانتقال معه من بيت إلى بيت، أو من بلد إلى بلد ما لم يكن هناك شروط، فامتنعت من الانتقال معه فإنها تعتبر ناشزاً، ولا يمكن أن يستمتع بها، ولذلك لا نفقة لها.

- كذلك من الحالات التي لا تجب فيها النفقة على الزوجة: إذا سافرت لحاجتها لا لحاجته، فإذا كان لها حاجة هي وسافرت فلا يجب الإنفاق عليها، إعطاؤها من باب الإكرام، من باب التودد، من باب البر، لكن الوجوب إذا سافرت لحاجتها هي فعند ذلك يسقط الوجوب، ولكن الإحسان والبر والمعاشرة بالمعروف أن يعطيها، أما إذا سافرت لحاجته، هو الذي أرسلها، فإن النفقة باقية عليه.

والمرأة المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها من تركة الزوج؛ لأن المال انتقل من الزوج إلى الورثة، فالنفقة عليها، وكذلك هي من الورثة، فإذا كانت المتوفى عنها حاملاً وجبت النفقة في حصة الحمل من التركة إن كان للمتوفى تركة.

ويجوز تعجيل النفقة كأن يعطيها نفقة سنة مقدماً ويقول: أنفقي على نفسك من هذا المال، وتجب لها الكسوة كل عام من أوله؛ كسوة الشتاء وكسوة الصيف.

ومن غاب عنها زوجها ولم يترك لها نفقة، أو كان حاضراً ولم ينفق عليها لزمته النفقة عما مضى لأنه دين في عنقه، لها أن تطالبه به، وإن أعسر فبعد اليسار يعوضها عما فات.

(13/17)

وقت إيجاب النفقة على الزوجة

متى يجب الإنفاق؟ من حين تسليم الزوجة نفسها له، وليس بمجرد العقد؛ فإذا عقد عليها لا زالت النفقة على أبيها.

مثلاً: فإذا صارت حفلة الزفاف وسلَّمت نفسها له، من تلك اللحظة يجب الإنفاق، ويجوز للمرأة أن تطلب فسخ النكاح إذا امتنع الزوج الإنفاق عليها، أو أعسر، يجوز لها أن تطلب الطلاق وإذا صبرت عليه فهي مأجورة.

وكذلك لها أن تستدين على حسابه في حال غيابه إذا لم يترك لها شيئاً، تأخذ من البقَّال مثلاً الأغراض، أغراض البيت وما تحتاجه على حسابه إذا غاب عنها.

وكذلك يجوز لها أن تأخذ من جيبه خفية إذا بخل عليها بالنفقة لكن بالمعروف، لحديث هند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).

وهذه الأحكام تدل على عدل الشريعة وكمالها.

(13/18)

النفقة على الأقارب غير الزوجة

أما غير الزوجة فعلى من؟ ينفق الإنسان؟ ينفق على أقاربه ومماليكه.

وأقارب الإنسان: كل من يرثه بفرض أو تعصيب.

والمماليك: العبيد، الإماء، ويدخل كذلك البهائم فيجب على الإنسان شرعاً أن ينفق عليها، نحن سبقنا جمعية الرأفة بالحيوان، الذين يحتاجون إلى الرأفة بالإنسان.

ويجب على الإنسان أن ينفق على كل من تحت ملكه من إنسان وبهيمة، بالإضافة إلى الأقرباء كما ذكرنا.

(13/19)

الأقارب الذين ينفق عليهم

ومَن هو القريب الذي يجب الإنفاق عليه؟ الأقرباء كُثر.

ف

الجواب

إذا كان القريب من عمودَي النسب تجب نفقته عليك، إذا احتاج وما عنده ما يسد حاجته.

فعمودا النسب: الآباء والأجداد وإن علَو، والعمود الثاني: الأبناء والأحفاد وإن نزلوا.

فيجب عليك أن تنفق على أبيك إذا احتاج وأمك والجد وأبو الجد إذا احتاج وما عنده، وأنت تستطيع يجب عليك أن تنفق عليه، ابنك، وبنتك، وحفيدك، حفيدتك، إذا كنت قادراً واحتاجوا يجب أن تنفق عليهم.

فإذا كان القريب من عمودَي النسب، وكان المنفق غنياً؛ عنده ما يستطيع أن ينفق على هؤلاء، وكان المنفَق عليه محتاجاً، فقيراً، لا يملك شيئاً، أو لا يملك ما يكفيه، أو لا يقدر على الكسب، وكان على دِين واحد؛ أما إذا كان كافراً لا تجب النفقة، إذا كان ولده كافراً، أبوه كافراً، فالنفقة تجب على الإنسان لقريبه إذا كان على دِين واحد.

والدليل على وجوب النفقة على الوالدين قول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] والإنفاق عليهما من أعظم الإحسان.

والدليل على وجوب النفقة للأولاد على أبيهم قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] مَن هو المولود له؟ الأب: {رِزْقُهُنَِّ} [البقرة:233] طعام الوالدات: {وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة:233] لباسهن: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] بما جرت به العادة: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] يدل على أن المتوارثين من القرابات، هناك حقوق ومنها: النفقة، فإذا كان هناك إنسان أنت ترثه لو مات فيجب عليك أن تنفق عليه إذا كان فقيراً محتاجاً، وقال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] فإذا كان أخوك فقيراً وأنت قادر إذاً يجب أن تنفق عليه، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26].

فنفقة الأقارب المحتاجين على قريبهم الغني واجبة إذا كان قادراً، وجاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مَن أَبَرُّ؟ قال: أمَّك وأباك وأختَك وأخاك) وفي رواية: (وابدأ بمن تعول؛ أمَّك وأباك وأختَك وأخاك، ثم أدناك أدناك) هذا يفسر قول الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] ذا القربى عام، وهذا تفصيله في السنة.

والوالد تجب عليه نفقة الولد كاملة ينفرد بها، ما يوزع هذا، يقول: فقط عليَّ الطعام، أكلك عليَّ، لبسك ما لي دخل فيه، سكنك عليَّ، وكذا، يجب عليه أن ينفق على الولد نفقة كاملة.

والفقير الذي له أقارب أغنياء وليس لديهم أب حتى نحمِّل الأب النفقة كاملة، هل يتحملها الأكبر منهم؟ ليس عدلاً، نقول: يشتركون في الإنفاق عليه كلٌّ بقدر إرثه منه، فإذا كان -مثلاً- كل واحد يرث منه الثلث، نقول: ثلث النفقة على كل واحد منهم هذا يرث السدس، نقول: أنت سدس النفقة عليك، وهذا يرث النصف، نقول: نصف النفقة عليك، وهكذا.

وأما نفقة المماليك من الأرقاء والبهائم فإنها تجب بالمعروف أيضاً: (إخوانكم خَوَلُكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه -يعني: العبد- تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم).

وإن طلب الرقيق نكاحاً زوجه سيده أو باعه حتى لا يمنعه من الزواج، وكذلك إن طلبت الأمة خُيِّر سيدُها بين وطئها، أو تزويجها، أو بيعها؛ لئلا يضر بها، وكذلك الدابة؛ العلف والسقْي وكل ما يصلحها لا بد من ذلك: (عُذبت امرأة في هرة) الحديث، فكل حيوان عندك لو كان عندك عصفور يجب عليك الإنفاق عليه، ولا يجوز تعذيب البهيمة، ولا حلبها بما يضر ولدها، ولا لعنها، ولا وسمها في وجهها، فإن عجز عن الإنفاق عليها أُجبر على بيعها، أو تأجيرها، أو ذبحها إذا كانت مما تؤكل؛ لأن بقاءها مع رجل لا ينفق عليها ظلم لها، هذا معلوم من الفقه الإسلامي، والذي قلنا أنه سبق الغربيين في الرأفة بالحيوان منذ قديم الزمان.

هذه بعض الأشياء المتعلقة بالنفقة، وهذا كان له علاقة بحديث اليوم والقصة التي سبق ذكرها.

وأيضاً: فإن من الأشياء المتعلقة: الصدقة؛ والصدقة التي ذكرها الرجل هي: إعطاء الفقراء والمساكين وغير ذلك من وجوه البر لأن أبواب الصدقة كثيرة جداً، ولا يجوز للإنسان أن يرجع في صدقته إذا سلمها للفقير أو للشخص الذي تصدق به عليه، وكذلك لا يشتري صدقته، ويُخفي الصدقة، كما أن هناك آداباً تتعلق بهذا الموضوع، ربما نأتي عليها مرة أخرى إن شاء الله.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(13/20)

الأسئلة

.

(13/21)

وجوب إخراج الزكاة الماضية

السؤال

رجل لم يُخرج زكاة الفطر العام الماضي، هل تبقى في الذمة؟

الجواب

نعم، تبقى في الذمة ديناً عليه لله تعالى، ويتوب من تأخيرها، وعليه الإخراج.

(13/22)

قضاء صلاة العيد

السؤال

هل صلاة العيد تُقضى؟

الجواب

قال بعض العلماء: إن من فاتته صلاة العيد فإنه يصليها، من الممكن أن يصلوها جماعة مثلاً إذا فاتتهم بعد صلاة الإمام، لا بأس بذلك.

(13/23)

حكم إخراج زكاة الفطر مالاً يشترى به طعاماً

السؤال

في بعض المساجد هناك إعلان عن قبول قيمة عشرة ريالات زكاة الفطر يقومون هم بشراء الأرز أو التمر!

الجواب

لا بأس بذلك، ما دام أن الشخص هذا ثقة أو هذه اللجنة موثوق بها تُعطَى المال لتشتري به الطعام.

(13/24)

حكم الصلاة في مسجد بجواره قبور

السؤال

يوجد في بلدتنا مسجد، ومجاورٌ لهذا المسجد قبور أهل البلدة التي يَدفنون بها!

الجواب

ما دام خارج المسجد فلا بأس من الصلاة في المسجد، الأحسن أن يُجعل بينهما وبين المسجد طريق لكي يتم الفصل التام بين المقبرة والمسجد، وجداران؛ جدار للمقبرة، وجدار للمسجد.

(13/25)

حكم ملاعبة الزوجة دون الإيلاج

السؤال

صائم عمل كل شيء مع زوجته ما عدا الإيلاج والإنزال!

الجواب

عليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهو قد جرح هذا الصيام، ونقص منه بقدر ما وَلَغَ في هذا الأمر المحرم.

(13/26)

مقدار نصاب زكاة المال

السؤال

كم هو النصاب الواجب في المال اليوم، في الزكاة؟

الجواب

إذا كانت العملة مقوَّمة أصلاً بالذهب فهو نصاب الذهب، وإذا كان العملة مقوَّمة بالفضة فهو نصاب الفضة.

(13/27)

حكم صلاة المرأة إذا زاد حيضها على عادتها

السؤال

امرأة دورتها الشهرية سبعة أيام وعندما ظهر لها علامة الطهر بين قوسَين (الكُدْرة) -وهذا خطأ، علامة الطهر ليست الكُدْره، علامة الطهر هي السائل الأبيض النقي الذي يدفعه الرحم بعد العادة- الذي يخرج وارء العادة، تطهرت وصامت، وفي اليوم الثامن رأت الدم ثم الكُدْرة فقالت: ربما لم تنتظر فتطهرت وصامت، تكرر ذلك في التاسع والعاشر والحادي عشر!

الجواب

إذا رأت الطهر فلا يضرها ما خرج بعد ذلك من الكُدْره، وأما إذا لم تر الطهر فالكُدْره المتصلة بدم الحيض من الحيض، ولو استمر الدم لا تصلِّي ما لم يبلغ خمسة عشر يوماً فإذا بلغ خمسة عشر يوماً اعتبرناها مستحاضة وقلنا لها: اعتدي بعادتك الأصلية إذا كانت سبعة أيام، أو ستة أيام، أو ثمانية أيام، واقضي ما مضى من الصلاة والصيام.

(13/28)

حكم سفر الخادمة مع العائلة

السؤال

سفر الخادمة مع العائلة بَراً؟

الجواب

لا يجوز سفر الخادمة بغير محرم لأنها امرأة، امرأة تدخل في الأحاديث، وعليهم أن يبحثوا عن مكانٍ آمن يضعوها فيه عائلة مأمونة، إذا ما وجدوا فإن أخذها في هذه الحالة يكون من باب الحاجة الشرعية، أو الضرورة الشرعية، إذا خُشي عليها أو خشي منها، إذا تُركت وحدها تؤخذ من باب الضرورة، ولكن ليس هذا هو الأصل.

(13/29)

حكم الخروج بالأهل إلى السوق

السؤال

هل يجوز للرجل أن يذهب بأهله إلى السوق مع ما فيه من الفجور والفساد العظيم؟

الجواب

هو لا بد من الذهاب إلى السوق، لأنه لا يمكن للواحد كيف يوفر الأغراض؟ لكن ماذا يفعل؟ ينتقي أولاً: الأسواق التي لا يغلب عليها، أو التي هي أقل سوءاً من غيرها، هناك بعض الأسواق أقل سوءاً من غيرها، حتى المجمعات التجارية تختلف؛ بعض المجمعات بالتجربة وبالخبرة تعرف أنها فيها نوع من المحافظة، وفيها نوع من الحراسة مثلاً، فالذهاب إليها أولى من الذهاب إلى غيرها ولا شك.

ثانياً: انتقِ الوقت المناسب، فمثلاً: في هذه الأيام الذهاب بعد الظهر وبعد العصر وفي الصباح أحسن من الذهاب في الليل بآلاف المرات، ولذلك الذهاب في هذه الأوقات مناسب.

ثم بعد ذلك ثالثاً: التزام الشروط الشرعية: غض البصر، الحجاب الكامل للأهل.

ثم الإنسان يتجنب مضايق الزحام الشديد، الأماكن المكتظة، الأماكن المليئة بالنساء أو التبرج، ربما يدخل المكان وبعد قليل تغيِّر وضع المكان، وهكذا.

(13/30)

حكم زواج الشاب بدون علم أبيه وأمه

السؤال

شخص يريد أن يتزوج دون علم والدته ووالده، ويريد أن يبقى الزواج سراً؟

الجواب

لا.

ما يمكن أن يبقى الزواج سراً عاجلاً أم آجلاً، فهو لا بد أن يعلنه ويشهره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعليه أن يرضي والديه، يسترضيهما قدر الإمكان، وإذا كانا يرضيان بفتاة دون فتاة ينتقي الفتاة التي يرتضيانها إذا كان ليس بها عيبٌ من دين أو خلق، وأما إذا احتاج للزواج وهو طالب وهما يرفضان زواجه فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والحال حاله يعرفها، فإذاً يتزوج مع الإحسان إليهما.

(13/31)

حكم إعطاء العطية مع مقابلتها بمكافأة أكبر

السؤال

هل يجوز لي أن أعطي لشخص لعلمي أنه سيعطيني هدية أكبر منها؟

الجواب

هذا من الطمع في الدنيا ولا شك، وليس من باب (تهادوا تحابوا) وليس من الأخوة، لكن هل نقول له: يحرم؟ إذا كان الشخص الآخر لا يُحرج، ولا يَشق عليه، أو لا يستدين من أجلك، فلا يَحرم؛ لكنه ليس من العبادات والطاعات أن الإنسان ينوي بأن يعطي بهذه النية.

(13/32)

حكم وطء العبد سيدته

السؤال

إذا كان الرجل عنده أمَة من حقه أن يطأها شرعاً، فإذا كانت الحرة عندها عبدٌ فهل تمكنه من نفسها؟

الجواب

لا يجوز حتى بالفطرة، فهي تتصرف فيه، وعليه الخدمة والزراعة والبيع والشراء وكل شيء من الأشياء يقوم بها، ولها أن تبيعه أو تؤجره؛ ولكن الوطء لا، بل عليها أن تحتجب منه ما تكشف عليه كمَحْرَم، لا.

(13/33)

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في القرآن

السؤال

أقرأ القرآن، فذُكِر النبي صلى الله عليه وسلم، هل أصلي عليه؟

الجواب

نعم.

لا بأس بذلك، صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم.

(13/34)

هل تقطع المرأة الصلاة في الحرم؟

السؤال

حديث: (أن المرأة تَقْطَع الصلاة) كيف يطبَّق في الحرم؟

الجواب

في حالات الزحام الشديد التي لا يمكن فيها تجنب مرور الناس أمام بعضهم بعضاً عند ذلك يسقط الحكم لتعذر تطبيقه لأنك كلما مرت بين يديك امرأة كبرت للإحرام فلن تصلي إلا بعد خروج الوقت في بعض الحالات، الزحام الشديد، ولذلك {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فأولاً: إذا كنت وراء إمام فلا يضرك من مر بين يديك، لكن إذا كنت تصلي وحدك، فأنت ترد المرأة التي تمر، فإذا كان الزحام شديداً جداً، تمنع من؟ وتُبْقِي من؟ فعند ذلك صلاتك صحيحة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] مثل الزحام هذا في ليلة السابعة والعشرين، في الحرم، وليلة ختم القرآن، هذا قد لا يتيسر مطلقاً، بل ربما ما يجد الواحد مكاناً يصلي فيه أصلاً.

(13/35)

المقصود بالنفقة على الزوجة

السؤال

بعض النساء لا يفهمن النفقة بمعناها الشامل ويقصدن بها النفقة الخاصة مثل: الملابس وما شابهها، ويقولون: أعطنا نفقتنا الشهرية؟

الجواب

إذا لم ترد الطعام فهذا شأنها، وإذا كانت تريد ملابس، فتزيد في الطلب لأجل التفاخر أو المباهاة أو المغالاة، فتريد الشيء المرتفع الثمن الذي يقصم ظهر الزوج ويأتي على راتبه؛ فهذا طبعاً ليس من حقها أن تشق على زوجها وإنما ينفق عليها بالمعروف، فلا إفراط ولا تفريط.

وبعض النساء عاقلات يعني: تدرك أن هناك أشياء مهمة يحتاج مثلاً الزوج إلى بيت وهو الآن يستأجر بيتاً وهو يريد أن يبني بيتاً فهي تقتصد معه من أجل البيت لأن البيت بيتهما، لأن هذا البيت سيكون بيتاً لهما جميعاً فهي تساعد زوجها.

وبعض النساء ليست بعاقلة جداً فهي تريد أن تبذر وتسرف في الأموال ولو كان على حساب الأشياء المهمة والضرورية للبيت وللأولاد أو للزوج والأولاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء.

فإذاً ينبغي أن تنظر، وفي نفس الوقت ليس معنى هذا أنه كلما طلبت منه لباساً قال: نريد أن نبني بيتاً، كلما جاءت تطلب منه شيئاً، قال: نريد أن نبني بيتاً، هذا الشيء لا ينتهي، فلا يجعل هذا حجة لرد كل طلباتها، وفي نفس الوقت هي لا تتمادى في الطلبات بحيث تشق على الزوج.

(13/36)

كيفية كفارة اليمين

السؤال

في كفارة اليمين هل يجزئ أن يطعم خمسة مساكين مرتين بدلاً عن عشرة؟

الجواب

لا، لا بد من عشرة مختلفين.

(13/37)

جواز صلاة القيام في أكثر من مسجد

السؤال

هل يجوز أن يصلي في مسجد القيام ثم يذهب إلى مسجد آخر يصلي معهم؟

الجواب

نعم.

لا بأس بذلك، لكن لا يعيد الوتر: (لا وتران في ليلة).

(13/38)

حالات الجمع والقصر في السفر

السؤال

في صلاة المسافر أيهما أولى: الجمع، أم القصر؟

الجواب

إذا كان متحركاً في سفره في السفر في الطريق يجمع ويقصر، إذا نزل بلداً يوماً أو يومين أو ثلاثة يعني: لا زال مسافراً فهو يقصر من غير جمع؛ هذه هي السنة، في مكة أو في غير مكة.

(13/39)

أجر من صلى صلاة القيام كلها مع الإمام

السؤال

كيف يطبَّق أجر حديث: (إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف)؟

الجواب

يعني: من كل الصلاة، سواء كانت الصلاة جزءاً واحداً أو جزأين، إذا صلى معهم حتى ينصرف من كل الصلاة، كذلك لو كان في المسجد به أكثر من إمام، حتى ينصرف يعني: حتى تنقضي كل الصلاة.

هذا والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(13/40)

قصة عائشة رضي الله عنها وقبر البقيع

زيارة القبور تذكر بالآخرة، وترقق القلب، وتزكي النفس، ولكن قد طال على المسلمين الأمد كما طال على الذين من قبلهم، فقست قلوبهم فلم يعودوا ليتعضوا إلا مَنْ رحم الله، وحل الابتداع محل التذكر والاتباع، وقد وضح الشيخ ذلك من خلال شرحه لحديث عائشة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم بقيع الغرقد، وذكر بعض أحكام المقابر.

(14/1)

حديث زيارة البقيع وشرحه

الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هي من القصص التي لها علاقة بما يزيد الإيمان، وهو زيارة المقابر.

وسنتعرض إن شاء الله بعد هذه القصة لبعض أحكام وآداب زيارة المقابر.

والقصة: قصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي رواها الإمام أحمد ومسلم وغيرهما: عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوماً: (ألا أحدثكم عني وعن أمي؟ فظننا أنه يريد أمه التي ولدته، قال: قالت عائشة -وهي أمه لأنها أم المؤمنين، وهي كذلك أمنا جميعاً- قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوَضَع رداءه) انقلب، أي: رجع إلى بيته من صلاة العشاء، وكان عادتهم النوم بعد صلاة العشاء مباشرة، فلا سمر عندهم إلا في حالات خاصة، وكانوا يؤخرون العشاء كما هي السنة، ثم ينامون بعدها استعداداً لقيام الليل؛ هكذا كان المجتمع الأول في استعداده لقيام الليل.

(انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه -صلى الله عليه وسلم- وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رَقَدْتُ -في رواية أحمد، أي: لبث عليه الصلاة والسلام على فراشه فترة ظن أن عائشة قد نامت واستغرقت في النوم- فأخذ رداءه رويداً -أي: برفق لئلا يزعجها- وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً -أي: أغلقه وراءه- فجعلتُ درعي في رأسي واختمرتُ، وتقنعتُ إزاري -لبِسَتْ إزارها واستترت- ثم انطلقتُ على إثره) أي: تَبِعْتُه، خرجت من باب البيت وتَبِعَتْه خفية وهو لا يدري صلى الله عليه وسلم، (حتى جاء البقيع)، وهو: بقيع الغرقد؛ مقبرة المسلمين بـ المدينة، سُمِّي بـ بقيع الغرقد لغرقد كان فيه، وهو ما عَظُمَ من نبات العوسج.

(فقام عليه الصلاة والسلام عند المقبرة فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفتُ، وأسرع فأسرعتُ، فهرول فهرولتُ، فأحضر فأحضرتُ، فسبقته فدخلتُ).

ومعنى الإسراع والهرولة واضح.

وأما أحضر: فمن الإحضار، وهو العدو، فكأنه أسرع ثم زاد سرعته؛ ولكن عائشة سبقته في الظلام، فدخلت الحجرة قبل أن يدخلها عليه الصلاة والسلام.

(فأَحْضَر فأحضرتُ، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعتُ، فدخل صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لكِ يا عائش حشيا رابية؟!) رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدر عائشة متهيجاً، يسرع في الارتفاع والانخفاض، والنفس متزايد عندها، فسألها قال: (ما لكِ يا عائش حشياً رابيةً) ما لكِ حشيا، الحشا، وهو: الربو والتهيج الذي يحدث للمسرع في مشيه من ارتفاع النفَس وتواتره، رابية: مرتفعة البطن؛ يعني: هذا الذي يحدث لمن أسرع، أو هرول، أو جرى.

قالت: (قلت: لا شيء يا رسول الله! قال: لَتُخْبِرِنِّي أو لَيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، فأخبرته الخبر، قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قلت: نعم فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني) -واللهز هو: الضرب بجمع الكف في الصدر- (وقال عليه الصلاة والسلام: أظَنَنْتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) هذه اللهزة الشديدة كانت تأديباً من النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة من سوء الظن.

وذلك أنها أساءت الظن، وخافت أن يكون قد ذهب في ليلتها إلى زوجةٍ أخرى، ولذلك خرجت وراءه، وكانت عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم شديدة الغيرة جداً، فلما رأته خرج من بيتها في ليلتها خشيَت أن سيذهب إلى زوجة أخرى في ليلتها، فلَهَزَها في صدرها لهزةً أوجعتها، وقال: (أظننتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) أظننت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يظلمك ويذهب في ليلتك إلى امرأة أخرى من زوجاته، وهو أعدل الناس؟! الإنسان إذا كان عند زوجة في ليلة فلا يذهب إلى غيرها، لأن لكل واحدة قسماً.

فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفعل ذلك دون أمر من الله، لا يمكن أن يذهب إلى امرأة أخرى في ليلة واحدة، إلا بأمر من الله، قالت عائشة رضي الله عنها: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم).

فـ النووي رحمه الله ذكر في شرح الحديث: أنها قالت هذا وقررته: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم) يعني: نعم كذلك، أنه مهما كتم الواحد شيئاً فالله يعلمه.

قال: (نعم.

وفي رواية: قال: نعم، فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منكِ، فأجبتُه فأخفيتُه منكِ، ولم يكن ليدخل عليكِ وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أنكِ قد رقدتِ، فكرهتُ أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي) -يعني: إذا تركتُ البيت وأنتِ مستيقظة؛ وخرجتُ بقيت في وحشة في الظلمة، فما أحببت أن أوقظكِ لئلا تبقي في وحشة، وظننتُ أنكِ قد نمتِ فخرجتُ.

ماذا قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إن ربك جلَّ وعز يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت عائشة رضي الله عنها: كيف أقول لهم يا رسول الله لو أنا ذهبتُ؟ فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله لَلاحقون).

(14/2)

من فوائد حديث زيارة البقيع

هذا الحديث فيه فوائد متعددة:-

(14/3)

أن نساء النبي أمهات للمؤمنين

فمن ذلك: أن أمهات المؤمنين أمهاتٌ للجميع، وأن احترام أمهات المؤمنين واجب: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب:53] فهن محرماتٌ علينا، والذي يقذف واحدة من أمهات المؤمنين بالفاحشة فهو كافر؛ لأنه مكذب لله تعالى الذي أخبر أن الطيبات للطيبين، والنبي صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين، ولا يمكن أن يجعل الله تحت نبيٍّ امرأةً بغياً.

ولذلك بعض الكفار يقولون: إن عائشة -والعياذ بالله- قد ارتكبت الفاحشة.

ويقولون: إن مهديهم سيخرج آخر الزمان، ويستخرجها من قبرها ويقيم عليها حد الرجم، لعنة الله عليهم آمين.

ولذلك فاحترام أمهات المؤمنين واجب، ومن قذف عائشة بما برأها الله منه فهو كافر؛ لأن الله برأها مما رماها المنافقون به من فوق سبع سموات في سورة النور، فمن قذف عائشة فهو كافر.

(14/4)

حسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه

ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً لطيفاً حسن العشرة لزوجته:- ولذلك بقي في الفراش حتى ظن أن عائشة قد نامت لئلا تستوحش إذا أيقظها وخرج، أو خرج قبل أن تنام وتركها في الظلمة تستوحش، فبقي حتى ظن أنها قد نامت ثم خرج؛ وهذا من حسن العشرة مع المرأة، وأن من حسن العشرة ألا تترك المرأة وحيدة في الظلمة، ولكن ينبغي على المرأة كذلك ألا تكون جبانةً تخشى من ظلها، وينبغي أن يكون عندها شيءٌ من التحمل خصوصاً عند خروج الزوج لحاجة، كهؤلاء الذين يخرجون في النوبات الليلية في الأعمال، وأنه ينبغي على الزوج أن يجعل من يؤنس وحشة زوجته، أو يجعل في المكان شيئاً من أسباب الأمن مما يكون فيه حماية لزوجته بإذن الله تعالى إذا بقيت في البيت وحدها في الليل.

(14/5)

استحباب إطالة الدعاء عند زيارة القبور

ثالثاً: استحباب إطالة الدعاء:- لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك وأطال الدعاء.

رابعاً: استحباب رفع اليدين في الدعاء:- وقد ورد هذا في أكثر من مائة حديث.

خامساً: استحباب زيارة القبور:- وسنأتي على ذلك إن شاء الله.

سادساً: أنه لا بأس من زيارة القبور في الليل.

سابعاً: أن الدعاء في المقبرة واقفاً أفضل من الدعاء فيها جالساً.

(14/6)

العدل بين الزوجات وتأديب الزوجة بالمشروع

ثامناً: وجوب العدل بين الزوجات، وأنه لا يجوز للإنسان أن يذهب في ليلة زوجة إلى زوجة أخرى إلا بإذن صاحبة القسم، أما الطوارئ والأشياء الضرورية فلها حكم آخر، وهذا حكم شرعي من أحكام العدل بين الزوجات.

تاسعاً: مشروعية تأديب الزوجة إذا أساءت الظن بزوجها، أو أساءت العشرة، أو نشزت.

عاشراً: أن تأديب الزوجة لا يكون بما يجرح، ويسيل الدم، أو يكسر العظم، أو يفقأ العين، أو بضرب الوجه، فإن ذلك حرام، وإنما يكون بشيء مؤثر دون أن يكون مؤذياً أو مسبباً لأمرٍ من الأمور المحرمة، ككسر أو جرحٍ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لهزها في صدرها لهزة أوجعتها، ولكن لم تكن قاسية بحيث تكسر مثلاً، أو تُقْعِد.

(14/7)

علم الله تعالى بكل شيء

الحادي عشر: أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.

(14/8)

السلام المشروع على أهل المقابر

الثاني عشر: أن الدعاء المستحب للإنسان إذا ذهب إلى المقبرة أن يسلم على الموتى بقوله: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منكم ومنا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لَلاحقون، هذا أحد الألفاظ التي تقال عند الذهاب إلى المقبرة.

(14/9)

حرمة المقابر وأحكام ذلك

الثالث عشر: أن الموتى هم أهل المكان وساكنوه، فلا يجوز الاعتداء عليهم، فالميت إذا سبق الحي إلى الأرض فهو ساكنها مثل الأحياء، فلا يجوز لإنسان نبش القبور، ولا إخراج جثث المسلمين، أو يبني في المقبرة بيتاً أو يزرعها مثلاً؛ لأن الميت سبق الحي إلى المكان؛ وهذه حرمة للميت لا يجوز انتهاكها.

فالمقبرة بيوت الأموات؛ وبيوت الأموات لا يجوز انتهاك حرمتها، ولا يجوز إخراجهم منها إلا للأمر الطارئ والضروري كما إذا جاء سيل أخرج العظام عن مكانها، أو صار المكان ليس فيه حرمة مثلاً، فتُنْقَل عند ذلك الجثث والعظام إلى مكان آمن.

ونَبَّاش القبور عند بعض العلماء سارق تقطع يده، وبعض الناس يسرقون الجثث ويبيعونها على كليات الطب في بعض البلدان، فحكم نباش القبور عند بعض العلماء سارق تقطع يده، لأنه سرق من حرز؛ وهو الأرض، فإنها حرز للجثة، واستدل العلماء على ذلك بقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 - 26].

فالأرض حرز للجثة، فمن سرق الجثة قطعت يده، وهو مرتكب لكبيرة من الكبائر.

وبعض الناس يتساهلون في إخراج جثث الأموات ليبنوا بيوتاً أو للزراعة ونحو ذلك؛ وهذا حرام لا يجوز فعله مطلقاً، وهذا خاص بمقابر المسلمين.

وأما مقابر الكفار فليس لها حرمة، فإذا حصلت حاجة للأرض أُخْرجت جثث الكفار ونُقِلَت إلى أي مكان آخر.

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني المسجد النبوي المعروف، أخرج جثث قبور المشركين التي كانت موجودة، فدل ذلك على جواز إخراج جثث الكفار ونقلها للمصلحة.

أما قبور المسلمين لا يجوز العبث بها مطلقاً، ويجب أن تسوَّر المقبرة حتى تكون مصانة عن أيدي العابثين.

ولا يجوز أن تجعل مَجْمَعاً للقمامة أو النفايات.

ويجب أن تصان القبور عن كل شيء يفسدها أو يضر بها، كالمشي فوقها، أو المشي بينها بالنعال، أو القعود عليها، أو جعلها مجمع نفايات، أو مأوى للكلاب الضالة، ونحو ذلك.

كذلك يؤخذ من هذا الحديث: زيارة النساء للقبور:- ولكن عدداً من العلماء ذهب إلى تحريم ذلك؛ لحديث: (لعن الله زوَّارات القبور.

وفي رواية: لعن الله زائرات القبور) وقالوا: إن أحاديث الإذن منسوخة، الأحاديث التي يؤخذ منها ذهاب النساء إلى المقابر منسوخة، والمسألة فيها كلام طويل.

وذهب إلى تحريم زيارة القبور للنساء شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأن المرأة قليلة الصبر شديدة الجزع، ولا يؤمن من ذهابها إلى المقبرة حصول شيء من النياحة أو المحرمات.

كما أن عموم ما يحدث منهن من التبرج لا يشجع مطلقاً على القول بزيارة القبور للنساء.

لكن المرأة إذا مرت بمقبرة دون أن تدخلها كأن تكون ماشية في الشارع مثلاً، أو في سيارة، فإنها تسلم على الموتى بهذا الدعاء، لكن لا تأتي المقبرة وتدخل فيها.

(14/10)

الإيمان بالغيب

كذلك في هذا الحديث: الإيمان بالغيب، والملائكة، وجبريل عليه السلام:- وكيف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه دون علم عائشة مع أنها كانت مستيقظة.

(14/11)

أحكام زيارة المقابر

أما بالنسبة لموضوعنا الموضوع الأساسي وهو مسألة زيارة المقابر، فإن زيارة القبور مشروعة للاتعاظ وتذكر الآخرة، شريطة ألا يقول عندها ما يغضب الرب، وكثيراً ما يقع إغضاب الرب، بل الشرك بالله في المقابر، كدعاء المقبورين، والاستغاثة بالموتى من دون الله، كهذه الأضرحة والقباب المبنية على القبور، والخرق المعقودة بشبابيك القبور، والأموال، وحلق الرأس عند القبر، والطواف بالقبر، وغير ذلك، وتقبيل الأعتاب؛ وغيرها من مظاهر الشرك بالله، ونداء الموتى.

أما الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة ولا أمر محرم فإنها للرجال عبادة وقربة إلى الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة، ولتزدكم زيارتها خيراً، فمن أراد أن يزور فلْيَزُر، ولا تقولوا هجْراً) لا تقولوا هجْراً: لا تقولوا شيئاً محرماً، والهجْر: الكلام الباطل، وكان من عادة أهل الجاهلية أن يتكلموا بكلام الجاهلية عند القبور، وربما ندب بعضهم فقال: وافلاناه! ونحو ذلك.

نُدِبْنا لزيارة القبور لأن فيها موعظة، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإن فيها عبرة) وهذه العبرة هي تذكر الموت، تذكر الآخرة.

وفي رواية: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تُرِقُّ القلب، وتُدْمِع العين، وتذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هُجْراً) ومعنى: تُرِقُّ القلب أي: تزيل قسوته.

(14/12)

زيارة المقابر خاصة بالرجال ويزار الكافر للاتعاظ

وكذلك فإن زيارة القبور كما قلنا: خاصة بالرجال على الراجح؛ لحديث: (لعن الله زوَّارات القبور) والأحاديث التي فيها قد يُفهم من ظاهرها جواز زيارة النساء للقبور منسوخة بأحاديث النهي، ولم يُستثنَ إلا الرجال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) أي: يا أيها الرجال، أما النساء: (لعن الله زائرات القبور، أو لعن الله زوَّارات القبور) وهذا يدل على التحريم ولا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن على شيء مباح أو مكروه، ولا يكون اللعن إلا على شيء محرم.

ولكن كما قلنا: لو مرت بجانب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من باب الحرم، أو داخلة باب الحرم، أو مرت بمقبرة من غير قصد زيارتها فلتسلم عليها بما سبق.

هذا ويجوز زيارة قبر من مات على غير الإسلام للعبرة فقط، وقد جاء في هذا أحاديث: منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).

وفي رواية: عن بريدة رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأم، يقول: يا رسول الله! ما لَكَ؟ قال: إني سألت ربي عزوجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، واستأذنتُ ربي في زيارتها فأَذن لي، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولْتَزِدْكم زيارتها خيراً) ففي هذا الحديث جواز زيارة المشركين في الحياة، وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنها إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى.

وفي الحديث النهي عن الاستغفار للكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له بالاستغفار لأمه؛ لأنها ماتت على الشرك.

والعرب كان عندهم دين إبراهيم، وعرفوه، وأقيمت عليهم الحجة به، وإسماعيل كان من الأنبياء في العرب.

وأبو النبي صلى الله عليه وسلم وأمه ماتا على الشرك، وكذلك عمَّاه وجده، ماتوا على الشرك، والله عزوجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].

إذاً: لا يجوز الاستغفار للكافر، والآية نزلت في وفاة أبي طالب على الشرك.

وكذلك فإن القصد من زيارة القبور شيئان: الأمر الأول: انتفاع الزائر.

والثاني: انتفاع المزور.

انتفاع الزائر: بذكر الموت والموتى والمآل بعد الموت.

انتفاع المزور: بالدعاء له، والاستغفار له، والإحسان إليه في هذه الزيارة.

وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، فسألته عائشة عن ذلك فقال: (إني أمرت أن أدعو لهم).

وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لَلاحقون، أنتم لنا فَرَط -يعني: سبقتمونا- ونحن لكم تَبَع -نأتي على إثركم- أسأل الله لنا ولكم العافية) فهذا دعاء آخر.

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدُ) الحديث.

(14/13)

قراءة القرآن في المقابر

أما قراءة القرآن عند زيارة المقبرة والفاتحة: فمما لا أصل له في السنة أبداً، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه قرأ القرآن في المقبرة للموتى، ولا أنه قرأ الفاتحة وأهداها للموتى مطلقاً، ومن أبى فعليه الدليل، وليأتِ بعلم إن كان صادقاً: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4] ولما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم عائشة السلام والدعاء، لم يعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن.

وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة) فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن القبور ليست موضعاً لقراءة القرآن شرعاً، ولذلك قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) اقرءوا فيها سورة البقرة، ما معنى الكلام هذا؟ الآن المقابر ما فيها قراءة قرآن، (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

وقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً) لأن المقابر لا يجوز الصلاة فيها، إلا صلاة الجنازة لمن فاتته صلاة الجنازة، يجعل القبر بينه وبين القبلة ويصلي الجنازة على القبر فقط، أما صلاة أخرى في المقبرة فلا تجوز.

وكان مذهب جمهور السلف كـ أبي حنيفة، ومالك، وغيرهما، كراهة القراءة عند القبور.

قال أبو داود رحمه الله: سمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر، فقال: لا، لا توجد قراءة عند القبر.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: ولا يُحْفَظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة.

وقال مالك -الذي مذهبه مالكي يسمع كلام مالك -: [ما علمتُ أحداً يفعل ذلك] يعني: يقرأ القرآن في المقبرة.

فعُلِم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات العلمية: والقراءة على الميت بعد موته بدعة.

وجاء في بعض الآثار عن الصحابة قراءة يس على المحتضر وليس على الميت، وليس ذلك حديثاً مرفوعاً، أما الميت فلا يُقرأ عنده؛ لا يس ولا غير يس؛ لا قبل الدفن ولا بعد الدفن، فلا يُقرأ عنده شيء البته.

وكذلك فإن الإنسان إذا جاء يدعو في المقبرة يرفع يديه في الدعاء لأجل الحديث الذي مر معنا.

(14/14)

استقبال القبلة في الدعاء لا القبر

نقطة مهمة: إذا جئت تدعو في المقبرة فاستقبل القبلة لا القبر، والدعاء عبادة، ويجب أن يُفْعَل وفق الطريقة الشرعية.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا أصل مستمر؛ أنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يُستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نُهي عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه يُنهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح سواءً كانت في المشرق أو غيره، وهذا ضلال بيِّن، وشر واضح.

كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى.

فإذاً: لا يستلم القبر بيده، ولا يقبِّله، ولا يستقبله في الدعاء، بل يستقبل القبلة، فهو إذا قصد السلام على ميت جاءه فسلم عليه من قِبَل وجهه، وإذا أراد التحول للدعاء فإنه يقصد الكعبة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ومذهب الأئمة الأربعة مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة؛ لأنك إذا جئت إلى المسجد النبوي وأردت أن تسلم على قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فإنك تستقبل القبر لأجل السلام، فتقف أمام القبر وتقول: السلام عليك يا رسول الله، وعندئذٍ يكون ظهرك إلى القبلة، إذا أردت أن تدعو فعليك أن تستدير وتستقبل القبلة لا القبر، ولذلك ترى بعض هؤلاء المغفلين، أو بعض الجهلة، أو بعض الصوفيين المتعمدين الأفاكين؛ يستقبلون القبر ويستدبرون الكعبة، ويدعو إلى القبر تاركاً الكعبة وراءه.

قال شيخ الإسلام: فقال الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه.

وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء.

فـ أبو حنيفة حتى السلام عنده يستقبل فيه القبلة، وهؤلاء يقولون: مذهبهم حنفي.

فالدعاء لم يتنازع الأئمة الأربعة في أنه يستقبل فيه القبلة لا الحجرة، لكن في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة الثلاثة قالوا: يستقبل الحجرة، وأبو حنيفة قال: الكعبة، فمذهبه فيه قولان: قيل: يستدبر الحجرة.

وقيل: يجعلها عن يساره عند السلام.

(14/15)

قبر الكافر يزار ولا يدعى له

وأما بالنسبة لزيارة قبر الكافر فإنه لا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كما جاء الدليل في حديث سعد بن أبي وقاص، قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال: في النار، فكأن الأعرابي وَجَدَ من ذلك، فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ فقال في رواية قال: أبي وأبوك في النار.

في هذه الرواية قال: حيث ما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار، قال: فأسلم الأعرابي بعدُ، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً؛ ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار) رواه ابن ماجة والطبراني وغيرهم.

(14/16)

الانتعال في المقبرة

ولا يجوز للإنسان أن يمشي بين قبور المسلمين بنعليه، لحديث بشير بن الخصاصية قال: (بينما أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على قبور المسلمين، فبينما هو يمشي إذ حانت منه نظرة، فإذا هو برجل يمشي بين القبور عليه نعلان -بين القبور- فقال: يا صاحب السبتيتين، ألْقِ سبتيتيك، فنظر، فلما عرف الرجلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه فرمى بهما) والسبتيتان: نوع من النعال.

المقابر اليوم مثل المقبرة التي عندنا هنا فيها شوارع عريضة بين القبور فلا بأس أن تمشي فيها بالنعال؛ لأن الشارع ليس فيه قبور، لكن إذا ذهبت يميناً أو شمالاً فينبغي أن تخلع نعليك إذا أردت أن تمشي بين القبور، ولا تمشي بالنعال، كل هذا من احترام الإسلام للميت، وقد ثبت أن الإمام أحمد رحمه الله كان يعمل بهذا الحديث، فقال أبو داود في مسائله: رأيت أحمد إذا تبع الجنازة فقرُب من المقابر خلع نعليه.

(14/17)

وضع غصن رطب على القبر

هل يُشرع وضع جريد نخل، أو غصن شجرة رطب على القبر؟ لا يجوز ذلك، فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضعه، فنقول: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعل ذلك في كل زيارة مقبرة وإنها هي حالة نُقِلَت وضعه فيها لسبب، قال: أرجو أن يُخَفَّف عنهما ما لم ييبسا؛ وهذه مسألة غيبية لا نعلمها، أي: لا نعلم هل يُخَفَّف أو لا يُخَفَّف، ولذلك فإن هذه المسألة غيبية، خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أن الصحابة ما فعلوها ولا السلف، وبعض الناس في بعض البلدان يضعون الأغصان الخضراء، وبعضهم يزرعون أشجاراً عند المقبرة، وهذه كمقابر النصارى خضراء كأنها غابة أو حدائق وجنات، فهي لا تيبس وهم في النار، وهذا يدل على أن حديث: (يُخَفَّف عنهما ما لم ييبسا) خاص بالحالة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهناك مقابر كفار فيها أشجار خضراء طيلة العام ولا يغني عنهم ذلك شيئاً.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببتُ بشفاعتي أن يُرَدَّ عنهما ما دام الغصنان رطبين).

فالسبب للتخفيف هو الشفاعة لا وضع الغصن لما سبق في الحديث، لو كان السبب رطوبة الغصن لكانت هذه الأشجار الخضراء الغناء الموجودة في مقابر الكفار نفعت؛ لكن القضية بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

فالسر ليس في النداوة والرطوبة، ليست هي السبب في تخفيف العذاب؛ وإنما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه.

فتأمل الآن ما يفعله بعض المسلمين من الذهاب إلى المقابر ووضع أكاليل الزهور والرياحين ونحو ذلك على قبورهم أو قبور الآخرين، أو الجندي المجهول، أو الجندي المعلوم، أو الكلام الفارغ الذي يفعلونه تقليداً للنصارى؛ وهذا حرام ولا شك، فوضع الرياحين والورود وأكاليل الزهور على القبور بدعة ضلالة، وتقليد للكفار، ولا يجوز لمسلم أن يفعله.

هذه بعض الفوائد المأخوذة من حديث عائشة مع شيء من التوضيح في مسألة زيارة المقابر.

نسأل الله أن يتغمدنا برحمته.

(14/18)

الأسئلة

(14/19)

لا تسن الاستراحة بعد سجود التلاوة في الصلاة

يقول

السؤال

هل توجد جلسة استراحة بعد سجود التلاوة في الصلاة؟

الجواب

لا.

جلسة الاستراحة تكون في الانتقال من الركعة الأولى إلى الثانية ومن الثالثة إلى الرابعة، أما بعد سجود التلاوة فلا.

(14/20)

تحديد ليلة لزيارة القبور

السؤال

أهل بعض البلدان لهم ليلة للدعاء عند القبور، ويستدلون بحديث عائشة في زيارة البقيع، فما الحكم؟

الجواب

تعيين ليلة معينة لزيارة القبور بدعة، بل يزور في أي وقت تيسر، وإذا كانت المقبرة لا تفتح إلا يوم الجمعة، فليزرها يوم الجمعة لا لأجل يوم الجمعة تحديداً، بل لأنه لا يتيسر ذلك إلا يوم الجمعة فقط، أما أن يحدد ليلة معينة يزور فيها القبر ويعتقد أن لهذه الليلة خاصية في الزيارة؛ فهذا حرام، وبعضهم يقول: الزيارة يوم العيد، يعيد على الأحياء وعلى الأموات؛ وهذه أيضاً من البدع، زيارة القبور في أي وقت، وليس هناك وقت محدد؛ لا لجمعة ولا العيد.

(14/21)

الإحرام من بلد الحاج

السؤال

هل يجوز أن أغتسل في بيتي وألبس الإحرام ثم أذهب إلى الميقات؟

الجواب

نعم، يمكن ذلك.

(14/22)

قيام العشر من رمضان كاملة

السؤال

بعض البلدان يصلون آخر العشر من رمضان كلها من بعد العشاء مباشرة لوجود أعمال وأشغال.

فما الحكم؟

الجواب

لا بأس، لكن قد لا يكون هناك راحة، والناس قد لا يستطيعون مواصلة ساعتين قياماً، فالأفضل أن تجعل قسمين، لأجل أن يصيب في النصف الأخير من الليل الثلث الأخير من الليل.

(14/23)

حكم الكفارة إذا تعددت الأيمان

السؤال

رجل حلف أيماناً متعددة في وقت واحد على شيء واحد، فهل تكرر الكفارة؟

الجواب

الكفارة واحدة.

(14/24)

التبرع بالأعضاء بعد الموت

السؤال

هل يجوز التبرع بالأعضاء بعد الموت؟

الجواب

نعم، بشروط ذكرها العلماء في الفتاوى المعاصرة.

(14/25)

فضيلة القبر في البقيع

السؤال

هل ثبتت سنة في فضيلة القبر بمقبرة بقيع الغرقد؟

الجواب

النبي صلى الله عليه سلم دعا لأهل بقيع الغرقد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع منكم أن يموت بـ المدينة فليفعل) فهذا يدل على أن الموت فيها له فضل، والبقيع مقبرة أهل المدينة إلى الآن.

(14/26)

تغميض الينين في الصلاة

السؤال

هل يجوز تغميض العين في الصلاة؟

الجواب

يجوز إذا لم يخشع إلا بذلك، أما إذا كان يخشع بغيره فالسنة النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة في التشهد، أما إغماض العينين دون سبب فلا، وقيل: إنه من فعل اليهود، لكن إذا كان هناك زخارف، أو لا يخشع إلا بذلك فلا بأس.

(14/27)

الشحناء بين الزوجين ورفع الأعمال

السؤال

( تُرفع الأعمال يوم الإثنين والخميس) فهل يدخل في ذلك شحناء الزوج على زوجته؟

الجواب

إذا كان بحق فلا يدخل، وأما إذا كانا يتشاحنان بغير حق فهما من ضمن المتشاحنين.

(14/28)

حكم من كان يفطر ولا يدري

السؤال

تعمَّد الإفطار في وقت الصِّغَر ولا يذكر إذا كان مكلفاً آنذاك أم لا، فهل عليه القضاء؟

الجواب

يعمل بغلبة الظن، إذا كان مكلفاً فعليه القضاء.

(14/29)

من نوى السفر لعمرة فالإحرام من الميقات

السؤال

أنوي الذهاب إلى جدة لغرض العمل حوالي خمسة أشهر، وأنوي عمل عمرة متى ما تيسر، فكيف الإحرام؟

الجواب

ما دام سيسافر بنية العمرة فالإحرام من الميقات.

(14/30)

هيئة القبر الإسلامي

السؤال

اذكر لنا هيئة القبر الإسلامي؟

الجواب

أن يُجْعَل مُسَنَّماً مرتفعاً عن الأرض بمقدار شبر، ولا يزاد على ذلك، ولا تجوز الكتابة عليه، ولا تجصيصه، ولا البناء عليه، ولا وضع الأنوار عليه.

(14/31)

هجر الزوجة

السؤال

ما صفة هجر الزوجة؟

الجواب

تُهجر الزوجة بالكلام، وتُهجر في الفراش، ويهجرها في البيت حتى تستجيب.

(14/32)

العقيقة عمن ولد ميتاً

السؤال

هل للذي يولد ميتاً عقيقة؟

الجواب

إذا نُفِخ فيه الروح ومات بعد ذلك فيعق عنه.

(14/33)

التوبة من بدع القبور

السؤال

قبل الالتزام بالدين ذهبت إلى السيد البدوي وضريح آخر، وفعلتْ ما يفعله الآخرون من الدعاء والطواف، والنذور بالنجاح وبالزواج، والآن عرفت والحمد لله أن كل هذا حرام، فماذا يلزمني؟

الجواب

يلزم التوبة من هذا الشرك العظيم، وتحقيق التوحيد، والقراءة في كتب التوحيد، والتحذير من الشرك، ونصيحة الآخرين.

(14/34)

حكم نقل القبر

السؤال

ما حكم نقل القبر من مكان إلى آخر؟

الجواب

لا يجوز نقل القبر من مكان إلى آخر إلا إذا وجدت حاجة للنقل، مثل: أن يصبح بمنطقة ليس فيها حرمة للمقابر، أو يخشى عليه، كمنطقة سيول، أو منطقة سرق، فعند ذلك ينقل، وإلا فلا يجوز أن ينقل.

(14/35)

لم يُصلِّ النبي عند القبر

السؤال

فهمتُ من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عند المقابر، هل يعني هذا أنه صلى؟

الجواب

لا، قام أي: قام على رجليه يدعو.

(14/36)

حكم خروج المرأة متعطرة ولا تمر على الرجال

السؤال

زوجتي تخرج متعطرة إلى بيت أهلها، وأنا أقوم بتقريب السيارة حين خروجها ونزولها، وكذلك بيت بعض الأقرباء دون مرورها على الرجال، فهل في ذلك بأس؟

الجواب

إذا كنت تضمن ألا تمر على الرجال فلا بأس، لكن كيف تضمن؟!

(14/37)

زيارة القبر النبوي الشريف

السؤال

إذا ذهبت إلى المدينة المنورة لأزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز ذلك؟

الجواب

لا يجوز أن ينوي بالسفر زيارة القبر، لكن ينوي بالسفر الصلاة في المسجد، فإذا صار هناك زار القبر.

(14/38)

الزيادة في رفع القبر ذريعة للشرك

السؤال

كم يكون رفع القبور؟

الجواب

السنة أن تكون شبراً فقط، ورفعها زيادةً على ذلك ذريعةٌ للشرك.

(14/39)

وضع النقود عند القبر

السؤال

في البلد وعلى الطريق قبر، ولا يستطيع أن يتجاوزه إلا بعد السلام عليه، والدعاء عنده، وإعطاء بعض النقود تحت إلحاح العائلة والزوجة.

الجواب

يقف ليدعو أما أن ينزل إليه ويدفع النقود فلا، فإعطاء النقود ووضعها عند القبر بدعة؛ وهذه النقود هي نقود ليس لها صاحب، بمعنى: لو جاء واحد وأخذها فهي حلال له، لا هي للقبر، ولا لها حرمة، ولا شيء.

(14/40)

جمع حلي المرأة وبناتها لأجل الزكاة

السؤال

عندي بنات وزوجة ولديهن ذهب لا يكمل النصاب إلا إذا جمعته.

الجواب

ليس فيه زكاة، ولا يجب جمعه.

(14/41)

معنى الحيوان في آية العنكبوت

السؤال

{ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ما معنى الحيوان؟

الجواب

معناه: الحياة الحقيقية المستمرة المستقرة الدائمة.

(14/42)

التوجه في سجود التلاوة

السؤال

إلى أين يتوجه في سجود التلاوة؟

الجواب

في سجود التلاوة يتوجه إلى القبلة.

(14/43)

حكم اتباع مذهب فقهي

السؤال

هل المسلم ملزم باتباع مذهب من المذاهب الأربعة؟

الجواب

لا، إذا كان عامياً فمذهبه مذهب مفتيه، وإذا كان طالب علم فيبحث عن القول الراجح بدليله، ولا حرج من تقليد أحد الأئمة بشرط: أن يَتْبَع الحق إذا عرف أن الحق في غير المذهب.

(14/44)

التراجع عن التعليق في الطلاق

السؤال

رجل جعل على امرأته الطلاق إذا سافرت إلى جدة وإلى أهلها، وبعد مرور مدة غير رأيه.

الجواب

تغيير الرأي لا ينفع، ولا يخرجه من الموضوع بسلام، إذا قصد الطلاق وقع الطلاق لو ذهبت، وإذا قصد اليمين فعليه كفارة يمين لو ذهبت.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(14/45)

قصة مسجد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه

فضائل أبي بكر لا تحصى، عرفها من عرفها وجهلها من جهل، فإنه كان صاحب فضل وخير على الناس في الجاهلية والإسلام، ولا أعظم من أن يكون أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذا استبقاه للهجرة معه، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث الهجرة، ومنه يتبين فضل أبي بكر، وتوضيح لقصة بنائه لمسجده الذي جعل كفار قريش يفزعون منه، ويخشون على نسائهم وأطفالهم من أن يدخلوا في دينه.

(15/1)

سياق حديث الهجرة وشرحه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فهذا الدرس سيكون عن قصة مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفيَ النهار بكرةً وعشية).

وأبوها أبو بكر وأمها أم رومان رضي الله تعالى عنهما؛ ومعنى: يدينان الدين تعني: يدينان بدين الإسلام، فهي منذ أن وعت في هذه الدنيا وعرفت أبويها؛ عرفتهما مسلمَين.

وعائشة رضي الله عنها تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفَي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون) يعني: بأذى المشركين من كفار قريش وحاصروهم في الشعب، وآذوا المسلمين بالضرب والسجن والقتل والنفي (خرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة) أي: ليلحق بمن سبقه من المسلمين إلى الحبشة، وهؤلاء المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ساروا أولاً إلى جدة، وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة، بعدما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم.

(فخرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغَماد) وبَرْك الغَماد: موضع على خمس ليالٍ من مكة إلى جهة اليمن.

فلما ابتعد أبو بكر من مكة مسيرة خمس ليالٍ وبلغ هذا الموقع، وهو بَرْك الغَماد (لقيه ابن الدَّغِنَة، وهو سيد القارَة) من هو ابن الدَّغِنَة هذا؟ هو رجلٌ مشركٌ كافرٌ يُنسب إلى أمه، وقيل: إلى أم أبيه، والدَّغِنَة معناها في اللغة: المسترخيه، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، ابن الدَّغِنَة هذا هو سيد القارَة؛ والقارَة قبيلة مشهورة من خزيمة بن مدركة بن إلياس، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكان يُضرب بهم المثل في قوة الرمي، ولذلك يقول الشاعر:

قد أنصف القارَة من رماها

فـ أبو بكر لقي ابن الدَّغِنَة في هذا الموضع بعدما خرج من مكة يريد الهجرة إلى الحبشة.

(فـ ابن الدَّغِنَة قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي) أخرجني قومي أي: تسببوا في إخراجي من بلدي مكة، وأنا أريد أن أذهب متوجهاً إلى الحبشة.

والسياحة في اللغة: أن لا يقصد الإنسان موضعاً بعينه ليستقر فيه، فهو في سياحة يسافر ويرحل بدون قصد موضع معين للإقامة، هذه هي السياحة في اللغة.

فيقول أبو بكر: (فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدَّغِنَة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج؛ فإنك تكسب المعدوم.

وفي رواية: المعدَم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ -ومعنى الكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله- وتقري الضيف -يعني: تكرم الضيف- وتعين على نوائب الحق) وهذه الصفات مثل الصفات التي وَصَفَت بها خديجة النبي عليه الصلاة والسلام.

فهذا الرجل المشرك يثني على أبي بكر الصِّدِّيق بأنه يعين في النائبات، وأنه كريم، وأنه يساعد ويغيث الملهوف.

يقول: (وأنا لك جارٌ -أي أجيرك وأمنعك ممن يؤذيك- فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدَّغِنَة ورجع مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدَّغِنَة) فلم تكذب قريش جوار ابن الدَّغِنَة، وأقرت بجواره، وقبلت شفاعته؛ لأن ابن الدَّغِنَة كان سيداً في قومه, وكان له مكانة عند قريش، ولذلك قبلوا شفاعته في أبي بكر، وكفوا عن أبي بكر الأذى.

قالت عائشة: (وآمنوا أبا بكر، وقالوا لـ ابن الدَّغِنَة: مُرْ أبا بكر فليعبُد ربه في داره، فليصلِّ وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به) أي: ليس عندنا مانع أن نبقي أبا بكر؛ بشرط أن يخفي دينه في بيته ولا يظهره، ولا يتكلم بشيء من دينه جهراً (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره فترة، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير ذلك، ثم بدا لـ أبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقَصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه، وفي رواية: فيتقذَّف إليه) ومعنى ذلك: أنهم يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فينكسر، ومعنى يتقصفون: يجتمعون اجتماعاً عظيماً حتى إنهم يتساقطون من الزحام والرغبة في السماع، قالت عائشة: (وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين) وذلك لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب من أولادهم، وقد يميلون إلى دين الإسلام (فأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فائته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فَعَلَ، وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك فسَلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك).

أي: إذا رضي أن يعود إلى داخل الدار فله ذلك، وإذا رفض وأصر على الجهر بدينه فاطلب منه أن يرد الأمان الذي أعطيناه بسببك.

(فإنا كرهنا أن نخفرك) أي: نحن لا نريد أن نغدر وقد أعطيناه الأمان بسببك، لا نريد أن نغدر به ونخفر الذمة، فاطلب من أبي بكر أن يرد إليك الجوار إذا كان يريد أن يستمر على هذا الإعلان.

() فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدَّغِنَة أبا بكر فقال: قد علمتَ الذي عقدتُ لك عليه -أي: الشرط بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدتُ له) أي: لا أحب أن يكون صيتي بين العرب وسمعتي أنني أعطيت إنساناً جواراً ثم إن هذا الإنسان غُدِر به، وأن جواري لا قيمة له، فإنني أكره ذلك، فماذا كان جواب الصِّدِّيق رضي الله عنه؟ قال أبو بكر: (إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بـ مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أُرِيت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخلٍ بين لابَتين) أي: أرض مالحة لا تكاد تنبت، وبين لابتين: هما الحرتان، فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك! فإني أرجو أن يؤذن لي، قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر أربعة أشهر).

هذه رواية مختصرة لحديث الهجرة ساقها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الحوالة من صحيحه، وهو قد ساق هذا الحديث في عدد من الأبواب من صحيحه، ومنها ما هو في المناقب.

وهكذا كان من شأن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

(15/2)

الفوائد المستفادة من حديث الهجرة

هذه القصة فيها عدد من الفوائد:

(15/3)

جواز النزول في جوار المشرك ما لم يكن ذلاً

أولاً: فمن المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع: أن الإنسان المسلم يجوز له أن ينزل في جوار مشرك إذا لم يترتب على ذلك محظور شرعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه نزوله في جوار هذا المشرك، ولأن دخول الصِّدِّيق رضي الله عنه في حماية هذا الرجل الكافر لم ينبنِ عليه وقوع معصية من أبي بكر، أو وقوع شرك، أو تنازل عن شيء من الدين، وإنما كان ذلك حماية مجانية من ابن الدَّغِنَة، ولم يكن فيها كذلك ذلٌ للصديق رضي الله عنه، ولذلك فإن القبول بمثل هذا في هذه الحالة جائز، بخلاف ما لو ترتب على دخول المسلم في أمان مشرك أو جوار مشرك أن يتنازل عن شيء من دينه؛ كأن لا يقيم شيئاً من الدين، أو ترتب عليه وقوع في معاصٍ، أو ذل، أو أنه يعطي الدنية في دينه.

(15/4)

جواز بناء المسجد في مباح لا يضر بالناس

ثانياً: وكذلك من فوائد هذا الحديث الفقهية ما عنون البخاري رحمه الله عليه في كتاب الصلاة، باب: المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.

فيجوز للإنسان أن يبني مسجداً في مِلكه، ويجوز أن يبني مسجداً في منطقة مباحة بحيث لا يضر بأحد، وأما بناؤه في مِلك الغير فهو ممنوع بالإجماع.

فإذاً: المسجد يمكن للإنسان أن يبنيه في ثلاثة أماكن: يبنيه في مِلكه.

الثاني: أن يبنيه في مِلك غيره.

الثالث: أن يبنيه في مكان ليس لأحد.

فأما بالنسبة لبنائه في ملكه فهذا جائز بالإجماع.

وأن يبنيه في ملك غيره فهذا ممتنع بالإجماع.

وأن يبنيه في مكان مباح ليس لأحد، هذا جائز إذا لم يكن فيه ضرر على أحد.

وأبو بكر رضي الله عنه قد بنى المسجد بفناء داره، فهو مِلكه يفعل فيه ما يشاء.

ويجوز للإنسان إذا كان عنده بيت كبير أن يبنى مسجداً في جانب منه ويجعل له باباً إلى الخارج ليدخل إليه الناس؛ وهذا لا بأس به ولا حرج، وقد فعله الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

(15/5)

جواز الأخذ بالشدة في الدِّين

ثالثاً ومن الفوائد الأخرى في هذا الحديث: جواز الأخذ بالشدة في الدين: فإنه كان يجوز لـ أبي بكر الصِّدِّيق في هذا الوضع أن يبقى في حماية ابن الدَّغِنَة، ويعبد ربه في داره، ولكنه أخذ بالشدة، وأخذ بالأمر الشاق، ورد جوار المشرك، وقبل أن يتحمل الأذى، وقال له: (أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله) فهذا دال على قوة يقين أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وعلى الأخذ بالأشد في الدين، وأن عنده قدرة على التحمل، ولذلك رد جوار المشرك، ورضي أن يتعرض للأذى في مقابل أن يعلن دينه.

(15/6)

أهمية التزام الأبوين لبناء شخصية الطفل

رابعاً: أهمية نشوء الطفل في أول أمره بين أبويَن مسلمَين في بيت مسلم، وأن هذه النشأة لها أثر بالغ عليه في المستقبل: فـ عائشة رضي الله عنها من أعقل النساء، وأفضل النساء، وأعلم النساء، بل هي أعلم نساء المؤمنين على الإطلاق.

ومن أسباب ذلك: أنها نشأت في أول أمرها بين أبوَين صالحَين، لم يضع من عمر عائشة فترة من الزمن وهي في جاهلية أو شرك أو جهل، أو كفر أو فسق، تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين) ولذلك كلما كان التزام الأبوين بالدين مبكراً كان ذلك في صالح الولد أكثر.

وأي تأخر في التزام الأب أو التزام الأم بالدين؛ إنما يكون على حساب الولد؛ لأنه سيضيع فترة من عمر الولد بدون اهتمام أو تعليم؛ لأن الأب جاهل أو بعيد عن الدين، وكذلك الأم.

فلا شك أن الولد

وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوهُ

فكلما كان التبكير بالأخذ بالدين والالتزام به، كلما كان ذلك في منفعة الولد ومصلحته.

(15/7)

شدة علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالصديق

خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وثيق الصلة بـ أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: وكان يشاوره في أمور الدعوة ولا شك، ولذلك كان لا بد أن يمر على الصِّدِّيق يومياً: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرَفي النهار بكرة وعشية) وهذا يدل على منزلة الصِّدِّيق من النبي عليه الصلاة والسلام، فهو وزيره الأول.

(15/8)

الهجرة بالدين

وسادساً: أن الإنسان إذا لم يستطع أن يظهر شعائر الدين في بلده فإنه يُشرع له أن ينتقل إلى بلد آخر.

فلما ابتلي المؤمنون خرج الصِّدِّيق مهاجراً، وانتقال الإنسان من بلد إلى بلد آخر لإقامة الدين أمر مهم، بل يجب على المرء إذا لم يستطع أن يقيم شعائر الدين في بلده ما لم تكن في البقاء مصلحة أكبر من مصلحة الهجرة، وأن سلامة الدين أهم من سلامة المال، أو البقاء في البلد، أو الديار، أو الأهل، أو الوطن، وأن الغربة في سبيل الله مطلوبة، ولذلك رضي بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهاجر قسم كبير منهم؛ لأجل أنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة شعائر الدين في مكة.

(15/9)

أهمية السمعة الطيبة للمسلم

وسابعاً: مكانة وأهمية سمعة الإنسان المسلم بين الناس: فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه لا نفاقاً ولا رياءً، وإنما هذا من طبعه رضي الله عنه أنه كان كريماً صاحب معروف، يعطي المعدوم، يصل الرحم، يقري الضيف، يعين العاجز الفقير في النوائب، وهذه الأعمال الخيرية التي كانت في الصِّدِّيق كان لها انتشار بين الناس حتى عُرِف بها الصِّدِّيق، ولذلك لما رأى ابن الدَّغِنَة الصِّدِّيق خرج من مكة قال: (إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج) أي: لا يمكن أن مثل هذا يَخرج أو يُخرج إنسان هذه صفاته، وذكر لهم صفات الصِّدِّيق.

فسمعة الإنسان المسلم بأعمال الخير التي يعملها تكون سبباً في نجاته بإذن الله، وييسر الله له من الناس، ولو من الكفرة والمشركين مَن يحميه أو يدافع عنه بسبب أعماله الخيرية، فيجب أن يحرص المسلم على أن يكون له باعٌ في عمل الخير، لا من أجل أن يحمي نفسه، أو من أجل أن يكون له شافع من الناس، أو جار يجيره، ولكن ذلك من طبيعة هذا الدين، والله تعالى يوصلها إلى الخلق، ويصبح هذا الشخص صاحب سمعة طيبة بين الناس، وعمل الخير ينفع صاحبه دائماً، وفي أوقات الشدة يكون هذا العمل من الأشياء التي تعين الإنسان على إقامة دينه.

(15/10)

نصر الله الدين بالرجل الفاجر

ثامناً: أن الله تعالى قد يقيض من الكفار من يحمي المسلم: إن من الغرائب أن يوجد كافر يحمي مسلماً؛ لكن الله عز وجل يقيض لبعض المسلمين مَن يحميه من الكفار، كما حصل من جوار ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

(15/11)

أهمية إعلان الدعوة

الفائدة التاسعة: خطورة وأهمية إعلان الدين والصدع بالحق: وأن إعلاء كلمة الدين والوصول بها إلى المنابر، وإلى الأماكن التي تنفُذ من خلالها إلى الناس أمرٌ في غاية الأهمية, وأن تلك الوظيفة الإعلامية المهمة في نقل الدين إلى الناس لها شأن تأثيري عظيم لا يُستهان به، وأن الكفار كانوا يخشون من مجرد قراءة القرآن، والإعلان بالدين، يخشون على نسائهم وأطفالهم أو شبابهم من وصول كلمة الحق إليهم.

فوجود أماكن ومنابر ووسائل يُنْقَل بها الدين للناس أمر في غاية الأهمية.

(15/12)

قبول الحق والتأثر به ولو كان السامع كافراً

والفائدة العاشرة: أن هناك من الكفار من يسمع الحق ويقبل به، ويتأثر بالحق: فإن هؤلاء النساء والشباب الصغار من الكفار؛ كانوا يجتمعون لدرجة أن بعضهم يركب بعضاً، ويزدحمون على دار الصِّدِّيق، حتى ربما سقط بعضهم من الزحام، ولذلك قال الراوي: (فيتقذَّفوا.

وفي رواية: يتقصَّفوا -يزدحمون عليه- حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر) فهذا من شدة الاجتماع والحضور، قد يوجد من الكفار من يستمع.

(15/13)

الإخلاص عامل تأثير في السامعين

والفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان المسلم إذا كان مخلصاً تأثر بكلامه الآخرون، وازدحموا عليه وسمعوا منه، وليس مجرد اجتماع وتجمهر، فإن ذلك يمكن تحصيله بوسائل جمع الناس، لكن التأثير في الناس مسألة قلبية، فأنت ترى في مناسبات كثيرة في الأرض يتظاهرُ آلافٌ مؤلفةٌ، وعشرات الآلاف، ومئات الآلاف؛ ويُجمَعون بوسائل كثيرة من ترغيب أو ترهيب؛ لكن مَن الذي يتأثر ويؤثر، التأثير إنما يكون بناءً على الصدق والإخلاص، فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه كان صاحب تأثيرٍ بصِدْقِه وقلبه النقي في الآخرين، حتى خشي الكفار على أولادهم وشبابهم من أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقالوا: (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا).

(15/14)

أثر القرآن في الدعوة إلى الله

والفائدة الثانية عشرة: أن هذا القرآن له أثر كبير في نفوس الناس: ماذا كان يفعل الصِّدِّيق غير قراءة القرآن؟ لا شيء، إنما كان يجهر بالقرآن، كل الذي كان يفعله أبو بكر الصِّدِّيق هو أنه كان يجهر بالقرآن؛ ولكن القوم كانوا عرباً فصحاء يفهمون معاني القرآن، ويتأثرون به، وهكذا ارتضعوا اللغة منذ نعومة أظفارهم، ولذلك كان نساؤهم وشبابهم وصغارهم يتأثرون بالقرآن.

فإذاً: ينبغي أن لا يُغفل دور القرآن في الدعوة إلى الله أبداً، بل ربما يخطب الإنسان خطبة كلها من القرآن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق.

ومن أثر القرآن، ومكانة القرآن وخطورة شأن القرآن في الدعوة إلى الله، قال الله تعالى في كتابه العزيز عن القرآن: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] جاهدهم به: الهاء ترجع إلى القرآن، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52] أي: بهذا القرآن {جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] فَعُلِمْنا بهذه الآية أن القرآن وسيلة عظيمة للجهاد.

(15/15)

مكانة الجوار والذمة عند العرب واستغلال القرابة في خدمة الدعوة

الفائدة الثالثة عشرة: أن الجوار والذمة كان لها عند العرب شأن كبير: ولا زال الأمر كذلك عند كثير من أهل البادية؛ أنهم يقيمون وزناً للجوار والذمة، وأن هذه المسألة يمكن أن يستفاد منها في الدعوة إلى الله تعالى كما حصل هنا في حماية الداعية إلى الله وهو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد استفاد من علاقاته القَبَلِيَّة، واستفاد من قراباته؛ فمَنَعَه قومُه وأقرباؤه، وبنو هاشم كان لهم دور، وعهد الصحيفة وحصار الشعب إنما انتهى بأن قام ناس من الكفار فأنهوه لقرابتهم من بني هاشم.

إذاً: فالقرابات والعلاقات لها أثر في حماية الدعوة أو الداعية، فإنه لا ينبغي أن يُستهان بها، ولولا أن علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بأقربائه كانت قوية لِحُسْنِ معاملته لما دافعوا عنه، ولا ردوا عنه، ولا أُنْهِي حصار الشعب.

فإذاً: ينبغي أن تُقَدَّر هذه القضية حق قدْرها.

(15/16)

فضل أبي بكر الصديق وخشيته لله

وكذلك يؤخذ من هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله: وأن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه من مناقبه: أنه كان رجلاً بكاءً، إذا قرأ القرآن لم يملك عينه، يعني: من الدمع والبكاء، وهذا من مناقبه رضي الله عنه، وكثير من الناس مع الأسف لا يعرفون مناقب الصِّدِّيق جيداً، ولا يتعرفون على شخصيته جيداً، وربما بعضهم يعرف بعض الأشياء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو عن علي بن أبي طالب؛ لكن لا يعرفون كثيراً عن الصِّدِّيق، مع أن الصِّدِّيق أفضل الجميع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي معرفة شأن الصِّدِّيق رضي الله عنه في رقة قلبه وإيمانه، وسبقه في الخير والدعوة، وعموم أفعال البر التي كان يعملها، ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يمر عليه في اليوم مرتين بكرة وعشية، وأنه الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى حتى يهاجر معه، وأخبره عليه الصلاة والسلام أنه يرجو أن يؤذَن له بالهجرة، فيبقى الصِّدِّيق لكي يهاجر معه، ولذلك حبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلف الراحلتين وجهزهما، وحماه، وخاف عليه، وأصيب بالحزن لما اقترب الكفار من الغار، وهو الذي حلب له اللبن وبرَّده، وكان يضع له ذلك الشيء في الظل حتى يستريح عليه، وكان يورِّي، فكان يقول إذا سئل في الهجرة: (هذا رجل يهديني الطريق) حتى لا يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أتى بغلامه ليدل على الطريق، وهو الذي أتى بابنه يرعى الغنم، وهو الذي أتى بابنته أسماء التي كانت تأتي بالطعام وتربطه بنطاقَيها، حتى سميت بـ ذات النطاقين.

ففضل الصِّدِّيق في الدعوة إلى الله وفي الإسلام، ومكانة الرجل في الإسلام عظيمة ينبغي أن تحفظ له، وأن ندعو الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل العظيم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لما قدم وأعان في نصرة هذا الدين.

وهذا الحديث من تأمل فيه يجد مزيداً من الفوائد؛ خصوصاً في مجال الدعوة والتعامل مع الآخرين، وكيف يستفيد الإنسان من الواقع، ومن الإمكانات المتاحة في الدعوة إلى الله عزوجل.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع الصِّدِّيق في الدرجة العالية وأن يجزيه خير الجزاء.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(15/17)

قصة مقتل خبيب بن عدي

كثير هم الذين يموتون بأسباب شتى، لكن التاريخ لا يُسطَّر إلا لمن مات مدافعاً عن دينه وعقيدته، ومن أولئك النفر خبيب بن عدي رضي الله عنه وأصحابه في غزوة الرجيع، وهنا بيان لقصة مقتله مع ذكر فوائد مستقاة من تلك الأحداث.

(16/1)

قصة غزوة الرجيع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- هي قصةٌ من قصص الصحابة رضي الله عنهم مما حصل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبين شيئاً من تضحيات أولئك النفر العظام في سبيل هذا الدين، وكيف اصطفى الله منهم شهداء.

وقد روى هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: المغازي من صحيحه، وفي كتاب: الجهاد والسِّيَر، وأبو داوُد رحمه الله في كتاب: الجهاد من سننه، وكذلك أخرجها الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً عيناً -عشرة رهط- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بـ الهدَأة بين عُسْفان ومكة -اسم موضع- ذُكِروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لِحْيان -وبنو لِحْيان كانوا مشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد) وهو المكان المرتفع عن الأرض، حيث حاصر المشركون هؤلاء العشرة المسلمون في هذه الغزوة وهي غزوة الرجيع.

(وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا -أي: المشركون-: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم -وهو أمير السرية-: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب، وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم) نزل المسلمون الثلاثة إليهم، وقد عنون البخاري رحمه الله على هذه القصة ب

السؤال

هل يستسلم المسلم للكفار أم لا؟ هل يرضى بالأسر أم لا يرضى، أم يقاتل حتى يُقتل؟ (فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها -ربطوا المسلمين بوتر القوس- فقال الرجل الثالث -المسلم- الذي معهما: هذا أول الغدر -ربطنا معناه: غدر- فأبى أن يصحبهم، فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل -رفض الانقياد- فقتلوه، وانطلقوا بـ خبيب وزيد حتى باعوهما بـ مكة -من كفار قريش- فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فأهل الحارث المشرك اشتروا خبيباً لينتقموا منه ويقتلوه- فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله استعار مُوسَىً من بعض بنات الحارث - موسىً ليستحدَّ بها -أي: ليحلق العانة- فأعارته، قالت المرأة -التي كانت مشركة-: فغفلت عن صبي لي فدَرَج إليه -حبا إلى مكان موضع الأسير المسلم- فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعةً عرف ذاك مني -عرف أني الآن فزعةٌ على الولد- وهو في يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـ مكة يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدتُ -أي: على ركعتين- فكان أول من سن الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، ثم قال:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّعِ

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم -أمير السرية الذي قُتل في الطريق- ليؤتَوا بشيء من جسده يعرفونه -يقطعوا قطعة من جسده وهو ميت- وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبْر -سحابة من زنابير النحل تغطي جسده، وتظله- فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء) ما استطاعوا مطلقاً أن يأخذوا قطعة من جسده.

(16/2)

شرح قصة غزوة الرجيع

هذه القصة هي قصة غزوة الرجيع، والرجيع: اسم موضع كانت هذه الوقعة بالقرب منه، وغزوة الرجيع هذه غير غزوة بئر معونة، هؤلاء عشرة والذين في بئر معونة كان عددهم سبعون رجلاً من القراء.

وحديث عَضْل -وهم بطن من بعض قبائل العرب- والقارَة أكمة سوداء فيها حجارة نزلوا عندها، ويُضرب بهم المثل في الرمي.

وقصة العضل والقارَة كانت في غزوة الرجيع في أواخر السنة الثالثة من الهجرة.

وبئر معونة كانت في أوائل السنة الرابعة من الهجرة.

(16/3)

وقوع أصحاب الرجيع في كمين ومقتل أمير السرية

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت مع هؤلاء الصحابة العشرة فغدر بهم بنو لِحْيان.

ما هو السبب في إرسالهم؟ النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم سريةً -وقيل: إنه أرسلهم يأتون له بأخبار قريش، أي بعثهم عيوناً له صلى الله عليه وسلم- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت -لما كانوا في الطريق بين عُسْفان ومكة خرج لهم هؤلاء القوم من بني لِحْيان المشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ.

وفي رواية: مائتي رجل -مائة رماة، ومائة من غير رماة- فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوه نوى تمر هؤلاء الصحابة نزلوا بـ الرجيع في هذا المكان في السحر، وأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة في الأرض وكانوا يخفون آثارهم.

كان عيون النبي عليه الصلاة والسلام يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار؛ لكن {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال:42] {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] سقطت نواة من نوى تمر يثرب؛ لأن التمر الذي كان معهم من تمر المدينة فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً فرأت النواة، فأنكرت صغرها -صغر النواة بالنسبة لحجم النوى في تلك المنطقة- فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أوتيتم فجاءوا في طلبهم، فتتبعوا آثار الصحابة حتى لحقوهم، ففوجئ الصحابة بهؤلاء القوم قد غشوهم وحاصروهم، فلجأ هؤلاء الصحابة العشرة إلى مرتفع من الأرض، وبدأ المشركون بالخداع، وقالوا: نعطيكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا مستسلمين ألا نقتل رجلاً منكم ولا نريد أن نقاتلكم.

فقال عاصم أمير السرية أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ولا أقبل عهد مشرك هؤلاء الناس لا يخافون الله، وليس لهم عهد ولا ميثاق: {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] فرفض أن يستسلم وقاتل، وقبل أن يموت قال: اللهم أخبر عنا رسولك، دعا عاصم الله عز وجل أن يبلغ خبر حصار المشركين لهم؛ وما حصل لهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فاستجاب الله لـ عاصم وأخبر رسوله بالخبر، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في المدينة بالخبر في اليوم نفسه، أن عاصماً قتل ومعه سبعة بنبل الرماة المشركين، وبقي خُبيب بن عدي، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق.

(16/4)

مقتل خبيب وأصحابه

رأى هؤلاء المسلمون الثلاثة أن يَستأسروا -أي: ينزلوا أُسارى- فلما نزلوا ربطوهم، ولما أرادوا ربطهم رفض الثالث أن يستسلم، وجرُّوه وحاولوا أن يأخذوه، فما طاوعهم، فقتلوه، فبقي خُبيب بن عدي وزيد، فأخذوهما حتى باعوهما بـ مكة، وانتهزوا فرصة أن قريشاً تريد الثأر من قتلاها يوم بدر، فباعوا خبيب بن عدي وزيداً إلى الكفار، باعوهما أسيرين، خبيب -كما تقدم- قتل الحارث بن عامر يوم بدر وكان من المشركين، فأهله أرادوا الانتقام واشتروا خبيباً ليقتلوه ويكون ذلك انتقاماً لمقتل أبيهم.

فمكث عندهم خبيب رضي الله عنه أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله عندما انقضت الأشهر الحرم أخرجوهما إلى التنعيم لقتلهما.

وجاء في رواية: أنهم أساءوا إليه في أول الأسر، فقال لهم: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه، وجعلوه عند امرأة تحرسه.

وفي رواية: أنهم جعلوه عند موهب مولى آل نوفل، فقال له خبيب: يا موهب! أطلب إليك ثلاثاً: أن تسقيني العذب؟ وأن تجنبني ما ذُبح على النصب، أي: لا تعطني طعاماً مذبوحاً على النصب، أي: للأصنام والآلهة.

وأن تُعْلِمَني إذا أرادوا قتلي.

حتى إذا أجمعوا على قتله أراد أن يتهيأ رضي الله عنه للقتل، فيحتاج إلى إزالة الشعر الذي لا بد من إزالته- فاستعار موسىً) طلب موسى لأجل حلق العانة من هذه المرأة، زينب بنت الحارث، أخت عقبة بنت الحارث، وعقبة بن الحارث هو الذي قَتل خبيباً، وقيل: إن المرأة التي تحرس خبيباً هي أخته أو زوجته، فاستعار منها موسى، فدرج ولد لها - كان عندها صبي غفلت عنه، فالصبي هذا درج- حتى وصل إلى مكان الأسير الموثق بالحديد -المربوط- وبيده الموسى، فنظرت إليه -وانتبهت- فزعةً، وظنت أنه يريد أن يقتله؛ لأنه ما دام هو مقتول فلينتقم منهم بقتل الولد ما دام قد قُدِر عليه، ولكن الأسير المسلم ما كان ليقتل الأطفال، وما ذنب الأطفال؟! فتركه وقال: أتخشين أن أقتله؟! لا أقتله إن شاء الله -تقول هذه المرأة في ذكرياتها عن خبيب: إنها رأته وهو في الأسر وهو مقيد- في يده عنقود عنب مثل رأس الرجل -أي: في الحجم يأكل منه -ومكة كلها ما فيها عنب ولا ثمر أصلاً، فهي تذكر هذا المشهد جيداً، وأن خبيباً رُزِق من الله بهذا القطف من العنب- ولما خرجوا بـ خبيب من الحرم، أي: من منطقة الحرم إلى التنعيم؛ لأن التنعيم خارج الحرم في الحل، ولذلك يحرم منها من أراد العمرة من أهل مكة أو من في حكمهم ممن ذهب إليهم إذا أراد أن يعتمر لابد أن يحرم من الحل، وأقرب موضع من الحل إلى الحرم هو: التنعيم، والمكان الذي أحرمت منه عائشة وفيه مسجدها إلى اليوم يحرم الناس عنده، فإن الحل الذي يخرج الإنسان إليه في عدة أماكن؛ الجعرانة والتنعيم وغيرها.

أخرجوه خارج الحرم؛ لأن قريشاً كانت تعتقد أنه لا يجوز القتل داخل منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم، فانتظَروا الأشهر الحرم حتى تمضي، وأخرجوا خبيباً إلى خارج منطقة الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، فلما أرادوا قتله، قال: دعوني أصلي، فصلى ركعتين -في موضع مسجد التنعيم - وقال للكفار: لولا أنكم تظنون أني أخشى الموت لزدتُ -صليتُ ركعتين أخريين، لكنه اكتفى بهاتين الركعتين- ثم دعا الله، قال: (اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً -أي: متفرقين- ولا تبقِ منهم أحداً).

وفي رواية: قال: (اللهم إني لا أجد من يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه).

وفي رواية: فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء، قال: فلبد رجل بالأرض خوفاً من دعائه، وكانت قريش تعتقد أن الإنسان المدعو عليه إذا نزل بالأرض وألصق جنبه بها فاتته الدعوة -أي: ما أصابته الدعوة- وأحد الكافر عندما دعا خبيب لبد بالأرض مباشرة.

وجاء عند ابن إسحاق: أن معاوية بن أبي سفيان كان مع أبيه، وكان أبوه مشركاً في ذلك الوقت، قال: [كنتُ مع أبي، فجعل يُلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب] أول ما سمع أبو سفيان الدعاء ألقى معاوية إلى الأرض مخافة أن تصيبه الدعوة بحسب ما كانوا يعتقدون، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر خبيب -فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السلام يا خبيب! قَتَلَتْه قريش.

وقال هذه الأبيات العظيمة:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّع

الأوصال: جمع وصل، والوصل: هو العضو.

والشلو: الجسد.

ممزَّعِ: مقطع.

وقد ساق ابن إسحاق في روايته عدة أبيات قالها خبيب، ربما تصل إلى ثلاثة عشر بيتاً، وبعضهم ينكر أن تكون له، والذي في صحيح البخاري هذان البيتان، وعند ابن إسحاق:

لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقُرِّبتُ من جذع طويل ممنعِ

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداءُ لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد قطعوا لحمي وقد يئس مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزَّعِ

وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد همَلَت عيناي من غير مجزعِ

وما بي حذارُ الموت إني لميتٌ ولكن حذاري جحم نار ملفَعِ

فوالله ما أرجو إذا مت مسلماً على أي جنب كان في الله مضجعي

على أية حال! هذان البيتان في صحيح الإمام البخاري رحمه الله، ومنها الأبيات التي قالها خبيب، وقيل: إن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رثاه بأبيات منها:

ما بال عينك لا ترقى مدامعها صحاً على الصدر مثل اللؤلؤ الفلقِ

على خبيب فتى الفتيان قد علموا لا فََشِلٍ حين تلقاه ولا نزقِ

فاذهب خبيب جزاك الله طيِّبةً وجنة الخلد عند الحور في الرُّفُقِ

ماذا تقولون إن قال النبي لكم حين الملائكةُ الأبرارُ في الأفقِ

فيمَ قتلتم شهيد الله في رجلٍ طاغٍ قد أوعث في البلدان والرُّفَقِ

فرثاه حسان بن ثابت وكان لسان إعلام المسلمين.

(16/5)

إكرام الله لجسد عاصم بن ثابت

وأما بالنسبة لـ عاصم بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- الذي هو أمير السرية، فإنه لما قُتل أراد الكفار قطعة من جسده، وقيل: إنهم أرادوا أن يأخذوا رأسه؛ لأن قريبة له نَذَرَت أن تشرب الخمر في قحف رأسه -قريبة للمقتول المشرك الذي قتله عاصم في بدر أرسلوا رسلاً منهم ليأتي برأس عاصم -فأرسل الله الظلة السحابة- من الزنابير -أي: ذكور النحل- فحمته منهم، ولم يستطيعوا أن يمدوا أيديهم ليأخذوا شيئاً من جسده، فلم يقدروا منه على شيء.

(16/6)

فوائد من غزوة الرجيع

هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة للغاية: هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة للغاية: 1 - منها: تضحية صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجهم لنصرة الله ورسوله بالرغم من الأخطار التي كانت موجودة.

2 - أن العلماء قد تكلموا في مسألة المسلم هل يجوز له أن يستأسر أم أنه لا يمكِّن من نفسه ولو قُتل أَنَفَةً من أجل أن يجري عليه حكم الكافر؟ فقال العلماء: هنا عزيمة ورخصة: فالعزيمة: أن المسلم يمتنع من الأسر حتى لو قتلوه.

والرخصة: أنه يجوز له أن يقع أسيراً.

فإذا رأى أن من المصلحة أن يوقع نفسه أسيراً أوقع نفسه أسيراً، وإذا أخذ بالعزيمة، وقال: أقاتلهم حتى يقتلوني، وأرفض الوقوع في الأسر؛ فإنه مأجور على فعله ذلك.

3 - الامتناع عن قتل أولاد المشركين وأطفالهم.

4 - كرامات أولياء الله تعالى واضحةً جداً في هذه القصة: أ- أن قِطْف العنب عند خبيب كرامة من الله، ولا يوجد في مكة عنب، والمرأة فوجئت بعنقود من العنب كبير بحجم رأس الرجل بين يدي خبيب.

ب- أن عاصم بن ثابت حماه الله بالظلة -السحابة- من النحل تظله، وهذه كرامة من كرامات الله تعالى.

جـ- تبليغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الله أن يبلغ نبيه الخبر، ووصول الخبر في الوقت نفسه من كرامات الله لهم.

إذاً كرامات الله عز وجل ثابتة ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أننا نوقن ونعتقد أن الله يخرق العادة لبعض أوليائه، ويجري الله تعالى كرامات على أيدي أوليائه، ويكرمهم بخرق العادة لهم.

فقد يكون خرق العادة بأن يأتيهم بطعام لا يوجد في البلد مثله.

يأتيهم بفاكهة الصيف في الشتاء أو العكس، مثلما كان لمريم عندما كان يأتيها رزقها وهي في مكان صلاتها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] وهذا الرزق من الله وليس من أحد من البشر.

ربما يكرمهم الله بالمشي على الماء، بأن تخوض الخيول الماء مع أن العادة جرت بأن الخيل لا يركب البحر أبداً ويغرق، ومع ذلك ركبت خيول المسلمين البحر في بعض الغزوات، وما غرق أحد منهم، وما فقدوا شيئاً، حتى إن بعضهم فقد مطهرة، فلما عبروا إلى الشاطئ الآخر، قال: ربِّ مطهرتي، فرماها البحر بعد قليل إلى الشاطئ، وأخذ المطهرة؛ وهي الإناء الذي يتطهر به.

وكان في يد بعض الصحابة نور، جعل الله له نوراً في يده في الظلام يضيء له الطريق، الأول أسيد بن حضير، والثاني عباد بن بشر.

وسلمت الملائكة على عمران بن حصين.

وطعام أبي بكر الصديق كفى أعداداً من الناس، كلما أكلوا لقمة ربا من تحتها مكانها، فتركوه أكثر مما بدءوا.

وهذه الكرامة منة من الله يعطيها من يشاء من أوليائه.

إن قال قائل: ما هو الفارق بينها وبين الخارقة التي تكون للساحر والكاهن والمشعوذ؟! ربما يفعلون كرامات، ربما يطير الساحر والمشعوذ في الهواء، ربما يمشي على الماء، إذاً هذه خوارق وهذه خوارق! نقول: نعم.

والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: أولاً: أن حال ولي الله الذي يُجري الله على يديه الكرامات أنه متمسك بشرع الله، صحيح العقيدة، يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات.

أما المشعوذون والسحرة: فإنهم مشركون عقائد فاسدة، يتعاملون مع الشياطين، ربما لا يصلون، يمتنعون عن الواجبات، ويفعلون المحرمات، وربما يشربون الخمور، ويزنون، ويرتكبون الموبقات.

ولذلك لا يغتر أحد بخرق العادة، فالعادة قد تنخرق، فالدجال من فتنته أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تخرج كنوزها فتخرج كنوزها، يَقسم رجلاً قسمين -يضربه بالسيف نصفَين- ثم يرده، ويقول: قم، فيقوم بأمر الله، الناس يشاهدون معه جنة ونار متنقلة، فالدجال معه خوارق عظيمة جداً؛ لكنه مع ذلك كافر يهودي بن يهودي، ولذلك فإن الفارق الأساسي بين الولي وبين المشعوذ أو الدجال: حال هذا وحال هذا، هذا أعظم شيء؛ ولذلك لا بد أن ننظر في حال الشخص الذي يدعي الخوارق، أو الذي حصلت له خارقة، هل هو مستقيم على الشريعة أم هو رجل منحرف؟ صحيحُ العقيدة أم رجل مشرك أو مبتدع؟ هل يقوم بالواجبات ويمتنع عن المحرمات أم إنسان يرتكب الموبقات؟ ثم إن الولي إذا حصلت له الخارقة لا يخبر الناس يقول: يا أيها الناس! حصل لي كذا وكذا، وإنما يظهرها الله بطريقة، أو تنتقل وتنتشر، وربما ما عرفت إلا بعد وفاته، أما الدجال المشعوذ فيقول لك: تعال انظر، ويدعوك إلى رؤية ما عنده، ويتظاهر ويتباهى بما عنده، أما أولياء الله إذا حصل له شيء لا يخبر الناس، ويقول: أنا كنت في الصحراء وعطشت وأوشكت على الموت، فأرسل الله لي قربة ماء بين السماء والأرض فشربت منها، لا يقول هذا، وإن حصل له يكتمها من باب الإخلاص حتى لا يدعي الولاية ويتباهى بذلك بخلاف ذلك المشعوذ.

ثم إن هؤلاء كثيراً ما يكون خرق العادة بالنسبة لهم من جهة التعاون مع الجن، الجن -مثلاً- يخدعون أعين الناس، فمثلاً: قد يجعلوا سيخ الحديد يخترق جسد هذا المشعوذ بدون قطرة دم يمشون على المسامير الحادة جداً، يدخل النار فلا يصيبه شيء، وقد يكون هذا الشيء الذي يفعله بحيلة، مثلاً: يطلي جسده بنوع من زيت النارنج أو ببعض الأشياء التي لها مقاومة للنار.

الآن هناك كراسي وجلود وأشياء مصنَّعة مقاومة للنار وللاحتراق، يقول لك: هذه قاعة المحاضرات كلها ضد الاحتراق أي: لا يحترق لا السجاد ولا المقاعد ولا السقف ولا الجدران؛ لأنها مطلية كلها بمادة مقاومة للاحتراق، كما ناظر ابن تيمية رحمه الله فرقة البطائحية الصوفية المنحرفين، قالوا: نحن ندخل النار ولا يضرنا، قال: أولاً: نغتسل كلنا، تغتسلون أمامي، ثم أدخل أنا وأنتم إلى النار، فرفضوا ذلك، وقصة مناظرته لهم معروفة مشهورة.

والخلاصة: أن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم حصلت كرامة الله عز وجل لهم.

5 - كذلك في هذه القصة من الفوائد: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد بما يشاء، مع أن هذه كانت مصيبة -ولا شك- في المجتمع المسلم أن يُفقد عشرة من أفضل أفراده؛ لكن الله سبحانه وتعالى له حكمة: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] يريد الله عز وجل أن يكرم هؤلاء المسلمين، ويريدهم لهذا الجزاء، والله يعلم أن ذهابهم إليه أفضل من بقائهم في الدنيا.

الآن حياة خبيب بعد الموت أفضل له من حياته قبل الموت، فمن ناحية الهم والغم والحزن والمرض والشقاء والتعب لا يوجد، فما بعد الموت لمثل هؤلاء نعيم، فهو الآن في قبره يُملأ عليه خَضِراً إلى يوم يبعثون، يُنَوَّر له، يأتيه عمله الصالح في أحسن حال، يُفتح له باب إلى الجنة، وفتَحْةُ الباب إلى الجنة تكفي عن كل الذي في الدنيا، ونظرته إلى أهله وماله من هذه النافذة التي في القبر إلى الجنة، ينظر إلى أهله والحور العين، وماله الذي هو في الجنة وهو في القبر أحسن له من كل هذه الدنيا، ولذلك ليس شيئاً محزناً من جميع النواحي أن يقتل خبيب وأصحابه؛ لأن في المقابل توجد كرامة ونعيم عند الله أحسن من هذه الدنيا، فالله عز وجل من محبته لأوليائه أن يعجل بأخذهم وبرحيلهم عن الدنيا، هذا سر مهم؛ أن الله يحبهم فيريدهم أن ينتقلوا عنده بسرعة.

ذهب أبو بكر وعمر ليزورا أم أيمن كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يزورها في حياته، قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام مات وكانت له عادة حسنة في زيارة هذه العجوز -المرأة الكبيرة- أمه من الرضاعة، فنواصل عادة النبي عليه الصلاة والسلام، فذهبا إلى أم أيمن، ولما جلسا عندها رضي الله عنها؛ بكت، فظنَّا أنها بكت حزناً على فراق النبي عليه الصلاة والسلام وموته، فقالا لها: [أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله؟!] أي: ما عند الله أفضل للنبي عليه الصلاة والسلام من بقائه عندنا في الدنيا، هموم وغموم وأحزان وأمراض، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] فقالت: [نعم!] تعلم ذلك؛ ولكنها تبكي أن الوحي قد انقطع، لأجل هذا حزنت.

6 - وكذلك في هذا الحديث: أن من سنن الفطرة حلق العانة: والفطرةُ سننٌ كثيرة، جاء مجموع عشرٍ منها في حديث واحد، وبمجموع الأحاديث قد تصل إلى أكثر من عشر سنن.

- فالمضمضة من سنن الفطرة.

- والاستنشاق من سنن الفطرة.

- والسواك من سنن الفطرة.

- واللحية من سنن الفطرة.

- وغسل البراجم والأشاجع؛ غسل ما بين الأصابع، وما في هذه الانثناءات الموجودة في الأصابع، هذا من الفطرة؛ لأنه يتجمع فيها الزءومة والوسخ؛ فغسلها والاعتناء بغسلها من هذه الفطرة.

- الختان من الفطرة.

- نتف شعر الإبط من الفطرة.

- قص الأظافر من الفطرة.

- حلق العانة؛ ما حول القُبُل من الشعر الخشن من الفطرة.

هذا الذي أراد أن يفعله خبيب رضي الله عنه، وقد ذكر العلماء أن الحلق بالموسى أفضل من القص بالنسبة للعانة، كما أن النتف للإبط أفضل؛ لكن لو أزاله بأي مزيل جاز، أي: لو قال شخص: أنا لا أقوى على نتف الإبط؛ لأنه يؤلمني جداً، فهل يجوز لي أن أستخدم مزيلاً لإزالة الشعر الذي في الإبط؟ نقول: نعم، لا بأس بذلك، المهم: الإزالة؛ منعاً للروائح الكريهة؛ لأن الإسلام يعتني بنظافة المسلم في جسده، فتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وغسل البراجم، والاستنشاق، والاستنثار، هذه كلها نظافة للمسلم.

وأيضاً حفاظاً على الهيئة الحسنة: اللحية.

وكذلك الختان؛ حتى لا تتجمع الأوساخ والأشياء الضارة، فلذلك صار الختان واجباً للذكور، مستحباً للإناث، فالختان أيضاً من الفطرة.

إذاً: الدين يأمر بكل ما فيه تنظيف وتطهير وتطييب لجسد المسلم.

فالشاهد أن الاستحداد -استخدام الحديدة والموسى أو الشفرة في حلاقة العانة- أفضل من قصه أو إزالته بأي مزيل، مع أن الإزالة بأي مزيل آخر جائز.

7 - كذلك في هذا الحديث: أن التجسس في الحرب من الأش

(16/7)

الأسئلة

(16/8)

نهج البلاغة في الميزان

السؤال

ما رأيك في كتاب نهج البلاغة؟

الجواب

كتابٌ مسمومٌ يُحذرُ منه، منسوبٌ إلى علي رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه بريء من كثير مما فيه.

(16/9)

حكم رد المرأة على الهاتف

السؤال

ما حكم إذا رَدَّت المرأة على الهاتف، وأجابت عن سؤال؟

الجواب

إذا لم يكن خضوعاً بالقول وكان لحاجة فلا بأس.

(16/10)

آداب زيارة العديل لعديله

السؤال

ما هي آداب زيارة العديل لمنزل عديله؟

الجواب

المقصود بالعديل هنا عند الناس هو: زوج أخت الزوجة، فيقولون مثلاً: هذان عديلان، أو هؤلاء عدلاء، أي: أزواج لأخوات؛ فإذا زاره في بيته، فلا يجوز الخلوة بالمرأة؛ لأنها ليست من المحارم، وهي من المحرمات عليه على التأبيد، ولا يجوز له النظر إليها بطبيعة الحال، ولا يجوز الاختلاط.

(16/11)

حكم من ترك الطواف بالبيت أثناء العمرة بسبب المشقة

السؤال يقول: بعد فراغي من أداء مناسك العمرة أردت أن أطوف بالبيت، وحين أنهيت الشوط الثالث ازداد الزحام، فخرجت ولم أتمكن من الطواف، فهل يجب علي شيء؟

الجواب

طَيِّبٌ! ما عرفنا ما فعلتَ الآن بعد هذا! هل أكملت الطواف مثلاً من السطح، أو الدور الثاني؟! هل خرجت خارج الحرم ثم رجعت وأكملت؟! هل أعدت من الأول؟! هل رجعت طفت، أتيت بربع عمرة وجئت؟! ماذا فعلت؟! فما عرفنا الآن ماذا فعلت.

فعلى أية حال لو فرضاً على أسوأ الحالات أنك رجعت ولا زلت باقياً على إحرامك حتى هذه اللحظة، لا بد أن تعود وتلبس ملابس الإحرام وتذهب تكمل وتأتي بالعمرة، وتأتي بالطواف من جديد.

وإذا صار ما هو أسوأ وأتيت زوجتك يعني: أفسدت العمرة الأولى، فعليك بالتوبة، وعليك بالذهاب بالإحرام والطواف والسعي لإتمام العمرة الفاسدة، وتعود إلى الميقات الأول وتحرم منه لعمرة جديدة بدل العمرة الفاسدة، ثم تدفع دماًَ في مكة يوزَّع على فقراء الحرم.

أما إذا كنت -مثلاً- طفت ثلاثاً من تحت، ثم صعدت إلى الدور الثاني فأتيت بالأربعة تكملة السبعة ففعلك صحيح؛ لأنه ما دام أنه رجع، فأكيد أنه الآن أكمل السبعة أو رجع بدون إكمال السبعة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(16/12)

قصة يوم الوشاح

خصص البخاري رحمه الله في صحيحه عدة أبواب من كتاب الصلاة للمساجد وأحكامها وآدابها.

وقد جاءت هذه المادة لتسلط الأضواء على تلك الآداب والأحكام من خلال الشرح والتعليق على أحاديث من تلك الأبواب.

وقد ظهر من خلال ذلك: أحكام الإقامة في المسجد تنظيف المسجد بناء المساجد آداب الكلام فيها وكذلك بيان لمن يستعان به في بناء المساجد، وغير ذلك من الأحكام المتناثرة في ثنايا هذه المادة.

(17/1)

حديث صاحبة الوشاح في صحيح البخاري

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي بين أيدينا في هذه الليلة قصةٌ رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه سنتحدث عنها، ثم نتحدث عن بعض الأحكام المتعلقة بالمساجد لمناسبة هذه القصة، ولعل هذه الأحكام تفيدنا في مسألة الاعتكاف.

روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: [أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفشٌ في المسجد، -أي: بيت صغير ضيق- قالت: فكانت تأتينا فتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها، قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

فلما أكثرت، قالت لها عائشة: وما يوم الوشاح؟ قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه الحدية وهي تحسبه لحماً، فأخذته، فاتهموني به -أي: بسرقة الوشاح- فعذبوني حتى بلغ من أمري أنهم طلبوه في قبلي، فبينما هم حولي وأنا في كربي، إذ أقبلت الحدية حتى وازت برءوسنا، ثم ألقته، فأخذوه، فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة].

وروى الحديث البخاري أيضاً رحمه الله في صحيحه، في كتاب: الصلاة، عن عائشة: [أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبيةٌ لهم عليها وشاحٌ أحمر من سيور، قالت: فوقع منها، فمرت به حديات وهو ملقىً، فحسبته لحماً، فخطفته، قالت: فالتمسوه، فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحديات، فألقته، فوقع بينهم، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، قالت: فكانت تأتيني، فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين لي مقعداً إلا قلتي هذا؟! قالت: فحدثتني بهذا الحديث].

هذه القصة من القصص التي حدثت في أيام الجاهلية لامرأة كانت (وليدة) والوليدة هي: المولودة، ثم أطلقت على الأمة وإن كانت كبيرة -هذه الوليدة عندما كانت مع هؤلاء العرب وأعتقوها، خرجت يوماً مع صبيةٍ لهؤلاء، والصبية كان عليها وشاح أحمر؛ والوشاح: ينسج من جلد عريض، ويرصع باللؤلؤ، تشجه المرأة بين عاتقها وكشحها، نوعٌ من الزينة، فلما خرجت هذه الصبية وعليها الوشاح الأحمر، وضعته ودخلت إلى مغتسلها وكانت عروساً، فجاءت الحدية؛ والحدية هي: الحدأة الطائر المعروف الذي أبيح قتله في الحل والحرم، ويقال لها: الحدا، أو الحدو أو الحدأة، وجاء في هذا الحديث تصغيرها حديات، فحسبته لحماً فخطفته، فجاء قوم هذه الصبية، فظنوا هذه الوليدة هي التي أخذته، فاتهموها به، ففتشوا منها كل شيء، وصارت هذه المرأة في كرب عظيم وهي مظلومة، فأرسل الله الحدية مرة أخرى وهي في هذا الموقف العصيب، وكانت قد دعت الله تعالى في هذا الموقف العصيب كما جاء في رواية، قالت: "فدعوت الله أن يبرئني"، فجاءت الحدية وهم ينظرون، حتى إذا وازت برءوسهم ألقت الوشاح أمامهم، فقالت لقومها: هذا الذي اتهمتموني به هاهو أمامكم الآن، ثم إن هذه المرأة جاءت إلى المدينة وأسلمت، وسكنت في هذا البيت الصغير في المسجد، وكانت تتحدث عند عائشة وكثيراً ما تقول هذا البيت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

(17/2)

الفوائد المنتقاه من قصة صاحبة الوشاح

يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.

2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].

3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.

من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.

(17/3)

بعض الأحكام الشرعية الدالة على احترام بيوت الله تعالى

يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.

2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].

3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.

من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.

(17/4)

حك البصاق باليد من المسجد

لقد خصص البخاري رحمه الله عدة أبواب من كتاب الصلاة في صحيحه للمساجد لبيان آدابها وأحكامها، فمن العناوين التي عنونها رحمه الله، وفقه البخاري في عناوينه، قال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لما رأى نخامةً في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده) هذه النخامة بقية البلغم، أو البصاق الموجود، لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حكه بيده الشريفة وأزاله تطييباً للمسجد، وطيب مكانه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم ألَّا يبصق قبل وجهه في الصلاة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قبل وجهه إذا صلى، وأخبر أن هذا من أسباب إعراض الرب.

(17/5)

حك المخاط بالحصى من المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: حك المخاط بالحصى من المسجد، وذكر حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحكها، وكلُّ هذا يدل على عدم جواز البصق في المساجد وتقذير المساجد.

وكذلك فإنه لا يجوز البصق تجاه القبلة في الصلاة، ثم إنه ينبغي إزالة القذر من المسجد وتنظيف المسجد، وكفارة البصق في المسجد عندما كانت المساجد من الرمل والحصى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (البصاقة في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها).

إذاً: لا يجوز الصق في المسجد أصلاً، لكن إذا حصل ذلك فما هو العلاج؟ دفنها إذا كانت المساجد من الرمل والحصى، والآن يبصق الإنسان في منديلٍ أو ما أشبه ذلك.

(17/6)

هل يقال: مسجد بني فلان؟

كذلك عنون البخاري رحمه الله تعالى في هذه المواضع باب: هل يقال مسجد بني فلان؟ وساق حديث عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل إلى مسجد بني زريق) ففيه جواز إضافة المساجد إلى بانيها، أو المصلي فيها، أو المصلون فيها، إذا كانوا من قوم معينين أو قبيلة معينة، يقال: مسجد بني فلان، ولا حرج في ذلك.

وكذلك ربما تضاف إلى من بناها إذا أمن من ذلك الرياء؛ لأن بعض الناس ربما يسمون المساجد بأسمائهم، ويكون في ذلك رياء، لأن المسألة تعتمد على النية، والمساجد لله تعالى، فلا يجوز أن يشرك مع الله سبحانه وتعالى أحدٌ في بناء المساجد، ولعل الأولى ألَّا يقال: مسجد فلان الذي بناه ابتعاداً عن الرياء، لكن إذا أمن الرياء كما إذا مات الشخص لم يعد يخشى عليه بعد موته، فيقال: مسجد فلان ولا بأس بذلك.

(17/7)

حكم القسمة وتعليق القنوان في المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: القسمة وتعليق القنوان في المسجد، وذكر حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بمال من البحرين، فقال: انثروه في المسجد) وأن الصحابة كانوا يعلقون القنوان -أي: العذوق التي فيها التمر في المسجد- لأجل إطعام أهل الصفة، أو غيرهم من الفقراء، فيجوز جمع الأموال، أو الصدقات في المساجد، ومنها: صدقة الفطر، وحراستها كما جاء في حديث أبي هريرة مع الشيطان، فجعلوا توزيع الأطعمة على المساكين في المساجد، وجمع الأطعمة في المساجد لا حرج فيه، بشرط ألَّا يضايق المصلين، ولا يخل بصفوف الصلاة.

(17/8)

حكم الدعوة لطعام في المسجد حكم الإجابة

ثم قال رحمه الله: باب: من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب معه، وساق حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: (وجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أناسٌ، فقمت، فقال لي: آرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم.

فقال: لطعامٍ؟ قلت: نعم.

فقال لمن معه: قوموا الحديث).

فيؤخذ منه: جواز توجيه الدعوة للوليمة في المسجد، فلو أن إنساناً قال لجماعة في المسجد: اطعموا عندنا، أو هلموا إلى بيتنا، أو دعاهم إلى الطعام وهم في المسجد، فذلك جائزٌ ولا حرج فيه، فهذه الأمور المباحة التي يقصد منها إكرام المسلمين، والدعوة إلى الطعام لا بأس بها لو كانت في المسجد، سواءً وجهت الدعوة إلى الناس لحضور وليمة في المسجد، أو وجهت الدعوة وهم في المسجد.

(17/9)

حكم القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء

ثم قال رحمه الله: باب: القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء، وساق حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله؟ -في قصة طويلة- قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد).

فيؤخذ منه: 1 - جواز الحكم بين الرجل والمرأة في المسجد.

2 - جواز البت بين المرأة وزوجها في الطلاق أو اللعان في المسجد.

والملاعنة: أن يأتي الرجل الذي قذف زوجته بالزنا والعياذ بالله، فيشهد على نفسه أربع مرات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة إذا أقرت رجمت، فإذا لم تقر تدفع عنها الحد بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وهذا يجوز أن يكون في المسجد، بل لتغليظ الأمر للوصول إلى الحقيقة يكون في المسجد، حتى يكون في الحرم، حتى قالوا: إذا كانا في مكة، يتلاعنا عند الحجر الأسود، وإذا كانا في المدينة يتلاعنا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في البلد بمحضر القاضي يتلاعنا بمسجد البلد؛ لأجل أن يكون الجو مهيأ لبلوغ الصدق في هذه القضية الخطيرة.

ويشبه هذا مسألة المباهلة؛ كأن يتباهل إنسان مع آخر على مسألة كل يدعي الحق فيها، فيدعو كل أحد على نفسه إن كان كاذباً.

ومنها: مباهلة أهل البدع كـ الخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم، وقد حدثت من علماء المسلمين عدة مواقف من المباهلات مع المبتدعة، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه وجد بالتجربة أن صاحب الباطل إذا باهل ودعا على نفسه إن كان على باطل أن يميته الله فلا يمر عليه سنة إلا ويموت، لا يعيش أكثر من سنة، إذ إن الذي يباهل صاحب حق، صاحب دين، والآخر صاحب باطل، ما يمر عليه سنة إلا ويموت.

(17/10)

حكم التيمن في دخول المسجد

وكذلك عنون البخاري رحمه الله باباً بعنوان: التيمن في دخول المسجد، وعلق حديث ابن عمر [كان يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى] ولعله ليس هناك حديثٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل ذلك، وليكن يؤخذ من عموم التيامن تقديم الرجل اليمنى واليد اليمنى في الأمور الحسنة، والرجل اليسرى أو اليد اليسرى في الأمور المستقذرة، فكما أنه يدخل الخلاء بشماله كذلك فإنه يدخل المسجد بيمينه.

(17/11)

حكم نبش قبور المشركين واتخاذ مكانها مساجد

ثم ساق -رحمه الله تعالى- باباً: هل تنبش قبور المشركين والجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجداً، كان في ذلك المكان قبور للمشركين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشت؛ لأن قبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك إذا كان مكان المسجد، في ناحية منها -مثلاً- قبور للكفار، أو من أيام الجاهلية، فإنها تنبش وتخرج العظام، وبعد ذلك يبنى المسجد ولا حرج، وليس في هذه الحالة في بناء المسجد محذور شرعي كالبناء على القبور؛ لأن المقصود هنا ليس هو تعظيمها؛ لأنها نبشت، أما بناء المساجد على قبور الأولياء والصالحين والأنبياء، فإنه ملعونٌ من فعل ذلك: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فأي مسجد يبنى على قبر نبي، أو ولي، أو رجل، فإنه باطل، ويهدم، ولا تجوز الصلاة فيه.

إذا كان المسجد أولاً ثم دفن فيه ميت، نبشنا القبر وأخرجناه إلى المقبرة.

وإذا كان القبر أولاً ثم بني المسجد، هدمنا المسجد؛ لأنه بني على باطل، وكل ما بني على باطل فهو باطل، وإذا كان القبر في القبلة فلا يجوز الصلاة إليه مطلقاً، ويجب أن يخرج القبر خارج المسجد، ويجعل بينه وبين المسجد جدار أو شارع، ليعزل عن المسجد تماماً؛ لأن بناء المساجد على القبور حرام، بل من مظاهر الشرك والوثنية، وهذا عمل اليهود والنصارى، مع أنه منتشر في كثير من بلدان العالم الإسلامي، كما هو معروف في قبر زينب، وقبر الحسين، وقبر العيدروس وغيرها من الأماكن التي فيها مساجد مبنية فوق القبور، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم خارج مسجده، ولما جاء الوليد بن عبد الملك أدخله في المسجد، فهو من فعل الوليد، وليس من فعل الصحابة، ولم يرضه السلف، بل أنكروا ذلك، ولكنهم لم يستطيعوا تغييره، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله جعل على القبر مثلثاً مبنياً بحيث لا يمكن استقبال القبر والقبلة معاً، ولا يمكن الوصول إلى القبر وهو مفتوح من الأعلى كما سبق أن ذكرنا ذلك.

(17/12)

حكم النوم في المسجد

ثم ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- باباً آخر بعنوان: نوم المرأة في المسجد، وقلنا: إذا أمنت الفتنة، كأن يُجعل مكان، أو خيمة خاصة للنساء، واحتج فيه بحديث المرأة التي سبق أن ذكرنا قصتها في أول هذا الدرس.

ثم قال رحمه الله: باب: نوم الرجال في المسجد، وأتى بحديث ابن عمر: أنه كان ينام وهو شابٌ أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان بين علي وفاطمة شيء، خرج علي إلى المسجد واضطجع فيه ورقد، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح صدره يداعبه ويقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب) وكان علي رضي الله عنه يحب هذه الكنية جداً؛ وذلك لأنه عندما اضطجع أصابه تراب، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب).

فيؤخذ من هذا الحديث: جواز النوم في المسجد إذا أمن انكشاف العورة، ولم يكن هناك فتنة، ولا مفسدة، فإن النوم في المسجد ليس حراماً، ولا خطيئةً، والمعتكف يحتاج إلى النوم في المسجد بطبيعة الحال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد العشر الأواخر، وهذا يحتاج إلى نوم ولا شك، وأهل الصفة كانوا ينامون في المسجد، لكن لا يتحول المسجد إلى فندق يقذر بحجة النوم فيه.

(17/13)

حكم الصلاة في المسجد إذا قدم من سفر

قال رحمه الله تعالى بعد ذلك: باب: الصلاة إذا قدم من سفر، وباب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، وقد كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا رجع من سفر، أولاً أن يبدأ بالمسجد، فيصلى فيه ركعتين، قال النووي رحمه الله: "هذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر، وليست تحية المسجد".

من السنة إذا جاء الإنسان من السفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين، أما تحية المسجد، فإنه إذا دخل أي مسجد يصلي ركعتين، سواءً قدم من سفر أو لم يقدم من سفر، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، وجمهور العلماء على استحبابها، وهذا خاص بالمساجد؛ بمعنى أن مصليات الشركات والدوائر الحكومية ليست مساجد؛ لأنها لم تبن بنية أن تكون مسجداً موقوفاً لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، فإن تحية المسجد خاصة بالمسجد وليست للمصليات.

(17/14)

حكم الحدث في المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: الحدث في المسجد، وساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).

ما معنى: ما لم يحدث؟ فسرها بعض العلماء بالمعصية أو البدعة.

وبعضهم قال: الحدث هو: الريح.

والصواب: أن خروج الريح من الإنسان في المسجد ليس محرماً -بمعنى أنه يأثم وأنها معصية وبدعة- ولكن ينبغي له أن يخرج من المسجد لئلا يؤذي المسلمين والملائكة؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، والإنسان يؤجر على جلوسه في المسجد طيلة جلوسه إلا إذا أحدث، فعند ذلك ينقطع أجره، ولا تدعو له الملائكة إذا أحدث، ولذلك إذا خرج منه شيء، يذهب ويتوضأ ويرجع ويكمل اعتكافه، وكذلك إذا نام -مثلاً- يقوم ويتوضأ ويرجع، أما المعصية في المسجد والبدعة فيه فهي من المصائب العظيمة.

(17/15)

بنيان المساجد

ثم قال رحمه الله: باب بنيان المسجد، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: [أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس]، وقال ابن عباس: [لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى] فأما بنيان المساجد فهو من علامات الإيمان، وهو أمرٌ مأمورٌ به شرعاً أن تبنى بيوت الله تعالى للعبادة فيها، ولكن المحذور هو التباهي بها والمفاخرة، كما قال أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، وفي رواية أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) يشيدون مساجد كبيرة وعظيمة ضخمة سقوفها مرتفعة، فيها زينات ونقوش، ولكن من الذي يصلي فيها؟ قلة من الناس: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) تجد المسجد الضخم لكن فيه نصف صف، وعمارة المساجد طاعة وقربة لله: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) لكن زخرفة المسجد سواءً ما وضع فيه من الأشياء المذهبة، أو المفضضة، أو الألوان، أو النقوش، والزخارف المحفورات الكتابات كل ذلك من الأمور المنهي عنها، وهذا من التشبه باليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى في كنائسهم ومعابدهم هكذا يفعلون، ولذلك ينبغي أن تكون المساجد نظيفة مبنية مسقوفة تحمي الناس من المطر! نعم، مثل: التكييف الآن مهم، والإنارة مهمة للقراءة، لكن أن نجعلها مزخرفة ملونة مكتوباً فيها كتابات في الجدران خطوط، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه إضاعة للمال في غير طاعة وقربة، بل في شيء من البدع، ثم إشغال المصلين بالزخارف والنقوش.

(17/16)

التعاون في بناء المساجد

وكذلك عنون رحمه الله باباً بعنوان: التعاون في بناء المسجد، وساق حديثاً لـ ابن عباس أنه قال لـ عكرمة ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا، فإذا هو في حائطٌ يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنةٍ لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فنفض التراب عنه، وقال: (ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).

التعاون في بناء المساجد سواءً كان مادياً؛ كأن يجتمع مجموعة من الناس وكل إنسان يتبرع بشيء، أو يتعاونون في نفس البناء بمعنى أن كل واحد يتولى شيئاً من الأشياء في البناء، فهذا من التعاون على البر والتقوى، وهذا الذي حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تعاون الصحابة في بناء المسجد ونقلوا الحجارة.

(17/17)

الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد

وقال البخاري رحمه الله: باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى امرأة أن (مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن) أي: المنبر، فاستعان بنجار المرأة لأجل أن تعمل أعواد المنبر ليجلس عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك جاء في حديث طلق بن علي، قال: (بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مساً، وأشدكم له سبكاً) رواه أحمد، وفي لفظٍ له: (فأخذت المسحاة، فخلطت الطين فكأنه أعجبه، فقال: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين) أي: أنه في الصنعة متقن في الطين وفي البناء، ولذلك قال: أنت عليك الخلط، أنت ماهرٌ فيه، وفي رواية: قلت: (يا رسول الله! أأنقل كما ينقلون؟ فقال: لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به) و (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ومهما كان صغيراً، ولو شارك في بناء مسجد بشيء يسير في الموضع الذي بني بماله من المسجد يؤجر عليه في الجنة أيضاً.

(17/18)

هل يأخذ بنصول النبل إذا مرّ بالمسجد؟

ثم ساق رحمه الله: باب: يأخذ بنصول النبل إذا مرَّ بالمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه نبل، فقال: (أمسك بنصالها) وفي رواية: (فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلماً) أي: لا يجرح، هذا إذا كان نصال السهام التي معه مكشوفة -الحد- فأمره أن يأخذ عليها حتى لا يجرح مسلماً وهو مار في المسجد.

(17/19)

حكم إنشاد الشعر في المسجد

وتحت عنوان: باب: الشعر في المسجد، فإن البخاري رحمه الله قد أتى بحديث حسان: (يا حسان! أجب عن رسول صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم له.

إذاً: الأشعار التي يجوز أن تُقال في المسجد هي الأشعار المشتملة على الحق الأشعار التي في نصرة الدين، أما أشعار الجاهلية أشعار السوء أشعار الفحش، فلا يجوز أن تقال في المساجد.

(17/20)

أصحاب الحراب في المسجد

ثم ساق البخاري رحمه الله حديث الحراب لـ عائشة، ولعب الحبشة بالحراب، ونظر عائشة إليهم تحت عنوان: باب: أصحاب الحراب في المسجد، والحبشة لما لعبوا بالحراب لم يكن لعب لهو، ولكنه كان لأجل التدرب على القتال، والتمرن، وهو من تدريب الشجعان على مواقع الحروب، والاستعداد للعدو.

(17/21)

حرمة البيع والشراء ونشدان الضالة في المسجد

ومن أحكام المسجد: أنه لا يجوز البيع والشراء فيه: (من رأيتموه يبيع فيه أو يشتري، فقولوا: لا أربح الله تجارتك).

وكذلك لا يجوز أن تنشد في المسجد الضالة، أو يسأل عن الشخص أو يسأل عن أشياء من وجد ساعةً؟ من وجد محفظتي؟ من وجد بطاقتي؟ فقدت كذا، ويجهر بهذا، أو تعلق إعلانات داخل المسجد، فلا يجوز إنشاد الضالة في المسجد.

(17/22)

من السنة كنس المسجد وتنظيفه

ومن السنة: كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان؛ كما جاء عن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، فماتت، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني بها، دلوني على قبرها، فأتى قبرها فصلى عليها).

إذاً النبي عليه الصلاة والسلام اهتم بهذه الأمة السوداء، ولام الصحابة لماذا لم يخبروه، وأتى إلى القبر وصلى تكريماً لها، هذا المحتسب في تنظيف المسجد.

كذلك من رأى شيئاً في المسجد التقطه؛ عيدان، خرق، قذى، أذى، كنس المسجد، كل هذا يؤجر عليه الإنسان المسلم، واتخاذ الخادم للمسجد -أيضاً- يؤخذ من نفس الحديث، وإذا كان متبرعاً فهذا له أجرٌ عظيمٌ.

(17/23)

ربط الأسير الكافر في المسجد

يجوز ربط الأسير الكافر في المسجد، كما ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة يسمع القرآن يرى الصلوات لعله يتأثر، ويجوز دخول الكفار إلى المسجد لأجل المصلحة، غير المسجد الحرام، لينظروا إلى المصلين إذا كانوا لا يؤذون لا ينجسون لا يوسخون لا يدخلون بمناظر سيئة، ملابس قصيرة، أو نساء متبرجات، أو كاميرات للتصوير، إذا كان يريد أن ينظر، قال: أنا أريد أن أرى مساجدكم، أرى كيف تصلون، لا بأس أن نقول له: تعال، يأتي نظيفاً ويدخل ويجلس -مثلاً- يشاهد الناس كيف يصلون؟!

(17/24)

حكم استعمال غير المسلمين في بناء المساجد

كذلك استعمال الكفار في بناء المساجد، إذا لم يكن هناك مسلمين فإنه يجوز، وإذا وجد مسلمون يقدم المسلمون للبناء؛ لأننا لا نأمن من الكفار.

وكذلك بنى النبي صلى الله عليه وسلم، أو جعل خيمة للمرضى في المسجد، كما أنه جعل سعد بن معاذ فيها، فتمريض المريض في المسجد وجعله في خيمة أيضاً جائزٌ.

(17/25)

النهي عن رفع الأصوات في المسجد

رفع الأصوات في المساجد مما يُنهى عنه، وعمر -رضي الله عنه وأرضاه- لما سمع صوت رجلين ارتفعا، قال: [اذهب فأتني بهذين، فجئت بهما، قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم] فالمسجد لا يرفع فيه الصوت؛ لأجل الحفاظ على العبادة فيه وتهيئته، ويكون مكاناً هادئاً ليس مكان ضوضاء صخب.

بعض الناس يرفعون الأصوات فيه ويتشاجرون، ويحدثون نقاشات مرتفعة وصياح، هذا بيت الله، وإذا كان المسجد النبوي من باب أولى عدم جواز رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من سوء الأدب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].

(17/26)

حكم الاستلقاء في المسجد والنهي عن تشبيك الأصابع

يجوز الاستلقاء في المسجد ومد الرجل إذا أمن انكشاف العورة.

وينهى عن تشبيك الأصابع عند الذهاب إلى المسجد، وعند انتظار الصلاة، ثم إذا أراد أن يمثل مثلاً فشبك بين أصابعه لمصلحة أو لحاجة فلا بأس بذلك.

وهذه المساجد بيوت الله تعالى إذا عرف الإنسان أحكامها وآدابها، أجر أجراً عظيماً؛ لأنه يعطي المسجد حقه، فأما إذا عاش في جهل وعمل في جهل، فإنه ربما اعتدى على حرمات المساجد من حيث يدري ولا يدري.

نكتفي بهذا القدر من الأحكام والله تعالى أعلم.

(17/27)

الأسئلة

(17/28)

حكم أداء التراويح في مسجد والقيام في مسجد آخر

السؤال

لو صلى رجل تراويح في مسجد، ثم صلى القيام في مسجد آخر فما الحكم؟

الجواب

لا بأس بذلك، لكن الصلاة مع إمام المسجد نفسه حتى ينصرف يكتب له قيام ليلة، يصلي جميع الصلاة، ولو كان المسجد له أكثر من إمام يصلي الصلاة مع جميعهم.

(17/29)

حكم تقدم المأموم على الإمام خارج المسجد

السؤال

بعض الناس يتقدمون على الإمام من الخارج فهل يجوز ذلك؟

الجواب

لا يجوز إلا إذا ازدحموا جداً وصار للضرروة.

(17/30)

حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين

السؤال

ما حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين؟

الجواب

إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين جائز، أما قبل ذلك فلا.

(17/31)

مخالفة أصوات الهاتف النقال لآداب المسجد

السؤال

لوحظ في الفترة الأخيرة كثرة أصوات أجهزة النداء الآلي والهاتف الجوال في المساجد فما رأيكم في ذلك؟

الجواب

هذا بطبيعة الحال من عدم الأدب مع المساجد، فعلى الإنسان إذا أراد أن يدخل مسجداً أن يغلق الجرس، لأنه هل سيتكلم بالهاتف في المسجد؟! إذاً ماهي الفائدة يغلق الجرس.

(17/32)

حكم من خرجت منه ريح في المسجد

السؤال

الريح في المسجد إذا خرجت فما الحكم؟

الجواب

يخرج ويتوضأ، وكثيراً ما تخرج ريح من غير تحكم من الشخص.

(17/33)

حكم طواف الوداع في العمرة

السؤال

هل يجب طواف الوداع في العمرة؟

الجواب

قول الجمهور وهو الراجح أنه مستحب وليس بواجب.

(17/34)

حكم خروج المعتكف للاتصال بأهله

السؤال

هل للمعتكف أن يخرج للاتصال بأهله والاطمئنان عليهم؟

الجواب

نعم إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

(17/35)

حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس

السؤال

ما حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس؟

الجواب

يجوز ذلك، لأنه إذا احتلم مثلاً، أو أصابه عرق أو شيء يخرج ليغتسل ويرجع، أما الأكل إذا لم يتيسر أن يحضر معه طعاماً يخرج يأكل ويرجع ويكون خروجه بقدر الحاجة.

(17/36)

حكم إتيان المعتكف زوجته في المنزل

السؤال

ما حكم إتيان الزوجة في المنزل؟

الجواب

يبطل الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].

(17/37)

حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بعمله

السؤال

ما حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بالعمل؟

الجواب

لا.

لأنه ليس لها علاقة بالمسجد بالعبادة، ولذلك على الإنسان أن يحاول قطع كل الأشغال في فترة الاعتكاف، أما الأشياء الطارئة والضرورية التي لا بد منها إذا دعت الحاجة الشرعية إليها فإنه يخرج من أجلها.

(17/38)

حكم رفع الأيدي أثناء دعاء الإمام في القنوت

السؤال

ما حكم رفع المأمومين أيديهم عند دعاء الإمام في القنوت؟

الجواب

في خطبة الجمعة لا ترفع الأيدي، إلا في الاستسقاء.

(17/39)

حكم مسح الوجه بعد الدعاء

السؤال

ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء؟

الجواب

لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

(17/40)

حكم تحية المسجد الحرام

السؤال

إذا دخلت المسجد الحرام، هل أصلي ركعتي المسجد؟

الجواب

نعم، والطواف تحية يغني عن تحية المسجد.

(17/41)

زكاة الفطر لمن ولدت

السؤال

من صامت شيئاً من رمضان ثم وضعت هل عليها زكاة الفطر؟

الجواب

نعم.

(17/42)

حكم لبس البنطلون بالنسبة للمرأة

السؤال

ما حكم لبس المرأة البنطلون؟

الجواب

أفتى بعض العلماء المعاصرين بحرمة ذلك، خصوصاً وأن أكثر البنطلونات الضيقة ما بين السرة والركبة، وليست فضفاضة، ولا واسعة، وأن في بعضها تشبه واضح بالرجال، ولذلك يسد هذا الباب تماماً، أما أن المرأة تلبس لزوجها فتلبس ما شاءت ما دامت ليست متشبهة تلبس ضيقاً تلبس قصيراً تلبس شورتاً، ما دام لزوجها، فإنها لا بأس أن تفعل أي شيء من ذلك.

(17/43)

ضابط دم الحيض

السؤال

امرأة خرج منها دم بسيط لمدة ثلاثة أيام فهل هو دم حيض؟

الجواب

إذا كان الدم في وقت الحيض فهو حيض، أما إذا كان في غير وقت الحيض، لا الكمية مثله، ولا الرائحة، ولا الأوجاع المصاحبة، ولا الوقت، ولا اللون، فإنه ليس بحيض.

(17/44)

حكم تحية المسجد في مصلى العيد

السؤال

مصلى العيد هل له تحية مسجد؟

الجواب

لا، إلا إذا كان مسجداً، إذا صلوا العيد في المساجد، أما إذا صلوا في المصليات الخارجية في الصحراء، فهذا ليس له تحية مسجد على الراجح.

(17/45)

فضل إتيان مسجد قباء وصلاة ركعتين

السؤال

ما فضيلة إتيان مسجد قباء يوم السبت وصلاة ركعتين؟

الجواب

يعادل أجر عمرة.

(17/46)

مصير أولاد الكفار

السؤال

ما مصير أولاد الكفار؟

الجواب

اختلف العلماء فيهم، قال بعضهم: هم في النار، وقال بعضهم: هم في الجنة، وقال بعضهم: هم خدم أهل الجنة، وقال بعضهم: يمتحنون يوم القيامة مثل المجانين وغيرهم، فإذا ثبت حديث: (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) وجب المصير إليه، وإلا نقول: إن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى.

(17/47)

حرمة الانتفاع بالخمر

السؤال

هل للخمر منافع؟

الجواب

نعم.

فيها منافع، وربما أكسبت حرارة في البلدان الباردة، وفي تجارتها منافع مادية، لكن إثمها أكبر من نفعها، فهي حرام، حرام، حرام.

(17/48)

زكاة أسهم الشركات

السؤال

كيف تخرج زكاة أسهم الشركات؟

الجواب

إذا اتخذتها للتجارة ويبيع ويشتري فيها إذا ارتفع سعرها، فالزكاة على الأصل وعلى الأرباح، وإذا كان قد اتخذها ليتعيش من ربحها فقط، وليس ليتاجر بأصلها، فالزكاة على الربح إذا حال عليها الحول.

(17/49)

قصة بني إسرائيل مع البقرة

ما ذكر الله قصص أنبيائه في القرآن إلا عبرة لأولى الألباب، ومن هذه القصص قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل وأمرهم بذبح البقرة، فقد عرضت في القرآن بأسلوب يظهر فيه مدى تلكؤهم وسوء أدبهم مع أنبياء الله، وتعديهم لحدود الله عز وجل، وقد ذكر الشيخ في آخر الدرس مجموعة من الفوائد المتعلقة بهذه القصة، ومن أبرزها أن اليهود قوم بهت مماطلون مخادعون حتى لأنبياء الله عليهم السلام.

(18/1)

فوائد من قصص الأنبياء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

لقد جاءت هذه الآية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في فترةٍ هي من أحرج الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى مواساةٍ وأنس وتثبيت، فجاءت هذه القصص لتثبتهم في غمرة هجوم أهل الباطل الشرس ضد جنود الحق، وكذلك فإن هذه القصص عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

(18/2)

القصص توجد عند أهل الكتاب من حيث العموم

وهذه القصص التي في القرآن يوجد بعضها عند اليهود والنصارى، بل الكثير منها موجود من جهة العموم، يعرفون قصة يوسف من جهة العموم، يعرفون قصة أصحاب الكهف من جهة العموم، لكن التفصيلات التي جاءت في القرآن لا توجد عندهم، بل إنهم قد اختلفوا في أشياء، وجاء القرآن يفصل بينهم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].

فأكثره قد فصل بينهم فيه في هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإننا لسنا بحاجة إليهم: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] لا تستفتِ في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب، فعندك المرجع، وعندك الكفاية.

(18/3)

موقفنا مما عند أهل الكتاب من العلم

ولذلك فإن اللجوء إلى الإسرائيليات في معرفة التفاصيل ليس من الحكمة في شيء، فهذه الإسرائيليات كثيرٌ منها كذبٌ وافتراءٌ على الأنبياء، وفيه ما لا يليق بهم، والقصص عن الماضين غيب فإننا لم نكن معهم، كما قال الله تعالى بعد سياق قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49] وقال في ختام قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، وقال في قصة مريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} [آل عمران:44] فإذاً هذه القصص بالنسبة لنا غيب؛ لأننا لم نشهدها، ولم نسمعها، ولم نعاصرها من قبل، ولذلك لا يجوز أن نأتي على الغيب بشواهد من الإسرائيليات الموجودة عند الكفار في كتبهم من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عنها، وهذه الإسرائيليات الموجودة ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يوافق ما عندنا فهذا نأخذه بطبيعة الحال.

والقسم الثاني: يخالف ما عندنا ويصادمه ويضاده، فهذا نرفضه ونكذب به.

وقسم ثالث: لا يوافق ولا يخالف، فقد يكون فيه تفصيل معين ليس مذكوراً في القصة التي وردت في الكتاب والسنة، كذكر بعض البقرة الذي ضرب به القتيل من بني إسرائيل فحيي، مثل هذا نحن لا نصدق به ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه، وقد يكون باطلاً فنصدقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لنا في رواية أخبارهم -غير المصادمة للشريعة- لكنه قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإنه قد يكون حقاً فتكذبونهم به، وقد يكون باطلاً فتصدقونهم به) ولذلك فهذا موقفنا من الإسرائيليات.

(18/4)

الفائدة من سرد هذه القصص في القرآن

وبالنسبة لهذه القصص فإنها بديعة الطريقة، عجيبة الأسلوب، صادقة الخبر، بتدبرها تظهر السنن الربانية، فإنه في نهاية كل قصة يكون فيه خبر التمكين والنصر للمؤمنين والهلاك والعذاب للمكذبين، كما قال الله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] وهذه القصص ليست مخترعةً، بل إنها واقعة حقاً وحقيقة كما أخبرنا ربنا عز وجل، وينبغي أن يكون موقفنا منها الاعتبار والتفكر كما تقدم.

وما نعجبه أشد العجب: ما الذي أصاب هذه الأمة حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ربها عليها في كتابه، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وحتى إن بعض المرتدين في هذا العصر زعم أن في القرآن خرافات مثل عصا موسى وقصة الكهف، ولا شك أن هذا الكلام كفرٌ وردة وخروج عن ملة الإسلام.

وكذلك فإن هذه القصص فيها نوعٌ من التربية عظيم، فإن التربية بالقصة من ألوان التربية المهمة، فإن الحادث المرتبط بالأسباب والنتائج تهفو لها الأسماع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضي كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، وكذلك نستفيد منها الإيمان بالرسل، فإننا وإن كنا نؤمن بجميعهم على وجه العموم والإجمال، لكن لما تأتي تفاصيل قصة بعض الأنبياء بالدقائق والأحداث فإن ذلك يزيدنا إيماناً بهم على إيمان، وكذلك فإن في هذه القصص تقريراً للإيمان بالله وتوحيده وإخلاص العمل له عز وجل، وكذلك فإن فيها عبرة للمؤمنين يقتدون بها في سائر المقامات، كالعبودية والدعوة والصبر والثبات والطمأنينة والسكون والصدق والإخلاص لله رب العالمين.

ويوجد في كثيرٍ من القصص أحكامٌ فقهية وشرعية يعرفها أهل العلم، كما استدل أهل العلم من قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] على جواز عقد الجعالة والكفالة؛ بابان من أبواب الفقه دليلهما في هذه الكلمات من الآية في قصة يوسف.

وكذلك فإن في هذه القصص التسلية عن المؤمنين فيما يلاقونه من أنواع التكذيب والاتهام الباطل من الكفار، وفيها إبراز أن الأنبياء كلهم جاءوا بشيءٍ واحد وهو التوحيد والإسلام وإن اختلفت شرائعهم.

وكذلك فيها أن الابتلاء لابد أن يحدث للمؤمنين وأن هذه سنة الله فيهم، وأن وظيفة رسل الله البلاغ، وأنهم لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، وقد يوجد لنبيٍ ولدٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي أبٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي زوجة كافرة لا يغني عنها شيئاً.

وكذلك فإننا نستفيد من القصص التي ذكرها ربنا عز وجل مواعظ، الآفة التي وقع فيها كل قوم فنستفيد معرفة عيب قوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فاحشتهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم ثمود في أشرهم وبطرهم، وقوم مدين في تطفيفهم للمكيال وإخسارهم للموازين، وبني إسرائيل في تمردهم وتحايلهم ونكوصهم.

وكذلك فإننا نستفيد من هذه القصص بمقارعة أهل الكتاب الحجة بالحجة والبيان، وكذلك فإننا سنكون شهداء لكل نبي على أمته يوم القيامة.

ومن شروط الشاهد: أن يعلم ما يشهد به، والدليل على هذه الشهادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم.

فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً) كذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

ثم إن في هذه القصص بياناً لبلاغة القرآن الكريم، وهذه الخصيصة العظيمة كيف جاء هذا النسق وهذا الأسلوب البديع في القرآن الكريم وهو ولا شك معجزةٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

فهذه طائفة من فوائد القصة وشيء من التربية في القصة، ولنشرع الآن في ذكر قصة من القصص في هذا القرآن وهي قصة البقرة.

(18/5)

طبيعة اليهود من خلال نظرتهم إلى أوامر الله عز وجل

كنا قد مررنا بهذه القصة في تلاوتنا في سورة البقرة في التراويح، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] الآيات.

(18/6)

خلاصة القصة

وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أي بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانياً، ثم عن عملها ثالثاً، وأخيراً ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل.

وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل لنأخذ منها العبرة والعظة.

وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار، لكننا على الموقف السابق لا نحتاج إلى هذه التفصيلات؛ لأنه لو كان لنا فيها خير وفائدة لذكرها ربنا عز وجل، فنحن لا نستفيد شيئاً إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب منه القتيل من البقرة هو الذَّنب أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا التفصيل لا يفيدنا، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات فإننا في غنية عنه.

هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال.

(18/7)

أسلوب القرآن في عرض القصة

وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكاً، ويهز النفس للاعتبار بها هزاً، وقال الله تعالى فيها: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة في الخلاصة بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثم قال: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة.

فإذاً: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.

(18/8)

تنطعهم في تنفيذ الأوامر

وظاهر الأمر أن نبيهم موسى عليه السلام أمرهم بذبح بقرةٍ غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا فشدد الله عليهم، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أي بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلفاً منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة معينة في هذا لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله تعالى بقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68]، وفي قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أنه قال: [لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم] وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعيناً لجاء، إذ لا يجوز من الله أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فكلفوا في البداية بذبح أية بقرة كانت، وثانياً كلفوا ألا تكون لا فارضٌ ولا بكر، بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما تشددوا في السؤال، شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة.

ولما أمرهم بذبح البقرة قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] يعني: أتجعلنا مكاناً للهزأ والسخرية؟ أتهزأ بنا؟ أتتخذنا سخريةً؟

(18/9)

سوء أدبهم مع نبي الله عليه السلام

بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟ هل هذا خطاب يليق بنبي؟ هل هذا أدب ينبغي للنبي؟ هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فضاضتهم وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] لأن الاستهزاء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟! كيف يجعل في التبليغ مجالاً للسخرية والاستهزاء والمزاح والضحك والعبث؟! لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم، لما قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67].

وفي قول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه إذا اتهم بشيءٍ باطل، وهذا الهزأ في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهلٌ وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم به أن أكون من الجاهلين الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجهالة، ودافع موسى عليه السلام عن نفسه، وقال: ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزأ بالناس.

وكان موسى عليه السلام حكيماً لما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] لم يقل: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة؛ لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم وتباطؤهم وتمردهم، ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] بيَّن لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة.

ربما قالوا له: إنما أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي أن نذبح بقرة، لكنه قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] وقوله: (بقرة) هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، اذبحوا أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، لا يهم لونها ولا حجمها ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قومٌ بهت، لم ينقادوا للأمر ولم ينفذوه فوراً، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك؟ فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم وينفذوا أمره، تواقحوا عليه وأساءوا الأدب واعترضوا قائلين: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] وكأنهم يقولون: عجيب! ما هي الصلة بين ذبح البقرة وبين كشف هوية القاتل؟ نحن جئناك في حل قضيتنا نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل؟! وهذا طلبٌ مريبٌ يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزواً.

(18/10)

خطورة الاستهزاء والمزاح في الأمور الدينية

أولاً: هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوعاً من الهزأ والسخرية، وثانياً: يظنون أنه بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية لمعرفة القتيل، وثالثاً: يظنون أن موسى الجاد عليه السلام الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنون أنه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.

وفيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل.

وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسانٌ جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسمونها نكتاً في قضايا عقدية أو شرعية، وأن هذا أمرٌ خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما ينسب بعضهم الجنة والنار ويعملون (نكت) وطرائف على بعض أحكام الشريعة.

وكذلك نعلم أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحكٍ دائم فيما يسمونه (بالكوميديا) اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلاماً ويكون هم الشخص هو الضحك واللعب، يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين.

وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم، قد يمزح ولكنه لا يقول إلا حقاً، وقد يضحك ولكن بأدبٍ ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحكٍ كلها ومزاحٍ وعدم الجدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.

(18/11)

تجرؤهم بقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)

قالوا له بعد ذلك لما قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:67 - 68] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].

وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لما نزل قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.

لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: (إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.

ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.

قال لهم نبيهم: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟

الجواب

لا.

(18/12)

فائدة أصولية في باب الأمر

وفي قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] دليلٌ لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه.

وكذلك من هذه الآية يستدل أيضاً على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي: الأمر على الفور لا على التراخي، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فوراً، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فوراً: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فإذاً الأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لكن هل هم نفذوا على الفور؟

الجواب

لا.

(18/13)

مواصلة العناد وزيادة التشديد عليهم

قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائماً اللجاجة تقود إلى سؤالٍ جديد، فالذي لا يريد الحق دائماً يخرج لك أسئلة جديدة، والذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة.

كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهاماً من وجهٍ آخر، ويقولون: إننا لا نعرف ما لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ما لونها؟ {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69].

فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيقٍ أشد، فأمرهم بذبح بقرةٍ صفراء فاقع لونها مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادر، لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع -هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين- ولا شك أن هذا من التضييق عليهم.

قال لهم: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانٍ، وأخضر ناظر، فالمقصود في قوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] يعني: شديدة الصفرة، نقية ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة إلا صفراء، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] يعجب الناظرون إليها، حتى إن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة في الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: تترك الملابس الصفراء والحمراء إلخ، فيعتبرونه من الألوان السارة (تسر الناظرين) حتى إن بعضهم ربما كان يلبس الأصفر من النعال، ويقول: اتركوا لبس النعال السود لأنها تغم، فاللون الأسود قد يدل على الغم، ولكن الأصفر يدل على السرور، فهو لونٌ جميل محببٌ إلى النفوس.

ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة سواء كان حيواناً، أو فاكهةً، أو طعاماً، أو لباساً، أو أثاثاً، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطاً حمراء؛ لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله وسموها (فنون جميلة) وصار الواحد ينفق في الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة والفن الإسلامي، قاتلهم الله! أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة.

الشريعة لا تحرم أن تستمع وأن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار وألوانها، وتتأمل فيما خلق الله، وأن تسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات والنحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فأشغلوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.

نعود إلى قصتنا: لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟

الجواب

لا.

بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة والتلكؤ والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.

(18/14)

ما يستفاد من العِبر في التلكؤ وسؤالهم عن عمل البقرة

قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون، الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة؟ ماذا تعمل؟ تحرث تزرع تسقي تعمل؟ ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤالاً ثالثاً وكأنهم استثقلوا الثالث أبدوا عذراً فقالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] كرروا السؤال عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله يقول: اذهب إلى القوم الفلانين فاقطع أشجارهم وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أم بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤالٍ آخر: بأي نوعٍ من الشجر أبدأ؟ وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاةً سألتني أضأنٌ أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكرٌ أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيءٍ فلا تراجعني.

فهؤلاء قالوا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] ما عمل هذه البقرة؟ وضح لنا وظيفة هذه البقرة؟ لقد تشابه الأمر واختلط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.

وهذا فيه فائدة كبيرة وهي: أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب للتشديد والتعقيد، مثال: الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية ترى أنه يأتي لك بأشياء شديدة، اغسل النجاسة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول: وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط، والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.

إذاً هذه القضية وهي قضية الحيرة والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد والبحث عما لا يلزم شرعاً، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب وحيرة وهم وغم؛ بسبب تشديده على نفسه.

فلما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة، يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟ ولذلك: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب، قالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] يعني: بعد البيان الثالث (الآن جئت بالحق) كأنهم يقولون: الذي قبل هذا لم يكن حقاً، الآن هذا حق، وكأنه موسى عليه السلام كان يتكلم بالباطل.

وحاشاه.

قال لهم في الصفة الثالثة: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أما قوله: (إنها بقرة لا ذلول) الذلول: من الدواب بينة الذل التي ذللها الذين يستخدمونها، (تثير الأرض) يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست ذلولاً تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع ويحمل عليها الماء ويستقى بها الماء، وإنما هي (مسلَّمة) يعني: خالية ومسلَّمة من العيوب، مسلَّمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع لا للعمل والكد، (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) وإنما هي (مسلَّمة لا شية فيها) يعني: لا عيب، ولا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف ولم يبق متسع لمزيدٍ من التساؤلات، العمر واللون والعمل، فماذا بقي؟

(18/15)

التباطؤ في التنفيذ طبيعة اليهود والمنافقين

كان الأمر يسيراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه، وفي النهاية فذبحوها، لكن بعد ماذا؟ (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم وجعل الأمر شاقاً عليهم، وكذلك شق عليهم في اللحوم وما يؤكل منها والشحوم، وحرَّم عليهم أشياء، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ.

إن نفس المؤمن فيها شوقٌ ولهفة وهمة وحيوية للتنفيذ؛ لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل ويتباطأ ويتحايل ويتهرب، فإذا فشلت المحاولات نفذ مضطراً مكرهاً مرغماً {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية وسرور نفس ومسارعة، واستسلام، لا اعتراض ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود هذا هو، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].

ولكن إذا رأى الإنسان أنه يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرةً، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم فإذا أجابوه اعترض بسؤالٍ آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم، ويجد له مخرجاً من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل.

(18/16)

المبادرة للتنفيذ هي المقصود من أمرهم بالذبح

ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، فالله عز وجل أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] يعني: طاحت بعد نحرها: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36 - 37].

ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] لو لم يستعملوا المشيئة كانوا ما ذبحوها أبداً كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة، فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].

(18/17)

ذبح البقرة وما كان بعدها

بعدما انتهت قضية شروط البقرة وذبح البقرة أعلمنا الله لماذا أمروا بذبحها، وهذا تشويق في القصة، وجذب الانتباه، أنه أتى بالسبب ثم أتى بالقضية الأصلية: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] هذا أول القصة، حصل أولاً القتل للشخص ثم تنازع فيه الناس، فأراد الله أن يكشف الحقيقة، فأمرهم بذبح البقرة؛ ليضربوه ببعضها فيحيا القتيل فيخبر عن قاتله، ومعنى قوله تعالى: (فادارأتم فيها) يعني: تدافعتم خصام واتهام، كل واحد يدرأ عن نفسه التهمة ويلقيها على الآخر، يدعي براءة نفسه ويتهم غيره، والله تعالى يريد فضح سر القاتل والعارفين به، ولذلك قال: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] لأنكم تريدون التغطية على القاتل والإيقاع بقومٍ أبرياء تتهمونهم بالقتل لإخفاء القاتل الحقيقي والله لا يخفى عليه مكركم، {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72].

الجواب

=6000079> فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] (اضربوه ببعضها) قلنا: إنه ورد في الإسرائيليات ذكرٌ لهذا البعض الذي أمروا أن يضربوه به، لكن ماذا يفيدنا لو عرفنا؟ وماذا يضرنا لو لم نعرف؟ لا يضرنا شيء، ولذلك ما ذكره الله لنا، ولو كان فيه منفعة لنا لذكره لنا ربنا، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله، فكان في ضربه حكمة بالغة في تقديم دليل واضح على بعث الله للناس بعد الموت، وأن الله قد بعث لكم أحد الأموات، فهو قادر على أن يبعث الأموات كلهم إذا ماتوا، {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73].

فإذاً الكلام فيه حذفٌ وتقدير، (فقلنا اضربوه ببعضها) فأحياه الله (كذلك يحيى الله الموتى) مثلما أحيا هذا الشخص، (ويريكم آياته) علاماته الدالة على كمال قدرته.

فإن قال قائل: لِمَ لم تقص القصة على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل أولاً، والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ لكن لا شك أن في تقديم هذا وتأخير ذلك بلاغة واضحة في شد الانتباه والتشويق كما ذكرنا، وأنه أراد أن يظهر تباطؤ اليهود وتلكؤهم وتقاعسهم ويقرعهم على هذا الاستهزاء وترك المسارعة للامتثال، وأن هذه القضية أخطر من قضية التدارؤ في قتل هذا الشخص؛ لأن المبدأ يعني عدم تنفيذ الأوامر، هذه خطيرة، فكأنه قدم القصة المتعلقة بها على القصة المتعلقة بإحياء القتيل؛ لأن هذه المشكلة أكبر وينبغي بيانها وإيضاحها، وربما يكون تقديمها من هذه الجهة أحسن وأبلغ، وكأنه ذكر لنا قصتان: قصة التلكؤ وقصة القتيل، بينما لو ذكرت بالعكس لكانت قصة واحدة، فهو سبحانه وتعالى وصل لنا القصة الأولى بالثانية في قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] لما وحد الضمير، لكن لما ذكر ذلك أولاً ثم هذه ثانياً، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة:72] وذكرها بعد: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] صارت كأنها قصتان، كل قصة لها مغزى، أبلغ من أن تكون قصة واحدة.

وعلى أية حال في القرآن أسرارٌ كثيرة قد تخفى، ويعلم كثيراً منها أهل العلم.

(18/18)

مجموعة من الفوائد في الآيات

وفي قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] دليل على منع الاستهزاء بالدين كما تقدم.

(18/19)

جواز بيع السلم

وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] تكلم العلماء في هذه الآية على قضية بيع السلم، وأنه يجوز بيع الحيوان سلماً إذا ضبطت صفاته كما ضبطت في هذه الآية؛ لأن العلماء قد اختلفوا في حكم بيع السلم في الحيوان، فادعى بعضهم أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبطه، وهم الحنفية، وذهب الشافعي رحمه الله ومالك والأوزاعي والليث وغيرهم إلى جواز بيع السلم في الحيوان واستدلوا بالآية، فما هو بيع السلم؟ معلوم أنه في القاعدة الأصولية: لا يجوز بيع ما لا تملك، شيء لا تملكه لا يجوز لك أن تبيعه، لكن الحاجة تدعو أحياناً إلى أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فأباحت الشريعة بيع السلم، يجوز أن تبيع شيئاً ليس عندك إذا كان يمكن ضبطه، وذكرت الصفات الضابطة له وقدم الثمن في مجلس العقد إلى آخر شروط بيع السلم.

فمثلاً: يجوز أن تقول لشخص أشتري منك ثمراً هذه صفته، ولم يكن قد ظهر الثمر، أولم يُزْرَع أشتري منك قمحاً على رأس الحول هذه صفته، وهذا وزنه وهذا ضبطه ونحو ذلك، وتقدم الثمن كاملاً يجوز بيع السلم في هذه الحالة، تقول لشخص مثلاً يسافر إلى أمريكا يأتي بسيارة، تقول: أشتري منك سيارة هذه صفتها كذا وكذا، وتقدم له الثمن كله في مجلس العقد، ثم يأتي لك بالسيارة على الصفات، ومن شروط بيع السلم تحديد مدة التسليم، على أية حال الآن موضوعنا ليس بيع السلم، لكن استدلوا بهذه الآية على جواز السلم في الحيوان.

(18/20)

حرمة الاستهزاء بالأنبياء

وهذه القصة فيها فوائد كثيرة ذكرنا بعضها سابقاً ومنها: إظهار العجرفة وسوء الأخلاق في بني إسرائيل يتجنبها المسلمون، وحرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب المبادرة إلى تنفيذ أمره ونهيه، والندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهية التشديد بالأمور، وفائدة الاستثناء، وإنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما نفذوا أصلاً، وتحاشي الكلمات التي قد يفهم منها الاستهزاء بالأنبياء، وهناك جدل قائم الآن على فيلم قد صور ومثل فيه لمزٌ ليوسف عليه السلام، هذا الذي يثار فيه الجدل في هذه الأيام، الأفلام التي فيها تمثيل أدوار الأنبياء، ليس هناك شك أنها سخرية بالأنبياء، يظهر لك ممثل فاسق فاجر يمثل دوراً فيه الحب والغرام والعشق المحرم في تمثيلية وفيلم ثم يمثل دور نبي، ثم لو أتيت بأتقى الناس الآن هل يرقى أن يكون في مستوى نبي حتى يمثل دوره.

فلا شك أن تمثيل أدوار الأنبياء مما يقلل من شأنهم ويظهرهم بمظهر غير المظهر الذي أظهره الله تعالى في كتابه، فلذلك حرام تمثيل أدوار الأنبياء، وهم يحاولون المناورة والمداورة وأنه لم نقصد، ولم ولكن التفاصيل التي قدموها أنهم قصدوا ذلك، وهذا من محاربة الأعداء لنا في تاريخنا، هم حاربونا في أشياء كثيرة ومنها محاربتهم لنا في تاريخنا.

(18/21)

بيان كيف يحيي الله الموتى

وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: بيان كيف يحيى الله الموتى بدليلٍ عجيب وآيةٍ باهرة ومعجزة ربانية: إنسان ميت لا روح فيه ولا حراك، وبقرة عجماء بكماء، ذبحتم أنتم البقرة وتحولت إلى جسدٍ أيضاً لا روح فيه ولا حراك، وأخذتم أنتم جزءاً ميتاً من أجزاء البقرة الميتة وضربتم به جسد الإنسان الميت، وفوجئتم بالمفاجأة المدهشة كيف دبت الحياة في هذا الإنسان الميت من تلك الضربة، وتحرك حركة الأحياء وتكلم كلام الأحياء.

فذبح البقرة إذاً كان فيه فوائد منها: الكشف عن القاتل الحقيقي، وتعريف اليهود عليه، وإقامة الدليل العملي على قدرة الله على إحياء الموتى، وتقديم آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، وتعريفنا على طبيعة اليهود من خلال نظرتهم لأوامر الله وتحذير المؤمنين من أخلاقهم.

لكن قصة البقرة وإحياء الميت بهذه الطريقة العجيبة هل كان ذلك مرققاً لقلوب بني إسرائيل؟

الجواب

كلا.

فإن الله أعقب ذلك مباشرة بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] مع أنهم من المتوقع أنهم لما رأوا هذه الآية الباهرة، وهذه المعجزة الربانية أن تلين قلوبهم، لكنها قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد؛ لأن من الحجارة ما يتشقق ويتحدر ويتفطر من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].

وفيه كذلك: جرم القاتل وخطورة إخفاء الحقائق، وكيف أنهم تدافعوا وحاولوا اتهام الأبرياء.

وكذلك: أن اللجاجة وكثرة الأسئلة فيما لا داعي له أمرٌ ممقوت، وأهمية الانشغال فيما ينفع والبحث عما يجدي وترك ما لا ينفع.

(18/22)

وجوب تقديم الأصول على الفروع

ثم نأتي إلى درسٍ آخر وهو: قضية عدم الانشغال بالهامشيات والثانويات والشكليات والفرعيات على حساب الأصول والأساسيات، يعني لا تقدم هذه على هذه.

ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا ألبتة ترك الجزئيات التي جاءت بها الشريعة كتحريك الإصبع في التشهد مثلاً، بزعم أن هذه جزئية وسنة وأمر شكلي وجانبي، تقول: لا.

حاشا وكلا معاذ الله، وإنما سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) ولكن أن يشتغل الإنسان بالفرعيات ويترك الأصول هذا هو المذموم، كذلك بعضهم قد يشتغل بدقائق الفقه وهو لم يؤسس أسس العقيدة في نفسه، يأخذ المسائل المفرعة الجزئية وهو لم يضبط أصولها.

(18/23)

اليهود قوم بهت مماطلون

وأخيراً: فإننا نختم فوائد هذه القصة بفائدة تتعلق بعصرنا الذي نعيش فيه، فإن المداورة والمماطلة التي كشفتها لنا قصة البقرة في طبيعة اليهود، تدل على أن طبيعة هؤلاء القوم لا يملون ولا يضجرون ولا يسأمون من المفاوضات؛ لأنهم يتقنون فن التهرب والتملص والتحايل، بل ويتمتعون أثناء ذلك بنفس طويل وأعصاب باردة، وهم على استعداد لتضييع الجهود والأوقات في هذه الشكليات والفرعيات، وأن يوجدوا لأنفسهم مداخل، ويمكن أن يعمدوا إلى قضية شكلية هامشية يمضون فيها أوقاتاً طويلة تستغرق شهوراً وسنوات على حساب الطرف المظلوم، وعندهم فنٌ في عدم حل المشاكل وإبقائها معلقة، وتأخير الحل، وعندهم حرصٌ على عدم إظهار الحق وعدم الخروج بنتيجة وإبقاء القضية في غموض وضباب، وأن يبقوا خصومهم في ضياع وفراغ، وهم قضوا أكثر من عشرين سنة في جدال، هل ينسحبون من الأراضي المحتلة، عاشوا أكثر من عشرين سنة وهم ما حلوا القضية.

وكذلك فإنهم على استعداد بأن يجعلوا المفاوضات وهيئات التحكيم الدولية والخبراء والمحامين ينشغلون في قضية طويلة، وما شغلهم بقضية طابا التي لا تتجاوز مساحتها ملعب كرة قدم، جعلوا ذلك خصاماً إلى أكثر من عشر سنوات، وبقية المسائل في تعقيدات ومماطالات، وقصة البقرة تكشف لنا طبيعة هؤلاء جيداً.

ولذلك فلا يجوز لمسلم أن يغتر بهم، ولا يظن لحظة واحدة أنهم يحرصون على خيرٍ لنا، أو أنهم يريدون أن يحلوا مشكلة، فإن الله سبحانه وتعالى قد فضحهم في كتابه، وبين لنا طبيعتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا شرورهم ومكرهم وأن ينصرنا عليهم، ويخلص المسلمين من شرهم.

والحمد لله رب العالمين.

(18/24)

الأسئلة

(18/25)

تأجير العين المستأجرة وشروط ذلك

السؤال

هل يجوز تأجير المستأجَر؟

الجواب

يجوز إذا كان العقد لا زال ساري المفعول، إذا استأجرت شيئاً يجوز أن تؤجره إذا كان العقد ساري المفعول، وإذا لم يكن عليك شرط؛ لأنه قد يشترط في العقد ألا تؤجر الشيء الذي استأجرته، ثم من الشروط أنه لا يجوز لك أن تؤجره على من يستخدمه أكثر من استخدامك، فمثلاً: لو أجرت شقة على سكن عائلي، لا يجوز لك أن تؤجرها على عشرين عاملاً؛ لأنه معروف أنهم سيستعملونها أكثر من استعمالك، ولو استأجرته سكناً لا يجوز أن تؤجره ورشة.

فإذاً: من شروط تأجير الشيء المستأجر أن تؤجره على من يستخدمه مثل استخدامك أو أقل.

(18/26)

الشعور بالغثيان أثناء الصلاة

السؤال

يأتيني دوار في الرأس أثناء التراويح هل عليَّ خروج أم لا، مع العلم بأني أصلي التراويح كاملة؟

الجواب

إذا أصيب الإنسان بغشيان وغشي عليه -الغشي أقل من الإغماء- لا يجب عليه الوضوء، والإغماء يجب منه الوضوء، لذلك جاء في حديث أسماء في صلاة الكسوف: فغشي عليها وقامت ولم تتوضأ.

لكن لو أغمي عليه وجب عليه الوضوء، على أية حال إذا شعر بدوار لا بأس أن يخرج من الصلاة ويستريح أو يصلي قاعداً.

(18/27)

الرد على من يفسرون القرآن بأهوائهم

السؤال

ما موقفنا نحن المتبعين نهج السلف ممن يحللون القرآن تحليلاً إحصائياً من حيث عدد آياته وحروفه وكلماته وغير ذلك من التحليلات الإحصائية، ومن أقوالهم أن حذف البسملة من سورة براءة أتى لإتمام النسق الإحصائي العددي للقرآن؟

الجواب

في بحث مهم للرد على الدكتور محمد رشاد خليفة نشر في مجلة البحوث الذي تصدرها رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في العدد التاسع على ما أظن، فيه رد من العلماء على هذا الرجل.

فقد ادعى هذا الرجل أن هناك إعجازاً عددياً في القرآن وأن الإعجاز يدور على رقم (19) وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تسعة عشر حرفاً وشرع يحلل ويستنبط ويستخدم الكمبيوتر، فتاه عن التفسير، وذهب في متاهات لا أول لها ولا آخر.

وهذا كلام غير صحيح، فلا يوجد تسعة عشر ولا تسعة وعشرون ولا تسعون، والمسألة كلها خيالات وأوهام، والصحابة كتبوا القرآن ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبين لهم هل سورة البراءة وسورة الأنفال سورة واحدة أم سورتان؟ فلذلك لم يكتبوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا القضية هي إتمام النسق الإحصائي العددي، فالعرب أبلغ الأمم، نزل عليهم القرآن، فما حكوا من بلاغة الأعداد هذه شيئاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين في مزايا رقم (19) شيئاً، ولو كانت القضية بكل هذا الحجم لبينه صلى الله عليه وسلم، فإذاً هذه كلها أوهام وبناء في الهواء.

أيضاً من الذين أشاروا إلى قضايا الأخطار ما يسمى بالإعجاز العلمي كتاب: اتجاهات التفسير في القرن الثالث عشر، والمدرسة العقلية في التفسير للأستاذ فهد الرومي فهما كتابان جديران بالقراءة في هذا الموضوع، فنحن الآن نعيش في عصر طغت فيه الموجة العقلانية، فيريدون أن يحكموا عقولهم بعيداً عن العلم والعلماء في قضايا القرآن وإخضاع الآيات والتحليلات الكمبيوترية والمخبرية ونحو ذلك ليصلوا إلى ليِّ الأعناق من أجل أن توافق النظريات الموجودة عند الغربيين، وهذا طبعاً من آثار الهزيمة النفسية، فإذا وجد إعجاز ظاهر فالحمد لله، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] لو تأمل جلده وشعره، لو تأمل ما في نفسه، إن الأطباء إذا درسوا التشريح رأوا آيات باهرة، والمعارك التي تدور بين الكريات البيضاء وما يدخل في الجسم من الأشياء الغريبة والجراثيم أو الميكروبات، أشياء عجيبة فعلاً، تسبح الله عندما تراها، لكن أن تقول: الآية تفسيرها كذا، مخالفٌ لتفسير السلف، فهذا ضلالٌ مبين، إن الله قال: تدبروا في الكون وسبحوا الله على ما ترون، ترون عظمته في خلقه، ما قال: فسروا الآيات على المخترعات الحديثة.

(18/28)

حكم صيام من أكل بعد أذان الفجر

السؤال

استيقظت أنا وزملائي أمس في رمضان والمؤذن يقيم صلاة الفجر فأكلنا قليلاً من التمر، فما حكم صومنا بالأمس؟

الجواب

إذا كنتم أكلتم وهو يقيم الصلاة، معنى ذلك أنكم أكلتم بعد الفجر، فمعنى ذلك أن صومكم باطل وأنكم أذنبتم ذنباً عظيماً، فإن ظاهر السؤال يفيد أنكم تسمعون الإقامة، ولذلك فهذا الصيام لا بد من إعادته مع التوبة إلى الله توبة عظيمة؛ لأنه أكل عامداً متعمداً في نهار رمضان.

(18/29)

هجر القرآن

السؤال

هل هاجر القرآن الذي لا يقرؤه كل شهر؟

الجواب

لا يكون هاجراً هجراً مذموماً، وهذه مسألة يتفاوت فيها الناس بحسب ظروفهم وانشغالاتهم، وجاء في الحديث: (اقرأ القرآن في كل شهر) وجاء في أربعين يوماً، لا شك أن الأربعين أكثر من شهر، فإذاً لو قرأه في شهر لا بأس، في أربعين لا بأس، والأفضل هو طريقة الصحابة وأن تكون قراءته في أسبوع.

(18/30)

وقت إفطار الصائم

السؤال

المساجد التي حول البيت بينها فرق دقيقتين بين أولهم وآخرهم، فعلى أيهما أفطر؟

الجواب

على المتوسط، ما دام أن هناك واحد ساعته تقدم وواحد ساعته تؤخر، إذاً خذ الوسط، على أية حال العبرة بغروب الشمس واختفاء القرص، إذا لم تعرف فعند ذلك تأخذ بمتوسط المؤذنين، وإذا علمت أن هذا المؤذن ضابطٌ للوقت حافظٌ له فإنك تفطر على أذانه.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(18/31)

ج2. سورة القصص دراسة تحليلية الدكتور محمد مطني

سورة القصص.. دراسة تحليلة الدكتور محمد مطني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله والشكر له وهو الشكور الحميد، منزل الَقُرْآن هدى ورحمة، {مِنْهُ ءايَاتٌ مُحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَبِ} ((1)) .
والصلاة والسلام والبركات على سيدنا ورسولنا ونبينا وحبيبنا أبي القاسم مُحَمَّد بن عَبْد الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وتابعيه ووارثيه، القائل: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) ((2)) .
فصَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ وَسَلَّمَ عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
أما بعد:
فقصتي مع هذه الأطروحة غريبة كلّ الغرابة، فقد كان من المقدر ـ والله المقدر ـ أن يكون كاتب هذه الأطروحة شخصاً سواي وبمنهج غير هذا المنهج وبطريقة غير هذه الطريقة.
فشاءت مشيئة الله أن يتوفى هذا الشخص رَحِمَه الله بالحرق قبل الشروع بها فعزمت على تحقيق رغبته بدراسة هذا الموضوع وباقتراح من الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح عطية الذي أراد أن أحقق رغبة أخي الشيخ جاسم مُحَمَّد سلطان ـ رَحِمَه الله ـ الذي وافاه الأجل قبل أن يحقق ما أراد.
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.
(2) صحيح البُخاري. مُحَمَّد بن إسماعيل أبو عَبْد الله البخاري الجعفي. (194 ـ 256) . تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير , اليمامة. بيروت. ط3. 1407هـ - 1987 م: 4 /1919 رقم (4739) . من حديث عثمان ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ.

(1/1)


فاقترح علي المشرف الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح عطية أن تقسم السّورة على مقاطع موضوعية يحلل كلّ منها على حدة، وقد وجهت باختيار منهجية علمية أكاديمية في تحليل كلّ مقطع وفق النظام الآتي:
تحليل الألفاظ على وفق المصطلح المعجمي.
إبراز المناسبة بين الآيات في المقطع وما قبلها وما بعدها.
تخريج القراءات الَقُرْآنيّة ومواردها في كلّ مقطع.
ذكر القضايا البلاغية.
المعنى العام للمقطع.
ما يستفاد من المقطع.
وقد سرت على طريقتين في كتابتي هذه الأطروحة:
الطريقة الأولى:
الاعتماد على المصادر والمراجع في استعراض الآراء في تفسير وتأويل المقطع دون إبداء رأي شخصي في التأويل والتحليل، لأن مورد النصّ لا يحتمل في بعض الأحيان الزيادة على آراء السابقين ـ رَحِمَهم الله ـ ولو بكلمة، لتكاملها، فكان عملي الوحيد فيها هو العرض مع الترجيح بين هذه الآراء.
الطريقة الثانية:
أن أبرز الرأي في تأويل بعض المواضع والمواضيع التي تحتمل إبداء الرأي ولا سيما في المواضيع الصورية ـ البيانية ـ الأسلوبية غير المقطعية، وكان في ذلك مجال واسع لإبراز الرأي الجديد مع ربطه بما ذهب إليه القدماء.
وقد استشرفت في بحثي الأطر الخاصة والعامة، والذي تمثل في مواضع مثلتها جملة من المفاهيم نحو (التربية والسلوك، والزمن، والتوحيد، والشخصية والهوية، والإيمان والكفر) .
ولقد حاولت هنا أن أدرس ارتباط الماضي بالحاضر في القراءة التأويلية لسُوْرَة الْقَصَصِ بمقارنة فرعون ودولته بالولايات المتحدة الأمريكية على ما يراه القارئ في الفصل الثامن من هذه الأطروحة.

(1/2)


إن هذا العمل في حد ذاته كان عملاً مبتكراً في بابه، ذلك أن إبداء الرأي ـ بصورة غير منهجية ـ في بعض مواضع الَقُرْآن الكَرِيم من الأمور المنهي عنها في الحديث الشريف، ولكني قمت بذلك تبعاً لمنهج أهل السنة والجماعة، وهكذا فلم أتعرض لتأويل آيات الصفات في سُوْرَة الْقَصَصِ، ولكني أولت آيات تتعلق بهذا العصر في مواضعها لمسيس الحاجة إليها، لإيقاظ عقول الشباب وقلوبهم من الغفلة والوهن إلى الاندفاع والعزيمة في مبشرات سُوْرَة الْقَصَصِ، تبعاً للقراءة الجهادية لسُوْرَة الْقَصَصِ.
وقد كانت لي استفادة في قراءتي التحليلية لسُوْرَة الْقَصَصِ من جمهرة كبيرة من المصادر والمراجع القديمة والحديثة بطبعاتها القديمة والحديثة ـ مع صعوبة الحصول عليها في ظل الظروف الحالية ـ وقد كان لي من شبكة المعلومات العالمية (الانترنيت) معيناً في الحصول على بعض التوجيهات المعلوماتية وبعض الآراء الحديثة.
إن البحث في الدراسة التحليلية لكل سورة على حدة أمر مهم، لأن هذا التحليل يظهر وجوه الإعجاز الَقُرْآني في كال نواحيه المتطورة. وكان هذا الأمر من بين الأسباب التي دفعتني لاختيار سُوْرَة الْقَصَصِ لما تحمله من مبشرات بزوال دول الكفر والطغيان، وذلك بما بشر به رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قبل الهجرة المباركة من أن النصر آت، وربطها بين حال رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وبين حال موسى (- عليه السلام -) ، وبين قوة قريش ومالها ونفوذها، وبين قوة فرعون وهامان وقارون ومالهم ونفوذهم، وما آلت إليه قوى هؤلاء جميعاً إلى الزوال والهلاك.
وكان من منهجي في البحث فضلاً عما أبرزته فيما سبق هو ربط الماضي بالحاضر، وهو ما جاء متماشياً مع الخطوط العامة للسورة، ويعقبها التحليل الذي شمل المباحث والمطالب.

(1/3)


وأدى هذا إلى جعل مهمة الباحث تنتقل بين نقل تفسيرات الأقدمين وتأويلاتهم وإبراز الفهم الحديث للتفسير والتأويل حسب ما يقدح في ذهن الباحث في أثناء الدراسة الموضوعية دون الخروج عن مذاهب القدماء في ابتعادهم عن التفسير بالرأي.
وقد كانت أهم المصادر والمراجع التي اعتمدتها، جمهرة من كتب التفاسير والمعجمات والتأويلات الجزئية لبعض آيات سُوْرَة الْقَصَصِ، وكتب القراءات والبلاغة والإعراب، والكتب التي تحدث عن انتصار الإسلام، والكتب التي تقارن فرعون ذلك العصر بفرعون هذا العصر، الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ما يراه القارئ في فهرست المصادر والمراجع الملحق بآخر الرسالة.
وقد قمت بتحليل بعض المواضع التي يستنبط منها أحكام الفقه، والتي سبقني إليها القدماء، مع أن سُوْرَة الْقَصَصِ لا تتضمن الأحكام الفقهية المباشرة، بل ما استنبطه منها الفقهاء والأصوليون من أحكام من قصة زواج موسى (- عليه السلام -) .
إن أهمية الكتابة في سُوْرَة الْقَصَصِ تبرز في خمسة محاور:
تحليل آراء القدماء في السّورة نفسها.
إظهار بعض أوجه الإعجاز الَقُرْآني التي لا تحصى عدداً.
إبراز النصر الإلهي الممتد من زمن موسى ومُحَمَّد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ إلى قيام الساعة.
بيان أن الحاكمية لله جَلَّ جَلاُله.
فهم الماضي وصولاً لفهم الحاضر والمستقبل. وسُوْرَة الْقَصَصِ حافلة بالحقائق التاريخية، وتتوافق أحداثها مع ما أثبته العلم الحديث.
وقد سارت الأطروحة في أصلها تبعاً لمنهجية حسبت أنها الأفضل في التحليل العام لسُوْرَة الْقَصَصِ، فكانت خطتي في الأطروحة هي:
الفصل الأول التمهيدي وضمنته ستة مباحث.
أما الفصل الثاني فقد أسميته وقفات بين يدي السّورة، وقسمته على مبحثين.
وقد خصصت الفصل الثالث لدراسة الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمت هذا الفصل على مبحثين أيضاً.

(1/4)


وفي الفصل الرابع. ناقشت نشأة سيدنا موسى (- عليه السلام -) والظروف المحيطة به. واقتضت مستلزمات البحث أن أقسم هذا الفصل على مبحثين.
وخصصت الفصل الخامس لمناقشة موضوع هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين. وكان هذا الفصل من مبحثين.
وفي الفصل السادس تناولت عودة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مصر واشتمل على مبحثين.
وقد تناولت في الفصل السابع، الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ودعوته في سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمته على ثلاثة مباحث.
وقد قارنت في الفصل الثامن بين هيمنة فرعون وأمريكا وسقوط وانتصار الإسلام من خلال سُوْرَة الْقَصَصِ في دلالاتها السياسية الحديثة. وقد توزع هذا الفصل على تمهيد ومبحثين.
وختمت هذا كله بخاتمة أوجزت فيها ما استطعت التوصل إليه من نتائج.
لقد أدى المنهج الجديد الذي اعتمدت عليه في بحثي إلى صعوبات وصعوبات قد لا يتسع المجال لذكرها، غير أن أبرزها هو ما واجهني في مواضع لم أجد القدماء قد بحثوا فيها بما يلائم منهج البحث، ولا سيما ما يوافق حال المجتمعات الإسلامية اليوم.
وأياً ما كان فهذا هو جهدي الذي بذلت ما وسعني الجهد والاجتهاد والبحث والدرس، فإن أصبت فبفضل الله جَلَّ جَلاَله هو أهل الفضل، وإن كان غير ذلك فمني، ولا أملك هنا إلا أن أقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ((1)) .
وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

الباحث
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 286.

(1/5)


الفصل الأول: التمهيدي
المبحث الأول: دراسة عامة عن السّورة
المطلب الأول: اسمها
" ثبت أن جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار " ((1)) . والمعروف أن تسمية السور القرآنية على ما يبدو من أسمائها، كتسمية السورة بكلمة أو باشتقاق كلمة واردة فيها، وأن اختلاف المصاحف في تسمية بعض السور ناشئ عن تعدد الروايات الواردة في ذلك ((2)) .
" ومن عادة العرب قديماً أن تراعي في كثير من المسميات أخذ أسمائها من شيء نادر أو مستغرب، يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه، ويسمون القصيدة بأشهر ما ورد فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور القرآن، لأن الَقُرْآن الكَرِيم جاء على سنن العرب في كلامها وخطابها ((3)) .
وسورة القصص سميت بذلك لاشتمالها على كلمة (القصص) في قوله تعالى: {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((4)) ، أي: وقص موسى على شعيب ((5)) .
وهي السّورة الوحيدة التي انفردت بذكر موسى (- عليه السلام -) وسبب هجرته من مصر إلى مدين، وهو المذكور بعد تفصيله بقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((6)) .
__________
(1) الإتقان في عُلُوْم القُرْآن. السيوطي. ت 911 هـ. الطبعة الثالثة. شركة مَكْتَبَة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. مصر. 1951 م: 1/52.
(2) ينظر المصاحف. أبو بكر عَبْد الله بن أَبِي داود السجستاني. ت 316 هـ. نشره: د. آرثر جفري. مطبعة الرحمانية. مصر. 1936 م: ص 182 - 183.
(3) الإتقان: 1/ 55.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(5) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. مجد اليدن مُحَمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي المتوفى سنة 817 هـ. تحقيق: مُحَمَّد علي النجار. مطابع شركة الإعلانات الشرقية. القاهرة. 1383هـ ـ 1963 م: 1/353.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.

(1/6)


فهي قصص موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ وهو في مصر مع المصريين، وليس قصصه مع فرعون وقومه، ولعل هذا القصص الخاص هنا هو الوجه في تسمية السّورة باسم (القصص) ((1)) .
وقيل: " سميت بدلالة قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} ((2)) الدال على نجاة من هرب من مكان الأعداء إلى مكان الأنبياء، اعتباراً بقصصهم الدالة على نجاة الهاربين، وهلاك الباقين بمكان الأعداء، من الهلاك " ((3)) .
وتسمى أيضاً سورة (طسم) على ما ورد في بعض الروايات ((4)) وتسمى أيضاً سورة موسى ((5)) ، وهو رأي شاذ.
وأسماء السور توقيفية على ما ورد في صَحِيْح البُخَارِي ((6)) ، وبذلك تكون هذه السورة إنما سميت بدلالة لفظة عامة فيها خصصتها بالتسمية، وهو الصواب من الأقوال.

المطلب الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي للقصص
__________
(1) إلى الَقُرْآن الكَرِيم. محمود شلتوت. دار الهلال. (د. ت) : ص111.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 52.
(3) محاسن التَّأؤيِل. المُسَمَّى (تَفْسِير القَاسِمي) . تَأَلِيْف مُحَمَّد جَمَال الدِّيْن القَاسِمي. ت 1914م. تصحيح وتعليق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. 1995 م: 13/4695.
(4) مرويات الإمام أحمد بن حنبل في التفسير. جمع وتخريج أحمد أحمد البزرا، ومُحَمَّد بن برزق بن الطرهوني، وحكمت بشير ياسين. الطبعة الأولى. مكتبة المؤيد. السعودية. 1414 هـ ـ 1994 م.: 3 /329.
(5) الفتوحات الإلهية بتوضيح تَفْسِير الجلالين للدقائق الخفية. للعَلاَّمَة الشيخ سليمان بن عمر العجيلي الشافعي المشهور بالجمل. المتوفى سنة 1204 هـ. مطبعة الاستقامة. القاهرة. (د. ت) : 3 /333.
(6) 4/ 1788 كتاب التفسير. باب تفسير سورة القصص. 

 القصة لغة: " من القص، فعل القاصِ إذا قصَّ القِصَصَ، والقصة معروفة ويقال: في رأسه قصة، يعني الجملة من الكلام، مثل قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، أي: بينت لك أحسن التبيان ... ويقال:
قصصت الشيء، إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ((2)) ، أي: اتبعي أثره، وقد يأتي القصُّ والقصصُ والقصَصُ الصدر من كل شيء، وقيل: هو وسطه " ((3)) .
والقصة الخبر، وهو القَصص، وقصَّ عليَّ خبره يقُصه قصاً وقصصاً، والقصص الخبر المقصوص، وضِع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقِصص بكسر القاف جمع القصة التي تكتب، وتقصص الخبر تتبعه، والقِصة الأمر والحديث، واقتصصت الحديث رويته على وجه، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها، ويقال: خرج فلان قصصاً في أثر فلان وقصاً، وذلك إذا اقتصَّ أثره ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(3) أساس البلاغة. جار الله محمود بن عمر الزَّمَخْشِرِي أبو القَاسِم. ت 538 هـ. تحقيق: عَبْد الرحيم محمود. مطبعة أورفاند بالقاهرة. ط1. 1953 م: ص 770 – 771. لسان العرب. جَمَال الدِّيْن مُحَمَّد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري أبو الفضل. ت 711 هـ. الطبعة الأولى. دار صادر. بيروت. لبنان. 1968 م: مَادة (قصص) 7 /73 –75.
(4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7/74.

  وقيل: إنه المصدر، وقيل: إنه مفعول به، وعلى القول الأول يكون المعنى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، أي: نحن نقصُّ عليك أحسن الاقتصاص كما يقال: نحن نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان. وعلى القول الثاني يكون المعنى، نحن نقصُّ عليك أحسن ما يقصُّ، أي: أحسن الأخبار المقصوصات، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ((2)) ، ويدل على هذا وأنه هو المراد قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((3)) .
أي: المراد خبرهم، ونبأهم وحديثهم، وليس المراد مجرد المصدر فالقولان متلازمان في المعنى، ولهذا يجوز أن تكون كلمة (القصص) قد جمعت بين معنى المصدر ومعنى المفعول به، لأن فيه كلا المعنيين، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به، فإنه إذا انتصب بهذا المعنى وامتنع المعنى
الآخر ((4)) .
والذي يبدو أن دلالة (قص) بمعنى القطع هي الدالة على اقتطاع القصة من الكلام.
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 122.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(4) ينظر الكشاف عَنْ حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأؤيِل. أبو القَاسِم جار الله محمود بن عمر الزمخشري. ت 538 هـ. ط2. دار الكِتَاب العربي. بيروت. لبنان. (د. ت.) : 2 /300. مجموع فتاوى أحمد بن تيميه. ت 728 هـ. جمع وترتيب: عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن قَاسِم العاصمي النَّجْدِي الحَنْبَلِي وساعده ابنه مُحَمَّد. مطبعة الحكومة بمَكّة المُكَّرمة 1386 هـ: 17 /22.

  وللقصة تعاريف كثيرة لدى العلماء، ومنها ما ذكره الرازي بأنها:
" مجموع الكلام المشتمل على ما يهدى إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة " ((1)) .
فالقرآن الكريم أطلق لفظ القصص على ما حدث من أخبار القرون الأولى في مجالات الرسالات السماوية، وما كان يقع في محيطها من صراع بين قوى الحق والضلال وبين مواكب النور وجحافل الظلام ((2)) .
وقيل: " هي كشف عن آثار وتنقيب عن أحداث نسيها الناس أو غفلوا
عنها، وغاية ما يراد لهذا الكشف هو إعادة عرضها من جديد لتذكير الناس بها، ليكون لهم منها عبرة وموعظة " ((3)) .
والذي يبدو أن التعريف الاصطلاحي للقصص يعني أحاديث الأخبار الماضية، أو غير المرتبطة بزمن محدد. ولكنها في الَقُرْآن الكَرِيم دالة على التاريخ الماضي حصراً.

المطلب الثالث ترتيب سورة القصص في المصحف وعدد آياتها وكلماتها وحروفها
قيل: " إن الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك " ((4)) .
أما ترتيب السور أهو توقيفي أم باجتهاد الصحابة؟ ففيه أقوال:
__________
(1) مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير. وبتفسير الرَّازِي. فَخْر الدِّيْن مُحَمَّد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الشافعي الرَّازِي أبو عَبْد الله. ت 606 هـ. المطبعة البهية المصرية بميدان الأزهر. مصر. ط3. (د. ت.) : 8/ 83 -84.
(2) ينظر القصص الَقُرْآني في منظومه ومفهومه. عبد الكريم الخطيب. بيروت، لبنان. (د. ت) .: ص40.
(3) المصدر نفسه: ص 48.
(4) الإتقان في علوم القرآن: 1/60.

  فجمهور العلماء أنه حصل ترتيب سوره باجتهاد من الصحابة الكرام، منهم الإمام مالك، واستدل أصحاب هذا الرأي باختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، وهو مصحف علي (- رضي الله عنه -) حيث كان أوله: أقرأ، ثُمَّ المدثر … ثُمَّ النساء، ثُمَّ البقرة ثُمَّ آل عمران. ومنهم من رتبها ترتيباً أخراً كمصحفي أبيّ بن كعب، وعَبْد الله بن مسعود.
وهناك من قال إن ترتيب السور في القرآن توقيفي كترتيب الآيات ((1)) .
إن ترتيب سورة القصص بين سور القرآن هو أنها السورة الثمانة والعشرون، وعدد آياتها ثمانية وثمانون آية، ولا يماثلها في عدد آياتها إلا سورة
(ص) ، وعدد حروفها خمسة آلاف وثمانمائة حرف ((2)) ، وعدد كلماتها ألف وأربعمائة وكلمة واحد ((3)) .
وقد ذكر ابن الجوزي أعداداً أخرى مقاربة لا تخرج عما أوردناه هاهنا ((4)) .

المطلب الرابع فضلها
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن: 1/61-62.
(2) ينظر لباب التَّأويِل في معاني التنزيل (المُسَمَّى: تَفْسِير الخازن) . علاء الدِّيْن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن إبراهيم البغدادي الصوفي المعروف بالخازن. ت 725 هـ. الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 1955 م: 3/423.
(3) بصائر ذوي التمييز: 1/353.
(4) فنون الأفنان في عجائب عُلُوْم القُرْآن. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن بن عَلِيّ بن الجوزي. ت 597 هـ. تحقيق: د. رشيد عَبْد الرَّحْمَن العبيدي. مطبعة المَجْمَع العلمي العراقي. 1988م: ص117-118. 

 ذكر الطبرسي في مجمع البيان رواية عن أبي بن كعب (- رضي الله عنه -) عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة، أنه كان صادقاً أن كل شيء هالك إلا وجهه)) ((1)) والحديث الآخر: ((يا علي من قرأ طسم القصص أعطاه الله مثل ثواب يعقوب وله بكل آية مدينة عند الله)) ((2)) ، ومعظم الأحاديث في فضل سورة القصص من الموضوعات كما صرح بذلك الإمام عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه ((3)) .
__________
(1) مَجْمَع البَيَان في تَفْسِير القُرْآن المعروف بتفسير الطَّبَرْسِي. الفَضْل بن الحَسَن بن الفضل الطَّبَرْسِي الطُّوْسي السَّبْزَواري أبو عَلِيّ. ت 548 هـ. تصحيح وتعليق: هاشم الرسولي وفضل الله الطباطبائي اليَزْدِي. شركة المعارف الإسلامية. إِيْرَان. ط1. 1379 هـ: 7/338، بصائر ذوي التمييز: 1/358.
والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث. وقد أورده الطرابلسي ت 1177 هـ، في الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع. تحقيق د. مُحَمَّد محمود أحمد بكاء. الطبعة الأولى. مكتبة الطالب الجامعي. الريان. مكة المكرمة. 1408 هـ: 1 /986.
(2) ينظر الكشاف، 3/194. والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث، وقد ضعفه الحافظ ابن حجر في تخريجه لأحاديث الكشاف.
(3) الموضوعات. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن عثمان بن عَلِيّ بن الجوزي القرشي. ت 510 هـ. تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد عثمان. الطبعة الأولى. المكتبة السلفية. المدينة المنورة. 1966 م: 2/232-234.

  والذي يبدو أن لكل سورة في الَقُرْآن الكَرِيم فضل خاص بها، وإن كانت جميع سور الَقُرْآن الكَرِيم لها فضيلة، ولكن وردت أحاديث في فضائل سور وآيات مخصوصات كالإخلاص، والكرسي، ولم أقف على حديث صحيح في فضل سُوْرَة الْقَصَصِ.

المطلب الخامس: سورة القصص أمكية هي أم مدنية؟
سُوْرَة الْقَصَصِ مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء، وقال مقاتل: فيها من المدني قوله تعالى: {الَّذِينَ ءاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ مِنْ قَبْلِهِ} إلى قوله تعالى: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين} ((1)) ، وذكر السيوطي أنها نزلت هي وأواخر الحديد في أصحاب النجاشي ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: من الآيات 52 - 55.
ومقاتل ممن لا يحتج بقوله في التفسير، فقد كذبوه وهجروه ورموه بالتجسيم.
ينظر: تقريب التهذيب. أبو الفضل أَحْمَد بِن عَلِيّ بِن حَجَر العَسْقلاني الشافعي. (773 ـ 852 هـ) . تحقيق: مُحَمَّد عوامة. الطبعة الأولى. دار الرشيد. دمشق. سوريا. 1406 هـ ـ 1986 م: ص 454.
(2) ينظر الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 / 16.

(1/13)


وقال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ وقتادة: مكية إلا آية نزلت بين مكة والمدينة ((1)) ، وقال ابن سلام: نزلت بالجحفة ((2)) في وقت هجرة النبي (- صلى الله عليه وسلم -) إلى المدينة، وهي قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد} ((3)) .
__________
(1) ينظر الكَشَّاف: 3/ 164. زاد المسير في علم التفسير. جَمَال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن بن عَلِيّ بن مُحَمَّد التَّيْمِي البِكْري القُرَشي البَغْدادي الحَنْبَلِي. المعروف بابن الجَوْزِي أبو الفَرَج. ت 597 هـ. المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. بيروت. ط3. 1404 هـ ـ 1990 م: 6/200. مَفَاتِيح الغَيْب: 23/ 224. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن (المعروف بتفسير القرطبي) أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن أحمد القرطبي. ت 671 هـ. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد عَبْد العليم البردوني. مركز تحقيق التراث. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1978 م: 6/ 4962. البَحْر المُحِيْط. أثِيْر الدِّيْن مُحَمَّد بن يوسُف بن عَلِيّ بن يوسُف بن حَيَّان الأَْندَلُسيِ أبو عَبْد الله. الشهير بابن حَيَّان وبأَبي حَيَّان. ت 754 هـ. مطبعة السعادة. مصر. 1329 هـ: 7 /104.
(2) الجحفة: موضع بين مكة والمدينة. معجم البلدان شهاب الدِّيْن ياقوت بن عَبْد الله الحموي الرومي البغدادي أبو عَبْد الله. ت 626 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) : 3 /114.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

(1/14)


إن سياق النص في سورة القصص الشريفة يدل على مكيتها وكونها ذات صبغة مكية من خلال الضوابط التي وضعها العلماء للتميز بين المكي والمدني، ولما اشتملت عليه من ذكر القصص بإسهاب، ومن الدلائل على توحيد الله عزل وجل بأسلوب الجملة الطويلة، وخلوها من الجملة القصيرة. وتكرار ذكر الله عَزَّ وجَلَّ، واليوم الآخر فيها، وذلك من ضوابط السور المكية.

المطلب السادس: الأغراض العامة لسورة القصص ومقاصدها
قبل التحدث عن غرض السورة، ينبغي أن نبين الظروف التي نزلت فيها، لأن معرفتنا لذلك تفتح لنا الباب الواسع أمام معرفة أغراض السورة وأهدافها التي من أجلها أنزلت.
كما هو معلوم أن السورة مكية نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، وقد لاقى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وأصحابه (- رضي الله عنهم -) ألواناً من العذاب، فقد مات تحت العذاب من مات، وسلم من سلم، في حين نجد تجمع المال والقوة العددية في يد المشركين، والمسلمون لا يملكون سوى قلوباً عامرة بالإيمان، يصارعون بها كل جبروت قريش ((1)) ، فنرى تشابهاً واضحاً بين الظروف التي أحاطت بالمسلمين، مع الظروف التي مر بها سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع قومه، حيث تسلط جبروت فرعون والأقباط على سيدنا موسى (- عليه السلام -) ـ وبني اسرائيل يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، فجاءت هذه السورة بأغراض مهمة، يمكن أن نعد منها:
__________
(1) ينظر السيرة النبوية: عَبْد الملك بن هشام بن أيوب الحِمْيَري المَعَافِري البَصْري أبو مُحَمَّد ت 213 هـ تقديم وتعليق: طه عَبْد الرَّؤُوْف سَعَد. دار الجيل. بيروت. 1411 هـ: 2 /254.

(1/15)


أولاً: تسلية الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) وأصحابه الكرام وشد أزرهم، ليعلموا أن النصر حليفهم مهما طالت ساعة إعلانه وكذلك لتبين لهم حقيقة مهمة وهي ان كل اصحاب الرسالات السماوية السابقة لم يكن طريق الدعوة الى الله أمامهم معبداً ممهداً، بل جاهدوا وقاتلوا وقَتلوا وعُذبوا حتىأتى نصرالله، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيْبٌ} ((1)) .
وربما يسأل سائل: لماذا هذا العذاب الذي يلقاه الأنبياء وأتباعهم؟ والجواب عن ذلك أن الأنسان بطبيعته مكلف بالعبادة لله، فهو مقرون بهذه التكلفة فلا عبودية بدون تكليف، والتكليف يستلزم تحمل المشاق ففي كلّ الدعوات إلى الله هناك تكليف وهناك تحمل مشاق لحكم ثلاث، هي:
1- لاثبات صفة العبودية لله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} ((2)) .?
2- لإثبات صفة التكليف المتفرعة من صفة العبودية فما من مؤمن يبلغ سن الرشد إلا وهو مكلف من الله عَزَّ وجَلَّ بتحقيق شرعه وعليه أن يتحمل في سبيل ذلك كثيراً من المشاق والأذى ((3))
3- لإظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 214.
(2) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 56.
(3) ينظر فقه السيرة. مُحَمَّد سعيد رمضان البوطي. ط7. مَكْتَبَة الشرق الجديد. بغداد (د. ت) : ص85-86.
(4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 3.

(1/16)


ثانيا - نزلت هذه السورة لتضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، ولتبين أن هناك قوة واحدة مؤثرة في الكون ألا وهي قوة الله وحده وأن هناك قيمة واحدة في الكون هي قيمة الإيمان. وجاءت السورة لتقرر حقيقة مهمة ثابتة على مرّ العصور أن النصر لا يأتي بالضرورة مع الكثرة والقوة وأن النصر يأتي بأمر الله وحده فهو الناصر الذي ينصر عباده، فمن كانت معه قوة الله فلا خوف عليه ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع قوى الكون ((1)) . ومن كتب الله عليه العذاب لا تنفعه كل استحكامات العالم. ففرعون لما أخبره الكهنة بان قتله سيكون على يد طفل من بني إسرائيل ((2)) ، أستخدم نفوذه وجبروته وسلطانه في قتل الأطفال من بني إسرائيل ووضع الأعين من نساء مصر لكي يخبرنه عن أي مولود لم يصل إليه خبره ولكن يقظته وحذره وسلطانه وعيونه لم تمكنه من إزالة الخطر عن نفسه ولم تدفع عنه خطر الطفل الصغير المجرد من كل قوة إلا من قوة الله عز وجل فهي القوة الحقيقية في الكون فكان هذا الطفل الذي تربى في حجر فرعون سبباً في إنهاء جبروت فرعون وسلطانه.
__________
(1) ينظر في ظلال الَقُرْآن. سيد قطب. الطبعة الثانية. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1971 م: 6 /317.
(2) تفسير القرآن العظيم. الإِمَام الحَافِظ عماد الدِّيْن أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. ت 774 هـ. ط1. دار مَكْتَبَة الهلال. بيروت. لبنان. 1986 م: 2 /225.

(1/17)


ثالثاً - بعد أن بين الله جل وعلا نهاية طغيان الملك والقوة أمام قوة الله تنتقل الآيات لتبين حقيقة أخرى وغرض آخر وهو نهاية طغيان الكفر، ثُمَّ نهاية طغيان المال وذلك من خلال قصة قارون مع قومه وكان قارون من قوم موسى قال تعالى: {إِنَّ قَرُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِم} ((1)) فخرج على قومه بهيئة المتبختر وهو يحسب انه أوتي هذا المال والعلم عن ذكاء ودهاء فانقسم قومه على فريقين فريق فتن فيه وتمنوا مكانه:
... {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَرُون} ((2)) .
... وفريق آخر هم عباد الله الصالحين لم يهتزوا بهذه المظاهر الزائفة {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} ((3)) .
... وهنا تتدخل قوة الله فتخسف به وبداره الارض فلا يغني عنه ماله وعلمه من الله شيئاً. وقصة قارون مرتبطة كلّ الارتباط بنهاية فرعون وطغيانه، فالقصتان تعبران عن استمرار الانذار الإلهي.
رابعاً - كذلك تعزز السورةغرضاً آخراً، وهو التاكيد على أن الدنيا زائفة فانية، وأن الدار الباقية هي دار القرار (الجنة) جعلها الله للذين لا يريدون علواً في الارض ولا فساداً، وأن العاقبة للمتقين.
خامساً - في ختام السورة هناك وعدٌُ وبشارة للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) وصحبه الكرام بنصر الله والرجوع الى مكة فاتحاً منتصراً لنشر دعوة الاسلام الى أرجاء المعمورة وإمتلاك زمام الامور في الجزيرة العربية وانتقال مركز القوى من يد الشر الى الخير والى الابد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 80.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

(1/18)


. من كل ما سبق يمكن أن نستفيد دروساً وعبراً تفيدنا في تجاوز حالة الضعف والهوان التي يمر بها المسلمون اليوم.
... واليوم نرى تخاذل كثير حكام المسلمين اليوم أمام أعداء الاسلام اليهود والامريكان منبهرين بما تمتلكه أمريكا من قوه عسكرية وإقتصادية فأشاعوا وهولوا هذه القوة حتى أصبح بعض هؤلاء الحكام أبواق دعاية لهذه القوة الغاشمة. فلو كان النصر لا يأتي الأ مع القوة والمال لاستسلم سيدنا محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وصحبه الكرام وهم قلة أمام قوة قريش المادية والعددية ولاستسلم موسى (- عليه السلام -) من قبل وبني أسرائيل أمام جبروت فرعون وقوة الاقباط فقد كانت بأيديهم خزائن مصر، نعم إن المال والقوة من أسباب النصر، ولكن الناصر هو الله، فلو وعى المسلمون اليوم هذه الحقيقة جيداً لما وقفت أمام دعوتهم كل قوى الشر، لأنهم أصحاب دعوة سامية ورسالة الهية إن هم تمسكوا بها وقد جاء ذلك واضحاً في نهاية سورة القصص: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) .
فقد حكم الله جل وعلا بأنه لا سلطان إلا سلطان الله وكل قوة هالكة الأّ قوة الله. ولادلالة (إليه ترجعون) واضحة فيما نذهب إليه من رجوع النصر إلى هذه الأمة.

المطلب السابع: التناسب والتناسق بين سورة القصص وما قبلها وما بعدها.
لا ريب أن فهم العلاقة التناسبية والروابط المتناسقة بين كل سورة قرآنية وما قبلها وما بعدها مما يعين على فهم أدق لجوهر السورة نفسها إذا ما أخذنا بالرأي الراجح القائل إن الصحابة لم يضعوا سورة معينة في موضع إلا بإشارة من
رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . والرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لم يضعها إلا بوحي إلهي.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

(1/19)


ولذا نجد أن هناك وشائج بين أواخر سورة النمل وأوائل سورة القصص بحديثهما معاً عن تلاوة القرآن، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} (1) ، و {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ*نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْن} ((2)) ، وحديثهما عن منة الله تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّه} ((3)) ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ((4)) ، وأما قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ((5)) ، فقد تناسب مع قوله تعالى: في سُوْرَة الْقَصَصِ {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ((6)) .
__________
(1) سورة النمل: الآية 92.
(2) سورة القصص: الآية 2-3.
(3) سورة النمل: الآية 93.
(4) سورة القصص: الآية5.
(5) سورة النمل: الآية 93.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

(1/20)


إذ تناسب الكلام عن عدم غفلة الله تعالى وحاشاه عن افعال العباد، وعن علو فرعون في الأرض ثم تناسب أيضاً قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ((1)) مع أوائل السورة في ايراد الاحرف المقطعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى {طسم} ((2)) ، وليس بينهما الا فاصل البسملة فكل هذا يرجح الرأي الذي نذهب اليه من ان القرآن الكريم قطعة واحدة، في السبك والصياغة والبلاغة، ولعل هذا أحد أوجه إعجاز القرآن الكريم التي طالما نبه عليها المفسرون والمتكلمون واللغويون، فاذا ما جئنا الى اخر سورة القصص وأوائل سورة العنكبوت نجد تشابهاً جد عظيم، وتناسقاً كبيراً، وتناسباً في المعنى والمبنى والمضمون والسبك والصياغة فكان أوائل سورة العنكبوت إمتداد لآواخر سورة القصص فنجد أن هنالك حديثاً عن العودة الى الله تعالى كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((3)) ، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ((4)) ، وكلام عن الفتنة {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} ((5)) ، وذلك مرتبط بقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ((6)) . فالحديث هو هو لا زال متسقاً مترابطأً متماسك الصيغة.
__________
(1) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 93.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 1.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 5.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(6) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 3.

(1/21)


ونجد كلاماً عن الايمان الالهي في قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ((1)) ، وذلك مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) . فإن وجه المناسبة بينهما في عدم دعوة إلهاً آخر مع جزاء الإيمان والعمل الصالح.
ونجد كلاماً مهماً عن الدعوة الى الله تعالى {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((3)) يتناسب مع قوله تعالى في أوائل سورة العنكبوت {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ((4)) ، وبذلك كله يستقيم لنا ترابط سورة القصص وتناسقها وتناسبها مع آواخر ما قبلها (النمل) ومع أوائل ما بعدها
(العنكبوت) ، وذلك بعض أوجه الاعجاز القرآني، لأنه مما يرد على أولئك القائلين باضطراب النصّ الَقُرْآنيّ في انتقال الخطاب ((5)) ، فسُوْرَة الْقَصَصِ في تناسبها أوجدت تناسباً ووحدة في الموضوع في أوائلها وأواخرها.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(2) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 7.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 6.
(5) الَقُرْآن والكتاب. الأب الحداد. الطبعة الثانية. (د. ن.) . بيروت، لبنان. 1986 م: 135- 137.

(1/22)


المطلب الثامن: التناسب بين بداية السورة وخاتمتها
مذهب العرب في نظم الكلام أن يوازنوا كلّ الموازنة بين مطلعه ونهايته، لأجل أن يستقيم الكلام ولا يخرج أوله عن آخره، ولا آخره عن أوله، وهذا المذهب البلاغي تنبه له قدماء البلاغيين كالجاحظ ((1)) ، وأبي هلال العسكري ((2)) ، وقدامة بن جعفر ((3)) ، وابن المعتز ((4)) ، وابن الأثير ((5)) .
وقد جاء الَقُرْآن الكَرِيم على سنن العرب في كلامها في فنونه البديعة، وأفانينه البلاغية البيانية، وكان من ذلك أن يستقيم المعنى في أول السورة وآخرها بحيث يأخذ أولها برقبة آخرها لأجل أن يظهر الإعجاز القرآني ((6)) .
__________
(1) ينظر البَيَان والتبيين. أَبِي عثمان عمرو بن بحر. ت 255 هـ. تحقيق: المحامي فوزي عطوي. دار صعب. بيروت. ط1. 1968م: 1 /20.
(2) ينظر كتاب الصناعتين: النظم والشعر، العسكري، أبو هلال الحسن ابن عبد الله بن سهل ت 395 هـ، تحقيق: مُحَمَّد علي البجاوي ورفيقه، الطبعة الأولى، مطبعة الأستانة، 1952م: ص 149.
(3) ينظر نقد الشعر. أسامة بن منقذ. تحقيق: مُحَمَّد زغلول سلام. الطبعة الثانية. بيروت، لبنان. مصورة عن طبعة مصر. 1975 م: ص 29.
(4) ينظر نقد الشعر: ص 38.
(5) ينظر المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. ضياء الدِّيْن نصر الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَرِيْم الموصلي أبو الفتح. ت 637 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. المكتبة العصرية. بيروت. ط1. 1995 م: 2 /104.
(6) ينظر الإعجاز القُرْآن. مُحَمَّد بن الطيب بن مُحَمَّد بن جعفر بن القَاسِم الباقلاني أبو بكر. ت 403 هـ. تحقيق: السيد أحمد صقر. دار المعارف. القاهرة. (د. ت) : ص 196.

(1/23)


وقد فصل بعض ذلك البقاعي في كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) ((1)) ، والسيوطي في كتابه (تناسق الدرر في تناسب السور) ((2)) . ونجد في سُوْرَة الْقَصَصِ ـ التي نقوم هنا بتحليلها ـ أنها جاءت على هذه السنة في الأسلوب العرضي لمادتها الداخلية، ويتضح ذلك أكثر ما يتضح باستعراض مبادئ هذه العلاقة المترابطة بين فاتحة السورة وخاتمتها، وتشمل هذه المبادئ المتشابهة:
ذكر الآيات الإلهية مثل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ} ((3)) ، وقوله:
{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} ((4)) .
المقابلة بين الإيمان والكفر، كما في قوله: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((5)) ، وقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَبُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((6)) .
__________
(1) ينظر مثلاً: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. الإِمَام برهان الدِّيْن أَبِي الحَسَن إبراهيم بن عمر البقاعي. ت 885 هـ. خرج الآيات وأحدثه ووضع حواشيه: عَبْد الرَّزَّاق غالب المهدي. الطبعة الأولى دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1995 م: 1/ 126.
(2) ينظر مثلاً: تناسق الدرر في تناسب السور. جلال الدِّيْن السيوطي. ت 911 هـ. ط2. تحقيق: عَبْد الله مُحَمَّد الدرويش. دار عالم الكتب. بيروت. لبنان. 1408 هـ – 1987 م: 1 /216.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

(1/24)


ذكر عاقبة العلو، كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الاَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} (1) ، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((2))
بيان الوراثة الإيمانية، كما في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((3)) ، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((4)) .
كون كلّ طغيان يعقبه هلاك كلّ شيء يطغى به، كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((5)) ، وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

(1/25)


المقابلة بين عودة موسى (- عليه السلام -) إلى أمه، وعودة رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إلى مكة كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) وقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ((2)) . فموسى (- عليه السلام -) عاد إلى أمه، ورسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عاد إلى أم القرى، وهو معنى استنبطناه من السياق.
فهذه المبادئ المتشابهة في حد ذاتها بين فواتح السورة وخواتيمها تدل على ما ذهبنا إليه، فسنرى مثلاً أن العلاقة بين قوله تعالى: {تِلْكَ آيَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ} (3) في إشارتها إلى الَقُرْآن الكَرِيم، وما أنزل على الرسل من قبل ـ عَلَيْهم السَّلام ـ تماثل العلاقة مع قوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} ((4)) ، كونها إشارة إلى آيات الله تعَاَلىَ التي أنزلت على رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) .
ثم أن هنا علاقة وثيقة بين قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((5)) وبين قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((6)) لأن المفسدين مقابل لفظي للمشركين، والعلاقة بينهما علاقة تضاد الإفساد بالشرك، وهي علاقة مترابطة ترابط الإفساد والشرك.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.

(1/26)


ونجد أن قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} ((1)) موافق تمام الموافقة لقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَبُ إِلاَّ رَحْمَةً} ((2)) ، لأن التلاوة الإلهية متعلقة بما ألقي على رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من الكتاب المتلو رحمة.
ونجد أن قوله تعالى: {بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((3)) موافق في دلالته المتناسقة مضمونياً مع قوله تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) ، لأن من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون برجوعهم لله سبحانه وتعالى، وهذا اتساق في المعنى.
نجد كذلك أن الآية: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((5)) مطابقة في تناسبها المضموني مع الآية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((6)) في كون الآيتين تتحدثان عن الوراثة الإلهية والعودة النبوية، فكما ورث بنو إسرائيل ما تركه آل فرعون، ورث المؤمنون من أصحاب مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) أرضاً لم تورث إلا لهم، وهذا من الاتفاقات الإلهية التي انفردت سورة القصص بإظهارها في أبان العصر المكي.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

(1/27)


ونحن نجد أن قوله تعالى في فاتحة سُوْرَة الْقَصَصِ: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} ((1)) متعلقة في كون الإمامة هاهنا إمامة دعوية، أي: أئمة يدعون إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما عبرت عنه الآية القرآنية في خاتمتها {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((2)) ، لأن الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هم أئمة الهدى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فصفات الدعاة إلى الله تعَاَلىَ بينت في سُوْرَة الْقَصَصِ، في أولها وفي آخرها.
ونجد أن صفات المؤمنين في أولها كانت:
الإيمان {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((3)) .
الوراثة {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((4)) .
التمكين في الأرض {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((5)) .
ثم نجد في خاتمة السورة أن صفات المؤمنين هي:
الإيمان {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((6))
الوراثة {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((7)) .
التمكين في الأرض {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((8)) .
__________
(1) سورة القصص: الآية5.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

(1/28)


وبهذا يتضح هذا التناسق بين أول السورة وآخرها، ثُمَّ أننا نجد أمراً أخراً هو إظهار عاقبة الطغاة والمتكبرين والمفسدين في الأرض، لقوله تعالى: {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((1)) ، ويقابله في آخر السّورة قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} ((2)) ، لأن {وَجُنُودَهُمَا} متقابلة كلّ التقابل مع {فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} أي: الجنود الذين كانوا يحرسون قارون، وهذا اتساق بياني في المعنى المتوافق.
وبهذا يكون أول السّورة مترابطاً كلّ الترابط مع آخرها، ومتناسباً معه بما يجعل من داخل السورة وحدة متكاملة في مبناها ومعناها، وهو بعض أوجه الإعجاز الَقُرْآنيّ.

* * *
المبحث الثاني: الحروف المقطعة في الَقُرْآن الكَرِيم وسُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: أقوال العلماء في معاني الحروف المقطعة
معاني الحروف المقطعة في القرآن وإعرابها:
إن الحروف المقطعة على اختلاف الأقوال فيها، من الافتتاحيات الرائعة التي يصدر بها الكلام. وقد " قال أهل البيان من البلاغة حسن الابتداء، وهو أن يتأنق في أول الكلام لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محرراً أقبل السامع ووعاه وإلاّ أعرض عنه، ولو كان الباقي في نهاية الحسن، فينبغي أن يؤتى فيه بأعذب لفظ وأجزله، وأرقه وأسلسه، وأحسنه نظماً وسبكاً، وأوضحه معنى وأوضحه، وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير الملبس، أو الذي لا يناسب. وقد أتت جميع فواتح السور على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك من الابتداء الحسن " ((3)) وما يعنينا هنا هو الحروف المقطعة، وحسن ابتداء الكلام بها.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(3) الإتقان في علوم القرآن: 2/106.

(1/29)


إن في القران الكريم تسعاً وعشرين سورة تبدأ بحروف الهجاء المقطعة منها ما يبدأ بحرف واحد وهي ثلاث سور هي (ص0ق0ن) ومنها عشر سور مفتتحه بحرفين وهي سورة (غافر. فصلت. الشورى. الزخرف. الدخان. الجاثية. الأحقاف. طه. النمل. يس) ، ومنها ما يبدأ بثلاثة أحرف، وهي: (البقرة. آل عمران. العنكبوت. الروم. لقمان. السجدة. يونس. يوسف. إبراهيم الحجر. الشعراء. القصص) .
ومن السور ما يفتتح بأربعة أحرف هما (الأعراف، والرعد) ومنها ما يفتح بخمس أحرف (كهيعص) سورة مريم، و (حم عسق) الدخان.
أقوال العلماء في معاني الأحرف المقطعة:
قبل الخوض في أقوال العلماء لابدّ من الإشارة إلا انه لم ينقل عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان معانيها إلى ما يأتي:

(1/30)


القول الأول: وهي سر الله في القرآن وهي من المتشابه ((1)) ، الذي انفرد الله بعلمه ولا يجوز أن يتكلم فيه، ولكن نؤمن بها ونقرأها كما جاءت روي ذلك عن أبى بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبى طالب، وابن مسعود
(- رضي الله عنهم -) أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر ((2)) ، ومما يؤيد هذا القول الادلة النقلية والعقلية الاتية:
1- الادلة النقلية: ما روته السيدة عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قالت: قرأ رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} ((3)) .
__________
(1) المتشابه: هوا للفظ الذي خفي المراد منه فلا تدل صيغته على المراد منه ولا سبيل إلى إدراكه إذ لا توجد قرينة تزيل هذا الخفاء واستأثر الشارع لعلمه (مثل الحروف المقطعة في أوائل السور) . ينظر أنوار الربيع في أنوار البديع. علي صدر الدين بن معصوم المدني. تحقيق: شاكر هادي شكر. النجف الأشرف. 1388 هـ ـ 1968 م: 217.
(2) ينظر بحر العُلُوْم. المُسَمَّى (تَفْسِير السمرقندي) . أبو الليث نصر بن مُحَمَّد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي. ت 375 هـ. تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد معوض. وآخرون. ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1413 هـ. 1993 م: 1/249-250. والجامع لأحكام القرآن: 1/134.
(3) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.

(1/31)


. قالت: فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((فأذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) ((1)) .
... إذن والله أعلم، إن هذه الاحرف من المتشابه الذي لا يعرفه الا الله جل وعلا لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ((2)) .
2-الادلة العقلية: ذكر القرطبي عن الصحابي الجليل الربيع بن خيثم (- رضي الله عنه -) : إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما يشاء، وأطلعكم على علم ما يشاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه، فلا تسألوا عنه، وأما ما أطلعكم عليه، فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به وما بكل القرآن تعلمون ولا بكل ما تعلمون تعملون " ((3)) ، فإن الله جل وعلا قد ستر معاني هذه الأحرف عن خلقه اختباراً من الله عز وجل وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم، وشأنها شأن كثير من الأفعال التي كلفنا بها ولا نعرف وجه الحكمة فيها، كرمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة.
... ثم إن ورود هذه الحروف في أوائل السور، منها إفهام للبشر أنهم مهما بلغوا من العلم، فإنهم لن يطلعوا على كثير من الأسرار، ومنها معاني هذه الحروف، بهذه الصورة ستكون دافعاً إلى إعمال الفكر والنظر والاجتهاد في الوصول إلى حقيقتها، وفي هذا شحن همة العقل إلى التأمل والحركة، حتى لا يبقى جامداً أمام حقائق جاهزة ((4)) . وهذا رأي أهل السنة والجماعة.
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِي: كتاب: التفسير، باب: منه آيات محكمات 4 /1655.
(2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134.
(4) ينظر تطور تفسير الَقُرْآن. نظرة جديدة. د. محسن عبد الحميد. جامعة بغداد. 1989م: ص 55.

(1/32)


القول الثاني: قال جمع كبير من العلماء: يجب أن نتكلم فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها.
واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، منها القريب ومنها الغريب.
أولاً: فقد روي عن ابن عباس ورواية عن علي ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ أن الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم، إلا إننا لا نعرف تأليفه منها ((1)) .
ثانياً: وقد نقل السيوطي عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) أنها حروف مقطعة كل حرف منها مأخوذ من إسم من أسمائه تعالى، ففي قوله في (آلم) قال: معناها (أنا الله أعلم) ، وفي قوله: (ألمص) : (أنا الله أفصل) ، وفي قوله: (ألر) قال معناها: (أنا الله أرى) ، (ألمص) : الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد. و (ق) : حرف من اسمه قادر، (ن) : إنه مفتاح اسمه نور وناصر ((2)) .
ثالثاً: عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) أنها قسم أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه.
... وقد رد بعض العلماء هذا القول، فقالوا: لا يصح أنها قسم لأن القسم معقود على حرف مثل (إن، وقد، ولقد، وما) ولم يوجد هاهنا حرف من هذه الحروف فلا يجوز أن يكون قسماً ((3)) ، وقد أجيب بان موضوع القسم في سورة البقرة (لا ريب فيه) فلو أن إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه لكان الكلام سديداً وتكون (لا) جواب القسم ((4)) .
... وذكر الزمخشري أن حرف القسم مضمر كأنه أقسم بهذه السورة وبالكتاب المبين إنا جعلناه ((5)) .
رابعاً- وقيل إنها أسماء للقرآن.
خامساً- قيل إنها أسماء للسور.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134.
(2) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2 /9.
(3) بَحْر العلوم: 1 /246. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134.
(4) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /135.
(5) ينظر الكَشَّاف: 1/ 92.

(1/33)


سادساً- قال قطرب، والفراء: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم.
... وقيل: إن العرب المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه قال تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ((1)) ، فانزل الله هذا القرآن ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سبباً لأستماعهم له فترق قلوبهم وتلين الافئدة ((2)) .
... وقد اعترض ابن كثير على أن هذه الحروف جاءت خطاباً للمشركين بقوله: " إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وال عمرآن مدنيتان وليستا خطاباً للمشركين) ((3)) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أولا- المنقول، قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ((4)) .
وجه الدلالة ان الله جل وعلا حثنا على تدبر القرآن ومعرفة معانيه ومن تدبر القرآن البحث عن معرفة معاني الحروف المقطعة.
ثانيا- قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ((5)) .
ووجه الدلالة ان الله تعالى قد أنزل القرآن الكريم ويسره للناس ليذَّكروا آياته، فيمكن معرفة جميع المراد منه لان الله يسره للناس ومنها هذه الحروف المقطعة.
__________
(1) سُوْرَة فُصِّلَتِ: الآية 26.
(2) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2/ 10.
(3) تفسير القُرْآن العَظِيْم: 1 /37.
(4) البرهان في عُلُوْم القُرْآن. الإِمَام بدر الدِّيْن مُحَمَّد بن عَبْد الله الزركشي. ت 794 هـ. تحقيق: مُحَمَّد أَبِي الفضل إبراهيم. دار المعرفة. بيروت. 1391 هـ. 1972 م: 1/172.
(5) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 24.

(1/34)


. وقول أهل ... المعقول ان القرآن الكريم أنزله الله جل وعلا كتاب هداية وبيان للبشر فلا يمكن أن يكون فيه ما هو غير مفهوم لهم ((1)) .
ومن التفسيرات الغريبة:
1-ما قاله الشيخ محي الدين بن عربي " إن مبادىء السور لا يعلم حقيقتها الا أهل الصورة المعقولة، فجعلها تبارك وتعالى تسع وعشرون سورة وهو كمال الصورة {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ((2)) ، والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده، وهو سر (آل عمران) (آلم) ، ولولا ذلك لما ثبتت الثمانية والعشرون، وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً فالثمانية حقيقة البضع، قال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((الايمان بضع وسبعون شعبة)) ((3)) ، وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد اسرار الايمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَمَرِ: الآية 17.
(2) سُوْرَة (يس) : الآية 39.
(3) متفق عليه، صَحِيْح البُخَارِي: كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان 1 /12. صحيح مُسلم، مسلم بن الحجَّاج القُشَيْري النَّيْسابوري أبو الحسين، (206 ـ 261) ، تحقيق: مُحَمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بَيْرُوت، (د. ت) : كتاب الإيمان، باب عدد شعب الإيمان 1/ 63.
(4) الفتوحات المكية. أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن عَلِيّ المعروف بابن عربي الحاتمي الطائي. ت 628 هـ. دار صادر. بيروت. لبنان. (د. ت.) : 4/ 64-66.

(1/35)


2- " زعم قسم من العلماء أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم " ((1)) ، " كما استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: {آلم * غُلِبَتْ الرُّومُ} ((2)) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قال. وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للأشارة الى مدة بقاء هذه الامة، وهو من أراء الحروفيين واهل الروحانيات منقولاً عن
الإسرائيليات " ((3)) .
... وقد رد ابن كثير هذا الرأي، ومن قال به لانه ادّعى ما ليس له وطار في غير مطاره، وإن مقتضى هذا المسلك ان كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرار فأعظم ((4)) .
الرأي الراجح:
... والراي الراجح والله أعلم، الرأي الاول، وذلك لأنه لا يمكن القطع بمعانيها لعدم ورود نص يبين معنى هذه الحروف المقطعة لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية، وإنها من قبيل المتشابه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ((5)) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 1 /38.
(2) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآيتان 1- 2.
(3) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /10.
(4) تفسير القرآن العظيم: 1 /38.
(5) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.

(1/36)


ثم إن العلم بمعانيها لا يفيدنا بشيء ولا يتوقف على العلم بها إقامة العبادة لله وإنها إختبار وامتحان للخلف فالاولى السكوت عن معانيها كما هو صنيع السلف الصالح في التفويض.

المطلب الثاني: إعراب الحروف المقطعة
اختلفت آراء العلماء في إعرابها على رأيين.
الرأي الاول:
ليس لها محل من الاعراب وهي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية، اي: حروف مقطعة لا محل لها من الاعراب ((1)) .
الرأي الثاني:
لها محل من الاعراب ((2)) :
فمن قال إنها اسماء للسور فموضوعها عنده الرفع على انها عنده خبر ابتداء مضمر، اي: هذه (الم) أو (طسم) كما تقول هذه سورة البقرة، او تكون رفعاً على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول زيد ذلك الرجل، وقال ابن كيسان في موضع نصب كما تقول: إقرأ (طسم) ، أو عليك (طسم) ، وقيل: في موضع خفض بالقسم لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها ((3)) .
أما الزمخشري فقد قسم هذه الحروف على ضربين:
أحدهما: ما لا يتأتى فيه إعراب نحو (كهيعص، المر) .
ثانيهما: ما يتأتى فيه الاعراب، وهو إما أن يكون اسماً فرداً (ص، ق ن) ، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كـ (حم، طس، يس) ، فانها موازية لقابيل وهابيل، وكذلك (طسم) يتأتى فيها أن تفتح نونها وتصير ميماً مضمومة إلى (طس) فيجعلا اسماً واحداً كدار بجرد فالنوع الاول محكي يس الا واماالنوع الثاني فسائغ فيه الامر ان الاعراب والحكاية ((4)) .
__________
(1) ينظر إعراب القُرْآن. أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن إسماعيل النحاس. ت 338 هـ. تحقيق: د. زهير غازي زاهد. عالم الكتب. مَكْتَبَة النهضة العربية. (د. ت.) : 1/127
(2) الكَشَّاف: 1/83. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/136.
(3) الكَشَّاف: 1/83. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/136.
(4) الكَشَّاف: 1 /83.

(1/37)


والراجح هو الرأي الأول، القائل أنها لا محل لها من الإعراب، وأرى أن الخلاف في إعرابها، وعدم إعاربها لا يفيد العلم بشيء، وليس له أي ثمرة.

المبحث الثالث: شبه وجود الأساطير والتكرار في القصة القرآنية والرد عليها
التمهيد ((1))
إن بعض أصحاب المدرسة البيانية الحديثة تبنوا فكرة الطعن بالقرآن من خلال القصص القرآنية بحجة أن في القرآن قصصاً مكررة وأن فيه أساطير ((2)) ، إلى غير ذلك من الترهات، تنزه كتاب الله عن كل ذلك.
وسمي من يؤمن بهذه الفكرة بأصحاب المدرسة الأمينية نسبة إلى الشيخ
(أمين الخولي) الذي تبنى هذه الفكرة ثم أشرف بنفسه على رسالة دكتوراه تحت عنوان (الفن القصصي في القرآن) لمحمد أحمد خلف الله قدمت إلى جامعة الأزهر، وقد ردت هذه الرسالة، وأثارت هذه الأفكار الشاذة زوبعة فكرية تأثر بها شرذمة قليلة من ضعاف العقول ممن انبهر بالفكر الغربي، وقد اعترف صاحب هذه الرسالة بوضوح وبكل صراحة بتأثره بالآراء العلمانية. فيقول: " كنت قد أحسست بحاجتي الملحة إلى الإطلاع على ما يفعله علماء الغرب حيث يدرسون الأدب وتاريخه، فاستجبت لهذا الإحساس، وقرأت بعض الكتب التي تعالج هذه المسائل " ((3)) .
فالذي يقرأ هذه الرسالة لا يشك لحظة واحدة أن وراء كتابة هذه الرسالة يداً خبيثة تريد العبث والتشكيك بكتاب الله وعقائد المسلمين، وقد قام علماء أجلاء بالرد على هذه الرسالة منهم العلامة محمد الخضر الحسين شيخ الأزهر الأسبق في كتابه نقد كتاب الفن القصصي في القرآن. والأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه قصص القرآن وأجاد في الرد.
__________
(1) أوردنا هذا المبحث لأن نفي الواقعة التاريخية في القصص الَقُرْآنيّ يشمل كلّ سُوْرَة الْقَصَصِ أيضاً.
(2) ينظر الفن القصصي في الَقُرْآن الكَرِيم. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة السادسة. دار امريث للنشر. القاهرة. 1936 م: 17 -27.
(3) المصدر نفسه: ص 11.

(1/38)


" وقد أجمع علماء الإسلام في هذا العصر على رفض هذا الرأي وعده مخالفاً لضوابط تفسير القرآن، بل عدوه تكذيباً للقرآن نفسه " ((1)) ، فقد قال جل وعلا: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ} ((2)) . وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَق} ((3)) ، وقوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} ((4)) ، وقوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَق} ((5)) .
ونحن نعلم مما تقدم إن هذه المحاولات الإلحادية للقضاء على حقيقة النص القرآني ورميه بالزيف التاريخي وحاشاه فقد بدأها طه حسين ((6)) نقلا عن نولدكه (المستشرق اليهودي الألماني الشهير) ((7)) ، وليس الهدف منه سوى الإساءة للنص القرآني في مبناه ومعناه على ما نراه في المطلب القادم.

المطلب الأول: أدلة القائلين بوجود الأساطير والتكرار في القرآن الكريم والرد عليهم

لقد اعتمد القائلون بوجود الأسطورة (بمعناها الخرافي، أي الذي لا وجود له إلا في القصص) على الأدلة الآتية التي تدعم زعمهم بوجودها في الَقُرْآن الكَرِيم نفسه:
__________
(1) تطور تفسير القرآن: ص85.
(2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 62.
(3) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 13.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(5) سُوْرَة هُوْد: الآية 17.
(6) في الشعر الجاهلي. طه حسين. ط1. دار المعارف بمصر. 1924 م: ص31
(7) المستشرقون. نجيب العفيفي. ط4. دار المعارف بمصر 1985 ـ 1987 م: 11/213، وكتابه اسمه (تاريخ الَقُرْآن) وهو أول من تبنى هذه النظرية.

(1/39)


1-إن الأساطير في اللغة: " الأباطيل، والأساطير أحاديث لا نظام لها. قال الليث: يقال سطر فلان علينا يُسَطرِّ، إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل " ((1)) ، وذكر محمد خلف الله في رسالته: " إن القران الكريم لا ينكر أن فيه أساطير وإنما ينكر أن تكون الأساطير هي الدليل على أنه من عند مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ((2)) ، وقد استدل على رأيه ذلك ببعض الآيات القرآنية التي جاءت لتنقل أقوال المشركين عن القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين، مثل:
أـ قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين} ((3)) .
ب ـ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((4)) .
ج ـ قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ
الأَوَّلِينَ} ((5)) .
فيقول ما يفهم من النظر في هذه الآيات أن المشركين كانوا يعتقدون بما يقولون اعتقاداً صادقاً وأن الشبه عندهم كانت قوية جازمة ((6)) .
... ثم يذكر بان " ما يفهم من النظر في هذه الآيات التي كل ما تحدث به القرآن عن الأساطير أن القرآن لم يحرص على أن ينفي عن نفسه وجود الأساطير " ((7)) ، ثم يذكر " أن القرآن اكتفى بتهديد القوم في سورة الأنعام والمطففين، فهل هذا الرد ينفي ورود الأساطير في القرآن " ((8)) .
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (سطر) 4/ 363.
(2) الفن القصصي في القرآن: ص209.
(3) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25.
(4) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 31.
(5) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 24.
(6) الفن القصصي: ص202.
(7) المصدر نفسه: ص 203.
(8) المصدر نفسه: ص 203.

(1/40)


2- إن حقائق النص القرآني لا تدل على حقيقة تاريخية ((1)) .
وهذه الآراء في حقيقة ورودها هي آراء نولدكه، وطه حسين التي تقدمت الإشارة إليها.
مناقشة الأدلة
ونحن نخالف ذلك وفق المنهجية العلمية لعدة أسباب:
أولاً ـ إن آية الأنعام ـ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((2)) تتحدث عن الوعيد لمن كذب بآيات الله، ثم تتحدث عن وحدانية الله تعالى، فهم حين قالوا: أساطير الأولين لا يقصدون القصص القرآني فقط، بل كل ما جاء به النبي (- صلى الله عليه وسلم -) والقرآن الكريم من تشريع وعقيدة، فاستكبروا وعتوا عتواً كبيراً ((3)) .
ثانياً ـ إن آية النحل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((4)) التي تتحدث عن قدرة الله وعلمه وحكمته.
إن الآيتان تتحدثان بصيغة المقول لا بصيغة القول. وليس في هذه الآيات شئ من القصص، فقولهم: أساطير الأولين يقصدون قرآن الله.
... ونلاحظ أن استدلاله بالآيات يتم من خلال استدلاله بالجمل التي تدل على ما ذهب إليه باجتزائها من موقعها.
... ثم إن قوله: " إن القرآن لم ينف وجود الأساطير فيه "، فهذا كذب صريح، ومن الآيات التي ترد على الكافرين القائلين بأنه أساطير الأولين:
__________
(1) تاريخ الَقُرْآن. ثيودور نولدكه. ترجمة: عَبْد الرَّحْمَن حسن عَبْد الرَّحْمَن. الطبعة الأولى. مطبعة حسان. بيروت، لبنان 1992 م: 317-319.
(2) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25.
(3) ينظر القصص القرآني في منظومه: ص 308.
(4) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 24.

(1/41)


قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون} ((1)) ، فكان رد القرآن الكريم {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً
وَزُوراً} ((2)) .
قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ((3)) .
فكان رد القرآن الكريم {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} ((4)) .
... ثم إن القول: إن في القرآن الكريم أساطير هو تكذيب لله جل وعلا لأن الأسطورة هي عبارة عن قصص خيالية وأوهام استقرت في أذهان الشعوب. وحاشا أن يكون في كتاب الله مثل ذلك، والذي يعتقد بأن في القرآن أساطير وقصص خرافية لا فرق بينه وبين كفار قريش في رميهم الَقُرْآن بأنه (أساطير الأولين) وهو حديث النضر بن الحارث، وأبي جهل ((5)) . ونحن نعجب لهذه الآراء التي تبناها المستشرقون وتلامذتهم الذين يكيدون للإسلام، ولكننا نقول لهم: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} ((6)) .
فكيف يكون فيه أساطير، والله جل وعلا يحكم بأنه لا ريب فيه قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ((7)) .
وكيف يكون فيه أساطير، والله جل وعلا يحكم بأنه نزّل الكتاب بالحق قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآيتان 5 - 6.
(4) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 6.
(5) ينظر سيرة ابن هشام: 2 /41.
(6) سُوْرَة الطَّارِقِ: الآيتان 15 -16.
(7) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 2.
(8) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 176.

(1/42)


فالذي يقول بأن في القرآن أساطير كافر بالقرآن، وقد توعده الله بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ((1)) .
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((2)) .
وهاهنا أمر آخر جدُّ مهم، وهو أن الزعم بوجود الأسطورة في القرآن الكريم يؤدي بالقائلين به على اختلاف مشاربهم إلى مناقضة نتائج العلم الحديث من خلال علم (الاحفوريات الحديثة) ، التي جاءت لتؤكد ما جاء به القرآن الكريم ((3)) من أخبار الأمم السابقة وأنبيائها ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، وفي ذلك يقول بعض الباحثين: " لقد تبين أن النظريات التي تبناها نولدكه وجولدزيهر وطه حسين وإسماعيل مظهر وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله وسيد القمني التي تتلخص بعدم وجود حقائق تاريخية في آيات وسور القرآن الكريم هي نظرية متهافتة ساقطة مردودة لأن العلم الحديث أثبت وجود كلّ الأمم التي قصها القرآن الكريم، ووجود أسماء أنبيائهم على ما ذكره القرآن الكريم مما يجعل القرآن الكريم مهيمناً على التوراة والإنجيل المحرفين اليوم في قصص الحق " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25.
(3) علم الجيولوجيا والقرآن الكريم. موريس بوكاي. ترجمة: رشوان غالب. الطبعة الثانية. الدار الأكاديمية. قطر. 1412 هـ: ص78.
(4) في التراث والحداثة: ص 193.

(1/43)


ونحن نوافق الباحث فيما ذهب إليه ونعتقد أن الزعم بوجود الأساطير في القصص القرآني إنما هو فرية إستشراقية أعانهم عليها بعض بني جلدتنا، وليس ذلك مما يستغرب من تلامذة المستشرقين ((1)) .
ونرى أن ما جاء في سُوْرَة الْقَصَصِ من قصص تاريخي هو ما وقع فعلاً في التاريخ، وحدثنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أصدق القائلين في الَقُرْآن الكَرِيم.

المطلب الثاني: قضية التكرار
إن معنى التكرار في اللغة: " عبارة عن الإتيان بشيء مرة بعد أخرى " ((2)) ، أو " هو الرجوع على الشيء " ((3)) .
وكان بعض تلامذة المستشرقين قد عاب قضية التكرار في مواضع معينة من الَقُرْآن الكَرِيم منها تكرار قصة موسى في سُوْرَة الْقَصَصِ، فذكر محمد خلف الله في رسالته أن في القرآن قصصاً مكررة اعتماداً على ورود بعض قصص الأنبياء في أكثر من سورة. فيتساءل هازئاً: " لماذا كرر القرآن قصص آدم، ونوح، وهود، ولوط، وصالح، وشعيب وغيرهم من الرسل والأنبياء؟ إن الوقوف على تاريخ كلّ واحد من هؤلاء يكفي في إيراد القصة الواحدة في الموطن الواحد، وليس يلزم أن تكرر القصة في أكثر من موطن من مواطن القرآن " ((4)) .
__________
(1) ينظر دفاع عن القرآن: ص 21.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (كرر) 5/135.
(3) التعريفات. أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عَلِيّ الجرجاني المعروف بالسيد الشريف. ت 816 هـ. تحقيق: إبراهيم الأبياري. دار الكِتَاب العربي. بيروت. الطبعة الأولى 1405 هـ. ص 98.
(4) الفن القصصي: ص37.

(1/44)


وقد رد سيد قطب على ذلك بقوله: " قد يحسب أناس أن هناك تكراراً في القصص القرآني لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد إنه ما من قصة أو حلقة قد تكررت في صورة واحدة من ناحية القدر الذي يساق وطريقة الأداء في السياق، وأنه حينما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ينفي حقيقة التكرار " ((1)) .
وذكر النورسي " أن القرآن الكريم يظهر نوعاً من إعجازه البديع أيضا في تكراره البليغ لجملة واحدة أو لفظة، وذلك عند إرشاده طبقات متباينة من المخاطبين إلى عدة معانٍ، وعبر كثيرة في تلك الآية أو القصة فاقتضى التكرار، حيث إنه كتاب دعاء ودعوة، كما أنه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار. فكل ما كرر في القرآن الكريم إذاً من آية أو قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة " ((2)) .
__________
(1) في ظلال القرآن: 1 /64.
(2) المعجزات الَقُرْآنيّة. بديع الزمان سعيد النورسي. ترجمة: إحسان قاسم الصالحي. الطبعة الأولى. العراق. 1410 هـ ـ 1990 م: ص184-185.

(1/45)


وذكر الشيخ محمد رشيد رضا أنه قد تكرر القصة الواحدة في القرآن، ولكن في تكرارها فوائد في كل منها فائدة لا توجد في الأخرى من غير تعارض في المجموع، لأنها لما كانت منزَّلة لأجل العبرة والموعظة والتأثير في العقول والقلوب؛ اختلفت أساليبها بين إيجاز وإطناب، وذكر في بعضها من المعاني والفوائد ما ليس في بعضها الآخر حتَّى لا تُملَّ ألفاظها ومعانيها، ثُمَّ إن الأقوال المحكية فيها إنما هي معبرة عن المعاني وشارحة للحقائق وليست نقلا لألفاظ المحكي عنهم بأعيانهم، فإن بعض أولئك المحكي عنهم أعاجم، ولم تكن لغة العربي منهم كلغة القرآن في فصاحتها وبلاغتها، هذا وإن اختلاف الأساليب وطرق التعبير في قصص القرآن وفي القرآن عموماً عن المعنى الواحد لا تختلف إلا لكي تفيد في فهمها فائدة لفظية أو معنوية ((1)) .
ونحن نرى رأي الشيخ مُحَمَّد رشيد رضا، ونعدّ التكرار إنما أتى في مواضع من الَقُرْآن الكَرِيم كي يستزيد المؤمن إيماناً كون التكرار الذي يراه في الَقُرْآن الكَرِيم يأتي في كلّ مرة بأٍسلوب جديد، وصياغة جديدة وهو ما وقع في سُوْرَة الْقَصَصِ، فقصة موسى (- عليه السلام -) لا تشبه قصته نفسها في إطارها العام في سُوْرَة (طَه) .
__________
(1) ينظر تفسير المَنَار (تَفْسِير القُرْآن الحكيم) . السيد مُحَمَّد رَشِيد رِضا. ت 1935 م. وفيه صفوة ما قاله الأستاذ الإِمَام الشيخ مُحَمَّد عبده. ت 1905 م. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972 ـ 1979 م: 8/343-344.

(1/46)


المطلب الثالث: الحكمة من التكرار
إن اعتقادنا أنه لا يوجد تكرار في القصص القرآني بمعنى مشابه للتكرار في القصة التاريخية أو الأدبية، لأن القرآن الكريم كتاب دعوة، والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها، والقصة تتكون من الحدث والشخصية، ففي القصص التاريخية نلاحظ التركيز على الشخصية، فحينما تقرأ أي قصة تجد أنها تركز على شخصية أو مجموعة أشخاص من أول القصة إلى خاتمتها، أما في القصص القرآني فنرى إعجازاً آخر يضاف إلى إعجازات القران الكثيرة، وهو الملائمة بين الحدث والشخصية. لذلك كان التكرار غير مقصود لذاته، بل جاء لإيراد معنى آخر في سياق القصة نفسها.
وإضافة إلى ما تقدم يمكن أن نبين الحكم الجلية الجليلة لتكرار القصة في القرآن الكريم:
قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه وتذكيراً له عند حدوث سببه خوف نسيانه ((1)) ، فالعرب حينما تكرر أمراً أو تؤكده، يدل ذلك على الاهتمام بذلك الأمر، فتكرير صفات الله دال على الاعتناء بمعرفتها والعمل بموجبها ((2)) .
رسوخها في الأذهان بتكريرها مرة بعد مرة.
ظهور البلاغة، فإن تكرار الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يَثقُلَ على البليغ، فإذا جاء اللاحقُ منه إثر السابق تفنن في المعاني، وتفنن في الألفاظ وتراكيبها، وتفنن في المحسنات البديعية المعنوية واللفظية كان ذلك من الحدود القصوى في البلاغة ((3)) .
أن يقتضي سياق السورة الواردة فيها القصة أن تذكر مختصرة وتذكر في موضع آخر بشكل أوسع لاقتضاء ذلك التطويل في هذا الموضع الثاني.
__________
(1) ينظر البرهان في علوم القرآن: 1/29.
(2) محاسن التأويل: 1 / 257.
(3) أَسَاس البَلاَغَة: مادة (ق. ص. ص) ص 468.

(1/47)


إن حفظ القرآن كاملاً لم يتيسر لكل الناس، فبعضهم يحفظ بعض السور، فيكون الذي حفظ إحدى السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالماً بتلك القصة كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت فيها تلك القصة ((1)) .
وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
" إن في القصص القرآني المعاد مبناها ومعناها فوائد عديدة، ولكن أهمها هو أن حكمة إعادتها تشتمل على التذكير بالله عز وجل والطريق للوصول إلى معرفته عز اسمه " ((2)) .
ونحن نعتقد من خلال استقراء سورة القصص أن ما ورد فيها من ذلك يحمل كل الحكمة والموعظة الحسنة. لأن التكرار الذي فيها إنما كان في قصة موسى
(- عليه السلام -) وفرعون في تكرار تعداد نِعم الله عَزَّ وجَلَّ، وفي تكرار التحذير من الدنيا، وكل تلك المعاني صيغت في سُوْرَة الْقَصَصِ بأسلوب آخر مختلف كلّ الاختلاف عن أي سورة أخرى من سور الَقُرْآن الكَرِيم، فبطل ما ادعاه هؤلاء (المتحذلقون) في سوء فهم التكرار في النصّ الَقُرْآنيّ عموماً وفي سُوْرَة الْقَصَصِ خصوصاً.

المطلب الرابع: فوائد القصص القرآني
__________
(1) التَّحْرِيْر والتَّنْوِير. تَأَلِيْف مُحَمَّد الطاهر ابن عاشور. الدار التونسية للنشر. سنة 1984 م: 1 /68- 69.
(2) إعادة المعنى في النصّ الَقُرْآني. د. عَبْد الله سلوم. الطبعة الثانية. الدار الجامعية للنشر. بيروت، لبنان. 1994 م: ص 228-129.

(1/48)


إن القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي يتضمن كلماته إلى خاتم رسله وأنبيائه محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، هو كتاب الدين كله، وهو عمدة الملة وروح الوجود الإسلامي منه تستمد العقيدة والشريعة والأخلاق، فهو كتاب لكل الأزمان جعله الله هدى للعالمين من الإنس والجان. كل شيء فيه لحكمة وقد قص الله علينا في كتابه أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، وهذا يتناول كل ما قصه الله علينا في كتابه العظيم، وكان لإيراد القصص القرآنية حكماً ودروساً لتربية الأفراد والمجتمعات للقادة والدعاة، ومن هذه الفوائد التي تلاحظ بمجملها في سورة القصص الشريفة وفي باقي سور القرآن الكريم:
أن نفقه ما جاء في هذه القصص من أخبار وحقائق ومعاني وأنماط من المدافعات بين أهل الحق والباطل وان نعتبر به. فمن ذلك ما حصل للأنبياء وما أصابهم من الأذى في سبيل الله، ثم إن الله نصرهم وجعل العاقبة الحسنى لهم، وفي ذلك عبرة للمؤمنين ((2)) ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} ((3)) .
التحدي العظيم لأهل الكتاب، لأن أهل الكتاب كانوا في ذلك العصر لهم معرفة بأخبار الأنبياء لاسيما أحبارهم ورهبانهم، فقطع القرآن حجتهم على المسلمين قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ((4)) ، فكان حملة القرآن أحق بان يوصفوا بالعلم الذي وصفت به أحبار اليهود، فانقطعت صفة الأمية عن المسلمين في نظر اليهود ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3.
(2) المستفاد من قصص الَقُرْآن للدعوة والدعاة. د. عبد الكريم زيدان. الطبعة الأولى. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1997 م: 1/7.
(3) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 111.
(4) سُوْرَة هُوْد: الآية 49.
(5) التحرير والتنوير: 1 /65.

(1/49)


في القصص القرآنية فائدة عظيمة للكفار والمشركين والعصاة والظلمة والمتكبرين، لكي يروا ما حصل بأمثالهم من الأمم السابقة ليتعظوا قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ((1)) .
في قصص القرآن بيان لسنن الله في خلقه من الأمم والجماعات والأفراد، وهي سنن جرت على الماضين، وتجري على اللاحقين ليعتبر بها المؤمنون، فلهذا لا يراد بقصص القرآن الكريم السرد التاريخي للأمم والأشخاص والجماعات، وإنما يذكر منها مواضع العبرة والاتعاظ والتذكر، كما قال تعالى: {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، لذلك لا تذكر الحوادث بالترتيب ولا تستقصى ((3)) .
في القصص القرآني فائدة كبيرة لأهل الدعوة والدعاة لا غنى لهم عن معرفتها فهي تعرفهم:
مناهج الأنبياء ـ عَلَيْهما السَّلام ـ في دعوة أقوامهم إلى الله وبيان ما أصابهم من أذى في سبيل الله، وكان النصر في نهاية المطاف نصيبهم، وكيف أن الله أظهرهم على عدوهم رغم قلة عددهم. فعلى اللاحقين من المؤمنين عدم اليأس، وليعلموا أن ما أصابهم من أذى قد أصاب من قبلهم، ولكن العاقبة أبداً للمتقين ((4)) لما قال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((5)) .
وكذلك هناك فائدة أخرى للدعاة، وهي ما اشتملت عليه القصص القرآنية من بيان لما جبلت عليه النفس الإنسانية من غرائز وميول ورغبات وكيف عالج الأنبياء ـ عَلَيْهما السَّلام ـ أحوال الناس وفقاً لهذه الميول والرغبات.
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 176.
(2) سُوْرَة هُوْد: الآية 120.
(3) ينظر محاسن التأويل: 1 /144. المستفاد من قصص القرآن: 1/ 7.
(4) المستفاد من قصص القرآن: 1/ 7.
(5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128.

(1/50)


هناك فائدة أخرى يمكن أن يستفاد منها التربويون من خلال دراسة المنهج التربوي في القصص القرآني.
وكذلك يمكن الاستفادة من القصص القرآني لأهل الاقتصاد من خلال دراسة المعالجة الاقتصادية كما في قصة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) مثلاً، أو اقتصاد قارون الجامع بين العلم والكفر كاقتصاد العولمة الحديث مثلاً.
والقادة كذلك لا غنى لهم عن دراسة القصص القرآني من خلال إدارة بعض الأنبياء لشؤون الناس، إضافة إلى مهمة النبوة، ولهم في قصة سيدنا سليمان (- عليه السلام -) المثل الأعلى، وكيف استطاع الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) في زمن بسيط من أن يجعل كل جزيرة العرب تحت لوائه قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ((1)) ((2)) .
ويتعلم الشباب من قصة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) العفاف وكيفية كبح الشهوات. وكذلك من حياء ابنة شعيب في سُوْرَة الْقَصَصِ في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((3)) .
وفي القصص تسلية للمبتلين فقد ابتلي سيدنا أيوب (- عليه السلام -) بالمال والأولاد والنفس.
وأغرى إبليس قومه فطردوه وجعلوه بعيداً عن الديار فلم يزده ذلك إلا شكراً وصبراً حتى عوفي ((4)) .
ولا ريب أن كل ذلك مما يستقيم به بناء الشخصية الإسلامية قرآنياً أو على قول بعض الباحثين:
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 159.
(2) المستفاد من قصص القرآن: 2 /211.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(4) القصص الحق. وهبة رشدي. تقديم: مُحَمَّد عمارة. الطبعة الأولى. دار البيان العربي. القاهرة. 1992 م: 1/214-215.

(1/51)


" يستفاد من قصص القرآن الكريم التأسي الحق بأنبياء الحق ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ وفي ذلك فائدة وأي فائدة " ((1)) ، وهو الذي نعده نحن أحد مقومات السلوك الإيماني للشخصية الإسلامية من خلال تكرار القصص القرآني المتلو يومياً وإعادتها.
وفي سُوْرَة الْقَصَصِ استفدنا أيضاً أربعة فوائد:
إن الطاغية مهما بلغ جنده وتجبره مآله الهزيمة.
إن قوة الإيمان تغلب كلّ قوة كفرية.
إن المال الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك، هو مال لا فائدة فيه في الحياة الدنيا.
إن مآل الإنسان المؤمن هو الرجوع إلى معاده الذي أحب في الدنيا أو في الآخرة.
__________
(1) المصدر نفسه: 2/ 397.

(1/52)


الفصل الثاني: وقفات بين يدي السّورة
المبحث الأول: نظرات توجيهية في سُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: توجيه المعنى في ذاتية السورة
من الواضح للعيان أن السمة الغالبة على سورة القصص هي نظام الجملة الطويلة، المؤدية للبيان في تفخيم اللفظ وتعظيم المعنى، وذلك أن اختلاف سياق قصة نبي الله موسى (- عليه السلام -) فيها، يختلف كل الاختلاف عن قصة النبي الكريم نفسه في باقي مواضعها من القرآن الكريم.
وقد علل ذلك الدكتور راجي رفاعي بقوله: " وقصة نبي الله موسى (- عليه السلام -) في سورة القصص تأخذ بعداً شمولياً مؤدياً لذاتية حقيقة القصة في إطالة مقصودة بذاتها، لتشمل فيما تشمله من أشياء:
أولاً: زيادة التبيين للسياق الذي تسير فيه القصة بأسلوب جديد.
ثانياً: الإكثار من ذكر الجزئيّات القصصية التي لم تعرف من قبل.
ثالثاً: إعادة الرواية الحقيقية التي حرفت في التوراة المنحولة " ((1)) .
ونحن نوافق هذا الباحث فيما ذهب إليه، ونزيد عليه في توجيه المعنى الذي هو:
(الأخذ بسياق النص نحو إبراز تأويلاته المؤدية إلى معناه) ((2)) . بأن نحاول بناء مخطط بياني بخطوط عريضة لذاتية سورة القصص، فهذا المخطط سوف يشمل ((3)) :
علو فرعون في الأرض.
استضعاف بني إسرائيل.
ولادة موسى (- عليه السلام -) والتقاط آل فرعون له.
قصة إرضاع موسى (- عليه السلام -) .
حادثة قتل موسى (- عليه السلام -) لعدوه.
هم موسى (- عليه السلام -) بالبطش بالعدو الآخر.
خروج موسى من المدينة بعد التآمر عليه.
وصول موسى (- عليه السلام -) إلى مدين وسقيه الماء للمرأتين.
زواج موسى (- عليه السلام -) من بنت شعيب (- عليه السلام -) .
__________
(1) موسى (- عليه السلام -) في الكتاب والسنة. د. راجي رفاعي. الطبعة الأولى. دار النشر الأكاديمية. القاهرة. 1992 م: ص238. وراجع قصص الأنبياء في المرويات الإسلامية. دراسة مقارنة. فهيمة مُحَمَّد علي. الطبعة الأولى. . دار الشرق. القاهرة. 1994 م: ص 299. إذ تؤيد مؤلفته ما نقلناه بقولها: " إن في سُوْرَة الْقَصَصِ انسجاماً في إعطاء تشخيص كلي لصورة موسى عليه الصلاة والسلام ".
(2) التحليل التطبيقي للنصوص. حكيمة محسن. الطبعة الثانية. مكتبة الفكر. بيروت، لبنان. 1988 م: ص 337.
(3) استناداً إلى السورة نفسها.

(1/53)


ونلاحظ ههنا أن اسم الأب لم يذكر صراحة في سورة القصص ولا في سواها، غير أن الآثار الصحيحة وردت بذلك ((1)) .
قضاء سيدنا موسى (- عليه السلام -) الأجل.
قصة إرسال موسى (- عليه السلام -) وكلام الله تعالى له.
إرسال هارون مع موسى (- عليه السلام -) .
أمر فرعون لهامان ببناء الصرح.
إغراق جنود فرعون معه.
المنة على موسى (- عليه السلام -) .
تذكير رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما جرى، وذكر كفر قومه.
صفات المؤمنين.
شروط إهلاك القرى.
آلاء الله عز وجل يوم القيامة.
صفات الله عز وجل.
ذكر قصة قارون.
تذكير رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما لله من قوة.
والملاحظ على هذا المخطط الذي يختصر لنا مقاصد سورة القصص أنه يشمل أموراً يرتبط بعضها ببعض، ويأخذ بعضها برقبة بعض.
__________
(1) ينظر قصص الأنبياء في المرويات الإسلامية: 299، وراجع قصص الأنبياء. الحَافِظ عماد الدِّيْن إسماعيل بن عمر بن كَثِير القُرَشي الدَّمَشْقي أبو الفِداء. ت 774 هـ. الطبعة الثانية. تحقيق وتعليق: مُحَمَّد عَلِيّ الصابوني. دار القُرْآن الكَرِيْم. مصر. 1981م: ص224. قصص الأنبياء. عبد الوهاب النجار. مكتبة النهضة العربية. الطبعة الثالثة. مصر. (د. ت) : ص169، وهو يشكك في ذلك.

(1/54)


ومن قبل تنبه القدماء لذلك، فقال ابن جماعة المقدسي: " وقد تضمنت سورة القصص جماع قصة موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ، وجاءت القصة في موضعها ناصعة كالشمس في رابعة السماء، ثم بعد ذلك أثنى الله جل جلاله على نفسه وعدد على رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) نعمه حتَّى انتهاء السورة " ((1)) .
ويزيد هذا النص المهم وضوحاً ما ذكره بعض الباحثين المحدثين، إذ قال: " والمتتبع لما احتجنته سورة القصص يجد جانباً من جوانب إبراز النص المكرر بصيغة لا تشعر بتكراره، ولم يأت ذلك إلا في كلام الله تعالى، فقصة نبي الله موسى (- صلى الله عليه وسلم -) متفرقة في عدة آيات، إلا أن صيغتها الإلهية في سورة القصص تجعلها من الروعة بمكان، ثم إن وجه الإعجاز يظهر بعد ذلك في المقارنة القرآنية بين فرعون وجنوده وقريش وأظن ظناً يقرب من اليقين أن خواتيم سورة القصص التي احتوت على قصة قارون، هي إشارة لقريش وعظماء أغنياء رجالها بأنهم إن لم يسلموا ويؤمنوا ويتقوا، فإنهم سيواجهون الخسف ـ مصير قارون ـ وفي ذلك ما يدلنا على الرابط المعنوي لأوائل السور بنهاياتها، وما فيها من إشارات" ((2)) .
__________
(1) رسالة في فضائل السّور. مُحَمَّد بن إبراهيم بن سَعَد الله بن جماعة. (639 ـ 727) . تحقيق: مُحَمَّد رشاد. الطبعة الأولى. دار الحديث. مصر. 1408 هـ.
رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية. غانم قدوري الحمد. الطبعة الأولى. اللجنة الوطنية للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري. مؤسسة المطبوعات العربية. 1402 هـ ـ 1982 م: ص 47-48.
(2) الوحدة الموضوعية في الَقُرْآن الكَرِيم. سليم سليمان. الطبعة الثانية. الدار التونسية للنشر. تونس. 1988 م: ص391.

(1/55)


ونحن إِذَا اتجهنا ناحية التوجيه المعنوي لذاتية السورة في محاولتنا لإبراز مكامن التحليل البحثي لهذه السورة نجد أن آيات سورة القصص تأخذ طريقاً مبيناً في الإيضاح فقوله تعالى: {َلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) قد سبك في صياغته اللفظية بجملة غير مسبوقة، في التعبير القرآني {وَصَّلْنَا} ، واقتران هذا الإيصال والتوصيل بالتذكير بالفعل المضارع يرينا وجهاً من وجوه آفاق النص القرآني، ويمكن فهم هذا الوجه بأن جملة {لَهُمُ الْقَوْلَ} مقترنة بما بعدها لا بما قبلها، فينتج عن ذلك أن نخرج بالمعنى العام: إنا نواصل إرسال رسلنا بكلماتنا للناس كافة لأجل ان يتذكروا الإيمان ((2)) .
وهو بعض ما تنبه له قدماء المفسرين ((3)) ، فإذا ما أخذنا آية أخرى وحاولنا تحليلها تحليلاً موضوعياً فإننا سنأخذ على سبيل المثال لا الحصر في ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 51.
(2) ينظر الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /177.
(3) جامع البَيَان عَنْ تَأوِيل آي القُرْآن المعروف بتفسير الطَّبَري. أبو جعفر مُحَمَّد بن جَرِير الطَّبَري. ت 310 هـ. حققه وخرج أحاديثه: محمود مُحَمَّد شاكر. راجع أحاديثه: أحمد مُحَمَّد شاكر. دار المعارف بمصر ج 8 سنة 1971. ج 11 سنة 1957 م: 8 /199. وقارن مَفَاتِيح الغَيْب: 12/ 262.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.

(1/56)


فإن سياق المعنى في الآية هو خطاب أهل مكة من الكفار والمشركين لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، والملاحظ أن الصيغة التي أتت بها بعض ألفاظها تحمل إعجازاً محسوساً في حد ذاتها فقوله تعالى: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} يكاد أن يشخص حالهم بين الخوف والاستهزاء، وهو ماتنبه له بعض المفسرين المعاصرين فقال: " وقوله تعالى: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} مشعر في جوهره ومضمونه أنهم ـ أي الكفار من قريش ـ مزجوا رفضهم الانكاري بمحاولة إبراز ما في دواخل أنفسهم من خوف من أنهم إِذَا ما اسلموا اخرجتهم العرب من الحرم ـ هكذا تصوروا وزعموا ـ فمنّ الله عليهم بتمكين الحرم، ووصف أكثرهم بعدم العلم " ((1)) .
فتوجيه المعنى واضح هنا كلّ الوضوح في سياقه من سُوْرَة الْقَصَصِ، ونحن في توجيهنا للمعنى العام نلاحظ أن هنالك تواصلاً بين قصة موسى (- عليه السلام -) وهذه الآية، فبنو اسرائيل بعد أن أنجاهم الله تعالى من فرعون وجنوده جادلوا رسولهم ورفضوا دخول الارض المقدسة. والسياق التعبيري القرآني يشعر في بعض معانيه بأن حال هؤلاء كحال هؤلاء ((2)) ، أي: إن بني إسرائيل كادوا يتخطفون في رفضهم دخول الأرض المقدسة، وهو أمر إلهي.
__________
(1) تفسير آيات الجدل في القرآن الكريم. حسن رفاعي. الطبعة الأولى. القاهرة. 1994 م.: ص497.
(2) ينظر التفسير الحديث. مُحَمَّد عزة دروزة. الطبعة الرابعة، بيروت، لبنان. 1984 م: 7/118.

(1/57)


ونجد من هذا التوجيه للمعنى في داخل السورة أن قوله تعالى فيها: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ((1)) ، يتوجه نحو تقرير موضوع جديد في النفوس بواسطة ابراز مآل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وهي آية طالما آثارت عند المفسرين نقاشات لإبراز المعاني الأولى، والمعاني الثانية، لا بل والمعنى الكامن في سياق النص، فقال ابن قتيبة: " معاد الرجل بلده، لانه يتصرف في البلاد، ثُمَّ يعود إليه. وفي الآية تقديم وتاخير، والمعنى أن الذي فرض عليك القرآن، أي: جعلك نبياً، ينزل عليك القرآن، وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبياً يوحى اليك الكتاب، لرادك إلى مكة ظاهراً
قاهراً " ((2)) .
وهو تأويل معنوي يشعر بإحساس ابن قتيبة بتحليل المضمون بدلالة الفظ، بينما يقرر مفسر من المحدثين في توجيهه للمعنى أنه: " اختلفت الآراء في هذا المعاد الذي تقرره الآية الكريمة، فقال قوم: أي إلى وطنك مكة.
وقال قوم: أي إلى يوم القيامة.
وعزز الرأي الاول ما تلاها من قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} ((3)) ، فإن السياق مشعر بالرأي الاول " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(2) تَأوِيل مُشْكِل القُرْآن. ابن قتيبة أبو مُحَمَّد عَبْد الله بن مسلم. ت 276. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد صقر. المكتبة العلمية. المدينة المنورة. 1981 م.: ص 425.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(4) مكامن العرفان في تفسير الَقُرْآن. الشيخ حازم عَبْد الله. الطبعة الأولى. الدار الإسلامية، بيروت، لبنان. 1995 م: 4 / 266-267.

(1/58)


وهكذا يستبين لنا أن آفاق النص المفتوح توجه المعاني في تأويله، ومثل ذلك قوله تعالى فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((1)) ، وهي آية صيغت صياغة جميلة ذات دلالة على ما يرضي الله عزوجل، غير أن كلمة {الْفَرِحِينَ} تفتح أبواباً لتفسيرها وتأويلها بين كونها على الحقيقة، أو على المجاز. فقال مجاهد: " يعني المبذخين الأشرين البطرين الذين لايشكرون الله فيما أعطاهم " ((2)) ، فأول الفرحين بمن هذه صفتهم، ولا ريب في أن توجيه هذا التأويل يتطلب أن يكون قد تم نقله من المعنى الحقيقي الذي هو كل فرح ضمن سياق الفرح الانساني. الى المعنى المجازي، الذي هو: الفرح، كل من أوتي نعمة فكفرها وجحدها وفرح بكفره وجحوده في الدنيا، أو بمعنى آخر هو أن مجازية معنى (الفرح) انتقلت إلى حال من نهي عن الفرح بما أوتي في الدنيا، ولم يحبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيتوجه المعنى في ذلك إلى سياق جديد مجازي، وهو ما تنبه عليه بعض الدارسين للنص القرآني، فقال: " الفرح مفهوم مجازي حقيقته السرور، ومجازه الحب الدنيوي، والأطمئنان لها، وفي سورة القصص جاء قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((3)) .
وفسرت كلمة {الْفَرِحِينَ} بمعنىالكفار، فنقلت إلى المجاز، ولا ريب أن نقل الكلمة من الحقيقة إلى المجاز لا يتم الا بقرينة صارفة " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) تفسير مجاهد. مجاهد بن جبر المخزومي التابعي أبو الحجاج. (21 ـ 104) . تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن الطاهر مُحَمَّد السورتي. المنشورات العلمية. بيروت. (د. ت) : ص490.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(4) الألفاظ الَقُرْآنية بين الحقيقة والمجاز. دراسة نقدية. عَبْد الله إمام عَبْد الله. الطبعة الأولى. مطبعة الرحمة. القاهرة. 1991 م: ص 322 –323.

(1/59)


ونحن نعتقد أن الأسلوب القرآني في سورة القصص من أولها إلى أخرها جاء في شكل من أشكال التعبير الإنسيابي الذي فتح المعنى الكامن في سياق الألفاظ؛ ليتوجه تأويل قدماء المفسرين ومحدثيهم، فالمعنى في سورة القصص يجري في شكل يأخذ بمجامع القلوب.
وقد تنبه دارسو الأسلوب القرآني على حقيقة ذلك، وقرروا أن نص آيات سورة القصص في أسلوبه يحمل من أوجه الإعجاز ما يفتح المعاني لتنساب انسياباً وفق البناء اللغوي المعنوي ((1)) .
وقد وجدنا أثناء التحليل الشمولي لسورة القصص أن في ضمن آياتها معاني لا تتأتى من مجرد القراءة الأولى ولا الثانية، بل تحتاج إلى قراءات وقراءات ليتفتح للعقل من إعادة استقرائها استنباط إشارات النص وهو أمر يمس توجيه المعنى يحبث يكون متواصلاً ومترابطاً معه، ولا بأس باستعراض نموذج سوى ما قدمناه في استعراضنا للنماذج الأخرى المنتقاة من سورة القصص، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ((2)) .
فإن سياق الآية في توجيهها المعنوي يختلف عن آيات أخرى جاءت بالمعنى نفسه في مواضع أخرى من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ((3)) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ((4)) .
__________
(1) ينظر دراسات في أساليب القرآن الكريم. مُحَمَّد عبد الخالق عظيمة. الطبعة الثالثة. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1986 م: 5 / 351.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.
(3) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 8.
(4) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآية 16. سُوْرَة الزُّمَرِ: الآية 62.

(1/60)


فإن قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} دال على شمولية الخلق وفق المشيئة الإلهية التي لا اختيار معها، والنصف الثاني من الاية: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} دال في معناه المستنبط على أن لا خيار لمخلوق في خلق مع خلق الله ((1)) .
وقد دل العلم الحديث على إعجاز هذه الآية إعجازاً سبق القرن العشرين الميلادي بخمسة عشر قرناً، ونجد ذلك في النص الآتي الذي يحلل فيه أحد الباحثين هذه الآية:
" وفي القرآن الكريم آيه تفتح معانيها الظاهرة والباطنة (المعاني الكامنة) أعين المؤمنين والكافرين في الإعجاز الذي تُؤَوَّل وتؤُول إليه وهي: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، أي: في الخلق والاختيار فيه، فقد دلت البحوث العلمية الأكاديمية أن لا إمكانية مطلقاً رغم كل التطور العلمي والتقني لاختيار خارجي في التكاثر والحمل والإنجاب، بعد أن أثبت العلم الحديث استحالة إيجاد خلق جديد من لا شيء سوى الانتخاب العلمي، وبهذا فإن الجملة وردت في آية قصيرة سبقت كل علوم الغرب الحديثة " ((2)) . ونحن إنما نقلنا هذا النص استئناساً به في تحليلنا لعملية توجيه المعنى في سورة القصص.

المطلب الثاني: توجيه الآيات التي أشكل إعرابها في سورة القصص
وأثرها في تغيير المعاني
لاحظ القدماء أن الإعراب يدل على المعنى الكامن في الجملة لذلك جعلوا الإعراب كما يقول الدكتور ثروت سعيد:
__________
(1) الجواهر في تفسير الَقُرْآن الكَرِيم. الشيخ طنطاوي جوهري. الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. 1350 هـ: 13 / 45.
(2) الَقُرْآن الكَرِيم والعلوم الطبية الحديثة. د. رشدي عبد الحميد. الطبعة الثانية. الدار العلمية. الكويت. 1416 هـ ـ 1996 م: ص325.

(1/61)


" باباً للولوج إلى باحة النص وضياءً ينير ظلمة المخفي، فالإعراب ليس كما فهمه بعض الناس أنه مجرد معرفةُ أماكن الرفع والنصب والخفض، بل هو في حقيقة الأمر مفتاح فهم النص وتأويله وشرحه " ((1)) .
وقد اهتم القدماء من المفسرين بتوجيه إعراب سورة القصص نحو المبنى والمعنى، وخرجوا من ذلك بنتائج مهمة جداً على صعيد البلاغة والمعاني ((2)) .
ومن الملاحظ نحوياً أن سورة القصص نصّ متعدد المعاني، لذلك كان اختلاف القدماء والمحدثين في توجيه الإعراب أحد أسباب (ثراء النص المعرب) رغم إنهم أوجدوا مشكلاً في الإعراب ـ هكذا بزعمهم ـ ولكن كل ذلك كان في خدمة النصّ القرآني في سورة القصص في حد ذاتها ((3)) .
وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
__________
(1) أثر الإعراب في علم المعاني. د. ثروت أحمد سعيد. الطبعة الثانية. دار النشر الحديث. مصر. 1996 م: ص177.
(2) راجع في إعراب سُوْرَة الْقَصَصِ نحوياً وبلاغياً لدى القدماء الكشاف: 3/164. البحر المحيط: ص104. ومن المحدثين، دراسات في أساليب القرآن الكريم: 5/35.
(3) إعراب القرآن المنسوب للزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل، ت 311 هـ، تحقيق: إبراهيم الأبياري، الطبعة الثالثة، دار الكتب اللبنانية، 1406 هـ ـ 1986 م.: 1/71، 1/123 و 2/433 و 3/802. البَيَان في غريب إعراب القُرْآن. أبو البركات الأنباري. ت 577 هـ. تحقيق: طه عَبْد الحميد طه. مراجعة مصطفى السقا. الناشر الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. مصر. 1390 هـ. 1970 م: 2/329. مشكل إعراب القُرْآن. مكي بن أَبِي طالب القيسي أبو مُحَمَّد. ت 437 هـ. تحقيق: د. حَاتِم صالح الضامن. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط2. 1405 هـ: 1 /541.

(1/62)


" إن في سورة القصص مواطن أشكلت إعرابياً على بعض المعربين القدماء إلا أن ذلك الإشكال والاختلاف أثرى معاني الآيات، مما جعل المفسرين يستعينون بنتائج تلك الإشكالات الإعرابية في زيادة المعاني المؤداة. ومن ذلك اختلافهم في إعراب: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((1)) ، فقد أشكل في النص إضمار الفاعل (وهو الله جل جلاله) ، فأعرب بعضهم (نتلو) فعلاً مضارعاً وفاعله محذوف تقديره نحن، ولكن بعضهم أعربوا (نتلو) بأن فاعله ظاهر، لأنهم لم يستحلوا دينياً أن يقدروا حذف الفاعل في أول النص " ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) المشكلات الإعرابية في النصّ الَقُرْآني. د. عماد علي خربوطلي. الطبعة الثانية. مؤسسة النشر الحديث. القاهرة. 1986 م: ص317.

(1/63)


وكل هذا أدى إلى أن تكون عملية إعراب كلمات آيات سورة القصص ذات خاصية استلهامية في توجيه معنى النص المعرب، مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} ((1)) ((2)) ، فان الإعراب هو الذي كشف عن العائد إلى الضمير في {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي} هل هو الإسرائيلي أم هو المصري؟ فإن قوله: {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} ، وهي جملة مكونة من (جار ومجرور للاسم الموصول ومبتدأ وخبره مرتبط ذلك كلّ بالجار والمجرور (لهما) ، وفاعل هو المراد معرفته) دلت على أن الثاني (أي المصري الآخر ليس هو الذي يدلّ عليه النص القرآني بصيغة (عدو لهما) أبداً بل هو الإسرائيلي نفسه ((3)) .
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله عبد الله:
__________
(1) جامع البيان: 8 /218.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19.
(3) المعاني الكامنة في النصّ الَقُرْآنيّ. دراسة تحليلية. د. عَبْد الله عَبْد الله. الطبعة الأولى. الدار الجماهيرية. طرابلس. ليبيا. 1412 هـ:: ص318.

(1/64)


" إن استنباط المعنى من ذاتية الإعراب يفيد في فهم ذات الآية، وهو علم تنبه له القدماء إلا أنهم لم يطوروه بل نقلوا علم المعاني من علم النحو إلى علوم البلاغة، ولو أنهم أبقوهما سوياً لما اضطروا إلى التنازع في عائد الضمير في قوله تعالى في سورة القصص {عَدُوٌّ لَهُمَا} ، فلو أنهم أعربوه فاعلاً مقترناً جاره بضمير موسى والمصري، لتوصلوا إلى تحديد المراد من خلال دلالة الإعراب، وهناك آيات أخرى لا يمكن حل مشكلاتها المعنوية إلا بالعودة إلى الإعراب وتوجيه
المعنى " ((1)) .
وقد وجدنا كثيراً من الباحثين يقومون بإعادة إعراب سورة القصص (كاملة) ليستخرجوا من ذلك دواعي الظواهر التأويلية فافلحوا في ذلك ((2)) .
إن سُوْرَة الْقَصَصِ في حد ذاتها من السور القليلة التي تتميز بانسيابية المعنى الإعرابي، ويتواصل التوجيه النحوي ـ الإعرابي ـ كما تقدم أيضاً ـ لذلك قمنا في سياق الرسالة بإعراب كلّ مقطع من مقاطعها، ضمن فصله الخاص به، غير أنا في هذا المطلب قمنا بعملية توجيه نحوي للدلالة الإعرابية المختلف فيها بين بعض المفسرين ومشكلاتها لدى بعض المعربين لأجل فهم أدق لما يؤدي إليه اختلاف الإعراب من اختلاف في المعنى بين الإعراب القديم والتوجيه الحديث، ولم نذكر في توجيهها إلا ما يقتضيه السياق في بعض الآيات وفق ترتيبها في سُوْرَة الْقَصَصِ لأجل الاستفادة من دلالة الإعراب، وقمنا بذلك وفق التقسيم الآتي:
ذكر الآية أو بعض الآية موضع الخلاف الإعرابي.
__________
(1) المعاني الكامنة: ص 321.
(2) معجم مفردات ألفاظ الَقُرْآن. أبو القَاسِم بن حسين بن مُحَمَّد المعروف بالراغب الأصفهاني. ت 502 هـ. تحقيق: نديم المرعشلي. دار الفكر. بيروت. (د. ت) : ص506. إعراب القرآن وبيانه وصرفه، محيي الدين درويش. دار ابن كثير للطباعة والنشر. بيروت، لبنان. 1412 هـ.: 5/ 276.

(1/65)


ذكر رأي أو رأيين أو أكثر في الاختلاف في إعراب الآية.
توجيه الرأي المختار وفق تحليلنا.
وبذلك نكون ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ قد أتممنا الدلالات الإعرابية المختلف فيها.

{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب القيسي: " (تلك) في موضع رفع بمعنى هذه تلك، و (آيات) بدل منها، ويجوز في الكلام أن تكون (تلك) في موضع نصب بـ
(نتلو) وتنصب آيات على البدل من (تلك) " ((2)) .
وقال القرطبي: " (تلك) في موضع رفع بمعنى هذه تلك، و (آيات) بدل منها، ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ (نتلو) ، و (آيات) بدل منها أيضاً، وتنصبها كما تقول: زيداً ضربت. و (المبين) ، أي: المبين بركته وخيره، والمبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص
الأنبياء، ونبوة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - " ((3)) .
وقال محي الدين درويش: " (تلك) مبتدأ، و (آيات الكتاب المبين) خبرها " ((4)) .
وقال محمود صافي: " وجملة (نتلو) لا محل لها، استئناف بياني، أو في محل رفع خبر المبتدأ (تلك) ، والرابط مقدر، أي: نتلوها … و (آيات) بدل من الإشارة، أو هي خبر ثان … ويجوز أن تكون في محل نصب حال من (آيات) والعامل الإشارة " ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 2.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 541.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن (المعروف بتفسير القرطبي) أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن أحمد القرطبي. ت 671 هـ. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد عَبْد العليم البردوني. مركز تحقيق التراث. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1978 م: 6/ 4963.
(4) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 278.
(5) الجدول في إعراب القُرْآن وصرفه وبيانه. محمود صافي. الطبعة الأولى. دار الرشيد. دمشق. 1991 م: 20/ 221.

(1/66)


إن الاختلاف بين المعربين أدى إلى أن يكون إعراب كلمة (تلك) بكونها مرفوعة دال على الثبات لآيات الَقُرْآن الكَرِيم التي أنزلت، أما إعرابها منصوبة بالفتحة بتقدير: أعني، فهو تكلف لا يضيف إلى المعنى شيئاً.
{نَتْلُوا عَلَيْكَ} ((1))
قال العكبري: " مفعوله محذوف دلت عليه صفته، تقديره شيئاً من نبأ موسى، وعلى قول الأخفش (من) زائدة و (بالحق) حال من النبأ " ((2)) .
وقال السمين الحلبي: " ويجوز أن يكون مفعوله محذوف دلت عليه صفته، وهي (مِنْ نَبَإِ مُوسَى) ، ويجوز أن تكون (من) مزيدة، أي: نتلو عليك نبأ موسى. (وبالحق) يجوز أن يكون حالاً من فاعل (نتلو) أو من مفعوله، أي: متلبسين أو ملتبساً بالحق، أو متعلق بنفس (نتلو) يعني نتلوه بسبب الحق " ((3)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) التبيان في إعراب القُرْآن. محب الدِّيْن عَبْد الله بن أَبِي عَبْد الله الحسين بن أَبِي البقاء عَبْد الله بن الحسين العكبري أبو البقاء. (538 ـ 616) . تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد البجاوى. إحياء الكتب العربية. (د. ت) : 1 /176.
(3) ينظر الدُّرُّ المَصُوْن في عُلُوْم الكِتَاب المَكْنُوْن. ابن السمين الحلبي. شهاب الدِّيْن أبو العباس بن يوسف. ت 756 هـ. تحقيق الشيخ عَلِيّ بن معوض. وآخرون. ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. 1414 هـ. 1993 م: 5/ 331.

(1/67)


ونحن نرى أن إعراب (نتلو) وتعليقه بما سبق من الكلام على رأي بعض المعربين فيه إبعاد للمعنى عن وضعه الذي وضع ذلك التقدير له، وذلك إن جعل مفعوله محذوفاً وتقديره (شيئاً) على رأي العكبري، أوجه في دلالته الإعرابية من باقي الآراء، أما رأي الأخفش في كون (من) زائدة، فلا يليق بالمقام التفخيمي لألفاظ الَقُرْآن الكَرِيم حتَّى وإن أتى ذلك التعبير في مقام الإعراب، وأياً ما يكن، فنحن نرجح هنا أن (نتلو) ـ بعيداً عن الخلاف فيها ـ فعل مضارع مرفوع وأنه لا محذوف في تقديره.
{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " مفعولان لـ (جعل) بمعنى صير، فإن كانت بمعنى خلق تعدت إلى مفعول واحد " ((2)) .
وقال ابن الأنباري: " نصب (أهلها) و (شيعاً) لأنهما مفعولا (جعل) لأنه بمعنى صيَّر " ((3)) .
وقال النحاس: " و {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} مفعولان " ((4)) .
وقال محي الدين درويش: " (جعل أهلها) فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول و (شيعاً) مفعول به ثانٍ " ((5)) .
ونحن نرى أن الدلالة الإعرابية لـ (جعل) في نصبها مفعولين بعدها، أوجبت تصور شدة الظلم من فرعون، ولا خلاف بينهم في كون (جعل) نصبت مفعولين، إنما الخلاف في كونها بمعنى (صيّر) ، فدلالة (جعل) غير دلالة (صيّر) وإن كانتا مما ينصب مفعولين من بعدهما، ففرعون جعل على الحقيقة ولم يصيّر على المجاز، ومن هاهنا كان تقدير الإعراب على حقيقته خيراً من الاختلاف في كون (جعل) بمعنى (صيّر) كما هو واضح.
{يَسْتَضْعِفُ} ((6))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /541.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 229.
(4) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 542.
(5) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 279.
(6) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4.

(1/68)


قال السمين الحلبي: " يجوز فيها ثلاثة أوجه:
الأول ـ إنه مستأنف بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً.
الثاني ـ إنه حال من فاعل (جعل) ، أي: جعلهم كذا حال كونه مُسْتَضْعِفَاً طائفة منهم.
الثالث ـ إنه صفة لطائفة " ((1)) .
وقال الزمخشري: " حال من الضمير في (وجعل) أو صفة لـ (شيعاً) أو كلام مستأنف " ((2)) .
وقال أبو حيان: " والظاهر أن (يستضعف) استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن يكون حالاً من مضير " ((3)) .
ونحن نرى مما تقدم في الأوجه الخلافية في إعراب (يستضعف) أنهما جميعاً ذات إثراء للنص القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ، وإن كنا نرجح كون (يستضعف) حالاً على رأي الزمخشري، وابن السمين الحلبي، خلافاً لأبي حيان في جعله إياها استئنافاً، وهو تقدير لا يليق بالكلام الإلهي، لأن بلاغة إعراب النص حالاً أقوى من بلاغة إعراب النص استئنافاً، وذلك بمعنى أن الفعل المضارع (يستضعف) إذا أعرب حالاً دل على أن فرعون قام بالاستضعاف حقيقة فعلية، أما إعرابها استئنافاً فليس فيه تلك الدلالة.
{يُذَبِّحُ} ((4))
قال السمين الحلبي: " يجوز فيها ثلاثة أوجه: الاستئناف تفسيراً لـ (يستضعف) ، أو حال من فاعله، أو صفة ثانية لـ (طائفة) " ((5)) .
__________
(1) ينظر الدُّرُّ المَصُون: 5/ 331.
(2) الكَشَّاف: 3/ 165.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 104.
(4) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4.
(5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332.

(1/69)


إن دلالة إعراب (يذبّح) ـ وهو فعل مضارع مضعف للمبالغة ـ في كونه حالاً أبلغ وأشدّ بلاغة من إعرابه صفة، لأن الصفة هاهنا لا تدلّ على ما يدلّ عليه الحال الذي هو للاستمرارية والدوام، وذلك لأن الحال في مقاييس الإعراب يتوجه للديمومة الزمنية خلافاً للصفة التي هي جامدة في كلّ حالاتها الإعرابية، ونحن إذا ما أعربنا (يذبّح) هاهنا حالاً دللنا على الزمنية المستمرة، أما إعراب ذلك استئنافاً فلا محل له في أوجه الدلالة الإعرابية، إذ تنتفي بذلك زمنية عملية قيام فرعون بالاستضعاف والقتل والتذبيح والاستحياء، لأن الاستئناف جملة جديدة بعد قوله تعالى: {علاَ فِي الأَرْضِ} والجمل الجديدة تستحق أن تعربا حالاً في موقعها.
{وَنُرِيدُ} ((1))
قال السمين الحلبي: " فيه وجهان:
أظهرهما إنه عطف على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} عطف فعلية على اسمية، لأن كلتيهما تفسير للنبأ.
والثاني إنه حال من فاعل (يستضعف) وفيه ضعف من حيث الصناعة، ومن حيث المعنى، أما الصناعة فلكونه مضارعاً مثبتاً فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله، أي: ونحن نريد، ولا حاجة إليه، أما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المِنَّة من الله تعَاَلىَ؟ لأنه متى منَّ الله عليهم تعذر استضعاف فرعون إياهم، وقد أجيب عن ذلك بأنه لما كانت المِنَّة بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع قريبة جُعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم " ((2)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332.

(1/70)


وقال الزمخشري: " وعطفه على (نتلو) و (يستضعف) غير سديد. قلت: هي جملة معطوفة على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ} ، لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون، واقتصاصاً له، (ونريد) حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالاً من (يستضعف) ، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم، فإن قلت: كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المّنَّة عليهم، وإذا أراد الله شيئاَ كان ولم يتوقف إلى وقت آخر؟ قلت: لما كانت مِنَّة الله بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم " ((1)) .
إن حجج الاختلاف التأويلي في إعراب (ونريد) مما يثري النص القرآني ودلالاته المتعددة، وذلك أن كونه عطفاً على (إن فرعون) لا يستقيم به المعنى، أما ما يستقيم به المعنى فهو جعل (ونريد) حالاً لديمومة القدرة الإلهية، لأن الحال كما قدمنا يدلّ على الاستمرارية، ولا ريب أن عطفه ـ أي النصّ ـ على (ويستضعف) غير سديد لاختلاف التوجيه في الرفع والنصب، وبذلك يستقيم النصّ إعرابياً.
{قُرَّةُ عَيْنٍ} ((2))
قال مكي: " رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو قُرَّة عَيْنٍ لي. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر (لا تقتلوه) . ويجوز نصبه بإضمار فعل يفسره (لا تقتلوه) تقديره: اتركوا قُرَّة عَيْنٍ لا تقتلوه " ((3)) .
وقال ابن الأنباري: " (قُرَّة عَيْنٍ) مرفوع من وجهين: أحدهما أن يكون مرفوعاً لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو قُرَّة عَيْنٍ. والثاني: أن يكون مرفوعاً لأنه مبتدأ، و (لا تقتلوه) خبر " ((4)) .
__________
(1) الكَشَّاف: 3 /165.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 9.
(3) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 547.
(4) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 229 –230.

(1/71)


وقال النّحاس: " قال الكسائي: المعنى هذا قُرَّة عَيْنٍ لي ولكَ، وقال أبو جعفر: وفي رفعه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسْحًاق: يكون رفعاً بالابتداء والخبر (لا تقتلوه) ، وإنما بَعُدَ لأنه يصير المعنى: إنه معروف بأنه قُرَّة عَيْنٍ له، وجوزاه أن يكون المعنى: إذا كان قُرَّة عَيْنٍ لي ولك فلا تقتلوه، ولم تقل نقتله، وهي تخاطب فرعون كما يخاطب الجبارون، وكما يخبرون عن أنفسهم (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) يكون لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون لقوم فرعون، أي: لا يشعرون أن يسلبهم مُلكهم ((1)) .
وقال العكبري: " أي هو قُرَّة عَيْنٍ و (لي ولك) صفتان لـ (قُرَّة) " ((2)) .
وقال أبو حيان: " و (قُرَّة) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو قُرَّة، ويبعد أن يكون مبتدأ والخبر (لا تقتلوه) " ((3)) .
وقال الحلبي: " (قُرَّة عَيْنٍ) فيها وجهان أظهرهما أنه خبر مبتدأ أي: هو قُرَّة عَيْنٍ. والثاني ـ وهو بعيد جداً ـ أن يكون مبتدأ والخبر (لا تَقْتُلُوهُ) وكأن هذا القائل حقه أن [لا] يذكر فيقول لا تَقْتُلُوها إِلاَّ أنه لما كان المراد مذكراً ساغ ذلك " ((4)) .
وعلى الرغم من هذا الخلاف الواسع في إعراب (قُرَّة عَيْنٍ) فإن جعل المضاف والمضاف إليه رفعاً على المبتدأ والخبر مما يستقيم به النص في دلالاته، وذلك أن الرفع أقوى تقديراً من حالتي النصب والجر وكون المرفوع المبتدأ مضافاً لا يستلزم له تقدير محذوف أو محذوفين، على رأي الكسائي في تقديره، وأبي حيان في تقديره أيضاً، فإهمال التقدير في إعراب أوجه من تكلف ما لا يحتاجه النص القرآني التام.
__________
(1) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 543- 544.
(2) التبيان في إعراب القرآن: 1/ 176.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 106.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332 – 333.

(1/72)


وإن هذا الاختلاف في إعراب (قُرَّة عَيْنٍ) يستنتج منه أن جعل الجملة (مضافاً ومضاف إليه) هو أرجح الأقوال عندنا لأنه يدلّ على القوة في إقناع امرأة فرعون لفرعون بدلالة الرفع دون أن نقدر أي محذوف.
{لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (أن) في موضع رفع والجواب محذوف " ((2)) .
وقال النَّحَّاس: " (أنْ في موضع رفع، وحُذف الجواب لأَنَّهُ قد تقدم ما يدلّ عليه، ولا سيما وبعده {لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} " ((3)) .
وقال السمين الحلبي: " جوابها محذوف، أي: لأبدت {لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} متعلق بـ (ربطنا) ، والباء في (به) مزيدة، أي: لتُظْهِرَه. وقيل: ليست زائدة بل سببية، والمفعول محذوف أي: لتُبْدي القول بسبب موسى أو بسبب الوحي، فالضمير يجوز عوده على موسى أو على الوحي " ((4)) .
ونحن نرى أن المعنى الذي أوجبه اختلاف موضع التقدير في مرفوع (أن) يتوجه إِلى أَنَّ أم موسى اطمأنت بإيمانها بالربط على قلبها دون أنْ نقدر المحذوف الذي قدره ابن السَّمِين الحَلَبِي (أبدت) لأَنَّهُ يخل بالمعنى، وفيه زيادة على النص لا داعي لها.
{بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((5))
قال مكي بن أبي طالب: " (أشدّه) عند سيبويه وزنه أَفْعُل، وهو عنده جمع شدّة، كنعمة وأنعم، وقال غيره هو جمع شدّ من قدّ واقد. وقيل: هو واحد وليس في الكلام اسم مفرد على أفعل بغير هاء إلا اصبعاً في بعض لغاته " ((6)) .
وقال الأَنْبَارِي: " أشد جمع فيه ثلاثة أوجه:
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 10.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(3) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 544.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 333.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 14.
(6) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.وينظر إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2 /545.

(1/73)


الأول: أن يكون جمع (شِدّة) كنِعْمَة وأنعم، وأصل أشدّ أشدُد على وزن أفعل، إلاَ أَنْه اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد في كلمة واحدة، فسكنوا الأول وأدغموه في الثاني.
وقيل: أشدّ جمع شدّ نحو قدّ وأقُدّ
الثالث: أن يكون واحد ليس في الأسماء المفردة ما هو على وزن أفعُل ألا أصبع في بعض اللغات" ((1)) .
والاختلاف الصرفي في تقدير وزن (أشده) إنما يستقيم تصريفه على رأي سيبويه في جعله له جمع شدة خلافاً للباقين الذين قدروا فيه عدة وجوه، منها ألا يكون له جمع كما ذكر ابن الأَنْبَارِي، وكذلك زعمهم أنه على زنة أفعل، وكل ذلك تكلف في التقدير الصرفي، أما إعرابه فهو مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، وتقديره هو، أي: لما بلغ أشده هو على رأي النحاة.
{يَقْتَتلاَنِ} ((2))
قال السمين الحلبي: صفة لرجلين. وقال ابن عطية: حال منهما وسيبويه وإن كان جَوَّزَها من النكرة مطلقاً إلاَ أَنْ غيره ـ وهم الأكثر ـ يشترطون فيها ما سيُسَوِّغُ الابتداء بها ((3)) .
إِنَّ دلالة كون (يقتتلان) في الاختلاف الإعرابي ذات توجيه للمعنى كون إعراب الكلمة صفة أبلغ من إعرابها حالاً، والرأي الذي ذكره سيبويه فيه توجيه للمعنى كون النكرة المطلقة تفيد عموم القتال بين الاثنين، وإن كانت العرب لا تجوز الابتداء بالنكرة في ذلك.
__________
(1) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 15.
(3) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 335. وينظر المُحَرِّر الوَجِيْز في تَفْسِير الكِتَاب العزيز (المعروف بتفسير ابن عطية) . عَبْد الحق الغرناطي الأندلسي ابن عطية أبو مُحَمَّد. ت 541 هـ. تحقيق: عَبْد الله بن إبراهيم الأنصاري. ورفيقه مؤسسة دار العُلُوْم. الدوحة. ط1. 1404 هـ. 1984 م: 12 /151.

(1/74)


يعدّ رأي سيبويه الراجح في أَنَّ التوجيه الدلالي للمعنى أنما جعل الصفة أبلغ من الحال والمعلوم أَنَّ يقتتلان فيه فعل مطاوعة ومشاركة فيقارب المعنى أن يكون عموم القتال في كون الصفة أنما لازمت (يقتتلان) بدلالة الآية الأخرى حيث كان الإسرائيلي يقاتل القبطي الآخر مرة أخرى، فدلّ ذلك على ملازمة صفة القتال عدة مرات للإسرائيلي أي إن القتال صار طبعاً له.
{وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " أي من أعدائه، ومعناه إذا نظر إليهما الناظر قال ذلك " ((2)) .
وقال الأَنْبَارِي: " أراد بهما حكاية حال كانت فيما مضى كقوله تعالى:
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} ((3)) ، فأعمل اسم الفاعل وإن كان لماضي على حكاية الحال من (عدوه) ، أي: من أعدائه، وهو يصلح للواحد والجمع " ((4)) .
وقال النَّحَّاس: " ابتداء وخبر، والمعنى إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته، أي: من بني إسرائيل {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ، أي: من قوم فرعون، وعدوّه بمعنى أعداء، وكذا يقال في المؤنث: هي عدو لك ومن العرب من يدخل الهاء في المؤنث هي عدو لك، لأنه بمعنى معادنه عند البصريين وعند
الكوفيين " ((5)) .
إن رأي ابن الأَنْبَارِي يفيد معنى الدوام كون الحال لما مضى يفيد الدوام. إن جذور العداء بين القبط وبني إسرائيل متأصلة في القدم، أما رأي النَّحَّاس فيفيد قصر المعنى على المبتدأ والخبر في وقته ـ أي وقت موسى (- عليه السلام -) ـ فكانت الرسالة الإعرابية في كون {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} للحال الماضي أبلغ وأتم لواقع النص القرآني.
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 15.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(3) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 18.
(4) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230.
(5) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 546.

(1/75)


قال النَّحَّاس: " فيه قولان أحدهما أنه بمعنى الدعاء، وهذا قول الكسائي، والفرّاء. وقدّره الفرّاء بمعنى اللهم فلن أكون ظهيراً للمجرمين والقول الآخر
أَنه بمعنى الخبر. وقال أبو جعفر: إِنْ يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق
الكلام " ((1)) .
وقال العكبري: " (بما أنعمت) يجوز أن يكون قسماً والجواب محذوف، و (فلن أكون) تفسير له، أي: لأتوبنّ، ويجوز أنْ يكون استعطافاً، أي: كما أنعمت عليّ فاعصمني فلن أكون " ((2)) .
وقال الزمخشري: " يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف تقديره أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبنّ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} وأن يكون استعطافاً كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين " ((3)) .
{بِمَا أَنْعَمْتَ} يجوز في الباء أن تكون قسماً والجواب لأتوبنَّ مقدراً ويفسره (فَلَنْ أَكُونَ) وأن تكون متعلقة بمحذوف ومعناها السببية، أي: اعصمني بسبب ما أنعمت به عليّ، ويترتب عليه قوله {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} . و (ما) مصدرية، أو بمعنى الذي والعائد محذوف. وقوله: (فَلَنْ) نفي على حقيقته. وزعم بعضهم أَنه دعاء، وأَنَّ (لن) واقعة موقع (لا) ، وأجاز قوم ذلك مستدلين بهذه الآية، وبقول الشاعر ((4)) :
لنْ تزالوا كذاكُمْ ثُمَّ لا زِلتَ لهم خالداً خُلود الجبالِ ((5))
__________
(1) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 547.
(2) التبيان في إعراب القرآن: 1/ 177.
(3) الكَشَّاف: 3 /169.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 335.
(5) البيت للأعشى، ينظر ديوان الأعشى. تحقيق: المحامي فوزي عطيوي. الشركة اللبنانية للكتاب. بيروت. لبنان 1968 م: ص 169.

(1/76)


والذي أراه أَنَّ الراجح هو رأي من قال إن الجملة (قسم) بدلالة الباء في
(بما) وليس استعطافاً دعائياً وإن احتملت الجملة ذلك، وسبب ترجيحنا لكون (بما أنعمت) دعاء هو أن الباء باء القسم التي تجر (ما) في كلّ حالاتها.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (خائفاً) خبر (أصبح) وإن شئت على الحال، و (في المدنية) خبر " ((2)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " (خائفاً) منصوب لأنه خبر (أصبح) ، ويجوز أن يكون (في المدينة) خبرها، و (خائفاً) منصوب على الحال " ((3)) .
قال السمين الحلبي: " (يترقب) يجوز أن يكون خبراً ثانياً وأن يكون حالاً ثانية، وأن يكون بدلاً من الحال الأولى، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضمير في (خائفاً) فتكون متداخلة. ومفعول (يترقب) محذوف، أي: يترقب المكروه أو الفرج أو الخبر هل وصل لفرعون أم لا؟ " ((4)) .
ونحن نرجح الرأي الذي يجعل الجملة حالية لأنها أقوى في دلالة المعنى من كلّ الآراء الأخرى، لأن الحال يدلّ على الاستمرارية في كون فترة بقائه (- عليه السلام -) في المدينة كلّ الوقت بخوف وتوجس، فلو أعربناها صفة لكان المعنى أَنه خاف مرة وترقب مرة، وهذا ما لا يدلّ عليه النصّ القرآني.

{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ((5))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230- 231. وينظر إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 547.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 336.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.

(1/77)


قال مكي بن أبي طالب: " (الذي) مبتدأ وما بعده صلته، و (يستصرخه) الخبر، ويجوز أن تكون إذاً هي الخبر و (يستصرخه) حال " ((1)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " (الذي) في موضع رفع لأنه مبتدأ. وفي خبره وجهان:
أولهما ـ أن يكون خبره (يستصرخه) .
ثانيهما ـ أن يكون خبره (إذا) و (يستصرخه) في موضع نصب على الحال " ((2)) .
قال النَّحَّاس: " (أمس) إذا دخلت عليه الألف واللام تمكنّ وأعرب عند أكثر النحويين، ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام، وإذا أضيف أو نُكِرَ تمكن أيضاً، والصلة في بنائه عند مُحَمَّد بن يزيد أن تصريفه ليس كتصريف المتمكنات، فوجب أنْ يبنى ولا يعرب، فكسر أخره لالتقاء الساكنين. ومذهب الخليل أن الياء محذوفة منه. وللكوفيين فيه قولان: أحدهما أنه منقول من قولهم أَمسى بخير، والآخر أن خِلقة السين الكسر، هذا قول الفراء، وحكى سيبويه وغيره أن من العرب من يجري أمسى مجرى ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة " ((3)) .
إِنْ إعراب (الذي) مبتدأ هو أوجه الأقوال لأن الرفع فيه يدلّ على الفاعلية، والخبر هو (يستصرخه) . والتقدير: الذي هو يستصرخه. وإنما حذف (هو) وجعل تقديراً.
وأما إعراب (بالأمس) فهو جار ومجرور في موضع الظرف الزمني حالاً، وهذا ما نذهب إليه هاهنا في كون المعنى دلّ على أن الذي استنصره في اليوم الماضي هو نفسه الذي استنصره اليوم، بسوء فعله في قتاله القبطي، فكان إعراب الآية في كونها في موضع الحال مما يدلّ على أن خلق الإسرائيلي هو هو لم يتبدل.
{قَالَ لَهُ مُوسَى} ((4))
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(2) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 231. وينظر إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 547.
(3) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 549.
(4) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.

(1/78)


قال أبو حيان: " الظاهر أن الضمير في (له) عائد على الذي {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} بكونك كنت سبباً في قتل القبطي بالأمس، قال ذلك على سبيل العتاب والتأنيب. وقيل: الضمير في (له) والخطاب للقبطي ودل عليه قوله (يستصرخه) ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي " ((1)) .
وقال القرطبي: " أي إنك لغويّ في قتال من لا تطيق دفع شره عنك " ((2)) .
الذي يدلّ عليه السياق الإعرابي أن المتكلم هو الإسرائيلي خلافاً لمن قال إنه القبطي لأن بعدها: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} ، فاستخدم الاستفهام و (أن) المصدرية هنا بعدها، والفعل الماضي مع تاء الخطاب، والجار والمجرور (بالأمس) فيدل على أن المتكلم هو الإسرائيلي الذي هو من شيعته، وليس القبطي، فما أدرى القبطي أن موسى قتل نفساً بالأمس، وهذا من توجيه الإعراب للمعنى في سُوْرَة الْقَصَصِ.
{يَسْعَى} ((3))
قال السمين الحلبي: " يجوز أن يكون صفة وأن يكون حالاً، لأن النكرة قد تخصصت بالوصف بقوله {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} ، فإن جعلت (مِنْ أَقْصَى) متعلقاً بـ (جاء) فـ (يسعى) صفة ليس إلا، قاله الزمخشري بناء على مذهب الجمهور، وتقدم أن سيبويه يجيز ذلك من غير شرط، وفي سورة (يس) قدّم {مِنْ أَقْصَى} على {رَجُلٍ} ((4)) لأنه لم يكن من أقصاها، وإنما جاء منها، وهنا وصفه بأنه من أقصاها وهما رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان " ((5)) .
__________
(1) البَحْر المُحِيْط: 7/ 110.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4981.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 20.
(4) سُوْرَة (يس) : الآية 20.
(5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 337.

(1/79)


إِنَّ الفعل المضارع (يسعى) هاهنا في إعرابه صفة لا يصلح دلالة أن يعرب عليها، بل إن إعرابه حالاً أبلغ في الدلالة الإعرابية من النعت، وهي في كلّ الأحوال متعلقة بالفعل الماضي، والفاعل (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) والدلالة الإعرابية أوضح في الحالية منها في الصفة.
يدلّ الفعل (يسعى) على أنه صفة للرجل، و (مِنْ أَقْصَى) متعلق به، وبـ (جاء) ، والرجل إنما قدم مرة واحدة، فكان إعراب ذلك صفة أوجب في دلالة المعنى ليدلّ على كون المجيء في وقت بعينه.
{تَذُودَانِ} ((1))
قال السمين الحلبي: (تَذُودَانِ) صفة لـ (امرأتين) لا مفعول ثاني، لأن
(وَجَدَ) بمعنى لقي، والذّودُ الطرد والدفع، وقيل: حَبَسَ ومفعوله محذوف أي تَذُودَانِ الناس عن غنمهما أو غنمها عن مزاحمة الناس (من دونهم) ، أي: من مكان أسفل من مكانهم.
وقال الزمخشري: " فإن قلت لم ترك المفعول غير مذكور في (يسقون) و (تَذُودَانِ) و (لا نسقي) ؟
قلت: لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، وكذلك قولهما: (لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) المقصود منه السقي لا المسقي ((2)) .
إِنَّ اختلاف إعراب (تَذُودَانِ) بين الصفة والمفعول خلاف لا يعتدّ به، لأَنَّ الرأي الذي يجعل الكلمة مفعولاً ثانياً بعيداً عن الدلالة، أما إعرابها صفة فهو الذي يجعل النصّ ظاهر المعنى، والصفة لـ (امرأتين) هي الأرجح إعرابياً.
{تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((3))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 23.
(2) ينظر الكَشَّاف: 3/ 169. الدُّرُّ المَصُون: 5/ 338.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 25.

(1/80)


قال مكي بن أبي طالب: " (تَمْشِي) في موضع الحال من إحداهما، والعامل فيه (جاء) و (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال من المضمر في (تَمْشِي) والعامل فيه (تَمْشِي) ، ويجوز أن يكون (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال المقدمة من المضمر في (قالت) والعامل فيه (قالت) ، والأول أحسن " ((1)) .
قال أبو حيان: " في الكلام حذف، والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما، و (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال، أي: مستحيية متحفزة " ((2)) .
إِنَّ الدلالة الإعرابية الممتزجة بمعاني البلاغة الكامنة في قوله تعالى:
{تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} واضحة جداً، فالدلالة الإعرابية للفعل المضارع ثُمَّ ما أعقبه من حروف الجر والمصدر المزيد بالألف والسين والتاء، وزيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ـ كما قال أهل العربية ـ كلّ ذلك جعل الجملة حالية ـ كما قال مكي بن أبي طالب رَحِمَه الله ـ وأجاد في هذا القول خلافاً لبعض من أعربها خلاف ذلك، ولا تعلق لـ (قالت) بما تقدم، فإن في ذلك تكلفاً في الإعراب وفي التقدير الإعرابي.
{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} ((3))
قال السمين الحلبي: " (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) في موضع نصب على الحال إما من الفاعل أو من المفعول، أي: مشروطاً عليّ أو عليك ذلك و (تَأْجُرَنِي) مضارع أجَرْتُه: كنت له أجيراً، ومفعوله الثاني محذوف، أي: تَأْجُرَنِي نفسك. و (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرف له ((4)) .
ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني ((5)) .
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542 – 543.
(2) البَحْر المُحِيْط: 7/ 114.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 27.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7/114.

(1/81)


قلت: الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه، وإنما جعلها مفعولاً ثانياً على وجه أخر، وأما على هذا الوجه فلم يجعلها غير ظرف، وهذا نصّه ليتبين لك، قال: " تَأْجُرَنِي من أَجَرْتُه كنت له أجيراً كقولك: أَبَوْتَه إذا كنت له أباً، و (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرف أو مِنْ أجَرْتُه كذا إذا أثبته إياه، ومنه تعزية الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أجركم الله ورحمكم)) ((1)) ، و (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) مفعول به.
وكيف يستقيم ذلك أو يتجه؟ وانظر إلى الزمخشري كيف قدّر مضافاً ليصبح المعنى به، أي: رعي ثَمَانِيَ حِجَجٍ لأن العمل الذي تقع به الإنابة لا نفس الزمان فكيف يوجه الإجارة على الزمان " ((2)) ؟
إِنَّ الجملة الإعرابية (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) انما كانت منصوبة الإعراب نحواً ولغة لأن مفهوم النصّ في إعرابها حالاً هو الأقوى في العربية من إعرابها صفة، فكما قدمنا أن الحال أقوى في الاستدلال به من أي ظاهرة أخرى، لأن الحال للدوام المتجدد، لذلك كان قوله (أَنْ تَأْجُرَنِي) حال من المصدر (إيجارك لي) ، وهو أبلغ في السياق.
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " (ذلك) مبتدأ وما بعده خبره، ومعناه عند سيبويه ذلك بيننا " ((4)) .
وقال الزمخشري: " (ذلك) مبتدأ و (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) خبره، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب، يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشاطرتني عليه" (5) .
__________
(1) لم اقف عليه في كتب الحديث. وقد ذكره الزمخشري في الكَشَّاف: 3 /172.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339. وينظر أيضاً الكشاف: 3 /172.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 28.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543.
(5) الكَشَّاف: 3 /173.

(1/82)


إِنَّ دلالة الفعل الماضي (قال) في اقترانه بالمبتدأ يدلّ على استمرارية العهد في الإيجار، وتقدير سيبويه (ذلك بيننا) مبتدأ وخبر هو التقدير الأصوب لأنه يدلّ على العهد بين الاثنين، لأن موسى (- عليه السلام -) وفقاً لهذه الآية إنما أتم الإيجار الأوفى الأتم والأكمل لقوله (بيني وبينك) على ما يدلّ عليه السياق الإعرابي للعهد الذي تقدم ذكره.
{أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " نصبت (أي) بـ (قضيت) ، و (ما) زائدة للتأكيد وخفضت (الأجلين) بإضافة أي إليهما. وقال ابن كيسان: (ما) في موضع خفض بإضافة (أي) إليها، وهي نكرة، و (الأجلين) بدل من (ما) " (2) .
وقال الزمخشري: " وفي قراءة عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُود: (أيّ الأجلين مَا قضيت) ، وقريء (أيْما) بسكون الياء … فإن قلت: ما الفرق بين موقعي (ما) المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام أي زائدة في شياعها، وفي الشاذة تأكيد القضاء كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه " ((3)) .
وقال القرطبي: " (أيما) استفهام منصوب بـ (قضيت) و (الأجلين) مخفوض بإضافة (أي) إليهما، و (ما) صلة للتأكيد، وفيه معنى الشرط وجوابه (فلا عدوان) ، وأن (عدوان) منصوب بـ (لا) " ((4)) .
(أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ) (أي) شرطية وجوابها (فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ) وفي (ما) هذه قولان:
أشهرهما أنها زائدة كزيادتها في أخوتها من أدوات الشرط، والثاني أنها نكرة، و (الأَجَلَيْنِ) بدل منها ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 28.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543. البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 231.
(3) الكَشَّاف: 3/ 174.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4995.
(5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339.

(1/83)


إِنَّ إعراب (أي) مفعولاً مقدماً هو الوجه الراجح، أما كون (ما) زائدة، فلسنا ممن يقول بالأحرف الزائدة في الَقُرْآن الكَرِيم، وهي مضافة إلى الأجلين، والتقدير: أي الأجلين، وليست مضافة إلى (ما) لأن دلالة ما اخترناه من الإعراب تزيل الإشكال الإعرابي الموجود، وبذلك تستقيم الجملة في دلالتهما الإعرابية في موقعها ليكون المعنى: أي أجل من الأجلين اخترته فهو لك بالخيار، وهذا مما يوجه المعنى نحوياً.
{أَنْ يَا مُوسَى} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (أن) في موضع نصب بحذف حرف الجر، أي: بأن يا موسى " ((2)) .
إننا نرى أن (أن) هنا منصوبة على تقدير (أعني) لا على تقدير (حذف حرف الجر الباء) فذلك تكلف، وبما اخترناه يكون جعلها منصوبة أوجه في العربية ليستقيم فهم المعنى بنصبها نحوياً ليكون المعنى أكثر قوة من حذف حرف الجر بتقدير (النداء) .
{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " هو تثنية (ذا) المرفوع، وهو رفع بالابتداء، وألف (ذا) محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ومن قرأه بتشديد النون فإنه جعل التشديد عوضاً من ذهاب ألف (ذا) … إنما شدد النون في هذه المبهمات ليفرق بين النون التي هي عوض من حركة وتنوين، أو من تنوين، وذلك موجود في الواحد، أو مقدر فيه … وقيل: شددت للفرق بين النون التي تحذف في الإضافة، والنون التي لا تحذف في الإضافة أبداً، وهي نون تثنية المبهم " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543. وينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4999.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 32.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 544 – 545.

(1/84)


وقال القرطبي في تعليل تشديده خمسة أقوال: " قيل: شدّد النون عوضاً من الألف الساقطة في (ذَانِكَ) الذي هو تثنية (ذا) المرفوع، وهو رفع الابتداء، وألف (ذا) محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين لأن أصله (فَذَانِكَ) ، فحذف الألف الأولى عوضاً من النون الشديدة. وقيل: التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك وقيل: إن من شدّد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك، فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية، ثُمَّ أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الأول، والأصل أن يدغم الأول أبداً في الثاني إلاّ أن يمنع من ذلك علة، فيدغم الثاني في الأول، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة، فيتغير لفظ التثنية، فأدغم الثاني في الأول لذلك، فصار نوناً مشددة. وقد قيل: إنه لما تنافى في ذلك أثبت اللام قبل النون، ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام، فصار نوناً مشددة. وقيل: شددت فرقاً بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه، لأن (ذان) لا يضاف. وقيل: للفرق بين الاسم المتمكن وبينها " ((1)) .
وقد أختلف المعربون في تقدير إعراب (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ) فقيل: إنهما رفعا بالابتداء والخبر. أما تشديد النون فهو قراءة، والقراءة سنة متبعة، والتشديد قد يدلّ في العربية بزيادته على زيادة في المعنى غير موجودة في التحقيق، وتقدير الجملة: هذان برهانان، ولكن النون والكاف الإشارية أبلغ مما قدرناه وبهما جاء النص القرآني.
{فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً} ((2))
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5002.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 34.

(1/85)


قال مكي بن أبي طالب: " (ردءاً) حال من (الهاء) في (أرسله) وكذلك (يصدقني) حال في قراءة من رفعه، أو نعت لـ (ردءاً) ، ومن جزمه فعلى جواب الطلب " ((1)) .
وقال القرطبي: " أختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في (أرسله) ، أي: أرسله ردءاً مصدقاً حالة التصديق، ويجوز أن يكون صفة لقوله (ردءاً) " (2) .
تقدير (ردءاً) حالاً هو الوجه المستقيم في الدلالة الإعرابية، لهذه الآية، أما (يصدقني) فهي صفة (نعت) وليست حالاً كما زعم بعضهم وليست مجزومة إلاّ في بعض القراءات، والقراءة سنة متبعة لا تناقش ولا تعلل، إلاَ أَن دلالة فعل الأمر الطلبي في الدعاء (فأرسله) ، وجعله حالاً لـ (يصدقني) قد يحمل بعض معاني الإلحاح في الطلب من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يتوجه له إعراب الآية في دلالتها.
{بِآيَاتِنَا} ((3))
قال السمين الحلبي: (بِآيَاتِنَا) يجوز فيه أوجه: أن يتعلق بـ (جعل) أو بـ (يصلون) وبمحذوف، أي: أذهب، أو على البيان، فيتعلق بمحذوف أيضاً، أو بـ (الغالبون) على أن (أل) ليست موصولة أو محولة، واتبع فيه ما لا يتبع في غيره، أو قسم وجوابه متقدم، وهو (فلا يصون) أو من كَفْوِ القسم قالهما الزمخشري، ورد عليه أبو حيان بأن جواب القسم لا يدخله الفاء عند الجمهور، ويريد بالقسم أن جوابه محذوف، أي: وحق آياتنا لتغلبن ((4)) .
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /545.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5004.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 35.
(4) ينظر الكَشَّاف: 3 /176. البَحْر المُحِيْط: 7/ 115. الدُّرُّ المَصُون: 5/ 345.

(1/86)


الوجه أن تعرب (بِآيَاتِنَا) متعلقة بالجار والمجرور، والضمير الخاص بالمتكلمين هو أكثر دلالة في العربية على كون الآيات مستمرة في السريان على يد موسى (- عليه السلام -) وأخوه من فرعون وملأه بآيات الله، وإنما صيغت الجملة على صيغة التعظيم والتفخيم لتكون أكثر دلالة.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " انتصب (يوم) على أنه مفعول به على السعة، كأنه قال: واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة، ثم حذفت اللعنة لدلالة الأولى عليها، وقام يوم قيامها، وانتصب انتصابها ويجوز أن تنصب اليوم على أن تعطفه على موضع في هذه الدنيا … ويجوز نصب (يوم) على أنه ظرف للمقبوحين، أي: وهم من المقبوحين يوم القيامة ثم قدم الظرف " ((2)) .
وزاد ابن الأَنْبَارِي على ما تمّ ذكره أن يكون منصوباً بما يدلّ عليه قوله
(مِنْ الْمَقْبُوحِينَ) لأن الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول " ((3)) .
والذي يبدو لي أن إعرابه ظرفاً أرجح لدلالته الظرفية.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ}
قال السمين الحلبي: فيه أوجه:
أحدهما أن يتعلق بـ (الْمَقْبُوحِينَ) على أن (أل) ليست موصولة واتسع فيها، وأن يتعلق بمحذوف يفسره (الْمَقْبُوحِينَ) كأنه قيل: وقُبِّحُوا يوم القيامة نحو: {لِعَمَلِكُمْ مِنَ القَاليْنَ} ((4)) أو يعطف على موضع (في الدنيا) ، أي: واتبعناهم لعنة يوم القيامة، أو معطوفة على (لعنة) على حذف مضاف، أي: لعنة يوم القيامة.
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 42.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 545- 546.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /34. وينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5006.
(4) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 168.

(1/87)


والوجه الثاني أظهرها، والمقبوح المطرود قبحه الله وطرده ((1)) .
تدلّ الآية في سياقها الإعرابي على أن الظرف (يوم) أعطى لمعنى الآية معنى أخر، هو أن الكفرة قبحوا يوم القيامة بما ارتكبوه في الدنيا بدلالة (هم) مع الظرف الزماني.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} ((2))
قال مكي بن أبي طالب: " نصب كله على الحال من (الكتاب) " ((3)) . وقال أبو حيان: " (بصائر) على الحال، أي: طرائق هدى يستبصر بها " ((4)) .
إن إعراب (بَصَائِرَ) و (هدى) و (رحمة) أحوالاً متوالية متتالية هو الصواب في الدلالة الإعرابية، أما موسى (- عليه السلام -) فمفعول أول، و (الكتاب) مفعول ثانٍ، و (القرون) مفعول به و (الأولى) صفة له، والتقدير: نحن أنزلنا على موسى ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ التوراة بعد هلاك الأمم بصائر وهدى ورحمة. فاستغنى اللفظ القرآني المعجز عن هذه الإطالة بما أنزله الله جَلَّ جَلاَله، وهذا بعض ما دلت عليه الدلالات الإعرابية للآية.
{وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ((5))
__________
(1) الدُّرُّ المَصُون: 5 /445.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 43.
(3) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 546.
(4) البَحْر المُحِيْط: 7/ 121.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 46

(1/88)


قال مكي بن أبي طالب: " انتصبت الرحمة على المصدر عند الأخفش بمعنى: ولكن رحمك ربك يا محمد رحمة، وهو مفعول من أجله عند الزجاج، أي: ولكن للرحمة فعل ذلك، أي: من أجل الرحمة. وقال الكسائي: هي خبر (كان) مضمرة بمعنى: ولكن كان ذلك رحمة من ربك. ويجوز في الكلام الرفع على معنى: ولكن هي رحمة " ((1)) .
والذي أراه أنه قد نصبت (الرحمة) على المصدر لتدلّ على توالي الرحمة الإلهية على رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال النصب في المصدر.
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} ((2))
قال أبو البقاء: " عدّاه بنفسه، لأن معنى (نمكن) : نجعل. وقد صرّح به في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} ((3)) ، أي: من الخسف. و (مكن) متعد بنفسه من غير أن يضمن معنى جعل كقوله: {مَكَّنَّاهُمْ} ((4)) . و (آمِنًا) قيل: بمعنى مُؤمن أي يُؤمن من دخله. وقيل: هو على حذف مضاف، أي: أمنا أهله. وقيل: فعل بمعنى السبب، أي: ذا أمن " ((5)) .
والذي أراه أن التعدية بنفس الفعل الذي هو بمعنى صيّر وجعل، لأن (مكن) من الأفعال المتعدية، وهو الأصوب، ويعرب (نمكن) فعلاً مضارعاً و (حرماً آمنا) مفعول، وصفته التابعة له في النعت بمعنى أن المعنى الجديد هو إبراز منة الله عَزَّ وجَلَّ على أهل مكة في أمان الحرم وما تأتيه من الأرزاق، وهذا من دلالات الإعراب.
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /564. وينظر الكَشَّاف: 3 /182. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5008.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 57.
(3) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 67.
(4) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 6. سُوْرَة الْحِجْرِ: الآية 41. سُوْرَة الأحقاف: الآية 26.
(5) التبيان في إعراب القرآن: 2 /179. وينظر الدُّرُّ المَصُون: 5/ 349.

(1/89)


{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " المعيشة نصب عند المازني على حذف حرف الجر تقديره: بطرت في معيشتها. وقال الفراء: هي نصب على التفسير. وهو بعيد، لأنها معرفة، والتفسير لا يكون إلا نكرة. وقيل: هي نصب بـ (بطرت) ، وبطرت بمعنى جهلت، أي: جهلت شكر معيشتها، ثُمَّ حذف المضاف " ((2)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " ولا يجوز أن يكون منصوباً على التمييز لأن التمييز لا يكون إلا نكرة، و (مَعِيشَتَهَا) معرفة " ((3)) .
وقال القرطبي: " وانتصبت (مَعِيشَتَهَا) إما بحذف الجار والمجرور وإيصال الفعل، وإما على الظرف بنفسها كقوله: زيد ظني مقيم، أو بتقدير حذف الزمان لمضاف، أصله بطرت أيام معيشتها " ((4))
إِنَّ الجملة (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) هي فعل ماضٍ، وتاء المؤنث المحكي عنها، وهي فاعل، والمعيشة مفعول به، والضمير (هي) في محل نصب، وهذا التقدير يستقيم به دلالة (كفران النعمة) المرادة من (بطر المعيشة) وهذه الجملة مما اختلف فيه المفسرون لأنه مشكل إعرابياً، وإن كنا لا نرى ذلك خلافاً لمن رآه، وذلك يدلّ على الاستمرارية في الزمان والمكان أي أن كلّ قرية تبطر سيهلكها.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((5))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /546.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /235.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3 /186.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 68.

(1/90)


قال مكي بن أبي طالب: " (ما) الثانية للنفي لا موضع لها من الإعراب. وقال بعض العلماء كالطبري: هي في موضع نصب بـ (يختار) ، وليس ذلك بحسن في الإعراب، لأنه لا عائد يعود على ما في الكلام. وهو أيضاً بعيد في المعنى والاعتقاد، لأن كونها للنفي يوجب أن تعم جميع الأشياء … وإذا جعلت (ما) في موضع نصب بـ (يختار) لم تعمّ جميع الأشياء على أنها مختارة لله … وهذا هو مذهب القدرية والمعتزلة، فكون (ما) للنفي أولى في المعنى، وأصح في التفسير، وأحسن في الاعتقاد، وأقوى في العربية، ألا ترى أنك لو جعلت (ما) في موضع نصب لكان ضميرها في كان اسمها، ولوجب نصب الخيرة، ولم يقرأ بذلك أحد … وهذه الآية تحتاج إلى بسط كثير " ((1)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " (ما) الأولى اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب لأنها مفعول (يخلق) ، و (ما) الثانية نافية ولا موضع لها من الإعراب " (2) .
وقال الزمخشري: " فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت (ما) موصولة؟
قلت: أصل الكلام ما كان لهم فيه الخيرة فحذف فيه كما حذف منه قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ((3)) " ((4)) .
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 547- 548.
(2) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /235.
(3) سُوْرَة لُقْمَان: الآية 17. سُوْرَة الشُّورَى: الآية 43.
(4) الكَشَّاف: 3/ 188.

(1/91)


وقال القرطبي: " والوقف التام على (ويختار) . وقال علي بن سليمان: هذا وقف التمام ولا يجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) ، لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد عليها شيء. قال: وفي هذا ردّ على القدرية. قال النحاس: التمام: ويختار، أي: ويختار الرسل {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ، أي: ليس يرسل من اختاروه هم. قال أبو إسحاق: ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) ، ويكون المعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة.
وقال القشيري: الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله: (ويختار) .
وقال المهدوي ـ وهو أشبه بمذهب أهل السنة ـ: و (ما) من قوله:
{مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى اكتسابه بقدرة الله عز وجل.
وأجاز الزجاج، وغيره: أن تكون (ما) منصوبة بـ (يختار) ، وأنكر الطبري أن تكون (ما) نافية لئلا يكون المعنى: إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى، وهي لهم فيما يستقبل، ولأنه لم يتقدم كلام بنفي.
قال المهدوي: ولا يلزم ذلك، لأن (ما) تنفي الحال والاستقبال كـ (ليس) ، ولذلك عملت عملها … فـ (ما) على هذا لمن يعقل، وهي بمعنى الذي.
و (الخيرة) رفع بالابتداء، و (لهم) الخبر، والجملة خبر كان وشبهه بقولك: كان زيد أبوه منطلق. وفيه ضعف إذ ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان، إلا أن يقدر فيه حذف، فيجوز على بعد " ((1)) .
قال السمين الحلبي: " {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} فيه أوجه:
الأول: أن (ما) نافية، فالوقف على (يختار) .
الثاني: (ما) مصدرية، أي: يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي: مختارهم.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3/ 5021 –5022.

(1/92)


الثالث: أن تكون بمعنى: الذي، والعائد محذوف، أي: ما كان لهم الخيرة فيه كقوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ((1)) ، أي: منه.
وجوز ابن عطية أن تكون تامة و (لَهُمْ الْخِيَرَةُ فيه) جملة مستأنفة قال: " ويتجه عندي أن تكون (ما) مفعولة، إذا قدرنا (كان) تامة، أي: إن الله يختار كلّ كائن و (لَهُمْ الْخِيَرَةُ) مستأنفة معناه تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم لو قبلوا، وجعل بعضهم في (كان) ضمير الشأن. وأنشد:
أمِن سُمَيَّةَ دَمْعُ العين ذَرِيفُ لَو كان ذا منك قبل اليوم معروف ((2))
ولو كان (ذا) اسمها لقال معروفاً " ((3)) . وابن عطية منع ذلك في الآية قال: لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف.
قلت: كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف، وضمير الشان لا يفسر إلا بجملة مصرح بجزئيها، إلا أن في هذا نظر إن أراده، لأن هذا الجار قائم مقام الخرب، ولا أظن أحداً يمنع هو السلطان في البلد، وهي هند في الدار، و (الخيرة) من التخيير كالطيرة من التطير، فيستعملان استعمال المصدر.
قال الزمخشري: " ما كان لهم الخيرة بيان لقوله (ويختار) لأن معناه: ويختار ما يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى أن الخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها لا أحد من خلقه أن يختار عليه " ((4)) .
قلت: لم يزل الناس يقولون أن الوقف على (يختار) والابتداء بـ (ما) على أنها نافية، وهو مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وهو رأي الطبري ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الشُّورَى: الآية 43.
(2) ديوان عنترة بن شداد العبسي، الطبعة الثانية. دار صادر. بيروت. لبنان. 1967 م: ص 53.
(3) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 351. المحرر الوجيز: 12 /181.
(4) الكَشَّاف: 3 /188.
(5) جامع البيان: 10 /95.

(1/93)


لقد تقدم اختلاف المعربين في هذه الآية، فاختلاف الإعراب هنا يوجب اختلاف العقيدة، حسب الدلالات المطلوبة من التقدير، والذي نرجحه في ذلك رأي الطبري، وهو الأقرب في التأويل إلى مهب أهل السنة والجماعة، دون غيره في جعل الآية الثانية (مَا كَانَ) في موضع نصب بـ (يختار) لأن تقدير الطبري يكون لدلالة الآية بجعلها تدلّ على أن لا خيار للإنسان في الخلق خلافاً للمعتزلة الذين يوافقون القدرية والفلاسفة في خلق الإنسان لفعله، وبذلك استقام لنا النصّ وفق دلالته الإعرابية بما يعزز رأي أهل السنة والجماعة.
{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (ما) في موضع نصب بـ (آتيناه) مفعول ثاني، و (إن) واسمها وخبرها وما يتصل بها إلى قوله: {أُولِي الْقُوَّةِ} صلة
(ما) وواحد أولي: ذي " ((2)) .
وقال الأَنْبَارِي: " (ما) اسم موصول بمعنى: الذي، في موضع نصب بـ (آتيناه) وصلته (إن) وما عملت فيه وكسرت (إن) في الصلة لأن الاسم الموصول يوُصل بالجملة الاسمية والجملة الفعلية، و (إن) متى وقعت قي موضع يصلح للاسم والفعل كانت مكسورة، و (أولي) واحدها (ذو) من غير لفظها " ((3)) .
وقال القرطبي: " (إن) واسمها وخبرها في صلة (ما) ، و (ما) مفعوله (آتينا) " ((4)) .
وقال النَّحَّاس: " قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات أنه لا يجوز أن يكون صلة الذي وأخوانه (إن) وما عملت فيه، وفي الَقُرْآن {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} . وهو جمع مفتح " ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /548.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 236.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5027.
(5) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 558.

(1/94)


نحن نرى أن (ما) هنا تفسيرية خلافاً لمكي بن أبي طالب وسواه ممن جعلها في موضع نصب بـ (آتيناه) ، لأن كونها تفسيرية يجعل القطع في الجملة الجديدة يدلّ على عظم كنوز قارون، وهو الدلالة التضمينية للآية الشريفة.
{وَلاَ يُسْأَلُ} ((1))
قال السمين الحلبي: " هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت ورفع الفعل وأن تركه مرفوعاً يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون (المجرمون) خبر مبتدأ محذوف ي0 هم المجرمون.
الآخر: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في (ذنوبهم) لأنهما مرفوعا المحل" (2) .
إن قوله تعالى: {وَلاَ يُسْأَلُ} يدلّ على عدم السؤال لوجود (لا) النافية، فصار المعنى أن المجرمين لا يسألون بعد عقوبتهم، وذلك هو المعنى الإعرابي للفعل المضارع المنفي.
{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " (وَيْكَأَنَّ) أصلها (وي) منفصلة من الكاف. قال سيبويه عن الخليل في معناها: إن القوم انتبهوا أو نبهوا فقالوا: (وي) ، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته. وقال الفراء: (وي) متصلة بالكاف وأصلها: ويلك إن الله، ثم حذف اللام واتصلت الكاف بـ (أن) . وفيه بعد في المعنى والإعراب، لأن القوم لم يخاطبوا أحداً، ولأن حذف اللام من هذا لا يعرف، ولأنه كان يجب أن تكون (أن) مكسورة إذ لاشيء يوجب فتحها " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 78.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 353.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 82.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /548.

(1/95)


وقال الأَنْبَارِي: " منهم من قال (وي) منفصلة من (كان) وهي اسم سٌمِّي الفعل به، وهو (أعجب) ، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته وكأن الله لفظهُ لفظ التشبيه، وهي عارية عن معنى التشبيه، وهذا مذهب لخليل وسيبويه. وذهب الأخفش إلى أنَّ الكاف متصلة بـ (وي) وتقديره: ويك أعلم أن الله. و (ويك) كلمة تقرير، و (أن) مفتوحة بتقدير: أعلم. وهو كقولك للرجل: أما ترى إلى صنيع الله وإحسانه. وذهب الفرّاء إلى أَن (وي) متصلة بالكاف وأصله (ويلك) وحذفت اللام، وهو ضعيف لأن القوم لم يخاطبوا واحداً، ولأن اللام من هذا لا يُعرف " ((1)) .
وقال السمين الحلبي: قوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} (وَيْكَأَنَّ) فيه مذاهب منها:
الأول: إن (وي) كلمة برأسها، وهي اسم فعل معناها أعجب، أي: أنا والكاف للتعليل، و (أن) وما في خبرها مجرورة بها، أي: أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، وسمِعَ كما أَنه يعلم غفر الله له. قياس هذا القول أن يوقف على (وي) وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي، إلاَ أَنه ينقل عنه أَنه يعتقد في الكلمة أن أصلها (ويلك)
الثاني: قال بعضهم: (كأن) هنا للتشبيه إلاَ أَنه ذهب منه معناها وصارت للخبر والتيقن.
الثالث: إن (ويك) كلمة برأسها، والكاف حرف خطاب و (أن) معمولة لمحذوف، أي: أعلم أنه لا يفلح، قاله الأخفش.
الرابع: إن أصلها (ويلك) فحذف اللام، واليه ذهب الكسائي.
الخامس: إن (وَيْكَأَنَّ) كلها كلمة مستقلة بسيطة، ومعناها ألم تر وربما نقل ذلك عن ابْن عَبَّاس ((2)) .
__________
(1) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /237.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5 /354.

(1/96)


والخلاف في (وَيْكَأَنَّ) صرفي ـ نحوي في اشتقاقها وأصلها، ونحن نرجح من استعراض الأقوال السابقة أن أصل (وَيْكَأَنَّ) هو (وي) كلمة الندم، وكاف الخطاب، و (أن) المحذوف ما بعدها، وهو مفهوم رأي سيبويه ـ رَحِمَه الله ـ وما سوى ذلك فتكلف في التقدير وتمحل في الإعراب، وهي منصوبة أو مبنية على النصب على خلاف في ذلك، ولا فائدة في ترجيح أي من القولين فيه، لأن ذلك ما لا يزيد النص القرآني أي دلالة.
{إِلاَ رَحْمَةً} ((1))
قال السمين الحلبي: فيه وجهان:
" أحدهما: هو منقطع، أي: لكن رحمك رحمة.
والآخر: إنه متصل، قال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة، فيكون استثناءً من الأحوال أو من المفعول له " ((2)) .
والذي أراه أن المستثنى هاهنا في كونه منقطعاً يوازي كونه متصلاً على رأي الزمخشري ـ رَحِمَه الله ـ وإنما الاستثناء منقطع لأنه لم يتقدم في الكلام ما يدلّ عليه، فكان منقطعاً غير متصل، وأما كونه متصلاً فلتلحقه باستمرارية إنزال الكتاب، ونحن نرى أنه استثناء متصل أي أن إنزال الكتاب متعلق بالرحمة في إنزاله، وهو الرأي الذي نرجحه.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " انتصب الوجه على الاستثناء، ويجوز في الكلام الرفع على معنى الصفة كأنه قال: غير وجهه… كذلك جواز الآية " ((4)) .
قال القرطبي: " قال الزجّاج: (وَجْهَهُ) منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان: إلا وجهه بالرفع بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك " ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 86.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5 /355. وينظر أيضاً الكَشَّاف: 3 /194.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 88.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /549.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5038.

(1/97)


يجوز في هذه الآية رفع ونصب الوجه، وذلك أن الرفع يكون صفة، والنصب بأداة الاستثناء (إلاّ) ، ودلت الآية على أن الله عَزَّ وجَلَّ غير هالك، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل به، فيكون المعنى أن الكون بما فيه هالك إلا الله عَزَّ وجَلَّ، وإنما خصّ تعالى الوجه بالاستثناء للتعظيم. ومما تقدم يتضح لنا أن اختلاف الإعراب في الآيات المختلف في إعرابها بين النحاة، أكسب النص القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ آفاقاً جديدة في استفادة معانٍ أخرى، وهو ما يشعر بتجدد الفهم عند التفسير، وذلك لأن الاختلاف هو تجدد وتجديد في إضافة المعاني الجديدة التي تختلف بتعدد سياقات التوجيه الإعرابي بين النحاة، وهكذا فإن ما اختلفوا فيه وما قمت بترجيحه، تبعاً لقراءة سُوْرَة الْقَصَصِ هو إضافة جديدة للمعنى، يمكن أن تعين على تصور أدق لبعض المواضع (المشكلة إعرابياً) في سُوْرَة الْقَصَصِ.

المطلب الثالث: التوجيه المضموني في سورة القصص ودلالاته
يتعلق موضوع التوجيه المضموني بموضوع (الوحدة الموضوعية) وبتعبير أدق:
التوجيه المضموني:
هو " تحليل نص بإعادة صياغته من جديد وإبراز مكامن الاتصال فيه باعتباره وحدة عفوية متكاملة " ((1)) .
ويبدو أن هذا الموضوع متعلق كما نعتقده بما أسماه القدماء (تناسق وتناسب الآيات السور) ، وممن صنف فيه:
البقاعي.
السيوطي.
وكتاباهما مطبوعان وفيهما فوائد مهمة في بابهما ((2)) ، وقد ذكر السيوطي ذلك كله في الإتقان وأشاد به ((3)) .
ونحن نستفيد من الجمع بين التحليل التراثي والمعاصر لفهم كلي للنص القرآني، وبخاصة في موضوعنا هنا عن سورة القصص الشريفة.
__________
(1) المصطلحات النقدية. سليمة الحكيم. الطبعة الأولى. دار البيان. دمشق. 1989 م.: ص121.
(2) سبق الإشارة إليها ص 19.
(3) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2 /118.

(1/98)


قال بعض الباحثين: " لابدّ في تحليل أي سورة قرآنية من إدراك العلاقة بين آياتها وترابطها فيما بينها، والصلات بين أولها وآخرها، ومكامن الوحدة الموضوعية فيها وذاتيتها الخاصة " ((1)) .
ونحن في التوجيه المضموني لسورة القصص واجدون من ذلك الكثير. إذ تتميز سورة القصص بكونها ذات خصوصية في ترابط موضوعاتها بعضها مع بعض، بحيث أن القارئ يجد فيها انسياباً للمعاني وهي تصب في هدف واحد، على رغم أن السورة تنقسم على نصفين:
النصف الأول: خاص بقصة موسى (- عليه السلام -) .
النصف الثاني: خاص بتعداد آلاء الله عز وجل ونعمه، ثم تأتي في أواخر آيات السورة قصة الخسف بقارون لتعيد التذكير بأول القصة في أول السورة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} ((2)) ، فيتم بذلك التلاحم المضموني.
وقد فصل سليم سليمان فقال: تتميز آيات سورة القصص بأنها تمثل لوحة متكاملة المعالم واضحة الأطر، لا زيادة فيها ولا نقصان فيها فهي بذلك تسير وفق قواعد الوحدة الموضوعية ((3)) .
والبناء الموضوعي للسورة يعدّ في الذروة من الالتزام بعدم الخروج عن المعنى المراد إيصاله، فهي بذلك " نص متكامل " لا يمكن حذف شيء منه، ولا يمكن إضافة شيء إليه البتة، فقوله جل جلاله: {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} (4) له علاقة وطيدة بقوله تعالى فيها: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} ((5)) .
فتتجلى بعض مظاهر تلك العلاقة في الأمن الإلهي الذي حبى به موسى (- عليه السلام -) وقريش.
__________
(1) التحليل التطبيقي للنصوص: ص400.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(3) ينظر الوحدة الموضوعية: ص388.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.

(1/99)


وقد لاحظ الباحث ذلك ووجد أن البناء المضموني لسورة القصص يسير في اتجاه واحد، مثل قافلة من المعاني المتدفقة المتلاحقة، مما أكسب النص الإلهي إعجازاً إلى إعجازه، لأن هذه الصفات ليست من صفات البشر في كلامهم يعتريه النقص والاختلاف في مصادر موارده.
وأنى للبشر أن يكون له كلام متكامل مثل ما نجده في الربط الوحدوي واللغوي في قوله تعالى في سورة القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((1)) ، وقوله تعالى فيها أيضاً: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ((2)) ، وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةَِ} ((3)) ، فالآيات الثلاث على رغم اختلاف موضوعها في داخل السورة، يكمّل بعضها بعضاً، ويأخذ أحدها بمعنى الآخر في وحدة موضوعية شمولية ذات دلالة كلية كونها جميعاً آيات توحيد خالص.
المطلب الرابع: التوجيه البياني التفسيري في سُوْرَة الْقَصَصِ
إذا كان التحليل قد كشف عن سياق بناء النص، وإذا كان فهم الدلالة الإعرابية قد أوضح مفهوم النص، فإن التوجيه البياني يفيد في إيضاح ما أسماه أسلافنا ((4)) البيان التفسيري الذي يسمى أحياناً (البيان المبين) ، والمقصود به: " ما يستخرج من فهم بلاغة النص من المعاني الأخر " ((5)) ، لاجل ذلك أقتبسنا في هذا المبحث هذا المصطلح لفهم أدق لمجموعة الظواهر البلاغية الموجودة في سورة القصص، ولاستخراج ما فيها من كوامن المعاني.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 70.
(4) رسالة في البلاغة. ابن كمال باشا. تحقيق: نور الدين حسن. الطبعة الأولى. منشورات كلية الآداب. جامعة القاهرة. 1991 م: ص47.
(5) رسالة في البلاغة: ص 48.

(1/100)


ولا ريب أن التوجيه البياني معين على فهم إعجاز القرآن الكريم وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
" إن مباحث إعجاز القرآن قد اقترنت بمباحث البلاغة إقتراناً مشعراً بالدور المهم المكمل من أحدهما للآخر، وهكذا نشعر أن الغاية من علم البلاغة فهم وإدراك إعجاز القرآن، وأن الغاية من تحديد إعجاز القرآن تسطير مباحث ومضامين علم البلاغة " ((1)) . وقد عبر عن مثل ذلك وزاده ايضاحاً باحث أخر فقال: " والمتتبع للظواهر البلاغية الثلاثة البيان – المعاني – البديع.
وما تتضمنه من تفرعات وتقسيمات يلاحظ لأول وهلة بادىء ذي بدء أن لكلها شواهد من القرآن الكريم تدل على ما يتعلق بها من آيات تضمنت معانيها تلك المحسنات اللفظية والمعنوية، وهو الأمر الذي تنبه له الزمخشري في (الكشاف) ، والجرجاني في كتابيه (أسرار البلاغة) (ودلائل الإعجاز) " ((2)) .
__________
(1) مباحث في البلاغة والإعجاز. د. سعد خليفة أحمد. الطبعة الأولى. دار الأندلس. دمشق. 1984 م: ص88-89.
(2) الصلة بين إعجاز الَقُرْآن الكَرِيم وعلوم البلاغة. د. محمود مُحَمَّد محمود. الطبعة الأولى. مطبعة جامعة المعزى. (د. ت) .: ص 187.

(1/101)


والباحث يرى أن القدماء اهتموا بإبراز العلاقة بين سورة القصص والتوجيه البلاغي لظواهرها اللغوية، ومن أقدم النصوص في ذلك ما أورده القاضي الباقلاني اذ قال ـ رَحِمَه الله ـ في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ
الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، " هذه تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. وهي تشتمل على جملة وتفصيل وجامعة وتفسير، ذكر العلو في الارض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما، لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره " ((2)) ، ثم قال ـ رَحِمَه الله ـ عن قوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((3)) ، " وهي خمس كلمات متباعدة في المواقع نائية المطارح قد جعلها النظم البديع أشد تألفاً من الشيء المؤتلف في الأصل، وأحسن توافقاً من المتطابق في أول الوضع " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) إعْجَاز القُرْآن: ص 193.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(4) إعْجَاز القُرْآن: ص 194.

(1/102)


وهذا الكلام لرجل قد بحث الجوانب البلاغية لسورة القصص من كل نواحيها، ونحن نلاحظ في التحليل البلاغي لسورة القصص إِذَا ما أخذناها على حده أنها تكاد أن تكون جامعة لمعظم ـ إن لم يكن كلّ ـ الظواهر البلاغية، فالسياق البلاغي يجري فيها بأسلوب جزل فخم مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) . فإن هذه الآية تبدأ بداية هادئة، ثم يتصاعد إيقاع جرسها البلاغي، ثم يهبط بالسكينة والطمأنينة على أم موسى (- عليه السلام -) ، ثم يأتي الوعد الالهي ولم يقل تعالى: (جاعلوه مرسلاً) ، بل جعله في جملة المرسلين ـ عَلَيْهم السَّلام ـ {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} لأن (من) التبعيضية هنا تدخله في أوائلهم، وهو كذلك (- عليه السلام -) من الرسل الخمسة أولي العزم.
وقد تنبه الزمخشري في الكشاف لهذه الطريقة البلاغية في سورة القصص لولا أنه خلط بعض مباحثه بنظريته الإعتزالية، فحاول إقحام الإعتزال في المعنى المستخرج من آيات سورة القصص ليعزز ما كان ـرَحِمَه الله ـ يذهب إليه فيه (2) .
وقد حاول بعض الباحثين إيضاح ذلك كله (أي توجيه المعنى بلاغياً في سورة القصص) ، فقال:
" وفي سورة القصص نجد صوراً بلاغية في آيات الصفات أخذت حيزاً كبيراً جداً في التفكير الاعتقادي، لأن القائلين بالحقيقة والمجاز في القرآن الكريم حاولوا أن يستدلوا بها (أي بصورة هذه الآيات) على ما كانوا يذهبون إليه من آراء ومذاهب، ولا ننسى هنا أن المعتزلة كانوا على رأس أولئك القوم.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) الكَشَّاف: 3 /229.

(1/103)


فقوله عزّ من قائل: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، يحتوي على أمر، وخبر، وتقرير، ورد صدر على عجز، ومؤدى ذلك صورة بلاغية للإله الواحد الباقي. ولكن طوائف المعتزله القائلين بالمجاز أولوا الآية بلاغياً لأجل نفي الوجه عن الله عز وجل، فأخطاؤا الصواب " ((2)) .
ونحن مع هذا الباحث فيما ذهب إليه، وسنحاول فيما يلي هذه الصفحة إعادة ترتيب الظواهر البلاغية في سورة القصص وفق التقسيم البلاغي ((3)) .
والغرض من هذه العملية إبراز دور تلك الظواهر البلاغية في تحسين وتزيين وتجميل المبنى والمعنى في كلام الله وهو أصدق القائلين إستناداً إلى ما ذكره بعض الدارسين، اذ قال: " إن وضع آيات كل سورة تحت التقسيم البلاغي التراثي يدلنا على مواطن الإعجاز في كل سورة من السور، مما يفتح الطريق أمام جمهرة الباحثين لإعادة صياغة إعجاز القرآن الكريم " ((4)) .
وهو ما يراه القارىء في الصفحات الآتية:
ونحن سنختار بعض الأنواع البلاغية لا كلها من باب الإشارة إلى الشيء للدلالة على ما هو أعم.
1-التشبيه:
هو (ما حذفت فيه أداة التشبيه، ووجه الشبه) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(2) الصورة البلاغية في آيات الصفات في الَقُرْآن الكَرِيم. الشافعي حسن. الطبعة الأولى. دار المعارف بمصر. 1994: ص397-399
(3) ينظر معجم المصطلحات البلاغية. د. أحمد مطلوب. الطبعة الأولى. منشورات المجمع العلمي العراقي. بغداد. 1984 م.: 1/3.
(4) الظواهر البلاغية في سورة البقرة: ص 122.
(5) ينظر أنوار الربيع: 3 /45.

(1/104)


{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((1)) ، فإن الإحسان الإلهي هو المشبه به، والمشبه هو المأمور بالإحسان، ووجه الشبه الموازنة بين الأمر بالإحسان ليوافق إحسان الله جل جلاله.
2-الاستعارة:
هو (اللفظ المستعمل فيما يشبه معناه الأصلي لعلاقة المشابهة، أو هي استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة) ((2)) . مثل قوله تعالى:
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} ((3)) . فإن قرة العين بردها واستقرارها، فجعل استعارة عن الولد.
3-الكناية:
هو (أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وهي مصدر من كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به، واصطلاحا: لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه معه أيضا) ((4)) ، مثل قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((5)) ، فإن جملة {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} تشمل كناية عن سبيهن واغتصابهن.
4- الإيغال:
هو (ختم الكلام نثراً كان أو نظماً بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها) ((6)) ، مثل قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((7)) .
5- الإلتفات:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(2) شرح التلخيص في عُلُوْم البلاغة. للإمام جلال الدِّيْن بن عَبْد الرَّحْمَن القزويني. ت 739 هـ. دار الجيل. بيروت. لبنان. (د. ت) : ص 339.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(4) ينظر شرح التلخيص: 155.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) أنوار الربيع: 5 /333.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.

(1/105)


هو (إنصراف المتكلم عن المخاطبة الى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة، أو الإنصراف من معنى يكون فيه إلى معنى آخر) ((1)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ((2)) ، فإن قوله تعالى: {يَسْتَصْرِخُهُ} إلتفاف في الخطاب، وتغير في سياقه من الإسرائيلي والمصري لموسى (- عليه السلام -) .
6- المجاز:
هو (نقل الشيء عن حقيقته التي وضع لها إلى معنى آخر) ((3)) ، وذكروا أن من أمثلته في سورة القصص قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه} ((4)) ، والنص لا يستقيم بزعمهم إلا بنقله للمجاز والله أعلم بالصواب في ذلك.
7- المقابلة:
هي (أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو اكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة} ((6)) ، فإن الحسنة مقابلة للسيئة، وقد ازدات بها الجملة جمالاً.
8- الإشارة:
__________
(1) بديع الَقُرْآن. ابن أبي الإصبع المصري. (585 ـ 654 هـ) . تحقيق: حفني مُحَمَّد شرف. الطبعة الأولى. مكتبة نهضة مصر. الفجالة. 1957 م: ص 58. العمدة في مَحَاسِن الشعر وآدابه ونقده. أبو الحَسَن بن رشيق القيرواني الأزدي. ت 456 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. دار الجيل. بيروت. لبنان. (د. ت.) .: 2 /46.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(3) الإيضاح في علوم البلاغة، القزويني، أبو عبد الله جلال الدين بن سعد الدين أبي محمّد بن عبد الرحمن الخطيب، ت 739 هـ، تحقيق مُحَمَّد عبد المنعم خفاجي، بيروت، 1983 م: ص 155.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) شرح التلخيص: ص 163.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.

(1/106)


هي (أن تطلق لفظاً جلياً تريد به معنى خفياً) ((1)) ، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} ((2)) ، فإن المعاد إشارة إلى مكة المكرمة أو يوم القيامة، فازداد النص بها حسناً.
9-الخبر الإنشائي:
هو (صيغة الكلام التامة الدالة على معنى جميل) ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} (4) .
فمجمل الكلام الإلهي في هذه الاية هو خبر إنشائي حقيقي، الغرض منه الخروج بمفهوم نصي، وأما قوله تعالى في الآية: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، فهو نص إعجازي لايتأتى نظمه أو نظم مثله للبشر.
10- المثل:
هو (كلام يتداوله الناس لجماله وقصره وحكمته، ومتى فشا استعماله سمي مثلاً، ولذلك لا تغيّر الأمثال) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((6)) ، فهذه الجملة القرآنية قد غدت مثلاً إلهياً ينطقه الناس، للدلالة على أخذ القوي الأمين في العمل المراد له، فصارت مثلاً بليغاً.

11- الدعاء:
__________
(1) الفوائد. أبو عَبْد الله بن أَبِي بكر ابن قيم الجوزية. . ت 751 هـ. دار الفكر ببيروت للطباعة والنشر والتوزيع. (د. ت) : ص 125.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(3) ينظر الإيضاح في علوم البلاغة: ص 15.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(5) ينظر الإيضاح في علوم البلاغة: ص 307. شرح التلخيص: 4 /147.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26.

(1/107)


هو (طلب من هو أدنى ممن هو أعلى بألفاظ بليغة) ((1)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((2)) ، فهذا النص دعاء علمنا الله عز وجل أن ندعوه به على لسان موسى (- عليه السلام -) .
12- الأمر:
هو (طلب من هو أعلى أمراً ممن هو دونه، أو اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير لفظ كف، ولا يعبر به علو ولا استعلاء على الأصح) ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء} ((4)) ، فجملة {اسْلُكْ يَدَكَ} أمر إلهي صيغ صياغة بلاغية إعجازية، فدلّ على جماليته في حد ذاته.
13- الإضراب:
هو (ذكر شيء قد يستقبح، إلا أن القرينة تدل على حسنه، أو الإعراض عن الشيء تركاً وإهمالاً بعد الإقبال عليه) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء} ، فإن قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ سُوء} إضراب لئلا يظن البرص بيده (- عليه السلام -) فكمل بها الكلام.?
14- تجاهل العارف:
__________
(1) ينظر التوقيف على مهمات التعاريف. مُحَمَّد عَبْد الرَّؤُوْف المناوي. (952 ـ 1031) . تحقيق: د. مُحَمَّد رضوان الداية. دار الفكر المعاصر ـ دمشق , دار الفكر ـ بيروت. ط1 1410 هـ: ص 338.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24.
(3) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 92.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(5) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 71.

(1/108)


هو (استخدام العارف صيغة تشعر الجهل عند من لا يجهل، أو سوق المعلوم مساق غيره لنكتة) ((1)) ، كقوله تعالى فيها: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ((2)) ، فإن جملة {لأَظُنُّهُ} تأتي بمعنى (لأوقنه) .
وهو تجاهل العارف لأن فرعون كان يعلم أن موسى (- عليه السلام -) من الصادقين، بدليل حكاية الله عز وجل عنه أنه قال في آخر عمره: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ((3)) .
15- الاستثناء البلاغي:
هو (ذكر أمر ثم تخصيصه بغير صيغ الاستثناء المعروفة) ((4)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((5)) ، فجملة {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} هي استثناء بلاغي أخرج بها قارون من قوم موسى بغير أدوات الاستثناء المستخدمة في مثل هذه الحالات.
إن ما تقدم كان محاولة لإبراز بعض الظواهر البلاغية في سورة القصص، وتخريجها وتحليلها بإيجاز، ليتطابق ذلك مع منهجها في درس وتحليل سورة القصص من كل جوانبها، وهو الأمر الذي عبر عنه أحد الباحثين بقوله: " إن استخراج أي ظاهرة بلاغية في أي آية، ثم تحليلها يتيح لنا فهماً كاملاً لإعجاز هذه الاية نفسها، لأن الظاهرة البلاغية كانت وما زالت مفتاح إدراك الإعجاز " ((6)) .
المطلب الخامس: الصورة البلاغية في سُوْرَة الْقَصَصِ
__________
(1) التعريفات (الجرجاني) : ص 73. التوقيف على مهمات التعاريف: ص 160.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(3) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 90.
(4) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 55.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(6) الظواهر البلاغية: ص 27.

(1/109)


يعدّ مفهوم الصورة البلاغية بوصفه فناً من فنون البلاغة الحديثة أحد أوجه التشكيل الصوري البياني للمعنى الملفوظ من خلال ذاتية المبنى وقد عرف أحد دارسي البلاغة الصورة البلاغية بأنها:
" التشخيص الذي يحسه القارئ مصوراً في ذاته عند قراءته نصاً ما استناداً إلى الإبداع الفني في نقل النص المكتوب من عالم اللفظ والمعنى إلى عالم الصورة بكل أطرها وألوانها " ((1)) . ولا ريب أن قضية الصورة هي قضية قديمة قدم البلاغة العربية، فقد عرفها القدماء بأسماء مثل ((2)) .
1-التصوير.
2-التشبيه (في بعض جوانبه) .
3-الاستعارة (في بعض جوانبها) .
وقد ورد ذكر ما يشبه مفهوم الصورة البلاغية لدى علماء البيان باسم
(الإيغال في الوصف) ((3)) ، وأرادوا بذلك: " أن يغرق الكاتب أو الشاعر في وصفه لشيء ما، حتى يخرجه إلى مخرج الصورة المصورة، فإذا كان ذلك كذلك تم له الوصف، وأجاد به " ((4)) .
ونحن نعتقد أن مفهوم الصورة البلاغية بكل جوانبه الداخلية والخارجية يمكن تطبيقه في الدراسات الحديثة للنص القرآني، وقد فعل ذلك سيد قطب في كتابه
(التصوير الفني في القرآن الكريم) ((5)) ، ومحمد عبد الله في كتابه (الصورة والتشخيص البياني في القرآن الكريم) ((6)) .
__________
(1) البلاغة الحديثة. عطية فرج. الطبعة الأولى. دار مصر العلمية. القاهرة. 1988 م: ص 221-222.
(2) ينظر الصناعتين: ص193.
(3) المصدر نفسه: ص 315.
(4) رسالة في البلاغة: ص22.
(5) ينظر التصوير الفني في الَقُرْآن الكَرِيم. سيد قطب. دار الكتاب العربي. بيروت، لبنان. (د. ت) : ص 177. الصورة والتشخيص البياني في الَقُرْآن الكَرِيم. سليمان عبد الحكيم. الطبعة الأولى. بيروت، لبنان. 1994 م: ص 257.
(6) ينظر الصورة والتشخيص البياني في القرآن الكريم: ص 257.

(1/110)


وأثناء دراستنا في هذه الرسالة لكل ما يتعلق بسورة القصص، وتحليلنا لكافة جوانبها، كان لزاماً علينا أن ندرس قضية الصورة البلاغية فيها باعتبار أن ما ورد في سورة القصص من صورة بلاغية يعدّ دليلاً للكاتب والشاعر على حد سواء في إقامة تصوير النص استناداً إليها ((1)) .
لقد تحققت في سورة القصص التطبيقات البلاغية من خلال جوانب الصورة البلاغية التي احتوتها في ذاتها.
... ولا شك أن هذا التحليل باب من أبواب إدراك إعجاز النص القرآني الذي أخرس القائلين، وأبكم الناطقين.
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} ((2)) ، ففي قوله تعالى فيها: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ((3)) .
نجد أن مشهد صورة هذا القول الكريم من (امرأة فرعون) هو مشهد شاخص بكل جوانب الصورة، فيكاد القارىء للنص أن يحسّ بمشاعر (امرأة فرعون) ، وقلقها أمام فرعون وكبار قومه وآله. وفي قولها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} ما يشعر من خلال استخدام لفظة (عسى) بمحاولتها التأثير عليهم نفسياً بأسلوب الترجي، وفي قولها: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} جعلت الصورة مصورة أمام عين فرعون، الذي يبدو أنه لم يكن له (ولد) ، وتأخيرها جعل موسى ولداً على رجاء النفع منه، فيه نكتة بلاغية جميلة في أسلوب الحث على فعل شيء ليكون الطلب بالتدريج ((4)) .
__________
(1) الصورة والتشخيص البياني في الَقُرْآن الكَرِيم: ص257-260.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 82.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(4) الصورة والتشخيص: ص 237.

(1/111)


ونجد أن قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُون} ((1)) ، يجسد صورة بلاغية فنية مبدعة في لفظها وجرسها ومعناها وصوته الذاتي، ذلك أن لفظة (قصيه) لفظة مفتوحه على معانٍ متعددة ((2)) .
ولكن من الممكن هاهنا أن نفهم منها معنى (قص الاثر والبحث والنظر عن بعد) ، ويعزز المعنى الاخير قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، وفي ذلك صورة الأخت الحنون التي تبحث عن أخيها بأمر من أمها الوالهة التي فقدته، وهي صورة لا تتكرر في البيان.
أما قوله تعالى فيها: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ((3)) ، فهو تصوير فني ـ بلاغي متكامل الصورة، النبي الكريم موسى ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ في نضجه واكتماله، وقد كان الربط بين الفعل الماضي (بلغ) ، والمفعول به
(أشده) ، ثم مجيء الفعل المضارع (استوى) ربطاً متكاملاً في جوانب الصورة كلها، بحيث يشعر قارىء النص وسامعه على حد سواء ان هنالك رجلاً (مكتمل الخلقة) بدلالة الافعال المتتالية المتوالية.
والصورة البلاغية واضحة كل الوضوح، وظاهرة كل الظهور في قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّب} ((4)) ، فإن الفعل الناقص (أصبح) ، والحال (خائفاً) ، ثم الفعل المضارع التام (يترقب) يتركب منها تصوير بلاغي تام، يدل على إنسان يتلفت إلى يمينه ويساره وفي هذه الصورة إعجاز صوري لا يتأتى لأي أحد إعادة تصويره مهما بلغ من إجادة وإتقان، وتلك إحدى خصائص النص القرآني في إعجازه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7 /75.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.

(1/112)


ونجد أن قوله تعالى: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ((1)) فيه تصوير بلاغي تام، فيخيل للقارىء أنه يرى في ذهنه أمام ناظريه مجيء رجل من أطراف تلك المدينة راكضاً ليبلغ موسى (- عليه السلام -) نبأ المؤامرة.
وليس في أي أسلوب من أساليب العربية ما يمكن أن يماثل قوله تعالى:
{جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ، فلو قال القائل: (أتى إنسان من أطراف المدينة راكضاً) . أو (وصل رجل من أقصى المدينة مبلغاً) . وعشرات الصيغ الاخرى المقترحة لم يكن لقوله: (أي القائل) بكل صيغة روعة إعجاز قوله تعالى: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} بما تضمنه من صورة بلاغية.
أما قوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((2)) ، فهي من الآيات التصويرية التي تصور لنا امرأة كلها حياء وعفة وحشمة وتواضع، وكل ذلك استدللنا عليه بقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} لأن استعارة الفعل المضارع الحقيقي تمشي، ونقل (على) من الأرض المحذوفة إلى (استحياء) بالتنكير المشعر بفخامة القصد المراد، يرينا صورة بلاغية أعجزت الأولين والآخرين، لذلك قال في هذه الآية بعض الباحثين: " إن المتتبع لقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} لا يجد لها نظيراً في كافة التعبيرات الإنشائية البلاغية، وما ذلك إلا لأن إستعارة الشيء الحقيقي لمجازية الاستحياء مشعرة بالتصوير البياني الخاص بالصورة الفنية بكل أوجهها من حقائق السير إلى مجازات الحياء بأنواعه، فالآية بذلك قمة من قمم الإعجاز التصويري القرآني " ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3) الإعجاز التمثيلي في آيات الوصف. دراسة تحليلية. د. حسن رفاعي. الطبعة الأولى. دار المعارف بمصر. 4994 م: ص424.

(1/113)


ونحن واجدون في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} ((1)) ما يعدّ آية الآيات في التصوير البلاغي في القرآن، وبخاصة في سورة القصص.
فتوالي حروف الجر، وتوالي الاضافات، والتصاق كل ذلك بعضه ببعض، ثم التقريب من العام إلى الخاص (شاطىء الواد) ، (البقعة المباركة) ، (من الشجرة) ، يدلّ على تصوير المعنى بأبلغ الصفات التي تدلّ (بما قبلها) على (ما بعدها) من قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) ، ومايتلوه من قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ((3)) ، ففي كل ذلك التصوير، شُخِّصَ المعنى بأبلغ لفظ موجز، وهو نوع من أنواع الإيغال البلاغي، وفيه التفاف في الوصف. وجملة
(نودي) المبنية للمجهول تدلّ على تعظيم المنادى والمنادي.
ونجد أن قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ((4)) ، يضم صورة بلاغية بجنب مجموعة من الصور الفنية تتمثل في أن الأمر نتيجته هاهنا الحقيقة في الوقوع ـ وليس المجاز فلو أن الأمر (اسلك) كان مؤداه مجازاً لبطل وجه من أوجه الإعجاز الخبري في صدق قوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} بقرينة {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} احترازاً عن البرص الذي هو بياض بسوء.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.

(1/114)


وقوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ((1)) مشعر بعظم الصورة التي يتصورها الإنسان من (النبذ) الذي هو إلقاء باحتقار ثم إن قوله تعالى {فَأَخَذْنَاهُ} مشعر بكلية الجيش المنبوذ في اليم، وحقيقة الصورة نابعة من صورة المجاز فيها (الأخذ) و (النبذ) .
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ((2)) فيها أحد أجمل أنواع التصوير البلاغي في بابه، وذلك متمثل في أن (سماع اللغو) نتيجته (الإعراض عنه) ، وقد تأتى ذلك التصوير للقوم االمؤمنين من خلال أداة الشرط (إذا) وجواب الشرط (عرضوا) ، ثم حذف (اللغو) والاستعاضة عنه بهاء (عنه) ، فأنظر كيف غدا النص اعجازباً تصويرياً بلاغياً، لا يمكن لأحد أن يجيء بمثله مهما حاول من محاولات.
وقوله تعالى: {اللَّيْلَ سَرْمَداً} ((3)) ، وقوله تعالى: {النَّهَارَ سَرْمَداً} ((4)) على التوالي صورة مجازية لتقرير إستفهامي هو سؤال العارف، فصارت الصورة في الذهن منقلبة عن الصورة الحقيقية (الليل اللاسرمدي) و (النهار اللاسرمدي) إلى الصورة المجازية الآتية من الإستفهام عن الليل والنهار السرمديين، وهذا من أبلغ التصوير.
وقوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ((5)) ، قول بديع بليغ فيه كل أنواع التصوير الفني، وذلك نابع من أن إسناد النوء بالحمل مجازياً إلى المفاتيح لا إلى (العصبة أولي القوة) ، فهو من المقلوب لفظاً ومعنى.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 72.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.

(1/115)


وفي هذا القلب يتجسد التصوير البلاغي وتتمثل الصورة البلاغية واضحة كل الوضوح بما يراه القارىء في ذهنه من صورة (عصبة) (أولي قوة) تنوء بهم مفاتيحهم الخاصة بكنوز قارون.
فكأن القرآن الكريم أسند كل الصورة هاهنا إلى المفاتيح، وجعلها محور النص، لأن من عادة العرب في كلامها أنها:
(تقدم ما بيانه عندها أهم) ((1)) ، فقدمت المفاتح لنكتة بلاغية في التصوير البلاغي.
وقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِه} ((2)) فيه من الصورة البلاغية، الصورة المقبوحة لشخص طاغية متكبر متجبر، تراه في نفسك وقد خرج على قومه، (وقد أسند الضمير لقومه تمييزاً لهم عن المؤمنين) . وفيه قوله تعالى: (في زينته) مشعر بأنه خرج بكل ما عنده من هيئة ولباس وحلي وكنوز، ولا يستطيع أي إنسان مهما بلغت به البلاغة أن يعيد تجسيد هذا المشهد إلا وهو ينتقص إما من اللفظ، وإما من المعنى.
ثم نجد بعد ذلك متواصلاً معه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} ((3)) ، فنحسّ أن ذلك الخسف متعلق بخروجه متكبراً في زينته بعد ما كاد يفتن قلوب فريق من المؤمنين. والخسف الحقيقي هاهنا (لا المجازي) هو الذي جعل هذه القوة المتدفقة من النص يحسّها القارىء، ويشعر بها السامع على حد سواء.
__________
(1) ينظر تأويل مشكل القرآن: ص 197.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.

(1/116)


ولعل إحدى أهم الصور البيانية قوله تعالى فيها: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، فهي آية قد لا يشعر القارىء لأول وهلة بصورتها البيانية غير أنه ما إن يمضي بها ليصل إلى قوله تعال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} يجد نفسه مستعيداً الصورة السابقة بالنهي عن دعاء سواه تعالى، ثم متقدماً على الصورة اللاحقة {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وهل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} حقيقة أو مجاز؟ ففي ذلك خلاف بين علماء الكلام منذ أمد بعيد، غير أن الأصل في ذلك أن الألفاظ القرآنية على حقيقتها ما لم تصرفها قرينة إلى المجاز.
وبذلك تكون الصورة في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} صورة حقيقية كل الحقيقة، مشعرة بما فيها من بلاغة وفن بلاغي وإيجاز في الوصف.
وإذا وصلنا إلى هذا الموضع من هذا التحليل، نجدنا قد حاولنا أن نبرز جملة الصور البلاغية من خلال المفهوم العام للصورة البلاغية في آيات سورة القصص.

المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سُوْرَة الْقَصَصِ
__________
(1) سُوْرَة (ص) : الآية 88.

(1/117)


من الواضح أن في اللغة العربية أساليب متباينة يمكن من خلالها فهم دلالات ألفاظ نفسها، أو بمقارنتها بغيرها، وذلك أن علم اللغة الحديث المأخوذ من أصوله التراثية قد أثبت أن أي نص لا يمكن فهم أسلوبه إلا بمقارنته بنص آخر، أو بإبدال بعض كلماته (بمرادفات) أخرى. ولا ريب أن علم إعجاز القرآن استفاد فائدة كبرى قديماً وحديثاً من ذلك، لأن علم إعجاز القرآن يبحث في خصائص الأسلوب وبدائل الأسلوب. وقد حاولت استناداً إلى ذلك أن أدرس بعض الكلمات والألفاظ في آيات مختارة من سورة القصص مع توجيه المعنى المقارن نحو بدائلها بحيث يبدو إعجاز الأسلوب القرآني في سورة القصص خاصةً، وذلك من ثلاثة أوجه:
أولاً ـ البديل اللفظي.
ثانياً ـ البديل الأٍسلوبي.
ثالثاً ـ البديل المعنوي.
والجمع بين هذه البدائل فعله القاضي الباقلاني من قبل في كتابه إعجاز القرآن في سورة أخرى، ودرسها القاضي عبد الجبار في كتابه المغني في أبواب التوحيد والعدل، والإمام عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، وابن أبي الإصبع المصري في كتابه بديع القرآن.
وممن درسها من المحدثين:
الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطي ((1)) .
الشيخ مُحَمَّد عبد الخالق عضيمة ((2)) .
الدكتور فاضل السامرائي ((3)) .
وسواهم من النحاة والبلاغيين المعاصرين الذين درسوا إعجاز النصّ القرآني لغوياً.
ونحن في دراستنا لسورة القصص أردنا ان ندلي بدلونا في ذلك، فنفهم لماذا جاءت بعض الأشكال اللغوية في مواقع منها دون أشكال أخرى قد يتوقع الإنسان أن تجيء في كلام بديل لو كان كلاماً بشرياً.
__________
(1) التفسير البياني للقرآن الكريم. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. الطبعة الثامنة. دار المعارف بمصر. 1982 م: ص 88.
(2) دراسات في أسلوب القرآن الكريم: 5 /119.
(3) التعبير القرآني. د. فاضل صالح السامرائي. بيت الحكمة. بغداد. 1989 م: ص 51.

(1/118)


وهذا الفن أولع به الأدباء إذ يروي اليازجي:
إن رجلاً سأل عن قول المتنبي:
قد شرف الله أرضا أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سوّاك إنساناً
فقال: لماذا لم يقل خلاك بدل سواك؟ فأجابه ابن جني: إن قوله: (خلاك) لا يعطي النصّ بلاغته التي أعطته إياها (الصيغة القرآنية) سواك التي جاءت في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} ((1)) ((2))
وقد أكثر الدكتور فاضل السامرائي من ذكر النصوص المشابهة ((3))
إن سورة القصص في ألفاظها ومعانيها تحتوي على ما يمس القلوب والأرواح في المعاني المنطبعة في النفس الإنسانية عند قراءتها لأسباب تتعلق بذاتية الألفاظ وفق خمسة عوامل.
أولاً ـ الجرس اللفظي.
ثانياً ـ بنية الكلمة.
ثالثاً ـ موقع الكلمة.
رابعاً ـ سياق الكلمة.
خامساً ـ مقارنة الألفاظ بمرادفاتها.
ونحن سنحاول ان ندرس المرادفات البديلة التي تبرز إعجاز الألفاظ الأصلية.
إن الأسلوب الذي أنزلت به هذه السورة في مكة المكرمة يحمل كلّ سمات الأسلوب المكي (المختلف في دلالاته عن سمات الأسلوب المدني) ، وبذلك فإن الصورة العامة لسورة القصص تتميز بأن بناءها في إطاره العام خال من الجمل التي توجه المعنى نحو الدلالة الفقهية ـ الشرعية. بل إن جمله توجه المعنى نحو الدلالة التوحيدية التي تزرع العقيدة الصحيحة المستندة إلى نفي الشريك عن الله، والداعية إلى عبادة الله وحده. والتي تسلي رَسُول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وتشد من أزره وأصحابه لمواجهة ظلم قريش.
__________
(1) سُوْرَة الانْفِطَارِ: الآية 7.
(2) العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب. تحقيق: إِبْرَاهِيمُ اليازجي. الطبعة الثانية. دار العلم. بيروت. 1978 م: 2 /622.
(3) التعبير القرآني: ص 51.

(1/119)


واستناداً إلى ذلك فإن آيات سورة القصص تعبر كلماتها تمام التعبير عن مقتضيات واقع الحال المراد إبانته لمن أنزلت السورة في زمنهم وبين أيديهم من أهل مكة.
فنحن نسأل استناداً إلى ذلك لماذا جاء النصّ القرآني في قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) ولم يستخدم كلمة أخرى في صفة الكتاب مثل (الحكيم) ، (العزيز) ، (المجيد) ؟
والذي نراه أن المبين هاهنا أنسب، لأن الإبانة متناسبة مع صفة الكتاب كونها الإبانة بليغة الدلالة على الظهور والنصاعة في تلك الفترة، أما لو قيل:
(الكتاب الحكيم) فمن أين لهم ان يعرفوا حكمته. أو العزيز فمن أين لهم أن يعرفوا عزه ولأنكروا ذلك رأسا، فقيل لهم: (الكتاب المبين) وهم لفصاحتهم لا يستطيعون إنكار إبانته ((2)) .
فالله جل وعلا وصف كلامه بصفة يعرفها أهل مكة أكثر من سواهم لاشتهارهم بهذا فكأن القرآن أراد أن يتحدا بيانه.
ونحن نجد أن الصيغة القرآنية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} ((3)) تحتمل سؤالاً هو: لِمَ لَمْ يقل تعالى: (طغى) ، أو (بغى) ، أو (استكبر) ؟
والذي نراه في ذلك أن دلالة (علا) من العلو الزماني والمكاني أبلغ من تلك الصيغ الأخرى، ومن كلّ صيغة، لأنه لو كانت العبارة (إن فرعون طغى) لكان ذلك دليلاً على الطغيان فقط، والطغيان (لا يعم، بل هو خاص بفرعون ولا يشمل جنوده ولا هامان) .
ولو قيل: (إن فرعون تكبر) لكان التكبر خاصاً به وبقومه لأن الإنسان لا يتكبر إلا على من هم من حوله يرونه ويراهم.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(2) ينظر الكشاف: 3 / 164. جامع البيان: 6 /4963. البحر المحيط: 7 /104.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

(1/120)


ولو قيل: (إن فرعون بغى) لكانت الجملة غير مبينة عن هذا البغي، فجاءت العبارة (علا في الأرض) لتدل على أن فرعون جمع الطغيان والبغي والتكبر الذين اجتمعوا جميعاً في العلو على الأرض، فكان إعجاز استخدام الفعل الماضي (علا) دالاً تفضيلها على غيرها من الصيغ الأخرى، لأن كلمة (علا) في هذا الموقع في ذكر فرعون أبلغ في مكان الآية من أي صيغة أخرى، فالآية تصف دولة فرعون ومجتمعه أي نظام دولة كامل.
فلا بد من كلمة تصف نظام دولة فرعون. ولا يوجد أليق من كلمة (علا) في هذه السورة من القرآن الكريم، وربما استخدمت بقية الكلمات في مواضع أخرى من سورة أخرى فناسبت موضعها في تلك السور ((1)) .
إن قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((2)) يحمل في استخدامه اسم الجمع (شيع) وهو منصوب بكونه مفعولاً به ثانياً دلالة خاصة تختلف عما لو استخدم فيه أي لفظ مرادف للكلمة نفسها، مثل (فرقاً) أو (أحزاباً) على سبيل المثال. ونحن نرى أن صيغة (شيعاً) التي جاءت في النص أبلغ من كلّ صيغة، لأن الشيع هي العصبة، ومن معانيها العصبة القوية، وفرعون إنما قسم الناس على شيع، أي: أقسام، فجعل منهم شيعته وشيعة موسى، ولو جاء النصّ بصيغة (فرقا) لدلّ على تحزب قوم دون كونهم من شيعته، أي: المطاوعون له.
__________
(1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4964.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

(1/121)


ونحن نجد أن قوله تعالى في سُوْرَة الْقَصَصِ {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} ((1)) . {الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ} ((2)) دالان على كون شيعة موسى (وهم اليهود) تمبزوا منذ ذلك الوقت عن شيعة فرعون، فدل ذلك على أن الشيعة بالنسبة للرجل عصبته، وقد غرقت شيعة فرعون معه في اليم لإيمانهم بدعوته، بدلالة: {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((3)) . وليس من الأسلوب القرآني ذكر جنود ملك ما إلا إذا بلغوا في عداوتهم للإيمان مبلغاً عظيماً.
وهذا يجرنا إلى صيغة (يحذرون) لماذا جاءت بهذه الصيغة في النصّ، ونحن نعلن أن الحذر " هو احتراز عن مخيف " وقد كانوا جميعاً أي: فرعون وهامان وجنودهما يحذرون مولوداً بعينه هو موسى (- عليه السلام -) فجاءت الصيغة
(يحذرون) بدلاً من غيرها من الصيغ مثل (يخشون) ، لأن الخشية هي خوف أو (يخافون) ، فالخوف هو أمر يقع بالمواجهة، وهم لم يواجهوا موسى (- عليه السلام -) ، فكانت صيغة (يحذرون) ابلغ في دلالتها من كلّ دلالة أخرى.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

(1/122)


ونحن نجد أن قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا} ((1)) يثير سؤالاً مهماً هو ما دلالة العداوة والحزن في كينونة موسى
(- عليه السلام -) ولم لم تستخدم أي صفة أخرى مثل (وبالاً وصعوبة) أو (كائداً ومعسراً) والذي أراه والله أعلم أن ذكر المصدر (العدو) والاسم (الحزن) أبلغ من أي تعبير أخر، لأن التقاط آل فرعون (وهي صيغة عمومية) بمعنى ذكر الحال بالمآل لموسى (- عليه السلام -) وهو رضيع في أيامه الأولى لا يحمل يومذاك لهم أي معنى بأن هذا الصغير سيكون سبب عسرهم (الحزن) وسيكون عدواً لهم (كلّ العداوة) في سبيل الله جَلَّ جَلاَله. ولو قيل: (ليكون لهم وبالاً) أو (كائداً) أو (معسراً) لم يكن كذلك ذا معنى، لأن كلّ ذلك لا يمكن أن يتحقق من طفل صغير رضيع فكانت صيغة (عدواً وحزناً) هنا دالة على أنه سيعاديهم هم وليكون حزنهم هم دون سواهم، فكانت هذه الصيغة أبلغ في حد ذاتها مما لو استخدمت ألفاظ الآية أي مجموعة أخرى من الصفات، واللام في هذه الآية تدلّ على أنها لام التعليل، أو لام كي ((2)) . ومما يؤيد هذا المعنى الذي ذكر ليكون موسى عدواً خاصاً لهم تقديم الجار والمجرور (لهم) من عدواً وحزناً، فهذا التقديم أفاد الاختصاص.
وقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((3)) يَدُلُّ على أن الإعجاز الَقُرْآني إنما كان في استخدام لفظة (يشعرون) ونفيهما بـ (لا) لأن الشعور هو (العلم الدقيق) ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(2) الكَشَّاف: 3 /166. مفاتيح الغيب: 12 /228. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 / 4968.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(4) ينظر جامع البيان: 1 0/38. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 269. مفاتيح الغيب: 12 /230.

(1/123)


و (لا يشعرون) أي لا تدركون بالحواس ودلالة (لا يشعرون) في هذا الموضع أبلغ من أية دلالة أخرى مثل لا يعلمون لأن العلم متحقق بعد وجود شيء ما معروف في العقل وليس الشعور بشيء مادي، بل هو شيء معنوي دقيق كلّ الدقة كخبر ولادة موسى (- عليه السلام -) ، وكونه بين ظهراني قوم فرعون، وأما دلالة (يعقلون) هاهنا فقد تكفل بهما وببيانهما الراغب الأصبهاني إذ قال:
" ولو قال في كثير مما جاء فيه (لا يشعرون) لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً " ((1)) ، والشعور إحساس، والعقل معرفة ونحن نرى أن هذه الآيات كذلك، وهو يوافق ما ذهبنا إليه آنفاً، لأن المعنى هو أن عدم شعورهم يعني انهم لم يحسوا بلهفتها عليه، ولو قيل: إنهم لا يعقلون لكان المعنى أنهم لا عقل لهم قط.
ونحن نجد أن قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ((2)) يثير سؤالاً هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية (يستصرخه) هكذا، ولم تجيء في الاستخدام أية صيغة أخرى مثل (يستنجده) ، أو (يستغيثه) ، أو (يستنصره) ؟
والجواب عن ذلك هو أن أية صيغة أخرى إذا ما وضعت موضع كلمة
(يستصرخه) لا يمكن أن تدلّ على المضمون الذي دلت عليه الصيغة القرآنية، فلو قلنا (يستنجده بالأمس) دلّ ذلك على طلب النجدة ولم يكن ذلك حال الرجل. ولو قلنا: (يستغيثه) لم يكن ذلك الاستخدام مناسباً، فطلب الغوث دعاء من قريب لبعيد، وليس ذلك واقع الحال، لأنهم كانوا جميعاً في مكان واحد.
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 12 /230.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.

(1/124)


فكانت كلمة (يستصرخه) في مبناها القوي الصياغة أوفى بالمراد إذ فيها الحروف القوية (الصاد، والخاء) جرسيّاً، وفي معناها إذ نتخيل رجلاً يسترعي الانتباه من صراخه بأن يجيء له موسى (- عليه السلام -) وهي المعبرة كلّ التعبير عن حال الرجل، لأن المعركة بين الإسرائيلي والقبطي لم تكن في علم موسى (- عليه السلام -) ((1)) .
ونحن كذلك نجد في سُوْرَة الْقَصَصِ أن قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((2)) وهي من الآيات البليغة التي عدّها قدامى المفسرين من الآيات المعجزة كلّ الإعجاز، يحمل في طياته تساءلاً.. لماذا استخدم الَقُرْآن الكَرِيم المصدر المزيد بأحرف الزيادة (استحياء) ، ولم يستخدم ألفاظ أخرى مثل (تمشي على حياء) ، أو (تمشي على خجل) أما استخدام (حياء) فإن المصدر المزيد أبلغ في دلالته من المصدر العادي، لأن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني، على ما قاله اللغويون، فناسبت شدة الحياء أن يجاء لها بمصدر مزيد (استحياء) . أما الخجل فإنه أخص من الحياء الذي هو أعم، فالخجل يكون من أمر معين، أما الحياء فإنه خصلة في الذات، وهو إحدى شعب الإيمان، لذلك كان استخدام النكرة المصدرية المزيدة (استحياء) أبلغ من أي استخدام أخر. وإن استخدام صيغة (استفعل) تدلّ على الطلب فكأنها تريد أن تثير في مقابلها هذه الخصلة الشريفة ((3)) .
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 236. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 980. البَحْر المُحِيْط: 7/ 110.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /240. البَحْر المُحِيْط: 7 / 114.

(1/125)


وقوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} ((1)) يثير في النفس سؤالاً هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية بالمصدر (الرهب) ، وهي صيغة استعيرت من فعل الطائر، لأنه إذا خوف نشر جناحيه، ولم تجيء مثلاً على صيغة (الخوف) ، أو (الخشية) ، أو (التوجس) ، أو أية صيغة من صيغ العموم؟
والذي أراه، والله أعلم بالصواب، أن دلالة استخدام أي مصدر أخر غير
(الرهب) لا يمكن أن تكون له في نفس المقام الذي جاءت به. فلو قيل: (من الخوف) لم يكن للخوف، وهو معادل لفظي للجبن، أية دلالة، ولو قيل: (من الخشية) ، وهي لفظة تدلّ على ذات نفسية غير مطمئنة لم يكن لها أية دلالة، ولأن المراد الإلهي، والله أعلم بالصواب إنما كان أن يضمم موسى (- عليه السلام -) جناحه (يديه) من رهبته من الموقف الذي تلقى فيه الوحي دون الخوف الذي تقدم في قوله تعالى: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} ((2)) والأوامر الإلهية بعد صدورها متحققة كما هي القاعدة المعروفة، كان استخدام صيغة (من الرهب) هو الأبلغ في دلالته، فاستعارة صورة الطائر صور لنا دقة حال سيدنا (- عليه السلام -) ، فكأنه من حذره صار كالطائر الذي يتوجس من كلّ شيء ((3)) .
وقد يسأل سائل: لماذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (4) ، وليس هناك أحد يدعو إلى النار؟
قلنا: إن هذه الصيغة جاءت وفيها فائدتان:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(3) ينظر الكَشَّاف: 3/ 175. مفاتيح الغيب: 12 /247. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5000.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 41.

(1/126)


الفائدة الأولى ـ غن النار هنا بتأويل ما سيكون، أي: إنهم يدعون لما يؤدي إلى النار في خاتمتهم، وهو كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} ((1)) ، والخمر لا تعصر بل العنب هو الذي يعصر، ولكنه بما أنه سيكون العنب خمراً قيل: {أَعْصِرُ خَمْرًا} ورأي أبي مسلم أن " النار هنا بمعنى التقدم نحو النار " ((2)) ، فهو بتأويل ما سيكون.
الفائدة الثانية ـ إن الصيغة القرآنية لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الضلال) مثلاً، لم تكن معبرة عن دعوة فرعون وجنوده، وكذا لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الكفر) لكان المعنى أنهم في كفرهم يدعون إلى كفر، وهكذا على التوالي، فجاءت صيغة {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لتدل على المعنى الذي أريد لها أن تجيء به، وهو ما زاد النصّ الَقُرْآني جمالاً على جمال ((3)) . وارى أن الدعوة إلى النار بمعنى الكينونة في النار.
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 36.
(2) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005.
(3) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005.

(1/127)


وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، فإن السؤال الذي قد يثار، هو عن دلالة قوله تعالى: {بَصَائِرَ} ، والبصائر جمع بصيرة، بمعنى العبرة ـ كما قال الراغب الأصفهاني ـ ودلالة العبر هاهنا أبلغ من أية دلالة أخرى، فمعنى الآية إذا ما حللناها هو أن التوراة أنزلت على موسى (- عليه السلام -) عبرة للناس وهدى ورحمة، أما دلالتها (أي كلمة بصائر) فهي أن في التوراة عبراً بالجمع، وليس عبرة بالإفراد، لأنها قد حوت على أحكام ومواعظ وقصص، وقد جمعت البصائر، والله أعلم لدلالة العبر البليغة وكونها أكثر في التعبير الَقُرْآني معنىً مما لو جاءت بلفظ أخر مثل (دلائل) ، أو (معالم) ، أو أي جمع أخر. فلو قيل:
(دلائل) لم تدلّ هذه الكلمة إلا على كون التوراة علامات، لأن الدليل هو العلامة، ولو قيل: (معالم) لكان المعنى إشارات، لأن المَعْلَم هو الإشارة، أما لفظة
(بصائر) فدلت على أن المعنى هو العبر تلو العبر ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2) ينظر جامع البيان: 10 /76. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 47. مفاتيح الغيب: 12/ 255. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5007.

(1/128)


وأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) . فإن سؤالاً قد يتبادر هنا عن دلالة
(عميت) دون سواها من الصيغ، لأن إسناد المعنى لتاء الضمير الخاص بالمذكورين آنفاً يَدُلُّ على حقيقة العمى عن رد السؤال، ولو جاءت الصيغة بلفظ
(فذهبت عنهم الأنباء) لم يكن ذلك دالاً على أي شيء، فذهاب الأنباء عن قوم يحتمل ردهم لجوابهما، ولو قيل: (فغادرت عنهم الأنباء) لكان كذلك، والمعنى أن حال الكفار والمشركين الظالمين يوم القيامة عند سؤالهم سؤال توبيخ، هو العمى الكامل حتَّى عمى الإجابة، ويفسر هذا المعنى الَقُرْآن الكَرِيم في آية أخرى هي قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ((2)) وهذا هو المعنى بعينه في الوصف الَقُرْآني، فدل ذلك على أن المعنى هو هو في الحالتين يوم القيامة، ولكن الأسلوب الَقُرْآني هو إعادة المعنى بأكثر من صيغة أسلوبية لإبراز أوجه الإعجاز في الَقُرْآن الكَرِيم، وقد أشار الطبري إلى غياب الحجة عنهم عند السؤال يوم القيامة فقال: " وإنما عني بذلك أنهم عميت عليهم الحجة، فلم يدروا ما يحتجون لأن الله تعَاَلىَ قد كان ابلغ إليهم في المعذرة " ((3)) . وهذا يوافق ما ذهبنا إليه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 65 – 66.
(2) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 72.
(3) جامع البيان: 10 /94. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 360.

(1/129)


ونجد في قوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((1)) يحمل صيغة قرآنية ذات دلالة خاصة في عموميتها البلاغية وقد يسأل سائل: لماذا لم تجيء الصيغة بلفظة (أمماً) ، أو (طوائف) أو (شعوباً) ، أو (أناساً) بدل (قروناًُ) ؟
والجواب والله أعلم: إن دلالة (قروناً) في موضعها أبلغ مما لو قيل (أمماً) لأن الأمم هي المجموعات من الناس، والطوائف هي أناس بعينهم، والشعوب مجموعات غير متجانسة، والأناس، جمع ناس، وهم المجموعة ذات السمات المميزة، أما صيغة (قروناً) فتحمل كلّ تلك المعاني مجتمعة في لفظها، ولأن الَقُرْآن الكَرِيم يستخدم الألفاظ القصيرة التي تدلّ على المعاني العديدة، فاستخدم الَقُرْآن الكَرِيم لفظة (قروناً) بدل أية صيغة أخرى، وتلك خصيصة من خصائص النصّ القرأني، والآية تحمل معنى تقدم ذكر رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . وتطاول العمر مشعر بتقادم ذكر رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5706.

(1/130)


وفي قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((1)) تسائل عن ماهية دلالة (بطرت) بدل كلّ الصيغ الأخرى التي ترادفها، مثل (كفرت) ، أو
(بغت في) ، أو (عتت) ، أو (طغت في نعمتها) ؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: إن صيغة (كفرت معيشتها) لا تحمل دلالة البطر لأن الفرق بين الكفر ـ وهو إخفاء الشيء ـ والبطر ـ وهو التكبر على الشيء ـ واضح بين، ولو جاءت الصيغة (بغت في معيشتها) لم تدلّ على البطر. ولو قيل: (عتت في معيشتها) لم تكن الصيغة دالة على معنى البطر مع دلالة انتصاب الفعل، لذلك كانت صيغة (بطرت) أوضح كلّ الوضوح من أية صيغة أخرى ((2)) .
أما قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ((3)) فإن سؤالاً قد يثار في معنى كلمة (سرمداً) المنصوبة مفعولاً به، هو: لماذا جاءت هذه الصيغة هاهنا بهذا اللفظ دون سواه؟
والذي أراه والله أعلم أن دلالة السرمد بمعنى (الدائم) أبلغ من أية دلالة أخرى، فالسرمد هو الدائم غير المنقطع، ولو استخدمت أية صيغة أخرى لم تدلّ على ما دلت عليه هذه الصيغة في مبناها ومعناها. فلو قيل بدلها: (دائماً) فإن الدوام هو البقاء، ولكنه لا يعطي المعنى الذي يعطيه معنى كلمة (سرمد) الذي يفيد الاستمرارية.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) ينظر مفاتيح الغيب: 13/ 6.الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5017.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71.

(1/131)


وقد بين الطبري، والقرطبي المعنى نفسه، ففسرا السرمد بمعنى الدائم، ونحن نرى أن معنى الآية هو امتنان الله عَزَّ وجَلَّ على الناس جميعاً بكون الليل والنهار ليسا سرمديين " أي: ليسا دائمين، وقد تكررت كلمة (سرمد) في الموضعين في ذكر الليل والنهار، لأن العرب تبدأ اليوم بالليل قبل النهار، ليكون أبلغ في التعبير البياني عن فضل الله عَزَّ وجَلَّ ((1)) .
وأما قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ((2)) فإنه يثير سؤالاً مهماً جداً، هو لماذا جاءت كلمة (شهيد) هاهنا وهي بمعنى النبي في هذا المقام دون صيغة نبي أو رسول، مع أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالشهيد هنا هو النبي الذي يشهد على قومه بما فعلوه؟
قال الطبري في تفسير هذه الآية: " أي وأحضرنا من كلّ جماعة شهيدها وهو نبيها الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة " ((3)) .
وقيل: " أي نبياً عن مجاهد. وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا " ((4)) .
ونحن نرى أن دلالة النبوة والرسالة في موضعها تفهم من خلال سياق معنى الآية لأن الآية تدلّ على أن الأمم يوم القيامة ينزع من كل منها نبيها يشهد على ما فعلوه عند دعوته لهم.
__________
(1) ينظر الكَشَّاف: 3 /189. جامع البيان: 10 /98. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 236
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.
(3) جامع البيان: 10 /89.
(4) مفاتيح الغيب: 13 /13.

(1/132)


ولو جاءت الصيغة (نبياً) لم تدلّ على الشهادة النبوية، لأن النبوة مقام لا يَدُلُّ في معناه على النزع، وقد جاءت الصيغة (نزعنا) وهي تدلّ على الأخذ، ولا يليق موضع النبوة والرسالة بصيغة (نزعنا) لأن النصّ لو جاء بصيغة نزعنا من كلّ أمة نبياً لما كان في النصّ من معنى سوى ما فيه من أخذ الأنبياء. والَقُرْآن ينقل النصوص في حالة تغير المعاني من معنى إلى أخر ليهذبها، فجاءت الصيغة كما تقدم، وهي وجه من وجوه الإعجاز القرآني في تبديل الصيغ والأساليب ((1)) .
إن ما تقدم كان محاولة لاستعراض بعض كلمات وصيغ سُوْرَة الْقَصَصِ وتحليلها وفق نظام الصيغ القرآنية وبدائلها اللغوية، ولعلنا حاولنا محاولة في الصياغة اللغوية.

المطلب السابع: الرسم الَقُرْآني في سُوْرَة الْقَصَصِ وعلاقته بأداء المعنى
أجمع القدماء على أن هنالك خطان لا يقاس عليهما:
خط المصحف.
خط العروض ((2)) .
ولكن قوماً ممن بلغوا في العربية والتفسير مبلغاً كبيراً أجمعوا على أن رسم المصحف يمثل تطوراً كبيراً في أداء المعنى ((3)) ، وأنه إنما كتب ورسم بلسان وأحرف قريش لغابات معنوية مهمة كلّ الأهمية، وتروي الرواية الشهيرة عن جمع القرآن:
((وقال عثمان (- رضي الله عنه -) للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من الَقُرْآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم)) ((4)) .
__________
(1) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 274.
(2) ينظر في اللغة والنحو. د. طه إِبْرَاهِيمُ، الطبعة الأولى، مصر، 1985 م: 21 -22.
(3) صَحِيْح البُخَارِي: 6 /224.
(4) صَحِيْح البُخَارِي: 6 /224.

(1/133)


مما يَدُلُّ على أن فعل عثمان (- رضي الله عنه -) ، " وفعله حجة في بابه على ما هو مشهور من حجية قول الصحابي " ((1)) ، إنما يبين كيف أن بعض صور الرسم للخط الَقُرْآني لا يمكن فهمها إلا بكتابتها ورسمها بلسان قريش.
ولا ريب أن مسألة الَقُرْآن بالأحرف السبعة امتزجت في بعض الحالات بظواهر الرسم الَقُرْآني على رأي طائفة من العلماء الذين ذهبوا إلى أنَّ الأحرف السبعة موجودة في اللفظ والصوت الَقُرْآني وهو رأي مشهور ((2)) .
وقد ألف قوم كثيرون في رسم الخط المصحفي الَقُرْآني وما فيه من فوائد ((3)) ، وقد بين القدماء أن من الواجب التزام ظواهر الرسم المصحفي في كتابة المصاحف، وجعلوا خط المصاحف خاصاً بها ((4)) .
وقد ذكر الزمخشري في الكشاف أن: " خط المصحف سنة لا يتغير " ((5)) .
وقد علل كثير منهم ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية أو بيانية، وبينوا أوجه بعض أشكال الرسم بيانياً ((6)) . ويقول ابن قتيبة: " وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها " ((7)) .
__________
(1) المُسْتَصْفَى من علم الأصول. مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغَزَالي أبو حامد. (450 ـ 505) . تحقيق: مُحَمَّد عَبْد السلام عَبْد الشافي. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1. 1413 هـ.: 2 /115.
(2) تأويل مشكل الَقُرْآن: ص 30. جامع البيان: 1/47 –48 و 57-58.
(3) ينظر رسم المصحف: 168.
(4) همع الهوامع شرح جمع الجوامع. جلال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن السيوطي الشافعي. ت 911هـ. دار المعرفة. بيروت. لبنان. 1327 هـ. مصورة عَنْ ط1. بولاق. مصر: 2 / 243.
(5) الكَشَّاف: 3 /209.
(6) المحكم في نقط المصاحف. عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو. (371 ـ 444) . تحقيق: د. عزة حسن. دار الفكر. دمشق. ط1. 1407 هـ: ص 196.
(7) تَأوِيل مُشْكِل القُرْآن: ص 40 –41.

(1/134)


ويقول ابن خلدون: " ثُمَّ اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها (أي المصاحف) تبركاً بما رسمه أصحاب رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وخير الخلق من بعده، المتلقون لوحيه من كلام الله تعَاَلىَ وكلامه … " ((1)) .
ثُمَّ يذكر بعض ما يتعلق بعلاقة الرسم الَقُرْآني بأداء المعنى استناداً للخط فيقول ناقلاً: " ويقولون في مثل زيادة الألف في (لا أذبحنه) ((2)) أنه نبع على أن الذبح لم يقع. وفي زيادة الياء في (بأييد) ((3)) أنه تنبيه على كمال القدرة الربانية وأمثال ذلك " ((4)) .
وقد ذكر القدماء أن من صور اختلاف الرسم ما يكون لاختلاف المعنى ((5)) ، وكان ممن أولع بذلك المراكشي ـ على ما نقله القسطلاني رَحِمَه الله ـ ((6)) . ونحن في هذا المطلب سنحاول أن نعلل تعليلاً معنوياً بعض صور الرسم في سُوْرَة الْقَصَصِ لأننا نعد ذلك ذا فائدة في إيضاح بعض معاني هذا السورة.
ونحن نجد من صور رسم المصحف في هذه السورة:
1. ءايت:
إذ رسمت الهمزة مستقلة وحذفت الألف بعد الياء. ولعل ذلك يَدُلُّ على كمال الجمع في كون تقديم الهمزة مشعر بذلك.
2. يستحي:
إذ رسمت بياء واحدة، وكان حقها أن ترسم بيائين، ولعل ذلك يَدُلُّ على شدة المبالغة في الإبقاء على النساء دون الرجال.
3. ءَاَلُ:
__________
(1) مقدمة ابن خلدون. عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن خلدون الحضرمي. ت 808 هـ. دار القلم. بيروت. ط5. 1984 م: ص 757 و 791.
(2) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 21.
(3) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 47.
(4) المصدر نفسه: ص 758.
(5) ينظر رسم المصحف: 223.
(6) لطائف الإشارات لفنون القراءات. للإمام شهاب الدِّيْن أبو العباس أحمد بن مُحَمَّد القسطلاني. 851 هـ ـ ت 923 هـ. تحقيق: عامر السيد عثمان. د. عَبْد الصبور شاهين. طبع المجلس العلمي للشؤون الإسلامية. القاهرة. 1972 م: 283 –284.

(1/135)


إذ رسمت همزة بدل علامة المد على الألف. ولعل ذلك للدلالة على أن هؤلاء الآل غير الصالحين، لأن الهمزة حرف تقليل أحياناً ((1)) .
4. امرأتُ:
إذ رسمت بتاء طويلة بدل التاء المدورة، ولعل ذلك ليدل على كمالها ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ لأن التاء الطويلة تدلّ على الكمال والعظمة.
5. يموسى:
إذ رسمت ياء النداء بغير ألف، ولعل ذلك للدلالة على سرعة النداء والخطاب في الحالتين ((2)) .
6. استئجره:
إذ رسمت الهمزة على كرسي، واستئجرت إذ رسمت الهمزة كذلك، ولعل ذلك للدلالة على مبالغتها وحرصها على طلب إجارة موسى (- عليه السلام -) لحاجتها وأختها لحمايته، فجاء الرسم الَقُرْآني بهذه الصيغة مشعراً بذلك.
7. ءانس:
إذ رسمت الهمزة لوحدها، ولعل ذلك لبيان شدة أنسه بالنار التي رآها.
8. فذنك:
إذ رسمت بغير ألف.
ولعل ذلك للدلالة على اسم الإشارة، وكونه موجهاً للبراهين الإلهية.
9. يهمن:
إذ رسمت بكرسي ياء بدل الألف، ولعل ذلك للدلالة على استعجال فرعون في ندائه لهامان.
10. ما اتهم:
إذ رسمت بكرسي بدل الألف، ولعل ذلك يتوجه لعدم مجيء النذير لهم من قبل.
11. سحران:
إذ رسمت بصيغة تقرأ بها بعدة قراءات، ولعل ذلك لكي يتوجه النصّ لعدة آفاق من القراءات، وبذلك إما للإشارة إلى موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ (ساحران) ، أو موسى ومحمد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ. وأما للإشارة إلى سحر معه سحر، أي سحر موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، وكل ذلك مما يفتح آفاق متعددة للنص.
12. شركاءي:
__________
(1) لقد رسمت في بعض المصاحف (سلام على آل ياسين) بألف ممدودة للتكريم، كما في الكَشَّاف: إذ قال: " وأما من قرأ آل ياسين اسم أبي إلياس أضيف إليه الآل ". الكَشَّاف: 3/ 353 –353.
(2) أي الآية 29 و 30 من سُوْرَة الْقَصَصِ.

(1/136)


إذ لم ترسم الهمزة على كرسيها،، ولعل ذلك للإشارة إلى انتفاء الشركاء وكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فرداً، لأن إفراد الهمزة مشعر بذلك كما لا يخفى.
13. ءامن:
إذ رسمت الهمزة منفردة دون رسم الألف وعليها علامة المد،، ولعل ذلك للإشارة إلى الثواب الموحد لمن آمن بجعل الهمزة مفردة، كما أن المؤمن مفرد في إيمانه.
إننا لا ندعي أن ما قدمناه من تأويلات للمعنى وفق ظواهر الرسم هو التأويل الوحيد، ولكن ما قدمناه هو تعليل استنتجناه من استقراء ظواهر الرسم المصحفي في سُوْرَة الْقَصَصِ، وهو في كلّ الأحوال اجتهاد مجتهد، ولسنا ممن يقول في الَقُرْآن الكَرِيم برأيه، فحاشى لله من ذلك، وإنما هو رأي أبديناه.

المبحث الثاني: الأطر العامة لسُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: دلالة التوحيد في سورة القصص

أنزل الله جل جلاله القرآن هادياً للناس ومرشداً لهم، ووضع لهم فيه المنهج الأقوم، والمنهاج الأحكم، فكان كما وصفه في ملازمته لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) {النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} ((1)) ، وتتضمن سور القرآن الكريم دلالات متعددة على التوحيد الإلهي الذي هو ذات (المعرفة الإلهية) ((2)) ، ولذلك كانت سورة الإخلاص تعدل
(ثلث القرآن) ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 157.
(2) حال أهل الحقيقة مع الله. السيد أحمد الرفاعي. (512 ـ 578 هـ) . تحقيق: مُحَمَّد علي مُحَمَّد. الدار الجماهيرية. ليبيا. 1975 م: ص111.
(3) صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد 4 /1915 رقم (4726) . من حديث أبي سعيد الخدري عن الرَّسُول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قوله: والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن) . وصحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد. رقم (1344) من حديث أبي هريرة (- رضي الله عنه -) .

(1/137)


ولعل من السور التي تضمنت جوانب متعددة من دلالة التوحيد سورة القصص (المكية) ((1)) ، التي وصفها بعض الباحثين، فقال: " إن سورة القصص قد احتوت في ذاتها على جوانب تشريعية في باطن النص، وفي نفس الوقت فقد احتوت على جوانب توحيدية في ظاهر النص بما لا يدع مجالاً للشك في أن سورة القصص تضمنت في مجملها روحاً إيمانياً يفيض على المؤمنين بوداعة وسكينة " ((2)) .
__________
(1) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /58.
(2) قصص الَقُرْآن، دروس وعبر. سعد يوسف أبو عزيز. الطبعة الأولى. دار الفجر للتراث. القاهرة. 1420 هـ. ص224 وما بعدها.

(1/138)


وتلك هي ميزة النص في سورة القصص كونه يحتوي على أسلوب خطاب يقرر حقيقة التوحيد بأسلوب غير مباشر، كما في قوله تعالى فيها: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ((1)) ، فمفهوم النص في هذه الآيات له ظاهر وباطن معنوي، فأما المفهوم الظاهر، فهو إن الله عز وجل هو الذي يصرف الكون ويقدر تصرفه فيه وما يجري فيه، أما المفهوم الداخلي ((2)) الإشاري، فيقرر حقيقة توحيدية أخرى، هي (أن إرجاع موسى (- عليه السلام -) إلى أمه كان لقدير إلهي ليكون فرعون وقومه الذين التقطوه في خانة المحاجة بكفرهم، وهو رسول الله تعالى لهم، ونحن نجد في سورة القصص أن آيات دلالة التوحيد ذات مبنى ومعنى صيغا بأسلوب يقرر حقيقة التوحيد حتى لدى أولئك الذين لا يؤمنون بالله جل جلاله ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} ((4)) في بيان الوعد الإلهي، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ((5)) في المشيئة الكلية، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((6)
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(2) لا ريب أننا لا نعني بالمفهوم الداخلي هاهنا ما كان يعنيه الباطنيون من ملاحدة القرامطة والإسماعيلية، بل إن مفهومنا لهذا التعبير هو (معرفة إشارات النص الكامنة فيه) ، راجع فضائح الباطنية. مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزالي أبو حامد. (450 ـ 505) . تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن بدوي. مؤسسة دار الكتب الثقافية. الكويت. (د. ت) .: ص45.
(3) ينظر التوحيد والمعرفة في الفكر الإسلامي. أحمد حسن الزين. الطبعة الثانية. دار العرفان. بيروت، لبنان. 1988 م.: ص 222-224.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.

(1/139)


) الوكالة الإلهية، {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((1)) التوحيد الخاص بالربوبية، {بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} ((2)) معطي الهدى، {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((3)) .
وقد عرف العلماء التوحيد بأنه:
" إفراد الله تعالى بالعبودية، والإقرار له بالوحدانية " ((4)) .
وهذا التعريف الذي يراه الباحث جامعاً مانعاً يرينا كيف أن سورة القصص قد تضمنت ما يمكن أن يكون بحق (كل دلائل التوحيد ودلالاتها) استناداً إلى ما ذهب إليه أحد الباحثين إذ قال: " إن آيات التوحيد الخالص في سورة القصص تنطق في حد ذاتها بمعنى (لا إله إلاَّ الله) على سبيل الإيضاح، أو الإشارة على حد سواء، لا بل يكاد أن يكون السياق العام للسورة في خطها البياني التصاعدي المتصاعد نحو الذروة ناطقاً بإفراد التوحيد. فسورة القصص في هذا الباب شارحة للصفات الالهية التوحيدية " ((5)) .
ولقد لاحظنا أن سورة القصص فيها عشرة مطالب توحيدية نوجزها في النقاط الآتية:
1- المنّ على المؤمنين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(4) علم الكلام نظرة تحليلية. د. عبد الكريم راجي. الطبعة الثانية. دار ذات السلاسل. الكويت. 1988 م.: ص93.
(5) القصص القرآني: ص307 وما بعدها.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

(1/140)


2- صدق وعد الله عز وجل: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) .
3- الجزاء الصالح: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((2)) .
4- غفران الله لعبادة المؤمنين: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ((3)) .
5- الهداية الإلهية: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((4)) .
6- إشهاد الله عز وجل: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((5)) .
7- الربوبية: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((6)) .
8- الحق والهداية من الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ((7)) ، و {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((8))
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

(1/141)


9- عدم إهلاك القرى إلا بإنذار: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((1)) .
10- التوحيد بإسناد الصفات: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((2)) .
فهذه المطالب العشرة تبين لنا أن آيات التوحيد في سورة القصص تجري في نظام قرآني إعجازي لا يدانيه بحق أي نظام لغوي آخر. وفي ذلك يقول الدكتور ناصر الحسن:
" والذي يحلل ما جاء في سورة القصص الشريفة يلاحظ كيف أن مجرى آيات وحدانية الله عز وجل فيها تسير في طريق مستقيم فتأخذ بالعقول والقلوب كمثل قوله تعالى فيها: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ((3)) ، فإن دلالته على أن الله عز وجل يتكفل برسله، ويصطفيهم منذ طفولتهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فالآية هنا تجعل تحريم المراضع على موسى (- عليه السلام -) في قصر فرعون فعلاً من أفعال الله عز وجل، وفي ذلك دلالة عظمى على وحدانيته تعالى " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12.
(4) مباحث في إعجاز الَقُرْآن. د. سليمان علي. الطبعة الثانية. دار المعارف بمصر. 1986 م.: ص 158.

(1/142)


وإذا ما حاول الباحث ـ استناداً إلى ما تقدم ـ إعادة صياغة معنى الآيات التوحيدية في سورة القصص، فإنه يخرج بما يمكن أن نوجزه من صفات الله عز وجل في النص الآتي المستخلص من السورة نفسها على ما قدمنا نقله من سوابق الآيات: (إن وعد الله حق يلحق بالصالحين وهو وكيلهم، رب العالمين ببراهينه، وهو العليم بمن جاء بالهدى، وإن الهدى هو هداه الذي هو الحق من عنده وبيده وحده الهداية، الذي لا يعذب قرية إلا بعد أن يقيم عليها الحجة، وما عنده هو الخير الباقي الذي يخلق، والذي يعلم الخوافي، لا إله إلا هو رب الليل والنهار، وهو الذي لا يحب الفرحين ولا المفسدين، مهلك القرون الماضية الذي ثوابه الثواب لمن آمن وما من احد يشعر امراً من دونه الذي يرد الناس إلى معاد، كلّ شيء هالك إلاّ وجه جل جلالة) .

(1/143)


وهذه الإشارات لاقت هوى من العارفين، فتحققوا بها، وبخاصة ما ورد منها على الاجمال ((1)) . وقد كان لآية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((2)) دلالة توحيدية تنزيهية تشبه دلالة قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} ((3)) ، أو دلالة قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ((4)) ، فإثبات الوجه لله تعالى دون كيفية هو قمة من قمم التوحيد. وفي ذلك يقول الدكتور محمد عياش الكبيسي: " وصفات لا يدل ظاهرها على علاقة معنوية مع هذه الاسماء بل إن ظاهرها ولّد نوع إشكال في فهم المدارس الكلامية ... كإبعاض وأعضاء أضيفت إلى الله تعالى مثل الوجه في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} " ((5)) . ثم يعود الدكتور ليقرر ذلك، فيقول: " إن العقيدة القرآنية عقيدة عامة تناسب جميع المكلفين، لأنها جاءت لهم جميعاً ... وعلى هذا نرى كيف استطاعت عقيدة القرآن أن تقنع مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية وغيرها ودفعت بالجميع إلى الغاية
العظيمة " ((6)) .
__________
(1) النظام الخاص لأهل الاختصاص. السيد أحمد الرفاعي (512 ـ 578 هـ) تحقيق: مُحَمَّد علي مُحَمَّد. الدار الجماهيرية. ليبيا. 1978 م.: ص85.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(3) سُوْرَة الرَّحْمَنِ: الآية 27.
(4) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 115.
(5) العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين. مُحَمَّد عباس الكبيسي. الطبعة الأولى. بغداد. 1992 م.: ص121.
(6) المصدر نفسه: ص 32. 

وهذا الكلام مهم جداً جداً في بابه ونجاحه في تقرير آية الوجه في سورة القصص، التي هي في نفس الوقت آية من الآيات التي تتضمن دلالة التوحيد بما أراده هو سبحانه وتعالى أن يثبته لنفسه {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ((1)) ، ومن الواضح استناداً إلى ما تقدم أن آيات وجود الله عز وجل في سورة القصص، قد احتوت على كثير من دلالات التوحيد ذات المضمون العام المباشر الظاهر اللفظ والمعنى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} ((2)) .

المطلب الثاني: المرأة في سُوْرَة الْقَصَصِ
هنالك في سور القرآن الكريم وآياته مواضع كثيرة ذكرت فيها المرأة، وبينت فيها أحكامها، وخوطبت أكرم خطاب وأعزها أعظم إعزاز ((3)) .
وقد كانت المرأة وما زالت مكرمه بإيمانها في النص القرآني، لها ما للرجل، وعليها ماعليه، وحفظ لها القرآن الكريم كرامتها وشخصيتها وبينت ذلك أحاديث رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وأبرزت ذلك كله الشريعه السمحاء.
ويذكر ذلك بعض الباحثين فيقول: " إن توجيه الخطاب للمرأة في النصوص القرآنية حظي بأسلوب إلهي خاص جدير بالدراسه إستناداً إلى ظواهر النصوص وبواطنها، ذلك أن آليات المعنى تشير خلافاً إلى ما يزعمه مبغضو الاسلام إلى أن المرأة في الخطاب القرآني الموجه لها حضيت بالإكرام الذي ما بعد إكرام " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 180.
(2) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 19.
(3) ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القُرْآن الكَرِيْم. وضعه مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. مطابع الشعب. ط1. 1378 هـ. مادة (نساء) ، (امرأة) ، (المؤمنات) ، (فتياتكم) . . .. الخ.
(4) خطاب المرأة الَقُرْآني. د. سعاد الحكيم. الطبعة الأولى. دار المعرفة. بيروت. 1988 م: ص88 - 89.

  وقد حاولنا في هذا البحث أن ندرس ـ ضمن دراستنا المتكاملة إن شاء الله تعالى لسورة القصص ـ طبيعة الوصف القرآني للمرأة فيها، وهو ما أوضحه الدكتور مرشد عبد العزيز، فقال في ذلك:
" لقد كانت سورة القصص المكية تجد وصفين لنوعين من أنواع النساء:
1- النساء المؤمنات (امرأة فرعون. أُم موسى) .
2- النساء بصورة عامة (يستحيي نساءهم) .
وذلك أوجد نوعاً من ثنائية الوصف الدلالي في إيضاح الصورة القرآنية للمرأة في سورة القصص " ((1)) .
ونحن نجد أن هذا التقييم قاصر في حد ذاته، فسورة القصص تحتوي ضمن وصفها الإلهي للمرأة على عدة أنواع من النساء تتعلق بها عدة طبائع ونوازع يمكن تلخيصها في الآتي بيانه إن شاء الله تعالى:
1. النساء الأسيرات (يستحيي نساءهم) :
والاستحياء ترك القتل مع الأسر، وقد فعل ذلك فرعون بنساء بني إسرائيل، وهن يظهرن في هذا النص بغير شخصية، فكأنهن ذبن في مجتمع العبيد الفرعوني.
2. الام:
__________
(1) خطاب المرأة القرآني: ص 191.

(1/146)


وتتجسد ملامح الأم في عدة مواضع من سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) ، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، {وَقَالَتْ لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ} ((3)) ، {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} ((4)) ، ففي هذه المواضع نجد أم موسى (- عليه السلام -) في أبهى مشاعرها بالامومة من ارضاعة الاول إلى إلقائه في التابوت في البحر، وتوكيل الله تعالى، وعدم الخوف، إلى فراغ فؤادها، وكونها كادت أن تخبر بذلك لولا أن سكَّن الله ذلك عنها، ثم أمرها لأخته بالبحث عنه وإرجاعه إليها بسلام لترضعه من بيت فرعون، فهذه مجموعة مشاعر الأم مجسدة في آيات سورة القصص على حده.
3. الاخت:
ونجدها هنا صورة الأخت التي تطيع أمها، وتتمتع بقدرات خارقة للنظر عن بعد كما يوحي بذلك سياق الاية: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ((5)) ، {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12.

(1/147)


فنحن نشاهد في هاتين الآيتين اللطف في خطاب أخت موسى لحاشية فرعون لتعيد أخاها ـ بإذن الله جل جلاله ـ إلى أمها بأمر الله تعالى، والله على كل شيء قدير.
4. الملكة المؤمنة:
ويصورها النص القرآني بأنها تتلطف في الخطاب لتحافظ على موسى (- عليه السلام -) من بطش زوجها الكافر. {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ((1)) .
5. المرأة المستضعفة:
وهي شخصية تصورها سورة القصص في حكايتها لأخبار ابنتي النبي الكريم شعيب ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ في قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ((2)) .
6. المرأة الحيية:
وهي سورة بليغة في كل بلاغة النص القرآني، وسورة معجزة في الوصف بما صورها الله تعالى في وصف حياء ابنة شعيب (- عليه السلام -) ، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ((3)) .
وتتجسد في هذه السورة أعلى مراحل كرامة المرأة في النص وأعظم مراتب شخصيتها القرآنية.
7. المرأة المخطوبة:
ويستخدم القرآن الكريم في هذا الموضع صيغة خطبة الأب لإبنته لمن رآه مكافئاً لها كما في قوله تعالى فيها: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((4)) .
8. المرآة المتزوجة:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 23.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.

(1/148)


والنص في سورة القصص يضيف المرآة المتزوجة إلى زوجها اكراماً لها بضمير الغائب، وهذا من بدائع الوصف القرآني للمرآة، كما في قوله تعالى: {فَسَارَ بِأَهْلِهِ} ، {قَالَ لأهْلِهِ} ، والمعنى القرآني الكامن في وصف المرأة المتزوجة، وإضافتها إلى موسى (- عليه السلام -) تقرّ بأن المرأة تبع لزوجها، وهذا من حكمة الله تعالى في خلقه، فإذا أدركنا مما تقدم صورة المرأة، والوصف القرآني في سورة القصص أدركنا إلى أي حد، وإلى أي مقدار كرم القرآن الكريم المرأة، وامتدحها وأثنى عليها ووصف ذكأها، وجعل لها أحكاماً خاصة بها دون مشقة ولا عسر.

المطلب الثالث: الزمن في سورة القصص

يعد الزمن بعداً دلالياً خاضعاً لتغيرات فلسفية ـ ذات صيغة عامة في كونها تتميز بأبعاد لا يمكن وصفها إلا من خلال تعريف الزمن بأنه: " البعد الدال على تغير الوقت " ((1)) .
أو هو " مرور الوقت في المكان الذي هو نقيض حركة الزمن " ((2)) ، ويمكن ربط المفهوم الحديث للزمن بالمفهوم العربي الإسلامي لفكرة الزمن بأنه: " تلك المداولة الإلهية للساعات والثواني والدقائق واللحظات التي تتحكم بحركة الإنسان على الأرض من خلال تقرير إلهي لليل والنهار المرتبطين بالشمس والقمر في دورانهما حيث دارا " ((3)) .
ونجد إضافة إلى ذلك كله ومقارنة به كله، أن للزمن بعداً لغوياً ـ بلاغياً يمكن تلمسه في قول بعض الباحثين:
__________
(1) موجز تاريخ الزمن. هربرت رج. ترجمة: رضوان علي رضوان. الطبعة الثانية. دار الشؤون الأكاديمية. بيروت، لبنان 1989 م.: ص 47. وينظر الزمن في الفكر الحديث. ديفد رأي. ترجمة: أحمد عَبْد الله. الطبعة الأولى. دار الشؤون الأكاديمية. بيروت، لبنان 1992 م.: ص 115.
(2) موجز تاريخ الزمن: ص48. وينظر الزمن في الفكر الحديث: ص 117.
(3) الزمن في الفكر الحديث: ص 120.

(1/149)


" لم يختلف اللغويون والنحاة والبلاغيون والكتاب المنشؤون العرب اختلافهم في دلالة لفظة الزمن على معناها فهي في مقابل الوقت تدلّ على المداولة اليومية للساعات. وقد شرح القرآن الكريم شرحاً وافياً فكرة أن الأيام بليلها ونهارها من الله سبحانه وتعالى، وهي الفكرة التي تبناها العلماء العرب في الكلام وفي اللغة على حد سواء، فالزمن عندهم جميعاً آلة حركة الوقت " ((1)) .
وقد حاول بعض المستشرقين أن ينفوا من اللغة العربية وجود دلالة زمنية في الأفعال (الماضية والحاضرة والمستقبلية) تدل على معنى زمني ((2)) ، وهذا الزعم باطل من أساسه لأن الدلالة الذاتية للفعل العربي تحمل الدلالة الزمنية في الماضي الذي ذهب، والحاضر الذي يضارع الكلام، والمستقبل المجرد عن سوف والسين، أو التصق بهما لفظاً وتقديراً في كون تلك الأفعال في معناها الفعلي وفي معناها البلاغي تدل على زمن ((3)) .
ولا ريب أن هذه الفرية بعض ما تعود المستشرقون على إلصاقه باللغة العربية منذ زمن طويل ((4)) .
__________
(1) اللغة العربية وفكرة الزمن. د. علي دك الباب. الطبعة الأولى. الطبعة الأولى. دار الكتاب العربي. بيروت. دمشق. 1994 م.: ص 145.
(2) اللغة العربية وفكرة الزمن: ص 217.
(3) ينظر اللغة العربية وفكرة الزمن: ص 192.
(4) أباطيل وأسحار. محمود مُحَمَّد شاكر. الطبعة الرابعة. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1988 م: ص 244.

(1/150)


ونحن في هذا المطلب سنحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ دراسة البلاغة القرآنية المعجزة إلهياً في استخدام الزمن بصيغه الماضية، والحاضرة، والمستقبلية في سورة القصص تحديداً لما لاحظناه من هذا الإكثار الذي يكاد أن يعم في مدلولات الزمن، وكل ذلك إنما أتى لحكمة إلهية قد تكون غابت يوماً عن عصر المفسرين القدماء والبلاغيين القدماء وفق معارف عصرهم، أما اليوم فمن واجب المفسر المحدث إظهارها. وقد تنبه الرازي لبعض ذلك فقال في تفسير قوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} ((1)) ، " (ونريد) للاستقبال، ولكن أريد به حكاية حال ماضية، ويجوز أن يكون حالاً من يستضعف، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم " ((2)) ، فنحن واجدون في سورة القصص أن قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ((3)) يحمل دلالة زمنية في كون الخطاب الحاضر متعلقاً بحال ماضي يؤول في مجمله إلى المستقبل، وهذا أحد أوجه الإعجاز القرآني في أسلوبه الفخم المتعدد الدلالات والمعاني.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) مفاتيح الغيب: 12 / 226.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.

(1/151)


واستخدام صيغ الماضي بكثرة في سورة القصص مثلما ورد في قصة موسى (- عليه السلام -) مثلاً: {علاَ فِي الأَرْضِ} ((1)) ، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((2)) ،
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} ((3)) ، {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} ((4)) {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ
الْمَرَاضِعَ} ((5)) ، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((6)) ، {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} ((7)) ، مشعر في حد ذاته بأن الزمن الماضي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالزمن الحاضر لا يكاد ينفصل عنه أبداً، لأن ذلك الاستخدام لا يكاد يفارق ما مضى إلا لدلالة أخرى بقرينة أخرى، فقوله تعالى: {علاَ فِي الأَرْضِ} هو نفسه (يعلو) و (سيعلو) لما ضارع ولما استقبل في دلالته، وكذلك تنبه لهذه الدلالة الماضية الإمام الآلوسي ـ رحمه الله برحمته ـ فقال في تفسير قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} ((8)) ، " (بالأمس) منذ زمان قريب، وهو مجاز شائع، وجوز حمله على الحقيقة، والجار والمجرور متعلق بـ (تمنوا) أو بمكانه، قيل: والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في (فخسفنا) يدل عليه " ((9)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(9) روح المعاني في تَفْسِير القُرْآن العَظِيْم والسبع المثاني. لأبي الفضل شهاب الدِّيْن السيد محمود الآلوسي البغدادي. ت 1307 هـ. إدارة الطباعة المنيرية بمصر (د. ت) : 20 / 124.

(1/152)


ونحن نوافق الآلوسي في ذلك، فإن دلالة الفعل الماضي الناقص (وأصبح) مقترنة (بالأمس) أصبحت تظهر استمرارية الزمن الماضي ودلالات الماضي في هذه السورة بلاغياً توجب الانبهار لبديع الأسلوب القرآني المعجز فقوله تعالى فيها: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) ، يدلّ على اقتران الفعل الماضي (عما) بالظرف الزماني (يومئذ) يصلح في استخدامه لوصف حال أولئك القوم الذين مضوا، مثلما يصلح في استخدامه لوصف حال كل قوم عميت عليهم الأنباء، فهم لا يتساءلون عن أي شيء لأنهم لا يستفيدون من سؤالهم بعد أن ذهب عنهم الزمن الذي هم فيه.
وقد تنبه على ذلك الزمخشري ـ رحمه الله برحمته ـ فقال في قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} : " فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم، {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} لا يسال بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنهم يتساوون جميعاً في عمى الأنباء عليهم " ((2)) .
أما دلالات الفعل المضارع على الحاضر في سورة القصص، فهي ذات صيغة خاصة تجعل قارئ النص القرآني في سورة القصص يشعر بكونه مشاهداً لما يقرأون في خياله الذي يتصور به الأشياء.
فقوله تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((3)) يدلّ فيما يدلّ عليه على أن توالي الأفعال المضارعة (يستضعف) ، (يذبح) ،
(يستحي) خاص بهذه الصيغة الزمنية التي تجعل النص ليس خاصاً ببني إسرائيل وفرعون فحسب، بل خاصاً بكل من استضعف في الأرض.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 66.
(2) الكَشَّاف: 3/188.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

(1/153)


وقوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((1)) ، يدلّ في
(تمشي) وهو فعل مضارع تام على أن المشي استمر في النص، وهذه دلالة زمنية بليغة كل البلاغة تشعر بإعجاز النص القرآني.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِن الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، فقد توالت الأفعال المضارعة توالياً جعلها سنة إلهية خاصة بكل مجموعة من الناس في الماضي، والحاضر، والمستقبل.
وهذه الدلالات المضارعة تنبه لها الزمخشري رحمه الله فقال: " وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم هذا " ((3)) ، فجعل الزمخشري هذه الآية دالة على الزمن بكل دلالاته.
فقد قدمنا فيما مضى استعراضاً موجزاً يبرز مكامن دلالات الزمن في سورة القصص، لنبرهن على جمالية (الاستخدام القرآني) ليجعل منه نصاً متحركاً قابلاً للعمل به في كل زمان ومكان.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 47.
(3) الكشاف الزمخشري: 3 / 183.

(1/154)


فالذي دفعني لكتابة هذا المطلب في موضوع الزمن في سورة القصص بصورة خاصة، والذي يعبر عن دلالته في القرآن الكريم بصورة عامة هو ما يتفوه به بعض المتشدقين بالحضارة الغربية، والمنبهرين بترهاتها، مما أدى بهم إلى أن ادعوا ظلماً وبهتاناً أن القرآن لم يعد يصلح لزمن العولمة ولزمن الإنترنت ((1)) ، فنحن نريد أن نثبت ونبرهن من خلال هذا المطلب أن الزمن مستمر في دلالته على الماضي، والحاضر، والمستقبل على ما سنبينه ـ إن شاء الله تعالى ـ في الفصل الثامن، وبهذا بينا وجهاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم بقدرته على الأخذ بدقة الحياة وتوجيهها نحو شاطئ الأمان، بعد أن تاه الناس في دوامة الأيديولوجيات الغربية والأفكار المشوهة، فإنها خطوة أولى تتبعها خطوات على طريق تفعيل العمل بالقرآن الكريم.
قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ((2)) .

المطلب الرابع: التربية والسلوك في سورة القصص

لا يمكن إغفال أمر مهم كل الأهمية في استعراضنا التحليلي لسورة القصص، مفاده أن المرامي التربوية والسلوكية فيها تختلف كل الاختلاف عن باقي السور القرآنية التي تحتوي على غايات تربوية وسلوكية وإرشادية في كونها استهدفت أربعة أمور استطعنا أن نستخلصها من تحليلنا العام للسورة:
تسلية قلوب المؤمنين إيمانياً.
طمأنينة النفوس الإيمانية.
توجيه الفهم المعرفي إيمانياً.
إبراز المآل والعاقبة في الدنيا والآخرة ((3)) .
__________
(1) مفاهيم قرآنية. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة الثانية. الكويت. 1985 م.:
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 65.
(3) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم. د. عبد الحميد سليمان. الطبعة الأولى. دار الرياض. جدة. 1411 هـ: ص 221 - 222.

(1/155)


ولا ريب في أن هذه الأمور تستلزم أن نفهم مسارد مجيء الآيات القرآنية في سورة القصص من تلك التي تحتوي فيما تحتويه على مكامن تربوية وسلوكية وتحليلها، وفق نظرة عصرية حديثة جديدة، لأجل فهم أدق وأشمل لتلك الجوانب التربوية والسلوكية، تعد سورة القصص ـ وهي مكية كما قدمنا ـ من أوائل السور التي احتوت على كافة مبادئ الإرشاد التربوي الخمسة:
القراءة: {نَتْلُو عَلَيْكَ} ((1)) .
البيئة: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} ((2)) .
الاطمئنان: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} ((3)) .
الوصول: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ} ((4))
التذكير {وَمَا كُنتَ} ((5)) .
وهذه المبادئ الإرشادية التربوية الخمسة احتوت فيما احتوته على جوانب هي في حد ذاتها جوانب التربية والسلوك القرآني الإيماني، فنحن نجد مثلاً أن دلالة قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((6)) ، تدل فيما تدل عليه على أن الإنسان في بلوغه أشد عمره واستواء فهمه يؤتى إذا ما اخلص نيته لله سبحانه وتعالى الحكم والعلم، وبخاصة إذا ما ترقى في مرتبة الإحسان التي هي ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ((7)) ، وبهذا تستقيم التربية التي حض عليها الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44، 45، 46، 86.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(7) صحيح البخاري وهو جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه: كتاب الإيمان. باب سؤال جبريل ـ عَلَيْه السَّلام ـ عن الإيمان والإسلام والإحسان 4 / 1793. رقم (50) .

(1/156)


ونجد كذلك أن دلالة قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((1)) ، تدل فيما تدل عليه على أن الخروج لطلب العلم والمعرفة والفهم تكمن في النفسية التي تستطيع بشخصيتها أن تستهدي بالله سبحانه وتعالى، لأن الهداية الإلهية أساس طلب العلم، وهذا من أهم مبادئ السلوك التربوي الحديث التي سبقت آيات سورة القصص نظريات التربية الحديثة إلى أبرزها، ونجد أن قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} ((2)) ، يدل فيما يدل عليه على أن المراد بالحياء التربوي أساس من أساسيات السلوك العام والخاص الذي يتوجه، كما قال علماء النفس والسلوك: في أن الحياء خصلة من خصال التربية التي لا يمكن إقامة نظام تربوي متكامل إلا بها، لأن الحياء في أساسه أساس فعل كل شيء، أو الامتناع عن فعل كل شيء ((3)) .
ونجد في قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} ((4)) أنه يدل على جواز طلب الاستعانة في العلم بمن هو ناطق اللسان، وهذا من مبادئ علم السلوك التربوي الحديثة التي تنص على أن من حق الطالب أن يستعين في عرض آرائه بمن هو أقدر منه على عرض المادة.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 232 – 235.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.

(1/157)


ونجد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، أنه يدل في مجمل دلالاته الكلية والجزئية على أن إتيان الكتاب يكون من بعد إهلاك من لا يستحق إتيان الكتاب، وأن في العلم البصيرة والبصر، والهداية والهدى، والرحمة، وأن الغاية التربوية من ذلك كله التذكر العلمي الذي تكون نتيجة تحصيل كمال المعرفة، وقد نص علماء السلوك على أن أخذ العلم بعد ذهاب من لا يستحقونه ينتج عنه كمال العلم نفسه، وبهذا كذلك نجد السبق التربوي السلوكي للقرآن الكريم من قبل أصحاب هذه النظريات الحديثة.
ونجد أن قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ} ((2)) ، يدل في اقتضاءات سياقاته التربوية على أن نقصان الهداية وإتباع الهوى يؤدي إلى الضلال، وهذا ما قرره علماء التربية الحديثة، إذ جعلوا الهوى أحد مهلكات تحصيل العلم، وقرنوا بين الهوى النفسي (الرغبات الشخصية الذاتية) وبين الجهل المطبق، فجاء القرآن الكريم وأثبت هذه الحقيقة مما يدل على مصدره الإلهي.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 51.

(1/158)


ونجد أن قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ((1)) ، يدل في الذي يدل عليه على الأمر بترك سماع ما لا ينفع، لأنه يأخذ مساحة من العقل، جديرة بأن يخزن فيها أمر نافع، ولعل ذلك بعض العلة في تعوذ رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من العلم الذي لا ينفع ((2)) . وهو عين ما قرره علماء الإرشاد التربوي اليوم.
ونجد أن قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} ((3)) ، ثم نهاية قارون التي خسف فيه من خلالها، يدل على عدم جواز الاغترار بالعلم وحده، بل لا بد من تطبيق العلم والعمل، أو العمل والعلم. ورحم الله الإمام السنوسي صاحب الجوهرة إذ قال:
وعالم بعلمه لم يعلمن ... ... معذب من قبل عباد الوثن
وكل من بغير علم يعمل ... ... أعماله مردودة لا تقبل ((4))
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55.
(2) إشارة إلى حديث رواه مسلم عن زيد بن أرقم قال: ((لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) . صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والاستغفار، 4/ 2088 رقم (2722) .
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(4) بوارق الحقائق. مُحَمَّد مهدي بهاء الدين الرواس. تحقيق: عبد الحكيم القباني. الطبعة الرابعة. (د. ن.) . دمشق. 1994 م: ص 218.

(1/159)


وهذا هو عين ما قرره علماء السلوك التربوي إذ قالوا: إن من اغتر بعلمه جهل نفسه وعلمه، وكان القرآن الكريم قد سبقهم إلى ذلك في هذه الحقيقة التي لا زالت عندهم هنالك في الغرب نظرية لم تحقق، وهذا بعض أوجه الإعجاز التربوي القرآني.
ونجد أن قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ((1)) ، يدل في مفهومه العام على أن الإنسان مهما كان في ماضيه، وحاضره، ومستقبله لا يمكن له أن يتنبأ بما يؤول إليه أمره في العلم والمعرفة، لأن ذلك من الأمور المقدرة المسلمة بيد الله سبحانه وتعالى، وهذه الحقيقة كررها في العصر الحديث علماء التربية إذ ذهبوا إلى أن الإنسان مهما بلغ ذكاؤه لا يمكنه أن يعلم ما سيكون عليه مستواه العلمي والتعليمي، ولكنهم لكفرهم لم ينسبوا ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى، أما القرآن الكريم كلام الله جلَّ جلاله، فقد أسند هذه الحقيقة لله سبحانه وتعالى ليسبق هؤلاء العلماء في هذه الحقيقة التربوية.
وبذلك يمكن لنا أن نقول: إن سورة القصص الكريمة قد احتوت فيما احتوته على كافة المبادئ التربوية والإرشادية والسلوكية التي لم يتوصل إليها علماء النفس من التربويين إلا في أخريات العصر الحديث، وهذا مما توصلت إليه بحمد الله وشكره.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

(1/160)


فسورة القصص الكريمة في جوانبها التربوية، وفي مضامينها للسلوك التربوي لا تغفل أمراً، هو جد مهم في الحياة الإرشادية التعليمية والتفهيمية للإنسان ألا وهي الحرص على الجمع بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للآخرة ـ وهو العمل الأهم ـ وبين عموم نسيان نصيب الإنسان من الحياة الدنيا ـ وهو العمل المهم ـ وهكذا فإن من قيم سُوْرَة الْقَصَصِ الإرشادية في ذلك قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) ، فالإمامة للدنيا في بعض معانيها، والوراثة للآخرة، كما ذهب إلى ذلك من ذهب ((2)) .
ونجد أن الإرشاد في ذلك يتمثل في قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} (3) ، فالتمكين في الأرض يكون بنصيب من الحياة الدنيا مقابل (الجنة) التي هي نصيب الآخرة.
ونجد أن موسى (- عليه السلام -) أجر نفسه ثمان حجج أو عشراَ، وهذا أمر دنيوي أريدت به مجموعة الأمور الأخروية، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 187.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.

(1/161)


وهكذا تتضح قيمة التربية الإلهية، والإرشاد السلوكي في الجمع الذي تقدم ذكره قي قوله تعالى حاكياً عن بعض قوم موسى في مخاطبتهم لقرون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، فهذه الآية تدلّ في قيمتها التربوية التي تحملها على أن هناك عدة أمور يجب التنبه لها في التربية الإيمانية:
ابتغاء وجه الله عَزَّ وجَلَّ.
تذكر الدار الآخرة.
عدم نسيان نصيب الحياة الدنيا.
الإحسان، وهو أحد أعظم المراتب المعرفية التربوية السلوكية.
الابتعاد عن الفساد، لأنه خلاف أوامر الله عَزَّ وجَلَّ.
وفي ذلك يقول الله عَزَّ وجَلَّ في سُوْرَة الْقَصَصِ واصفاً الدار الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ} ((2)) ، ثُمَّ أعقبها بقوله:
{وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
بمعنى تربوي أن الذين يأخذون العلو في الأرض بعيداً عن الفساد يأخذون بفضل الله عَزَّ وجَلَّ ورحمته الدار الآخرة.
وبذلك تستقيم الحياة الدنيا بالآخرة في القيم التربوية، وفي الإرشاد التربوي السلوكي في سُوْرَة الْقَصَصِ.

المطلب الخامس: النظرة القرآنية لليهود في سورة القصص

تعد الشخصية اليهودية الإسرائيلية نسباً، من الشخصيات المحورية المعقدة كل التعقيد في القرآن الكريم، ذلك أن السمات العامة لهذه الشخصية في مجمل آيات القرآن الكريم على ما لاحظناه تتجسد في انهماكها في:
الكفر والشرك والإلحاد والاستهزاء الديني.
المال والبيع والشراء والاقتصاد والتجارة.
الانغماس في اللذات والأخذ بالدنيا.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

(1/162)


الغرور بالنسب والدين والقوية والجنس وما في الوعود السابقة.
الجرأة على انتهاك حدود الله عَزَّ وجَلَّ.
والإجرام هو محور هذه الشخصية، والصفة التي اتصفت بها طوال عصورها، ومع هذا الإجرام هناك لعنة الجبن المحيطة بهذه الشخصية في كل أطوارها، وفي كل نزالاتها الداخلية والخارجية ((1)) .
ومن الملاحظ أن سورة القصص قد حفلت بجانب كبير، ضمنياً، أو مضمونياً، أو تصريحاً، أو تلميحاً من هذه الجوانب في إطارها الذي حللناه ودرسناه في كافة فصول هذه الرسالة.
فموسى (- عليه السلام -) وهو الشخصية المحورية في سورة القصص، وقصته هي الأساس الذي بينت عليه السورة كما يتضح من استقرائنا لها بصورة عمومية يتمحور من حوله اليهود وبنو إسرائيل، بمؤمنيهم وكافريهم، وطغاتهم وطواغيتهم.
ونحن نحسب أن من المفيد جداً أن نفهم من خلال كل سورة على حدة كيفية تطور الشخصية اليهودية دينياً، ووظيفة بعض آيات القرآن الكريم في التحذير منهم، وفي التنبيه إلى الحكمة الإلهية التي أوجبت أن يتحولوا إلى قردة وخنازير، على ما ورد في النص القرآني على الحقيقة لا على المجاز على ما أخبر الله سبحانه وتعالى ((2)) .
لذلك يمكن أن نجد في هذا المطلب السمات الشخصية العامة للشخصية اليهودية في سورة القصص باستقراء كلي شمولي للآيات القرآنية الخاصة بهذا الموضوع.
وفائدة هذا الموضوع تتجلى في كونه معيناً على التصور العام لكل يهودي من بني إسرائيل في مضمون النص المحلل، وفق آليات الفهم الداخلي والخارجي للمعنى، ومعنى المعنى في آيات سورة القصص.
إن سورة القصص تجعل الشخصية اليهودية لبني إسرائيل متجسدة كل التجسد في:
__________
(1) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة. مُحَمَّد السيد طنطاوي. الطبعة الرابعة. القاهرة. 1988 م: 1 /197 –198.
(2) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة: 2/ 284 –287.

(1/163)


الاستضعاف وموافقة الظالم في طغيانه. {إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((1)) .
الجبن والعام والسقوط تحت سيف القتل. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} ((2)) .
الاستهانة بالعرض وعدم الالتفات لما يقع عليه. {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((3)) .
نبذ الإمامة والوراثة من قبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بدليل الوعود الإلهية في قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((4)) .
حاجتهم إلى قوة إلهية للنصر على أعدائهم. {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) .
الإيغال في الشر والقتال بسب أو بدون سبب. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ((6)) .
العودة لصنع الفتن والمشاكل وافتعال الشر والتكرار البالغ فيه. ... {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ((7)) .
الغدر ونكران المعروف. {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5- 6.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19.

(1/164)


الكذب على الإنسان في وجهه وصنع البهتان. {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} ((1)) وهذا باب من أبواب نكر الجميل، فالشخصية هاهنا كما صورت في سورة القصص لا ينفع معها معروف أبداً.
طول العمر قد ينسيهم ذكر الله عزَّ وجلَّ. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((2)) .
البغي. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((3)) .
الفرح بالنعمة الدنيوية. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((4)) .
نسيان الآخرة. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} ((5)) .
عدم الموازنة بين الدنيا والآخرة. {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} ((6)) ، فإن الشخصية اليهودية تميل إلى عدم التوازن بين الدنيا والآخرة، وجعل جل الاهتمام بالدنيا وعبادتهم للمال والمظاهر الدنيوية.
عدم الإحسان. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((7)) .
الإفساد. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((8)) .
الظن الكاذب بأن المال يؤتى عن طريق العلم الشخصي. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((9)) .
محبة الزينة. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ((10)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.

(1/165)


محبة الحياة الدنيا. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} ((1)) .
الطع والشراهة وحسد الآخرين. {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} ((2)) .
الجهل العميق. {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ((3)) .
عدم نصرة بعضهم لبعض إذا وقع في أمر معضل. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ((4)) .
حلول اللعنة الأبدية عليهم. {وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} ((5)) .
الانهزامية وعدم الثبات على رأي. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ((6)) .
تقريرهم للحقائق بعد وقوعها رغم علمهم السابق بها. {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ((7)) .
ونحن إذا حللنا ما تقدم من مقومات الشخصية اليهودية في سورة القصص والتي وضعنا لكل منها دليلاً في آيات السورة، نجد مثلاً أن صفة الاستضعاف وما تلاها من صفات هي صفات دائمة مما يوصلنا إلى نتيجة مهمة وهي: إن الشخصية اليهودية في سورة القصص، مصورة في أحوال وأشكال تجمع كل ما وصفهم به القرآن الكريم في كل آياته وسوره ((8)) ، وهو وجه آخر من وجوه الإعجاز القرآني في سورة القصص.

المطلب السادس: المال مفهومه وغاياته في سورة القصص
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(8) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة: 1 / 98.

(1/166)


تعد النظرة القرآنية في الحدود الإلهية للمال ومقوماته، وسبل جمعه وخصائصه، ومقومات وجوده، والهدف منه، نظرة تجعله سبيلاً لا غاية ولا هدفاً، بل إن كثيراً من آيات القرآن الكريم تحضّ على عدم الالتهاء والانغرار بالمال، وتجعل المال في الوقت نفسه مما يلهي، ومما ينسب للذين نسوا الله عزَّ وجلَّ.
ولا ريب في أن للمال في القرآن الكريم مفهوماً مادياً يجعله مما يلهي ويعجب أو يبعث على الحسد، وأحياناً يزيد من طغيان الطاغية، وتجبر المتجبر ((1)) .
ونلاحظ في سورة القصص التي حللنا كافة مضامينها في هذه الرسالة أنها أشارت إشارات متعددة للمال تصريحاً، أو مجازاً، أو ضمن مفهوم سياق النص على أنه من الأشياء المذمومة التي تبعث على الابتعاد عن الله عزَّ وجلَّ، ولكن آيات سورة القصص في الوقت نفسه حضت على عدم نسيان نصيب الإنسان من الدنيا: (وهو ما يشمل المال بأنواعه المتنوعة) ((2)) ، لذلك كانت لسورة القصص مجموعة من المفاهيم (عن المال) ، ودعوه لمجموعة من الغايات (للمال نفسه) يمكن إيجازها في النقاط الآتية استناداً إلى تحليلنا وتفسيرنا للآيات:
الوراثة الإلهية للمستضعفين مالياً ضمن كل أنواع الإرث من خلال وعد الله عزَّ وجلَّ: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((3)) ، فهاهنا موقف وسط غير رافض للمال في حد ذاته كونه مالاً، وإلا لم يوعد به كلّ هؤلاء المستضعفين من الله جلَّ جلاله مع التمكين في الأرض وإنما المرفوض ما كان من تصرف فرعون بماله حتَّى:
{علاَ فِي الأَرْضِ} ((4)) كما قررت سورة القصص.
__________
(1) ينظر في الاقتصاد الإسلامي. د. عمر شقرا. الطبعة الثالثة. دار الحكمة. لندن. 1994 م: ص 277 – 278.
(2) ينظر المصدر نفسه: ص 310.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 – 6.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

(1/167)


الإجارة المالية وإعطاءها حقها الوافي التام، وما يترتب عليها من أجور مالية أو غير مالية، وهو الوقت الذي قرره الله عزَّ وجلَّ في طلب شعيب ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ من موسى أن يؤجر نفسه له إذ قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} ((1)) ، فلم يكن للمال وجود في هذه الإجارة، ورغم ذلك قبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك، وزاد عليه في قبوله عندما قال لشعيب (- عليه السلام -) : {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((2)) ، فإن موسى (- عليه السلام -) لم يجعل المال (وهو أحد شروط الإجارة عرفاً وعقلاً وشرعاً وفقهاً في القديم والحديث) غاية، بل قبل بهذه الإجارة الطويلة الأمد، مما يدل على أن المال هاهنا مفهوم مجازي بعيد كل البعد عن عقله (- عليه السلام -) (وذلك كذلك قبل بنفسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ) .
الإنفاق المالي من رزق الله جلَّ جلاله من صفات المؤمنين، وذلك بدليل قوله عزَّ وجلَّ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ((3)) ، فإن هذا المدح بصفة هؤلاء المؤمنين هنا إنما كان لأنهم جعلوا المال وسيلة لا هدف، وإنما كانوا ينفقون بقدر الرزق بإنصاف دون إسراف، فكان ذلك من صفات إيمانهم والذكر المجازي للمال دون التصريح به في سياق هذه الآية يجعله بعيداً كل البعد عن الذم، بل ربما كان هنا مما يؤجر عليه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.

(1/168)


المال قد يكون سبباً في البطر والكفر على رغم أنه نعمة من نعم الله عزَّ وجلَّ، وذلك فيما أمتنه الله عزَّ وجلَّ على قوم الرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إذ قال جلَّ جلاله بعد أن قالوا:
{إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ((1)) ، فبين الله عزَّ وجلَّ منته (مالياً) عليهم بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)) ، فالمال في مفهومه المجازي هاهنا مع الثمرات والرزق لم يكن سبباً لإيمان هؤلاء القوم، بل خافوا على أموالهم، فبين الله عزَّ وجلَّ لهم سوء رأيهم (المالي) في ذلك بأسلوب إعجازي مبين.
إن الهلاك قد يكون بسبب طغيان المال وبطر المعيشة، وذلك أن بطر المعيشة بمعنى التمادي في الإسراف ونسيان الآخرة بالدنيا سبب وفرة المال مفهوم كفري بينه الله عزَّ وجلَّ في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((3)) ، وما ذكره الله عزَّ وجلَّ من نسبة الوراثة هذه له تعالى يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

(1/169)


إن المال في حد ذاته أمر دنيوي، وذلك واضح في جعل الله عزَّ وجلَّ للمال في سورة القصص شيئاً دنيوياً لا يؤبه له في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ((1)) ، بمعنى آخر أن كل مال هو متاع دنيوي معرض إلى زوال، أي: انه غير باق، وهذا من دلالات السياق القرآني.
إن المال متاع دنيوي لا أخروية له إلا بمقدار ما يوصل المرء إلى إقامة الدين، وذلك واضح في قوله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} ((2)) ، فمن كانت هذه صفته في استمتاعه المالي كان محضراً للحساب يوم القيامة، كما تقرر هذه الآية الشريفة.
المال فضل من الافضال. وذلك في سياق من الله عزَّ وجلَّ للناس أن جعل لهم أوقات اليوم في قوله عزَّ وجلَّ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ((3)) ، ثم بين الله عزَّ وجلَّ كون ذلك الفضل محتاجاً للشكر (اليوم) في قوله عزَّ وجلَّ بعد ذلك (لعلكم تشكرون) ، لان الشكر دال على الفضل في ابتغاء هذا الرزق، وهذا من معاني القرآن الكريم التي تجيء بلفظ مختصر يغني عن المقولات.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 60.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 73.

(1/170)


المال الذي يكون هدفاً في حد ذاته موجب للعذاب، وذلك في قصة قارون إذ أن كنوزه المالية على كثرتها جعلته يفرح بما ليس له قط ونسي نصيبه من الآخرة، إذ جعل كل نصيبه من الدنيا وابتعد عن الإحسان (وإعطاء المال بعض صور الإحسان) وابتغى الفساد بماله ثم زاد على ذلك بأن قال ((1)) {: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((2)) ثم كان المال عنده وسيلة للظهور بزينته المادية والمعنوية وفتنته لبعض ضعاف الإيمان ممن زعموا أن له حظاُ عظيماً، ثم كان عاقبته أنه كما قال عزَّ وجلَّ فيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} ((3)) وهذا أمر يشمل ما مضى ومن سيأتي! .
__________
(1) في عصرنا هذا كان من مبادئ العولمة أن المال إنما يأتي من العلم الموجود عند دعاة العولمة من خلال ثورة المعلومات وأجهزة الاتصالات لنقل المعلومات، فجمعوا مثل قارون بين ما عندهم وبين العلم الموجود عندهم، ولا ريب أن الاستقراء المستقبلي لمستقبل العولمة يرينا أنها ستكون في تفككها مثل تخسف قارون بماله في الأرض، وتلك سنة الله جلَّ جلاله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ونحن نجد أن كل من يقول لدعاة العولمة (اتقوا الله ولا تكفروا) يستهزئون به كما فعل قارون وحاشيته بمن وعظوهم، وهذا من عجائب تكرر التاريخ بنفسه؟ ! ، لان استمرارية (كان) في الماضي، والحاضر، والمستقبل في قوله تعالى: {وما كان من المنتصرين} تدلّ على تلك النهاية التي نراها للعولمة إن شاء الله العلي العظيم. وينظر نذر العولمة. عبد الحي زلوم. الطبعة الثانية. بيروت، لبنان. 1998 م.: ص 188 – 189.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.

(1/171)


إن المال في بسط الرزق منسوب لله عزَّ وجلَّ وكذلك التقتير، وهذه من حقائق الفوائد القرآنية التي تكرر ذكرها فيه بدليل قوله تعالى في سورة القصص: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ((1)) ، وهذه النسبة للرزق المالي لله عزَّ وجلَّ تجعل المؤمن مطمئناً عند تحققه الإيماني بأن المال مفهوم مساعد وليس هدفاً مطلوباً في حد ذاته.
ونصل من ذلك إلى أن المال في سورة القصص في الوقت الذي قد يوصل بعض الأشخاص للعذاب بعد الطغيان، يمكن أن يوصل المؤمنين للرحمة بعد المحن والصبر عليها، وهم أولئك الذين استحقوا وراثة الدنيا والآخرة.
المطلب السابع: أسلوب الدعوة في سورة القصص

إن أسلوب الدعوة في سورة القصص يكمن في توجيه النظر الإنساني في نحو معرفة الله عزَّ وجلَّ، ونحو الوصول إلى الله عن طريق الأداء المعرفي، لذلك كانت غايات الدعوة وأهدافها في سورة القصص عبارة عن غايات عالمية وأهداف إنسانية ((2)) .
فالدعوة القرآنية عموماً لله عزَّ وجلَّ في كل سور وآيات القرآن الكريم ذات خصوصية مميزة هي (الحكمة والموعظة الحسنة) ((3)) ، أما سورة القصص فقد جمعت في مجموع آياتها ما يتعلق بركني الدعوة الإسلامية:
جمعت الحكمة في أخبار الماضين.
جمعت الموعظة الحسنة في المعاصرة في الخطاب.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(2) ينظر الدعوة إلى الإسلام. د. حسن عَبْد الله. الطبعة الثانية. دار العلم للملايين. 1986 م: ص 121 - 122.
(3) ينظر المصدر نفسه: ص 88 -89. 147 - 150.

(1/172)


وقد لاحظت في تحليلي لسورة القصص والاتجاه الدعوي فيها أن أسلوب الدعوة لله عزَّ وجلَّ يتميز بالتوحيد في الخطاب (بمعنى توجيه الخطاب نحو مخاطب واحد) ، ويتميز بالتذكير في الوحي (بمعنى تعداد نِعَمِ الله عزَّ وجلَّ) ، ويتميز بالأسلوب المفتوح في عرض الدعوة وإبراز ما أصاب من رفضوا الدعوة من الأمم الماضية.
وقد لاحظت أن أسلوب الدعوة في سورة القصص جاء بعدة أساليب:
أسلوب التاريخ الماضي.
أسلوب الحاضر الموجود.
أسلوب المستقبل القادم.
أسلوب ما فوق الزمان والمكان من قوى إلهية أصابت الأمم.
أسلوب تمثيل الطغاة.
أسلوب تمثيل الدعاة.
أسلوب الرجع والمال.
أسلوب الجمع بين الدنيا بنصيبها والآخرة بكليتها الجمعية.
وهذه الأساليب الدعوية حفلت بمواطن تبعث على الرجوع إلى الله جلَّ جلاله.
إن أسلوب الدعوة في سورة القصص في مبناها ومعناها يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط أساسية:
الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
ترك الظلم والطغيان.
معرفة نصيب الدنيا ونصيب الآخرة من الإنسان.
وإذا كان علماء الاجتماع المحدثون قد بينوا أن الدعوة لعقيدة ما أنما تكون بالتيسير لا بالتعسير ((1)) ، فإن الأسلوب القرآني في سورة القصص جمع تلك النظرية وعرضها بالخطاب الإلهي في دلالة قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) فإن دلالة التلاوة هاهنا مع ذكر وتقديم موسى أولاً، وتأخير فرعون ثانياً ثم ذكر المصدر مقرون بحرف الجر (بالحق) وذكر أن ذلك إنما هو لقوم يؤمنون، كل ذلك يبين أن أسلوب الدعوة في سورة القصص هي بالتيسير في الدعوة نحو العقيدة الحقيقية ((3)) .
__________
(1) في علم الاجتماع الإسلامي. أحمد العلمي. الطبعة الأولى. دمشق. الدار الإسلامية. 1986 م: ص 22 –23.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3) ينظر في علم الاجتماع الإسلامي: ص 171 – 172. 184 –187.

(1/173)


ويمكن ان نلتمس في سورة القصص أسلوب الدعوة في النقاط الآتية، من خلال ذكر القاعدة الدعوية والآية القرآنية من سورة القصص:
إبراز أن الله عزَّ وجلَّ وعد المؤمنين بالاستخلاف والنصر. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((1)) فهذا الخطاب الوعدي جعل للدعاة لله عزَّ وجلَّ:
الإمامة.
الوراثة.
التمكين في الأرض.
إن اللين في الدعوة مطلوب حتَّى مع الكفر، بدليل خطاب امرأة فرعون لفرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} ((2)) ، ثم قالت: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ((3)) ، مع أنها بإيمانها كانت تعلم أن فرعون حريص على قتل موسى (- عليه السلام -) .
إن التوفيق الإلهي بالنصر الرباني يعزز الدعاة في ضيقهم بالاطمئنان بدليل قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((4)) .
إن من صفات الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ الشدة والاستواء في الكمال بدليل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (5) ، فهذه الصفات تؤول إلى الحكم والعلم، وجزاء ذلك (الإحسان) ، وأن يكون الداعية من (المحسنين) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 – 6.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.

(1/174)


إن النصح حتَّى في أوقات المخاطر من صفات الدعاة بدليل قوله عزَّ وجلَّ في حكاية مؤمن آل فرعون ودعوته لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} ((1)) ، فهذا الخطاب الدعوي تميز بأنه خطاب ناصح مشفق شفيق.
إن من واجب الدعاة طلب الهداية الإلهية في دعوتهم ومنهاجهم: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((2)) ، فهذه الآية في إبرازها لقصة موسى (- عليه السلام -) وخروجه نحو مدين، بينت انه (- عليه السلام -) استهدى الله عزَّ وجلَّ، وذلك غاية الغايات لكل الدعاة.
إن من واجب الداعية أن يكون فصيح اللسان ليكون مستطيعاً في دعوته لله عزَّ وجلَّ ليبرز ما أنزله الله عزَّ وجلَّ للناس، وذلك ماثل في قوله تعالى:
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((3)) .
إن الداعية يجب ان يلين في الخطاب {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((4)) ، فخطاب موسى (- عليه السلام -) احتوى على:
نسبة العلم لله تعالى.
نسبة الهداية لله تعالى.
نسبة عاقبة الدار لله عزَّ وجلَّ.
إبراز عدم فلاح الظالمين.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.

(1/175)


إن الكتاب الإلهي هو أساس كل دعوة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، فهذه الآية احتوت على صفات الكتاب الدعوي:
إنه بصيرة لكل الناس.
إنه هداية ربانية.
إنه رحمة إلهية.
إنه أساس التذكر.
ومعلوم عند علماء الدعوة أن هذه الصفات هي مميزات كل كتاب دعوة، وهي في الإسلام خاصة بالقرآن الكريم، فجاءت سورة القصص وأبرزت ذلك في خطاب متناسق.
إن من إحدى أساليب خطاب الداعية هو الخطاب الإنذاري بدليل قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((2)) ، إن الغرض من الإنذار لأجل التذكر على ما نصت عليه الآية، وقد جعل علماء الدعوة الذكرى والتذكر من أهم صفات من توجه لهم الدعوة.
إن الإبلاغ هو أساس الدعوة بدليل قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} ((3)) ، بدليل أن صبغة الأمر المجرد (قل) تعني الإبلاغ، وفي هذه الآيات دلالة دعوية مهمة تتمثل في كون المجتمع الذي يتبع هواه بغير علم بعيداً عن السبيل الإلهي والطريق النبوي، فلا يستجيب للداعين مهما بلغت بلاغة الدعوة.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 49 –50.

(1/176)


إن معرفة حقائق القرآن إنما تكون للعلماء الربانيين الداعين إلى الله عزَّ وجلَّ بإذنه بدليل قوله جلَّ جلاله في هذه السورة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} ((1)) .
إن الصبر من صفات الدعاة بدليل سياق الآية المتممة لما سبق {بِمَا صَبَرُوا} ((2)) .
إن من صفات الدعاة اللين في الدعوة بدليل قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ((3)) .
إن الخلق الكريم من صفات الدعاة بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (4) .
إن الهداية في الدعوة من الله جلَّ جلاله، حتَّى وإن رغب الدعاة بمزيد هداية لمن أحبوا بدليل قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((5)) ، وهذا الخطاب وإن رجع إلى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، إلا انه في محتواه خطاب عام يصلح في دلالته الحالية أن يكون على ما قدمناه صفة من صفات الدعاة الربانيين، لأن الهداية في آية سورة القصص نسبت حصراً لله عزَّ وجلَّ.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 52 –54.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

(1/177)


إن الله عزَّ وجلَّ لا يخلي أرضاً من رسول، أو نبي، أو داعية بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ((1)) .
إن وعظ الدعاة يكون في كل حال، وخاصة عند ظهور الفساد بدليل خطاب بعض قوم قارون لقارون بعد أن طغى وتكبر وتجبر: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} ((2)) ، فقد تضمنت هذه الآيات جملة من صفات (المَدْعُوِّ) وهي:
النهي عن الفرح.
الأمر بابتغاء الآخرة.
عدم نسيان نصيب الدعوة من الدنيا.
لزوم الإحسان في المعاملة مع الله عزَّ وجلَّ ومع الناس جميعاً.
نبذ الفساد.
فهذه الصفات تلزم (المدعو) بعد أن يتحقق بها معه الداعي في دعوته.
إن من واجب الدعاة التحذير والإنذار بدليل خطاب بعض قوم قارون لمن تمنوا مكانه، وهم ممن وصفوا في الآية بأنهم (أوتوا العلم) إذ قالوا: لهؤلاء الجهلة من بني إسرائيل: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ} ((3)) .
تحقق الوعد الإلهي بالنصر بدليل عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 76 –77.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 80.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

(1/178)


إن الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ أمر إلهي خوطب به رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وما كان خطاباً عاماً لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، فهو خطاب خاص لأمته على ما قرره علماء الأصول وما كان خطاباً عاماً للنبي، فهو خطاب خاص لأمته، ولذلك كان قوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} ((1)) ، يشمل عموم الدعاة من أمة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) ، إذ أن هذا الأمر مشترك في الدعوة بين دعوة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، ودعوة الدعاة العلماء من أمته ـ عليه الصلاة والسلام ـ ((2)) .
وبعد ذلك يمكن أن نقرر استناداً إلى ما تقدم إن سورة القصص سورة دعوية (خاصة وأنها مما نزل بمكة المكرمة) ، وأنها سورة احتوت أوصاف الدعاة، ومن تمت دعوتهم، ووعد الله عزَّ وجلَّ لهم بالنصر، والتمكين، والإمامة، والوراثة.

المطلب الثامن: النظرة القرآنية للإنسان في سورة القصص

إن النظرة القرآنية للإنسان في كل أطواره وأحواله هي نظرة جامعة لكل خير ومانعة لكل شر، ذلك أن الإنسان في القرآن الكريم هو الشخصية المحورية المخلوقة للعبادة والاستخلاف في الأرض، وإصلاح ما فيها من فساد، واستعمارها بالوعد الإلهي، فإذا ما زاغ عن الحق، أو عن طريق الحق، أمكن بواسطة السنن الإلهية إرجاعه، وذلك لأن الإنسان في القرآن الكريم له مقومات شخصية ((3)) . يمكن أن نجعل منها أمرين على أنها أهم المهم:
الاستخلاف الإلهي.
العبادة الإيمانية.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(2) ينظر الدعوة إلى الإسلام: ص 139.
(3) ينظر الإنسان الحضاري في الَقُرْآن الكَرِيم: د. سليمة أحمد حسن. الطبعة الثانية. دار الهدى. تونس. 1991 م: ص 141.

(1/179)


وهكذا فإن سورة القصص تجسد النظرة القرآنية للإنسان في إيجاز يجمع ما تفرق في كثير من سوره وآياته الشريفة، ذلك أن سورة القصص تحمل في مضمونها العام النزوع الإنساني نحو الإيمان بالله جلَّ جلاله، والثقة بنصره، والتحذير من نسيان اليوم الآخر ((1)) .
وسورة القصص في مضامينها الإنسانية تحمل الدواعي الذاتية للتوجه نحو الله عزَّ وجلَّ من خلال استلهام الإنسان لمعنى إنسانيته التي سبقت علم النفس اليوم، ومعنى وجوده، ومعنى تكوينه على الأرض منذ آدم (- عليه السلام -) إلى يوم القيامة، وهو الأمر الذي تكفلت سورة القصص بإبرازه.
إن سورة القصص تبدأ بالإنسان وتنتهي بالإنسان، وما بين ذلك علاقة الإنسان بالله عزَّ وجلَّ وبالرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبالمجتمع الإنساني المحيط به، فسورة القصص تذكر ضمن الإطار الإنساني في نظرتها الإلهية:
التلاوة للمؤمنين بما يراعي الضعف وفق أساس فكري. {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) .
الضعف الإنساني. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} ((3)) .
المن الإلهي على الإنسان. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} ((4)) .
تحذير الإنسان من تجاوزه في الظلم. {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) .
__________
(1) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان. عَبْد الله مُحَمَّد. الطبعة الأولى. دار الهدى الإسلامي. بيروت، لبنان. 1992 م: ص 230 – 231.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

(1/180)


الأمومة الإنسانية ومشاعرها المتحيرة في نمطها. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} ((1)) .
الأخوة الإنسانية ومشاعرها. {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((2)) .
كمال الإنسانية بالحكم (الحكمة) والعلم. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((3)) .
الاقتتال قد يكون في نوازع الشر الإنسانية. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} ((4)) .
الإنابة الإنسانية. {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ((5)) .
الخوف سمة إنسانية. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((6)) .
إن الإنسان محتاج في استهدائه لله عزَّ وجلَّ. {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((7)) .
الرحمة صفة من صفات الطبع الإنساني. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} ((8)) .
الحياء سمة النساء. {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((9)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.

(1/181)


إن طلب النصر للأخ صفة إنسانية كما قرر علماء النفس. {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ((1)) .
إن الإنسان يتهم ما لا يعرفه بالسحر. {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ((2)) .
إن الظلم لا يدوم إنسانياً. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((3)) .
إن الكتب الإلهية هداية ربانية. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((4)) .
طول العمر الحضاري الأممي مبعد عن الله عزَّ وجلَّ. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((5)) .
إن اتباع الهوى صفة إنسانية قد تفني. {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((6)) .
الإيمان الإنساني قد يكون بالنصح فقط أو الهداية. {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ((7)) .
إن الهداية الإنسانية من الله عزَّ وجلَّ. {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

(1/182)


إن البطر الإنساني سمة وسم بها الكفرة. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((1)) .
إن الوعد الإلهي في صميم التحقق الإنساني. {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ((2)) .
إن التوبة تعيد الإنسان لله عزَّ وجلَّ. {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((3)) .
ليس للإنسان الخيار في الخلق. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((4)) .
إن مكنونات الصدور بعلم الله سبحانه وتعالى. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ((5)) .
إن الإنسان قد يطغى بالمال ويبغي. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((6)) .
إن الإنسان قد لا يجازي الإحسان بالإحسان. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((7)) كما قال الأصوليون.
إن الاغترار بالعلم يؤدي للاغترار والاجتراء على الله تعالى. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((8)) فنسب علمه لنفسه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 69.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.

(1/183)


إن الحسد على النعم موجود في بعض الطبيعة البشرية. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ((1)) .
إن الإنسان يفعل ويصنع حسناته وسيئاته بنفسه. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) .
إن الضلال الإنساني كله في علم الله جلَّ جلاله. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((3)) .
إن الإنسان يشعر بالراحة الأبدية إذا ما أوكل الأمور في الحكم والرجعة الأخروية إلى لله عزَّ وجلَّ. {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) .
إن هذه القواعد في أصولها القرآنية، إنما تكشف عن مجمل السمات البشرية، وترينا كيفية النظرة القرآنية في سورة القصص للإنسان وأفعاله وأقواله وأحواله، كما يجعل سورة القصص إحدى النصوص الإلهية التي سبقت علم النفس، والتي جمعت جمعاً عظيماً صفات النفس البشرية، وهو وجه آخر من أوجه إعجازها الكثيرة ((5)) .

المطلب التاسع: الإيمان والكفر في سورة القصص
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان: ص 197 -198.

(1/184)


الإيمان بالله عزَّ وجلَّ هو: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان على ما ذهب إليه أكثر المحققين ((1)) . فالإيمان إذاً هو تصديق بالغيب وإطاعة لما صدق به الإنسان في قراره قلبه، أما الكفر فهو جحود الخالق، والشرك تثنية إله أو آلهة مع الله عزَّ وجلَّ. وقد حفلت سورة القصص في خطوطها العامة والخاصة بمقومات الإيمان وخصائصه، وبآليات الكفر والشرك، ومآل الكافرين والمشركين على حد سواء.
جمعت سورة القصص في معانيها الكامنة ومعانيها الظاهرة أنواعاً عديدة من الإيمان مثل:
الإيمان العام.
الإيمان الخاص.
وأبرزت في حقائقها حقائق الكفر والشرك مثل:
حقيقة الادعاء بالألوهية بعد الطغيان.
حقيقة الحجج التي يسوقها الكفرة والمشركون.
ولا ريب في أن ذلك ساهم ضمن فوائد سورة القصص في استفادة أمر جداً مهم هو:
(إن الإيمان في صراعه مع الكفر والشرك مصيره النصر الإلهي وتعزيز الرسالة النبوية، ودعم كل المؤمنين، وتوريثهم الأرض في الدنيا والنصيب الحسن في الآخرة) .
ونحن في محاولتنا هذه لإبراز كل ما يتعلق بما تحتويه سورة القصص، سوف نحاول هاهنا ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ إبراز آيات الإيمان والكفر والشرك في سورة القصص بتحليلها شمولياً، وإظهار معانيها:
1. التلاوة القصصية إنما تكون للمؤمنين حصراً:
__________
(1) ينظر التعريفات (الجرجاني) : ص 70. شرح النسفية. تحقيق: د. عبد الملك السعدي الطبعة الأولى. دار الأنبار. 1988 م: ص 165.

(1/185)


{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((1)) ، فالآية تقرير إلهي بصيغة الجمع لقصة رسول كريم مع كافر، والقيد القرآني (بالحق) دليل على حصرية المعنى في حقيقته، ثم لماذا استخدم التعبير القرآني {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ولم يقل للمؤمنين، وذلك في رأينا الذي توصلنا إليه من خلال الاستقراء اللغوي هو أن دلالة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أبلغ في هذا المقام مما لو استخدمت لفظة (للمؤمنين) العامة فقد أراد القرآن الكريم أن يخصص (قوماً) بالتنكير، وهم أمة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ولا يعمم كلّ مؤمن (مما قد يشمل من لا يؤمن بحقيقية هذه القصة كبعض طوائف يهود من الذين آمنوا بالله تعالى، وأنكروا قصة موسى (- عليه السلام -) وفرعون، وقالوا: إنها رمز، ومنهم في عصرنا هذا سيجموند فرويد (ت 1939 م) عالم النفس الشهير في كتابه موسى والتوحيد ((2)) ! .
2. إن العلو في الأرض دليل الكفر:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) موسى والتوحيد. سيجموند فرويد. ترجمة: جورج طرابيشي. الطبعة السادسة. دار الطليعة. بيروت. 1985 م: ص 57 – 58.

(1/186)


{إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((1)) ، وذلك أن عمل الإنسان قد يكون دليل إيمانه، وقد يكون دليل كفره، لذلك كان القتل كبيرة، والفساد كبيرة، وقد صح عن رسول الله
(- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) ((2)) ، وهكذا بقية الكبائر المعروفة، فلما علا فرعون في الأرض ارتكب من خلال سياق الآية أعمالاً توجب كفره كما تقدم.
ومن هاهنا بان لنا خطأ بعض القائلين بإيمان فرعون في آخر لحظة مستندين إلى قوله: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ((3)) ، بدليل قوله تعالى في آية أخرى من سورة القصص عن فرعون وهامان وجندهما: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} ((4)) ، فالآية هاهنا دلت دلالة قطعية على أن العلو في الأرض دليل من أدلة الكفر المؤدي إلى النار، والعياذ بالله جلَّ جلاله.
3. إن الوحي الإيماني ليس دليلاً على رسالة النساء:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، صَحِيْح البُخَارِي: كتاب المظالم والغصب، باب النهب بغير إذن صاحبه. 2 /875 رقم (2343) . صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس 1 /76 رقم (57) .
(3) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 90.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 41.

(1/187)


{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((1)) الآية، وذلك ان قوماً من الجهلة لم يفهموا المراد من الوحي الإلهي والإيماني في بعض الحالات فزعموا استناد إلى قصتي أم موسى (- عليه السلام -) ومريم ـ عليها السلام ـ جواز إرسال النساء نبيات، وقد تأثروا في ذلك بما ورد في التلمود ((2)) من كون أم موسى نبية فوافقوا بذلك اليهود، وسياق آيات سورة القصص مع قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} ((3)) يدلّ على خلاف ذلك في المفهوم الإيماني، وذلك أن سورة القصص {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) الكنز المرصود في قواعد التلمود. مجهول المؤلف. الطبعة الرابعة. دار العلوم. بيروت، لبنان (د. ت) : ص 227 –228.
(3) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 109. سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 43.

(1/188)


لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) قررت في الوحي الإلهي لأم موسى جملة حقائق (تبطل نبوتها التي توهمها المتوهمون) ، إذ قررت الآيات هنالك لأم موسى
(- عليه السلام -) :
الأمر بالإرضاع.
الأمر بالإلقاء في اليم.
الأمر بعدم الخوف والحزن.
الربط على قلبها.
علمها بأن وعد الله حق.
وليس في هذه التقريرات ما يتعلق بالنبوة والأنبياء، ولا الرسالة والرسل، فبان بذلك كونها ـ عليها الرضوان ـ غير نبية، وبأن الوحي هاهنا هو مفهوم الأمر الإلهي الخاص على ما قرره القدماء! .
4. إن من الإيمان الدعاء الدائم:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 7 –13.

(1/189)


بدليل توجه موسى (- عليه السلام -) في كل مواقفه لله سبحانه وتعالى بالدعاء: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} ((1)) ، {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((2)) ، {رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((3)) ، {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((4)) ، {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((5)) ، وسياق هذه الآيات الثلاث الغير متوالية يدل من خلال تحليلها على أن شخصية موسى (- عليه السلام -) كانت شخصية مطمئنة راضية مرضية، لا تهتم بشيء قبل البعثة ولا بعدها ما دامت تعرف الله عزَّ وجلَّ حق معرفته، فموسى (- عليه السلام -) وجه لله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حقيقة مآله التي هي:
ظلم النفس.
الوعد بعدم مظاهرة المجرمين.
طلب النجاة.
الفقر لله تعالى.
طلب الهداية.
ويقابلها في مواطنها العامة:
الإيمان بمعرفة ظلم النفس بدليل آية يونس: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} ((6)) .
الإيمان بمعرفة ان مظاهرة المجرمين كفر: {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((7)) .
الإيمان بنسبة الانجاء لله جلَّ جلاله بدليل: (رَبِّ نَجِّنِي) .
الإيمان بمعرفة مقام الفقر لله تعالى بدليل: (فَقِيرٌ) في سياق دعائه.
الإيمان بالاستهداء.
وهذه المواطن الخمسة أوجبت في سورة القصص أن يكون الدعاء باب الإيمان الدائم.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 17.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(6) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 87.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 17.

(1/190)


إن دعاء موسى (- عليه السلام -) في سورة القصص طريق إيماني يوضح فضل الدعاء بصورة غير مباشرة، وذلك بعض الفوائد الخفية المستنبطة من سورة القصص.
5. إن إشهاد الله تعالى دليل إيماني:
{وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((1)) ، إن موسى (- عليه السلام -) قبل بعثته الشريفة (بعد ان أثبت لنا لجؤه إليه في كل موطن بالدعاء) جعل الوكالة الإلهية له في عهوده وعقوده طريق للمعرفة الحقيقة، وهو ما يعبر عنه العارفون في الإسلام بجعل (الوكالة له بطريق التوكل) كما قالوا: وتلك من معالم الإيمان، وعلائم التحقق بمعرفة الله عزَّ وجلَّ إيمانياً.
6. إن الرسالة تنير القلب بالإيمان كله فيزول الخوف الطبيعي في النفس بالأمان:
{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) ، {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} ((3)) ، إن ملاحظة سياق هاتين الآيتين في هذا الموطن يرينا من خلال التحليل المقارن كيف وازن النص القرآني بين ذكر الألوهية العظمى التي سرت في روح وقلب ونفس وعقل موسى (- عليه السلام -) وما لاقاه من خوف انجلى عنه إيمانياً بالأمر الإلهي بالإقبال ونبذ الخوف وهذا يذكر بالأمر الإلهي لأمه {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ((4)) ، فكان كل خوف عن هذه الأسرة أزاله الله عزَّ وجلَّ بالإيمان كله الذي أنار القلوب كلها، وتلك شوارق نورانية عرفانية من بوارق سورة القصص.
7. إن أهل الكفر والشرك يختلقون المعاذير للكفر والشرك:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.

(1/191)


{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ((1)) ، فالكفرة والمشركون من قوم فرعون، وإسناد الكلام هنا لهم بصيغة الجمع مشعر باستحقاقهم الغرق مع فرعون، جعلوا ما جاء به موسى (- عليه السلام -) من الآيات الإيمانية سحراً مما لم يألفون بزعمهم، فكان الرد الإيماني من موسى
(- عليه السلام -) في وجههم مسكتاً لهم جميعاً، {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((2)) ، وقد يثار سؤال هاهنا لما استخدم القرآن الكريم (الظالمون) ، ولم يستخدم (الكافرون) في هذا السياق، والذي توصلت إليه أن ظلمهم بالتكذيب أعم من كفرهم بالرسالة، فناسب الظلم أن يستخدم في هذا السياق.
8. إن كل أمة لم يأتها نذير ليدلها على الإيمان، يرسل الله عزَّ وجلَّ لها من يدلها على الإيمان به ليكون حجة عليها:
{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((3)) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ((4)) ، إن هاتين الآيتين تدلان على أن الله عزَّ وجلَّ لا يعاقب قوماً على كفرهم إلا بعد أن يقيم عليهم الحجة بالإنذار بالرسالة، وهذا ما أثبته القرآن الكريم في أكثر من موضع، وهو من الدلالات الإيمانية في سورة القصص.
9. إن الكفرة قد يلجئون للأعذار في كفرهم عند حسابهم يوم القيامة:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.

(1/192)


{فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} ((1)) ، إن هذه الآية تحلل تحليلاً نفسياً (يسبق كل التحليلات النفسية للشخصية الباطنية الإنسانية) ، كيف أن الكفرة بعد أن تصيبهم مصيبة في الدنيا، أو مصيبة العذاب في الآخرة، يحاولون أن يجادلوا بالباطل، فيسألون الله عزَّ وجلَّ بطريقة سؤال العارف عن رسلهم، ولِمَ لَمْ يرسلوا إليهم وهم قد جاءتهم الرسل، ولكنها الطبيعة البشرية في الإنسان الذي كان أكثر شيء جدلاً، فهذه الآية في سورة القصص تبرز الشخصية الإنسانية الكافرة على حقيقتها.
10. إن للإيمان وللمؤمنين شروط خاصة:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ((2)) ، حفلت هذه الآيات من سورة القصص بما يعزز هذه القاعدة من كون الشروط الإيمانية للمؤمنين ذات دلالات خاصة، وهي هاهنا في هذه الآيات تشمل:
الإيمان بما مضى من الكتب السماوية (التوراة ـ الزبور ـ الإنجيل) مع القرآن الكريم.
الإيمان قلبياً عند سماع التلاوة، وهي أعلى مراتب المعرفة الإيمانية عند العارفين.
الإيمان بالحق المنزل من الله (واستخدم القرآن الكريم لفظة (ربنا)) بدل لفظة الجلالة (الله) تعالى لخصوصيتها في هذا الموضع.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 47.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 52 –55.

(1/193)


الإيمان بأن كل الأديان تدعو إلى الإسلام من قبل الإسلام {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ((1)) .
الإيمان بالصبر.
درء السيئة بالحسنة (وقدم القرآن الكريم الحسنة وأخر السيئة، لأن المقصود في الوضع اللغوي أن تقدم العرب المهم في الكلام وهو هنا (ما يدرؤون) وهي الحسنة، وليس ما درؤا وهي السيئة، جعل تقديم الحسنة لازماً على ما ذكروا وهي السيئة، وهذا من إعجاز النص القرآني في سورة القصص) .
الإنفاق من الرزق الإلهي.
الإعراض عن سماع اللغو.
ترك عمل الكافرين وجعل أعمالهم لهم (لنا) .
عدم ابتغاء الجدال مع الجاهلين.
وهذه الصفات العشرة هي عين ما جاءت به الفطرة السليمة للمؤمنين بالله عزَّ وجلَّ.
11. إن الإيمان هو هداية إلهية:
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((2)) فنسبة الهداية لله عزَّ وجلَّ تقرير لحقيقة الإيمان من الله الهادي عزَّ وجلَّ، وهذا من مستنبطات سورة القصص في القرآن الكريم.
12. إن المشركين معرضون للتوبيخ الشديد يوم القيامة:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

(1/194)


{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((1)) فصيغة النداء ونسبتها للمشركين، ومقول القول باستخدام الفعل المضارع مع فاء التعليل (فيقول) ، ثم استخدام صيغة الاستفهام (أين) ، ونسبة الشركاء لياء المتكلم في لفظة الجلالة
(توبيخاً) ، والإتيان بالاسم الموصول مع الفعل الماضي الناقص، وصيغة (زعم) المضارعة كل ذلك جعل هذه الحقيقة التوبيخية تكون أشد إيلاماً وتبكيتاً للمشركين بالله عزَّ وجلَّ بدليل ما بعدها: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} ((2)) ، وهو خطاب بليغ كل البلاغة في وصف توبيخ المشركين، ونلاحظ أن هذه الآية تكررت مرة أخرى في الآية {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((3)) ، وتكرارها هنالك كان تحقيقاً لموقعها في سياق آيات أتت بينهن ولا تختلف دلالتها عما حللناه.
12. إن التوبة والعمل الصالح مقترنان بالإيمان ثم الفلاح:
{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((4)) ، فهذه الآية تقرر حقيقة الإيمان في أسلوب تقريري (التوبة، والإيمان) مقابل (العمل الصالح، والفلاح) وهي معادلة قرآنية عظيمة كل العظمة تقرر حقيقة الإيمان في النفس.
13. إن نسبة الإعادة لله تعالى تقرر حقيقة الهدى الإيماني:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 62.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 64.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 74.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67.

(1/195)


{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((1)) ، فهذه الآية تجعل الإيمان النبوي في رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) مقروناً بعلمه (- صلى الله عليه وسلم -) بأن الله عزَّ وجلَّ يرجعه بالنصر إلى مكة المكرمة، وهو ما تحقق يوم الفتح (ولنحن نعلم أن هذه الآيات نزلت بمكة المكرمة قبل الهجرة) فكانت بشارة إيمانية من الله عزَّ وجلَّ لتقرر حقيقة الإيمان في مقابل الكفر والشرك من خلال كون جملة {مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} تعني رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وجملة {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} تعني الكفرة والمشركين من قريش، وذلك يبرّز الإيمان في مقابل الكفر والشرك.
وبذلك يمكن لنا أن نبين كيف أن الإيمان والكفر والشرك في سورة القصص برزت بروزاً واضح المعالم في كل الآيات الشريفة التي تقدم ذكرها.

الفصل الثالث: الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ
المبحث الأول: مفهوم الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ
تمهيد
لازال البحث في المفاهيم القرآنية ميداناً فيه مجال عظيم السعة للسير فيه ما وسع الباحث السير.
ذلك أن جملة المفاهيم القرآنية تحتوي في ظاهرها وباطنها على دلالات عقلية ـ قلبية تعين على إدراك النص الكامن في ظواهر معاني الآيات والسور.
لذلك اهتم العلماء بهذه المفاهيم القرآنية، وأولوها الاهتمام كله سواء من درسها درساً لغوياً أو درساً بيانياً أو درساً تفسيرياً بالمأثور والمعقول من القدماء والمحدثين.

ولعل من تلك المفاهيم مفهوما (الطغيان) و (التكبر) اللذين وردا في جملة من آيات وسور القران الكريم، وكانا بدلالتهما معبرين عن المعنى المراد لهما إيضاحه للمؤمن المسلم ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(2) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان: ص 133 -134.

(1/196)


وقد ورد هذان المفهومان في سورة القصص التي هي بإجماع المفسرين
(مكية) ، ونحن نعلم أن مجموعة السور المكية مما أنزل قبل هجرة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) احتوت على إشارات من أخبار الأمم السابقة تقرع أسماع طغاة ومتكبري قريش من الكفرة الذين جحدوا رسالة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فكان لزاماً عليهم التنبه لسبب أسماعهم أخبار الطغاة والمتكبرين لعلهم يتعظوا بها، ويرجعوا عن طغيانهم وتكبرهم في الأرض ((1)) .
وسوف نحاول فيما يأتي تحليل هاتين المادتين في سورة القصص بلفظهما ومعناها حسب ما يتضح من سياق السورة، وأهمية ذلك تكمن في أن الفهم الشمولي لمفاهيم المصطلحات القرآنية يعين على الإدراك الكلي للنص القرآني.
وسنحاول في البداية تبيين المعنى التعريفي للمادتين من خلال كتاب
(المفردات في غريب القران) للراغب الأصفهاني ((2)) ، ومقارنة ذلك بالتأويل المفهوم من نص سورة القصص إن شاء الله العلي العظيم.
__________
(1) ينظر المصدر نفسه: ص 205 –207.
(2) ص 121 وما بعدها.

(1/197)


قال الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات: " طغى طغوت وطغيت طغواناً، وطغينا وطغاة، كذا حمله على الطغيان، وذلك تجاوز الحدّ في العصيان. قال تعالى: {إِنَّهُ طَغَى} ((1)) {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} ((2)) . وقال تعالى: {قَالا رَبَّنَا انَّنَا نَخَافُ أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أو أن يَطْغَى} ((3)) ، {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} ((4)) ، قال تعالى: {فَخَشِينَا أن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانا وَكُفْرا} ((5)) ، {فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ} (6)) {إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} ((7)) ، {وَانَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} ((8)) ، {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أطْغَيْتُهُ} ((9)) .
والطغوى الاسم منه، قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} ((10)) ، تنبيهاً أنهم لم يصدقوا إذ خوفوا بعقوبة طغيانهم.
وقوله تعالى: {هُمْ أظْلَمَ وَأطْغَى} ((11)) .
__________
(1) سُوْرَة (طَه) : الآية 24. والآية: 43. وسُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 17.
(2) سُوْرَة الْعَلَق: الآية 6.
(3) سُوْرَة (طَه) : الآية 45.
(4) سُوْرَة (طَه) : الآية 81.
(5) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 80.
(6) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 15.
(7) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 60.
(8) سُوْرَة (ص) : الآية 55.
(9) سُوْرَة (ق) : الآية 27.
(10) سُوْرَة الشَّمْسِ: الآية 11.
(11) سُوْرَة النَّجْم: الآية 53.

(1/198)


تنبيهاً على أن الطغيان لا ينجي الإنسان، فقد كان قوم نوح أطغى منهم فاهلكوا وقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} ((1)) ، فاستعير الطغيان فيه لتجاوز الماء الحد. وقوله: {فَاهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ((2)) ، فإشارة إلى الطوفان المعبر عنه بقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} .
والطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله، ويستعمل في الواحد والجمع قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} ((3)) " ((4)) .
وقال ـ رَحِمَه الله ـ في المادة الأخرى:
" كبير … فالكبر والتكبر والاستكبار تتقارب، فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان في إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره وأعظم. والتكبر على الله تعالى بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة. والاستكبار… أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً…وأن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له" (5) .
__________
(1) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 11.
(2) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 5.
(3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 256.
(4) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 121.
(5) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص80 وما بعدها. وينظر معجم المفردات والألفاظ والأعلام الَقُرْآنيّة. د. شفيق حسن. الطبعة الثانية. دار المعرفة للتوزيع والنشر. القاهرة. 1984 م.: 2/156.

(1/199)


فإذا جئنا إلى سورة القصص الكريمة وجدنا أن مادة (طغى) وردت فيها
(معنى) ، وإن مادة (تكبر) وردة فيها لفظاً ومعنى من خلال مفهوم النص، والمزج بين الوارد لفظاً ومعنى يدلنا على اقتضاء معرفة السياق القرآني. فقوله تعالى فيها: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، فيه دلالة التكبر العام. وفي ذلك يقول مصلح رافع:
" والقارئ للآية الرابعة من سورة القصص يجد أن إفساد فرعون في الأرض كان بسبب طغيانه وكفره وتكبره وعتوه لأمارة في نفسه (الحمقاء) من أن الملك الأرضي معادل للملك الإلهي العام، لذلك ظن أنه صار الرب، فعاث في الأرض فساداً، ولكن العلو في الأرض بالنسبة له مفهوم مجازي، فهو يرى نفسه الأعلى ـ وحاش لله ـ كما في قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ((2)) ، وقوله لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إله مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ((3)) ، لذلك كان ما ورد عنه في سورة القصص مشعراً بحمقه، في عين الوقت المشعر بطغيانه " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51.
(3) سُوْرَة غَافِرِ: الآيتان 36 –37.
(4) آيات الإفساد في الَقُرْآن الكَرِيم. د. رشدي أحمد. الطبعة الأولى. دار المعارف الجامعية. الإسكندرية. 1984 م.: ص 11.

(1/200)


ونحن نوافق الباحث الفاضل فيما ذهب إليه، ونزيد عليه أن فرعون لم يميز في ادعائه الألوهية بين ذاته الفانية، وبين الذات الإلهية الخالدة. وهذا الطغيان والتكبر برأينا عائد إلى أن المصريين (الفراعنة) كانوا يؤمنون بأنهم هم الآلهة. وحتى (إخناتون) و (توت عنخ آمون) كانا يؤمنان بإله واحد هو (إله القمر الساري فيهما) خلافاً لبعض المتعصبين المصرين الذين يزعمون أنهما كانا
موحدين!!!
فالتوحيد بمعنى توحيد الله عَزَّ وجَلَّ لم يكن في يوم من الأيام دين قدامى المصريين أبداً. ودليلنا في ذلك ما قاله أحد المستشرقين، إذ ذكر في ذلك: " لقد كان معظم الفراعنة يرون أنفسهم أعظم وأطهر وأسمى وأقدس من عامة الناس، لذلك كانوا يتصورون أنهم هم (الآلهة) ، وتظهر البرديات أن (رمسيس) الذي يراه البعض الفرعون المذكور في القران كان أشدهم إحساساً بنفسه في علوه على الناس، حتى إنه أمر بطمس كل ذكر للفراعنة الذين سبقوه ليحظى بذكر أنه هو الإله الأوحد، وقد أساء السيرة في الناس، وفي الإسرائيليين الذين سكنوا أرض مصر في عصره حتى زمن الخروج " ((1)) .
__________
(1) عصر الفراعنة. لويس توبريان. ترجمة: مُحَمَّد كمال مُحَمَّد. الطبعة الأولى. القاهرة. 1992 م: ص99-101.

(1/201)


فهذا النص يدلنا على هذا التكبر والطغيان. ونجد في سورة القصص تكبراً لعامة الناس عن مساعدة النساء، وهو ما ورد في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ((1)) ، فهذا النص دال على أن هؤلاء الناس في (مدين) كانوا على درجة عالية من قلة الأدب، ومن العلو ومن التكبر الواضح في سقي رعائهم لأنفسهم، وفي منعهم النساء من السقي، (والنص يشعر بأن هذا الفعل يومي متجدد) . وفي ذلك يقول بعض الباحثين: " تشعر هذه الآية ((2)) إن موسى (- عليه السلام -) كان يحمل من التواضع الشيء العظيم، وإن شعب مدين كان يحمل من التكبر والتجبر الشيء العظيم، ويبدو أنهم كانوا من تلك الشعوب التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية " ((3)) .
ويعود السياق القرآني ليرينا صورة أخرى من صور تكبر وطغيان فرعون: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((4)) ، فالآية الشريفة مشعرة بان فرعون كان إذ يستكبر في الأرض يظن الخلود، وأنه لا يرجع إلى الله تعالى، ويبدو أنها كانت عقيدة جنوده كذلك على ما يوحي به السياق.
ويقول تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 23.
(2) أي الآية 23 من سُوْرَة الْقَصَصِ.
(3) ينظر الصفة الإنسانية في الَقُرْآن الكَرِيم. أحمد عَبْد الله. مكتبة الناشر العربي. دمشق. 1988 م.: ص119 – 120.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

(1/202)


فتجد في مفهوم النص الطغيان المادي لتلك القرى التي بطرت فاستكبرت وطغت، ويقول تعالى في الطغيان البشري والتكبر الروحي: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((1)) .
ثم يقول تعالى في ذلك السياق: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ((2)) .
ثم يقول تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ((3)) .
فتجد أن البغي القاروني كان بسبب تكبره وطغيانه في الأرض بماله الذي هو رزق الله عز وجل والذي ليس له منه مقدار شعرة.
والنص القرآني واضح كل الوضوح في أن هذا التكبر لا عاقبه له إلا أن يخسف بالمتكبر وبداره الأرض {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} ((4)) .
ويذكر الله تعالى في نقض مفهومي التكبر والطغيان على حد سواء في السورة نفسها {تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادا ً} ((5)) ، فتجد أن السياق القرآني يتواصل معك في استقرار نفسي يجعلك تنبذ في ذاتك (إن كان فيك ذرة من كبر، أو طغيان) . وهذا من بدائع إعجاز النص القرآني في سورة القصص. وذلك لأن سياق بعض الآيات في سورة القصص ـ وخاصة ما ورد منها في شان مادتي الطغيان (مفهوماً) والتكبر (لفظاً) على حد سواء ـ يجعل القارئ والسامع والمخاطب بها يستشعر في نفسه أن كلّ ذلك التكبر والطغيان مما يستحي منه لا مما يتفاخر به لان قوله تعالى فيها: {تِلْكَ الدَّارُ الأَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

(1/203)


ينقل النفس الإنسانية لهذا الجعل الإلهي: (والذي هو أصدق جعل في الوعد) ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ((1)) .
لذلك كانت هذه الآية إحدى آيات اطمئنان النفس في القران الكريم ((2)) .

المطلب الأول: علو فرعون في الأرض
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَا مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * انَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ اهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ ابْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ انَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ((3)) .

تحليل الألفاظ
1. {آيَاتُ} :
قال الراغب الاصفهاني: " واشتقاق الآيات إما من أيٍّ فأنها هي التي تُبَيِّنُ أيّا من أيٍّ، والصحيح أنها مشتقة من التّأيّي الذي هوَ التثبت والإقامة على الشيء، يُقال: تأيَّ، أي: ارفُق، أو من قولِهِم: آوي إليه وقيل للبناء العالي ولِكلِّ جملة من القران دالة على حكم أو طغيان سورة كانت أو فصولاً أو فصلاً من سورة. وقد يقال لِكلِّ كلامٍ منه مُنفَصِل بفَصلِ لفظيٍ آية " ((4)) .
وقال أبو بكر: سميت الآيات من القران لأنها علامة لانقطاع كلام من كلام، ويقال: سميت لأنها جماعة من حروف القرآن " ((5)) .
فهذا النص يدل على أن المعنى العام لا يرجعون وجمعها ذا دلالة واحدة.
2. {الْكِتَاب} :
__________
(1) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 122.
(2) السكينة النفسية في الَقُرْآن الكَرِيم. د. سلمان أحمد. الطبعة الأولى. المكتبة العلمية. القاهرة. 1998 م: ص88 وما بعدها.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات: 2 - 4.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص28.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (ايي) 14 /62.

(1/204)


في الأصل مصدر ثم سُمِّيَ المكتُوُبُ فيه كتاباً، والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب ((1)) . وقد وردت لفظة (الكتاب) في القران في مواضع عدة ولمعاني مختلفة، فقد جاءت بمعنى التوراة، كقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ} ((2)) . وجاءت بمعنى اللوح المحفوظ قال تعالى: {إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ انْ نَبْرَأهَا} ((3)) إشارة إلى اللوح المحفوظ كما ذكر الخازن ((4)) .
والأرجح أن المراد به القران الكريم لان ما بعده يفسره: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ، أي: نتلو عليك يا محمد في القران من نبأ موسى وفرعون.
بمعنى أن الكتاب (في معناه الذي يدل على المجموع) دال على الضم.
3. {الْمُبِينِ} :
" من البيان، ما بُيِّنَ به الشيء من الدلالة وغيرها، وبان الشيءُ بياناً: اتضح، فهو بَيِّنٌ وأبَنْتُهُ: أي أوضحته، واستبانَ الشيءُ ظهرَ، وقيل: المبين الذي أبان طُرقَ الهُدى من طرق الضلالة، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة. وقيل: معنى مبين خيره وبركته. وقيل: مبين الحق من الباطل والحلال من الحرام " ((5)) .
فهذا يدل على استقلالية معنى كلمة (المبين) .
4. {نَبَإِ} :
النَّبأ، هو " القراءة المجمع عليها طرح الهمز وقد همز جماعة من أهل المدينة جميع ما في القران من هذا، واشتقاقه من نَبأَ وأنبأ، أي: أخبر. قال: والأجود ترك الهمز " ((6)) .
__________
(1) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 440.
(2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 101.
(3) سُوْرَة الحَدِيْد: الآية 22.
(4) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /423.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (بين) 13 /68.
(6) لِسَان العَرَب: مَادة (نبأ) 15/ 303.

(1/205)


وقال الراغب الأصفهاني: " النَّبأ خبرٌ ذو فائدة عظيمة يحصل بها علمٌ أو غَلَبهُ ظَنّ، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرَّى عن الكذب كالتواتر، وخَبرَ الله تعالى، وخبر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) " ((1)) .
5. {عَلاَ} :
قال الراغب: (العُلوُ ضِدَّ السُّفلِ والعُلُوُّ الارتفاع، وقد عَلا يَعلُو عُلُوا وهو عالٍٍ. وقيل: إنَّ علا تقّال في المحمود والمذموم " ((2)) .
وقال ابن منظور: " العُلُوُّ العَظمة والتجَبُّر والتكبر في الأرض، وقال الحسن: والفساد المعاصي، يقال: علا في الأرض استكبر " ((3)) .
فجاء كلامهما دالاً على استلهام المعنى اللغوي والاصطلاحي.
6. {شِيَعًا} :
قال ابن منظور: " الشَّيعُ مِقدارٌ من العدد، والشيعة القوم الذين يجتمعون على الأمر، وقيل: الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متفقين. وقيل: الشَّيَعُ الفِرًقُ " ((4)) .
7. {يَسْتَضْعِفُ} :
" من الضَّعفُ والضُعفُ خلاف القوة. وقيل: الضُعفُ في الجسد والضَّعف بالفتح في الرأي والعقل.
استَضعَفَه وتَضَعَّفَه وجده ضعيفاً فركبه بسوء. قال ابن الأثير: يقال تَضَعَفتُه واستَضعَفتُه بمعنى للذي يتضعفه الناس ويتجبَّرون عليه في الدنيا للفقر ورَثاثَةِ
الحال " ((5)) .
8. {يُذَبِّح} :
" أصل الذبح شق حَلقِ الحيوانات، المراد هنا في هذه الآيات التكثير، أي: يَذبَح بَعضُهم اثَرَ بَعضٍ " ((6)) .
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 500.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 357.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (علا) 15/ 85.
(4) المصدر نفسه: مادة (شيع) 18/ 188.
(5) المصدر نفسه: مَادة (ضعف) 9/ 204.
(6) المصدر نفسه: مَادة (ذبح) 2 /400.

(1/206)


فمجمل هذه الألفاظ تدل في اجتماعها على أن افتتاح السورة بها كان مقصوداً به تنبيه السامع وقرع سمعه على ما يراه ويسمعه فيما يتلوه من الآيات.
القراءات القرآنية
1. {طسم} :
بإمالة فتحة الطاء. قرأ بها كل من (حمزة، والكسائي، وخلف وشعبة) .
بإمالة فتحة الطاء بين بين (نافع) .
بإظهار نون سين عند الميم، قرأ بها (حمزة، وأبو جعفر) .
بالسكت على الحروف، قرأ بها (أبو جعفر) ((1)) .
2. {الْمُبِينِ نَتْلُو} :
بالإدغام (الكبير) ((2)) ، على ما قاله مجاهد بمعنى إدغام النون الأولى بالنون الثانية من دون أن يظهر ذلك بينهما.
3. {مُوسَى} :
قرأ بالإمالة كل من (حمزة، والكسائي، وأبي جعفر، وخلف، وورش) ((3)) .
4. {فِرعَونَ} :
قُرأ (فُرعون) بضم الفاء وكسرها والكسر أحسن كالقُسطاس والقِسطاس ((4)) .

5. {يُذَبِّحُ} :
قرأ الجهور يذبح مضعّفا، وأبو حيوة، وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال (يَذْبَحُ) ((5)) .
القضايا البلاغية
1. {نَتْلُو} :
إسناد التلاوة إلى الله إسناد مجازي، لأنه الذي يأمر بتلاوة ما يوحى إليه من الكلام، والذي يتلو حقيقة هو جبريل بأمر من الله، وجعلت التلاوة على النبي (- صلى الله عليه وسلم -) لأنه الذي يتلقى ذلك المتلوّ، وعبر عن هذا الخبر بالنبأ لإفادة إنه خبر ذو شأن وأهمية ((6)) .
2. {عَلا فِي الأَرْضِ} :
مجاز إسنادي، لأن فرعون لم يعل بل استعلى بكفره.
3. {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} :
__________
(1) معجم القراءات القُرْآنية. د. أحمد مختار عمر. عَبْد العال سالم مكرم. الطبعة الثانية. مطبوعات جامعة الكويت. سنة 1988 م.: 5/5.
(2) معجم القراءات القرآنية: 5 /5.
(3) المصدر نفسه: 5 /5.
(4) مفاتيح الغيب: 24 /225.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7 /104.
(6) التحرير والتنوير: 2 /64.

(1/207)


استعارة مكنية، لأن استحياء النساء وضع لغة للترك، فاستعير في الآيات لنبذ النساء وامتهانهن، وهذا من بليغ إعجاز النص القرآني في بلاغته ((1)) .
المعنى العام
{تِلْكَ} : أي هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} . قال ابن كثير: " أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور، وعلم ما قد كان وما هو كائن " ((2)) .
{نَتْلُو عَلَيْكَ} قال البيضاوي: " نقرؤه بقراءة جبريل، ويجوز أن يكون بمعنى ننزله مجازاً " ((3)) . {نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} قال القرطبي: " نتلو عليك بعض خبرهما " ((4)) . {بِالْحَقِّ} ، قال البقاعي: " الذي يطابقه الواقع، فإنا ما أخبرنا فيه بمستقبل إلا طابقه الكائن عند وقوعه، ونبه على أن هذا البيان كما سبق إنما ينفع أولي الإذعان بقوله " ((5)) . {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال الزمخشري: " لمن سبق في علمنا أنه يؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم " ((6)) .
{إِنَّ فِرْعَوْنَ ((7)
__________
(1) معجم المصطلحات البلاغية: 3 /154.
(2) تفسير القرآن العظيم3: /379.
(3) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل وأسرار التَّأؤيِل المعروف بتفسير البَيُضَاوي. نَاصِر الدِّيْن عَبْد الله بن عمر بن مُحَمَّد الشِّيُرَازي البَيُضَاوِي الشافعي أبو سعيد. المُتَوَّفَىَ 685 هـ. تحقيق: عَبْد القادر عرفات العشا حسونة. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. 1416 هـ – 1996 م.: 2/209.
(4) الجامع لأحكام القرآن: 6/4964.
(5) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: 5/461.
(6) الكشاف: 3/164.
(7) فرعون: اسم أعجمي، قيل: إنه اسم ذلك الملك بعينه، وقيل: لقبه. إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشي للحبشة. وقد قيل في اسمه أقوال:
أولا ـ قابوس في قول أهل الكتاب.
ثانياً ـ الوليد بن مصعب بن الريان، ويكنى أبا مرة، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح ـ عَلَيْه السَّلام ـ.
ثالثاً ـ قال السهيلي: كلّ ولي القبط ومصر فهو فرعون.
رابعاً ـ قال الجوهري: لقب لكل عاتٍ وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة، أي: دهاء ومكر.
خامساً ـ قيل: هو فيطوس قاله مقاتل. سادساً ـ قيل: اسمه مغيث، والفراعنة هم ملوك القبط بالديار المصرية.
ينظر: زَاد المَسِيْر: 1 /77. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/327. والمختصر في أخبار البشر. عماد الدين إسماعيل بن كثير. ت 774 هـ. الطبعة الأولى. المطبعة الحسينية المصرية. (د. ت) .: 1/56.

(1/208)


) عَلاَ فِي الأَرْضِ} قال المفسرون:
" استكبر وتجبر وبغى وتعاظم في أرض مصر " ((1)) .
{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} قال الزمخشري: " فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه، أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته، أو أصنافاً في استخدامه يسخر صنفاً في بناء، وصنفاً في حرث، وصنفاً في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية، أو فرقاً مختلفة، قد أغرى بينهم العداوة، وهم بنو إسرائيل والقبط " ((2)) .
__________
(1) الوَسِيْط في تَفْسِير القُرْآن المجيد. النيسابوري. الإِمَام أبو الحَسَن عَلِيّ بن أحمد الواحدي. ت 468 هـ. تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عَبْد الموجود. وآخرون عَلِيّ مُحَمَّد معوض. مَكْتَبَة الباز. مَكْتَبَة المدينة المنورة. (د. ت.) .: 3/389.
(2) الكَشَّاف: 3 /156.

(1/209)


{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} قال المراغي: " أي يجعلهم أذلاء مقهورين وهم بنو إسرائيل " ((1)) . {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ، قال ابن عطية: " يذبِّح مضعف للمبالغة، والعبارة عن تكرار الفعل وقال قتادة: كان هذا الفعل من فرعون بأنه قال له كهنته وعلماءه: إن غلاماً لبني إسرائيل يفسد ملكه. وقال السدي: رأى في ذلك رؤيا فأخذ بني إسرائيل يذبح الأطفال سنين، فرأى أنه يقطع نسلهم، فعاد يذبح عاماً ويستحيي عاماً، فولد هارون في عام الاستحياء، وولد موسى في عام الذبح. وقال وهب بن منبه: إن فرعون ذبح سبعين ألفاً من الأطفال. وقال النقاش: جميع ما قتل ستة عشر طفلاً " ((2)) . والذي يبدو من اختلاف الروايات أنه لا يوجد نص ثابت يبين عدد الأطفال، لذا لا يمكن الجزم بعدد معين، أو ترجيح قول على أخر، ولكن ما جاء في رأي النقاش بعيد عن الحقيقة، وذلك لأن الَقُرْآن الكَرِيم استخدم صيغة المبالغة (يذّبح) للدلالة على المبالغة في الذبح.
{وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} قال ابن عاشور: " يستبقي حياة الإناث من الأطفال، فأطلق عليهنَّ اسم النساء باعتبار المال إيماء إلى أنه يستحيهن ليصرنَ نساء، فتصلحن لما تصلح له النساء، وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج، وإذا كان احتقارهن بصدّ قومه عن التزوج بهنَّ لم يبق لهنَّ حظّ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء، إذ كل ذلك اعتداء على الحق " ((3)) .
__________
(1) تفسير المراغي. أحمد مصطفى المراغي. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. (د. ت) .: 20/33.
(2) المحرر الوجيز: 12/142.
(3) التحرير والتنوير: 20 /70.

(1/210)


{إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} قال أبو السعود: " أي الراسخين في الفساد، ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل المعصومين من أولاد الأنبياء ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ " ((1)) .
ما يستفاد من النصّ
أشارت الآيات التي مرت إلى جانب من حياة مصر في حقبة حكم الفراعنة إلى فرعون موسى على وجه الخصوص بقوله تعالى: {انَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ ابْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ، فمن هذه الآيات يمكن لنا أن نستنتج صورة للحياة في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ مصر.
أولاً ـ الحالة الاجتماعية:
لنتكلم أولاً عن الحالة الاجتماعية في تلك الفترة حتى تكتمل الصورة. " فان أهل مصر كانوا أهل ملك عظيم ما بين قبطي ويوناني وعمليقي، إلا أن جمهرتهم قبط، وأكثر ما يملك مصر الغرباء، وقد تعاقب على مصر ملوك كاليونان، ثم ملوك الروم والفراعنة الذين هم ملوك القبط " ((2)) .
__________
(1) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القُرْآن الكَرِيْم. مُحَمَّد بن مُحَمَّد العِمَادي أبو السعود. ت 982 هـ. دار إحياء التراث العربي. بيروت. (د. ت) : 7 /2 – 3.
(2) المختصر في أخبار البشر: 1/56.

(1/211)


ولقد كان العبرانيون الذين كانوا يدعون (بني إسرائيل) أصحاب شرف وأموال سكنوا الديار المصرية برضى ملكها، واستملكوا الأراضي وساهموا في بناء مصر، فكان سبب مجيئهم إلى هذه الديار هو أن عزيز مصر اشترى سيدنا يوسف (- عليه السلام -) صغيراً حينما وجده السقاة في غيابة الجُبِّ، وعاش وكبر في قصره، إلا أن مُلِّك إدارة شؤون مصر ثم نقل سكن والديه وأخوته إلى مصر، وهكذا تناسلوا وتكاثروا مع من آمن بنبوة سيدنا موسى (- عليه السلام -) فأصبحوا عدد لا يستهان به. ولكن بعد أن توفي سيدنا يوسف (- عليه السلام -) تغيرت الأحوال بعد ذلك، فقد فسدت أخلاق معظمهم وتركوا الدعوة إلى الله ودعاء الخلق إلى الله وسقطوا على الدنيا وتغير لهم الناس أيضاً، وصاروا ينظرون إليهم بغير ما كانوا ينظرون إلى آبائهم، وصاروا كسائر الناس لا يمتازون عن الناس إلا بالنسب، وصار الناس يحسدون الغني منهم ويحتقرون الفقير منهم، وصار أهل مصر ينظرون إليهم كغريب جاء من بلد آخر، وليس له حق في مصر، وكان أهل مصر يعتقدون أنهم أهل البلاد وهم أحق بها، ونسي كثير منهم فضل يوسف (- عليه السلام -) وتدبيره اللذان أنقذا مصر من الموت جوعاً (1) .
__________
(1) ينظر: قصص النبيين. أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي. الطبعة الثالثة. دار القلم. دمشق. 1988 م.: ص140.

(1/212)


" وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني إسرائيل، فلم يزل بنو إسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم ـ عَلَيْهم السَّلام ـ، شرعوا فيهم من الإسلام، حتَّى كان فرعون موسى، وكان أعتاهم على الله، وأعظم قولاً وأطولهم عمراً، واسمه فيما ذكر الوليد بن مصعب، وكان سيئ الملكة على بني إسرائيل، يعذبهم ويجعلهم خولاً ويسومهم سوء العذاب " ((1)) .
ثانياً ـ الحالة الأخلاقية:
إن الذي يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ، تتجسد أمامه أخلاقية فرعون الفاسدة، والتي كانت سبباً في هلاكه وهلاك ملكه، فقد بينت الآيات جملة من الصفات الفاسدة التي كان يتصف بها فرعون والتي كانت السبب في هلاك ملكة وهي:
1. الكِبرُ:
قال تعالى: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ} ، والكِبرُ " والتَكبُّرُ والاستكبار تتقارب، فالكِبرُ الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره " ((2)) .
__________
(1) الكامل في التاريخ. عز الدِّيْن أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن الأثير الجزري. ت 630 هـ. تحقيق: أَبِي الفداء عَبْد الله القاضي. دار الكتب العلمية. بيروت. ط2. 1415 هـ – 1995 م: 1/96.
(2) مفردات ألفاظ القران: ص438. وينظر: لِسَان العَرَب: مَادة (كبر) 5/129.

(1/213)


والكبر مولوداً من (العُجبِ) وذلك " إنَّ ذا العُجب إذا مرّ نظره إلى أدنى منه تبين له أنه ممتاز عنه بما سما به في نظرة نفسه، فيرى ذلك الغير في درجة منحطة عن درجته، فيعتقد أن مستواه فوق مستوى غيره، فالمتكبر يعتقد في قرارة نفسه أنه أكبر وأعظم من غيره، فيرى غيره بعين الصغر والحقارة ويرى نفسه بعين العظمة والفخامة " ((1)) .
ومعنى العُلوّ في الآيات الكِبْر، وهو المذموم من العُلو المعنوي ((2)) كالذي في قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} ((3)) .
وللكبر آثار تظهر على الجوارح فتراه إذا مشى مع الناس يريد التقدم عليهم، وتراه إن جالسهم يصدر نفسه في المجلس، يسره أن يتكلم ويسمعوا له، وأن لا ينطق غيره بحرف، ثم هو ينتظر من الناس أن يتلقوا كل كلمة يقولها بالقبول والتصديق.
كقولة تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} ((4)) .
فالمتكبر يحتقر الناس ويستضعف حقوقهم، ويسيء معاشرتهم، ويبث عدوانه فيهم، ويزداد الأمر سوءً إن كان ذلك المتكبر ولي أمرهم وراعيهم، فتنتج صفة الكبر في الحالة سوء رعايته لهم، والاعتداء على حقوقهم، وينظر إليهم بعين الاحتقار، ويرى دائماً أنه صاحب الفضل عليهم.
2. العُجبُ:
وهو الزَّهُوَّ ورجل مُعجَبٌ مزهُوّ بما يكون منة حسناً أو قبيحاً.
__________
(1) أمراض القلوب وشفاؤها. أحمد بن تيمية. (661 ـ 728) . المطبعة السلفية. القاهرة. ط2. 1399هـ.: ص 568.
(2) التحرير والتنوير: 2 /66.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(4) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 123.

(1/214)


وقيل: العُجب فضلةٌ من الحمق صَرَفَتهَا إلى العُجب ((1)) ، وقيل لمن يروقه نفسه فلان مُعجبٌ بنفسه ((2)) .
وهو من أمراض القلوب المهلكة أعاذنا الله منها.
وأيضاً هو " نظر الإنسان إلى ما حباه الله به من كمال نظر استعظام وتفخيم وفرحة به باعتباره أثراً من آثاره ونتيجة من نتائج ما بذل من مجهود في تحصيله، ولا يخطر على باله أنه يزول عنه يوماً من الأيام " ((3)) .
وهذا ما يتضح من قول فرعون إلى قومه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} ((4)) ، فقد وهم فرعون بوحدانيته بملكه وقصوره وعبيده، فظن أن هذه النعم هي ملكه وحده، وهو أحق بها ن فقد أضاف إلى نفسه ملك مصر وأنهارها، وظن أنها لن تبيد، فأداه عُجبُه بنفسه ومُلكه أن أدعى الربوبية لنفسه.
ولكن شاءت إرادة الله تعالى وسنته في خلقه بهلاك المتكبرين من الأمم والأفراد أن ينزع عنهم النعمة التي لم يشكروها، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيم * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} ((5)) .
إن العاقل هو الذي إذا ما انعم الله عليه أن يبادر بشكرها، والمجنون هو من إذا ما حباه الله بنعمة تخيل إنها جاءته بجهده وعقله وذكائه، فالنعم كلها لا يمكن أن تكون إلا من بعد أن يهبها الله لمن شاء من عباده كما يقول عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} ((6)) .
3. التفرقة العنصرية:
ويتبين ذلك من خلال:
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (عجب) 1 /582.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 334.
(3) أمراض القلوب: ص 598.
(4) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51.
(5) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآيات 57 –59.
(6) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 52.

(1/215)


أ. قوله تعالى: {وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعًا} ، أي: " فرقاً. قال قتادة: فرّق بين بني إسرائيل والقبط، والمعنى يكرم قوماً ويذل آخرين بالاستبعاد والأعمال الشاقة. وقيل: جعل إسرائيل أصنافاً في الخدمة والتسخير " ((1)) ، فهذه التفرقة العنصرية كانت سبباً أيضاً في هلاك دولته فجعل هناك تمايز طبقي بين الأقباط وبين بني إسرائيل، فكان يرى ويرى الأقباط معه أن مصر هي ملك لهم، وما وجود بني إسرائيل إلا لخدمتهم في هذه الحياة، فجعل من مملكته فرقاً مختلفة، وجعل منهم شيعاً مقربين منه، والقسم الآخر ناصبهم العداء، وجعل بين الطائفتين العداوة والبغضاء ليسهل له السيطرة عليهم جميعاً.
ب. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} ، يعني بني إسرائيل بالاستبعاد والأعمال القذرة، فجعل من هذه الطائفة محقّرة مهتضمة الحقوق لا مساواة بينها وبين الأقباط مع أنهما يسكنان في أرض واحدة وتحت سماء واحدة. والسبب في ذلك لأنه يرى أنهم غرباء عنه في النسب والدين، لأنهم كانوا يعتقدون بعقيدة تختلف عن عقيدته هو وقومه، فهم يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، فهم يعتقدون بإله واحد هو الله، وينكرون ألوهية فرعون، وكذلك أحسَّ فرعون أن هناك خطراً على عرشه من وجود هذه الطائفة في مصر، ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها، فهم جماعة كبيرة قد يتحالفون مع أعدائه من دول الجوار الذين كانت تقوم بينهم وبين فرعون حروباً. فاحتقرهم ولم يجعل لهم دوراً في الحياة السياسية والإدارية في مصر، فجعل منهم خدماً، وفرض عليهم الضرائب الباهظة، وكلفهم بالأعمال الشاقة.
4. التصفية الجسدية:
{يُذَبِّحُ أبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ انَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}
__________
(1) مجمع البيان: 7/ 239.

(1/216)


يُذَبِّحُ على التكثير، أي: يَذبح بعضهم إثر بعض ((1)) ، وذكر الرازي ((2)) في سبب ذبح الأبناء وجوه:
أحدهما ـ إن كاهناً قال له: يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب بملكه على يده، فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى (- عليه السلام -) تسعين ألفاً من بني إسرائيل. قال بعضهم: " العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل " ((3)) .
ثانياً ـ وهو قول السدي: إن فرعون رأى في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس، واشتملت على مصر، فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك مصر، فأمر بقتل الذكور.
ثالثاً ـ إن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى (- عليه السلام -) بشروا بمجيئه وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل، وهذا الذي يرجحه الرازي ((4)) .
ومن صور التصفية الجسدية ما توعده للسحرة الذين آمنوا برب موسى (- عليه السلام -) {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأَقَطِّعَنَّ أيْدِيَكُمْ وَأرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أجْمَعِينَ} ((5)) ، وهذا أبشع أنواع الظلم ألا وهو مصادرة الحرية الدينية والاعتقادية والفكرية، ففرعون قام بذلك لأنه أحس بالخطر على ملكه من إيمان أقرب الناس إليه وهم سحرته.
ثالثاً ـ الحالة الدينية:
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 180.
(2) مفاتيح الغيب: 24/ 225.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4964.
(4) ينظر مفاتيح الغيب: 24 /225.
(5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآيتان 123 –124.

(1/217)


خلال الفترة ما بين وفاة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) إلى الفترة التي بُعث فيها سيدنا موسى (- عليه السلام -) يبدو أن المصريين لم يستقروا على عبادة إله واحد، فكان الناس غالباً على دين ملوكهم إلا القلة القليلة من أحفاد نبي الله يعقوب (- عليه السلام -) ومن آمن معهم كانوا موحدين " مع أن كثيراً منهم فسدت أخلاقهم وسقطوا على الدنيا وتركوا دعوة الناس إلى الله " ((1)) ، فكانوا يعبدون الأصنام ((2)) ، ويعبدون الشمس فلقد " أخذت عبادة الشمس تنتشر منذ عصر الدولة القديمة، ولعّل السبب في ذلك أن ملوك الآسرة الخامسة الذين حكموا مصر من عام (2560) إلى (2420) قبل الميلاد كانوا ينتمون إلى هذا الإله، فأصبح هذا المعبود أكثر المعبودات تقديساً عندهم، فقد أخذ الناس على مدى الألف سنة التالية يضيفون في كلّ مكان اسم (رع) الشمس على أسماء الآلهة القديمة، وقد أرادوا بذلك أن يضيفوا إلى الآلهة الأخرى نصيباً من القوة التي تتمتع بها إله الشمس " ((3)) .
وحينما جاء إخناتون دعا إلى عبادة إله واحد خالق كل شيء (الشمس) ، وقد تصور المصريون إله الشمس على صورة آدمي، أو على هيئة صقر، ونستطيع أن نستشف صورة الوضع الديني من خلال الآيات القرآنية التي تحدثت عن فرعون وقومه، وتتميز هذه الفترة بما يأتي:
__________
(1) قصص النبيين: ص 140.
(2) المختصر في أخبار البشر: 1 /56.
(3) ديانة مصر القديمة. أدولف إرمان. ترجمة: د. عبد المنعم أبو بكر. ورفيقه. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. (د. ت) .: ص 19 –21. والعرب واليهود في التاريخ. د. أحمد سوسة. الطبعة السادسة. دمشق. 1987 م.: ص 389.

(1/218)


تنقسم عبادة المجتمع في فترة حكم فرعون موسى إلى قسمين: الفئة القليلة كانوا يعبدون الله، وهم من بقي على دينه من أحفاد نبي الله يعقوب (- عليه السلام -) ، فكانوا يلاقون ألواناً من العذاب والتصفية الجسدية لرفضهم عبادة غير الله، والقسم الأكبر كانوا يعبدون فرعون. لقد وصل الكبر والطغيان والجبروت بفرعون أن ادّعى الألوهية، وأجبر رعيته وسكان مصر على ذلك " فجعل من نفسه إلهاً وأنه ابن الشمس " ((1)) .
فقال فرعون في خطابه لسيدنا موسى (- عليه السلام -) : {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلها غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين} ((2)) .
وقال تعالى أيضاً على لسان فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا ايُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي} ((3)) .
وكلّ هذِهِ الآيات نؤكد بما لا يقبل الشك أن فرعون ادّعى الألوهية. وقد قص القران الكريم أنه ادّعى الإيمان لحظة موته: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} ((4)) .
وهناك تأويلات لألوهية فرعون وعبادته هو، نورد بعضها:
قال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام فكان يعْبدُ ويُعْبدَ. وقال سليمان التيمي: بلغني أن فرعون كان يعبد البقر.
وقيلَ معنى: {وَآلِهَتِكَ} ، أي: وطاعتك كما قيل في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبَابا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ((5)) ، فإنهم ما عبدوهم، ولكن أطاعوهم فصار تمثيلاً.
على قراءة انس بن مالك: (ونذرُك) بالرفع والنون، أي: نذر عبادتك إن تركت موسى حياً.
__________
(1) التحرير والتنوير: 20 / 66.
(2) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 30.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(4) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 90.
(5) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 31.

(1/219)


قرأ علي بن أبي طالب (- رضي الله عنه -) ، وابن عباس، والضحاك: (وإلآهتك) ، معناه: وعبادتك. فعلى هذه القراءة كان يعَبُد ويُعبَد. قال أبو بكر الأنباري: فمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال: {أنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} ((1)) ، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْرِي} ((2)) . نفى أن يكون له رب وإله، فقيل له: {وَيَذَرَكَ وَالِهَتَك} ((3)) بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك ((4)) .
وهناك رأي ينسب لابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ على قراءة من قرأ: (ويذرك والهتك) بمعنى ويدعك والشمس، لأن العب تسمي الشمس آلهة، وهي إن فرعون قد كان يعبد الشمس ((5)) .
والذي يراه الباحث أن فرعون كان لا يعبد إي إله، بل كان يدعو الناس إلى عبادته على عادة فراعنة مصر في زمنه.
المطلب الثاني: نصرة المستضعَفين
{وَنُرِيدُ انْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الارْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((6)) .
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 24.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(3) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3 /2698.
(5) الروايات التفسيرية عن عَبْد الله بْن عَبَّاس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ. د. حسن عبد المجيد. الطبعة الأولى. الدار السعودية. جدة. 1412 هـ: ص 198.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 - 6.

(1/220)


أخبر جل وعلا فيما سبق من الآيات عن فعل فرعون الشنيع بقتل الأولاد واستحياء النساء، واستضعاف بني إسرائيل وتفرقهم شيعاً لغرض المحافظة على دوام ملكه كما يعتقد، لأن كهنته وعلماءه أخبروه بأنه سيولد مولود من بني إسرائيل يكون زوال الملك على يديه. ثُمَّ عطفه على هذه الأفعال الشنيعة لفرعون. فمنّ الله على عباده المستضعفين بأن يخلصهم من فرعون ويورثهم ملكهم.
وقال البقاعي: " عطف عليه قوله يحكي تلك لحالة الماضية {وَنُرِيدُ} ، أو هي حالية، أي: يستضعفهم، والحال أنا نريد في المستقبل أن نقويهم، أي: يريد دوام استضعافهم حال إرادتنا ضده من أنا نقطع ذلك بإرادة {أَنْ نَمُنَّ} ، فكانت إرادة الله فوق إرادة فرعون وملأه وتبقى إرادة الله فوق إرادة الظلمة والمتجبرين
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ((1)) " ((2)) .
تحليل الألفاظ
{نَمُنَّ} :
من المِنَّةُ " النعمة الثقيلة، ويقال ذلك على وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك بالفعل، فيقال: مَنَّ فلان على فلان، إذا أثقله بالنعمة، وعلى ذلك قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ((3)) ، وذلك على الحقيقة لا يكون إلا لله تعالى.
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 54.
(2) نظم الدرر: 5/ 464.
(3) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 164.

(1/221)


ثانيهما: أن يكون ذلك بالقول، وذلك مستقبح فيما بين الناس إلا عند كفران النعمة، ولقبح ذلك قيل: المِنّةُ تَهدِمُ الضَّيِعةَ، ولحُسنِ ذكرها عند الكفران قيل: إذا كُفِرتِ النّعمَةُ حَسُنَتِ المِنَّةُ. قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ اسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ} ((1)) ، فالمنة منهم بالقول، ومِنَّةُ الله عليهم بالفعل وهو هدايتهُ إياهم " ((2)) .
{نُمَكِّنَ} :
المَكنُ والمَكِنُ: بيض الضَّبَّةِ والجرادة، والمُكنةُ: التمكن، تقول العرب: إن بني فلان لذوو مَكِنةٍ من السلطان، أي: تمكُّنٍ. قال الجوهري: يقال: الناس على مكانتِهم، أي: على استقامتهم. وقال: لا يصح أن يقال في المكنة: إنه المكان الأعلى التَّوسُّعِ، لأن المُكْنة إنما هي بمعنى التَمكُّنِ مثل الطَّلِبَة بمعنى التَّطَلُّب، يقال: إن فلانا لذو مكنِةٍ من السلطان فسمي موضع الطير مَكنِةً لتمكُّنه فيه " ((3)) .
وقال الآلوسي: " أصل التمكن أن يجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه، ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك " ((4)) .
{يَحْذَرُونَ}
" الحِذرُ والحَذَرُ: الخيفة، حَذرَهُ يَحْذَرُهُ حَذَراً " ((5)) .
القراءات القرآنية
1. {أَئِمَّةً} :
قرأت بعدة أوجه:
بتسهيل الهمزة مع القصر، قرأ به (ابن كثير، وأبو عمر، ونافع، والأزرق، ورويس، والأصفهاني، وقالون) .
__________
(1) سُوْرَة الْحِجْرِ: الآية 17.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 494.
(3) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. إسماعيل بن حماد الجوهري. ت 393 هـ. تحقيق: أحمد عَبْد الغفور عطا. دار العلم للملايين. بيروت. لبنان. ط2. 1404 هـ – 1984 م.: مادة (مكن) . لِسَان العَرَب: مَادة (مكن) 13 /412.
(4) روح المعاني: 2/ 44.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (حذر) 4 /174.

(1/222)


بالتسهيل مع المد (الأصفهاني، وأبو جعفر) .
بالتحقيق والفصل بألف (هشام) ((1)) .
2. {وُنَمِكّنَ} :
وقرأ الأعمش (ولِنُمكِّنَ) بزيادة لام كي، أي: وأردنا ((2)) .
3. {وَنُرىَ فرِعَونَ} :
اختلفوا في النون والياء ورفع الأسماء ونصبها.
فقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بالياء وفتحها وإمالة الراء بعدها ورفع الأسماء الثلاثة.
__________
(1) معجم القراءات القرآنية: 5/ 6.
(2) البَحْر المُحِيْط: 7/105.

(1/223)


وقرأ بالنون عامة قراء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيون: (وَنرُيَ فرعونَ وهامان) ونصب الأسماء بعده، وحجة من قرأ (نرُي) أن ما قبله للمتكلم فينفي أن يكون ما بعده أيضاً كذلك ليكون الكلام على وجه واحد، لأن فرعون يُرى ذلك ((1)) . وحجة من قرأ: (يَرَى) أن فرعون وحزبه يرون ذلك ويُعلُم أنهم يرونه إذا رأوه ((2)) ، وذكر الطبري أن معنى من قرأ على هذه القراءة أن الفعل لفرعون بمعنى ويعاين فرعون بالياء من يرى، ورُفع فرعون وهامان والجنود ((3)) .
ونحن لا يمكن أن نوازن بين القراءات، لأن القراءة سنة متبعة تعرض كما هي، وإنما عرضنا لاختلاف القراء ـ رحمهم الله برحمته ـ في ذلك على ما أوردته كتب القراءات والتفاسير.
القضايا البلاغية
1. قال تعالى: {وَنُرِيدُ أنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْض} .
__________
(1) ينظر النشر في القراءات العشر. أبو الخير مُحَمَّد بن مُحَمَّد الدمشقي. الشهير ابن الجزري. ت 333 هـ. ط2. صححه وراجعه عَلِيّ مُحَمَّد الضباع. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1978 م.:2/ 341. المحرر الوجيز: 12/ 143. الإقناع في القراءات السبع. أبو جعفر أحمد بن عَلِيّ بن خلف الأنصاري المعروف بابن الباذش. ت 540هـ. ط1. تحقيق: أحمد فريد المربدي. قَدَّمَ لَهُ وقَرَّظَهُ: فتحي عَبْد الرَّحْمَن حجازي. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1419 هـ – 1999 م.: 2 /723.
(2) الحجة في علل القراءات السبع. أبو عَلِيّ الحَسَن بن أحمد الغفاري الفارسي. ت 377 هـ. تحقيق: د. عَلِيّ النجدي ناصف. د. عَبْد الحليم النجار. د. عَبْد الفتاح شلبي. مراجعة: مُحَمَّد عَلِيّ النجار. ط1. دار المأمون. دمشق. 1992 م.: 5/ 412.
(3) جامع البيان: 10 /29.

(1/224)


قال الرازي: " فإن قيل: كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المنّ عليهم، وإذا أراد الله شيئا لم يتوقف إلى وقت آخر؟
قلنا: لما كان مِنّة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنه لاستضعافهم " ((1)) .
وهذه من القضايا البلاغية المهمة في هذا النص القرآني لكونها تدلّ على أن المنة فضل بعد الاستضعاف.
وذكر البقاعي أيضاً: " والآية من الاحتباك ((2)) ، ذكر الاستضعاف أولاً دليلاً على القوة ثانياً، وإرادة الحذر ثانياً دليلاً على إرادة المحبوب أولاً، وسر ذلك أنه ذكر المُسلي والمرجي ترغيباً في الصبر وانتظام الفرج " ((3)) .
2. {وَنُمَكِّنَ} :
" أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه، ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر " ((4)) .
المعنى العام
1. {وَنُرِيدُ انْ نَمُنّ َ} :
قال البيضاوي: " إن يتفضل عليهم بإنقاذهم من بأسه (ونريد) حكاية حال معطوفة على أن فرعون علا من حيث أنهما واقعان تفسيراً للنبأ، أو حال من يستضعف " ((5)) .
2. {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} :
في معناها قولان ذكرهما الماوردي أحدهما:
" بنو إسرائيل قاله يحيى بن سلام.
__________
(1) مفاتيح الغيب: 22/ 226.
(2) الاحتباك: هو أن يجتمع في الكلام متقابلان، ويحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر ينظر التعريفات (الجرجاني) : ص25.
(3) نظم الدرر: 5 /465.
(4) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /209.
(5) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /209.

(1/225)


والثاني يوسف وولده قاله علي (- رضي الله عنه -) " ((1)) .
والذي أرجحه أن المراد بالذي استضعفوا هم بنو إسرائيل، وذلك لأن السورة سبقت في ذكر قصة سيدنا موسى مع فرعون، وفرعون إنما يستضعف بني إسرائيل.
3. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} :
قال الطبري: " ولاة الأمر " ((2)) . وقال الرازي: " أي متقدمين في الدنيا والدين. وعن مجاهد دعاة إلى الخير " ((3)) .
4. {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} :
أي: " لملك فرعون يرثون ملكه ويسكنون مساكن القبط، وهذا معنى قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي اسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} ((4)) " ((5)) .
5. {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} :
أي: " نوطد لهم أرض مصر والشام ونجعلها لهم سكناً " ((6)) ، وهو الوعد القديم لهم قبل تبديلهم دينهم الذي أنزله الله تعالى.
6. {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} :
__________
(1) النُكَت والعُيُوْن (المُسَمَّى: تَفْسِير المَاوَرْدِي) . أبو الحَسَن عَلِيّ بن حَبِيْب البصري، ت 450 هـ. ط2. علق عليه: السيد بن عَبْد المقصود بن عَبْد الرحيم. مؤسسة الكتب الثقافية. بيروت. دار الكتب العلمية. بيروت. 1992 م.: 3 /216.وينظر تفسير القُرْآن العَظِيْم مُسْنَدا عَنْ رَسُوْل الله – صلى الله عليه وسلم – والصَّحَابَة والتَّابِعِيْن. الإِمَام الحَافِظ عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن إِدْرِيْس الرَّازِي ابن أَبِي حَاتِم ت (327) هـ. تحقيق أسعد مُحَمَّد الطيب. مَكْتَبَة نزار مصطفى الباز. مكة المكرمة. الطبعة الأول. عام 1997 م.: 9/ 2941.
(2) جامع البيان: 10/28.
(3) مفاتيح الغيب: 24 /226.
(4) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 137.
(5) مفاتيح الغيب: 24 /226.
(6) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /423.

(1/226)


قال البيضاوي: " من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم " ((1)) .
وقال الشهاب في حاشيته: " لما يحذرون ولا شبهة في أنه المحذور عندهم، وهو الذي خافوا منه بعد إخبار الكهان حتى حملهم على القتل، وأما كون ذلك مرئياً، فإن كانت الرؤية بمعنى المعرفة، وهم قد عرفوا ذلك لما شاهدوه من ظهورهم عليهم وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم فظاهر. وإن كانت بصرية، وهو المناسب للبلاغة، فالرؤية لمقدماته جعلت رؤية له مبالغة، وهذا مستفسر منهم حتى يقال: رأى موته بعينه، وشاهد هلاكه، أو المراد رؤيته وقت الهلاك فلا يرد أنهم لم يروا ما ذكر وإنما الرائي له بنو إسرائيل " ((2)) .
وقال المراغي: " أي ونري أولئك الأقوياء والأعداء والأدلاء على أيدي بني إسرائيل من المذلة والهون، وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن لا ينجي حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به العلم عن القدم على يد هذا الغلام " ((3)) .
7. {وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} :
__________
(1) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /209.
(2) حَاشِيَة الشِّهَاب الخفاجي على تَفْسِير البيضاوي المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي. شهاب الدِّيْن أحمد بن مُحَمَّد بن عمر الخفاجي. ت 1069 هـ. تحقيق: عبد الرزاق المهدي. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1997 م: 7 /64.
(3) تفسير المراغي: 20 /34.

(1/227)


في الحقيقة لم اعثر على الاسم الكامل لهامان، فقد اكتفى المؤرخون كالطبري، وابن الأثير، وابن قتيبة، وكذلك المفسرون بالقول إنه وزير فرعون فقط. وقد رجح ابن عاشور: " أن هامان ليس باسم علم ولكنه لقب مثل فرعون وكسرى وقيصر ونجاشي، فالظاهر أن هامان لقب وزير الملك في مصر في ذلك العصر، وقد جاء في كتاب استير من كتب اليهود الملحقة بالتوراة المحرفة تسمية وزير احشويردش ملك الفرس (هامان) ، فظنوه علماً، فزعموا أنه لم يكن لفرعون وزير اسمه هامان، واتخذوا هذا الظن مطعناً في هذه الآيات. والرد على ذلك أن الأعلام لا تنحصر، وكذلك ألقاب الولايات قد تشترك بالاسم وخاصة المتجاورة، فيجوز أن يكون هامان علماً من الأمان، فإن الأعلام تتكرر في الأمم والعصور، ويجوز أن يكون لقب خطه في مصر، فنقل اليهود هذا اللقب إلى بلاد فارس في مدة أسرهم " ((1)) .
أما أنا فاذهب إلى أنه اسم للرجل لأن النص القرآني إذا أخبر باسم رجل فهو على حقيقته.
ما يستفاد من النصّ
عبرت الآيات بكلمات معدودة عن الحالة المأساوية التي عاشتها مصر في ظل حكم الفراعنة مما تعجز أن تصفها مجلدات، فيمكن أن نستنبط منها المعاني الآتية:
أولاً: حاجة البشرية إلى هدي النبوة.
__________
(1) ينظر التحرير والتنوير: 20 /72. وينظر الحياة ترجمة تفسيرية. جمع ج. س. سنتر. الطبعة الأولى. مصر الجديدة. القاهرة. (د. ت) .: ص 647.

(1/228)


فقد خلق الله تعالى هذا الكون وفق نظام دقيق متوازن، وجعل الحاجة الفطرية من مخلوقات الله تعالى، ومن ذلك فطرة الله تعالى للإنسان، فإن الله خلق البشر وخلق فيهم حاجتهم إلى الدين، فالإنسان بفطرته بحاجة إلى الدين. قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ((1)) ، والإنسان مفتقر إلى منهج ينظم حياته إذ إنه قاصر عن بلوغ هذه الغاية لتسلط الأهواء عليه، فإن النفس الإنسانية مائلة إلى الكسب وأخذ ما ليس لها، فلا بد للبشر في كل العصور إلى رسل الله لربط تصرفات الإنسان بخالقه وبأخيه الإنسان، ولمعرفة ثواب المطيع وعقاب العاصي، وأهداف أخرى كثيرة سنذكر منها فقط ما يخص حاجة أهل مصر إلى هدي النبوة في ضوء هذه الآيات من سورة القصص.
1-الدعوة إلى عبادة الله وحده:
لو عدنا إلى الآيات السابقة من سورة القصص: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أهْلَهَا شِيَعا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ ابْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ انَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ((2)) .
فبعد هذا العرض القرآني الذي يبين فيه حاجة أهل مصر إلى هدي النبوة لإنقاذ المستضعفين وإحقاق الحق وإرجاع الناس من عبادة فرعون إلى عبادة الله تعالى الواحد الأحد. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأَنْسَ الاَّ لِيَعْبُدُونِ} ((3)) ، ويتحقق معنى العبودية لله بتحقيق معنى التوحيد، أي: إخلاص العبودية لله وحده لا شريك له، والخضوع له خضوعاً تاماً، والاستسلام له في جميع شؤون الحياة.
__________
(1) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآية 30.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 56.

(1/229)


ومن معاني التوحيد هو الاستقامة في الأرض ضمن المنهج الذي يريده الله جل وعلا، وكل هذه المعاني لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها بدون بعثة الرسل، فقد امتحنت البشرية مرات عديدة حينما بعد بها العهد من الله تعالى ورسالاته فعبدت غير الله.
2. الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر:
إن الإيمان باليوم الآخر من أساسيات كل الأديان السماوية، وجاءت جميعاً لتقيم الأدلة على إثبات اليوم الآخر، وأن هناك ثواب للطائعين وعقاب للعاصين، فجاءت رسالة موسى (- عليه السلام -) لتدعو إلى الإيمان باليوم الآخر، فقد كان فرعون وقومه لا يؤمنون باليوم الآخر {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا انَّهُمْ الَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} ((1)) ، فجاء أمر الله إلى سيدنا موسى وهارون لتحذير فرعون وملئه من اليوم الآخر.
{إنَّا قَدْ أوحِيَ إلَيْنَا أنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأَولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ((2)) .

3. إصلاح النظام الأخلاقي والاجتماعي:
__________
(1) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 39.
(2) سُوْرَة (طَه) : الآيات 48 –53.

(1/230)


إن إصلاح النظام الأخلاقي والاجتماعي هو قاسم مشترك بين كل الديانات، ورسالة الله للبشر في كل العصور، ولأن الإنسان مخلوق كرّمه الله وسخّر له كل ما في الكون من أرض وسماء لخدمته، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ((1)) ، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مِنْهُ} ((2)) .
فلذلك أنكر الله جل وعلا على قوم فرعون، لأنهم فقدوا شخصيتهم وأصبحوا أذنابا لفرعون، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطَاعُوهُ} ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 70.
(2) سُوْرَة الجَاثِيَةِ: الآية 13.
(3) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51.

(1/231)


فالناس سواسية عند الله تعالى، لا فرق بين ملك ومملوك إلا بالتقوى {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقَاكُم} ((1)) ، هذه سنة الله في خلقه، ولكن فرعون أراد أن يغير هذه السنة، فجعل أهل مصر شيعاً وطبقات متفاوتة، فمن أطاعه بما يريد حظي بالعيش الرغيد، والمكانة المرموقة، ومن يخالفه ـ كما حصل لبني إسرائيل ممن بقي على التوحيد ـ جعلهم خدماً للأقباط يذيقونهم ألوان العذاب، وحفظ الله للإنسان في هذه الدنيا حق الحياة للذكور والإناث، ومن سنة الله في الأرض إنّه حرّم الظلم بكلّ أنواعه، فالإنسان بطبيعة خلقه فيه غرائز وشهوات وميول ونزوات تدفعه إلى تحصيل ما يريد بأي السبل، وهنا تتجلى حاجة البشر إلى هدي النبوة فالشرع هو الذي يضبط هذه الشهوات والغرائز من أن تتعدى حدودها بالعقوبات الدنيوية والأخروية، وقد جاءت آيات كثيرة تتحدث عن الظلم في عهد فرعون، فقد وصف بالطاغية {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى} ((2))
وحيثما قلبت صفحات التاريخ في تلك الفترة، فلن تعثر إلا على الفساد والضياع وفي كل مجالات الحياة، فإن المجتمع الذي بعث فيه سيدنا موسى (- عليه السلام -) عالم بأمس الحاجة إلى منقذ، فأرسله الله بحكمته ورحمته وعدالته لينقذ الناس من ظلام الكفر إلى نور الإيمان الساطع الوضاء، ومن قسوة الظلم إلى حلاوة العدالة.
ثانياً. دلت الآيات كذلك على أسباب هلاك دولة فرعون وسقوط حضارته فبعد أن ذكر الله جل وعلا أسباباً خمسة للهلاك:
إنه علا في الأرض.
جعل أهلها شيعاً.
يذّبح أبناءهم.
ويستحي نساءهم.
إنه كان من المفسدين.
قابلها بخمسة:
وَنُرِيدُ انْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} .
وَنَجْعَلهُمْ أئِمَّةً} .
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} .
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} .
__________
(1) سُوْرَة الْحُجُرَات: الآية 13.
(2) سُوْرَة (طَه) : الآية 24.

(1/232)


وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} .
فهذه الخمسة مقابل تلك الخمسة يثبت صدق الوعد الإلهي ويثبت عاقبة الطغاة.
ثالثا: دلت الآيات كذلك على إحدى المبشرات بانتصار الإسلام والمسلمين على أعدائهم بعد الأخذ بأسباب النصر، فكل أسباب الهلاك متوفرة في أعدائهم، وكل أسباب النصر متوافرة في المؤمنين بدلالات النصّ.

المبحث الثاني: الاستعلاء والطغيان بالثروة والمال
المطلب الأول: قارون وكنوزه
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((1)) .
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.

(1/233)


لما دل قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ امَّةٍ شَهِيدا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا انَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((1)) " على عجزهم في تلك الدار وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار إنما هو الواحد القهار، دلّ على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بالهلاك أولى البطر والمرح والأثر من غير أن يغنوا عمن أضلوا أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من صامت تطبيقاً لعموم {وَكَمْ اهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((2)) على بعض الجزئيات تخويفاً لمن كذب النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، ولاسيما من نسبة إلى السحر، وإعلاماً بأن الأنبياء ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء لأنه سبحانه وتعالى عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحدهم من بني إسرائيل ومن أقرب من بني إسرائيل إلى موسى (- عليه السلام -) " ((3)) . فبعد أن بينت الآيات السابقات تخلي الشركاء يوم القيامة عن الاستجابة لمن اتخذوهم شركاء، وضل عنهم ما كانوا يفترون، يبين الله جَلَّ وَعَلا في هذه الآيات تخلى المال عن صاحبه المغتر به، وانتفاء الانتفاع به، وانعدام الفائدة له في إنقاذه من عقاب الله تعَاَلىَ ليستكمل المعنى أنه لا ناصر إلا الله، ولا معز إلا الله، فنلاحظ الترابط بين الآيات والتلازم بين المعاني.
تحليل الألفاظ
1. {فَبَغَى} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(3) نظم الدرر: 5 /516.

(1/234)


البَغْيُ: التَّعَدَّي، وبَغَى الرجلُ علينا بَغْياً: عدل عن الحق واستطال. وقال الفراء: البَغْي استطالة على الناس. وقال الأزهري: معناه الكبر والَغَي الظُّلم والفساد. والبَغْيُ معظم الأمر، وقال: معنى البَغْي قصد الفساد، ويقال: فلان يَبْغي على الناس إذا ظلمهم وطلب آذاهم، وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء بَغْيٌ ((1)) ، بمعنى أن البغي يتلوه سوء العاقبة والخاتمة، والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
2. {الْكُنُوزِ} :
الكَنْزُ، قال الراغب الأصفهاني: " الكَنْزُ جَعْلُ المال بعضَهُ على بعض وحفظُه، وأصْلُه من كنزتُ التّمْرَ في الوِعاءِ " ((2)) . " وقيل: الكنز المال المدفون، وجمعه كُنُوزٌ، كَنَزَهُ يَكْنزُه كَنْزاً واكْتَنَزَهُ، وتسمي العرب كلّ كثيرٍ مجموع يتنافس فيه كنزاً " ((3)) .
3. {لَتَنُوءُ} :
" النّأنَأةُ: العَجْزُ والضَّعْفُ، وروى عِكْرمِةُ عن أبي بكر الصديق (- رضي الله عنه -) أنه قال: طُوبَى لِمَنْ مات في النَّانَاةَِ، مهموزة يعني أول الإسلام قبل أن يَقْوَى ويكنُزَ أهله وناصريُه والدّاخِلونُ فيه، فهو عند الناس ضعيف. وتَنَأنَأ: ضَعُفَ واستَرخَى، ورجل نَأنأ ونَأناءُ بالمد والقص: عاجز جبان ضعيف، ونَأنَأتُ الرجل نَأنأةً، أي: حَمَلتُه على أن ضَّعُفَ عما أراد وتراخى " ((4)) .
4. {بِالْعُصْبَةِ} :
" العُصبةُ والعِصابةُ جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين، وقال الأخفش: والعُصبة والعِصَابة جماعة ليس لها واحد، والتَّعَصُّبُ من العَصَبِيَّة أن يَدعُوَ الرجلَ إلى نُصرة عَصَبِته والتَالُّبِ معهم على من يناوئهم.
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (بغي) 17 /78.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 460.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (كنز) 5 /402.
(4) لِسَان العَرَب: مادة (نأي) 1 /161 – 162.

(1/235)


واعصَوصَبُوا: استَجمعوا فإذا تَجَمَعَّوُا على فريق آخر قيل: تَعَصَبَّوُا واعصَوصَبُوا استَجمعوا " ((1)) . وقال الراغب: " والعُصبَةُ جماعةٌ مُتَعَصِّبَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ " ((2)) .
5. {الْفَرِحِينَ} :
" الفرح نقيض الحزن. وقال ثعلب: إن يجد في قلبه خِفَّةً، فَرِحَ فَرَحاً، ورجل فَرِحٌ وفَرُحٌ ومفروح. وعن ابن جني: وفرحانُ من قوم فَراحَى وفرَحَى، وامرأةُ فَرِحةُ وفَرحَى، وامرأةٌ فَرِحةٌ وفَرحَى وفَرحانة " ((3)) .
القراءات القرآنية
1. {عَلَيْهُمْ} :
قرأها حمزه بضم الهاء وسكون الميم ((4)) .
2. {فَبَغَى} :
وقرأ بالإمالة كل من حمزة، والكسائي، وخلف، وورش ((5)) .
3. {مَفَاتِحَه لتنوّاُ} :
قرأ الأعمش: (مفاتيحه لتنوء) .
وقرأ بديل بن ميسرة: (مفتاحه لينوء) .
وروي أيضاً عن يديل بن ميسرة: (مفاتحه لينوء) ((6)) .
4. {الفَرِحيِنَ} :
وقرأ (الفَارحين) حكاه عيسى بن سليمان ((7)) .
5. {وَاتَبعِ} :
وقرأ واتَّبعْ ((8)) .

القضايا البلاغية
1. القلب:
__________
(1) المصدر نفسه: مَادة (عصب) 1 /605- 606.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 348.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (فرح) 2/ 541.
(4) معجم القراءات القرآنية: 5 /31.
(5) المصدر نفسه: 5/ 32.
(6) الكَشَّاف: 3 /190. البَحْر المُحِيْط: 7/132. معجم القراءات القرآنية: 5/ 32.
(7) البَحْر المُحِيْط: 7 /133. روح المعاني: 20 /112. معجم القراءات القرآنية: 5 /32.
(8) الكَشَّاف: 3/191.

(1/236)


وذلك في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا انَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} الأصل هو: لتنوء العصبة بالمفاتح، أي: لتنهض بها بجهد. وقال أبو عبيد هو كقولهم: عرضت الناقة على الحوض، وأصله عرضت الحوض على الناقة. وقيل: يجوز أن لا يكون هناك قلب لأن المفاتح تنهض ملابسة للعصبة إذا نهضت العصبة بها، ورجح الآلوسي الرأي الأول فهو منقول عن الخليل، وسيبويه، والفراء، واختاره النحاس ((1)) .
2. المبالغة:
وذلك في وصف كنوز قارون حيث ذكرها جمعاً الكنوز والمفاتح، والنوء والعصبة، وأولي القوة. وقال محي الدين درويش:
" وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة، وتعدد ما يتعلق بما يملكه " ((2)) .
3. بلاغة التعليل:
وذلك في قوله: {إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . حسن تعليل جميل بجملة {انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((3)) .
المعنى العام
1. {انَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} :
{فَبَغَى عَلَيْهِمْ} فيه وجوه:
أولاً ـ إنه بغى بسبب ماله، وبغيه إنه استخف بالفقراء ولم يرع لهم حق الإيمان ولا عظمهم مع كثرة أمواله.
الثاني ـ إنه من الظلم، قيل: ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم.

الثالث ـ بغى عليهم، أي: طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده ((4)
__________
(1) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 558. روح المعاني: 20/ 111.
(2) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 380.
(3) المصدر نفسه: 5/ 380.
(4) نقل الطبري عن ابن جريج: هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب كان من قوم موسى يقول كان من عشيرة موسى بن عمران النبي وهو ابن عمه لأبيه وأمه. جامع البيان: 10 /99.

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: " كان قارون ابن عم موسى أخي أبيه، وكان قطع البحر مع بني إسرائيل، وكان يسمى المنور من حسن صوته بالتوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري فأهلكه الله لبغيه. ينظر تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3005.
ونقل الطبري عن ابن إسحاق: " إن يصهر بن قاهث تزوج سميت بنت بتاويت بن بركنا بن بقشان بن إبراهيم، فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فنكح عمران بخنت بنت شمويل بن بركنا بن بقشان بن بركنا، فولدت له هارون بن عمران، وموسى بن عمران صفي الله ونبيه، فموسى على ما ذكر ابن إسحاق ابن أخي قارون، وقارون هو عمه أخو أبيه لأبيه ولأمه. وأكثر أهل العلم في ذلك على ما قاله ابن جريج. ينظر جامع البيان: 10/ 99. تاريخ الطَّبَري (تاريخ الرُّسُل والملوك) . أبو جعفر مُحَمَّد بن جَرْير الطَّبَري. ت 310 هـ. تحقيق: مُحَمَّد أَبِي الفَضْل إبراهيم. دار المعارف بمصر. ط2. 1967 ـ 1976 م: 1 /385. الكامل في التاريخ: 1 /115

(1/237)


) .
الرابع ـ قال الضحاك: طغى عليهم واستطال، فلم يوفقهم في أمر.
الخامس ـ قال ابن عباس: تجبر وتكبر عليهم وسخط عليهم.
السادس ـ قال شهر بن حوشب: بغيه عليهم إنه زاد عليهم في الثياب شبراً، وهذا يعود إلى التكبر.
السابع ـ أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) قال: " كان ابن عمه، وكان يبتغي العلم حتَّى جمع علماً، فلم يزل في أمره ذلك حتَّى أبقى على موسى (- عليه السلام -) وحده، وقال له موسى (- عليه السلام -) : إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فآبي، فقال: إن موسى (- عليه السلام -) يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحملوه إن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل، فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها، فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى (- عليه السلام -) إنه فجر بك، قالت: نعم، فجاء قارون إلى موسى (- عليه السلام -) ، قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال: نعم، فجمعهم، فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني ربي أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تصلوا الرحم كذا وكذا، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن بالرجم قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم، قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا، فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى (- عليه السلام -) ؟ فقال لها موسى (- عليه السلام -) : أشهدك بالله آلا ما صدقت؟ قالت: آما إذ أنشدتني بالله، فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله. فخر موسى (- عليه السلام -) ساجداً يبكي، فأوحى الله إليه: ما يبكيك! قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم، فأخذتهم

(1/238)


إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! ، فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! فقال: خذيهم فانطبقت عليهم، فأوحى الله: يا موسى سالك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.
قال ابن عباس: وذلك قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} ((1)) .
2. {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} :
قال أبو السعود: " أي: الأموال المدخرة " ((2)) .
ونقل الرازي رواية عن سعيد بن المسيب، والضحاك " بأن سيدنا موسى (- عليه السلام -) أنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلّم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه، وكالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضه والنحاس يجعله ذهباً " ((3)) .
__________
(1) ينظر الكِتَاب المصنف في الأحاديث والآثار. أبو بكر عَبْد الله بن مُحَمَّد بن أَبِي شيبة الكوفي. (159 ـ 235) . تحقيق: كمال يوسف الحوت. مَكْتَبَة الرشد. الرياض. ط1. 1409 هـ.: 6/ 334. تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3006. المستدرك على الصحيحين. الحاكم النيسابوري. مُحَمَّد بن عَبْد الله أبو عَبْد الله. ت 405 هـ. وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي. دار الكِتَاب العربي. بيروت. (د. ت.) : 2 /443 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. جامع البيان: 20 /117. تاريخ الرُّسُل والملوك: 1 /264. مفاتيح الغيب: 13 /15. الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمَأَثُوْر. الإِمَام جلال الدِّيْن السيوطي. ت 911 هـ. ضبط النصّ والتصحيح وإسناد الآيات ووضع الحواشي والفهارس بإشراف دار الفكر. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت.) .: 6 /436.
(2) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7/ 24.
(3) مفاتيح الغيب: 13/ 17.

(1/239)


وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} ، قال: أصاب كنزاً من كنوز يوسف (- عليه السلام -) ((1)) .
3. {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} :
قيل في معنى المفاتح وجوه:
المفاتح ظاهرها أنها الذي يفتح بها، ويحتمل أن يريد أنها الخزائن والأوعية الكبار قاله الضحاك، لأن المفتح في كلام العرب الخزانة ((2)) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن خيثمة قال: " كانت مفاتح كنوز قارون من جلود، كلّ مفتاح مثل الإصبع، كلّ مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على ستين بغلاً أغراً محجلاً " ((3)) .
إن مفاتح الكنوز: إحاطة علمه بها، حكاه ابن بحر ((4)) لقول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْب} ((5)) ، ونقل الرازي إن هناك من طعن بذلك من وجهين:
أولاً: إن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ، ولو أنا قدرنا بلدةً مملوءة من الذهب والجواهر لكفاها أعداد قليلة من المفاتح، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتح.
ثانياً: إن الكنوز هي الأموال المدخرة في الأرض، فلا يجوز أن يكون لها مفاتح.
وأجاب الرازي عن الأول: إن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقد؛ جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد. وأيضاً فهذا الذي يقال: إن تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القران، فلا تقبل هذه الرواية، وتفسير القران إن تلك المفاتح كانت كثيرة، وكان كلّ واحد منها معيناً لشيء آخر، فكان يثقل على الصعبة ضبطها ومعرفتها بسبب كثرتها، وعلى هذا الوجه يزول الاستبعاد.
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /3007. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6/437.
(2) المحرر الوجيز: 12/ 186.
(3) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3007.
(4) النُّكَت والعُيون: 3/ 237.
(5) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 59.

(1/240)


وعن الثاني: إن ظاهر الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا، فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها إغلاق ((1)) .
4. {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}
أي: نثقل وتميلهم ((2)) .
(والعصبة) : قال الطبري: فإنها الجماعة، واختلف أهل التأويل في مبلغ عددها الذي أريد به في هذا الوضع:
مبلغ عددها أربعون رجلا
وعن قتادة: إن العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين.
قال آخرون: ستون رجلاً.
وعن ابن عباس: العصبة (ثلاثة) ، وقال أيضاً: العصبة ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وقيل: كانت تحمل على ما بين عشرة إلى خمسة عشر ((3)) .
والذي أرجحه أن كل تلك عبارة عن روايات، ولا يعلم الحقيقي إلا الله عز وجل، لأنه مما لا ينضبط عدداً.
5. {أُولِي الْقُوَّةِ} :
قال الطبري: أولي الشدة ((4)) .
6.
{ِ إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} :
أخرج ابن حاتم عن السدي في قوله تعالى: {إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} قال: هم المؤمنون منهم قالوا: يا قارون لا تفرح بما أوليت، فتبطر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قوله: لأن الله لا يحب الفرحين المتمدحين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله فيما أعطاهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أيضاً: إن الفرح هنا البغي. وعن السدي قوله: إن الله لا يحب الفرح بطراً ((5)) .
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) مفاتيح الغيب: 13 /16.
(2) زَاد المَسِيْر: 6/ 240.
(3) جامع البيان: 10 /104.
(4) المصدر نفسه: 10 /102.
(5) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3009.

(1/241)


" عرضت السورة في بدايتها قوة السلطات والحكم، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم والكفران بالله والبعد عن هداه، والآن تجيء قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم، وكيف ينتهي بالبوار مع البغي والبطر والاستكبار على الخلق، وجحود نعمة الخالق " ((1)) .
وسنعرض فيما يأتي بعض المعاني والعبر التي يمكن استقصائها من قصة قارون:
أولا: دلت آيات على أن قارون كان من قوم موسى (- عليه السلام -) ولم تمنعه قرابته من عذاب الله ومقته بعد أن بغى وبطر، واستكبر وابتعد عن منهج الله، ولم يسمع نصيحة الناصحين. فإن ما يمرّ به المسلمون اليوم من ضعف وتكالب الأعداء عليهم شبيه بقصة قارون، فكثير من الدول الإسلامية اليوم، وأغنياء المسلمين يملكون من الأموال الكثير، لكن هذه الأموال والموارد الكثيرة لم تستغل بالشكل الصحيح في طاعة الله، ووفق منهج الله وسنته في المال، وبينما يعيش قسم من دول المسلمين في حالة رفاهية مطبقة وترف كبير وبذخ في الملذات وفيما يغضب الله، هناك من المسلمين من يصارع الموت من الجوع والمرض بسبب الفقر، فلم تنفع المسلمين أموالهم في صد كيد الأعداء المتكالبين، فكثير من أثرياء المسلمين اليوم يستثمر أمواله في البنوك الغربية، ولا يستثمرها في البنوك الإسلامية المحتاجة.
__________
(1) في ظلال القرآن: 6/ 312.

(1/242)


ثانيا: الغنى والفقر لا يعنيان رضا الله أو سخطه على عبدة، إن الله عز وجل يعطي المال للمؤمن والكافر. قال تعالى: {كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} ((1)) ، فالله جل وعلا رب العالمين، وقد وعد واخبر بأنه {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ((2)) ، فكل ذي روح يدب على الأرض، فإن الله يرزقه ويهيأ له أسباب تلقى هذا الرزق سواء كان كافراً أو مؤمناً ((3)) . فلا يعني أبداً وجود المال عند شخص ما أن الله راضي عنه، ولا يعني أبداً أن تضيق الرزق على عبد ما أو فقره على سخط الله على هذا العبد. فلقد أعطى الله تعالى المال الكثير والكنوز لقارون، ولم يكن ذلك دليلاً على رضا الله عنه، لأن الله خسف به وبداره الأرض. وقال تعالى: {فَأمَّا الإَنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَاكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي اكْرَمَنِ * وَأمَّا إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهَانَنِ} ((4)) ، فقد أنكر جل وعلا في هذه الآيات على الإنسان اعتقاده إن توسعة الرزق على الإنسان دليل على إكرام الله، أو اعتقاده أنَّ تضيق الرزق على الإنسان دليل على إهانة الله له ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 20.
(2) سُوْرَة هُوْد: الآية 6.
(3) ينظر السنن الإلهية. د. عبد الكريم زيدان. الشركة المتحدة للتوزيع. مؤسسة الرسالة. بيروت. (د. ت) .: ص 270.
(4) سُوْرَة الفَجْرِ: الآيات 16 - 18.
(5) ينظر المستفاد من قصص القرآن: 1/ 531- 533.

(1/243)


ثالثاً: ودلت الآيات كذلك على ذم الله للبطر والفرح بالدنيا وزهوتها، والاغترار بالمال إثر نصيحة قوم قارون له. قال الآلوسي: " والفرح بالدنيا لذاتها مذموم، لأنه نتيجة حبها والرضا بها، والذهول عن ذهابها، فإن العلم بان ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتماً، كما قال أبو الطيب:
أشدُّ الضم عندي في سرور
... تيقن عنه صاحبه انتقالاً ((1))
ولذلك قال تعالى: {لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ((2)) ، وعلل سبحانه النهي هاهنا بكون الفرح مانعاً من محبته عز وجل، فقال تعالى: {انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، فهو دليل على أن الفرح بالدنيا مذموم شرعاً. وإنما قلنا إن الفرح بها لذاتها مذموم، لأن الفرح بها لكونها وسيلة إلى أمر من أمور الآخرة غير مذموم.
وليس المقصود هو النهي عن الفرح مطلقاً، فالفرح والحزن فطرة فطر الناس عليها، فالمؤمن يفرح بما يفرحه ويشكر الله على ذلك وإذا أصابه ما يحزنه يصبر. فالفرح المنهي عنه هو فرح البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، ولما في هذا الفرح من تفضيل الدنيا على الآخرة التي هي دار الخلود" ((3)) .
__________
(1) ديوان المتنبي. أبو الطيب المتنبي. دار صادر. بيروت: ص 224.
(2) سُوْرَة الحَدِيْد: الآية 23.
(3) روح المعاني: 20 /112.

(1/244)


المطلب الثاني: تجبر قارون واستكباره
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ} ((1)) .
المناسبة
لما كان ترك الفرح في قوله تعالى: {انَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} سبباً للزهد، وهو سبب للقرب إلى الله، كأنه قيل: وازهد فيه إن الله يحب الزاهدين ((2)) ، فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} .
ومن الواضح أن كفره سول له البقاء على ذلك والعياذ بالله تعالى، فخسف الله به وبداره الأرض جزاءً وفاقاً لكفره وتكبره على ما أخبرنا عز وجل في سورة القصص في الآيات التي نحللها هنا.
تحليل الألفاظ
1. {وَابْتَغِ} :
بَغَى الشيءَ ما كان خيرا أو شراً يَبغِيه بُغاءٍ وبُغىً: طَلَبَه، وبغى ضالّته وكذلك كل طَلبِة، بُغاءً بالضم والمد وبُغايةً.
وقال اللحياني: بَغَى الرجلُ الخير والشر وكلّ ما يطلبه بُغاءً وبِغيَة وبِغّى مقصور والبُغْيَهُ: الحاجة. وقال الأصمعي: بَغَى الرجلُ حاجته أو ضالته يَبغْيها بُغاءً وبُغايةً إذا طلبها ((3)) .
2. {وَلاَ تَنسَ} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 77 -80.
(2) نظم الدرر: 5/ 518.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (بغي) 14/ 75 -76.

(1/245)


والنسِيان بكسر النون ضدّ الذِّكر والحِفظ نَسِيِه نِسيْاً ونسيْاناً ونِسْوةً ونَساوة. والنسيان الترك يقال: أنسيته، أي: أمرت بتركه ونَسيِتهُ تَرَكْتهُ ((1)) .
وقال ابن عاشور: " والنهي في {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ} مستعمل في الإباحة والنسيان كناية عن الترك " ((2)) .
3. {نَصِيبَكَ} :
" الحظ والقسط وهو فيصل من النصب، لأن ما يعطى لا حد ينصب له ويميز " ((3)) .
4. {زِينَتِهِ} :
الزَّيْنُ خلاف الشين، وجمعه أزيانٌ زانه زَيْناً وأزانه وأزْيَنَه على الأصل، وتَزَيَّن هو وازْدان بمعنىً، وهو افتعل من الزّينةِ، والَّزينة اسم جامع لكل شيء يُتَزَيَّن به والزَّينَةُ ما يتزين بهِ ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {وابَتغِ} :
ذكر الزمخشري أن هناك من قرأ: (وإتبع) دون أن يذكر من قرأ بذلك ((5)) .
2. {ءاتَاكَ} :
قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((6)) .
3. {عِندِي} :
قال أبو ربيعة عن البُزي، وقنبل بالإسكان، وفتح نافع (عندِيَ) وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر ((7)) .
القضايا البلاغية
1. التتميم:
وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . ففيه تتميم لابد منه، لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة لم يكن له نصيب فيها ((8)) .
2. تشبيه:
في قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((9)) .
3. الاستعارة:
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (نسي) 15/ 321 –322.
(2) التحرير والتنوير: 20 /179.
(3) المصدر نفسه: 20 /179.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (زين) 13/ 201.
(5) ينظر الكَشَّاف: 3 /191.
(6) ينظر معجم القراءات القرآنية: 5/ 32.
(7) الإقناع في القراءات السبع: 2/ 724.
(8) الجدول في إعراب القرآن: 20/ 294.
(9) ينظر ص من هذه الأطروحة.

(1/246)


في قوله تعالى: {وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُونَ} ،" التلقية جعل الشيء لاقياً، أي: مجتمعاً مع شيء آخر، وهو مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة، أي: لا يعطى تلك الخصلة أو السيرة إلا الصابرون " ((1)) .
المعنى العام
1. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ} :
أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل بها الثواب في الدنيا والآخرة.
2. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} :
فقد اختلف المفسرون فيه، فقال ابن عباس، والجمهور: لا تضيع عمرك في إلا تعمل عملاً صالحاً في دنياك إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها، فالكلام على هذا التأويل شدّة في الموعظة. وقال ابن عطية: فالكلام كله على هذا التأويل شدة في الموعظة.
وقال الحسن، وقتادة: معناه لا تضيع حظك من تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك ((2)) .
3. {وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ} :
فيه عدة تأويلات:
أحدهما ـ أعط فضل مالك كلما زاد على قدر حاجتك، وهذا معنى قول ابن زيد.
ثانيا ـ وأحسن فيما افترض الله عليك كما أحسن في إنعامه عليك. قاله يحيى بن سلام.
ثالثا ـ أحسن في طلب الحلال كما أحسن إليك في الحلال ((3)) .
__________
(1) التحرير والتنوير: 20/ 185.
(2) ينظر المحرر الوجيز: 12/ 189. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 503. تفسير القرآن العظيم: 3/ 399.
(3) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /238.

(1/247)


رابعا ـ وقال القرطبي: " أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك. ومنه حديث ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) ((1)) . وقيل هو أمر بصله المساكين. قال ابن عربي: فيه أقوال كثيرة: جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله ((2)) .
4. {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} :
قال البقاعي: " لا ترد إرادة ما بتقتير ولا تبذير، ولا تكبر على عباد الله ولا تحقير، ثم اتبع ذلك علته لأن أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا، وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب، فقيل: {إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ، أي: لا يعاملهم معاملة من يحبه، فلا يكرمهم " ((3)) .
5. {قَالَ إنَّمَا آوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} :
يقول الله عز وجل في هذه الآية مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير فيه خمسة أقوال:
أحدها ـ على علم عندي بصنعة الذهب رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: وهذا لا أصل له، لأن الكيمياء باطل لا حقيقة له ((4)) .
والثاني ـ يرضى الله عني. وقال ابن كثير: وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الحمن بن زيد بن أسلم فإنه قال في قوله: {قَالَ إنَّمَا آوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ، قال: لولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال. وقرأ: {أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأكْثَرُ جَمْعاً} . وقال: هكذا يقول من قلَّ علمه إذا رأى مَنْ وسّع الله عليه لولا أن يستحق ذلك لما أعطي ((5)) .
__________
(1) صحيح البخاري: 4 / 1793، وهو جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه.
(2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5030.
(3) نظم الدرر: 5/ 519.
(4) ينظر زَاد المَسِيْر: 6/ 242.
(5) ينظر تفسير القرآن العظيم: 3/ 401.

(1/248)


الثالث ـ على خبرِ عَلِمَهُ، قاله مقاتل.
الرابع ـ إنما أعطيته لفضل علمي، قاله الفراء. قال الزجاج: ادعّى أنه أُعطي المال لعلمه بالتوراة.
الخامس ـ على علم عندي بوجوه المكاسب، حكاه الماوردي ((1)) عن ابن عيسى.
6. {أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأكْثَرُ جَمْعاً} :
قال المراغي: في معناها " أَنسي ولم يعلم حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتي؟ إن الله قد أهلك من قبله من الأمم من هم أشد منه بطشاً وأكثر جمعاً للأموال؟ ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال الذين كانوا أكثر منه مالاً، لأن من يرضى عنه فمحال أن يهلكه وهو عنه راضٍ، وإنما يهلك من كان عليه ساخطاً، ألم يشاهد فرعون وهو في أبَّهة ملكه، وحقق أمره يوم هُلْكه، وفي هذا الأسلوب تعجيب ما من حاله، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله مع علمه بذلك " ((2)) .
7. {وَلا يُسْالُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} :
" فأخرج أبي حاتم عن قتادة في معنى هذه الآية يقول: المشركون لا يسألون عن ذنوبهم، يعذبون ولا يحاسبون. وأخرج أبي حاتم عن الربيع بن أنس قوله: لا يسألون عن إحصائها، يقول: هاتوا فبينوها لنا ولكن أعطوها في كتب فلم يشكوا الظلم يومئذٍ، ولكن شكوا الإحصاء.
وهذه الآية نظير قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُم} ((3)) أي: سود الوجوه زرقاً، الملائكة لا تسال عنهم قد عرفتهم، كما روي عن مجاهد ((4)) .
8. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} :
__________
(1) ينظر النُّكَت والعُيون: 3/ 239.
(2) تفسير المراغي: 20 /95.
(3) سُوْرَة الرَّحْمَنِ: الآية 41.
(4) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3013.

(1/249)


قال ابن عطية: " إن قارون خرج على قومه وقد أظهر قدرته من الملابس والمراكب وزينته الدنيا. قال جابر، ومجاهد خرج: في ثياب حمر. وقال ابن زيد: خرج هو وجملته في ثياب معصفرة. وقيل: في ثياب الأرجوان ((1)) . وقيل غير هذا. وأكثر المفسرين في تحديد زينة قارون وتعينها بما لا صحة له " ((2)) .
9. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} :
أي: الذين معه تعلقت إرادتهم فيها، وصارت منتهى رغبتهم ليس لهم إرادة في سواها ((3)) .
10. {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أوتِيَ قَارُونُ} :
من الدنيا ومتاعها وزهرتها.
11. {إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} :
وصدقوا إنه لذو حظ عظيم لو كان الأمر منتهياً إلى رغباتهم، وإنه ليس وراء الدنيا دار أخرى، فإنه قد أعطي منها ما به غاية التنعيم بنعيم الدنيا، واقتدر بذلك على جميع مطالبه، فصار هذا الحظ العظيم بحسب همتهم، وأن همة جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى مطالبها لمن أدنى الهمم وأسفلها، وليس لها أدنى صعد إلى المرادات العالية والمطالب الغالية ((4)) .
12. {وَقَالَ الَّذِينَ آوتُوا الْعِلْمَ} :
قال أبو السعود: " أي بأحوال الدنيا واكثر المفسرون كما ينبغي وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيهاً على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الإعراض عن الأولى والإقبال على الثانية حتماً، وأن تمني المتمنين إلا لعدم علمهم بها كما ينبغي " ((5)) .
__________
(1) الأرجوان: صبغ أحمر، ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5033.
(2) المحرر الوجيز: 12/ 191.
(3) ينظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي. (1307 ـ 1376 هـ) دار الصفا للنشر. الزقازيق. (د. ت) .: 4/ 43.
(4) ينظر تيسير الكريم الرحمن: 4/ 43.
(5) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /26.

(1/250)


13. {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} :
قال الخازن: " أي ما عند الله من الثواب والخير لمن آمن وصدق بتوحيد الله وعمل صالحاً خيرٌ مما أوتي قارون في الدنيا " ((1)) .
14. {وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُون} :
قال ابن عطية: " أي يُمكن فيها ويخولها إلا الصابر على طاعة الله وعن شهوات نفسه، وهذا هو جماع الخيرُ كله " ((2)) .
ما يستفاد من النصّ
يمكن إن نستنبط من هذه الآيات المعاني الآتية:
أولاً ـ اعتدال المنهج الرباني فيما يخص الإنسان وعلاقته بالدنيا والآخرة فقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} . وقال: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} . وقد بين سيد قطب أن في الآية توازناً يتمثل باعتدال " المنهج الإلهي القويم المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفاً كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها " ((3)) .
ونلاحظ أن الله عز وعلا أكد أولاً على الآخرة، وأن يوظف الإنسان هذا المال الذي هو مال الله أصلاً في طاعة الله، والتقرب إليه بأنواع القربات، وأن لا يستخدم هذا المال فيما لا يحل له، وهذا المنهج الرباني ينبغي أن تعمل عليه الدول الإسلامية في توظيف ثروات وأموال المسلمين ومواردهم التي أنعم الله بها عليهم في طاعة الله وخدمة الإنسانية.
__________
(1) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 421.
(2) المحرر الوجيز: 12/ 192.
(3) في ظلال القرآن: 6/ 374.

(1/251)


ثانياً ـ وجهت الآيات من خلال قصة قارون الأغنياء على مساعدة الفقراء عيال الله، فقال تعالى حكاية عن نصيحة المؤمنين لقارون: {وَأحسن كَمَا أحسن اللَّهُ إلَيْكَ} . قال ابن كثير: " أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك " ((1)) ، فالمال هو مال الله، وإحسان منه اختص به بعض عباده، فليقابل من اختصم الله بنعمته بالإحسان إلى الفقراء. قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ((2)) .
ثالثا ـ كثرة المال قد توقع صاحبه في البغي والبطر، فإن المال فتنة، قال تعالى:
{إنَّمَا أمْوَالُكُمْ وَأوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ} ((3)) ، فيمتحن الله بهذا المال عباده. " ووجه الفتنة في المال أنه يوقع صاحبه في الشحّ والبخل، وعدم القيام بشكره بإخراج حق الله فيه، كما أن كثرة المال تسهل عليه سبل الترف والطغيان ـوبطر النعمة، فيصير من المترفين الطاغين البطرين " ((4)) .
وهذا ما حصل فعلاً مع قارون، فقد أطغاه المال فبغى على قومه وادعى أنه حصل على هذا المال بعلمه: {قَالَ إنَّمَا آوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} ، وليس هذا يعني ان على المسلم أن يبتعد عن المال مخافة أن يطغيه، ولا بأس من أن يمتلك المسلم المال إذا أطاع به الله.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 3/ 399.
(2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 33.
(3) سُوْرَة التَّغَابُن: الآية 15.
(4) المستفاد من قصص القرآن: 1/ 533.

(1/252)


فالمسلم الحقيقي هو من ينبغي أن يكون لديه المال، فهو أمين على ما استخلفه الله فيه، يساعد الفقراء، ويجاهد في سبيل الله كما فعل سيدنا عثمان (- رضي الله عنه -) بتجهيزه جيش العسرة، فامتدح اللهُ الرسولَ وأصحابَه، قال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ وَأولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} ((1)) وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ أعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ((2)) .
رابعاً ـ ودلت الآيات كذلك على أن على الدعاة واجب النصح لأهل الأموال الذين نسوا الله وشغلتهم أموالهم عن طاعته، فشابه حالهم حال قارون، وتذكيرهم لما جرى لقارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} .
__________
(1) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 88.
(2) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 20.

(1/253)


المطلب الثالث: هلاك قارون وماله
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ* وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((1)) .
المناسبة
أكدت هذه الآيات صدق مقولة أهل العلم لقارون: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ} ، فبادرت بعدها مباشرة إلى الحديث عن إهلاك الله تعالى لقارون وأمواله وزينته. فأنزل الله عليه العذاب وهو في موكبه أمام الناس. وصُدِّر الكلام بحرف الفاء التي أفادت العطف على جملة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ، وأفادت أيضاً التعقيب ((2)) : {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} .
تحليل الألفاظ
1. {فَخَسَفْنَا} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات: 81 - 84.
(2) عاقبة الطغيان والفساد في سُوْرَة الْقَصَصِ. عبد الحميد طهماز. دار القلم. دمشق. (د. ت) : ص 64.

(1/254)


" الخسف سُؤُوخُ الأرض بما عليها. خَسَفَتْ تَخْسِفُ خَسفْاً وخَسوفَاً وانْخَسَفَتْ وخَسَفَها الله، وخَسفَ الله به الأرض خَسْفاً، أي: غابَ به فيها وخَسفَ هو في الأرض وخُسفَ به. وقال الأزهري: وخُسِفَ بالرجل وبالقومِ إذا أخذته الأرض ودخل فيها " ((1)) .

2. (فَسَادًا) :
الفساد: " نقيض الصلاح، فَسَدَ يَفْسُدُ وَيفْسِدُ وفَسُدَ فساداً وفُسُداً فهو فاسد وفَسيِدُ فيها، ولا يقال: انفَسَد وأفْسَدْتُه أنا وقوم فَسْدَى كما قالوا: ساقِط وسُقْطَى. قال سيبويه: جمعوه جمع هَلْكى لتقاربهما في المعنى وأفَسدَه هو وأسْتفْسَد فلان إلى فلان، وتفاسد القوم تدابروا وقطعوا الأرحام. والمفسد خلاف المصلح، وفَسَّدَ الشيءِ إذا أباره " ((2)) .
3. {الْعَاقِبَةُ} :
" عَقِبُ كلَّ شيء وَعْقُبه وعاقبِتهُ وعاقِبهُ وعُقْبَهُ، وعُقُبْاه وُعقْبانُه لآخره، والجمع العَواقِبُ، والعَقَبُ والعُقْبانُ والعْقبَى كالعاقبةِ والعُقْبِ والعقبى جزاء الأمر " ((3)) .
وقال ابن عاشور عن العاقبة: " وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به، وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة، وغلب إطلاقها على عاقبة الخير " ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {فِئَةٍ} :
قرأ أبو جعفر: فِيَةٍ ((5)) .
2. {وَيْكَأنَّ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (خسف) 9/ 76.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (فسد) 3 /235.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (عقب) 1/ 611.
(4) التحرير والتنوير: 20 /190.
(5) معجم القراءات القرآنية: 5/ 33.

(1/255)


" قال ابن جني في (ويكأن) ثلاثة أقوال: منهم من جعلها كلمة واحدة فلم يقف على (وي) . ومنهم من وقف على (وي) . ومنهم من قال: (ويك) وهو مذهب أبي الحسن. والوجه عندنا ـ وهو قول الخليل وسيبويه ـ وهو أن (وي) اسم سمي به الفعل في الخبر، فكأنه اسم اعجب، ثم أبتدأ فقال: كأنه لا يفلح الكافرون، وكأن الله يبسط الرزق. فـ (وي) منفصلة من كأن. ومن قال: إنها (ويك) ، فكأنه قال: أعجب، لأنه لا يفلح الكافرون، وأعجب لأن الله يبسط الرزق، وهو قول أبي الحسن. وينبغي أن يكون الكاف حرف خطاب بمنزلة الكاف في ذلك وأولئك ((1)) ، ويشهد لهذا قول عنترة:
ولقد شفا نفسي وأَذهب سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم ((2))
3. {أن مَّنَّ اللهُ} :
قرأ الأعمش: (لولا منَّ الله) بحذف أن وهي مزادة. وروي عنه (مَنَّّّ الله) برفع النون والإضافة ((3)) .
4. {لخَسَفَ} :
قرأ الجهور: (لَخُسُفَ) مبنياً للمفعول، وقرأ حفص، وعصمة، وأبان عن عاصم، وابن أبي حماد عن أبي بكر مبنياً للفاعل (لَخُسِفَ) . وقرأ ابن مسعود، وطلحة، والأعمش: (لانْخُسِفَ) ، كقولك انقطع بنا وعن ابن مسعود أيضاً: (لَتُخُسُِّفَ) بتاء وشدّ السين مبنياً للمفعول ((4)) .
5. {يُجزَي اللذِينَ} :
قرأت بالإمالة (وقفاً) ، وهي مروية عن حمزة، والكسائي، وورش ((5)) .

القضايا البلاغية
1. {وَأصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} :
(الأمس) مستعمل في مطلق زمن مضى قريباً على طريقة المجاز المرسل.
2. {وَيكَأن اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} :
__________
(1) مجمع البيان: 7/ 264- 265.
(2) ديوان عنترة:
(3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 135.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن:

(1/256)


يقدر مضارع قدر المتعدي وهو بمعنى أعدي بمقدار، وهو مجاز في القلة، لأن التقدير يستلزم قلة المقدار، اعسر تقدير الشيء الكثير.
3. {مِنْ عِبَادِهِ} :
فائدة البيان بقوله: (مِنْ عِبَادِهِ) الإيمان إلى أنه في بسطه الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه، إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيدة، فحقهم الرضى بما قسم لهم مولاهم ((1)) .
المعنى العام
1. {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} :
قال ابن عاشور في ذلك: " دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه، وما جرى فيها من تمني قومه أن يكونوا مثله، والخسف انقلاب بعض ظاهر إلى باطنها، والباء في قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ} باء المصاحبة، أي: خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو عليها " ((2)) .
" ولما أمر قارون البَغيَّ بقذف موسى (- عليه السلام -) غضب موسى (- عليه السلام -) ، فأوحى الله تعالى إليه: إني قد أمرت الأرض أن تُطيعكَ فُمْرُها فقال موسى (- عليه السلام -) : يا أرض خُذيه، فأخذته حتى غيَّبَتْ سريره، فلمّا رأى ذلك ناشده بالَّرحم فقال: خُذيه فأخذته حتى غيَّبت قدميه، فما زال يقول: خذيه حتى غيَّبته، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى ما أفظك، وعِزَّتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته " ((3)) .
وقال سمره ابن جندب: " إنه يخُسف به كلَّ يوم قامة، فتبلغ به الأرض السفلى يوم القيامة " ((4)) .
__________
(1) التحرير والتنوير: 20 / 185 - 187.
(2) التحرير والتنوير: 2 /185.
(3) تقدم تخريجه: ص 237.
(4) زَاد المَسِيْر: 6/ 345. وذكره السيوطي في الدَّرُّ المَنْثُوْرُ من رواية ابن أبي حاتم من طريق قتادة عن سمرة بن جندب: 7/ 442.

(1/257)


وقال مقاتل: " لما أمر موسى الأرض فابتلعته قال بنو إسرائيل: إنما أهلكه ليرن ما له لأنه كان ابن عمه أخي أبيه، فخسف الله تعالى به وبداره الأرض وبجميع أمواله بعد ثلاثة أيام " ((1)) .
وجاء في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب (- رضي الله عنه -) : أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) ((2)) .
وعن أبي هريرة (- رضي الله عنه -) أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((بينما رجل يتبختر يمشي في بُردته قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) ((3)) .
2. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِين َ} :
أي " فما كان له جماعة يمنعونه العذاب، وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير، ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه اللذان اكتسبها بعمله، فلم يقه جمعه، ولم تفده قوته من دون الله، وبان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه " ((4)) .
3. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} :
__________
(1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5034.
(2) صَحِيْح البُخَارِي: كتاب الأنبياء: 3/ 1285 رقم (3297) .
(3) صحيح مسلم: باب تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه: 3 /1654 رقم (2088)
(4) تفسير الميزان في الَقُرْآن. مُحَمَّد حسين طباطبائي. الطبعة الثانية. مؤسسة الأعلمي. بيروت، لبنان. 1393 هـ ـ 1973 م.: 16/ 80.

(1/258)


قال الطبري: " وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس من الدنيا وغناه وكثرة ماله، وما بسط له منها بالأمس ـ يعني قبل أن ينزل به ما أنزل من سخط الله وعقابه ـ يقولون ويكأن الله " ((1)) .
وقال سيد قطب: " وقفوا يحمدون الله إن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما أتى قارون، وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة، وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب، ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف " ((2)) .
4. {لَوْلا أن مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} :
قال ابن كثير: " لولا لطف الله بنا وإحسانه إليه لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله " ((3)) .
5. {وَيْكَأنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} :
وروى ابن أبي حاتم عن قتادة يقول: أو لا يعلم أنه لا يفلح الكافرون ".
وفي رواية أخرى عن قتادة بلفظ " أو لا يرى أنه لا يفلح الكافرون " ((4)) .
6. {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} :
قال الرازي " " فتعظيم لها، وتفخيم لشانها، يعني تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها، ولم يعلق الوعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتها وميل القلب إليها، فعن علي (- رضي الله عنه -) : (إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها) ((5)) .
__________
(1) جامع البيان: 10 /112.
(2) في ظلال القرآن: 6/ 378.
(3) تفسير القرآن العظيم: 3/ 401.
(4) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 3022.
(5) مفاتيح الغيب: 3/ 20 - 21.

(1/259)


وقال الزمخشري: " ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقا بقوله: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} ، ويقول: من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر " ((1)) .
7. {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} :
قال المراغي: " أي العاقبة المحمودة وهي الجنة لمن اتقى عذاب الله بعمل الطاعات وترك المحرمات، ولم يكن كفرعون في الاستكبار على الله بعدم امتثال أوامره، والارتداع عن زواجره، ولا كقارون في إرادة الفساد في الأرض " ((2)) .
8. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ الاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :
يقول الطبري في معناها: " من جاء الله يوم القيامة بإخلاص التوحيد، فله خير، وذلك الخير هو الجنة والنعيم الدائم، ومن جاء بالسيئة وهي الشرك بالله فله الشر " ((3)) .
ما يستفاد من النصّ
دلت الآيات القرآنية على ما يأتي:
أولاَ ـ دلّ ارتباط الفاء بالخسف في قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} على الترتيب والتعقيب، أي: إن الله خسف به وبماله بعدها خرج على قومه في زينته، وكان خروجه هذا هو السبب المباشر في خسف الله به لغروره وتكبره ((4)) . وفي هذا دلالة أكيدة على بغض الله للتكبر والمتكبرين، وقد يكون التبختر والغرور سبب لعقاب صاحبه، فقد روى البخاري من حديث الزهري عن سالم: إن أباه حدثه أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) ((5)) .
__________
(1) الكَشَّاف: 3 /193.
(2) تفسير المراغي: 20/ 102 -103.
(3) جامع البيان: 10 /115.
(4) ينظر القصص القرآني: 3 / 60 - 61.
(5) تقدم تخريجه: ص 258.

(1/260)


(لقد اخذ الله قارون هو في أوج انتعاشه وغروره وتكبره وفرحه وبطره، وقصمه قصماً وهو في سكرته وزينته خسف به وبداره الأرض، انشقت الأرض وابتلعته، ابتلعت أمواله وكنوزه، وابتلعت خزائنه ومفاتحه، وابتلعت داره وملكه، ولم تنفعه أمواله وكنوزه لأنها لم تمنع عنه عذاب الله، ولم ينصره المتجمعون حوله المنتفعون بأمواله ولم يدفعوا عنه عذاب الله " ((1)) .
فيمكن للدعاة أن يوظفوا هذه القصة لنصح أصحاب الأموال المتبخترين بأموالهم وتذكيرهم بعقاب الله.
ثانياً ـ قد يعجل العقاب على مستحقيه في الدنيا.
" الأصل في العقاب لمستحقيه أنه يكون في الآخرة، ولكن قد يعجّله الله لمستحقيه في الدنيا مع ما ينتظره من عقاب الآخرة، كما عجل الله عقاب قارون في الدنيا حيث خسف به وبداره الأرض، وهذا التعجيل إنذار وتحذير قد ينتفع به بعض العصاة، فينزجروا عن معصيتهم وينتفع به ضعفاف الإيمان حيث يتقوى إيمانهم " ((2)) .
ولكن لا يعني هذا أن كل عاص لله ينال عقابه في الدنيا، فإن شاء الله عجّل للعصاة العذاب في الدنيا، وإن شاء آخر لهم العقاب إلى يوم القيامة.
ثالثاً ـ الرجوع عن الخطأ فضيلة.
ويتضح هذا من خلال رجوع الذين تمنوا أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون من المال. {وَأصبح الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَانَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} .
__________
(1) القصص القرآني: 3/61. وينظر عوامل فساد الأمم كما يصورها الَقُرْآن. فائز صالح الخطيب. رسالة ماجستير غير منشورة. كلية أصول الدين. جامعة الأزهر. 1400 هـ.: ص 155.
(2) المستفاد من قصص القرآن: 1/ 536.

(1/261)


الفصل الرابع: نشأة سيدنا موسى (عليه السلام) والظروف المحيطة به
المبحث الأول: ولادة سيدنا موسى (عليه السلام)
المطلب الأول: إلقاء سيدنا موسى (- عليه السلام -) في اليم
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) .
المناسبة
بعد أن قال الله جلّ وعلا في بداية السورة: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) ، قصّ حالة بني إسرائيل في ظل حكم فرعون بقوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} ((3)) ، فأوضح أن الفرج قريب بقوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ((4)) ، فلما تعلقت إرادة الله بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم، وهو الذي كان يحذره فرعون على ملكه، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله وقضينا بأن يسمى موسى بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر وتربيته في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة منّ بها على الذين استضعفوا ((5)) ، فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((6)) .

تحليل الألفاظ
1. {أوْحَيْنَا} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(5) ينظر نظم الدرر: 5/ 465.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.

(1/262)


قال ابن منظور: " الوَحْيُّ الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، يقال: وَحَيْتُ إليه الكلام وأَوْحَيْتُ ووَحَى وَحْياً وأَوْحَى أيضاً، أي: كتب. والوحي: المكتوب والكتاب أيضاً، وعلى ذلك جمعوا فقالوا: وَحِيٌّ مثل حُلْيٌّ وحُلِيٌّ " ((1)) .
وقال الراغب: " معنى الوحي الإشارة السريعة، ولتضمنّ السرعة قيل: أمر وَحْيٌ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة. ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه: وحي " ((2)) .
وقد بين القرآن الكريم أنواع الوحي في سورة الشورى بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} ((3)) .
وعليه فقد بين الراغب الأصبهاني أنواع الوحي بما يأتي ((4)) :
أولاً ـ الوحي برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل (- عليه السلام -) للنبي في صورة معينة.
ثانياً ـ بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى لكلام الله.
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (وحي) 15/ 379.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 552.
(3) سُوْرَة الشُّورَى: الآية 51.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 552.

(1/263)


ثالثاً ـ بإلقاء في الروع كما ذكر (- صلى الله عليه وسلم -) : ((إن روح القدس نفث في روعي)) ((1)) .
رابعاً ـ بالهام نحو: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((2)) .
خامساً ـ بتسخير مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ((3)) .
سادساً ـ بمنام لقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((انقطع الوحي وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة)) ((4)) .
ونحن نعد الوحي إنما جاء من القول الخفي على ما قالته العرب في كلامها.
2. {أَرْضِعِيهِ} :
قال ابن منظور: " رَضَع الصَّبيُّ وغيره يَرْضع مثال ضرب يضرب، لغة نجدية، ورَضِعَ مثال سَمِعَ يَرْضَع رَضْعاً ورَضَعاً ورَضِعاً ورَضاعاً ورِضاعاً ورَضَاعةً ورِضاعة، فهو راضِعٌ، والجمع رُضّع " ((5)) .
__________
(1) مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة: 7 /79. رقم (34332) . فتح البَاري بشرح صحيح الإِمَام أَبِي عَبْد الله مُحَمَّد بن إسماعيل البُخَاري. ومقدمته: هَدْيُ السَّاري لأَحمد بن عَلِيّ المعروف بابن حَجَر العَسْقَلاني. ت 825 هـ. الناشر: دار المعرفة ببيروت. بيروت. ط1. 1379 هـ.: 1/20 وقال: الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 68.
(4) صَحِيْح البُخَارِي: باب المبشرات 6 /2564 رقم (6589) من حديث أبي هريرة.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (رضع) 8/ 125.

(1/264)


وقال الراغب: " يقال: رضع المولود يرضع، ورضع يرضع رضاعاً ورضاعة، وعنه استعير: لئيم راضع: لمن تناهى لؤمه، وإن كان في الأصل لمن يرضع غنمه ليلاً؛ لئلا يسمع صوت شخبه ((1)) ، فلما تُعورف في ذلك قيل: رضع فلان، نحو: لَؤُم " ((2))
3. (ولا تحزني) :
الحَزَنُ: نقيضُ الفرَح، وهو خلافُ السُّرور. والجمعُ أَحْزانٌ، لا يكسَّر على غير ذلك، وقد حَزِنَ بالكسر، حَزَناً وتحازَنَ وتَحَزَّن. ورجل حَزْنانٌ ومِحْزانٌ: شديد الحُزْنِ. وحَزَنَه الأَمْرُ يَحْزُنُه حُزْناً وأَحْزَنَه، فهو مَحْزونٌ ومُحْزَنٌ وحَزِينٌ وحَزِنٌ؛ وقال سيبويه: أَحزَنَه جعله حَزِيناً، وحَزَنَه جعلَ فيه حُزْناً " ((3)) .
وقال الراغب: " والحزن: خشونة في الأرض، وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم " ((4)) .
والأمر هاهنا للوجوب الإلهي كما هو مبين في سياق الخطاب لأم موسى (- عليه السلام -) .
4. {الْمُرْسَلِينَ} :
__________
(1) الشخب: صوت اللبن عند الحلب. ينظر الصحاح: مادة (شخب) .
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 202. وينظر كتاب الأفعال. عَلِيّ بن جعفر السَّعْدِي أبو القَاسِم. ت 515 هـ. عالم الكتب. بيروت. ط1. 1983 م.: 3/91.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (حزن) 13/ 111.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 114.

(1/265)


الرَّسَل: القَطِيع من الإِبل والغنم؛ والجمع الأَرْسال؛ والرَّسَل: قَطيعٌ من الإِبِلِ قَدْر عشر يُرْسَل بعد قَطِيع. والإرسال: التوجيه. قد أرسل إليه، والاسم الرسالة والرسول والرسيل. والرسول بمعنى الرسالة يؤنث ويذكر. وتراسل القوم: أرسل بعضهم إلى بعض. والرسول والرسالة والمرسل. والرسول معناه في اللغة: الذي يتابع أخبار لذي بعثه أخذاً من قولهم: جاءت الإبل رسلاً، أي: متتابعة. وقال الأخفش: سمّي الرسول رسولاً لأنه ذو رسول، أي: ذو رسالة. والرسول اسم من أرسلت. وكذلك الرسالة ((1)) .
وقال الراغب: " أصل الرسل: الانبعاث على التؤدة " ((2)) .
أما تعريف الرسول في الاصطلاح: " هو من يأتي بشرع على الابتداء أو بفسخ بعض أحكام شريعة قبله " ((3)) .
والرسالة: " هي سفارة العبد بين الله وبين ذوي الألباب من خليقته ليزيح بها عللهم فيما قصرت عنه عقولهم من مصالح الدنيا والآخرة " ((4)) .
أما النبي: هو الذي ألقي إليه الروح شيئاً اقتصر به ذلك النبي على نفسه خاصة، وإن قيل له بلغ ما أنزل إليك، فهو رسول، فعلى هذا كلّ رسول نبي، وليس كلّ نبي رسول " ((5)) .
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (رسل) 11 /281 - 284.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 200.
(3) أصول الدين. أبو الميسر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الكريم البَزْدَوِي. ت 993 هجرية. تحقيق: د. هانز بيترلس. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. مصر. القاهرة. 1963 م.: ص 115.
(4) شرح العقائد النسفية. الإِمَام سَعَد الدِّيْن مسعود بن عمر التفتازاني. طبع شركة صحافية عثمانية. مطبعة سي. 1320هـ.: ص 133.
(5) اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر. للشيخ عَبْد الوهاب الشعراني. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378 هـ.: 1/ 177.

(1/266)


ويظهر الرسول في فرق عن معنى النبي لأن بينهما عموماً وخصوصاً ((1)) .
القراءات القرآنية
1. {أَنْ أَرْضِعِيهِ}
قرأ عمرو بن عبد الواحد، وعمر بن عبد العزيز (أنِ ارْضِعيه) بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس، لأن القياس فيه نقل حركة الهمزة وهي الفتحة إلى النون كقراءة ورش (أَنَ ارْضِعيه) ((2)) .
وقد حذف عمرو بن عبد الواحد الهمزة من نون (أن) ووصلها بالراء من (أَرْضَعيه) بعد تسهيل همزة الأمر، وهذه من سنن العرب في كلامها أن تسهل الهمزة ليستقيم النطق عندهم ((3)) .
القضايا البلاغية
1. في هذه الآية من الدلائل على الإعجاز القرآني حيث اشتملت على أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، فذكر القرطبي أن الأصمعي قال:
" سمعت جارية أعرابية تنشد وتقول:
استغفر الله لذنبي كله قبّلت إنساناً بغير حله
مثل الغزال ناعماً في دلّه وانتصف الليل ولم أحله
__________
(1) التعريفات (الجرجاني) : ص 167.
(2) المُحْتَسَب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها. عُثمان ابن جِنِّي أبو الفتح. ت 392 هـ. تحقيق: عَلِيّ النجدي ناصف. وآخرون. لجنة أحياء التراث الإسلامي. القاهرة. ط1. 1966 م.: 2/ 147. البَحْر المُحِيْط: 7 /105. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4966.
(3) ينظر القراءات القرآنية والدلالات البيانية. د. مُحَمَّد عبد العزيز. الطبعة الأولى. مطبعة جامعة عبد العزيز آل سعود. الرياض. 1411 هـ.: ص 117 -118.

(1/267)


فقلت: قاتلك الله ما أفصحك، فقالت له: أيعدّ هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية ((1)) ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. فالخبران هما (وأوحينا إلى أم موسى) وقوله (فإذا خفت عليه) لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه، والأمران (أرضعيه) و (ألقيه) . والنهيان (لا تخافي) و (لا تحزني) . والبشارتان (إنا رادوه إليك) و (وجاعلوه من المرسلين) ((2)) .
2. معنى الخوف والحزن:
" لقائل أن يقول: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ؟ ثُمَّ أليس من التناقض أن يثبت الخوف في قوله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} ، ثُمَّ ينفيه بقوله: {وَلاَ تَخَافِي} ؟ .
الجواب على التناقض المزعوم أن الخوف الأول المثبت هو غرقه في النيل، والثاني هو خوف الذبح، فاندفع ما يتوهم من تناقض.
أما الاعتراض الأول، فهو مندفع بأن هذا من باب الإطناب، بل هو قسم نادر من أجمل أقسامه، وهو أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعانٍ متداخلة إلا أن كل معنىً مختص بخصيصة ليست للآخر " ((3)) .
وهذا يدل على إعجاز الأسلوب القرآني في كونه يوهم أحياناً شيئاً فإذا ما قرأه القارئ المتمعن بان له خلاف ما توهمه، وتلك سمة من سمات إعجازه.
المعنى العام
1. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} :
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو ما المقصود بالوحي إلى أم موسى؟
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4968.
(2) التحرير والتنوير: 20/ 74.
(3) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 285.

(1/268)


فقد ذكر الرازي أنه قد أتفق الأكثرون على أن أم موسى (- صلى الله عليه وسلم -) ما كانت من الأنبياء والرسل ((1)) ، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء، لأن المرأة لا تكون نبية لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} ((2)) خلافاً لليهود حيث ورد في بعض كتبهم كون بعض نسائهم من الأنبياء.
وقد اختلف العلماء في المراد بهذا الوحي على وجوه:
أحدهما ـ المراد رؤيا رأتها أم موسى (- عليه السلام -) وكان تأويلها وضع موسى (- عليه السلام -) في التابوت وقذفه في البحر وأن الله يرده إليها.
ثانياً ـ أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.
ثالثاً ـ المراد منه الإلهام فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} يقول: أي ألهمناها الذي صنعت بموسى ((3)) .
رابعاً ـ لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب (- عليه السلام -) أو غيره، ثم إن ذلك النبي عرّفها إما مشافهة أو مراسلة.
خامساً ـ لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ عَلَيْهم السَّلام ـ أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة.
سادساً ـ لعل الله تعالى بعث إليها ملكاً، لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم ـ عَلَيْها السَّلام ـ.
والذي يرجحه الباحث من هذه الوجوه هو الوجه الثالث القائل بأن الله تعالى ألهمها لا إلهاماً على جهة النبوة، بل هو إلهام لا يشبه أي صيغة أخرى، وهو الأقرب للمنقول والمعقول.
2. اسم أم موسى:
__________
(1) مفاتيح الغيب: 11/ 51. وينظر زَاد المَسِيْر: 6 /301 - 302.
(2) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 109.
(3) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 2941.

(1/269)


اختلف المفسرون والمؤرخون في اسمها، فذكر الطبري أن اسمها " يحيب ابنة شمويل بن بركبا " ((1)) .
وذكر ابن قتيبة أن اسمها " أباحثة وفي التوراة اسمها يوخابث " ((2))
وذكر ابن الأثير أن اسمها " يوحانذ " ((3)) .
وذكر الصاوي أن اسمها " لوحا بنت هاند بن لاوي " ((4)) .
والذي أرجحه هو أنها من مبهمات القرآن التي ليس في معرفتها كبير فائدة.
3. {أَنْ أَرْضِعِيهِ} :
نقل القرطبي عن مجاهد قوله " بأن الوحي إليها بالرضاعة كان قبل الولادة " ((5)) .
وذكر أبو حيان في تفسيره " أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة، فيكون ثم جملة محذوفة، أي: وضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه " ((6)) . فقد اخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي عبد الرحمن الحبلي أن الله أوحى إلى أم موسى حين وضعت أن ترضعه. واخرج عن مجاهد أن الله أوحى إلى أم موسى حين تقارب ولادها أن ارضعيه ((7)) .
__________
(1) تاريخ الرُّسُل والملوك: 1/ 385.
(2) المَعَارف، ابن قُتَيْبَة الدِّيْنوَري أبو مُحَمَّد عَبْد اله بن مسلم. ت 276 هـ. تحقيق وتقديم: الدكتور ثروت عكاشة. ط2 1969 م دار المعارف بمصر.: ص 20.
(3) الكامل في التاريخ: 1 /95.
(4) حاشية العلامة الصاوي على تفسير الجلالين. أحمد بن مُحَمَّد الصَّاوِي المالكي الخَلْوَتي. ت 1241 هـ. المكتبة الإسلامية. القاهرة. (د. ت) .: 3/ 209.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4966.
(6) البَحْر المُحِيْط: 7 /105.
(7) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 2941 -2942.

(1/270)


والذي أرجحه أن الوحي إليها كان بعد الولادة وبعد تسميته، لأن القرآن قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} ، فبعد أن وضعته وكانت خائفة عليه من الذبح، وطمأنها ربها بأن ترضعه ليتقوى للمهمة اللاحقة، وهي المدة التي يستغرقها في سيره في اليم لحين وصوله إلى قصر فرعون، ثم عودته إلى أمه بعد معجزة تحريم المراضع عليه.
ونقل ابن الجوزي، والقرطبي رواية " أنها حين اقتربت وضربها الطلق كانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصاحبة لها فقالت: لينفعني حُبُّك اليوم، فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها ثم قالت: ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله قط فاحفظيه. فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفّته في خرقةٍ ووضعته في تنور مسجور ناراً لم تعلم ما تصنع لما طاش عقلها، فطلبوا، فلم يلقوا شيئاً، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور وقد جعل الله عليه النار برداً وسلاما " ((1)) .
4. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} :
الخوف هو " توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة " ((2)) ، وأم موسى حينما خافت على مولودها من القتل كان ذلك بأمارة معلومة، فهي ترى بعينها يومياً عشرات الأطفال يذبحون.
__________
(1) زَاد المَسِيْر: 6 /202. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4967.
ونرى في هذه القصة أنها مصدرة بكلمة (روي) ولم يذكروا عمن رويت ولا تخريجها، فلعلها من الإسرائيليات التي نقلها بعض المفسرين، فلو كانت صحيحة لذكرها الَقُرْآن الكَرِيم لنا، لأن فيها معجزة، وهي إنقاذه من النار في التنور المسجور، وهي أبلغ في الإعجاز من إنقاذه من الغرق لأنه موضوع في تابوت.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 161.

(1/271)


وذكر القرطبي " أنه استخدم (إذا) لما يستقبل من الزمان، أي: إذا خفت عليه أن يصبح ويكشف أمره فيقتل. ويروى أنها اتخذت له تابوتاً من بردي وقيرَّته بالقار من داخله، ووضعت فيه موسى، وألقته في نيل مصر" ((1)) .
5. {فَأَلْقِيهِ} :
" أي بعد أن تضعيه في شي يحفظه من الماء " ((2)) .
6. {فِي الْيَمِّ} :
" أي: في النيل الذي كان يشق مدينة فرعون من حيث منازل بني إسرائيل. واليم في كلام العرب مرادف للبحر، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر، فالنهر العظيم يسمى بحراً " ((3)) .
7. {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} :
اخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد في قوله الله {وَلاَ تَخَافِي} : قال: لا تخافي عليه البحر. {وَلاَ تَحْزَنِي} ، يقول: لا تحزني لفراقه ((4)) .
وقال يحيى بن سلام: لا تحزني أن يقتل ((5)) .
8. {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} :
" لتكوني أنت المرضعة له " ((6)) .
9. {وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق في معناها " أي: باعثوه إلى هذه الطاغية، وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه " ((7)) .
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4967.
(2) نظم الدرر: 5/ 465.
(3) التحرير والتنوير: 20/ 74.
(4) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2942. إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7/3.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4967.
(6) مفاتيح الغيب: 12 /227.
(7) تفسير ابن أبي حاتم: 9 / 2943.

(1/272)


دلّ قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} على إعجاز طبي سبق العلم الحديث بآلاف السنين، وهو الإشارة إلى فائدة الرضاعة الطبيعية للطفل المولود، فقد أكد الأطباء هذه الحقيقة العلمية، وذلك بأن حليب الأم مصدر مهم للطاقة والبروتين، وهو يساعد على وقاية الطفل من المرض، ويساعد كذلك على نمو الطفل العقلي والعاطفي، ويكسب شخصيته توازناً أكبر. وهذا بعض إعجاز القران ((1)) .
نلاحظ من النص القرآني أن الله جل وعلا بعد أن نهى أم موسى عن الخوف والحزن {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} أراد الله جل وعلا طمأنتها أكثر من خلال المبشرات التي أعقبت النهي، لتقوية قلبها، وإزالة خوفها وحزنها. فالبشارة الأولى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} . وهذا أهم شي يشغل بالها. والبشارة الثانية هي البشارة بمستقبله بأنه سيكون من المرسلين.
ودلت كذلك على التحدي الإلهي بهذا الطفل الرضيع لقوة فرعون وجبروته، وليقتحم به حصون فرعون وجيوشه، فيستدل منه على أن الأمن والخوف بيد الله تعَاَلىَ.
فإذا شاءت إرادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعل الخوف أمناً كإلقاء أم موسى لطفلها في اليم، وإن شاء جعل الأمن خوفاً كما حصل لفرعون إذ قتل مئات الأطفال ليأمن. ولكن الله جعل من أمنه خوفاً، فأدخل الله موسى (- عليه السلام -) إلى قصر من حرص أن لا يدخله، وقَتَل ما قتل من أجل ذلك.
__________
(1) لحياة أفضل. تأليف مجموعة من الأطباء. هيئة الطفولة. هيئة اليونسيف بالتعاون مع وزارة الصحة العراقية. الطبعة الأولى. 1997 م: ص 22 –23.

(1/273)


دلّ قوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} على أن الأمر كله بيد الله يرفع أقواماً ويضع آخرين. وهذا ما أكدته الآيات اللاحقة من سُوْرَة الْقَصَصِ كقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) وما ختم به سُوْرَة الْقَصَصِ بقوله: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((2)) ليؤكد للناس ولأمة هذا القرآن أن القوة لله، فهو المعزّ والمذلّ، وليؤكد مرة أخرى على الترابط القرآني بين أوله وآخره.

المطلب الثاني: سيدنا موسى في بيت فرعون
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((3)) .
المناسبة
صورت الآيات السابقة مشهد الأم الحائرة الخائفة على ولدها من فرعون وجنوده، ثم يأتيها الإيحاء بالبشرى من الله، وبما يثبت فؤادها {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((4)) ، ثم تبتدئ أولى الخطوات اللازمة في طريق إرجاعه إلى أمه، أن يلتقطه آل فرعون ويرجعونه إلى أمه بعد أن امتنع عن قبول الرضاعة من صدور المربيات والمرضعات، ليكون ذلك سبباً لإرجاعه لأمه لتحقق أولى البشارات.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 70.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 8 - 9.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.

(1/274)


قال البقاعي: " ولما كان الوحي إليها بهذا السبب لإلقائه في البحر وأن إلقاءه سبب لالتقاطه قال {فَالْتَقَطَهُ} " ((1)) .
وقال الرازي: " لفاء فصيحة مفصحة عن عطفه على جملة محذوفة. والمعنى: فعلت ما أمرت به من إرضاعه وإلقائه في اليم لما خافت عليه. وحذف ما حذف تعويلاً على دلالة الحال، وإيذاناً بكمال سرعة الامتثال " ((2)) .
فنلاحظ الترابط البديع بين الآيات القرآنية باستخدام الحروف المناسبة والمغنية عن استخدام الجمل العديدة.
تحليل الألفاظ
1. {فَالْتَقَطَهُ} :
اللَّقْطُ: أَخْذُ الشي من الأرض لَقَطَه يَلْقُطَه لَقْطاً. وَالْتَقَطَه: أخذه من الأرض، يقال لكل ساقطة لاقِطة. الالتقاط أن تَعْثَرَ على الشي من غير قصد وطلب، وشيء لقيط وملقوط. واللقِّيط: إلى، يُلتقط لأنه يُلتقط والأنثى لقيطة ((3)) .
2. {خَاطِئِينَ} :
الخَطَأ والخَطاء ضدُّ الصواب. وقد أخطأ وأخطأ الطريق عَدَل عنه وأخطأ الرَّامي الغرض: لم يُصِبه. وخَطِئَ الرجل يَخْطأ خِطْأ وخِطْأَةَ على فِعْلة: أذنب. وخَطّأه تَخطِئة وتَخْطِيئاً نسبة إلى الخطأ وقال أَخْطَأتَ والخَطَأ ما لم يُتَعَمَّد. والخِطء ما تُعُمِّد، والخَطِيْئَة الذَّنْب على عمد والخِطءَ الذنب ((4)) .
3. {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} :
__________
(1) نظم الدرر: 5/ 446.
(2) مفاتيح الغيب: 20 /45. وينظر تنوير الأذهان من تَفْسِير روح البَيَان. إسماعيل حقي البروسوي. ت 1137 هـ. تحقيق: مُحَمَّد عَلِيّ الصابوني. دار القلم. دمشق. ط2. 1409 هـ – 1989 م.: 3 /120.
(3) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (لقط) 7/ 392 –393.
(4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (خطأ) 1 /65.

(1/275)


" قال ابن سيده: وقرَّت عينه تَقَرّ هذه أعلى عن ثعلب، أعني فَعِلْت تَفْعَل، وقَرَّت تَقَرُّ قَرَّةً وقُرَّةً، الأخيرة عن ثعلب، وقال: هي مصدر، وقُروراً وهي ضدّ سَخِنَت، قال: ولذلك اختار بعضهم أن يكون قرَّت فعلت ليجيء بها على بناء ضدها " ((1)) .
وقول العرب قَرَّت عين فلان جاء من خلال استقرئنا لدلالة الكلمة على معنى رؤية المحبوب.
القراءات القرآنية
1. {وَحَزَنًا} :
اختلف العلماء في قرائتها في فتح الحاء وضمها، فقرأ حمزة والكسائي (وحُزْناً) بضم الحاء وإسكان الزاي. وقرأ الباقون بفتحتين. وقال أبو علي الفارسي (الحُزْن) (والحَزَنُ) لغتان مثل العُجْم والعَجَم والعُرْب والعَرَب ((2)) .
2. {خَاطِئِينَ} :
قرئت بغير همز بتخفيف، أي: خاطين الصواب ((3)) ، فاحتمال أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر. وقيل: من خطا بخطو ((4)) .
3. {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (وقر) 5 /86.
(2) النشر في القراءات العشر: 2 /141. الحجة في القراءات السبع. الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عَبْد الله. (314 ـ 370) . تحقيق: د. عَبْد العال سالم مكرم. دار الشروق. بيروت. ط4. 1401 هـ.: 5 /412. الكشف عَنْ وجوه القراءات السبع. وعللها وحججها. القيسي. مُحَمَّد بن أَبِي طالب. ت 437 هـ. تحقيق: د. محيي الدِّيْن رمضان. بيروت. لبنان. 1394. 1974.: 2 /172.
(3) الكَشَّاف: 3/ 166.
(4) البَحْر المُحِيْط: 7 /106.

(1/276)


قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب: (قُرَّةْ) وقفا. وقرأ ابن مسعود بتقديم لا تقتلوه: (لا تقتلوه قرة عين لي ولك) ((1)) .
وروي عن ابن مسعود انه قرأها: (قرة عين لي وله) . وقرأ: (قرة عين لي ولك لا تقتلونه) ((2)) .
القضايا البلاغية
الاستعارة في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} لام التعليل، وهي المعروفة بلام كي. وقد استعملت في الآية استعمالاً وارداً على طريقة الاستعارة دون الحقيقة لظهور أنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدواً وحزناً، ولكنهم التقطوه رأفة به، وحباً له لما أُلقي في نفوسهم من شفقة عليه. ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدواً في الله، وموجب حزن لهم، شبهت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل كشان العلة غالباً، فاستعير لترتب العاقبة المشبّه الحرف الذي يدل على ترتب العلة تبعاً لاستعارة معنى الحرف إلى معنى أخر، استعارة تبعية، أي: استعير الحرف تبعاً لاستعارة معناه ((3)) .
والذي اعتقده أن في الآية تأويلاً بما سيكون خلافاً لما قال الشهاب الخفاجي، وابن عاشور، لأن موسى حينما كان طفلاً لا يعلم أنه عدو لفرعون، ولا فرعون يعلم أن هذا الطفل بعينه هو الذي سيقتله.
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر المسمى (منتهى الأماني والمسرات في علوم القراءات) ، أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الغني الدمياطي الشافعي، الشهير بالبناء ت 1117 هـ الطبعة الأولى، تحقيق: د. شعبان محمّد إسماعيل، عالم الكتب، بيروت، 1407 هـ، 1987 م.: ص 341.
(2) الكَشَّاف: 3 /166.
(3) ينظر حاشية الشهاب: 7 /64. التحرير والتنوير: 20 /76.

(1/277)


المجاز العقلي في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} والمعنى هذا ليكون لهم حزناً، والإسناد مجاز عقلي لأنه سبب الحزن وليس هو حزناً ((1)) .
وهنالك إشارة بلاغية أشار إليها أبو حيان في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} ، وهي أنه أضيف الجند وفيما قبل إلى فرعون وهامان، وإن كان هامان لا جنود له، لأن أمر الجنود لا يستقيم إلا بالملك والوزير، إذ بالوزير تحصل الأموال، وبالملك وقهره يتوصل إلى تحصيلها، ولا يكون قوام الجند إلا بالأموال ((2)) .
ذكر الآلوسي " إن امرأة فرعون قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} ، وعدلت عن قولها (لنا) لتفخيم شأن القرّة وقدمت نفسها عليه لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها، وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه، فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتلة " ((3)) . وفيه استعارة، فإن قرة العين بردها واستقرارها، فجعل استعارة عن الولد.
المجاز بليغ الخطاب في {لاَ تَقْتُلُوهُ} قيل لفرعون. وإسناد الفعل إليه مجازي لأنه الآمر. والجمع للتعظيم. قال أبو علي الفارسي: من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع، فيقال للرجل العظيم: انظروا في أمري. وهو مجاز بليغ ((4)) . وقال الطباطبائي في الميزان: إنما خاطب بالجمع لأن شركاء العقل كانوا كثيرين من مسبب ومباشر، وآمر ومأمور ((5)) .
المعنى العام
1. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}
لقد اختلف المفسرون في المقصود بآل فرعون:
__________
(1) ينظر التحرير والتنوير: 20 /76.
(2) البَحْر المُحِيْط: 7 /106.
(3) روح المعاني: 20 /48.
(4) ينظر روح المعاني: 20 /48.
(5) ينظر الميزان: 16/ 11.

(1/278)


فقد ذكر الطبري أن قسماً من أهل التأويل قال: المراد به (جواري امرأة فرعون) . ثم ساق رواية عن السدي قوله: " أقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويحفظه مرة، حتى أدخله بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسيا امرأة فرعون يغسلن، فوجدن التابوت فأخذنه إلى آسيا، فلما نظرت إليه آسيا، وقعت عليها رحمته، فأحبته فلما أخبرت به فرعون أراد أن يذبحه، فلم تزل آسيا تكلمه حتى تركه لها ((1)) .
وذكر عن قسم آخر أن المراد به ابنة فرعون حيث كانت ابنة فرعون برصاء، فجاءت إلى النيل، فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج، فأخذته بنت فرعون، فلما فتحت التابوت، فإذا هي بصبي، فلما اطلعت في وجهه برأت من البرص، فجاءت به إلى أمها فقالت: إن هذا الصبي مبارك لما نظرت إليه برئت، فقال فرعون: هذا من صبيان بني إسرائيل هلم حتى أقتله فقالت امرأته: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} ((2)) .
عني به أعوان فرعون لأن فرعون أصبح في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس إذ مر بالنيل تابوت يقذف به، وآسيا بنت مزاحم جالسة إلى جنبه فقالت: إن هذا لشيء في البحر فأتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده، فألقى الله عليه محبته ولطّف عليه نفسه فقالت امرأته آسيا ((3)) : {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ((4)) .
والذي نرجحه: إن المراد بـ (آل فرعون) هم أتباع فرعون وأعوانه لعدة أسباب:
أولا ـ إن ابنة فرعون تعيش في قصر أبيها وخدمه وأعوانه، فليس من المعقول أن تلتقط بنفسها التابوت من النيل المتلاطم الأمواج، وهذا يحتاج إلى جهد كبير لا يقوم به إلا الرجال.
__________
(1) ينظر جامع البيان: 10 /31.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(3) ينظر جامع البيان: 10 /31.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.

(1/279)


ثانيا ـ إن ما بعد كلمة (آل فرعون) يدلّ على أن من قام بالتقاطه هم أتباع فرعون من جنوه أو خدام قصره. قال تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ، فكلمة (لهم) تدلّ على أن من قام بالالتقاط اكثر من واحد. وقد يسال سائل ويقول: إن كلمة (الآل) لا تستعمل إلا فيما فيه شرف.
والجواب عن ذلك: " إنه مبني على الغالب، أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري. ومعنى التقاطهم إياه (- عليه السلام -) أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع " ((1)) .
2. {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} :
قال ابن كثير: " إن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدواً لهم وحزناً، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} " ((2)) .
وقال القاسمي: " إنهم مجرمون، فعاقبهم الله تعالى بأن ربى عدوهم، ومن هو سبب هلاكهم على يديه " ((3)) .
ومن النكت البديعة في الآية أنه دلت على ما يكون عليه آل فرعون من غرقهم في البحر من طرف خفي، فهم قد التقطوه ليكون لهم مغرقاً في البحر، فلا يلتقطه أحد، وهو من شواهد الإعجاز القرآني.
3. {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} :
{امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} وهي " آسيا بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمان يوسف الصديق (- عليه السلام -) ، وعلى هذا الرأي لم تكن من بني إسرائيل " ((4)) .
__________
(1) مفاتيح الغيب: 20 /46.
(2) تفسير القرآن العظيم: 3 /380.
(3) محاسن التأويل: 13 /4697.
(4) روح المعاني: 20 /47.

(1/280)


وقيل: " إن آسيا كانت امرأة قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف، فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، ويقال: إن الوليد تزوج آسيا ابنة مزاحم بعد أخيه " ((1)) .
وقيل: " كانت من بني إسرائيل. وقيل: كانت من سبط موسى " ((2)) .
وحكى السهيلي أنها عمته. وقال الآلوسي: " هذا القول غريب "، ويرجح الآلوسي أنها لم تكن من بني إسرائيل ((3)) .
وقد امتدحها القران الكريم في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((4)) .
وأثنى عليها رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقد أخرج الإمام احمد عن أنس بن مالك قوله: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد)) ((5)) .
4. {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} :
__________
(1) تاريخ الرُّسُل والملوك: 1 /386. الكامل في التاريخ: 1 /95 –96.
(2) السبط: هو ولد الولد كأنه امتداد الفروع. ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 227.
(3) ينظر روح المعاني: 20 /47.
(4) سُوْرَة التَّحْرِيمِ: الآية 11.
(5) مسند أحمد بن حنبل (241 هـ) شرحه ووضع فهارسه: أحمد مُحَمَّد شاكر. دار المعارف للطباعة والنشر بمصر. 1368 هـ – 1949 م.: 14 /147. صحيح ابن حبان. مُحَمَّد بن حبان بن أحمد أبوحَاتِم التميمي البستي. ت 354 هـ. ضبط وتحقيق: عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد عثمان. المكتبة السلفية. المدينة المنورة. ط1. 1970م.: 15 /401. المستدرك على الصحيحين: 3 /171.

(1/281)


أختلف الأقوال في هذه الآية، فقيل: أي قالت تخاصم عنه وتحببه إلى فرعون: إنه مما تقر به العيون، وتفرح لرؤيته القلوب، فلا تقتلوه. ثم ذكرت العلة التي قالت لأجلها ما قالت {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ، أي: لعلنا نصيب منه خيراً لأني أرى فيه مخايل اليمن ودلائل النجابة، أو نتخذه ولداً لما فيه من الوسامة وجمال المنظر التي تجعله أهلا لتبني الملوك له، وكانت لا تلد فاستوهبته من فرعون، فوهبه لها " ((1)) .
أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس قال: " قال امرأة فرعون: {قرت عين لي ولك لا تقتلوه} قال فرعون: قرة عين لك أمّا لي فلا. قال محمد بن قيس: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لو قال فرعون قرة عين لي ولك لكان لهما جميعاً)) " ((2)) .
5. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} :
" أي: بإلقائه هو الذي يفسد ملك فرعون على يده قاله قتادة، وغيره " ((3)) .
ما يستفاد من النصّ
يمكن إن نفيد من هذه الآيات العبر والعضات الآتية:
__________
(1) تفسير المراغي: 20/39.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 13 / 254. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /394. والحديث لم أقف عليه في كتب الحديث.
(3) الجواهر الحسان في تَفْسِير القُرْآن. عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مخلوف الثعالبي. ت 876 هـ. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بيروت. (د. ت) .: 4 /265.

(1/282)


أولا ـ إن الحذر لا ينفع من القدر، ويتبين ذلك في التحدي الإلهي الكبير لقوة فرعون الغاشمة من طفل رضيع لا حول له ولا قوة، إلا من قوة الله وحمايته. فيتحدى الله به جبروت فرعون وعظمته، فقد قتل فرعون مئات الأطفال من أجل العثور على هذا الطفل الموعود الذي سيكون على يديه هلاك ملكه، فيتحدى الله كلّ حصونه، ويفشل كلّ تدابيره، ويجعل هذا الطفل الموعود في متناول يده وبين جنده وحراسه وفي قصره، ولا يستطيع أن يؤذيه. فقد زود الباري عز وجل هذا المولود الرضيع بسلاح لم يعهده الناس من قبل كسلاح لدفع الخطر عنه، وهو سلاح (الحب) قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ((1)) ، فملأ الله قلب امرأة فرعون (آسيا) المؤمنة بالحب لهذا الطفل، فاستخدمت ذكائها وفطرتها في منع فرعون من أن تناله، فقدمت عذر المنفعة {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا} ، وأردفته بعذر آخر وهو {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} لأن فرعون كان بحاجة إلى الولد.
ثانيا ـ إن وجود الصالحين في المجتمعات الفاسدة يخفف من أذى المفسدين، فإن وجود امرأة فرعون كان سبباً في إنقاذ سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، فقالت امرأة فرعون: {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ، وهذا من المعاني الكامنة في سياق النص.
__________
(1) سُوْرَة (طَه) : الآية 39.

(1/283)


ثالثا ـ الاستفادة من منهج القران في تناول الأحداث في ربط الماضي بالحاضر، فإن ما حدث لأمريكا في 11 أيلول من ضربات شبيهة بما حدث لفرعون ودولته، ويعيد المسلمين إلى القران ودراسة منهجه في تحليل الأحداث والأزمات. والقرآن يؤكد دائماً على أن الأمر كله لله. وهذه حقيقة ينبغي لكل مسلم أن يعتقد فيها. ففي ظل الهيمنة الأمريكية التي بلغت ذروة عنفوانها بعد دمار الاتحاد السوفيتي وتفكك معسكره، ظن كثير ممن يضع يده في يد أمريكا، وخُدع بالإعلام الأمريكي الذي طبل وزمر وروج لأمريكا، فأدخل الرعب في قلوبهم، إنها وأجهزة مخابراتها تعلم دقائق الأمور وجلائلها. ولسان حاله يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة فجاء هذا الحادث ليرد على مثل هذه الأراجيف والخور الذي يخالط أفئدة من في قلوبهم مرض، والسامعين لهم، والمتأثرين بما يبثون من أفكار لتخضع الأمة، ليقول الجميع: إن الأمر كله لله من قبل 11 أيلول، ومن بعده، وما أمريكا أو غيرها من قوى الظلم والطغيان مهما بلغت في تكبرها وتجبرها، إلا منفذة لأمر الله العزيز الجبار، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وكذلك لتؤكد هذه الأحداث أن الحذر لا ينفع من القدر فأمريكا لم تنفعها كل استحكاماتها وقوة مخابراتها من قدر الله شيئاً، كما لم تنفع فرعون من قبل كل استحكاماته وحذره من قدر الله في شيء.

(1/284)


المطلب الثالث: المعجزة الإلهية في تحريم المراضع على سيدنا موسى (- عليه السلام -)
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) .
المناسبة
يستمر النص القرآني بمتابعة مسيرة حياة سيدنا موسى (- عليه السلام -) فبعد أن بين القرآن الكريم حالة الأم الحائرة في بداية ولادة سيدنا موسى، وإنزال الإيحاء المطمئن لها والمبشر بأن ترضعه وتضعه في تابوت في البحر. ثُمَّ يتابع النص مسيرته ووصوله إلى يد ملتقطيه من آل فرعون وما حصل له في القصر، وكيف أن الله جَلَّ وَعَلا هيئ له أسباب النجاة بزرع محبته في قلب امرأة فرعون. ثُمَّ ينتقل النص بالقارئ من القصر مباشرة إلى البيت الذي ولد فيه موسى (- عليه السلام -) ليصف لنا حالة أمه بعد فراق ولدها وفلذة كبدها، فالتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة كالصورة الحية فقال: (فارغاً) ، أي: لا عقل فيه ولاوعي ولا قدرة على نظر أو تصريف، فكادت من شدة خوفها عليه أن تذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أن أضعت طفلي ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 10 -13.
(2) ينظر في ظلال القرآن: 6 /327.

(1/285)


فيأتي الإعجاز الإلهي بالربط على قلبها وتثبيته، ثم تأتى المعجزة الأخرى، تحريم المراضع عليه، ليجعلهم يحتارون به، وهي مرحلة إعادته إلى أمه لينجز لها الوعد الإلهي، ويلاحظ الترابط العجيب بين الأحداث كما هو حاصل في الجمل والعبارات: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) .
تحليل الألفاظ
1. {فُؤَادُ} :
التَّفَؤُّدُ: التَّوَقُّد. والفؤاد القلب لِتَفَؤُدِه وتوَّقِده مذكر لا غير، صرّح بذلك اللحياني، يكون بذلك لنوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوان الذي له قلب. والفؤاد القلب. وقيل: وسطه. وقيل: الفؤاد غشاء القلب حبته وسويداؤه والجمع أفئدة ((2)) .
2. {فَارِغًا} :
الفَرَاغُ: الخلاء. فَرَغَ يَفْرَغُ ويَفْرُغ فَراغَاً وفُروغاً. وفَرغ يَفرَغ وفَرَّغ المكان: أخلاه. وتَفْرِّيغ الظُّرُوف إخلاؤها ((3)) .
3. {لَتُبْدِي} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) ينظر العين، الفراهيدي، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد، ت 175 هـ، تحقيق: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، بغداد، 1980 ـ 1985. مادة (فود) 8/ 79. لِسَان العَرَب: مَادة (فود) 3/ 328.
(3) ينظر العين: مادة (فرغ) 4 /408. القاموس المحيط. مجد الدِّيْن مُحَمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي الصديقي الشيرازي أبو الطاهر. ت 817 هـ. المؤسسة العربية للطباعة والنشر. بيروت. لبنان. (د. ت) .: مادة (فرغ) 1 /1016. لِسَان العَرَب: مَادة (فرغ) 8 /444 –445. المصباح المنير. الفيومي. أحمد بن مُحَمَّد بن عَلِيّ المقرئ. = = ت 770 هـ. تصحيح: مصطفى السقا. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. ط1. 1322 هـ.: مادة (فرغ) 2 /554.

(1/286)


بَدَا الشيء يَبْدُو بَدْواً وبُدُوّاُ وبَداءً وبَداً، الأخذ عن سيبويه: ظهر. وأبديتهُ إن أظهرته ((1)) .
4. {رَبَطْنَا} :
" رَبَطَ الشيءَ يَرْبِطُه ويَرْبُطُه رَبْطاً، فهو مَرْبُوطٌ ورَبِيطٌ: شدَّه. والرِّباطُ: ما رُبِطَ به، والجمع رُبُطٌ، وربَط الدابةَ يربِطُها ويربُطُها رَبْطاً وارْتَبَطَها … والرِّباط الفؤاد كأن الجسم رُبِط به ورجل رابِطُ الجأش " ((2)) .
5. {قُصِّيهِ} :
يقال: قَصَصْت الشيء إِذا تتبّعْت أَثره شيئاً بعد شيء. قال الأزهري: القصّ اتباع الأثر، ويقال: خرج فلان قصَصَاً في إثر فلان، وقصّاً وذلك إذا اقتص أثره. وقيل: القاصّ يقصّ لاتباعه خبراً بعد خبر والقَصِيصَة البعير أو الدابة يُتَّبع بها الأثر. وهو الرؤيا عن بعد ((3)) .
6. {جُنُبٍ} :
الجَنْبُ والجَنَبَة والجَانِب: شِقُّ الإنسانِ وغيره، تقول: قعدت إلى جَنب فلان وإلى جانبِه والجمع جُنُوب وجَوَانِب وجَنَائِب، والأخيرة نادرة وقال الفراء: الجنب القرب، والجنب الناحية ((4)) .
7. {يَكْفُلُونَهُ} :
__________
(1) العين: مادة (بدو) 8 /83. القاموس المحيط: مادة (بدا) 1 /1629. لِسَان العَرَب: مَادة (بدو) 14/ 65.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (ربط) 7/ 302 –303.
(3) ينظر المصباح المنير: مادة (قصص) 2/ 505. لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7/ 73 –75.
(4) ينظر القاموس المحيط: مادة (الجنب) 1 /88 –89. لِسَان العَرَب: مَادة (جنب) 1 /275 –276.

(1/287)


الكافِل: العائل، كَفَلَه يكَفْلُه وكَفَّله إياه، والكافِل القائم بأمر اليتيم المربِّي له، وهو الكفيل الضمين. والكافل فهو الذي كَفَلَ إنساناً يَعُوله ويُنْفِق عليه ((1)) .
8. {نَاصِحُونَ} :
نَصَح الشيء خَلَص. والنَاصِح الخَالِص من العسل وغيره، وكل شيء خَلَصَ فقد نَصَحَ. والنُّصْح نقيض الغِشّ، مشتق منه نَصَحَه وله نُصْحًاً ونَصِيحة ونَصَاحَة ونِصَاحَة ونَصاحِيّةً ونَصْحَاً. ويقال: نَصَحَت له نَصِيْحَتي نَصُوحَاً، أي: أخْلَصْتُ وصَدَقْتُ ((2)) .
القراءات القرآنية
1. {فُؤَادُ} :
قرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو: (فُوَاد) بالواو ((3)) .
2. {مُوسَى} :
وقريء (مؤسى) بالهمز جعلت الضمة في جارة الواو وهي الميم كأنها منها فهمزت ((4)) .

3. {فَارِغًا} :
__________
(1) ينظر مختار الصحاح. مُحَمَّد بن أَبِي بكر بن عَبْد القادر الرَّازِي. ت 666 هـ. دار الكِتَاب العربي. بيروت. لبنان. ط1. 1401 هـ ـ 1981 م.: مادة (كفل) 1 /239. لِسَان العَرَب: مَادة (كفل) 11/ 599 –560. المصباح المنير: مادة (كفل) 2 /563.
(2) ينظر أَسَاس البَلاَغَة: ص 458. لِسَان العَرَب: مَادة (نصح) 2 /615.
(3) ينظر معاني القُرْآن. يحْيى بن زِياد الفَرَّاء أبو زَكَرّيا. ت 207 هـ. مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب. ط3. 1972 ـ 1973 م.: 2 / 303. المحتسب: 2 /147. التبيان في إعراب القرآن: 2 /96. البَحْر المُحِيْط: 3 /106.
(4) ينظر المحتسب: 2 /148. الكَشَّاف: 3 /167. التبيان في إعراب القرآن: 2 /95 –96.

(1/288)


قال أبو حيان: " القراءات الشواذ في اللفظة قرأ فضالة بن عبيد، والحسن، ويزيد بن قطيب، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير (فَزِعَاً) بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف. وعن ابن عباس (قَرِعًاً) بالقاف وكسر الراء وإسكانها (قَرْعَاً) . وقرأ بعض الصحابة (فِزْعًاً) بغين منقوطة، ومعناه ذاهباً. وقرأ الخليل بن أحمد (فُرُغًاً) بضم الفاء والراء ((1)) . وقرأ فضالة بن عبيد (فَرِغَاً) بفتح الفاء وكسر الراء ((2)) .
4. {فَبَصُرَتْ} :
وقرأ قتادة بفتح الفاء والباء والصاد (فَبَصَرت) . وقرأ عيسى بكسر الصاد (فَبَصِرَت) ((3)) .
5. {جُنُبٍ} :
قرأ قتادة، والحسن، والأعرج، وزيد بن علي (جَنْب) بفتح الجيم وسكون النون. وعن قتادة بفتحها (جَنَب) . وعن الحسن بضم الجيم وإسكان النون (الجُنْب) . وقرأ النعمان بن سالم (عن جَانِب) وكلها بمعنى واحد ((4)) .
القضايا البلاغية
1. الكناية ((5)) ، وذلك في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} ، فإن ذلك كناية عن فقدان الفعل وطيش اللب. والمعنى أنها حيث سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها وطار عقلها لما أنتابها من فرط الجزع والدهش. ومثله قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ((6)) ، أي: جوف لا عقول فيها، ومنه بيت حسان:
__________
(1) ينظر المحتسب: 2 /148.: البَحْر المُحِيْط: 3 /106.
(2) ينظر الكَشَّاف: 3/167.
(3) ينظر الكَشَّاف: 3 /167. البَحْر المُحِيْط: 7/107.
(4) ينظر الكَشَّاف: 3 /167. مفاتيح الغيب: 12/ 320. البَحْر المُحِيْط: 7 /107.
(5) الكناية: هو أن تتكلم بالشيء وتريد غيره، وكنى عن الأمر بغيره. معجم المصطلحات البلاغية: 3 /154.
(6) سُوْرَة إِبْرَاهِيمُ: الآية 43.

(1/289)


ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء ((1))
وذلك أن القلب مراكز العقول ((2)) ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ((3)) .
2. الاستعارة في قوله تعالى: {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} شبّه ما قذف الله في قلبها من الصبر بربط الشيء المنفلت خشية الضياع، واستعار لفظ الربط للصبر ((4)) .
3. الاستعارة في قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} " لما كان التحريم الحقيقي بكونه عبارة عن النهي واقتضاء ترك الفعل غير متصور هاهنا، لكونه فرع التكليف جعل التحريم مستعاراً للمنع من الإرتضاع بأن شبّه المنع بالتحريم للمناسبة بينهما في التأدية إلى الامتناع فأطلق عليه اسم التحريم واشتق منه حرمنا " ((5)) .
المعنى العام
1. {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} :
(أصبح) فيها وجهان للعلماء:
أحدهما أنما ألقته ليلاً فاصبح فؤادها في النهار فارغاً.
الثاني أنها ألقته نهاراً. ومعنى (أصبح) ، أي: صار كما قال الشاعر:
__________
(1) ينظر ديوان حسان بن ثابت. تحقيق: فوزي عطوي. الطبعة الثانية. دار الكتاب العربي. بيروت. 1975 م.: ص 110.
(2) ينظر الكَشَّاف: 3 /167. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 / 286.
(3) سُوْرَة الحَجِّ: الآية 46.
(4) ينظر حاشية الشهاب: 7 /66. صفوة التفاسير. تَأَلِيْف مُحَمَّد عَلِيّ الصابوني. الطبعة السادسة. دار القُرْآن الكَرِيْم. 1981م.: 2 /428.
(5) حَاشِيَة الشيخ محيي الدِّيْن أحمد القنوجي. والمسمى حَاشِيَة الشيخ زاده على تَفْسِير البيضاوي. ت 1307 هـ. المطبعة السلطانية. الإستانة. 1283 هـ.: 2 /506.

(1/290)


مضى الخلفاء بالأمر الرشيد وأصبحت المدينة للوليد ((1))
(فارغاً) في معناها أربعة أقوال:
القول الأول: أي: خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والضحاك.
القول الثاني: وقال الحسن، وابن إسحاق، وابن زيد: فارغاً من الوحي إذ أوحي إليه حين أمر إن تلقيه في البحر {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ((2)) ، والعهد الذي عهده إليه إن يرده ويجعله من المرسلين.
القول الثالث: فارغاً من الهم والحزن لعلمها أنه لم يغرق. قاله أبو عبيدة. والأخفش ((3)) .
وقد ردّ أغلب المفسرين هذا الرأي، فقال ابن قتيبة في (غريب القرآن) : " وهذا من أعجب التفسير، كيف يكون فؤادها من الحزن فارغاً في وقتها ذاك والله تعالى يقول: {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ، وهل يربط إلا على قلب الجازع والمحزون، والعرب تقول للخائف والجبان: فؤاده هواء " ((4)) .
__________
(1) ينظر جامع البيان: 10 /35- 36. زَاد المَسِيْر: 6/ 204. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4972. البَحْر المُحِيْط: 7 /106 –107.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(3) نسب القرطبي هذا القول للأخفش في الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4917. ولكن حينما رجعت إلى كتاب معاني القُرْآن. صنفه الأخفش الأوسط. الإِمَام أبو الحَسَن سعيد بن مسعده المجاشعي البلخي البصري. ت 215 هـ. تحقيق: د. فائز فارس. ط1 1400 – 1979. ط2 1401 – 1980. 2/ 652 وجدته يقول بأن معنى (فارغاً) من الوحي، ولا يقول بأنه فارغاً من الحزن.
(4) تفسير غريب القُرْآن. ابن قتيبة. ت 276 هـ. تحقيق: أحمد صقر. مطبعة البابي الحلبي. مصر. 1329 هـ.: ص 328.

(1/291)


وقال الطبري: " هذا قول لا معنى له لخلافه قول جميع أهل التأويل " ((1)) .
وقال أبو حيان: " وهذا فيه بعد، وتبعده القراءات الشواذ التي في اللفظة " ((2)) .
وقد ردّ الشيخ زاده على هذه الردود بقوله: " الحصر ممنوع، فأنه تعالى كما يربط على قلب الجازع الحزين يربط على قلب الواثق بوعد الله تعالى وضمانه، ومعنى الربط على القلب إلهامه الصبر وتقويته، كما يربط على الشيء المتقلب ليقرّ ويطمئن " ((3)) .
القول الرابع: أصبح فؤادها فزعاً، أو نافراً. قاله العلاء بن زياد. وقال الكسائي: ذاهلاً. وقيل: والهاً، قاله سعيد بن جبير، وهو ذهاب العقل. والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، ونحوه قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} ((4)) ، أي: جوفى لا عقول بها، وذلك أن القلوب مراكز العقول ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ((5)) . ويستدلون على قولهم بقراءة من قرأ: (أصبح فؤاد أم موسى فَزعاً) بزاي معجمة ((6)) .
والذي أراه: أن أولى الآراء ملاءمة مع النص القرآني هو قول من قال بأن معناه أن فؤاد أم موسى أصبح فارغاً من كل شيء إلا من هم موسى، بدلالة قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} من شدة الخوف على ولدها، فلم يبق لها أي تفكير سوى تفكيرها بسلامة ولدها.
2. {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} :
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في معناها: كادت أن تقول وا أبناه ((7)) .
__________
(1) جامع البيان: 10 /36.
(2) البَحْر المُحِيْط: 7 /107.
(3) حاشية الشيخ زاده: 2 /506.
(4) سُوْرَة إِبْرَاهِيمُ: الآية 43.
(5) سُوْرَة الحَجِّ: الآية 46.
(6) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4917.
(7) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2947.

(1/292)


وأخرج القرطبي عن السدي: كادت تقول لما حُمِلت لإرضاعه وحضانته: هو ابني. وقيل: " إنه لما شَبَّ سمعت الناس يقولون موسى بن فرعون، فشق عليها وضاق صدرها وكادت تقول هو ابني " ((1)) .
3. {لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} :
قال قتادة: بالإيمان. وقال السدي: بالعصمة ((2)) .
4. {لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} :
أي: المصدقين بوعد الله تعالى أو من الواثقين بحفظه لا بتبني فرعون وتعطفه، فالمراد بالمؤمنين المصدقون بوعد الله ((3)) ، فاستعمل الإيمان هنا بمعناه اللغوي دون الشرعي، لأنها كانت من المؤمنين من قبل أو أريد من كاملات الإيمان ((4)) .

5. {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} :
أي: اتبعي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار، يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره متعرفاً حاله ((5)) .
وفي اسم أخت موسى قولان:
القول الأول: مريم بنت عمران، وافق اسمها اسم مريم أم عيسى (- عليه السلام -) ذكره السهيلي والثعلبي.
القول الثاني: ذكره الماوردي عن الضحاك أن اسمها كلثمة. وقيل: كلثوم ((6)) .
فإن قيل: ما الغرض من التعبير القرآني بلفظ (لأخته) دون أن يقال: (لبنتها) ؟
قال أبو السعود: للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالأمر ((7)) .
6. {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} :
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4972.
(2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4972. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /395.
(3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /5.
(4) التحرير والتنوير: 20 /82.
(5) ينظر الوسيط: 3/ 392.
(6) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /219.الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4972.
(7) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /5.

(1/293)


قال ابن عباس (- رضي الله عنه -) : أبصرته. قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى واحد ((1)) . والفاء فصيحة، أي: فقصت أثره فبصرت به. (عن جنب) قال قتادة: تنظر إليه كأنها لا تريده ((2)) .
وقيل: " عن شوق إليه حكاه أبو عمرو " ((3)) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قوله: " بصرت به وهي مجانبة لم تأته ". وإخراج عن مجاهد قوله: " عن بعيد " ((4)) .
(وهم لا يشعرون) . قال المراغي: " أي وهم لا شعور لهم بما خبأه لهم القدر، وبما يؤول إليه أمرهم معه من عظائم الأمور التي تؤدي إلى هلاكهم، وإنما علم ذلك لدى علام الغيوب " ((5)) . وسياق الأمر يشعر بالحنان في كلام أخت أم موسى (- عليه السلام -) على ما يظهر في المعاني المستنبطة من كلامها.
7. {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} :
قال ابن عاشور: " هو تحريم تكويني، أي: قدرنا في نفس الطفل الامتناع من إلتقام أثداء المراضع وكراهيتها ليضطر آل فرعون إلى البحث عن مرضع يتقبل ثديها " ((6)) .
و (المراضع) : " جمع مُرضِع، وهي المرأة التي ترضع أو جمع مَرضَع وهو موضع الرضاع، أي: الثدي أو الرضاع " ((7)) . وقيل: المقصود بذلك المراضع المحضرة التي أحضرها فرعون ((8)) .
__________
(1) ينظر روح المعاني: 20/50.
(2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4973.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7 /107.
(4) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2948.
(5) ينظر تفسير المراغي: 20 /39 –40.
(6) التحرير والتنوير: 20 /83.
(7) مفاتيح الغيب: 20 /230. مدارك التنزيل وحقائق التَّأؤيِل. المعروف بتفسير النسفي. عَبْد الله بن احمد بن محمود النسفي. ت 710 هـ. دار الكِتَاب العربي. طبع بهامش تَفْسِير الخازن. مؤسسة الرسالة. بيروت. لبنان. (د. ت.) .: 3 / 228.
(8) الفُتُوحَات الإِلَهِية: 3 /338.

(1/294)


(من قبل) " أي: من قبل قصها أثره " ((1)) .
8. {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} :
قال ابن عاشور: " الفاء فصيحة تؤذن بجملة مقدرة، أي: فأظهرت أخته نفسها كأنها مرت بهم عن غير قصد، وإنما قالت ذلك بعد أن فشا في الناس طلب المراضع له، وتبديل مرضعة عقب أخرى، حتى عرض على عدد كثير في حصة قصيرة، فعرضت أخته سعيها في ذلك بطريق الاستفهام المستعمل في العرض تلطفاً مع آل فرعون، وإبعاداً للظنة عن نفسها " ((2)) .
يقول الباحث: إن أخت موسى قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم ولم تقل على أم ترضعه؟ فلماذا كان ذلك؟
وقال البقاعي: " لتوسع دائرة الظن " ((3)) ، أي: أرادت أن تبعد معرفتها بهذه المرأة المرضعة وصلتها بالطفل الرضيع.
وذكر الآلوسي تخريجاً آخر " وهو أن المراد بذلك امرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك " ((4)) .
والذي أراه أن المعنى الأول اقرب لأن الموقف صعب جداً على أخت موسى، فأرادت بأي طريقة أن تخفي هوية هذا الطفل، وهوية المرضعة.
(يكفلونه) " أي: يضمونه ويقومون بشؤونه ويرضعونه " ((5)) .
(وهم له ناصحون) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: " فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم له وشفقتهم عليه؟ هل تعرفونه؟ حتَّى شكوا في ذلك، فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك رجاء منفعة فأرسلوها " ((6)) .
__________
(1) محاسن التأويل: 13 /4698.
(2) التحرير والتنوير: 20 /83.
(3) نظم الدرر: 5/ 469.
(4) روح المعاني: 20 /50.
(5) التفسير الفريد للقرآن المجيد. د. مُحَمَّد فريد وجدي. الطبعة الثالثة. دار الزهراء. القاهرة. 1976 م.: 3 /2358.
(6) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2950.

(1/295)


وأخرج عن السدي: " فأخذوها فقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله؟ فقالت: ما أعرفه، ولكن إنما هم للملك ناصحون، فلما جاءت أمه أخذ منها " ((1)) .
9. {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} :
قال القرطبي: " أي: رددناه. وقد عَطّف الله قلب العدو عليه، ووفينا لها بالوعد كي تقرعينها ولا تحزن " ((2)) .
قال البقاعي: " أي: تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة، وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها آمنة لا تخاف " ((3)) .
10. {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} :
قال ابن كثير: " أي: فيما وعد من رده إليه وجعله من المرسلين فحينئذ تحققت برده إليها إنه كائن من المرسلين " ((4)) .
11. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} :
فيها أربعة وجوه:
أحدهما: ولكن اكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله.
ثانياً: قال الضحاك، ومقاتل: يعني أهل مصر لا يعقلون أن الله وعدها برده إليها.
ثالثاً: هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى (- عليه السلام -) فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً.
رابعاً: أن يكون المعنى أنا إنما رددناه إليك لتعلم أن وعد الله حق، والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني، ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي ((5)) .
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم: 9 /2950.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4974.
(3) نظم الدرر: 5/ 470.
(4) تفسير القرآن العظيم: 3 /382.
(5) مفاتيح الغيب: 12 /231.

(1/296)


أولاً. الفرج بعد الشدة قد يكون سريعاً، وقد يكون بعد حين. وكل ذلك بمشيئة الله وحكمته، فهو الذي يدفع الضر عن الإنسان، ويأتي بالفرج بعد الشدة، فعلى المسلم أن يتوجه إلى ربه لرفع ما حل به من شدة وضرر، ولكن لا يجوز له أن يوقت لله تعالى، فقد يكون سريعاً، وقد يكون بعد حين. فمن أمثلة الفرج السريع ردّ موسى وهو رضيع إلى أمه بعد أن ألقته في اليم ((1)) . قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ} ، فقال ابن كثير: " ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليله " ((2)) . وأمثلة الفرج بعد أمد إرجاع سيدنا يوسف (- عليه السلام -) لوالده يعقوب (- عليه السلام -) بعد عشرات السنين. وحصول الفرج لسيدنا أيوب (- عليه السلام -) بعد أن لازمه المرض سنين عديدة. قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ((3)) . فمن ذلك يتبين لنا أن الله مع المؤمنين الصابرين يعزهم بنصره، بعد أن يبتليهم بالشدائد والمصائب، فعلى المؤمنين أن يصبروا في الشدائد ويلتجئوا إلى الله تعَاَلىَ بالدعاء، ولا يستعجلون النصر، مع الأخذ بالأسباب.
ثانياً. في قوله تعالى {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} إضافة إلى ما قاله المفسرون في تفسيرهم لقوله تعالى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ينقدح في ذهن الباحث أن هناك إشارة واضحة أراد الله جل وعلا أن ينفي الألوهية عن فرعون، وينفي كذلك علمه بالغيب، إذ لو كان إلهاً كما يدعي لأمكنه أن يتعرف على هوية الطفل، فأراد الله جل وعلا أن يظهر كذب فرعون بادعائه الألوهية من خلال واقع ملموس وتجربه حية.
__________
(1) ينظر المستفاد من قصص القرآن: 1 /362.
(2) تفسير القرآن العظيم: 3 /382.
(3) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 83.

(1/297)


وذلك نظير ما كان يعتقد الناس في زمن سيدنا سليمان (- عليه السلام -) أن الجن تعلم الغيب. قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} ((1)) ، ولم يستطع سيدنا سليمان (- عليه السلام -) أن يغير قناعة الناس، فأراد الله جل في علاه من خلال إماتته لسيدنا سليمان وهو متكأ على عصاه والجن تخدمه ولم يعلموا بذلك إلا بعد أن أكلت الإرضة عصاه فخرّ، وحينها تأكد للجميع أن الجن لا تعلم الغيب، من خلال واقع ملموس.
ثالثًا. ما في قوله تعالى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} من الإشارة إلى تذكير المؤمنين في كل زمان بأن النصر الذي وعدهم إياه حاصل لا محالة، وفيه إنذار للظالمين ولأعداء الإسلام بأن وعيد الله لهم لا مفرّ لهم منه، فالثقة واليقين بنصر الله سبيل الراشدين والفائزين بالنصر، ولابد للمسلم أن لا يتأثر بما يوضع لهم من عراقيل، بل إن ذلك يزيدهم طموحاً وتفاؤلاً، لأنه واثقاً بنصر الله، فالمؤمنون هم المتفائلون، وغيرهم البائسون، وآيات البشارة مبثوثة في آيات كثيرة من القرآن الكريم منها:
{وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} ((2)) .
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة سَبَأ: الآية 14.
(2) سُوْرَة الصَّافَاتِ: الآية 173.
(3) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 33.

(1/298)


{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} ((1)) .
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) .
في هذه الآيات أخبر الباري سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين ولكن متى؟ إذا قاموا بنصر دينه، وإذا قاموا بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فقد وعد الله باستخلافهم في الأرض وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى {يَاءيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ((3)) .

المبحث الثاني: سيدنا موسى (- عليه السلام -) في مرحلة البلوغ
المطلب الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يهبه الله الحكم والعلم
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((4))
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 55.
(2) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآية 47.
(3) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 7.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.

(1/299)


نلاحظ أن النص القرآني قد تحدث عن المرحلة التي سبقت ميلاد سيدنا موسى (- عليه السلام -) بصورة موجزة، ثم فترة ولادته وإرضاعه، ولم يتحدث عن الفترة التي هي ما بين إرضاعه إلى أن بلغ أشده واستوى. فمن الطبيعي أن أم موسى بعد أن أكملت إرضاعه عادت به إلى قصر فرعون وتربى فيه وهو صغير، بدليل قوله تعالى حكاية عن فرعون: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} ((1)) .
قال البقاعي في هذا الصدد: " ولما استقر الحال على هذا المنوال عُلم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال والعز بتبني فرعون له والجلال، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال وقال مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} " ((2)) .
وقال ابن عاشور: " هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج، وهذا الاعتراض نشأ عن جملة {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ((3)) ، فأن وعد الله لها قد حُكي في قوله تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((4)) ، فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} ((5)) إلى أخره كمّل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} ، وإنما أوتي الحكم أعني النبوءة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} ((6)) " ((7)) .
__________
(1) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 18.
(2) نظم الدرر: 5 /470.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29.
(7) التحرير والتنوير: 20 /87.

(1/300)


تحليل الألفاظ
1. {بَلَغَ} :
بَلَغَ الشيء يَبلَغُ بُلُوغاً وبَلاغاً: وصل وانتهى ((1)) .
2. {أَشُدَّهُ} :
شدد الشّدّة: الصلابة، وهي نقيض اللين تكون في الجواهر والأعراض، والجمع شِدَدٌ. وعن سيبويه قال: جاء على الأصل لأنه لم يشبه الفعل وقد شَدَّه يَشُدَّه ويَشِدَّه شَدَّاً فَاشْتَدَّ، وكل ما أحكم فقد شُدَّ وشُدِّدَ.
والأشُدّ: مبلغ الرجل الحُنْكَةَ والمَعْرِفَة. قال الفراء: الأَشُدُّ واحدها شُدّ في القياس، قال: ولم أسمع لها بواحد. وقا أبو الهيثم: وواحدة الأَنْعُم نعْمَة وواحدة الأَشُدَّ شِدَّة. قال: والشِّدَّة القوة والجلادة، والشَّدِيد الرجل القوي.
وقال الأزهري: الأشُدّ في كتاب الله تعالى في ثلاثة معان يقرب اختلافها، فأما قوله تعالى في قصة يوسف (- عليه السلام -) : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((2)) فمعناه الإدراك والبلوغ، وحينئذ راودته امرأة العزيز عن نفسه. وكذلك قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ((3)) ، قال الزجاج: معناه احفظوا عليه ماله حتى يبلغ أشده، فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله. قال: وبلوغه أشُدّه أن يؤنس منه الرُّشْد مع أن يكون بالغاً.
وأما قوله في قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ، فإنه قرن بلوغ الأشد بالاستواءِ، وهو أن يجتمع أمره وقوته ويكتهل وينتهي شبابه.
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (بلغ) 8 /419.
(2) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 22.
(3) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 152. سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 34.

(1/301)


وأما قوله تعالى في سورة الأحقاف: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} ((1)) ، فهو أقصى نهاية بلوغ الأشد، وعند تمامها بعث النبي محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وقد اجتمعت حُنكته وتمام عقلهِ ((2)) .
3. {وَاسْتَوَى} :
قال الليث: الاسْتِواء فعل لازم من قولك سَويْتُه فاستوى. قال أبو الهيثم: العرب تقول استوى الشيء مع كذا وكذا وبكذا، إلاّ قولهم للغلام إذا تمَّ شبابه: قد استوى. واستوى الشيء: اعتدل، والاسم السواء، يقال: سَوَاءُ عَليَّ قمتَ أو قعدت، واستوى الرجل بلغ أَشُدّه. وقيل: بلغ أربعين سنة ((3)) .
4. {حُكْمًا} :
قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى الحَكَم والحَكِيمُ، وهما بمعنى الحَاكِم وهو القاضي، فهو فعيل بمعنى فاعِل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، والحُكم العلم والفقه قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} ((4)) أي: علماً وفقهاً، هذا ليحيى بن زكريا. والحُكْم العِلْم والفِقْه والقَضَاء بالعَدْل، وهو مصدر من حَكَم يَحْكُم. والعرب تقول: حَكَمْت وأَحْكَمْت وحَكَمْت بمعنى مَنَعْت ورَدَدْتُ، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس: حَاكِم لأنه يمنع الظالم من الظلم ((5)) .
5. {وَعِلْمًا} :
من صفات الله عز وجل العَلِيْم والعَالِم والعَلاّمُ. والعِلمُ نقيض الجهل عَلِم عِلْماً وعَلُمَ هو نفسه، ورجل عَالِم وعَلِيم من قوم عُلَمَاء فيهما جميعاً " ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الأَحْقَافِ: الآية 15.
(2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (شدد) 3 /232 –236.
(3) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (سوي) 14 / 410 – 414.
(4) سُوْرَة مَرْيَمْ: الآية 12.
(5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (حكم) 14 /141 –144.
(6) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (علم) 12 /416 –417.

(1/302)


وقال الراغب الأصفهاني: " العِلْمُ إدراك الشيء بحقيقته، وذلك ضربان: أحدهما إدراك الشيء. والثاني الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود له، أو نفي شيء هو منفي عنه. والعلم من وجه ضربان: نظري وعملي، فالنظري ما إذا عُلِمَ فقد كَمَلَ نحو: العِلْم بِمُوجُودَات العالم، والعملي مالا يتم إلا بأن يعمل كالعِلْم بالعبادات، ومن وجه آخر عقلي وسمعي " ((1)) .
المعنى العام
1. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} .
قد اختلف العلماء في مدة بلوغ الأشد إلى تسعة أقاويل:
إحداهما: أربعون سنة قاله الحسن.
الثاني: أربع وثلاثون سنة، قاله سفيان.
الثالث: ثلاث وثلاثون سنة، قاله ابن عباس.
الرابع: ثلاثون سنة، قاله السدي.
الخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة.
السادس: عشرون سنة، حكاه يحيى بن سلام.
السابع: ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير.
الثامن: خمس عشرة سنة، قاله محمد بن قيس.
التاسع: الحلم، قاله ربيعه، ومالك.
والذي نراه أن لا فائدة تذكر في ترجيح أي من هذه الآراء على الرأي الآخر، مما لا توجب علماً ولا عملاً على ما قاله الأقدمون، بل هي منصوصة بأية أخرى دالة على أن بلوغ الأشد يكون ببلوغ الأربعين سنة، وهي قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} ((2)) .
2. {وَاسْتَوَى} :
فيه كذلك أربعة أقوال:
أحدهما: اعتدال القوة.
الثاني: خروج اللحية.
الثالث: أي استحكم وانتهى شبابه واستقر، فلم تكن فيه زيادة ((3))
الرابع. أربعون سنة ((4)) .
وقد اختلوا في مدة الاستواء إلى قولين:
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 356.
(2) سُوْرَة الأَحْقَافِ: الآية 15.
(3) غريب القرآن (ابن قتيبة) : ص 329.
(4) النُّكَت والعُيون: 3 /22.

(1/303)


أحدهما: إنه أربعون سنة، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: ستون سنة، ذكره ابن جرير ((1)) .
والذي أراه أنه (أربعون سنة) بقرائن الآيات الأخرى، وهي من إرسال المرسلين ـ عَلَيْهم الصَلاة والسَّلام ـ.
وقد ذكر الرازي اختلافاً آخر في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ، فذكر فيها قولين:
أحدهما: إنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة واعتدال المزاج والبنية.
الثاني: وهو الأصح إنما معنيان متغايران.
ثم اختلوا على وجوه:
الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية، والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية.
الأشد عبارة عن كمال القوة، والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة.
قال ابن عباس: الأشد ما بين الثمانية عشر سنة إلى الثلاثين، ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان، ومن الأربعين يأخذ في النقصان ((2)) .
والذي يحسم الخلاف في ذلك كله هو قوله الآلوسي ـ رَحِمَه الله ـ والذي أرى أنه الراجح، " بأن البلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقوه الجسمانية، وينتهي فيه نموه المعتد به. والاستواء اعتدال عقله وكماله، ولا ينبغي تعين وقت لذلك في حق موسى (- عليه السلام -) إلا بخبر يعول عليه، ولأن الوقت يختلف باختلاف الأقاليم والأعصار والأحوال " ((3)) .
ومن المشهور أن الله لم يبعث نبياً قبل الأربعين، والسر في ذلك لأن قوى الإنسان الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قبل الأربعين قوية مستكملة، فيكون الإنسان منجذباً إليها، فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص، والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون ((4)) .
__________
(1) زَاد المَسِيْر: 6 /207.
(2) مفاتيح الغيب: 12/ 232.
(3) روح المعاني: 20 /51.
(4) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /232.

(1/304)


3. {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} :
وقد قيل في المراد بالحكم أربعة أقوال:
إنه العقل، قاله عكرمة.
النبوة، قاله السدي أو علماً على ما هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه.
القوة، قاله مجاهد.
الفقه، قاله ابن إسحاق.
ويحتمل أن يراد به علم الحكماء وأخلاقهم ((1)) .
وذكر الزمخشري " أن المراد بالحكم السنة، وحكمة الأنبياء سنتهم " ((2)) ، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ((3)) .
وقد ذكر الرازي أنه قد يعترض معترض على من قال إن معنى الحكمة: النبوة وما يقترن بها من العلوم والأخلاق، فتكون النبوة قبل قتل القبطي، فسياق الآيات يخالف ذلك، فإن الله قد أعطاه الحكم والعلم، ثم دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} .
ويجيب: ليس في الآيات دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القطبي أو بعده، لأن الواو في قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} لا تفيد الترتيب ((4)) .
والذي أرجحه هو قول الشيخ زاده بأن المراد بالحكم علم الحكماء وأخلاقهم (5) ، ولا يمكن أن يراد به النبوة لما يأتي:
أولاً: لقوله تعالى في نهاية الآيات {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ، فجعل الله إيتاء الحكم والعلم مجازاة على إحسانه، والنبوة اصطفاء من الله لا تأتي جزاء على عمل.
__________
(1) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /220. حاشية الشيخ زاده: 2 /507.
(2) الكَشَّاف: 3 /168.
(3) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 34.
(4) مفاتيح الغيب: 12 /232. وينظر حاشية الشيخ زاده: 2 /507.
(5) حاشية الشيخ زاده: 2 /507.

(1/305)


ثانياً: لو كان المراد بالحلم والعلم النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين ((1)) لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
وقد اختلف العلماء كذلك في المراد بالعلم إلى ثلاثة أوجه:
أحدهما: إنه الفهم.
الثاني: الفقه.
الثالث: العلم بما في دينه من شرائعه وحدوده ((2)) .
والرأي الراجح عندي إنه العلم بما في دينه لأنه مما أوحي إليه.
4. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} :
" أي: كما جزينا أم موسى لما استسلمت لأمر الله وألقت ولدها في البحر وصدقت بوعد الله فرددنا ولدها إليها، ثم وهبنا له العقل والحكمة والنبوة، وكذلك نجزي كل محسن " ((3)) .

ما يستفاد من النصّ
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 232.
(2) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /220.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4975.

(1/306)


نستدل من هذه الآية على عصمة الأنبياء فإن سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع أنه عاش في بيت فرعون لم يتأثر بالجو الديني والأخلاقي الفاسد في داخل القصر، إن الله جل وعلا قد حماه منذ ولاته إلى أن بلغ، فنجاه من القتل، وحماه من الغرق، وحماه وهو في قصر فرعون من أن يصاب برذاذ الكفر والأخلاق الفاسدة، فلم يلج الكفر قلبه صغيراً كان أو كبيراً، وأنه رضع عقيدة التوحيد والإيمان بالله مع لبن أمه، كيف لا وقد تعهد الله بحفظه بقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ((1)) . فقد كان مؤمناً بالله، منيباً إليه، وتبين ذلك من خلال ندمه وطلب المغفرة من الله حينما ضرب القبطي فقتله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((2)) . ومما هو معروف أن هذه الحادثة قد وقعت قبل نبوته.
المطلب الثاني: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يقتل قبطياً خطأً
__________
(1) سُوْرَة (طَه) : الآية 39.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 16 -17.

(1/307)


{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِين} ((1)) .
المناسبة
بعد أن أوضحت الآيات السابقات الإرهاصات التي تسبق نبوته (- عليه السلام -) ، وذلك بإتيانه الحكم والعلم بقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . فقد أخبرت هذه الآيات سبب هجرته (- عليه السلام -) إلى مدين، وجملة {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ} عطف على جملة {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} ((2)) عطف جزء القصة على جزء أخر منها.
وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل لعلمه بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون، وكانت تقصّ عليه نبأه كله ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 15 -19.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(3) ينظر التحرير والتنوير: 20 /88.

(1/308)


فنلاحظ كيف أفاد العطف في الإجابة عن ما تبادر إلى الذهن من سؤال: هو كيف علم إنه إسرائيلي؟ وذلك عن طريق أمه التي جيء بها لإرضاعه في قصر فرعون، فمن ذلك يتبين لنا الإعجاز القرآني في استخدام الإشارات القرآنية للتعبير عن معاني كامنة اكتفى الَقُرْآن الكَرِيم بالإشارة إليها باستخدامه للعطف.
تحليل الألفاظ
1. {الْمَدِينَةَ} :
مَدَنَ بالمكان أقام به، فِعْل، ومنه المَدِينَة وهي فَعِيلة وتجمع على مدائن بالهمز. ومُدْن ومُدُن بالتخفيف والتثقيل. وفيه قول آخر إنه مفعلة من دَنَت، أي: ملكت. قال ابن بري: لو كانت الميم في مدينة زائدة لم يجز جمعها على مُدْن. وفلان مَدَّنَ المَدَائِن، كما يقال: مصّر الأمصار والمدينة الحصن، وكلّ أرض يبنى بها حصن فهي مدينة، والنسبة إليه مديني، والجمع مدائن ومدن ((1)) .
2. {غَفْلَةٍ} :
غَفَل عنه يغَفْل غُفُولاً وغَفْلةً وأَغْفَلَه عنه: غيره. وأَغْفَلَه تركه وسها عنه ((2)) . وقال الراغب الأصفهاني: " الغَفْلَة سهوٌ يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، يقال: غفل فهو غافل " ((3)) .
3. {فَاسْتَغَاثَهُ} :
غوث، أجاب الله غَوْثاه وغُواثَه وغَواثَه. وحكى ابن الإعرابي: أجاب الله غِياثَه. والغُواث بالضم الإغاثة، وغَوَّث الرجل واسْتَغَاث صاح واغَوْثَاه، والاسم الغَوْث الغُواث والغَواث بالفتح كالغِيّاث بالكسر من الإغاثة. وقال الراغب الأصفهاني: " الغَوْث يقال في النصرة، والغَيْث في المطر " ((4)) .
4. {فَوَكَزَهُ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (مدن) 13 /402. وينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 485.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (غفل) 11 /497.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 375.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 379.

(1/309)


وَكَزَه وَكْزاً: دفعه وضربه، مثل نَكَزه. والتَّوْكز الطعن، ووَكَزَه أيضاً طعنه بجُمْعِ كفه. وقيل: وَكَزَه، أي: ضربه بجمع يده على ذقنه. وقال الكسائي: وَكَزته ونَكَزْتُه ونَهَزْتُه ولَهَزْتُه بمعنى واحد ((1)) . وقال الزمخشري: " الوَكْز الدفع بأطراف الأصابع. وقيل: بجمع الكف " ((2)) وقيل: الوَكْز الضرب في الصدر ((3)) . وقيل: الوَكز على القلب، واللَكْز في اللحى. وقال أبو زيد: في جميع الجسد وقال: هو بالجُمْع في اللهازم والرقبة ((4)) .
5. {الشَّيْطَانِ} :
وهو البعيد عن الحق ومنه شَطَنَتْ الدابة شَطَنَت شُطُوناً، أي: بعدت، ومنه نوا شُطوناً بعيداً شاقة. والشَّطْن مصدر شَطَن بَشْطُنه شطاناً أي: خالفه عن
وجهه (5)) .
وذكر قسم من العلماء على وزن فيعال من شَطَن إذا بعد. وقال قسم من العلماء: إنها زائدة على وزن فعلان من شَاط يَشِيط إذا هلك واحترق مثل هيمان وغيمان من همام وغام ((6)) .
__________
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (وكز) 5 /430.
(2) الكَشَّاف: 30 /186.
(3) ينظر لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /427.
(4) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4976.
(5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (شطن) 13/ 238 –239. وينظر تاج العروس من جواهر القاموس، الزَّبَيْدِيّ، محيي الدين أبو الفضل محمد مرتضى الحسيني الواسطي الحنفي، ت 1205 هـ، مطبعة حكومة الكويت. 1386 – 1396 هـ: مادة (شطن) 15/ 353.
(6) ينظر تفسير القرآن العظيم: 1 /16.

(1/310)


والذي يبدو لي أن الكلمة تدلّ على المعنيين، فتدل على البعد، لأن الشيطان بعيد عن الحق والصواب، وتدلّ كذلك على الاحتراق لأن الشيطان محترق بذنوبه. فلفظ الشيطان يطلق على كل متمرد من الجن والإنس والحيوان. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} ((1)) . وركب سيدنا عمر (- رضي الله عنه -) برذوناً فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبختراً، فنزل فقال: ((ما حملتموني إلا على شيطان)) ((2)) .
6. {ظَهِيرًا} :
التظاهر التعاون والتساعد، واسْتَظْهَر به، أي: استعان. وظَهَرتُ عليه: أعنته، وظَهَر عليّ أعانني كلاهما عن ثعلب. وتَظَاهَرُوا عليه تعاونوا. وظَاهَر بعضهم بعضاً أعانه. والظَّهِيْر العون الواحد والجمع في ذلك سواء، وإنما لم يجمع ظهير لأن فعيلاً وفعولاً قد يستوي فيها المذكر والمؤنث والجمع ((3)) .
7. {لِلْمُجْرِمِينَ} :
__________
(1) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 31.
(2) مسند الإمام أحمد: 5 /178. سُنَن النَّسَائي الكبرى. أحمد بن شُعَيب بن عَلِيّ بن عَبْد الرَّحْمَن النسائي أبو عَبْد. (215 ـ 303) . تحقيق: د. عَبْد الغفار سليمان البنداري. وسيد كسروي حسن. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1. 1411 هـ ـ 1991م.: 8 /275. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. ضياء الدِّيْن نصر الله بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَرِيْم الموصلي أبو الفتح. ت 637 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. المكتبة العصرية. بيروت. ط1. 1995 م.: 1 /160.
(3) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (ظهر) 4/ 525.

(1/311)


الجُرْم التَّعْدي، والجرم الذنب والجمع أجْرام وجُرُوم وهو الجَرِيمَة وقد جَرَم يَجْرِم جُرْمَاً واجْتَرَم وأَجْرَم، فهو مُجْرِم وجَرِيم وتَجَّرَم عليَّ فلان، أي: ادعى ذنباً لم أفعله. وجَرَم إليهم وعليهم جَرِيمَة وإِجْرَام جنى جناية، وجَرُم إذا عظم جُرْمُه، أي: أذنب، والجُرْم مصدر الجَارِم الذي يَجْرِم نفسه وقومه شرّاً. الجَارِم الجَانِي: المُجْرِم المُذْنِب ((1)) .
8. {يَتَرَقَّبُ} :
رَقَبَه يَرْقَبَه رِقْبَةً ورِقْبَاناً بالكسر فيها، ورُقُوباً وتَرَقَّبَه وارْتَقَبَه انتظره ورصده. والتَّرَقُّب الانتظار، وكذلك الارْتِقَاب، والتَّرَقُب تَنَظُّرُ وتَوَقُّع شيء ((2)) .
وتفسير الرقيب على وجهين:
الوجه الأول: يعني حفيظاً كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ((3)) يعني حفيظاً لأعمالكم.
الوجه الثاني: يعني الانتظار لقوله تعالى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} ((4)) .
9. {اسْتَنصَرَهُ} :
الاسْتِنْصار: اسْتِمْدَاد النَّصْر. واسْتَنْصَرَه على عَدُوّه، أَي: سأَله أَن ينصُره عليه. والتَّناصُر: التَّعاون على النَّصْر. وتَنَاصَرُوا نَصَر بعضُهم بعضاً. والنَّصِير فعيل بمعنى فاعِل أَو مفعول لأَن كل واحد من المتَناصِرَيْن ناصِر ومَنْصُور. وقد نصَره ينصُره نصْراً إِذا أَعانه على عدُوّه وشَدَّ منه ((5)) .
10. {يَسْتَصْرِخُهُ} :
__________
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (جرم) 12 /91.
(2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (رقب) 1 /424.
(3) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 1.
(4) سُوْرَة الدُّخَانِ: الآية 59.
(5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (نصر) 5 /210.

(1/312)


الصَّرْخَة: الصيحة الشديدة عند الفزع أو المصيبة. الصارخ والصريخ: المستغيث. وقيل: الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث والمستصرخ المستغيث، والاستصراخ الاستغاثة، صرخ فلان يصرخ صراخاً إذا استغاث فقال: واغوثاه واصرختاه ((1)) .
11. {يَبْطِشَ} :
البَطْش: التناول بشدة عند الصَّوْلة، والأَخذُ الشديدُ في كلّ شيء بطشٌ؛ بَطَشَ يَبْطُش ويَبْطِش بَطْشاً. والبَطْشُ: الأَخذ القويّ الشديد. والبَطْشة: السَّطْوة والأَخذُ بالعُنْف.
ووردت البطش في القرآن على وجهين:
الوجه الأول: العقوبة كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} ((2)) .
الوجه الثاني: البطش القوة {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} ((3)) يعني قوة ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {على حِينِ غَفْلَةٍ} :
قرأ أبو طالب القارئ: (على حِينَ) بفتح النون، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها فبناه، كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض كقوله: (على حين عاتبت المشيب على الصبا) . وقال أبو حيان: هذا توجيه شذوذ ((5)) .
2. {يَقْتَتِلاَنِ} :
قرأ نعيم بن ميسرة (يقِّلان) بالإدغام، نقل فتحة الأولى إلى القاف وأدغم ((6)) .
2. {فَاسْتَغَاثَهُ} :
__________
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (صرخ) 3 /33.
(2) سُوْرَة الْقَمَرِ: الآية 36.
(3) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 8.
(4) الوجوه والنظائر في الَقُرْآن الكَرِيم عن هارون بن موسى. تحقيق: د. حاتم الضامن. سلسة خزانة دار صدام للمخطوطات. وزارة الثقافة والإعلام. العراق. 1988 م.: ص 370.
(5) ينظر البَحْر المُحِيْط: 7 /109. الدُّرُّ المَصُون: 5 /334.
(6) ينظر الدُّرُّ المَصُون: 5 /334.

(1/313)


هذه قراءة الجمهور من الغَوْث، أي: طلب غوثه ونصره. وقرأ سيبويه، وابن مقسم، والزعفراني بالعين المهملة والنون (فَاسْتَعَانَهُ) من الإعانة.
قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم، لأن الإعانة أولى في هذا الباب. وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش وهي تصحيف لا قراءة. وقال أبو حيان: ليست تصحيفاً فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن مقسم، والزعفراني ((1)) .
3. {فَوَكَزَهُ} :
قرأ ابن مسعود: (فَلَكَزَهُ) و (فَنَكَزَهُ) باللام والنون ((2)) ، والفرق بين الوكز واللكز أن الأول بجمع الكف، والثاني بأطراف الأصابع. وقيل: بالعكس والنكز كاللكز ((3)) .
4. {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} :
وهنالك قراءة أخرى عند عبد الله بن مسعود: (فلا تجعلني ظهيراً) وعلى هذه القراءة دعا ربه ((4)) .
5. {يَبْطِشَ} :
هذه قراءة الجمهور. وقرأ الحسن، وأبو جعفر بضمها: (يَبْطُش) ((5)) .
القضايا البلاغة
استخدام صيغ المبالغة (جبار، غوي، مبين) لأن فعال، وفعيل من صيغ المبالغة.
الطباق المعنوي، وهو مقابلة الشي بضده في المعنى لا في اللفظ ((6)) ، {جَبَّارًا … وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} ، لأن الجبار المفسد المخرب المكثر للقتل وسفك الدماء، ففيه طباق في المعنى ((7)) .
__________
(1) ينظر المحرر الوجيز: 12 /151.البَحْر المُحِيْط: 7 /109. الدُّرُّ المَصُون: 5 /335.
(2) ينظر البَحْر المُحِيْط: 7 /109.
(3) ينظر الدُّرُّ المَصُون: 5 /335.
(4) جامع البيان: 10 /46.
(5) ينظر الكَشَّاف: 3 /169. البَحْر المُحِيْط: 7/ 110.
(6) أنوار الربيع: 2 /39.
(7) ينظر صفوة التفاسير: 2 /428.

(1/314)


الاستعطاف {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ((1)) .
{عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} استخدم (على) للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} ((2)) ، أي: متمكناً من حين غفلة ((3)) .
وقال النحاس: " دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال على حين غفل أهلها. ودخلت (على) في هذه الآيات، لأن الغفلة هي المقصودة، فصار هذا كما تقول: جئت على غفلة، وإن شئت قلت: جئت على حين غفلة، فكذا الآية " ((4)) .
والذي يراه الباحث أن الَقُرْآن الكَرِيم أراد تخصيص دخول موسى (- عليه السلام -) إلى المدينة دون ظرفي الدخول زمانياً (حيناً) ومكانياً (المدينة) ، وهذا التخصيص المقصود منه إظهار معنى الدخول وحده، فجاءت الآية في صورتها البلاغية محتوية على الزمن (الفعل الماضي: دخل) والمكان (الاسم: المدينة) ، وإنما جاء وسط ذلك الظرف (حين) ليكون أبلغ في استشعار صيغة الدخول.
المعنى العام
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} .
من خلال هذه الآيات يتبادر مجموعة من الأسئلة:
أولا. ما المقصود بالمدينة في هذه الآيات؟
لقد اختلف العلماء في المراد بالمدينة:
__________
(1) ينظر التبيان في إعراب القرآن: 2 /1018.
(2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 5.
(3) ينظر التحرير والتنوير: 20 /90.
(4) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2 /546.

(1/315)


ذكر الطبري إنما مدينة منف. ونقل أبو حيان الأندلسي هذا القول عن ابن عباس ((1)) .
وقال ابن إسحاق: المقصود بالمدينة (مصر) نفسها. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل (مصر) .
وقيل: هي مدينة عين شمس.
وقيل: قرية على بعد فرسخين من مصر يقال لها: (حابين) .
وقيل: الإسكندرية ((2)) .
ثانياً. ما السبب الذي دعا سيدنا موسى (- عليه السلام -) لدخول المدينة متخفياً؟ لقد نقل الطبري أقوال أهل العلم في ذلك:
قيل دخلها متتبعاً أثر فرعون، لأن فرعون ركب وموسى غير شاهد، فما حضر علم بركوبه فركب واتبع أثره وأدركه المقيل في هذه المدينة.
وقال السدي: كان موسى حيث كبرَ يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ما يلبس، وكان إنما يدعى موسى ابن فرعون، ثم أن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فما جاء موسى. قيل له: إن فرعون قد ركب فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها: (منف) فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها وليس في طرفها أحد.
ونقل الطبري عن ابن إسحاق: بل دخلها مستخفياً من فرعون وقومه، لأنه كان قد خالفهم في دينهم وعاب ما كانوا عليه.
وقال آخرون: بل كان فرعون قد أمر بإخراجه من مدينته حين علاه بالعصا، فلم يدخلها إلا بعد أن كبر وبلغ أشده ((3)) .
__________
(1) ينظر جامع البيان: 10 /43. البَحْر المُحِيْط: 7/109.
(2) ينظر مجمع البيان: 7 /243. البَحْر المُحِيْط: 7/109. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /241.
(3) ينظر جامع البيان: 10 /42.

(1/316)


وأرى أن المقصود بالمدينة عاصمة ملكه، والتي يعيش فيها الأقباط، وبني إسرائيل المستضعفين. فسيدنا موسى (- عليه السلام -) لما بلغ أشده واستوى أتاه الله الحكم والعلم {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((1)) ، ونوّر بصره بالحكم والعلم، وبدء ينكر على فرعون ظلمه لبني إسرائيل، وينكر عليه ادعاءه الألوهية وعبادة الأقباط له من دون الله، فأصبحت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويطيعونه ويجتمعون إليه، فسمع فرعون وقومه فأغضبهم ذلك حتى ناصبوه العداء، فخاف على نفسه منهم، فلا يدخل المدينة إلا متخفياً منهم.
ثالثاً. ما هو الوقت الذي دخل فيه موسى المدينة؟
قيل: وقت القيلولة، أو بين العشائين. وقيل: المقصود في وقت لا يعتاد دخولها أو ليتوقعونه. وقيل: كان يوم عيد، وهم مشغولون بلهوهم ((2)) .
وذكر ابن عاشور أن " المقصود من ذكر الوقت، الإشارة إلى أن قتله القبطي لم يشعر به أحد تمهيداً لقوله بعد: {قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} ، ومقدمة لذكر خروجه من أرض مصر " ((3)) .
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}
أحدهما ممن شايعه على دينه وهم بنو إسرائيل، والآخر من مخالفيه وهم القبط وإلا شارة على الحكاية ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(2) ينظر جامع البيان: 10 /42.
(3) التحرير والتنوير: 20 /88.
(4) ينظر حاشية الشهاب: 7 /286.

(1/317)


وقد أختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين، فقيل: كان أمراً دينياً. وقيل: كان أمراً دنيوياً، فقد روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون، فأبي فاقتتلا لذلك، وكان القبطي خبازاً لفرعون كما ذكر ذلك سعيد بن جبير ((1)) .
وذكر الرازي قولاً غربياً لمقاتل بأن الرجلان كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط، واستدل بقول سيدنا موسى في اليوم التالي: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ((2)) .
ويمكن الجواب على ذلك: أن المشهور إن الذي من شيعته كان مسلماً، لأنه لا يقال فيمن يخالف الرجل في دينه وطريقة إنه من شيعته فالمقصود بـ (مِنْ شِيْعَتِهِ) ، أي: ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه، أو في الدين {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ، أي: " فاستنصر الإسرائيلي موسى على القبطي " ((3)) ، " فضربه بمجمع كفه فقتله " ((4)) .
وذكر ابن عاشور " والاستغاثة طلب الغوث، وهو التخلص من شدة، أو العون على دفع مشقة، وإنما يكون هذا الطلب بالنداء، فذكر الاستغاثة يؤذن بأن الإسرائيلي كان مغلوباً، وأن القبطي اشتد عليه وكان ظالماً " ((5)) .
{قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}
قال المراغي: " إن هذا الذي حدث من القتل هو من تزيين الشيطان ووسوسته، ثم أخبر عن حال الشيطان ليحذر منه فقال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (6) ، أي: إنه عدو فينبغي الحذر منه مضل لا يقود إلى خير بيّن العداوة والإضلال) .
__________
(1) ينظر روح المعاني: 20 /53.
(2) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /239.
(3) الوسيط: 3 /393.
(4) محاسن التأويل: 13/ 4699.
(5) التحرير والتنوير: 20/89.
(6) تفسير المراغي: 20/44.

(1/318)


{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} ، أي: بوكزٍ ترتب عليه القتل {فَاغْفِرْ لِي} ذنبي، وإنما قال (- عليه السلام -) ما قال، لأنه فعل ما لم يؤذن له به، وليس من سنن آبائه الأنبياء (- عليه السلام -) في مثل هذه الحادثة التي شاهدها، وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع فيه شريعة من الشرائع قتلها ((1)) .
{فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} رأي المبالغ في مغفرة ذنوب عباده وصمتهم " ((2)) .
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}
الباء في {بِمَا أَنْعَمْتَ} للقسم والتقدير: أقسم بما أنعمت به عليّ من المغفرة والجواب محذوف، أي: لأتوبن فلن أكون، أو متعلقة بمحذوف، أي: لاتوبنّ فلن أكون، أو متعلقة بمحذوف تقديره: " اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة، فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين. وقيل: (فلن أكون) دعاء لا خبر،
و (لن) بمعنى لا في الدعاء. وذكر أبو حيان أن (لن) لا تكون في الدعاء ((3)) .
وذكر الزمخشري أنه أراد بمظاهرة المجرمين:
أما صحبة فرعون وانتظامه في حملته وتكثيره سواده حيث كان يركب ركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون.
أما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له ((4)) .
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}
__________
(1) ينظر روح المعاني: 20 /54 –55.
(2) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /7.
(3) ينظر التبيان في إعراب القرآن: 2 /177. البَحْر المُحِيْط: 7/ 109.
(4) الكَشَّاف: 3 /169.

(1/319)


قال ابن عطية: " فأصبح عبارة عن كونه دائم الخوف في كل أوقاته كما تقول: أصبح زيداً عالماً. ويترقب معناه عليه رقبة من فعله في القتل فهو متحسس. قال ابن عباس: فمرّ وهو بحالة الترقب، وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قتل القبطي بالأمس يقاتل أخر من القبط، وكان قتل القبطي قد خفي عن الناس واكتتم، فلما رأى الإسرائيلي موسى استصرخه بمعنى صاح به مستغيثاً، فلما رأى موسى قتاله لأخر أعظم ذلك وقال له معاتباً ومؤنباً: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ، وكانت إرادة مع موسى مع ذلك أن ينصر الإسرائيلي، فما دنا منهما خشى الإسرائيلي وفزع منه، وظن أنه ربما ضربه وفزع من قوته التي رأى بالأمس، فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول " ((1)) .
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ}
" وظاهر قوله: {عَدُوٌّ لَهُمَا} أنه قبطي، وربما جعل عدّواً لهما لأن عداوته للإسرائيلي معروفة فاشية بين القبط، وأما عداوته لموسى فلأنه أراد أن يظلم رجلاً، والظلم عدّو لنفس موسى، لأنه نشأ على زكاء نفسي هيأها الله للرسالة " ((2)) .
واختلف العلماء فيمن قال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} هل هو الإسرائيلي أم القبطي؟
الرأي الأول ـ قال قسم من العلماء: هذا القول للإسرائيلي لما خاطبه سيدنا موسى
(- عليه السلام -) : {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ، ورآه غضبان وقد همُ موسى أن يبطش بالفرعوني، فظن أنه يريده، فخاف على نفسه، فقال {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ} الآية.
__________
(1) المحرر الوجيز: 12 /158.
(2) التحرير والتنوير: 20 /94.

(1/320)


الرأي الثاني ـ قال آخرون: بل هو قول القبطي، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي ((1)) .
والرازي يرجح هذا الرأي ويستدل بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى} ، " فهذا القول من القبطي. وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} لا يليق إلا أن يكون من كافر " ((2)) .
والذي نرجحه أن القول للإسرائيلي وليس للقبطي لسببين:
أولاً ـ إن حادث القتل لا يعلم به إلا موسى، وهذا الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس وكان لقول الإسرائيلي: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} سبباً لظهور قاتل القبطي.
ثانياً ـ وقوله: {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} يدلّ على أنه قول الإسرائيلي لمعرفته بأخلاق موسى (- عليه السلام -) بأنه رجل صالح مصلح لا يحب البغي والتجبر، فأراد أن يذكره بهذا لأنه يخالف ما عرف عنه.
{إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ}
قال أبو حيان: " وشأن الجبّار أن يقتل بغير حق. وقال الشعبي: من قتل رجلين فهو جبار ـ يعني بغير حق ـ ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح " ((3)) .
" فما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، فأوصل الخبر إلى فرعون فوقع الأمر بقتل موسى (- عليه السلام -) " ((4)) .
وذكر الرازي إنه احتج بهذه الآيات من طعن في عصمة الأنبياء ـ عَلَيْهم السَّلام ـ من وجوه:
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 234.
(2) مفاتيح الغيب: 12 / 234.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7 /110.
(4) نظم الدرر: 5 /474.

(1/321)


أحدهما ـ إن ذلك القبطي إما أن يقال إنه كان مستحق القتل، أو لم يكن كذلك، فإن كان الأول فلم قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، ولم قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} ، ولم قال في سورة أخرى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} ((1)) . وإن كان الثاني وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل، وكان قتله معصية وذنب.
ثانياً ـ إن قوله: {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} يدلّ على أنه كان كافراً حربياً، فكان دمه مباحاً، فلم استغفر عنه، والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز، لأنه يوهم في المباح كونه حراماً ((2)) ؟
ورد على هذه الطعونات بعدة أجوبة:
الجواب عن الأول: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان لكفره مباح الدم.
أما قوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ففيه وجوه:
أحدهما ـ لعل الله وإن أباح قتل الكافر، إلا أنه قال الأولى تأخير قتلهم إلى زمان أخ، فلما قتل ترك ذلك المندوب، فقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} معناه: قدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان.
وثانيا ـ إن قوله هذا إثارة عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، فقوله {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، أي: عمل هذا المقتول من عمل الشيطان، المراد منه بيان كونه مخالفاً لله تعالى مستحقاً للقتل.
وثالثاَ ـ إن يكون قوله هذا إشارة إلى المقتول، يعني إنه من جند الشيطان وحزبه يقال: فلان من عمل الشيطان، أي: من أحزابه ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 20.
(2) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 235.
(3) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 234 –235.

(1/322)


وهذا بعيد جداً عن المعنى الحقيقي لأن سيدنا موسى (- عليه السلام -) في الآية الأخرى استغفر لتسرعه في قتل هذا القبطي، وطلب المغفرة من الله تدلّ على أن المراد بقوله تعالى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، أي: العجلة وإطاعة النفس، والانسياق وراء الغضب من عمل الشيطان.
ويتابع الرازي رده على هذه الطعونات:
أما قوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} فعلى نهج قول أدم (- عليه السلام -) : {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} ((1)) . والمراد أحد وجهين: إما على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه، وإن لم يكن هناك ذنب قط. أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب.
أما قوله: {فَاغْفِرْ لِي} ، أي: فاغفر لي ترك هذا المندوب، وفيه وجه أخر وهو أن يكون المراد {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} حيث قتلت هذا الملعون، فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به {فَاغْفِرْ لِي} ، أي: فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون. ويدلّ على هذا التأويل أنه على عقبه قال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} ، ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سبباً للمعصية لما قال ذلك.
أما قوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} ((2)) ، المقصود بكونه ضالاً، أي: متحيراً لا يدري ما يجب عليه أن يفعله.
أما قوله: إن كان كافراً حربياً فلم استغفر عن قتله، قلنا: كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 23.
(2) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 20.
(3) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /235.

(1/323)


والذي أراه أنه لا حاجة إلى هذا التكلف في التفسير، لأن القتل كان خطأً، ولأن الوكز ـ وهو الضرب بمجمع اليد ـ لا يقتل عادةً، إضافة إلى ذلك فإن هذه الحادثة وقعت له قبل النبوة.
فقد روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله يقول:
((إن الفتنة تجيء من هاهنا وأومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال عز وجل {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} ((1)) )) ((2)) .
ما يستفاد من النصّ
يمكن أن نستخلص المعاني الآتية من خلال قراءتنا للآيات القرآنية التي مرّ شرحها.
__________
(1) سُوْرَة (طَه) : الآية 40.
(2) الحديث بتمامه في مسند أَبِي يعلى. أحمد بن عَلِيّ بن المثنى الموصلي التميمي أبو يعلى. (210 ـ 307) . تحقيق: حسين سليم أسد. دار المأمون للتراث. دمشق. ط1. 1404هـ ـ 1984 م.: 9 /383 رقم (5511) . وشطر الحديث الأول إلى قوله (قرنا الشيطان) أخرجه مسلم في صحيحه: باب الفتنة من المشرق 4 /2229 رقم (2905) . وينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4977.

(1/324)


أولا. نصرة المظلوم واجبة. فسيدنا موسى (- عليه السلام -) انتصر للذي استغاثة ضد ظالمه، لأن نصرة المظلوم واجبة، ولكنها ينبغي أن تكون بقدر ما يندفع به ظلم الظالم وبغيه، ولهذا لما وكز موسى الرجل المعتدي فقضى عليه قال عن فعله هذا إنه من عمل الشيطان، لتجاوز موسى (- عليه السلام -) حدّ الدفاع الشرعي عن المظلوم، وإن كان هذا التجاوز دون قصد ولا عمد من موسى (- عليه السلام -) ((1)) . لذلك قال موسى (- عليه السلام -) : {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
وجعل الله القتال لنصره المظلومين واجب شرعي في نص القرآن الكريم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} ((2)) .
وقال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)) ((3))
__________
(1) ينظر المستفاد من قصص القرآن: 1 /364.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 75.
(3) متفق عليه من حديث عبدُ الله بْن عمر ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ. صحيح البخاري: باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه 2 /862 رقم (2310) . صحيح مسلم باب تحريم الظلم 4/ 1996 رقم (2580) .

(1/325)


فمن خذلان المسلم أن لا تدفع الظلم عنه وأنت قادر على ذلك، فينبغي أن يؤكد الدعاة ويحثوا المسلمين على نصرة المظلومين، ولاسيما في هذه المرحلة التي تخلى الكثير من المسلمين عن هذا الواجب الشرعي فيرى المسلمون من على شاشات التلفاز ويسمعوا عن قتل للمسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان، وفي كل مكان من قبل أعداء الله اليهود والنصارى ولا يتحركوا لرفع الظلم عنهم.
ثانيا. دلت الآيات كذلك على حرمة معونة (المجرمين) ، ولفظة المجرمين جاءت في القرآن الكريم وصفاً لعدة معاني.
جاءت وصفاً للكفار قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} ((1)) .
وللمنافقين قال تعالى في وصف حال المنافقين في المدينة {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} ((2)) .
وجاءت وصفاً للمكذبين لله ورسوله قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآيتان 12 –13.
(2) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 66.
(3) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 147.

(1/326)


وكذلك جاءت وصفاً للظلمة قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ((1)) . فعلى هذا يحرم مناصرة ومعاونة كل مجرم وكل من ينطبق عليه لفظ المجرم من المعاني سالفة الذكر. وهذه الآية نظير قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} ((2)) .
قال سلمة بن ثُبَيْط: بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال: أعظهم، فقال: اعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه، فقيل: له ما عليك أن تعظهم وأنت لا ترزؤهم شيئاً؟ قال لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم.
__________
(1) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 123.
(2) سُوْرَة هُوْد: الآية 113.

(1/327)


وقال عبد الله بن الوليد الوصّافي: قلت لعطاء بن أبي رباح: إن لي أخاً يأخذ بقلمه وإنما بحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال، ولو ترك ذلك لاحتاج وآدَّانَ؟ فقال من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله القسري. قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالح: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} . قال ابن عباس: فلم يستثن فأبتلى به ثانية فأعانه الله فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه ((1)) . وفي الحديث: ((إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشياه الظلمة، حتى من لاق لهم دواة وبراً لهم، فلما يتجمعون في تابوت واحد، ثم سيق بهم على رؤوس الخلائق إلى نار جهنم)) ((2)) .
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4979.
(2) الفردوس بمأثور الخطاب. أبو شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمذاني. (445 ـ 509) . تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول. دار الكتب العلمية. بيروت ط1. 1986 م.: 1 /255 من حديث أبي هريرة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ ورواه الديلمي دون ذكر سند الحديث. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 13 /263. والذي أراه أنه حديث ضعيف.

(1/328)


وقال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبّت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزل فيه الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام)) ((1)) .
وقال ابن عطية وهو يفسر هذه الآية: " احتجّ أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور ومعونتهم في شيء من أمرهم، ورأوا أن هذه الآية تتناول ذلك، نص عليه عطاء بن أبي رباح " ((2)) .
وتدل الآية كذلك ـ كما قلنا ـ على حرمة معونة الظالمين سواء أكانوا دولاً أو حكام، فينبغي للدعاة أن يبصِّروا الناس بحرمة وخطورة نصرة الظلمة من الحكام والدول.
ويحرم معاونتهم بأي شكل من أشكال المعاونة، فقد جاء النهي عن معونة الظالم بقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ} ((3)) . وجاء في تفسيرها: الركون هو الميل اليسير إلى الشيء والنهي متناول لانحطاط في هوى الذين ظلموا والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم ((4)) .
__________
(1) حِلْيَة الأولياء وطبقات الأصفياء. أحمد بن عَبْد الله الأَصْبَهاني أبو نعيم. ت 430 هـ. دار الكِتَاب العربي. بيروت. ط4. 1405 هـ.: 6 /348. وأصل الحديث عند الشيخين: ((المسلم أخو المسلم …)) الحديث وقال المنذري وهذه زيادة رزين العبدري وهي من رواية ابن أبي الدنيا والأصبهاني. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف. عَبْد العَظِيْم بن عَبْد القوي المنذري أبو مُحَمَّد. (581 ـ656) . تحقيق: إبراهيم شمس الدِّيْن. دار الكتب العلمية. بيروت. ط1. 1417 هـ: 3 /262.
(2) المحرر الوجيز: 12 /153.
(3) سُوْرَة هُوْد: الآية 113.
(4) ينظر الكَشَّاف: 2 /433. المستفاد من قصص القرآن: 1 /366.

(1/329)


فإذا كان كل هذا داخلاً فكيف بمن يعين دول الكفر على المسلمين ويفتح ديار المسلمين ومطاردتهم لضرب المسلمين. فأعوان الظلمة ظلمة مثلهم وشركاه لهم في العذاب الدنيوي والأخروي، ولذلك لما نزل العذاب بفرعون نزل بأعوانه أيضاً. قال تعالى عن هلاك فرعون وجنوده بالغرق: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((1)) .
" فجعلهم الله جميعاً ظالمين، فرعون لمباشرته الظلم إرادة له وأمراً به، وجنوده لمعاونتهم له بتنفيذ ظلمه وما يأمرهم به من أنواع بغيه وظلمه " ((2)) . وهم مشتركون في العذاب الأخروي قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} ((3)) .
ثالثاً. ودلت الآيات كذلك على عدم التعسف في أخذ الحق، ولذلك عد سيدنا موسى (- عليه السلام -) إفراطه بما لا يقصد في ردع المعتدي من عمل الشيطان {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} .
وقد جاء كذلك في القرآن النهي عن الإسراف في أخذ الحق قال تعالى:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ
مَنصُوراً} ((4)) .
رابعاً. ودلت الآيات كذلك على أن الغضب من الشيطان، وعلى الإنسان أن يبادر إلى التعوذ بالله من الشيطان الرجيم في حالة امتلكه الغضب.
خامساً. وتدل الآيات كذلك على أن يبادر الإنسان إلى الاستغفار عند حصول الذنب والالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه.
المطلب الثالث: فرعون يريد قتل موسى (- عليه السلام -) لقتله القبطي
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(2) المستفاد من قصص القرآن: 1 /367.
(3) سُوْرَة هُوْد: الآية 98.
(4) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 33.

(1/330)


{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((1)) .
المناسبة
بعد أن بينت الآيات السابقات ما جرى من محاورة بين سيدنا موسى (- عليه السلام -) والإسرائيلي الذي كشف بحماقته أمر موسى (- عليه السلام -) ، وسمع الفرعوني كلماته فترك الخصومة وأسرع ليخبر جنود فرعون الموكلين بالبحث عن القاتل ليخبرهم بما سمع، أدرك سيدنا موسى أنه أصبح في خطر، وأن جنود فرعون سيلاحقونه، فأخذ يفكر في وسيلة للنجاة.
" وظاهر النظم أن الرجل جاء على حين محاورة القبطي مع موسى، فلذلك انطوى أمر محاورتها ما هو أهم منه وأجدى في القصة " ((2)) . وفي هذه الأثناء تضيق الدنيا أمام عيني سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، إلا من رحمة الله وعونه، فلا ناصر إلا هو، فهنا تسفر يد القدرة في اللحظة المطلوبة لتتم مشيئتها، فانتدبت يد القدرة واحداً من الملأ ليحذر موسى ويخبره بضرورة خروجه من مصر ((3)) .
فنلاحظ من الترابط بين هذا النص والذي قبله أن الآيات بينت الخطر الذي يمرّ به سيدنا موسى (- عليه السلام -) من خلال كشف الإسرائيلي لأمر موسى، فتأتى الآيات التي بعدها لتبين التدخل الإلهي لإنقاذ نبيه (- عليه السلام -) من القتل بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} .
تحليل الألفاظ
1. {أَقْصَى} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 20 –21.
(2) في ظلال القرآن: 6 /334.
(3) التحرير والتنوير: 2 0/95.

(1/331)


" قَصَا عنه قَصْوا وقُصُوَّا وقَصَا وقَصاء وقَصِيَ: بَعُدَ. وقَصَا المكانُ يَقْصُو قُصُوًّا: بَعُدَ. والقَصِيُّ والقَاصِي: البعيد والجمع أقْصَاء فيها كشَاهِد وأَشْهَاد ونَصِير وأَنْصَار " ((1)) .
2. {يَسْعَى} :
قال ابن منظور: " السَّعْيُ: عَدْوٌ دُوْنَ الشَّدِّ سَعَى يَسْعَى سَعْيًا " ((2)) وجاء السعي في القران الكريم على ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: المشي كقوله تعالى في {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ((3)) .
الوجه الثاني: السعي يعني العمل كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} ((4)) .
الوجه الثالث: السعي يعني أسرع كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ((5)) .
3. {الْمَلأَ} :
قال ابن منظور: " المَلأَ الرؤساء سموا بذلك، لأنهم مِلاء بما يحتاج إليه. والمَلأ مهموز مقصور الجماعة.
وقيل: أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم " ((6)) .
4. {يَأْتَمِرُونَ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (قصي) 15/ 183.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (سعي) 14 /385.
(3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 260.
(4) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 19.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(6) لِسَان العَرَب: مَادة (ملأ) 1 /195. وينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 492.

(1/332)


قال ابن منظور: تأمَّروا على الأمْرِ. وائْتَمَرُوا: تَمَارَوْا وأَجْمَعُوا آرَاءَهم. وفي التنزيل: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} . قال أبو عبده أي: يتشاورون عليك ليقتلوك. وقال القتيبي: إن معناها إن الملأ يأتمرون بك، أي: يهمون بك، ولو كان كما قال أبو عبيدة لقال: يَتَأَمَّرُون بك. وقال الزجاج: معناها يأمُرُ بعضهم بعضاً بقتلك ((1)) .
وقال ابن عاشور: " أصل الائتمار قبول أمر الأمر فهو مطاوع أمره، ثم شاع إطلاق الائتمار على التشاور لأن المتشاورين يأخذ أمر بعض فيأتمر به الجميع
((2)) .
القراءات القرآنية
1. {أَقْصَى الْمَدِينَةِ} :
قرئت بالإمالة وقفاً عند كل من حمزة، والكسائي، وورش، وخلف.
2. {يَسْعَى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة.
{عَسَى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة أيضاً ((3)) .
4. {رَبِّ} :
قرئت بالفتح (رَبَّىَ) عند كل من نافع، وابن كثير، وأبي عمر، وأبي جعفر ((4)) .
المعنى العام
1. {وَجَاءَ رَجُلٌ} :
قيل: إن اسم الرجل سمعون. وقيل: سمعان. وقيل: حزقيل بن صبورا مؤمن من آل فرعون، وكان ابن عم فرعون ذكر ذلك الثعلبي. وقيل: طالوت ذكره السهيلي. وقيل: شمعان ((5)) .
2. {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} :
__________
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (أمر) 4 / 29.
(2) التحرير والتنوير: 20 / 96.
(3) إتحاف فضلاء البشر: ص 341. غيث النفع في القراءات السبع. عَلِيّ النوري الصفاقسي. مطبوع بذيل كتاب سراج القاري المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي. ط1. المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1352هـ – 1934 م.: ص 316.
(4) النشر في القراءات العشر: 2 /342. الكشف عن وجوه القراءات: 2 /176.
(5) ينظر جامع البيان: 10 /5. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4982.

(1/333)


قال البقاعي: " أبعدها مكاناً " ((1)) .
وقال ابن عاشور: " والظاهر أن (أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هو ناحية قصور فرعون وقومه، فإن عادة الملوك السكنى في أطراف المدن توقياً من الثورات والغارات لتكون مساكنهم بخروجهم عند الخوف " ((2)) .
3. {يَسْعَى} :
قال قتادة: " يعجل " ((3)) . وقال البقاعي: " إنه بين بقوله: {يَسْعَى} كان ماشياً، ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه، بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي، وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه " ((4)) .
4. {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} :
قيل في معنى {يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ثلاثة أقوال:
الأول: يتشاورون فيك ليقتلوك، قاله أبو عبيدة.
الثاني: يهمّون بك، قاله ابن قتيبة.
الثالث: يأمر بعضهم بعضاً بقتلك، قاله الزجاج ((5)) .
والذي أراه راجحاً هو الرأي الأول.
5. {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} :
قال البقاعي: " ثم علل ذلك على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرقه من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك {إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ) ، أي: العريقين في نصحك " ((6)) .
وقد جاء ذكر الرجل المؤمن في القرآن الكريم في عدة مواضع من الَقُرْآن الكَرِيم:
استذكر على فرعون وملئه حينما قرروا قتل موسى (- عليه السلام -) قال تعالى عن لسان فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} ((7)) فقال لهم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} ((8)) .
__________
(1) نظم الدرر: 5 /474.
(2) التحرير والتنوير: 20 /95.
(3) جامع البيان: 10 /50.
(4) نظم الدرر: 5 /474.
(5) زَاد المَسِيْر: 6 /210 –211.
(6) نظم الدرر: 5 /475.
(7) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 26.
(8) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 28.

(1/334)


لما قال فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ((1)) . {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} ((2)) .
وبعد أن أمر فرعون هامان بناء الصرح استهزاءً بوعود موسى (- عليه السلام -) :
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} ((3)) . فقال الرجل المؤمن: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} ((4)) ، ثم أراد تخويفهم وتهديدهم فقال لهم:
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} ((5)) . قال مقاتل: قال هذه الكلمات فقصدوا قتله، فهرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه، وقيل: نجا مع موسى في البحر وفر معه قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} ((6)) .
6. {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : فخرج من المدينة خائفاً يترقب لحوق الظالمين. {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} : خلصني منهم واحفظني من لحوقهم ((7)) .
ما يستفاد من النصّ
نستطيع أن نستنبط من الآيات السابقة المعاني الآتية:
__________
(1) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 29.
(2) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 30.
(3) سُوْرَة غَافِرِ: الآيتان 36 –37.
(4) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 38.
(5) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 44.
(6) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 45.
(7) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /8.

(1/335)


أولا. إنه يجوز عند الضرورة خروج الداعي من بلده فراراً من عدوه، ولهذا قبل موسى (- عليه السلام -) نصيحة مؤمن آل فرعون بالخروج من مصر، لأن الملأ من قوم فرعون يتشاورون في قتله، ولا يعدّ هذا الفرار جبناً من الداعية، لأن الداعي في كرّ وفرّ مع أعداء الله. والداعية إذ يفعل ذلك، فلأن حياته ليست ملكاً له، بل هي ملك الله، ومن الأولى الإبقاء عليها خدمة لدعوته، ولا يجوز له أن يعرضها للهلاك بالبقاء في مواجهة العدو مع عدم التكافئ في القوة بينه وبين عدوه.
ثانياً. يلمح المتابع أن هناك تشابهاً كبيراً بين خروج سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، وهجرة الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، وما رافقها من ظروف صعبة شبيهة بالتي مرت على موسى (- عليه السلام -) . فلما خشيت قريش من تفاقم أمر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) واتساعه، اجتمعوا في دار الندوة للتشاور فيما يجب أن يفعلوه برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعض آخر: أخرجوه من مكة، فقال لهم أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من بطون قريش غلاماً وتعطوه سيفاً فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم. قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ((1)) . وهنا تتدخل القدرة الإلهية لحمايته (- صلى الله عليه وسلم -) ، فيرسل الله جل وعلا سيدنا جبريل (- عليه السلام -) ليخبر الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) بما عزم عليه المشركون، وأخبره بأن الله أذن له بالهجرة إلى المدينة.
__________
(1) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 30.

(1/336)


فقد ذكر ابن كثير أنه قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما أتمروا بك؟ قال يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني؟ فقال من أخبرك بهذا قال ربي ((1)) ؟

الفصل الخامس: هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين
المبحث الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) على ماء مدين
المطلب الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يسقي الماء لبنات شعيب (- عليه السلام -)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إليَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((2)) .
المناسبة
لما دعا سيدنا موسى (- عليه السلام -) من الله أن ينجيه من القوم الظالمين في الآية السابقة: {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((3)) ، أراد الله جل وعلا أن يعلم باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة، فقال: (ولما) ، أي: فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ((4)) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 2 /302 -303. وينظر أيضاً الكَشَّاف: 2 /215.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 22 -24.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.
(4) ينظر نظم الدرر: 5 /475.

(1/337)


فقوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} عطف على جملة محذوفة تقديرها: ولما خرج من المدينة هائماً على وجهه فهداه الله إلى الطريق الذي يؤدي إلى أرض مدين فلما سلك هذا الطريق ((1)) ، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . فنلاحظ الترابط بين الكلمات والمعاني، ومناسبة الآيات بعضها للبعض الآخر فبدت كنسيج واحد دقيق يكمل بعضه بعضاً ليدل على المعنى المراد توصيله بأقرب الطرق، وأبلغ العبارات وأقصرها، وهذه ميزة أخرى من المزايا التي تميز بها الَقُرْآن الكَرِيم عن غيره، ومعجزة أخرى تؤكد أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا من عند الله جَلَّ وَعَلا.
تحليل الألفاظ
1. {تَوَجَّهَ} :
الجِهَةُ، والوِجهَةُ جميعاً الموضع الذي تتوجه إليه وتقصده وضلَّ وِجْهَةَ أمره، أي: قصده وخَلَ عن جِهَتِه: يريد جِهَةَ الطريق، وتَوَجَهَ إليه ذهب ((2)) .
وقال النسفي: " التوجه الإقبال على الشيء " ((3)) . وقال أبو حيان: " توجه وجهة تلقاء أي ناحية وجهه استعمل المصدر استعمال الظرف " ((4)) .
2. {تِلْقَاءَ} :
أصله مصدر على وزن التِفعال بكسر التاء، وليس له نظير في كسر التاء إلا تِمثال. قال ابن سيدة: وَتَلَقاه والتَقاه والتَقَيْنا وتَلاقَينْا والتَقَوْا وتَلاقَوْا بمعنى، وجلس تِلقاء، أي: حِذاءه. وقال الطبري: " يقال داره تلقاء دار فلان إذاَ كانت محاذيتها " ((5)) .
3. {وَرَدَ} :
__________
(1) ينظر التحرير والتنوير: 20 /97.
(2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (وجه) 13/ 556.
(3) مدارك التنزيل: 3 /231.
(4) البَحْر المُحِيْط: 7/ 111.
(5) التحرير والتنوير: 20 /97.

(1/338)


وردَ الوِرْدُ ووُردُ القوم الماء والوِرْدُ الماء الذي يُورَدُ، والوِرْدُ الإبل الواردة … المَوْرِدةُ الطريق إلى الماء. وقال ابن سيدة: وَوَرَدَ الماء وغيره وَرْداً ووُرُوداً، وورد عليه أشرف عليه دخله أو لم يدخله ((1)) .
وقال الراغب الأصفهاني: أصل الورود قصد الماء ثم يستعمل في غيره (2) .
4. {أُمَّةً} :
" كلّ جماعة يجمعهم أمرُ واحد، إما دينٌ واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً، أو اختياراً وجمعها أمم ((3)) . قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} ((4)) . فالمراد بالأمة في هذه جماعة كثيرة يجمعهم أمر واحد وهو سقيهم للمواشي في مكان واحد وهو البئر.
5. {تَذُودَانِ} :
الذَوْدُ: السَوق والطرد والدفع تقول: ذُدْتُه عن كذا، وذاده عن الشيء ذَوْداً وذِياداً ورجل ذائد، أي: حامي الحقيقة دفاع، وذُدتُ الإبل أذودها ذَوْداً إذا طردتها وسقتها ((5)) . وذكر الرازي أن معنى (الذود) الدفع والطرد فقوله: (تذودان) ، أي: تحبسان ((6)) .
والذي تبين مما سبق أن الدفع والطرد والحبس من معاني الذود فكلها تعطي معنى واحداً.
القراءات القرآنية
1. {عَسَى} :
قرأ حمزة والكسائي وورش بالإمالة ((7)) .
2. {رَبِىَ} :
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر (رَبىَ) ((8)) .
3. {دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ} :
__________
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (ورد) 3 /456.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 556.
(3) المصدر نفسه: ص 19.
(4) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 38.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (ذود) 3 /168.
(6) مفاتيح الغيب: 12 /239.
(7) الكَشَّاف: 3 /169. البَحْر المُحِيْط: 7 /113.
(8) النشر في القراءات العشر: 2 /342.

(1/339)


قرأ أبو عمرو: (دونِهِمِ) ، وقرأ حمزة، والكسائي: (دونِهُمُ) ((1)) .
4. {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} :
نقل القرطبي أنه في بعض المصاحف (امرأتين حابستين تذودان) وهي من القراءات الشاذة التي لم يذكرها غير القرطبي ((2)) .
5. {خَطبُكُما} :
قال أبو حيان: وقرأ شمر بكسر الخاء (خِطْبُكُما) ، أي: من زوجكما ولم لا يسقي هو، وهذه قراءة شاذة ((3)) .
6. {لاَ نَسقِي} :
قرأ أبن مصرف بضم النون (لا نُسقِي) ((4)) .
7. {يُصْدِرَ} :
قرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن، وقتادة: (يَصدُر) ، أي: يصدرون بأغنامهم ((5)) .
8. {الرِعَآءُ} :
هذه قراءة الجمهور جمع تكسير. قال الزمخشري: " وإما الرِعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام " ((6)) . وقال أبو حيان: " وليس بقياس لأنه جمع راع، وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعله، كقاض وقضاة، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس. وقرأ: (الرُعاء) بضم وهو اسم جمع كالرجال والثناء ((7)) .
القضايا البلاغية
__________
(1) غيث النفع: ص 315.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4984.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7 /113.
(4) الكَشَّاف: 3 /169. البَحْر المُحِيْط: 7 /113.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7 /113.
(6) الكَشَّاف: 3 /170.
(7) البَحْر المُحِيْط: 7 /113.

(1/340)


الإيجاز ((1)) : فقد حذف المفعول في أربعة أماكن: أحدها مفعول (يسقون) ، أي: مواشيهم. والثاني مفعول (تذودان) ، أي: مواشيهما، وعلة الحذف أن الفرض هو أن يعلم أنه كان من الناس سقي ومن البنتين ذود، وإنهما قالتا: (لا نسقي) ، أي: لا يكون من سقي حتى يصدر الرعاء وأنه كان من موسى سقي ((2)) .
(ماء مدين) مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل ((3)) .
الكناية ((4)) في قوله تعالى: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} فقد استخدمتا الكناية تعبيراً عن المعنى المراد، فقد أرادتا أن تقولا له إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ومالنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ طاعن في السن قد أضعفه الكبر وأعياه، فلا بد لنا من ترك السقيا وإرجائها إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وبذلك طابق جوابهما سؤاله لأنه سألهما عن علة الذود فقالتا ما قالتاه ((5)) .
المعنى العام
وذكر الرازي اختلاف العلماء في قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} :
__________
(1) الإيجاز: أن يكون اللفظ أقل من المعنى مع الوفاء به، وإلا كان إخلالاً يفسد الكلام. ينظر معجم المصطلحات البلاغية: 1 /344.
(2) ينظر بديع الَقُرْآن: ص 186. البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن. كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الزملكاني. تحقيق: د. خديجة الحديثي ود. أحمد مطلوب. الطبعة الأولى. مطبعة العاني. بغداد 1394 هـ ـ 1974 م.: ص 245. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /304.
(3) ينظر روح المعاني: 20 /59.
(4) الكناية: هو أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وكنى عنه الأمر يغيره. معجم المصطلحات البلاغية: 3 /154.
(5) ينظر الكَشَّاف: 3 /171. الجدول في إعراب القرآن: 20 /245.

(1/341)


القول الأول: قال بعضهم: إنه خرج وما قصد مدين، ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة، فوصله الله تعالى إلى مدين. وهذا قول ابن عباس (- رضي الله عنه -) .
القول الثاني: إنه لما خرج قصد مدين، لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم (- عليه السلام -) ، وهو كان من بني إسرائيل، لكن لم يكن له علم بالطريق بل أعتمد على الله.
القول الثالث: ومن الناس من قال بل جاءه جبريل (- عليه السلام -) وعلمه الطريق. وذكر ابن جرير عن السدي: لما أخذ موسى (- عليه السلام -) في السير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال: لا تفعل واتبعني، فتبعه نحو مدين. وهذه الرواية غير صحيحة لأنه لا يمكن لموسى أن يسجد لغير الله تعَاَلىَ حتَّى ولو كان قبل النبوة لأن الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها، واستغرب من عدم رد الرازي لها.
ورجح الرازي القول الأول للأدلة الآتية:
قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} ولو كان قاصداً الذهاب إلى مدي (1) لقال: ولما توجه إلى مدين، فلما لم يقل ذلك بل قال: {تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي.
__________
(1) مدين: وهي قرية سميت باسم مدين بن إبراهيم (- عليه السلام -) ، وهي بلاد واقعة حول خليج العقبة من عند نهايته الشمالية وشمال الحجاز وجنوب فلسطين. وذكر الطبري إن بين مصر ومدين مسيرة ثمان ليالِ، وكان يقال على نحو من الكوفة إلى البصرة , ينظر جامع البيان: 10/ 52. معجم البلدان: 5 /7 8. روح المعاني: 20/59.

(1/342)


قوله تعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ، وهذا كلام شاك لا عالم، والأقرب أن يقال: إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالماً بالطريق، ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق، لأنه يبعد من موسى (- عليه السلام -) في عقله وذكائه أن لا يسأل ((1)) .
وهو الذي نرجحه، فإضافة إلى الأدلة السابقة، نضيف دليلاً عقلياً أخر وهو أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) قضى أغلب مراحل حياته في قصر فرعون، ولا علم له بأقاربه في المدن الأخرى، ولا سيما أنها تبعد عن مصر ثمان ليال، هذا جانب. والجانب الأخر هو أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) كان في حالة خوف شديد من أن تصله أيدي جنود فرعون فأراد أن يخرج من هذا المكان بأسرع وقت حتى نسي أن يأخذ الزاد معه ولوازم السفر، فكيف له في هذه اللحظات العصيبة أن يتذكر أقربائه في مدين.
{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}
قيل عُني بـ {سَوَاءَ السَّبِيلِ} الطريق إلى مدين، وهذا قول مجاهد. وقيل: معناه قصد السبيل. وقيل: الطريق المستقيم ((2)) .
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ}
وذكر أبو حيان الأندلسي إن الورود يكون بمعنى الوصول إلى الشيء وبمعنى الدخول فيه ((3)) .
وذكر القرطبي: " أن المراد بقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} مشى موسى (- عليه السلام -) حتى ورد ماء مدين، أي: بلغها. ووروده الماء معناه بلغها لا أنه دخل فيه، ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول وقد تكون بمعنى الاطلاع والبلوغ إليه، وإن لم يدخل فورود موسى كان بالوصول إليه " ((4)) .
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /238 –239.
(2) جامع البيان: 10 /52.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7 /111.
(4) الجامع لأحكام القران: 6/4983.

(1/343)


وذكر البقاعي أن المراد بقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ} " أي: حضر سيدنا موسى (- عليه السلام -) حضور من يشرب" ((1)) . وذكر الآلوسي " أن الورد بمعنى الدخول وبمعنى الشرب" (2)
والذي أراه أن المراد بالورود في هذه الآية هو الوصول إلى مكان الماء، ولا يدل أبداً على معنى الشرب في هذه الآية، فسياق الآية يصور المشهد وكأنك تراه، ففي الآية السابقة ذكر جل وعلا {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي: جهتها وقبل الوصول إلى الماء. وفي هذه الآية يبين جل وعلا أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) وصل ماء مدين، فالسياق القرآني يتابع هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) مرحلة مرحلة، وهذه الآيات تنقل قارئ القرآن إلى مشهد وصوله إلى الماء.
{مَاءَ مَدْيَنَ} بئر كانوا يسقون منه ((3)) {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ} .
" وجد فوق شفيره ومستقاه " ((4)) والمراد بالأمة كما بينا في التحليل اللغوي للألفاظ جماعة كثير يجمعهم أمر واحد وهو سقيهم للمواشي في مكان واحد وهو البئر {يَسْقُونَ} ، أي: ماشيتهم ((5)) ، ولم يبين نوع الماشية. والظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة لم يبينها النص القرآني، لأن المهم في سياق القصة السقي لا المسقي.
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ} . قال النسفي: " في مكان أسفل من مكانهم " ((6)) . وقال القرطبي: " معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمة " ((7)) .
__________
(1) نظم الدرر: 5/475
(2) روح المعاني: 20/59
(3) روح المعاني: 20/59
(4) الكَشَّاف: 3 /170.
(5) المصدر نفسه: 6 /4984.
(6) مدارك التنزيل: 3/ 231.
(7) الجامع لأحكام القران: 6/ 4984.

(1/344)


قال ابن عاشور: " في مكان غير المكان الذي حل الماء، أي: في جانب مباعد للأمة من الناس، لأن حقيقة كلمة (دون) أنها وصف للشيء الأسفل من غيره ((1)) .
{امْرَأتَيْنِ} . قيل: اسم أحدهما ليا. وقيل: عبرا. وقيل: شرفا. واسم الأخرى صفوريا. وقيل: صفوراء. وقيل: صفيراء ((2)) . ولا أرى فائدة من ترجيح اسم على آخر، فضلاً عن كون ذلك كله من الإسرائيليات.
{تَذُودَانِ} ، أي: تمنعان ما معهما من الأغنام عن التقدم إلى البئر كيلا تختلط بالأغنام الأخرى ((3)) . واختلفوا في علة ذودهما الغنم على وجوه:
أحدها ـ قال الزجاج، لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي.
ثانيها ـ كانتا تكرهان المزاحمة على الماء.
ثالثها ـ لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم.
رابعها: لئلا تختلط بالرجال ((4)) .
{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}
قال ابن عطية: " أي ما أمركما وشأنكما، وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أو من يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر، فأخبرتاه بخبرهما وأن أباهما شيخ كبير، فالمعنى أنّه لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا يقدران على مزاحمة الأقوياء، وإن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى وحينئذ تردان " ((5)) .
{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} وقد أختلف العلماء في اسم هذا الشيخ الكبير إلى الأقوال وهي:
القول الأول ـ قال الجهور: هو شعيب (- عليه السلام -) ، وهما ابنتاه.
__________
(1) التحرير والتنوير: 20/99.
(2) روح المعاني: 20/ 59.
(3) إرشاد العقل السليم:7/8
(4) مفاتيح الغيب: 12/ 239
(5) ينظر جامع البيان: 10 /61 –62. المحرر الوجيز: 12/ 158. تفسير القران العظيم: 3/ 384. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6/ 407-408.

(1/345)


القول الثاني ـ قال الحسن: هو ابن أخي شعيب واسمه ثروان، وقال أبو عبيدة: يثرون.
القول الثالث ـ قيل: هو رجل صالح ليس من شعيب بنسب.

القول الرابع ـ قال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى (- عليه السلام -) بمدة طويلة ((1)) ، لأنه قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ((2)) .
وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل (- عليه السلام -) بنص القرآن. وقد علم أنه كان بين الخليل وبين موسى (- عليه السلام -) مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة كما ذكر غير واحد. وما قيل إن شعيباً عاش مدة طويلة إنما هو والله اعلم احترازاً من هذا الاشكال. ويرجح ابن كثير أنه ليس بشعيب، ويقول: من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن هاهنا، وما جاء في بعض الأحاديث التصريح باسمه لم يصح سنده ((3)) .
ورجح القرطبي أنهما ابنتا شعيب ((4)) فهو ظاهر القرآن.
قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} ((5)) . وقوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} ((6)) .
والذي يرجحه الباحث هو القول الأول، وأنه سيدنا شعيب الرسول وذلك لأن علماء الفقه الإسلامي قد استدلوا بما في هذه القصة من أحكام عند من يرى أن شرع من قبلنا من الرسل شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ومنها مباشرة المرأة الأعمال ووجود الحياء فيها، وولاية الأب في النكاح وجعل النكاح والإجارة في عقد واحد ((7) على ما سنوضحه لاحقاً.
__________
(1) جامع البيان: 10 /60 –61.الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /407 –408.
(2) سُوْرَة هُوْد: الآية 89.
(3) ينظر تفسير القران العظيم: 3/ 384.
(4) الجامع لأحكام القران 6: / 4986.
(5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 85.
(6) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآيتان 176- 177.
(7) ينظر التحرير والتنوير: 20/ 101.

(1/346)


{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
{فَسَقَى لَهُمَا} ، أي: سقى غنمهما لأجلهما، وفي كيفية السقي ذكر الرازي أقوالاً:
القول الأول ـ إنه (- عليه السلام -) سأل القوم أن يفسحوا ففسحوا.
القول الثاني ـ قال قوم: عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلاّ عشرة. وقيل: أربعون. وقيل: مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر.
القول الثالث: إن القوم لما زاحمهم موسى (- عليه السلام -) تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو (- عليه السلام -) رمى ذلك الحجر، وسقى لهما ((1)) .
والصحيح أنه لم يرد بيان من القرآن يبين كيفية السقي، ولكن المرأة وصفت سيدنا موسى بالقوة حينما طلبت من والدها استئجاره
{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ، فدلّ ذلك على أنها رأت منه قوة كبيرة وصفته بها أمام والدها ودعتها لطلب استئجاره. وأن موسى (- عليه السلام -) رفع صخرة كبيرة لا يستطيع غيره من الرجال أن يرفعها ليسقي لهما الماء.
{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}
أي انصرف موسى (- عليه السلام -) جاعلاً ظهره يلي ما كان يلي وجهه ليقيل تحت الظل، ويستره مقبلاً على الخالق.
وذكر الطبري أنه قال هذا القول {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ، وهو محتاج، وهو بجهد شديد، وعرض ذلك للمرأتين تعريضاً لهما لعلهما أن تطعماه مما به من شدة الجوع ((2)) .
__________
(1) مفاتيح الغيب: 12/ 239.
(2) جامع البيان: 1/ 56- 57.

(1/347)


وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر. ونقل ابن كثير رواية عن ابن عباس: " سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وأن بطنه لاصق بظهره من الجوع " ((1)) .
{فَقَالَ رَبِّ} " لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص، ولما كان حاله في عظيم صبره، حالة من لا يطلب أكدّ سؤاله إعلاماَ بشديد تشوقه لما سأل، فيه زيادة في التضرع والرأفة، فقال {إني} وأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون (إلى) فقال {لما} ، أي: لأي شيء، ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير عبر بالإنزال، وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق " ((2)) .
وأما اسم الشجرة، فقد ذكر القرطبي أنها (سمرة) قاله ابن مسعود ((3)) .
ما يستفاد من النصّ
دلت الآيات السابقة على جملة المعاني وهي:
أولا ـ الدعاء وأثره في تفريج الكروب، فقد رأينا كيف صور القرآن الكريم حالة سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، بعد أن اخبره الذي آمن بوصول أمر القبطي
(المقتول) إلى سماع فرعون وتآمرهم على قتله، فانتابته حالة من الخوف والترقب، ودعا الله أن ينجيه من القوم الظالمين، فمرة أخرى يتعرض إلى محنة أخرى، ومرة أخرى يتحدى الله جل وعلا فرعون وجنوده من أن ينالوا ممن اصطفاه واصطنعه لنفسه.
__________
(1) تفسير القران العظيم: 3/ 384.
(2) نظم الدرر: 5/ 477.
(3) السمرة: شجرة صغيرة الورق قصير الشوك لها برقة صفراء. ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4985.

(1/348)


فماذا يفعل شخص مثله مطارد وحيد مجرد من كل قوى الأرض الظاهرة جميعاً لا يعلم إلى أين يتوجه، أي الطرق تخرجه من أرض الخطر، فقد سدت في وجهه كل طرق النجاة إلا طريقاً واحداً هو طريق الله، فاتجه إلى ربه داعياً أن يهديه سبيل النجاة فهداه الله جل وعلا إلى مدين، ومن هذا نتعلم درساً مهما هو أن على المسلم أن يلتجأ إلى الله في يسره وعسره.
ثانياً. على المسلم أن يقدم المساعدة للمحتاج ولو لم يطلبها، وهذا ما فعله سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع بنات سيدنا شعيب (- عليه السلام -) .

المطلب الثاني: زواج سيدنا موسى (- عليه السلام -) من ابنة شعيب (- عليه السلام -)
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((1))
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 25 - 28.

(1/349)


قال تعالى قبل هذه الآيات: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((1)) " ولما كان سماعهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب (- عليه السلام -) قال بانياً على ما تقديره: فذهبت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه بخبرهما وبإحسانه إليهما، فأمر بدعائه ليكافئه، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ} ، أي: بسبب قول الأب، وعلى الفور " ((2)) . فجاءت فاء التعقيب في قوله تعالى:
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} مشعرةً باستجابة الله له بأن ألهم شعيباً أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه ابنته ((3)) .
فنلاحظ مرة أخرى الإعجاز القرآني في استخدام الحروف في مواضعها بحيث تغني عن جمل كثيرة، ونلاحظ كذلك التناسب في موارد مجيء الحروف في الجمل القرآنية، ونرى كيف أن هذه الآية جاءت متناسقة متناسبة مع الآية التي سبقتها في كمال المعنى واكتماله.
تحليل الألفاظ
1. {اسْتِحْيَاءٍ} :
الحياء التوبة والحِشْمَة، وقد حَيَي منه حَيَاء واسْتحيا واسْتَحَى، حذفوا الياء الأخيرة كراهية التقاء الياءين، والأخيرتان تتعديان بحرف وبغير حرف يقولون: اسْتَحياء منك واسْتَحْياك، واسْتَحَى منك واسْتَحَاك قال ابن بري: شاهد الحياء بمعنى الاسْتحياء ((4)) . وقال الراغب الأصفهاني: الحياء انقباض النفس عن القبائح وتركها
((5)) .
2. {لِيَجْزِيَكَ} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24.
(2) نظم الدر: 5/ 475.
(3) ينظر التحرير والتنوير: 20/ 103.
(4) ينظر لسان العرب: مادة (حيي) 14/ 217.
(5) معجم مفردات ألفاظ القران: 140.

(1/350)


الجزاء المكافأة على الشيء جَزَاء به وعليه جَزَاء جَازَاه مُجَازَاة وجَزَاء. قال أبو الهيثم: الجزاء يكون ثواباً ويكون عقاباً ((1)) .
3. {حِجَجٍ} :
الحجّ: القصد حجّ إلينا فلان، أي: قَدِم. وحَجَّه يُحِجَّه حَجّاً قصده يقرا بفتح الحاء وكسرها والفتح الأصل. والحَجُّ اسم العمل والحَجّ والحِجّ ليس عند الكسائي بينها فرقان وغيره يقول: الحَجّ حَجّ البيت. والحِجّ عمل السُّنَّة. والحِجّة السَّنَة والجمع حِجَج ((2)) .
وقال ابن عاشور: الحِجَج جمع حِجَة بكسر الحاء، وهي السُّنَّة مشتقة من اسم الحَجّ، لأن الحَجّ يقع كل سنة وموسم الحَجّ يقع في آخر شهر من السنة العربية
((3)) .
القراءات الَقُرْآنيّة
1. {فَسَقَى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة.
2. {تَوَلَّى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((4)) .
3. {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا} :
قرأ ابن محيصن: (فجاءتهُ احْداهما) بحذف الهمزة على غير قياس كقولهم يا أبا فلان ((5)) .
4. {يَا أَبَتِ} :
قرأ ابن عامر (يا أبتَ) .
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وأبو جعفر (يا أَبَهْ) وقفاً ((6))
5. {أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى} :
__________
(1) ينظر لسان العرب: مادة (جزى) 14/ 143.
(2) لسان العرب: مادة (حجج) 2/ 277.
(3) التحرير والتنوير: 20/ 107.
(4) غيث النفع: ص 316. معجم القراءات القرآنية: 5/ 14.
(5) المحتسب: 2/150. البَحْر المُحِيْط: 7/114. الدُّرُّ المَصُون: 5/ 338.
(6) النشر في القراءات العشر: 2/ 131. التيسير في القراءات السبع. أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني. ت 444 هـ. تحقيق: أوتو برترزل. طبع دار الكتب العلمية. بيروت. 1996.: ص 127. إتحاف فضلاء البشر: ص 342.

(1/351)


روى عن أبي عمرو (أنكحك حْدى) بحذف همزة إحدى ((1)) .
6. {هَاتَيْنِ} :
قرأ ابن كثير (هَاتَّيْنِ) بتشديد النون ((2)) .
7. {سَتَجِدُنِي} :
قرأ نافع، وأبو جعفر: (سَتَجِدْنيَ) ((3)) .
8. {أَيَّمَا} :
قرأ أبو عمرو، والعباس، والحسن بسكون الباء (أَيْمَا) . وقرأ ابن مسعود (أيَّ الأجلين ما قضيت) بإقحام ما بين الأجلين وقضيت، فإن قلت: ما الفرق بين موقعي (ما) المزيدة في القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام، أي: زائدة في شياعها، وفي الشاذة تأكيد القضاء كأنه قال، أيّ: القضاء صممت على قضاءه وجردت عزيمتي له ((4)) .
9. {عُدْوَانَ} :
قرأ أبو حيوة، وابن قطيب: (عِدْوَان) ((5)) .
القضايا البلاغية
1. قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} :
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 115. مختصر في شواذ القُرْآن (كتاب القراءات الشاذة) من كتاب البديع. لابن خالويه. ت 370 هـ. تحقيق: برجستراسر. الطبعة الثانية. بيروت، لبنان 1986 م.: 112.
(2) النشر في القراءات العشر 1/ 312-313. التيسير في القراءات السبع: ص 95. الدر المصون: 5/ 339.
(3) التيسير في القراءات السبع: ص 172. إتحاف فضلاء البشر: ص 342. معجم القراءات القرآنية 5/ 16
(4) الكشاف: 3/ 174. البحر المحيط: 7/ 115.
(5) البحر المحيط 7/ 115.

(1/352)


هي من الآيات الصورية التي تصور لنا امرأة كلها حياء وعفة وحشمة استدللنا عليه بقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، فذكر الفعل المضارع
(تمشي) ليبني عليه قوله: {عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، وإلا فان فعل (جاءته) مغن عن ذكر (تمشي) ، واستخدم (على) للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف، والمعنى أنها مستحية في مشيها، أي: تمشي غير متبخترة ولا متثنية، ولا مظهرة زينة، ولكنها مبالغة في الحياء و (الاستحياء) مبالغة في الحياء ((1)) .
" فان المتبع لقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} لا يجد له نظيراً في كافة التعبيرات الإنشائية البلاغية، وما ذلك إلا لأن استعارة المشي الحقيقي لمجازية الاستحياء مشعرة بالتصوير البياني الخاص بالصورة الفنية بكل أوجهها من حقائق السير إلى مجازات الحياء بأنواعه فالآية قمة من قمم الإعجاز التصويري القرآني "
((2)) .
2.الكلام الجامع المانع:
__________
(1) التحرير والتنوير: 20/ 103
(2) الإعجاز التمثيلي في آيات الوصف: 424

(1/353)


في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} في هذه الآية فنون عديدة، فلهذا جعلها علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشؤونك وهما الكفاية والأمانة، فقد فرغ بالك وتم مرادك وأصبح هذا القول مثلاً يتداوله الناس على مر العصور، وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول استأجره لقوته وأمانته. وفي التعميم الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص، وأبقى للتحشم والتصون ولا سيما بعد أن فهمت غرض أبيها وهو تزويجها منه، وهذا الإبهام من ابنة شعيب (- عليه السلام -) قد سلكته زليخا مع يوسف (- عليه السلام -) ، ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والمستعمل حيث قالت لسيدها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ((1)) ، وهي تعني ما جزاء يوسف بما أرادني من السوء إلا أن تسجنه، أو تعذبه عذاباً أليماً، ولكنها أوهمت زوجها الحياء أن تنطق بالعصمة منسوباً إليها الخنا إيذاناً بان هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر يمنعها من مراودة يوسف بطريقة الأحرى والأولى. إذاً هذه الآية قد حوت الإيجاز والمثل والتعميم والإبهام ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 25.
(2) ينظر الكشاف: 3/ 172، والانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. نَاصِر الدِّيْن أحمد بن مُحَمَّد بن المنير الإسكندري المالكي. ت 683 هـ. دار الكِتَاب العربي. بيروت. لبنان. (د. ت.) .: 3/ 172.

(1/354)


3.الإيجاز ((1)) في قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} إيجاز بليغ:
فان معنى شق عليه الأمر مترجح بين اليأس والرجاء، وفيه إيماء إلى أولئك المعاسرين الذين يكلفون عمالهم أعمالاً تربو على طوقهم وتتجاوز حدود قدرتهم المعهودة، وعلى هذا درجت الشرائع في حسن المعاملة والأخذ بالأسهل ((2)) .
المعنى العام
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}
ذكر الطبري أنه جاءت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما تمشي على استحياء من موسى وقد سترت وجهها بثوبها، وعن سيدنا عمر بن الخطاب (- رضي الله عنه -) قال:
((مستترة بكم درعها، أو بكم قميصها)) ((3)) .
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} قال الآلوسي: " وأسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة، وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى. فقام معها موسى (- عليه السلام -) ، فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف جسدك " ((4)) .
{فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
قال ابن عطية: " فوصل موسى (- عليه السلام -) إلى داعيه، فقص إليه أمره من أوله إلى أخره، فآنسه بقوله: لا تخف من القوم الظالمين، وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون " ((5)) .
شبه وردها
__________
(1) الإيجاز: أن يكون اللفظ أقل من المعنى مع الوفاء به، وإلا كان إخلالاً يفسد الكلام. معجم المصطلحات البلاغية: 1 /344.
(2) إعراب القران وبيانه وصرفه: 5/ 310.
(3) جامع البيان: 10/ 58.
(4) روح المعاني: 20 /59.
(5) المحرر الوجيز: 12/ 160.

(1/355)


ذكر الزمخشري، والرازي ((1)) مجموعة افتراضات لشبه أجابا عنها مدارهما على قول ابنة الشيخ الكبير: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} .
الشبهة الأولى:
فان قيل: كيف ساغ لموسى (- عليه السلام -) أن يعمل بقول امرأة، وأن يمشي معها وهي أجنبية؟
الجواب عنها: أما العمل بقول امرأة، فكما يعمل بقول الواحد حراً كان أو عبداً، ذكراً كان أو أنثى في الأخبار، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه. وأما مماشاته امرأة أجنبية فلا باس بها في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع.
الشبهة الثانية:
إنه سقى أغنامها تقرباً إلى الله تعالى، فكيف يلق به أخذ الأجرة عليه، فان ذلك غير جائز في المروءة ولا في الشريعة؟
الجواب: إن المرأة وإن قالت ذلك، فَلعَلَّ موسى (- عليه السلام -) ما ذهب إليهم طلباً للأجرة، بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ. وروي أنها لما قالت: ليجزيك كره ذلك. ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال: (إنا أهل البيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً) . حتَّى قال شعيب هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا. وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ به إلى حيث ما كان يطيق تحمله، فقبل ذلك على سبيل الاضطرار.
الشبه الثالثة:
كيف يليق بشعيب النبي (- عليه السلام -) أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفاً أو فاسقاً؟
الجواب: لعله (- عليه السلام -) كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها.
__________
(1) الكشاف: 3/171. مفاتيح الغيب: 12 /241.

(1/356)


والذي يظهرا من خلال قراءة متفحصة للآية أن المسافة كانت قصيرة جداً بدليل سرعة رجوعها إلى سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، فالذي يبدو أنهم كانوا ساكنين بقرب بئر الماء على عادة أهل البادية بالتجمع قرب مصادر المياه بحيث يرى ابنته حينما ذهبت لدعوة موسى، فهي قريبة منه، فلا خوف عليها، وإنه حسن الظن به بسبب مدح بناته له لأنه سقى لهما، فهو يحمل صفة المروءة والمساعدة.
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}
قال أبو حيان: إن القائلة هي التي ذهبت إلى موسى والتي تزوجها فيما بعد
((1)) . وجاء لفظ استأجرت بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف.
وعن ابن مسعود (- رضي الله عنه -) قال: " أفرس الناس ثلاثة: بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا} ((2)) ، وأبو بكر في عمر.
فقد عرفت قوته من رفعه الصخرة ولا يطيقه إلا عشر رجال. وقيل: أكثر، وأمانته من قوله لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق ((3)) .

{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ}
يفهم من قوله: (هاتين) على أنه كان له غيرهما، وأراد بهاتين الحاضرتين اللتين سقيت لهما ليتأملها، فينظر من يقع اختياره عليها منها ليعقد له عليها ((4)) . وجعل لموسى اختيار إحداهما لأنه قد عرفها، وكانت التي اختارها موسى (صفّورة) وهي الصغرى وإنما اختارها دون أختها لأنها التي عرف أخلاقها باستحيائها وكلامها، فكان ذلك ترجيحاً لها عنده ((5)) .
__________
(1) الكشاف: 3/172.
(2) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 21.
(3) ينظر المحرر الوجيز: 12/16. الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6/405.
(4) ينظر المحرر الوجيز: 12/160. روح المعاني: 20/67.
(5) التحرير والتنوير: 20/106.

(1/357)


{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ}
أي: " قال أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى: إني أريد أن أزوجك إحدى ابنتيّ على أن تكون أجيراً لي ثماني سنوات ترعى لنا فيها غنمي، فإن أتممت الثماني السنين التي شرطتها عليك فجعلتها عشراً فإحسان من عندك، وما احب أن أشاقك بمناقشة، أو مراعاة أوقات، أو أكلفك ما فيه مشقة، وإنك ستجدني إن شاء الله ممن تحسن صحبتهم ويوفون بما تريد من خير لك ولنا " ((1)) .
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ}
أي: " ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه، أيما الأجلين أطولهما أو أقصرهما وفيتك إياه، فلا يتعدى عليّ بطلب الزيادة، فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على ثماني، أو فلا أكون معتدياً بترك الزيادة عليه كقولك: لا إثم علي، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي ((2)) . والله على ما نقول وكيل حافظ يراقبنا ويعلم ما تعاقدنا عليه " ((3)) .
ما يستفاد من النصّ
يمكن أن نستنتج المعاني الآتية من الآيات القرآنية الخاصة بزواج سيدنا موسى:
فقد رأينا الحياء والعفة المتمثلتين في ابنة سيدنا شعيب (- عليه السلام -) وهو ما ينبغي لكل امرأة أن لا ترفع عنها هذه النعمة العظيمة التي يريد أعداء الله أن ينتزعوه عنها بدعوى الثقافة والانفتاح.
__________
(1) تفسير المراغي: 20/52.
(2) أنوار التنزيل: 2/214.
(3) تفسير الكريم الرحمن: 4/ 14.

(1/358)


ودلت كذلك على جانب عظيم من المروءة المتمثل بمساعدة سيدنا موسى (- عليه السلام -) في السقي لبنات شعيب، وعدم أخذ الأجرة على ما قدمه من مساعدة وابتغاء بهذا العمل وجه الله جل وعلا.
ودلت الآيات كذلك على ضرورة أن يجتمع في العمل شرطان أساسيان وهما: القوة، والأمانة. فلا تصلح القوة بلا أمانة، ولا تنفع الأمانة بلا قوة.
ودلت كذلك على جملة من المسائل الفقهية وهذا ما سنناقشه في مبحث خاص.

المبحث الثاني: المسائل الفقهية المتعلقة بهجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين
المطلب الأول: المسائل المتعلقة بزواج سيدنا موسى (- عليه السلام -) من ابنة شعيب (- عليه السلام -)
أولاً ـ تعريفه وألفاظه ومسائله:
1 ـ تعريف النكاح في اللغة:
" نكح فلان امرأة ينكحها نكاحاً إذا تزوجها ونَكَحها ينكِحُها إذا تزوجها. أصل النكاح في كلام العرب الوطء. وقيل: للتزويج وطأً، لأنه سبب النكاح وعقد التزويج يسمى النكاح " ((1)) .
وذكر الراغب الأصفهاني " أصل النّكاح للعقد، ثُمَّ أُستعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع، ثُمَّ أُستعير للعقد لان أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره " ((2)) . وذكر الشافعي " أن اسم النكاح يتناول العقد فقط " ((3)) .
وفي الحقيقة أن لفظة النكاح جاءت في القران الكريم للعقد وللوطء
أما التي للعقد فقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوف} ((4)) ، فالمقصود اعقدوا عليهنَّ بإذن أهلهن آتوهنَّ مهورهنّ. فلا يمكن أن يقصد بالنكاح في هذه الآية الوطء، لأنه من غير المعقول أن يقول لوالد المرأة ائذن لي أن أطأ ابنتك أو موكلتك.
__________
(1) لسان العرب: مادة (نكح) 2/625 ـ 626.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 526.
(3) المبسوط. شمس الأئمة مُحَمَّد بن أحمد بن أَبِي سَهْل السَّرَخْسي الحنفي أبو بَكْر. ت 483 هـ. ط2. دار المعرفة. بيروت. 1406 هـ.: 4/192.
(4) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 25.

(1/359)


وقد وردت في القران الكريم لفظة النكاح بمعنى الوطء قال تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ((1)) ، فقد أخرج البخاري في جامعه الصحيح: أن رفاعة القرظي تزوج امرأة، ثُمَّ طلقها فتزوجت أخر، فأتت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثلُ هدبةٍ، فقال النبي
(- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا حتى تتذوقي عويسلته ويذوق عويسلتك)) ((2)) ، إن المقصود بذوق
(العويسلة) كناية عن المجامعة أي الوطء ((3)) .
2 ـ النكاح في الاصطلاح الشرعي:
(عقد يفيد ملك المتعة قصداً) ، أي: حلّ استمتاع الرجل من المرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي ((4)) .
عقد يتضمن إباحة وطء ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 230.
(2) صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 8/180.
(3) المصدر نفسه: 8 /180.
(4) حَاشِيَة الطَّحْطَاوي أحمد بن مُحَمَّد بن إسماعيل الحَنَفي. ت 1231 هـ. على الدُّرُّ المختار لمحمد بن عَلِيّ الملَقَّب علاء الدِّيْن الحَصْكَفي الدمشقي. ت 1088 هـ. والدُّرُّ المختار هو شرح تنوير الأبصار لمحمد بن عَبْد الله بن أحمد الخَطيب التُّمُرْتَاشي الحَنَفي الغَزِّي. ت 1400 هـ. دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت سنة 1975. وهي طبعة مصورة على المطبوعة بدار الطباعة العامرة ببولاق مصر سنة 1254 هـ.: 2/3.
(5) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج. شمس الدِّيْن مُحَمَّد بن أَبِي العباس شهاب الدِّيْن أحمد بن حمزة الرَّمْلي المُتَوَّفَىَ المَصِري الأنصاري. الشهير بالشافعي الصغير. ت 1004 هـ. مَكْتَبَة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1938 م.: 6/179.

(1/360)


وعرفه بعض الفقهاء بأنه: عقد يفيد حلّ استمتاع كل من العاقدين بالآخر على الوجه المشروع ((1)) .
عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته ((2)) .
ثانياً ـ ألفاظ عقد النكاح (الإيجاب ـ القبول)
لا خلاف بين الفقهاء في أن الإيجاب والقبول في عقد النكاح يصحّ أن يكونا بلفظ التزويج، أو بلفظ الانكاح، وينعقد بهما لورود هذين اللفظيين في القران الكريم:
أولاً ـ بلفظ الزواج، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} ((3)) .
ثانياً ـ بلفظ النكاح، قال تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} ((4)) .
__________
(1) عقد الزواج وآثاره. مُحَمَّد أبو زهرة. مطبعة مخيمر بالقاهرة. 1958 م.: 37. المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية. د. عبد الكريم زيدان. الطبعة الأولى. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1993 م.: 6/10.
(2) مُغْني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. شمس الدِّيْن مُحَمَّد بن أحمد الشَّرْبِيْني القاهري الشافعي الخَطِيب. ت 977 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 3/123.
(3) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 37.
(4) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 22.

(1/361)


وسواء اتفق العاقدان في استعمال واحد من هذين اللفظين، أو اختلفا مثل أن يقول ولي الأمر للخاطب: زوجتك ابنتي هذه، فيقول الخاطب: قبلت النكاح، أو قبلت هذا التزويج ((1)) . وقد اختلف الفقهاء في ألفاظ عقد النكاح في غير لفظي التزويج والانكاح، وقد استدل من قال بأن النكاح موقوف على لفظ التزويج والانكاح بقوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} ، وسنعرض موجزاً لأقوال الفقهاء في ذلك مع أدلتهم:
القول الأول:
لا يصح الإيجاب والقبول بغير هذين اللفظين (التزويج والانكاح) وبهذا قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والزهري، وربيعة، والشافعي وهو مذهب الحنابلة (2)) .
الدليل:
قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((اتقوا الله في النساء، فأنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) ((3)) ، وكلمة الله هي التزويج، أو الانكاح فإنه لم يذكر في القرآن سواهما، فوجب الوقوف معهما تعبداً واحتياطاً.
__________
(1) المُغْني. مُوَفَّق الدِّيْن أبو مُحَمَّد عَبْد الله بن أحمد بم مُحَمَّد بن قُدَامة المَقْدِسي. ت 620 هـ. الناشر: دار الكِتَاب العربي ببيروت سنة 1972.: 7/3. مغني المحتاج 3/139.
(2) المغني (ابن قدامة) : 7/78. نهاية المحتاج: 6/207. مغني المحتاج: 3/140.
(3) صحيح مسلم: باب حجة النبي (- صلى الله عليه وسلم -) 2 /889 رقم (1218) من حديث جابر (- رضي الله عنه -) .

(1/362)


أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ((1)) ، فذكر الهبة في الزواج هو خاص بالرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، والهبة تجمع أن ينعقد له عليها عقد النكاح بأن تهب نفسها له بلا مهر وفي هذا دلالة على أن لا يجوز نكاح إلا باسم النكاح، أو التزويج ولا يقع بكلام غيرهما وإن كانت معه نية التزويج ((2)) .
القول الثاني:
ذهبت الظاهرية إلى جواز الإيجاب والقبول في عقد النكاح بلفظ التمليك إضافة إلى لفظي التزويج والانكاح، لورود لفظ التمليك في قوله: (- صلى الله عليه وسلم -) إنه زوج امرأة فقال: ((ملكتكها بما معك من القرآن)) ((3)) .
القول الثالث:
__________
(1) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 50.
(2) الأم. مُحَمَّد بن إِدْرِيْس الشافعي أبو عَبْد الله. (150 ـ 204) . برواية الربيع بن سليمان المرادي. الطبعة الأولى. شركة الطباعة الفنية المتحدة. القاهرة. 1381 هـ.: 5/37.
(3) المحلى. عَلِيّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو مُحَمَّد. (383 ـ 456) . تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي. دار الآفاق الجديدة. بيروت. (د. ت) .: 9/464. وينظر المفصل في أحكام المرأة: 6/83.

(1/363)


ينعقد عقد النكاح بلفظ النكاح والزواج وبكل ما يفيد التملك من الألفاظ مثل لفظة (البيع. الهبة. الصدقة. والتمليك) إذا شهد عليه، قال به أبو حنيفة، وأصحابه، والنوري، والحسن بن حىّ ((1)) . وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، فقد انعقد نكاح الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) بلفظ الهبة، فينعقد به نكاح أُمته. ولأن الطلاق يقع بالصريح والكناية قالوا، فكذلك النكاح.
القول الرابع:
عند المالكية الألفاظ من جهة انعقاد النكاح بها هي كالآتي:
الألفاظ تصلح للإيجاب والقبول وينعقد بها النكاح إن ذكر المهر، وهذه الألفاظ هي الانكاح والتزويج.
يصح بها الإيجاب والقبول، وينعقد بها النكاح إن ذكر المهر وهذه الألفاظ لفظ (وهبت) .
ما في صحة الإيجاب والقبول به خلاف، وهو كلفظ يقضي البقاء مدى الحياة كبعت، أو ملكت، فبعض المالكية جعلها مثل وهبت وبعضهم لم يجعلها بمنزلة وهبت، فلا ينعقد بها النكاح.
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. الكاساني. علاء الدِّيْن أبو بكر مسعود. ت 587 هـ. تقديم أحمد مختار عثمان. الناشر: زكريا عَلِيّ يوسف. مطبعة العاصمة. القاهرة. 1928 م.: 2/229. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4988.
(2) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 50.

(1/364)


ما لا ينعقد بها النكاح مطلقاً ولا يصحّ أن يعبر به عن الإيجاب، أو القبول، وهو كلفظ لا يقضي البقاء مدى الحياة كلفظ الإجارة والعارية ((1)) .
القول الراجح لاشك إن الأولى الالتزام بألفاظ النكاح الصريحة كلفظ التزويج والانكاح وذلك لخطورة عقد الزواج ومنعاً للمتلاعبين. ولكن إذا كان العرف في مدينة من المدن يستعمل لفظة معينة لديهم، وتدل هذه على إنشاء عقد الزواج على التأييد ووجَود القرائن كالشهود والمهر فلا مانع من ذلك.
ثالثاً ـ مسائله:
المسألة الأولى - الإشهاد على عقد الزواج
قال تعالى حكاية عن أحد المتعاقدين: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ، قيل: هو قول موسى. وقيل: هو قول والد المرأة ((2)) . والمهم أنه قد اكتفى النبيان الصالحان ـ صلوات الله عليهماـ في الإشهاد عليها بالله ولم يشهدا أحد من الخلق.
وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح
القول الأول:
وهو قول جمهور الفقهاء من الشافعية، والحنفية، والحنابلة قالوا باشتراط الإشهاد لصحة النكاح، وإلا كان فاسداً. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وقول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، وقتادة، والنووي، والأوزاعي ((3)) .

القول الثاني:
__________
(1) بُلْغَة السالك لأقرب المسالك. لأحمد بن مُحَمَّد الصَّاوِي المالكي الخَلْوَتي. ت 1241 هـ. خرج أحاديثه وفهرسه وقرر عليه بالمقارنة بالقانون الحديث: الدكتور مصطفى كمال وصفي. مطبعة دار المعارف. مصر. ط1. 1972 ـ 1974 م.: 1/380. المفصل في أحكام المرأة: 6/84.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4996.
(3) الأم: للشافعي. المبسوط (السرخسي) : 5/30. بدائع الصنائع: 5/252.

(1/365)


ونقل الكاساني عن مالك قوله: " وقال مالك: الشهادة ليست بشرط وإنما الشرط هو الإعلان حتى لو عقد النكاح وشرط الإعلان جاز، وإن لم يحضر شهود، ولو حضر شهود وشرط عليهم الكتمان لم يجز " ((1)) .
أدلة القول الأول:
أخرج الإمام الترمذي في جامعه عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) إنه قال: ((البغايا: اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة)) ((2)) ، والتسمية بالبغايا تشديد والمراد بالبينة الوليّ والشهود.
أخرج الإمام البيهقي عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)) ((3)) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 2/252. وينظر المفصل في أحكام المرأة: 6/110.
(2) تُحْفًةُ الأَحْوَذِيّ بشرح جامع التُّرْمِذيّ. مُحَمَّد عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الرحيم المباركفوري أبو العلا. (1283 ـ 1353) . دار الكتب العلمية. بيروت. (د. ت) .: 4/234.
(3) سُنَن البَيْهَقي الكُبرى. أحمد بن الحسين بن عَلِيّ بن موسى البَيْهَقي أبو بكْر. (384 ـ 458) . تحقيق: مُحَمَّد عَبْد القادر عطا. مَكْتَبَة دار الباز. مكة المكرمة. 1414 هـ ـ 1994 م: 7/125.

(1/366)


أخرج الإمام مالك: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال: ((هذا نكاح السرّ ولا أجيزه)) ((1)) .
أدلة المالكية:
إنه عقد معاوضة، فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح: الدُّفُّ.
فقد روي عن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) أنه قال: ((أعلنوا النكاح ولو بالدّف)) ((2)) ، وإن اشترط الإعلان لنفي التهم، لأن الزنا لا يكون إلا بالسر فالحلال لا يكون إلا ضده، وذلك بالإعلان عنه ((3)) .
المسألة الثانية - الولاية في عقد الزواج
الولاية في الاصطلاح الفقهي
تعريف الولاية في اللغة:
__________
(1) الموطأ. الإمام مالك بن أنس أبو عَبْد الله الأصبحي. (93 ـ 179) . تحقيق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. دار إحياء التراث العربي. مصر. (د. ت) .: 2 /535. مجمع الزوائد: 4 /285 وقال: رواه الطبراني في الروض الداني (المعجم الصغير) . سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني أبو القَاسِم. (260 ـ 360) . تحقيق: مُحَمَّد شكور محمود الحاج أمرير. المكتب الإسلامي , دار عمار. بيروت , عمان. ط2. 1405 هـ ـ 1985 م. عن مُحَمَّد بن عبد الصمد بن أبي الجراح لم يتكلم فيه أحد وبقية رجاله ثقات.
(2) صحيح ابن حبان: 9 / 374. المستدرك على الصحيحين: 2 /200 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. كلاهما دون لفظ (بالدف) . وهو بهذه الزيادة في البحر الزخار المعروف بمسند البزار. أحمد بن عمرو بن عَبْد الخالق البزار أبو بكر. (215 ـ 292) . تحقيق: د. محفوظ الرَّحْمَن زين الله. مؤسسة عُلُوْم القُرْآن ـ مَكْتَبَة العُلُوْم والحكم. بيروت ـ المدينة. ط1. 1409 هـ.: 6 /171 وقال: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن ابن الزبير إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
(3) المبسوط (السرخسي) : 5/31.

(1/367)


في أسماء الله تعالى: الولي الناصر. قيل: الوِلاية بالكسر السلطان والوَلاية الوِلاية النَصرة. قيل: هم عليّ وَِلاية، أي: مجتمعون في النّصرة، قال سيبويه: الوَلاية بالفتح المصدر، والوِلاية بالكسر الاسم مثل الأمارة لأنه اسم لما توليه وقمت به، فإذا أرادوا المصدر فتحوا. الوَليّ: ولي اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته، وولي المرأة الذي يلي عقد النكاح دونه ((1)) .
تعريف الولاية في الاصطلاح الشرعي:
" تنفيذ القول على الغير " ((2)) .
وقبل الخوض في أحكام الولاية علينا أن نبين:
أسباب الولاية وهي القرابة. الملك. الولاء. الإمامة. الوصية ((3)) مع اختلاف في بعضها وليس هنا مقام تفصيله.
أنواع الولاية "ولاية الإجبار. ولاية الندب والاستحباب. ولاية الشركة" (4) .
شروط الولي " العقل. البلوغ. الحرية. اتحاد الدين. العدالة. الذكورة. الرشد) ((5)) .
الولاية على تزويج البالغة العاقلة
تعريف البلوغُ:
البلوغُ والبلاغُ الانتهاء إلى أقصى المقْصِد والمنُتهى مكاناً كان، أو زَماناً، أو أمراً من الأمور المقدرة ((6)) .
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (ولي) 5 /407.
(2) حاشية الطحاوي: 2/6.
(3) بدائع الصنائع: 2/237. المفصل في أحكام المرأة: 6/341 – 342.
(4) بدائع الصنائع: 2/241 - 247. شرح فتح القدير. كمال الدِّيْن مُحَمَّد بن عَبْد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام. ت 681 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 2/393.
(5) المغني (ابن قدامة) : 7/21. بدائع الصنائع: 2/239. مغني المحتاج: 3/154.
(6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 58.

(1/368)


وعلامات البلوغ في الأنثى هي الحيض. الاحتلام ((1)) . وأدنى سن لظهور علامات بلوغ الأنثى من العمر تسع سنوات. وقال الشافعية: استكمال تسع سنين قمرية. بالنسبة للذكر أدنى سن لاحتلام الذكر أثنتا عشرة سنة ((2)) .
فسنستعرض أقوال الفقهاء في مسألة تزويج الأب ابنته البالغة، وهل يستأمرها؟ مع أدلتهم باختصار وبما يفي بغرض التفسير التحليلي فقط، فقد استدل قسم من العلماء بقوله تعالى: {أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ} على أن النكاح للولي ولاحظ للمرأة فيه، لأن صالح مدين تولاه وبه قال فقهاء الأمصار وخالف في ذلك الحنفية. واستدل الأمام مالك على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير إستئمار، وبقول مالك قال الشافعي وكثير من العلماء، وخالف بذلك أبو حنيفة ((3)) .
سنتعرف على آراء العلماء في هذه المسالة مع الأدلة وبشكل مختصر:
أولاً ـ مذهب الحنفية:
__________
(1) المبسوط (السرخسي) : 9/184. بدائع الصنائع: 7/171.
(2) المبسوط (السرخسي) : 9/184. مغني المحتاج: 2/167.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4987.

(1/369)


قالوا: لا يجوز للولي أياً كان، أو غيره إجبار البالغة العاقلة البكر على النكاح، لأن علة ولاية الإجبار في النكاح هي الصغر، وقد زالت ببلوغها ((1)) ، ومن حقها أن تزِّوج نفسها بنفسها دون الحاجة إلى إذن الوليّ، ولا إلى أن يتولى عقد نكاحها نيابة عنها. ولكن للولي حق الاعتراض على زواجها بغير كفء، أو بأقل من مهر المثل إذا كان هذا الولي من عصباتها ((2)) .
أدلة الحنفية:
1. من القرآن:
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} ((3)) .
وجوه الدلالة
أـ إضافة عقد النكاح إليها من غير ذكر الوليّ في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} .
ب ـ إضافة المراجعة إليها من غير ذكر الوليّ في قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} ((4)) .
2. من السنة:
__________
(1) الهِداية شرح بداية المُبتدي. برهان الدِّيْن عَلِيّ بن أَبِي بكر بن عَبْد الجليل المَرْغِيْنَاني الفَرْغَاني أبو الحسين. (511 ـ 593) . المكتبة الإسلامية. بيروت (د. ت) .: 1/196. حاشية الطحاوي على الدر المختار: 2/26.
(2) حاشية الطحاوي على الدر المختار: 2/26. المبسوط (السرخسي) : 5/10 ـ 11.
(3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 230.
(4) أحكام القُرْآن. أحمد بن عَلِيّ الرَّازِي الجَصَّاص أبو بكر. (305 ـ 370) . تحقيق: مُحَمَّد الصادق قمحاوي. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1405 هـ.: 1 /400.

(1/370)


روت خنساء بنت خذام الأنصارية: ((أنها أتت رسول الله فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهة فخيّرها النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بين فسخ النكاح وبين بقائه وعدم
فسخه)) ((1)) ((2)) .
من المعقول أن البالغة العاقلة البكر في تزويج نفسها بنفسها إنما تتصرف في خالص حقها، وهي من أهل التصرف لكونها بالغة عاقلة، ولهذا كان لها التصرف في مالها فكذا التصرف بزواجها ((3)) .
3. الإجماع:
اتفق الفقهاء جميعاً على جواز قيام الرجل بعقد النكاح لنفسه إذا كان جائز التصرف بماله، والمرأة البالغة العاقلة لما كانت جائزة التصرف بمالها وجب جواز عقد نكاحها بنفسها ((4)) .
ثانياً ـ مذهب الشافعية والمالكية:
قال الشافعي: لا تزوج المرأة نفسها، أي لا تملك مباشرة عقد النكاح بحال لا بأذن من وليّها ولا من غيره. سواء كانت هي الموجبة في عقد النكاح، أو القابلة له. وإن الذي يباشر عقد النكاح لها هو وليها وليست هي ((5)) .
وللأب ولاية الإجبار على ابنته البالغة العاقلة البكر فله أن يزوجها بدون حاجة إلى إذنها ولا توقف على هذا الإذن ((6)) .
الأدلة:
1. من القرآن:
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِي: باب إذا زوج ابنته وهي كارهة 5 /1974 رقم (4845) .
(2) الهداية: 1/196.
(3) أحكام القرآن (الجَصَّاص) : 1/402.
(4) أحكام القرآن (الجَصَّاص) : 1 /402.
(5) الأم: 5/12 ـ 13. نهاية المحتاج: 6/ 224. مغني المحتاج: 3/174. بدية المُجتهِد ونهاية المقتصد. مُحَمَّد بن أحمد بن مُحَمَّد بن رشد القرطبي بن الإِمَام مُحَمَّد بن أحمد بن رُشْد القُرْطُبي. الملقب بابن رُشْد الحَفيد أَبِي الوليد. ت 595 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 2/5.
(6) الأم: 5/19. مغني المحتاج: 3/149. نهاية المحتاج: 6/224.

(1/371)


قال تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ((1)) دليل على اعتبار الوليّ في عقد النكاح، وأنه هو الذي يتولى عقد لموليّته. ولو كان الحقُّ لها في عقد النكاح لنفسها لما كان لعضله معنى.
2. من السنة النبوية:
قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا نكاح إلا بولي)) ((2)) .
وقوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها
باطلْ)) ((3)) .
قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((الثيب أحق بنفسها من وليِّها، والبكر يزوجها
أبوها)) ((4)) .
3. المعقول:
لا يليق بمحاسن العادات دخول المرأة في أمر النكاح ولا اشتراكها مع الرجل في إنشاء عقد النكاح.
وقال الشافعي: يستحب للولي المجبر (الأب) أن يستأذن ابنته البالغة العاقلة البكر في تزويجها قبل أن يعقد لها عقد النكاح تطييباً لخاطرها ((5)) .
ثالثاً. الحنابلة:
فهم مع الشافعية والأحناف في مسألة أن المرأة البالغة البكر لا تملك تزويج نفسها، أما في مسالة هل للأب ولاية الإجبار على ابنته البالغة العاقلة البكر فيزوجها جبراً دون توقف على إذنها.
قال أبن قدامة الحنبلي عن أحمد روايتان:
الرواية الأولى: له إجبارها على النكاح وتزويجها بغير إذنها كالصغيرة.
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 232.
(2) صَحِيْح البُخَارِي: باب من قال لا نكاح إلا بولي 5/1970. صحيح ابن حبان: 9 /386 من حديث عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ.
(3) صحيح ابن حبان: 9/ 384. المستدرك على الصحيحين: 2 /182 من حديث عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(4) صحيح مسلم: باب استئذان الثيب في النكاح 2/ 1037 رقم (1421) من حديث ابْن عَبَّاس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ.
(5) ينظر المفصل في أحكام المرأة: 6/ 344.

(1/372)


الرواية الثانية: ليس له ذلك واختارها أبو بكر وهو مذهب الأوزاعي، والنوري ((1)) .
والدليل على الرواية الأخيرة ما روي عن ابن عباس: ((أن جارية بكراً أتت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهة فخَّيرها النبي (- صلى الله عليه وسلم -)) ) ((2)) ، ولأنها جائزة التصرف في مالها فلم يجز إجبارها على الزواج كالثيب والرجل.
المسألة الثالثة - تعين الزوجة
ذكر القرطبي ـ رحمه الله ـ في قوله: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} ما يدل على أنه عرض لا عقد، لأنه لو كان عقداً لعين المعقود عليها له لأن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح، لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح.
__________
(1) المغني (ابن قدامة) : 7/40.
(2) . سُليمان بن الأشعث السِّجِسْتَاني الأزدي أبو داود. ت 275 هـ. تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. دار الفكر للطباعة والنشر. (د. ت) .: 2 /232 رقم (2096) . السنن الكبرى (البيهقي) : 7 /117 رقم (13447) وقال البيهقي: فهذا حديث أخطأ فيه جرير بن حازم على أيوب السختياني والمحفوظ عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.

(1/373)


وذكر القرطبي أنه إنما عرض الأمر مجملاً (أي والد البنتين) ، ثُمَّ عين بعد ذلك وقد قيل: إنه زوّجه صفوريا وهي الصغرى، وهي التي جاءت خلفه القائلة: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} . وقيل: إن الحكمة في تزويجه الصغرى من قبل الكبرى إنه توقع أن يميل إليها لأنه رآها عند البئر وما شاهده في إقباله إلى أبيها معها فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره ((1)) .
قال الشافعي بهذا الخصوص: " لا يكون التزويج إلا لامرأة بعينها " ((2)) .
المسألة الرابعة - المهر
تعريف المهر لغة واصطلاحاً:
1. المهر في اللغة:
المهر: الصداق، وقد مهر المرأة بمهَرها ويمهُرها مهراً وأمهرتها زوجتها غيري على مهر ((3)) .
2. المهر في الاصطلاح:
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4988. منتهى المرام في شرح آيات الأحكام. عبد السلام مُحَمَّد بن الحسين بن الإمام القاسم بن مُحَمَّد. الدار اليمنية للنشر والتوزيع. الطبعة الثانية. 1986 م.: 426.
(2) الأم: 5/38.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (مهر) 5/184.

(1/374)


وهو الصداق، وهو اسم لما يجب على الرجل للنساء في النكاح والوطء ((1)) . وللمهر أسماء: الصداق. الصدقة. النِحلة. الفريضة. والأجر. الطول. العلائق. العقر. وزاد بعضهم اسم النكاح لقوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} ((2)) ((3)) .
أما الدليل على مشروعيته فقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ((4)) .
وهناك عدة تساؤلات فيما يخص المهر وبخصوص زواج سيدنا موسى مع صالح مدين، وهي:
أولا ـ هل تكون المنفعة مهراً؟
قال الجمهور: تصح تسمية المنفعة مهراً في عقد النكاح كسكن الدار، أو منفعة عمل يقوم به حرّاً، أو عبد ((5)) ، فالقاعدة عندهم كلّ ما جاز ثمناً في البيع، أو أجرة في الإجارة من العين والدين والمال المؤجل والقليل والكثير ومنافع الحر والعبد وغيرها جاز أن تكون صداقاً (أي مهراً) ((6)) .
__________
(1) ينظر حَاشِيَة الدسوقي على الشرح الكبير. مُحَمَّد بن أحمد بن عَرَفة الدُّسُوقي المالكي. ت 1230 هـ. تحقيق: مُحَمَّد عليش. دار الفكر. بيروت. (د. ت) .: 2 /293. كشاف القناع: 5 /128. حَاشِيَة رَدّ المحتار على الدُّرُّ المُختار شرح تَنْوير الأبصار. رد المحتار. السيد مُحَمَّد أمين عابِدِيْن بن السيد عُمَر عابِدِيْن بن عَبْد العزيز الدَّمَشْقي الحنفي. ت 1252 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. ط2. 1386 هـ.: 2 /329
(2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 33.
(3) المغني (ابن قدامة) : 7/209. مغني المحتاج: 3/220.
(4) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 4.
(5) المحلى: 9 /603.المغني (ابن قدامة) : 7/212. مغني المحتاج: 3/220.
(6) المغني (ابن قدامة) : 7/212. ينظر المفصل في أحكام المرأة: 7/54 ـ 55.

(1/375)


ويترتب على ذلك أنه يجوز أن يكون المهر عملاً يقوم به الزوج حراً كان أو عبداً فيه منفعة لزوجته سواء كان خدمة معينة لها كخدمة سنة كذلك لو جعل مهرها أن يبني دارها، أو يخيط ثوباً لها، أو يرعى غنمها مدة معينة ((1)) . وفيما يأتي تفصيل آراء العلماء في ذلك:
الشافعية:
قال الشافعي: " الصداق ثمن من الأثمان، فكل ما يصلح أن يكون ثمناً صلح أن يكون صداقاً، وذلك مثل أن تنكح المرأة الرجل على أن يخيط لها الثوب، ويبني لها البيت، ويذهب بها البلد، ويعمل لها العمل، فإن قال قائل: ما دلّ على هذا؟ قيل: إذا كان المهر ثمناً كان في معنى هذا، وقد أجازه الله عز وجل في الإجارة في كتابه، وأجازه المسلمون، فذكر قصة شعيب وموسى في النكاح فقالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} وقال: " لا أحفظ من أحدٍ في أن ما جازت عليه الإجارة جاز أن يكون مهراً " ((2)) .
المالكية:
المشهور عن مالك الكراهة، ولذلك رأى نسخه قبل الدخول وأجازه من أصحابه أصبغ وسحنون ((3)) .
الحنفية:
لقد فصل الأحناف القول في هذه المسألة:
فعندهم منافع الأعيان من المنقولات والعقارات تقع تسميتها مهراً في عقد النكاح، لأن هذه المنافع تعتبر أموالاً، أو إنها ألحقت بالأموال في سائر العقود ولمكان الحاجة إليها.
منافع الحر.
جعل مهرها خدمتها:
قالوا: لو تزوج رجل حرّ امرأة على أن يخدمها سنة، فالتسمية فاسدة ولها مهر المثل في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. وعند محمد التسمية صحيحة ولها قيمة الخدمة.
تزوجها على فعل لها غير خدمتها:
__________
(1) المغني (ابن قدامة) : 7/212.
(2) الأم: 5/161. منتهى المرام: 426.
(3) بداية المجتهد: 2/20.

(1/376)


أما لو تزوجها على مهره وأن يقوم لها بفعل، وليس في الفعل استهانة له ولا مذلة كزراعة أرضها ونحو ذلك من الأعمال خارج البيت التي لا مهانة فيها ولا مذلة صحت تسمية هذه الأفعال مهراً في عقد النكاح.
وقال الكاساني: لفظ رواية الأصل يدل على أن التسمية لا تصحّ في رعي غنمها كما لا تصح في خدمتها لأن رعي غنمها كخدمتها ((1)) .
وجاء في الفتاوى الهندية في فقه الحنفية: " ولو تزوجها على أن يرعى غنمها، أو يزرع أرضها في رواية لا يجوز، وفي رواية جاز، والأولى رواية الأصل والجامع. والصواب أن يسلم لها إجماعاً استدلالاً بقصة موسى وشعيب
(- عليه السلام -) وشريعة من قبلنا تلزمنا إذا قص الله تعالى أو رسوله بلا إنكار ((2)) .
المسألة الخامسة - مسألة الدخول قبل النقد
قال تعالى عن شعيب (- عليه السلام -) في قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} هنا يتبادر سؤالاً مهماً هل دخل سيدنا موسى (- عليه السلام -) حين عقد أم حين سافر؟ فإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز، وإن كان مدى العمر بغير شرط ((3)) .
__________
(1) ينظر بدائع الصنائع: 2 /278.
(2) الفتاوى الهِندية (العالَمْكَيْرية) . جمعت بأمر سلطان الهند محيي الدِّيْن مُحَمَّد اورُنْك زِيْب عالَم كَير ت 1118 هـ. المكتبة الإسلامية بديار بَكْر بتُرْكيا. ط3 1393 هـ. وهي مصورة على ط2 المطبوعة بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر 1310 هـ.: 1/283. وينظر المفصل في أحكام المرأة: 7/56 ـ 57.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/4990.

(1/377)


وإن كان دخل حين عقد؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال نود أن نبين " أن المهر يجبُ بنفس عقد الزواج، لأنه من آثار هذا العقد، فإن اتفق عليه الطرفان فهو المهر المسمى وهو الواجب بعقد الزواج، ولكن هذا الوجوب يبقى قلقاً لا يستقر ولا يتأكد وجوبه ويلزم الزوج به إلا إذا حصل ما يؤكده ومؤكداته هي: الدخول، أو موت أحد الزوجين، أو الخلوة الصحيحة " ((1)) .
وقد ذكر القرطبي " قد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار، قاله ابن القاسم والمتأخرين من أصحابنا قالوا: تعجيل، أو شئ منه مستحب، فإن كان الصداق رعيةُ الغنم فقد نقد الشرع في الخدمة " ((2)) .
وقال ابن قدامة: " لا يجوز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئاً سواء كانت مفوضة، أو مسمى لها، قاله سعيد بن المسيب، والحسن، والنخعي، والنووي الشافعي، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، والزهري، وقتادة، ومالك لا يدخل حتى يعطيها شيئاً " ((3)) .

المسألة السادسة - اشتراط الولي شيئاً من المهر لنفسه
لقد استدل قسم من العلماء باشتراط سيدنا شعيب (- عليه السلام -) الإجارة من سيدنا موسى (- عليه السلام -) مقابل تزويجه ابنته، قال الله تعَاَلىَ على لسان شعيب: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . وقسم أخر من العلماء لم ير أن له الحق في ذلك، وفيما يأتي أقوال العلماء في ذلك:
قال الحنابلة: " يجوز لأبي المرأة أن يشترط شيئاً من صداق ابنته لنفسه، وبهذا قال إسحاق، وروي نحو ذلك عن علي بن الحسين " ((4)) .
__________
(1) المفصل في أحكام المرأة: 7/88
(2) الجامع لأحكام القرآن: 6/4990
(3) المغني (ابن قدامة) : 7/245
(4) المغني (ابن قدامة) : 7/224 ـ 225. المفصل في أحكام المرأة: 7/80

(1/378)


وقال الشافعي: " إذا فعل ذلك فلها مهر المثل وتفسد التسمية لأنه تعطي من صداقها لأجل هذا الشرط الفاسد، ولأن المهر لا يجب إلا للزوجة لأنه عوض بعضها " ((1)) .
واحتج الحنابلة:
بقوله تعالى في قصة شعيب وتزويجه إحدى ابنتيه موسى (- عليه السلام -) {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَج} فجعل المهر الإجارة على رعاية غنمه وهو شرط لنفسه.
وذكر القرطبي أن قسم من العلماء قالوا: " هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكراً لصداق المرأة، وإنما كان اشتراطاً لنفسه على ما يفعله الأعراب، فإنها تشترط صداق بناتها وتقول: لي كذا في خاصة نفسي. وترك المهر مفوضاً ونكاح التفويض جائز " ((2)) .
__________
(1) المغني (ابن قدامة) : 7/224 ـ 225. المفصل في أحكام المرأة: 7/80.
(2) الجامع لأحكام القرآن:6/4994.

(1/379)


قال ابن العربي: " هذا الذي تفعَلُه الأعراب هو حلوان وزيادةُ على مهر. وهو حرام لا يليق بالأنبياء، فأما إذا شرط الوليُّ شيئاً لنفسه فقد اختلف علماؤنا فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما أنه جائز، والآخر لا يجوز. والذي يصح عندي التقسيم. فان المرأة لا تخلو إما أن تكون بكراً، أو ثيباً، فان كانت ثيّباً جاز لأن نكاحهَا بيدها، وإنما يكون للوليّ مباشرة العقد، ولا يمتنع العِوَض عنه كما يأخذُه الوكيلُ على عقد البيع، وإن كانت بكراً كان العَقْدُ بيده، فكأنه عِوَضٌ في النكاح لغير الزوجة، وذلك باطل، فإن وقع فُسِخ قبل البناء وثبت بعده على مشهور الرواية " ((1)) .

المطلب الثاني: الإجارة
تعريفها، وأركانها، ودليل مشروعيتها، والمسائل المتعلقة بها
تعريف الإجارة في اللغة:
الإجارة من أجرَ يَأجِرُ، وهو ما أعطيت من أجر في عمل، والأجر الثواب. والأجر الجزاء على العمل والجمع أجور، أجر الإنسان واستأجره. والأجير المستأجَرُ وجمعه أجَراءُ والاسم منه الإجارة، والأجرة: الكراء ((2)) .
تعريف الإجارة في الاصطلاح:
" تمليك نفع بعوض " ((3)) .
وقيل: " عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعرض
معلوم " ((4)) .
أركانها أربعة: عاقدان، وصيغة، وأجرة، ومنفعة ((5)) .
مشروعية الإجارة:
__________
(1) أحكام القُرْآن. مُحَمَّد بن عَبْد الله بن مُحَمَّد بن عَبْد الله بن أحمد أبو بكر. المعروف بابن العَرَبي. المَعَافري الاِشْبِيْلي. ت 543 هـ. تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد البجاوي. مطبعة عيسى البِابي الحَلَبي بمصر. سنة 1974 م.: 3/ 1473.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (أجر) 4/10.
(3) حاشية الطحاوي على الدر المختار: 4/2.
(4) مغني المحتاج: 2/332.
(5) المصدر نفسه: 2 /332.

(1/380)


قال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْه} دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة. وهي من ضرورة الخليقة ومصلحة الخلطة بين الناس ((1)) .
وقد اتفق الفقهاء على مشروعية عقد الإجارة ما عدا أبا بكر الأصم وإسماعيل بن غُلبة، فأنهم لم يجيزوه. ودليلهم في ذلك أن الإجارة بيع المنفعة والمنافع حال انعقاد العقد معدومة القبض، ثُمَّ تستوفى شيئاً فشيئاً مع الزمن، والمعدوم لا يحتمل البيع، ولا يجوز إضافة البيع إلى شئ في المستقبل.
وقد رد عليهم ابن رشد " إنها وإن كانت معدومة في حال العقد فهي مستوفاة في الغالب، والشرع إنما لحظ من هذه المنافع ما يستوفى في الغالب، أو يكون استفتاؤه وعدم استيفائه على السواء " ((2)) .
وقد استدل الجمهور على جواز عقد الإجارة بالقرآن، والسنة:
أولاً ـ القرآن:
قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ((3)) .
قوله تعالى حاكياً قول إحدى ابنتي شعيب (- عليه السلام -) : {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} ((4)) . والاستدلال بهذه الآية صحيح عند القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ((5)) .
ثانياً ـ السنة النبوية:
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: 6 /4987.
(2) بداية المجتهد: 2/218.
(3) سُوْرَة الطلاق: الآية 6.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 26 ـ 28.
(5) الفقه الإسلامي وأدلته. (د. نش) . وهبة الزحيلي. ط4. دار الفكر. دمشق. سوريا. 1997 م.: 5/3801.

(1/381)


قوله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) ((1)) .
__________
(1) مُسْنَد أَبِي يَعْلَى: 12 /35. سُنَن ابن مَاجَه. مُحَمَّد بن يَزِيد القَزْويني أبو عَبْد الله. (207 ـ 275) . تحقيق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت) .: 2/ 817. الروض الداني (المعجم الصغير) . سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني أبو القَاسِم. (260 ـ 360) . تحقيق: مُحَمَّد شكور محمود الحاج أمرير. = = المكتب الإسلامي , دار عمار. بيروت , عمان. ط2. 1405 هـ ـ 1985 م.: 1 /43. السنن الكبرى (البيهقي) : 6 /120. روي من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث جابر، ومن حديث أنس، فحديث أبي هريرة رواة أبي يعلى في مسنده، وحديث ابن عمر أخرجه ابن ماجة في سننه، وحديث جابر رواه الطبراني في معجمه الصغير، وحديث أنس رواه الترمذي في نوادر الأصول. قال ابن حجر: كلها ضعاف. ينظر نَصْب الرَّايَة لأحاديث الهِداية. جَمَال الدِّيْن بن عَبْد الله بن يوسُف الحَنَفي الزَّيْلَعِي أبو مُحَمَّد. ت 762 هـ. تحقيق: مُحَمَّد يوسف البنوري.. دار الحديث. مصر. ط1. 1357 هـ.: 4/129 وما بعدها. مجمع الزوائد: 4/97. سُبُل السَّلام شرح بلوغ المَرَام من جمع أَدلَّة الأحكام. مُحَمَّد بن إسماعيل الصَّنْعَانِي الأمير. ت 1182هـ. تحقيق: مُحَمَّد عَبْد العزيز الخولي. ط4. دار إحياء التراث العربي. بيروت. 1379 هـ ـ 1960 م.: 3/81.

(1/382)


روي عن ابن عباس (رضي الله عنه) : ((إن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) احتجم وأعطي الحجام أجره)) ((1)) .
ثالثاً ـ الإجماع:
فقد أجمعت الأمة على جواز الإيجار لحاجة الناس إليه من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس والحاجة إليها إذ ليس لكل أحد مركوب ومسكن وخادم، فجوزت لذلك كما جوزت بيع الأعيان ((2)) .

المسألة الأولى: ذكر المدة دون ذكر الخدمة
قاله تعالى حكاية عن قول الشيخ الكبير: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} نلاحظ في هذه الآية الكريمة كان ذكر للمدة دون ذكر الخدمة، فهنا يتبادر سؤالاً هو: هل يصح في عقد الإجارة ذكر المدة دون ذكر الخدمة؟
قال أبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز حتَّى يسمي، لأنه مجهول. وقال مالك: إنه جائز ويحمل على العرف فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة ((3)) .
وذكر ابن العربي " دليلاً معلوم لأنه استحقاق لمنافعه فيما يصرف فيه مثله، والعُرْفُ يشهد لذلك ويقضي به، فيحمل عليه، ويعضد هذا بظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة على أن أهل التفسير ذكروا أنه عيّنَ له رَِعْيةَ الغنم، ولم يرووا ذلك من طريق صحيحة، ولكن قالوا: إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما عُلِم من حاله قائماً مقام تعيين الخدمة فيه ((4)) .
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِي: باب السعوط. 5 /2154 رقم (5367) صحيح مسلم: باب حل أجرة الحجامة 3 /1205 رقم (1202) . وينظر نصب الراية: 4/134. نيْل الأوطار شرح مُنتقَى الأَخْبَار من أحاديث سيّد الأخيار. الشيخ مُحَمَّد بن عَلِيّ بن مُحَمَّد الشَّوْكَاني. ت 1250 هـ. مَكْتَبَة دار الجيل. بيروت. ط1. 1973 م.: 5/285. سبل السلام: 3/80.
(2) مغني المحتاج: 2/232. بداية المجتهد: 2/218.
(3) الجامع لأحكام القرآن: 6/4991.
(4) أحكام القرآن (ابن العربي) : 3 /1472.

(1/383)


المسألة الثانية: الإجارة على رعاية الغنم
أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهوراً معلومة بأجرة معلومة لرعاية غنم معدودة. فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل:
قال ابن القاسم: لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جداً.
الرد عليه:
فقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفا ((1)) . وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا قاله ابن العربي. وقال: " إنما عوّل علماؤنا على العرف، وأنه يعطي على قدر ما تحتمل قوَّتهُ. وزاد بعضهم أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدْرَ قوته، فإن صالح مدين قد علم قَدْرَ قوة موسى برفع الحجر.
وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز لجهالتها ((2)) .
المسالة الثالثة: اجتماع إجارة ونكاح
وفي حكم اجتماع الإجارة مع النكاح ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال في ثمانية أبي زيد يكره ابتداء، فإن وقع مضى.
القول الثاني: قال مالك، وابن القاسم في المشهور: لا يجوز ويُفسخ قبل الدخول وبعده لاختلاف مقاصدها كسائر العقود المتباينة.
القول الثالث: أجازه أشهب، وأصبغ. وقال ابن العربي: والصحيح جوازُه، وعليه تدل الآية. وقد قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع، أو بين بيع ونكاح ((3)) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن:6/4990
(2) أحكام القران (ابن العربي) : 3/1460
(3) ينظر الجامع لأحكام القرآن: 6/4990. أحكام القران (ابن العربي) : 3/1464.

(1/384)


المسالة الرابعة: شبهات وردها
أثارت الهجمة الفكرية التي يشنها أعداء الإسلام في كل مكان عدة شبهات، وتأثر بها ومع الأسف بعض ممن يدعون الإسلام وبدئوا يروجون لها وهي فيما يخص اختلاط المرأة بالرجل وعملها. متهمين الإسلام بأنه قد ظلم المرأة وجعل منها حبيسة الجدران، وقبل بيان موقف الإسلام من اختلاط وعمل المرأة، نود أن نبين جملة حقائق مهمة لابد منها لغرض رفع الحيف الكبير عن الإسلام.
إن الإسلام العظيم كرّم المرأة أيّما تكريم، وانصفها أعظم إنصاف وأنقذها من الظلم، منذ أن خلق الخليقة لا يوجد هناك نظام، أو دين أنصف المرأة وأكرمها مثل الإسلام، فقد كرّم الإسلام المرأة كإنسانة، فأكد أهليتها للتكليف والمسؤولية والجزاء ودخول الجنة، فلها ما للرجل من حقوق إنسانية وعليها ما عليه. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((1)) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} ((2))
وكرم الإسلام المرأة كأم، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} ((3)) .
وكرم المرأة بنتاً، فقد انتقد الإسلام وحرم وأد البنات التي كانت عادة منتشرة في الجاهلية، قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 97.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 124.
(3) سُوْرَة لُقْمَان: الآية 14.
(4) سُوْرَة التَّكْوِيْرِ: الآيتان 8 ـ 9.

(1/385)


وكرمها كزوجة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ((1)) .
وكذلك القرآن يجعل الرجل والمرأة شريكين في تحمل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه} ((2)) ، فإن دعاة التغريب يريدون من المرأة أن تكون ألعوبة يلعبون بها كيف يشاءون، فمرة ينزعون عنها ثوب حياءها من خلال نزع الحجاب عنها وإلباسها ملابس الرجال حتى لا نكاد نفرق بين المرأة والرجل. ودعوتها للاختلاط بالرجال ومزاحمتهم بحجة المساواة بين الرجل والمرأة، فحملوها اكثر مما تطيق. وسنبين موقف الإسلام من هذه الشبهات فيما يأتي.
موقف الإسلام من اختلاط المرأة وعملها
قد يستدل البعض بقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا} على إباحة الاختلاط بين الرجال والنساء، وعلى حِليّة عمل المرأة، فلغرض توضيح هذه المسألة سنتكلم عنها ضمن محورين وبصورة مختصرة:
المحور الأول
موقف الإسلام من الاختلاط
تعريف الاختلاط في اللغة:
__________
(1) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآية 21.
(2) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 71.

(1/386)


قال ابن منظور: " خلط الشيء بالشيء يخلطه خلطاً وخلطه فاختلط: مزجه وخالط الشيء مخالطة وخِلاطاً: مازَجَه والخِلاط اختلاط الإبل والناس والمواشي " ((1)) .
حكم الاختلاط من جهة الحظر، أو الإباحة:
إن الأصل في اختلاط المرأة بالرجل هو الخطر ويتبين ذلك من خلال الأدلة الآتية:
1. القران الكريم:
في الحقيقة لا توجد أية صريحة تحرّم عمل المرأة واختلاطها، ولكن من خلال الإشارات في بعض الآيات القرآنية يمكن الاستدلال بها على حرمة الاختلاط إلا للضرورة:
أـ قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} ((2)) ، قد يعترض معترض بالاستدلال بهذه الآية لكونها تخص أزواج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، ويمكن الإجابة عليه بان الله جل وعلا قد ارتضى لأمهات المؤمنين في هذه الآية لزوم البيت وترك التبرج الجاهلي، فعلى النساء أن ترضى بما رضي الله به لأمهاتهنّ أزواج الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ب ـ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ*وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ((3)) .
هذه الآية تحث المؤمنين والمؤمنات على غض البصر، وفي قولنا بتحليل الاختلاط تعطيل لعمل هذه الآية، لأن في الاختلاط صعوبة التحرر عن النظر إذا قلنا استحالة ذلك.
2. السنة النبوية:
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (خلط) 7/291.
(2) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 33.
(3) سُوْرَة النُّوْرِ: الآيتان 30 - 31.

(1/387)


روى الإمام البخاري ـ رَحِمَه الله ـ في صحيحة أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال:
((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) . وفي رواية الإمام مسلم أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ((لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذم محرم)) . وقد قال العلماء في معنى الحديث: " وفيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع لا خلاف فيه " ((1)) . وقال الإمام النووي: " وقال أصحابنا ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها في صلاة، أو غيرها " ((2)) .
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) قالت: ((استأذنت النبي (- صلى الله عليه وسلم -) في الجهاد فقال: جهادكن الحج)) . وقد نقل العسقلاني عن ابن بطال في شرحه لهذا الحديث يقوله: " دلّ الحديث على أن الجهاد غير واجب على النساء، وإنما لم يكن عليهن واجباً لما فيه من مغايرة المطلوب منهن من الستر ومجانبة الرجال " ((3)) .
__________
(1) صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 3/324. نيل الأوطار: 4/324. سبل السلام: 2/183.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي. النووي. يحيى بن شرف. ت 676 هـ. دار الفكر. بيروت. لبنان. 1410 هـ – 1981 م.: 9/109.
(3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 5/82.

(1/388)


أخرج أبو داود عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه: إنه سمع رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) للنساء: ((إستاخرن، فإنه ليس لكنَّ أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق)) ، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها به ((1)) .
معنى الحديث الشريف إبعدْنَ عن الطريق، أي: لا تسيروا في وسطه، وإنما سيروا في حافاته حتى لا تختلطوا بالرجال، فأطَعْنَ كلام رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وسْرنَ في جوانب الطريق، حتى إن إحداهن من شدة تنَّحيها عن وسط الطريق وابتعادها عنه، أَن ثوبها ليعلق بالجدار على جانب الطريق من شدة التصاقها به مبالغة في الابتعاد عن وسط الطريق ((2)) . وفي هذا الحديث دلالة واضحة وصريحة في النهي عن اختلاط النساء بالرجال، وأن الأصل فيه هو الحظر ((3)) .
المحور الثاني
موقف الإسلام من عمل المرأة
الجواب على ذلك يكون في التفصيل الآتي فإن المرأة لا تخلو إما أن تكون في عصمة الزوج، أي: متزوجة، أو غير متزوجة.
__________
(1) سُنَن أَبِي داود: 14/190. والحديث حسن الإسناد كما ذكر الحافظ المزي في تَهْذيب الكَمَال في أسماء الرجال. جَمَال الدِّيْن يوسف بن المَزِّي عَبْد الرَّحْمَن المزي أبو الحَجاج. (654 ـ 742) . تحقيق: د. بشار عواد معروف. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط1 ج 1 سنة 1400 هـ ـ 1980 م وج 2 سنة 1982 م.: 12 / 402.
(2) عَوْن المعبود على سُنَن أَبِي داود سُليمان بن الأَشْعَث السِّجِسْتَاني ت 275 هـ. شَمس الحقّ أبو عَبْد الرَّحْمَن الشهير بمحمد أَشرف بن أَمير بن عَلِيّ ابن حيدر الصِّدِّيقي العَظِيْم آبادي. دار الكتب العلمية. بيروت. ط2. 1415 هـ.: 14/190 ـ 191.
(3) المفصل في أحكام المرأة: 3/426.

(1/389)


فان كانت في عصمة الزوج:
" فنفقتها على زوجها سواء كانت غنية، أو فقيرة فهي مكفية المؤونة فالعمل إذن في حقها مباح، وإذا كان العمل للاكتساب والرزق وتحصيل أسباب العيش مباحاً في حق المرأة، فإن هذا المباح يجب أن لا يزاحم ما هو واجب عليها. فواجب المرأة هو القيام بأعمال البيت وما تتطلبه الحياة الزوجية والوفاء بحق الزوج عليه وقيامها بشؤون أولادها وتربيتهم وخدمتهم، وهذه الواجبات كثيرة ومتعبة تحتاج إلى تفرغ المرأة لها، وبالتالي لا يمكنها عادة وغالباً القيام بالعمل المباح لها خارج البيت إلا على حساب التفريط بهذه الواجبات والتقصير في أدائها، وحيث أن من أصول الحقوق والواجبات عدم جواز مزاحمة ما هو حق للإنسان لما هو واجب عليه " ((1)) .
فان لم تكن في عصمة زوج:
فنفقتها على أبيها إن لم تكن ذات مال، فإن لم يكن لها أب فنفقتها على أخيها، أو من يلزمه نفقتها، فلا حاجة لها إلى العمل، لأن بقاءها في البيت أسترها، وهي مكفية المؤونة والشرع يندب إليها القرار في البيت ويرغبها في البقاء فيه ما دام لا يوجد مبرر شرعي لخروجها، وهي ملزمة برعاية أبويها، أما إذا كانت هناك ضرورة لعملها خارج البيت كأن لا يوجد هناك مورد مالي لها، ولا من يعيلها، أو كان من يعيلها شيخ كبير كما هو حال المرأتين التي سقى لهما سيدنا موسى (- عليه السلام -) وحالات أخرى تعتبر ضرورة، والضرورة تقدر بقدرتها ((2)) .
وقد يسال سائل ويقول هل يباحُ الاختلاط والعمل للضرورة؟
__________
(1) المفصل في أحكام المرأة: 4/265.
(2) ينظر المفصل في أحكام المرأة: 4/265 ـ 267.

(1/390)


وللجواب على ذلك نعود إلى نفس الآية التي استدل بها على إباحة الاختلاط والعمل أخذاً من سقى البنات لغنمهن: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا} ، نستدل بها على إباحة العمل والاختلاط للضرورة، فإن الآية الكريمة قد أجابت عن من يتسأل في السبب الذي دعا الشيخ لدفع بناته للعمل ولاحتمالية الاختلاط، فقالت إحدى البنتين حينما سألها موسى (- عليه السلام -) عن سبب امتناعها عن السقي: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ، فقد كان الجواب عن سؤال موسى المعلن وهو سبب عدم السقي {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} . وأجابت عن سؤال مضمر في نفس موسى كأنها أحست أخفاه من الحياء، وهو لماذا لم يأتي رَجل مكانهن، فقالت: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ، أي: إنا مضطرات، لأن والدنا كان في حالة عجز عن القيام بمهمة السقي، ولا يوجد رجل يقوم مقامهن، لأن والدهن لم يكن لديه من يخلفه غيرهما.
وقد قال الإمام الرازي بهذا الخصوص " فإن قيل: كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنته بسقي الماشية؟ فالجواب: إنا وإن سلمنا أنه كان شعيباً النبي (- عليه السلام -) ، لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه وأما المروءة، فالناس فيها مختلفون، وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر لاسيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة " ((1)) .
__________
(1) مفاتيح الغيب: 12/240.

(1/391)


ومما يدلل على أنهن مارسن عمل السقي للضرورة طلب إحدى البنات من أبيها أن يستأجر سيدنا موسى (- عليه السلام -) {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} تبين هذه الآية أنها كانت متحرجة جداً من العمل، ولكنها مضطرة للعمل لعدم وجود البديل، فحال توفر البديل طلبت من أبيها استئجاره ليقوم بمهمة السقي بدل عنهما. وقد جاء في السنة النبوية روايات في عمل المرأة خارج البيت للحاجة، سنذكر قسماً منها، ونذكر كذلك بعض الحالات التي يجوز الاختلاط فيها للحاجة.
الشروط العامة بعمل المرأة واختلاطها للضرورة:
وإذ كان عمل المرأة واختلاطها قد يباح للضرورة لكن بشروط وهي كآلاتي:
عدم مزاحمة الرجال ويتبين ذلك من قول إحدى البنات {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} فقد امتنعن عن السقي لعدم مزاحمة الرجال.
أن تلتزم بالآداب الشرعية ويتبين ذلك من خلال قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ، وأن تتوقر في مشيتها لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ((1)) .
أن تبتعد عن التميع في الكلام مع الرجال إذا كان في كلامها مع الرجال ضرورة، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 31.
(2) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 32.

(1/392)


ونلاحظ من خلال المحادثة التي دارت بين المرأة وسيدنا موسى (- عليه السلام -) أنها كانت قصيرة، ودخلت في الموضوع الذي جاءت به بدون إطالة في الكلام مبينة السبب في طلب والدها مباشرة: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ((1)) ، فقد كان تحدثها معه للضرورة.
ارتداء الحجاب، قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} ((2)) .
غض البصر، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ((3)) .
الأمر بعدم الخلوة، قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)) ((4)) .
أن تتجنب كل ما يجذب انتباه الرجل إليها ويغريه بها، قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أيما امرأة استعطرت، ثُمَّ خرجت من بيتها ليشم الناس فهي زانية)) ((5)) .
ما جاء في السنة النبوية من عمل المرأة خارج البيت للحاجة:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 31.
(3) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 31.
(4) متفق عليه من حديث ابْن عَبَّاس. صحيح البخاري: باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يؤذن له 3 / 1094 رقم (2844) . صحيح مسلم باب 2سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره / 978 رقم (1341)
(5) رواه أبو داود عن أبي موسى 4 /79 رقم (4173) . سنن الترمذي: 5 /106 رقم (2786) وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. سنن النسائي: 8 /53 كتاب الشريعة. وينظر مركز المرأة في الحياة الإسلامية. تأليف مجموعة من العلماء. دار الفكر الإسلامي. الكويت. 1975 م.: ص 40.

(1/393)


1- أخرج الإمام البخاري (رحمه الله تعالى) في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنها) قالت: ((تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شئ غير ناضح وغير فرسه، فكنت اعلفُ فرسه، واستقي الماء، وأحرزُ غربه، وأعجن، ولم أكن أعجنُ، ولم أكن أحسن أخبز، فكان يخبزه جاراتٌ من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على رأسي، فلقيت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، ومعه نفر من الأنصار فدعاني، ثُمَّ قال: أخ أخ، ليحملني خلفه، فاستحيت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغيرَ الناس، فعرف رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إني قد استحيت فمضى رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، فجئتُ الزبير فقلت: لقيني رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأ ركب فاستحيت منه عرفتُ غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشدُّ علي من ركوبك معه، قالت: حتَّى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم، تكفينني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني)) ((1)) .
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِي: باب الغيرة 5/ 2002 رقم (4962) .
الناضح الجمل الذي يستقى عليه الماء.
الأرض التي أقطعه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تدخل في الإقطاع، وهو تمليك قطعة الأرض دون رقبتها. ينظر فتح الباري: 9/319 ـ 320.

(1/394)


" قصة أسماء وحملها النوى من أرض بعيدة عن بيتها لحاجة زوجها لهذا العمل، واطلاع النبي (- صلى الله عليه وسلم -) على حالها وفعلها وسكوته، دليل واضح على جواز عمل المرأة خارج البيت إذا كان هناك ضرورة لعملها، ووجه الضرورة في عمل أسماء، أن زوجها الزبير كان في حال انشغال بالإسلام والجهاد في سبيله، وعجزه عن استئجار من يقوم له بما كانت تقوم به زوجته أسماء " ((1)) .
2- وكذلك يجوز للمرأة أن تعمل خارج بيتها جهاداً في سبيل الله، فقد روى الإمام البخاري ـ رَحِمَه الله ـ في صحيحه عن الرُّبِّيع بنت موذ قالت: ((كنا مع النبي (() نستقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة)) ((2)) ، وكذلك كلّ الأعمال التي لا يمكن إلا أن تقوم بها المرأة كتوليد النساء.
وأمثلة اختلاط المرأة للضرورة:
ذكر النووي " وقال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة، أو غيرها، ويستثنى من هذا كله مواضيع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق، أو نحو ذلك فيباح له استصحابها بل ويلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا خلاف فيه " ((3)) .
وذكر الدكتور عبد الكريم زيدان حالات لجواز الاختلاط للحاجة منها:
الاختلاط لإجراء المعاملات المالية
الاختلاط لحاجة مباشرة أعمال القضاء، فعلى رأي الأحناف يجوز للمرأة أن تتولى القضاء في غير الحدود، أو في جميع القضايا بما فيها الحدود عند الظاهرية والإمام الطبري.
الاختلاط لغرض تحمل الشهادة ((4)) .
__________
(1) المفصل في أحكام المرأة: 4/270 ـ 271.
(2) ينظر صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 5/85.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 9/109
(4) المحلى: 9 /429 -430. بدائع الصنائع: 7 /3. بداية المجتهد: 2/449. المفصل في أحكام المرأة: 4 /271.

(1/395)


الفصل السادس: عودة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مصر
المبحث الأول: بعثة سيدنا موسى (- عليه السلام -)
المطلب الأول: سيدنا موسى (- عليه السلام -) يرى ناراً في جانب الطور
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} (1) .
المناسبة
بينت الآيات التي سبقت هذه الآيات الاتفاق الذي حصل بين سيدنا موسى
(- عليه السلام -) ، وشعيب على الإجارة والنكاح، وحدد سيدنا شعيب المدة بثماني سنوات، فإن أتم العشرة فهو فضل من عند موسى {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((2)) ، فلما كان من المعلوم أن التقدير فلما التزم موسى (- عليه السلام -) بما اتفقا عليه، زوجه ابنته كما شرط، واستمر عنده حتى قضى ما عليه بنى عليها {فَلَمَّا قَضَى} ، أي: وفى وأتم موسى الإجارة، أي: الأوفى وهو العشر، فقد ورد أنه قضى من الأجلين أوفاهما، وتزوج من المرأتين صفارهما ((3)) . والظاهر أنه مكث عنده بعد الإجارة أيضاً مدة لأنه عطف بالواو لقوله {وَسَارَ} ولم يجعله جواباً للما ((4)) ، فنلاحظ الترابط الواضح بين هذه الآيات والتي قبلها، وكذلك نلاحظ الاختصار الشديد غير المخل بالعبارات، إذ أغنت كلمات عن جمل، فأغنت {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} عن كلمات كثيرة، أبهم بعضها القرآن كما هو الحال في كثير من المبهمات التي جاءت في سُوْرَة الْقَصَصِ، كاسم التي تزوجها موسى، واسم أخته، وأمه، وعن نوع المواشي التي سقاها موسى
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(3) أخرجه البزار: 2244. والطبراني في الصغير: 815، والأوسط كما في مجمع الزوائد: 7/ 88 من حديث أبي ذر، وضعف الهيثمي إسناد البزار وحسن إسناد الصغير والأوسط
(4) ينظر نظم الدرر: 5/ 482- 483.

(1/396)


لبنات شعيب، وكذلك أبهم الأجل الذي قضاه موسى أولاً لعدم أهمية المبهم في المعنى بشيء، وليبتعد القرآن عن السرد القصصي الممل الذي يقصه القصاصون، وكذلك ليحفز العقل البشري على التفكير في هذا المبهم بواسطة القرائن الواردة في النصّ القرآني، وليجعل النصّ متحركاً غير جامد، قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان.
تحليل الألفاظ
1. {آنَسَ} :
" آنس الشيء أحَسَّه وآنَسَ الشَّخص واستأنسه وأبْصَرَه ونَظَر إليه. وقال ابن الأعرابي: آنِسْتُ بفلان، أي: فَرِحْت به وآنَسْت فَزَعاً وآنَسْته إذا أحْسَسْتُه ووجدته في نفسك. وفي التنزيل: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} يعني: موسى أبصر ناراً، وهو الإيناس" ((1)) .
وقال الزمخشري: " الإيناس: الإبصار البين الذي لا شبهة فيه، ومنه إنسان العين، لأنه يتبين به الشيء، والإنس لظهورهم. وقيل: هو أبصار ما يؤنس به " ((2)) .
2. {الطُّورِ} :
ذكر أبو السعود أن " الطور بالسريانية الجبل، والمراد به طور سينين، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى كلام الله تعالى " ((3)) .
3. {امْكُثُوا} :
" المُكْث الأناة واللَّبْثُ والانتظار، مَكَثَ يَمْكُث ومَكَث مَكْثاً ومُكْثاً مُكُوثاً ومَكُوثاُ ومَكَاثة. والمُكْث: الإقامة مع الانتظار، والتلبث في المكان " ((4)) .
4. {جَذْوَةٍ} :
" الجَذْوَة والجِذْوَة والجُذْوة: القبة من النار. وقيل: هي الجمرة والجمع جِذاً وجُذاً. وحكى الفارسي جِذاء ممدودة. وقال أبو عبيدة: الجِذْوَة مثل الجِذْمة وهي القطعة الغليظة من الخشب ليس فيها لهب " ((5)) .
5. {تَصْطَلُونَ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (أنس) 6/15.
(2) الكشاف: 2/ 531.
(3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 8/ 146.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (مكث) 2/ 191.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (جذذ) 14/ 138.

(1/397)


صَلِيَ بالنار وصَلِيْها صَلْياً وصُلِياً وصِلِياً وصَلَى وصِلاءً واصْطَلَى بها وتَصَّلاها: قاس حرّها، والاصْطِلاء افتعال من صَلا النار والتسخين بها. واصْطَلى بالنار استدفأ ((1)) .
القراءات القرآنية
1. {إِنِّي آنَسْتُ} :
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر بفتح الياء: (إِنَّيَ) ((2)) .
2. {جَذْوَةٍ} :
واختلفوا في ضم الجيم وكسرها وفتحها، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عامر، والكسائي: (جِذْوَة) بكسر الجيم. وقرأ حمزة، وخلف، والأعشى، وطلحة، وأبو حيوة، ويحيى: (جُذْوَة) . وقرأ عاصم: (جَذْوَة) ((3)) .
القضايا البلاغية
1ـ الترجي ((4)) في قوله تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} .
__________
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (صلي) 14/ 467- 468.
(2) التيسير في القراءات السبع: ص 172. إتحاف فضلاء البشر: ص 342.غيث النفع: ص 316.
(3) ينظر النشر في القراءات العشر: 2/ 341: الحجة لقراء السبعة. أبو علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي. (288 ـ 377 هـ) . الطبعة الأولى. دار المأمون للتراث. 1992 م.: 5/ 413. الكَشَّاف: 3 / 174. البحر المحيط: 7/116.
(4) الترجي: من أساليب الإنشاء، ويكون في القريب والممكن والمتوقع، وهو بحرفين: لعل، وعسى. معترك الأقران في إعجاز القُرْآن. الإِمَام جلال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن أبو بكر السيوطي الشافعي. ت 911 هـ. ط1. ضبطه وصححه وكتب فهارسه: أحمد شمس الدِّيْن. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1408 هـ – 1988 م.: 1 /446.

(1/398)


2 ـ التقسيم ((1)) في قوله تعالى: {بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ} .
المعنى العام
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}
__________
(1) التقسيم: هو أن يؤتى بالأقسام مستوفية لم يخل بشيء منها، ومخلصة لم يدخل بعضها في بعض. جواهر الألفاظ. قدامة بن جعفر. تحقيق: رشيد كمال. الطبعة الأولى. المطبعة العلمية. بيروت، لبنان 1411 هـ.: ص 5.

(1/399)


أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) سأل جبريل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما. وأخرجه عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((يا أبا ذر إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل: خيرهما وأوفاهما)) ((1)) . وأخرجه الحاكم في المستدرك مرفوعاً ((2)) . وفي الدر المنثور، وعزاه إلى البيهقي عن ابن عباس ((3)) . وأخرجه ابن عطية عن سعيد بن جبير قال: سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتَّى أقدم على حبر العرب ـ أعني ابن عباس ـ فقدمت عليه فسألته فقال: قضى أكملهما وأوفاهما، إن رسول الله إذا قال وفى، فعدت فأعلمت النصراني، فقال: صدق هذا. وروى عن ابن عباس أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين. وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشراً، أو عشراً وبعدها. وقال ابن عطية: هذا ضعيف ((4)) . والمراد بالأهل هنا الزوجة ((5)) .
{مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}
__________
(1) تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 29. المعجم الصغير (الطبراني) : 2 /79. المعجم الكبير (الطبراني) : 9 /176. قال الحافظ الهيتمي: " رواه الطبراني في الصغير والأوسط والبزار باختصار، وفي إسناد الطبراني عويد بن أبي عمران الجوني ضعفه ابن معين وغيره، ووثقه ابن حبان، وبقية رجال الطبراني ثقات " مجمع الزوائد: 8 /203.
(2) المستدرك على الصحيحين: 2/ 407 من حديث عبدُ الله بْن عَبَّاس بلفظ (أبعدهما وأطيبهما) قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.
(3) السنن الكبرى (البيهقي) : 6 /117 من حديث سعيد بن جبير. الدر المنثور: 6/ 410.
(4) المحرر الوجيز: 12/ 162.
(5) التحرير والتنوير: 20/ 111.

(1/400)


" أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر " ((1)) . فبعد أن ضلوا الطريق واشتد عليهم البرد، فبينما هو كذلك إذ رأى ناراً، وكان ذلك نوراً من الله تعالى قد التبس بشجرة.
قال وهب: كانت عليقاً ((2)) . وقال قتادة: عوسجاً (3) . وقيل: زعروراً ((4)) .
وقيل: سمرة ((5)) قاله ابن مسعود، وأنس.
معناه أحس، والإحساس بالصبر، وكان هذا الأمر كله في جانب الطور وهو جبل في الشام ((6)) .
وقال بعض العارفين: " كان المبصر في صورة النار الحقيقية، أما حقيقته فوراء طور العقل، إلا أن موسى (- عليه السلام -) ظنه النار المعروفة " ((7)) .
{قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
بعد أن أظلم عليهم الليل في الصحراء، وضلوا طريقهم، فوجدوا برداً شديداً، فأبصر النار، فسار إليها يطلب من يدله على الطريق، وهو قوله: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} دلالة على أنه ضل. وفي قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} دلالة على البرد ((8)) .
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) روح المعاني: 20/ 72.
(2) العليق: نبات شانك معرش من فصيلة الورديات، زهوره صغيرة بيضاء أو وردية اللون، وله ثمار كثمار التوت، ينظر المحرر الوجيز: 12/ 163.
(3) العوسج: جنس شجيرات من فصيلة الباذنجانيات أغصانه شائكة وأزهاره مختلفة الألوان ينظر: المحرر والوجيز: 12/ 163.
(4) الزعرور: شجرة مثمر من فصيلة الورديات يكثر في مناطق المتوسط، ثمره أحمر وأصفر ينظر: المحرر الوجيز: 12/ 163.
(5) السمرة: وهو شجر من العضاة، وليس في العضاة أجود خشباً منه. ينظر: المحرر الوجيز: 12/ 163.
(6) ينظر: المحرر الوجيز: 12/ 163.
(7) روح المعاني: 20/ 72.
(8) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 244.

(1/401)


يمكن أن نستفيد من هذه الآية المعاني الآتية:
1.دلت الآيات على الوفاء بالعهد، وأنها من شيم المؤمنين وأخلاق الأنبياء، فقد وفى سيدنا موسى بما قبل على نفسه من شرط، ونفذ سيدنا شعيب ما جعله جزاء لهذا الشرط.
2.وفي هذه الآية دليل على أن للرجل أن يذهب بأهله حيث يشاء مما يرضي الله لما له عليها من فضل القوّامية وزيادة الدرجة، إلا أن يلتزم لها أمراً، فالمؤمنين عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج ((1)) .
3.ونستدل من قول سيدنا موسى {امْكُثُوا} على غيرته الشديدة على زوجته، وهو ما ينبغي أن يكون علية كل إنسان، فسيدنا موسى لما رأى النار لم يعرف مصدرها، فما أراد أن يأخذ أهله إليها لاحتمال وجود خطر، فأراد أن يجازف بنفسه ويعرف مصدرها ثم يرجع إليهم.
4.يتبين من سياق الآيات أن مسيرهم كان ليلاً، لقوله تعالى: {آنَسْتُ نَارًا} ، فالنار في الليل تُرى من مسافة بعيدة، وهذا ما جعله يرى النار من مسافة بعيدة، ولأن السفر في الليل أستر للعائلة وأسهل في المنفعة.
__________
(1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4997.

(1/402)


المطلب الثاني: تكليم الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -)
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} ((1)) .
المناسبة
بعد أن بينت الآيات السابقات مرحلة مهمة من حياة سيدنا موسى (- عليه السلام -) وهي تأهله وزواجه من ابنة شعيب لتكون له عوناً على تحمل مشاق الدعوة، وفي طريق عودته إلى مصر يرى ناراً، وتحرك ليعرف مصدر هذه النار، أو ليأتي بشيء منها {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ((2)) جاءت هذه الآيات لتبين مصدر النار ومصدر النداء قال {فَلَمَّا أَتَاهَا} ، أي: النار، ولما كان آخر الكلام دالاً دلالة واضحة على أن المنادي هو الله سبحانه وتعالى بنى للمفعول قوله دالاً على ما في أول الأمر من الخفاء {نُودِي} (3) .
تحليل الألفاظ
1. {تَهْتَزُّ} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 30 - 33.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.
(3) نظم الدر: 5/ 482.

(1/403)


الهزّ تحريك الشيء كما تَهْتَزّ القناة فتضطرب وتَهْتَز وهَزَّه يَهِزَّه هَزّاً وهَزَّ به وهَزَزَّه، والعرب تقول: هزّه وهزّ به إذا حركه ((1)) .
2. {جَانٌّ} :
" جَنَّ الشيء يَجِنَّه جَنّاً ستره، وكل شئ ستر عنك فقد جُنَّ عنك وجَنَّه الليل يَجِنَّه جَنَّاً وجُنُوناً وجَنَّ عليه يَجُنُّ بالضم. وسمي الجِنّ لاستتارهم واختفائهم عن الإبصار. والجَان أبو الجِنّ خُلق من نار، ثم خُلق من نسله. والجان: الجن، وهو اسم جمع ضرب من الحيات أكحل العينين يضرب إلى الصفرة، لا يؤذي، وهو كثير في بيوت الناس والجمع جِنَان. والجَانّ الشيطان أيضا ((2)) .
3. {وَلَّى} :
يقول الراغب الأصفهاني: " التولي يكون بالجسم وقد يكون بترك الإصغاء والإئتمار يقال: ولاه دبره إذا انهزم. قال تعالى {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ} (3) .
4. {مُدْبِرًا} :
الدُّبر: نقيض القُبُل، ودُبُر كل شئ عَقِبُه ومُؤَخَّره وجمعها أَدْبَار ودُبُر كل شئ خلاف قبله في كل شئ ((4)) .
5. {يُعَقِّبْ} :
العَقِبُ مؤخر الرجل. وقيل: عُقْب وجمعه أَعْقَاب وعَقبُ الشهر آخره، ورجع على عَقِبِه إذا انثنى راجعاً، وانقلب على عَقِبِه نحو رجع على حافرته، وعَقَبُه إذا تلاه عَقباً نحو دَبَره وقَفَاه. وقوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ((5)) ، أي: لم يلتفت وراءه " ((6)) .
6. {اسْلُكْ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (هزز) 5/ 423
(2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (جنن) 13/ 92 وما بعدها.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 352، سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 111.
(4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (دبر) 4/ 268
(5) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 10. سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 352.

(1/404)


" السُّلوك مصدر سَلَك طريقاً وسَلَك المكان يَسْلُكه سَلْكاً وسُلُوكاً وسَلَكَه غيره، والسَّلْك بالفتح مصدر سَلَكَت الشيء في الشيء فانْسَلَكَ، أي: أدخلته فيه فدخل، وسَلَكَ يده في الجيب يَسْلُكها وأَسْلَكَها: أدخلها فيه " ((1)) .
7. {الرَّهْبِ} :
" بالكسر يَرْهَب رَهْبَة ورُهْباً بالضم ورَهَبَاً بالتحريك، أي: خاف ورَهَبَ الشيء رَهْباً ورَهْبَة خافه " ((2)) .
القراءات القرآنية
1. {الْبُقْعَةِ} :
وقرأ مسلمة، والأشهب، والعقيلي بفتحها (البَقْعَة) . وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقول: هذه بَقْعَة طيبة ((3)) .
2. {إِنِّي أَنَا} :
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر بالفتح على الياء (إنيَ) ((4)) . وقرأ الجمهور على الكسر على إضمار القول، أو على تضمين النداء معناه. وقريء بالفتح (إنيَّ) وفيه إشكال لأنه إن جعلت أن تفسيرية وجب كسر (إني) للاستئناف والمفسر للنداء بما كان، وإن جعلتها مخففة لزم تقدير (إني) بمصدر، والمصدر مفرد وضمير الشأن لا يفسر بمفرد، والذي ينبغي أن يخرج عليه هذه القراءة أن تكون (أن) تفسيرية وإني معمولة لفعل مضمر تقديره: أن يا موسى أعلم إني أنا الله ((5)) .
3. {رَآهَا} :
قرأ الأصبهاني، وورش بتسهيل الهمزة، وقرأ حمزة، والكسائي وابن ذكوان بإمالة الراء والهمزة، وهنالك قراءة لأبي عمرو بإمالة الهمزة فقط، وهناك قراءة للسوسي بإمالة الراء ((6)) .
4. {وَلَّى} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (سلك) 10/ 442- 443.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (رهب) 1/ 436.
(3) ينظر الكَشَّاف: 3 /175. البحر المحيط: 7/ 116.
(4) النشر في القراءات العشر: 2 /342. الكشف عن وجوه القراءات: 2/176.
(5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 341.
(6) النشر في القراءات العشر: 1/ 45 ـ 46. وينظر معجم القراءات القرآنية: 5/ 19.

(1/405)


قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة ((1)) .
5. {الرَّهْبِ} :
وقرأ بفتح الراء والهاء ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر: (الرَّهَب) . وقرأ حفص بفتح الراء وسكون الهاء، وباقي السبعة بضم الراء وإسكان الهاء: (الرَّهْب) . وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري بضمها: (الرُّهُب) ((2)) .
6. {فَذَانِكَ} :
قرأ " ابن كثير، وأبو عمرو: (فَذَانّك) بتشديد النون، وباقي السبعة بتخفيفها. وقرأ ابن مسعود، وعيسى، وأبو نوفل: (فذانِيكَ) وهي لغة هذيل. وقرأ ابن كثير: (فذانَيْك) على لغة من فتح نون التثنية وقرأ ابن مسعود بتشديد النون مكسورة: (فذانِّيكَ) ((3)) .
7. {يَقْتُلُونِي} :
قرأ يعقوب: (يَقْتُلُونِي) وصلاً ووقفاً ((4)) .
القضايا البلاغية
1.التشبيه المرسل المجمل ((5)) في قوله تعالى: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} حذف وجه الشبه فاصبح مجملاً.
__________
(1) النشر في القراءات العشر: 2 /45 –46. إتحاف فضلاء البشر: ص 342.
(2) ينظر البحر المحيط: 7/ 118.
(3) ينظر كتاب السبعة في القراءات. أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي البغدادي أبو بكر. (245 ـ 324) . تحقيق: د. شوقي ضيف. دار المعارف. القاهرة. ط2. 1400 هـ: ص 493. التبيان في إعراب القرآن: 2/ 1020. الدر المصون: 5/ 342.
(4) ينظر النشر في القراءات العشر: 2/ 342.
(5) التشبيه المرسل: ما ذكرت أداته. والتشبيه المجمل: هو الذي لم يذكر فيه وجه الشبه، وهذه الآية جمعت التشبيهين. ينظر: التلخيص في عُلُوْم البلاغة. للإمام جلال الدِّيْن بن عَبْد الرَّحْمَن القزويني. ت 739 هـ. الطبعة الرابعة. مكتبة الكليات الأزهرية. 1384 هـ.: ص274 و 288.

(1/406)


2. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} ، فقد أورد الزمخشري ما في هذه الآية من فنون الإعجاز البلاغي " قلت: فيه معنيان: أحدهما أن موسى (- عليه السلام -) لما قلب الله العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء، فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد، لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى، فقد ضم جناحه إليه. والثاني أن يراه بضم جناحه إليه تجلده وضبط نفسه، وتشدده عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خوف نشر جناحيه وأرخاهما، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران، ومعنى
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} ، وقوله: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} على أحد التفسيرين واحد، ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، فالغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب. فإن قلت: قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً، وفي الآخر مضموماً إليه، وذلك قوله: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} . وقوله: {واضمم يدك إلى جناحك فالتوفيق؟ قلت: المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى، والمضموم إليه اليد اليسرى، وكل واحد من يمنى اليد ويسراهما جناح " ((1)) .
فيمكن أن نستنتج أن في هذه الآية تكرير حيث كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، وفي الثاني إخفاء الرهب.
وقال ابن عاشور: " وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في الكشاف بعيد " ((2)) .
__________
(1) ينظر الكشاف: 3/ 175.
(2) التحرير والتنوير: 20/ 114.

(1/407)


وفيها كناية، فضم الجناح كناية عن التجلد والضبط، وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف، وهو في الأصل مستعار
(استعارة تمثيلية) من فعل الطائر عند هذه الحالة، ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلاً فيه وكناية عنه ((1)) .
3.وهناك التفاته بلاغية أشار إليها الزمخشري في قوله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} ، " فإن قلت: لم سميت الحجة برهاناً؟ قلت: لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء: برهرهة بتكرير العين واللام معاً، والدليل على زيادة النون قولهم: أبره الرجل إذا جاء بالبرهان " ((2)) .
المعنى العام
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
{فَلَمَّا أَتَاهَا} يعني: الشجرة حيث قدم ضميرها عليها ((3)) . {نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ} . قال ابن عطية: " روي أنه كان يمشي إلى ذلك النور فكان يبعد منه تمشي به الشجرة وهي خضراء غضة حتى نودي، والشاطئ والشط ضفة الوادي. وقوله: {الأَيْمَنِ} يحتمل أن يكون من اليمن صفة للوادي أو للشاطئ. ويحتمل أن يكون المعادل لليسار، فذلك لا يوصف به الشاطئ إلا بإضافة إلى موسى في استقباله مهبط الوادي أو يعكس ذلك " ((4)) .
__________
(1) ينظر حاشية الشهاب: 7/ 297. الجدول في إعراب القرآن: 10/ 254.
(2) الكشاف: 3/ 176.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4996.
(4) المحرر الوجيز: 12/ 164.

(1/408)


{فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} " وصفت البقعة بالمباركة لما خصت به من آيات الله، وأنواره وتكليمه لسيدنا موسى (- عليه السلام -) ، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة " ((1)) .
والذي ببدو لي أنها وصفت بالمباركة بسبب ما جرى عندها من تكليم الله لسيدنا موسى، وامتلاءها بالأنوار الإلهية. وقيل: الشجرة العناب، أو هي شجرة العليق، أو سمرة، أو العوسج ((2)) ، ولا يوجد ثمة دليل قطعي يبين نوع الشجرة لا من كتاب ولا من سنه صحيحة، ولا يتوقف على معرفة نوع الشجرة في المعنى شئ من الأشياء.
وقد اختلف العلماء قديماً في مسالة كلام الله هل هو مخلوق أم لا؟ فأدى ذلك إلى نشوء عدة فرق، وكان سبباً لتسمية علم العقائد، أو علم التوحيد بعلم الكلام، لأن أهم مسألة وقع الخلاف فيها هي كلام الله، كما اختلفوا في تفسير آيات الصفات، فنشأت مدرستين مدرسة الإثبات، وتسمى في المشهور مدرسة السلف. " ومذهب السلف فإنهم يثبتون جميع الصفات التي وصف الله جل وعلا نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شئ " ((3)) .
__________
(1) البحر المحيط: 7/ 116.
(2) روح المعاني: 20/ 73.
(3) ينظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيميه. (661 ـ 728) . جمع وترتيب: عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن قَاسِم العاصمي النَّجْدِي الحَنْبَلِي وساعده ابنه مُحَمَّد. مطابع الرياض 1381 مطبعة الحكومة بمَكّة المُكَّرمة 1386 هـ.: 5/ 26. تفسير آيات الصفات بين المثبتة والمؤولة. د. محسن عبد الحميد. بغداد. (د. ت) .: ص 13.

(1/409)


ومدرسة التأويل المنضبط الأصولي التي ظهرت نتيجة لاستجابة علماء الإسلام للتحديات العقيدية والفكرية التي واجهتهم، فهؤلاء التزموا في تفسيراتهم بالقران والسنة، وقواعد اللغة، وقواطع العقل السليم ((1)) . ولكن ظهرت بعض الفرق التي لم تلتزم بمنهج مدرسة التأويل المنضبط منها المؤولة من الفلاسفة وفرق الباطنية، فظهرت آراء غريبة من غير ضابط من النص من القران أو السنة الصحيحة، أو اللغة ولا قواطع الأدلة، في تفاسير غريبة يتقاطع بعضها مع الَقُرْآن الكَرِيم والسنة النبوية لأنها نتاج عقول بشرية، وفي الحديث: ((من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ)) ((2)) .
آراء العلماء في مسالة كلام الله
أولاً ـ ذكر البزدوي ـ رَحِمَه الله ـ أن أهل السنة والجماعة قالوا: إن الله تعالى متكلم بالكلام وهو قديم بكلامه كما هو قديم بجميع صفاته وكلامه غير مخلوق ولا مختلف ولا حادث ولا محدث ((3))
ثانياً ـ قالت المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والروافض، والمجبرة أن كلام الله تعالى محدث ((4)) ، وحقيقة الكلام عند المعتزلة أنه حروف منظومة وأصوات مقطعة شاهداً وغياباً، والكلام ليس جنساً أو نوعاً ذا حقيقة عقلية كسائر المعاني، بل هو مجرد اصطلاح لا يكون إلا باللسان، فمن قدر عليه فهو المتكلم، ومن لم يقدر فهو الأعجم الأبكم ((5)) .
__________
(1) تفسير آيات الصفات: ص 13.
(2) سنن الترمذي: 5 /199 رقم (2951) وقال الترمذي: وهذا حديث حسن.
(3) أصول الدين: ص 53.
(4) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أُصُوْل الاعتقاد. إمام الحرمين الجويني. ت 478 هـ. تحقيق: د. مُحَمَّد يوسف موسى. وعلي عَبْد المنعم عَبْد الحسين. مطبعة السعادة.1369 هـ - 1950 م. أوفست مَكْتَبَة المثنى. بغداد. (د. ت.) .: ص 100.
(5) المعتزلة. زهدي حسن جار الله. مطبعة مصر. القاهرة. 1947.: ص 77.

(1/410)


ثالثاً ـ الكرامية " إن كلام الله تعالى حادث، فإن القادر على الكلام لا يكون متكلماً، والقدرة على الكلام يكون كلاماً كالقدرة على الحركة ليست بحركة " ((1)) .
رابعاً ـ وذهب الإمام الجويني إلى القول أنه " ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس، وهو الفكر الذي لا يبدو في الخلد، وتدل عليه العبارات تارة، وما يصطلح عليه من الإشارات ونحوها " ((2)) .
خامساً ـ قال هشام بن الحكم " إن لله تعالى كلاماً، ولا أقول إنه مخلوق أو غير مخلوق وروي عن أبي عبد الله البلخي، وعبد الله بن المبارك أنهما قالا بذلك، وهو مذهب أهل الحديث، وقالوا لا حاجة إلى القول إنه مخلوق أو غير مخلوق " ((3)) .
أما كيف كلم الله موسى (- عليه السلام -) ؟
فقد نقل الرازي آراء العلماء في ذلك:
الأول ـ قول المعتزلة إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم. احتجوا بقوله تعالى: {مِنْ الشَّجَرَةِ} ، فهذا صريح في أن موسى (- عليه السلام -) سمع النداء من الشجرة، والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وتعالى، متنزه أن يكون في جسم، فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم ((4)) .
وقد أجاب القائلون بقدم الكلام فقالوا: لنا مذهبان: الأول قول أبو منصور الماتريدي وأئمته ما وراء النهر، هو أن الكلام القديم القائم بذات الله تعالى غير مسموع، إنما المسموع هو الصوت والحرف، وذلك كان مخلوقاً في الشجرة منها، وعلى هذا التقدير زال السؤال ((5)) .
__________
(1) أصول الدين: ص 54.
(2) الإرشاد إلى قواطع الأدلة: ص 105.
(3) أصول الدين: ص 54.
(4) أصول الدين: ص 59. مفاتيح الغيب: 12/ 244.
(5) مفاتيح الغيب: 12/ 244.

(1/411)


الثاني: قول أبي الحسن الأشعري، وهو أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً، كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية، فعلى هذا القول لا يبعد أنه سمع الحرف والصوت من الشجرة، وسمع الكلام القديم من الله تعالى لا من الشجرة فلا منافاة بين الأمرين.
واحتج أهل السنة بان محل قوله: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} لو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله.
والمعتزلة أجابوا بأن هذا إنما يلزم لو كان المتكلم بالكلام هو محل الكلام لا فاعله، وهذا هو أصل المسألة.
أجاب أهل السنة: بأن الذراع المسموم قال: لا تأكل مني فإني مسموم ((1)) ، ففاعل ذلك الكلام هو الله تعالى، فإن كان المتكلم بالكلام هو فاعل ذلك الكلام لزم أن يكون الله قد قال: لا تأكل مني فإني مسموم، وهذا باطل، وإن كان المتكلم هو محل الكلام لزم أن تكون الشجرة قد قالت: إني أنا الله، وكل ذلك باطل ((2)) .
ونقل القرطبي كلاماً لأهل العلم في كيفية تكليم الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) :
قال المهدوي: " وكلم الله موسى (- عليه السلام -) من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء، أو لا يجوز أن يوصف بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين.
__________
(1) إشارة إلى تسميم الذراع الذي قدم لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . سنن أبي داود: 3 /350 رقم (3781) بلفظ (وسم في الذراع وكان يرى أن اليهود هم الذين سموه) . والحديث حسن.
(2) مفاتيح الغيب: 12/ 245 أصول الدين: ص 65.

(1/412)


وقال أبو المعالي: وأهل المعاني وأهل الحق يقولون: من كلّمه الله تعالى وخصّه بالرتبة العليا والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات، كما أن من خصّه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته، يرى الله سبحانه وتعالى منزهاً عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث، ولا مثيل له سبحانه في ذاته وصفاته.
وقال الأستاذ أبو إسحاق: واتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى (- عليه السلام -) معنى من المعاني أدرك به كلامه، وكان اختصاصه في سماعه وانه قادر على مثله في جميع خلقه.
وقال عبد الله بن سعد بن كلاب: " أن موسى (- عليه السلام -) فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام " ((1)) .
ونقل الآلوسي رحمه الله عن الشيخ الأشعري، والإمام الغزالي أنه " سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف، وهذا كما ترى ذاته عز وجل بلا كيف ولا كم. وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت، وكان ذلك بعد ظهوره عز وجل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة، وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق " ((2)) .
قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي} . هل هو نداء الوحي أم نداء الكلام؟
نقل الرازي اختلاف أهل العلم في ذلك " قال الحسن أن موسى (- عليه السلام -) نودي نداء الوحي لا نداء الكلام، والدليل عليه قول تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ((3)) .
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4998.
(2) روح المعاني: 20/74.
(3) سُوْرَة (طَه) : الآية 13.

(1/413)


وقال الجمهور: " إن الله تعالى كلّمه من غير واسطة بدليل قوله تعالى:
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ((1)) ، وسائر الآيات، وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف، لأن قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} ((2)) لم يكن بالوحي، لأنه لو كان ذلك أيضا بالوحي لانتهى أخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي والإلزام المتسلسل، بل المراد من قوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي " ((3)) .
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ}
قال ابن عطية: " أمره الله تعالى بإلقاء العصا فألقاها، فانقلبت حية عظيمة ولها اضطراب الجان ـ وهو صغير الحيات ـ فجمعت هول الثعبان، ونشاط الجان. وهذا قول بعضهم. قالت فرقة: بل الجان يعمّ الكبير والصغير، وإنما شبه بالجان جملة العصا لاضطرابها فقط، وولى موسى (- عليه السلام -) فزعاً منها ولم يعقب معناه: لم يرجع على عقبه من توليه فقال الله تعالى: يا موسى اقبل، فأقبل وقد آمن بتأمين الله إياه " ((4)) .
فانقلاب العصا حية أحد المعجزات التي أيد الله بها نبيه موسى (- عليه السلام -) .
وذكر الرازي عدة روايات في تبيان العصا سنذكر أهمها:
__________
(1) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 164.
(2) سُوْرَة (طَه) : الآية 13.
(3) مفاتيح الغيب: 12/ 245.
(4) المحرر الوجيز: 12/ 165.

(1/414)


قالوا: إن شعيباً كانت عنده عصى الأنبياء ـ عَلَيْهم السَّلام ـ فقال لموسى بالليل: إذا دخلت البيت فخذ عصا من تلك العصي، فأخذ عصا هبط بها آدم (- عليه السلام -) من الجنة، ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقفت إلى شعيب (- عليه السلام -) ، فقال: أرني العصا، فلمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال: خذ غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات، فعلم أن له معها شأناً.
وقال بعضهم: تلك العصا هي عصا آدم (- عليه السلام -) ، وأن جبريل (- عليه السلام -) أخذ تلك العصا بعد موت آدم (- عليه السلام -) ، فكانت معه حتى لقى بها موسى (- عليه السلام -) ربه ليلاً ((1)) .
وقال الحسن: ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً، أي: أخذها من عرض الشجر، يقال: اعتراض، أي: لم يتخير. وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج، ومنها كانت عصاه ((2)) .
والذي أراه أنه لا يمكن ترجيح إحدى هذه الراويات على الأخرى، لأنه لم يرد نص صحيح صريح في بيان ذلك، إلا ما ورد في سورة طه قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ((3)) ، فقد نقل الرازي عدة روايات في معنى سؤال الله عن العصا التي مع سيدنا موسى منها " إنه تعالى لما عرف موسى كمال الألوهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية، فسأله عن منافع العصا، فذكره بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر " ((4))
__________
(1) مفاتيح الغيب: 12/ 246- 247.
(2) ينظر تفسير القُرْآن. عَبْد الرَّزَّاق بن هَمَّام الصَّنْعَانِي. (126 ـ 211) . تحقيق: د. مصطفى مسلم مُحَمَّد. مَكْتَبَة الرشد. الرياض. ط2. 1410 هـ.: 2/ 493. مفاتيح الغيب: 12/ 247.
(3) سُوْرَة (طَه) : الآيتان 17 – 18.
(4) مفاتيح الغيب: 12 /25.

(1/415)


يرى الباحث أن سؤال الله سيدنا موسى (- عليه السلام -) عنها فيه دلالة على أن هذه العصا لم تكن عصا عادية، وأن الله قد أودع فيها مكنونات أسراره.
وقد كانت المعجزة في العصا من عدة وجوه:
أولا ـ تحولها إلى حية تسعى قال تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ((1)) . وقال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ((2)) . وقول تعالى:
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} ((3)) .
ثانياً ـ في تلقفها لحيات السحرة. قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} ((4)) . وقال تعالى: {أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} ((5)) .

ثالثاً ـ ضرب بها البحر فشق طريقاً له ولقومه. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} ((6)) .
رابعاً ـ استخدم العصا في ضرب الحجر. قال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} ((7)) .
ونقل الرازي عن الشيخ أبي القاسم الأنصاري ـ رَحِمَه الله ـ " وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة " ((8)) .
والمعجزة الثانية بياض اليد من غير سوء:
__________
(1) سُوْرَة (طَه) : الآية 20.
(2) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 107.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(4) سُوْرَة (طَه) : الآية 69.
(5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 117.
(6) سُوْرَة (طَه) : الآية 117.
(7) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 77.
(8) مفاتيح الغيب: 11/ 29.

(1/416)


قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} وقد جاء هذا الأمر في القرآن الكريم بثلاث عبارات:
أولها ـ في سورة طه: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} (1) .
ثانيهما ـ في سورة النمل: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} ((2)) .
ثالثهما ـ الذي في سورة القصص، والذي نحن بصدد تفسيره: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} .
" قال قتادة: في جيب قميصك، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها.
وقال ابن عباس، ومجاهد: كان كمها إلى بعض يده. وقال السدي: في جيبك، أي: تحت إبطك " ((3)) .
{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير برص. ونقل الطبري رواية عن الحسن قال: " خرجت كأنها المصباح فأيقن موسى أنه لقى ربه " ((4)) .
قال سيد قطب: " أطاع موسى الأمر وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره، ثم أخرجها، فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة إنها إشارة إلى إشراق الحق، ووضوح الآية، ونصاعة الدليل، وأدركت موسى طبيعة، فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة، ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة، ذلك أن يضم يده في على قلبه فتخفض من دقاته وتطامن من خفقاته" (5) .
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}
__________
(1) سُوْرَة (طَه) : الآية 22.
(2) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 12.
(3) البحر المحيط: 7/ 58.
(4) جامع البيان: 10/70.
(5) في ضلال القرآن: 6/ 346.

(1/417)


" والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها، فأدخلها في جيبك وأرددها إليك تعد كما كانت. وقيل: أمره الله أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه خوف الحية. قال ابن عباس: ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى (- عليه السلام -) ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب. وعن عمر بن عبد العزيز ـ رَحِمَه الله ـ أن كاتباً كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض، فقال له عمر: خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرغ روعك، فإني ما سمعتها من أحد اكثر مما سمعتها من نفسي. وقيل: المعنى اضمم يدك إلى صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف " ((1)) .
ما يستفاد من النصّ
دلت الآيات السابقات على جملة من المعاني التي يمكن تلخيصها بما يأتي:
دلت الآيات على أن سيدنا موسى (- عليه السلام -) تلقى نداءً من الله عَزَّ وجَلَّ بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وهذه الآية من الآيات المتشابهات التي اختلف العلماء في المراد منها مما فتحت الباب واسعاً للعلماء لجملة من التساؤلات التي أثارتها الآية، هل الكلام قديم أم حادث؟ وكيفية تكليم الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) مما بينا آنفاً؟
دلت الآية كذلك على تأييد الله لرسله وأنبياءه بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأن الله كذلك يعين الدعاة بالوسائل والأسباب التي تساعدهم على تنفيذ مهمتهم.
كذلك دلت على صفات فرعون وجنوده وهي (الفسق) ، والتي كانت سبب من أسباب إرسال سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى فرعون.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5000.

(1/418)


ودلت الآية على أنه لا بأس للداعية أن يحذر ما يعتقد أنه يمنعه من تنفيذ مهمته {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} . والمعنى أخاف أن يذكروا قتلي القبطي فيقتلوني، فأراد ان يكون في أمن إلهي من أعدائه، فهذا تعريض بالدعاء ومقدمة لطلب تأييده لهارون أخيه ((1)) .
المطلب الثالث: تأييد الله لسيدنا موسى (- عليه السلام -) بنبوة أخيه هارون (- عليه السلام -)
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ((2)) .
المناسبة
لما أمر الله جل وعلا سيدنا موسى (- عليه السلام -) في الآيات السابقات بالتوجه إلى فرعون وملأه ودعوتهم إلى عبادة الله وحده وزوده بالمعجزات المناسبة لزمن فرعون وما اشتهروا به من السحر، وذلك بقلب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء، عرض سيدنا موسى بالدعاء من الله بأن يحميه من أعدائه، ويكون بمأمن منهم، ومقدمة لطلب تأييده بهارون أخيه {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} ((3)) ، ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير فأرسل معي أخي هارون، الخ.
__________
(1) التحرير والتنوير: 20 /115.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 34 - 35.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 33.

(1/419)


غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال: {وَأَخِي هَارُونُ} ، أي: إنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة، إما بقتله، أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية من الأول لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها، وصرح بما يكفي من الثانية، فكان التقدير: إني أخاف أن يقتلوني فيفوت المقصود ولا يحمني من ذلك إلا أنت، وأن لساني فيه عقده وأخي هارون … الخ. وزاده في تعظيمه بضمير الفصل فقال: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} ، فنلاحظ هنا وجه أخر من وجوه الإعجاز في الآيات القرآنية هو التناسق والتناسب، فكل حرف وضع بعناية ليؤدي غرضاً بعينة بحيث لو وضعنا غيره لما أعطى المعنى المراد. وشاهدنا ترابط الآيات فيما بينها، وترابط الحروف مع بعضها.
تحليل الألفاظ
1. {أَفْصَحُ} :
الفصاحة: البيان فَصَحَ الرجل فَصَاحَةً فهو فَصِيْح من قوم فُصَحَاء وفِصاح وفُصَح وامرأة فَصِيحة من نسوة فِصاح وفَصَائِح. وتقول: رجل فَصِيح، وكلام فَصِيح، أي: بليغ، ولسان فَصِيح، أي: طلق ((1)) .
2. {رِدْءاً} :
رِدْأ رَدْأ الشي بالشيء، جعله له رِدْءاً.
وأَرَدَأَهُ: أعانه وترادأ القوم: تعاونوا، وأرْدَأتُه بنفسي إذا كنت له رِدْءاً، وهو العون، وفلان رِدْءٌ لفلان، أي: ينصره ويشد ظهره ((2)) .
3. {عَضُدَكَ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (فصح) 2/ 544.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (ردء) 1/ 84.

(1/420)


العُضُدُ والعَضِدُ والعَضُدُ من الإنسان وغيره الساعد، وهو ما بين المرفق إلى الكتف، والكلام الأكثر العَضُدُ والعَضُدُ: القوة، لأن الإنسان إنما يَقْوي بعَضُدِهِ فسميت القوة به. وقال الزجاج في معنى قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ، أي: سنعينك بأخيك. وكل معين فهو عَضُد ((1)) .
القراءات القرآنية
1. {رِدْءاً} :
هذه قراءة الجمهور. وقرأ نافع، والمدنيان بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الدال (رِدًاً) والمشهور عن أبى جعفر بالنقل ولا همز ولا تنوين، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف ((2)) .
2. {يُصَدِّقُنِي} :
قرأ عاصم، وحمزة بضم القاف فاحتمل الصفة لـ (ردأ) ، والحال احتمل الاستئناف. وقرأ الكسائي، وابن عامر، وأبو عمرو، وابن كثير، ونافع، وأبو جعفر، وخلف، ويعقوب بالإسكان: (يُصَدِّقْنِي) . وقرأ أبي، وزيد بن علي:
(يُصَدِّقُوْنِي) والضمير لفرعون وقومه. وقال ابن خالويه: هذا شاهد لمن جزم لأنه لو كان رفعاً لقال: يصدقونني ((3)) .
3. {إِنِّي أَخَافُ} :
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر: (إنِّيَّ) ((4)) .
4. {يُكَذِّبُونِي} :
قرأ يعقوب وصلاً (يكذبوني) ((5)) .
5. {عَضُدَكَ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (عضد) 3/ 292- 293.
(2) ينظر الكشاف: 3/ 176. البحر المحيط: 7/ 118. إتحاف فضلاء البشر: ص 342. غيث النفع: ص 316.
(3) ينظر السبعة في القراءات: ص 494. التيسير في القراءات السبع: ص 171. الكشاف: 3/ 176. البحر المحيط: 7/ 118.
(4) النشر في القراءات العشر: 2/ 242. الكشف عن وجوه القراءات: 2 /176. غيث النفع: ص 316.
(5) النشر في القراءات العشر: 2/ 342. إتحاف فضلاء البشر: ص 343.

(1/421)


قرأ الحسن، وعيسى بالفتح: (عَضَدَكَ) . وقرأ زيد بن علي، وقرأ الحسن أيضاً بالضم (عُضُدَك) . وعن الحسن أيضاً بضم العين وإسكان الضاد
(عُضْدُكَ) . وعن بعضهم بفتح العين وكسر الضاد وإسكانها (عَضِدُك، عَضْدُك) ((1) .
القضايا البلاغية
1.الإسناد المجازي في قوله تعالى: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} قال الزمخشري: " ليس الغرض بتصديقه أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، فذلك جار مجرى التصديق المفيد كما يصدق القول بالبرهان، ألا ترى إلى قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي} ، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك، لا لقوله صدقت، فإن سَحْبَان وبَاقِلاّ يستويان فيه، أو يصل جناح كلامه بالبيان حتى يصدقه الذي يخاف تكذيبه، فأسند التصديق إلى هارون، لأنه السبب فيه إسناداً مجازياً، ومعنى الإسناد المجازي: أن التصديق حقيقة في المصدق، فإسناده إليه حقيقية، وليس في السبب تصديق، ولكن استعير له الإسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة، والدليل على ذلك قوله: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} " ((2)) .
2.الاستعارة التمثيلية في قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} " شبّه حال موسى (- عليه السلام -) في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديد، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل من باب إطلاق السبب على المسبب بمرتبتين بأن يكون الأصل سنقويك به، ثم نؤيدك، ثم سنشد عضدك به " ((3)) .
المعنى العام
__________
(1) ينظر المحتسب: 2 /152. البحر المحيط: 7/ 118.إتحاف فضلاء البشر: ص 343 غيث النفع: ص 316.
(2) الكَشَّاف: 3 /176.
(3) محاسن التأويل: 13/ 4706 وينظر الجدول في إعراب القران: 20/ 256- 258.

(1/422)


{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي}
قال: رب إني قتلت من قوم فرعون نفساً فأخاف إن أتيتهم ولم أُبِنْ عن نفسي بحجة أن يقتلوني، لأن ما في لساني من عقدة يحول بيني وبين ما أريد من الكلام، وأخي هارون هو أَفْصَحُ مني لساناً واحسن بياناً فأرسله معي عوناً يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجنب الشبهات ويجادل هؤلاء الجاحدين المعاندين، وإني أخاف أن يكذبوني ولساني لا يطاوعني حين المحاجة، فأجابه سبحانه وتعالى: سنقويك ونعينك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً عظيماً وغلبة على عدوكما، فلا يصلون إليكما بوسيلة من وسائل الغلبة ((1)) .
هل كان سيدنا هارون نبياً:
لقد وردت آيات كثيرة في القران الكريم تؤكد على نبوة هارون (- عليه السلام -) منها:
قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} ((2)) .
قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} ((3)) ، فإرشاده لهم باتباعه يدل على أنه نبي.
__________
(1) تفسير المراغي: 20/ 57.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 163.
(3) سُوْرَة (طَه) : الآية 90.

(1/423)


قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} ، فهذه الدعوة من سيدنا موسى بأن يرسل إلى أخيه هارون كما أرسله فاستجاب الله لدعائه وأعطاه ما أراد بقوله: {قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ((1)) .
قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ((2)) ، ففي هذه الآية دلالة واضحة على إرسال سيدنا هارون (- عليه السلام -) .
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} ((3)) .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} ((4)) .
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ((5)) .
فقد نقل الرازي أقوال العلماء فيها:
" قال مقاتل: المعنى كي يصدقني فرعون، والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان، فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون.
قال السدي: إن نبيين وآيتين أقوى من نبي واحد وآية واحدة.
__________
(1) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 13-15.
(2) سُوْرَة المُؤْمِنُوْنَ: الآية 45.
(3) سُوْرَة مَرْيَمْ: الآية 53.
(4) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 48.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 33- 35.

(1/424)


وقال القاضي: والذي قاله من جهة العادة أقوى، فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم وإن لم ينظر فالحالة واحدة، هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة، فأما إذا اختلفت وأمكن في أحدهما إزالة الشبه، ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يختلفا، ويصلح عند ذلك أن يقال: إنها بمجموعها أقوى من إحداهما على ما قاله السدي، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة) ((1)) .
والذي أراه:
إنه بعد استعراضنا الآيات القرآنية تبين لنا بما لا يقبل الشك أن سيدنا هارون (- عليه السلام -) قد كان رسولاً إلى فرعون وملائه وبني إسرائيل، ومن ذلك يتبين لنا حجم المهمة التي اضطلع بها سيدنا موسى وأخيه، فقد أرسله الله إلى ملك متجبر طاغية ضرب به المثل في الظلم والتكبر حتى أداه تكبره إلى ادعاء الربوبية. قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ((2)) .
فإن رسالتها رسالة واحدة، قال تعالى في سورة طه: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} ((3)) . وفي الشعراء: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ((4)) . وقال في سورة طه: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} ((5)) ، ففي هذه الآيات وآيات آخر دلالة على أن مهمتهما كانت مهمة واحدة.
ما يستفاد من النصّ
نستطيع أن نستنبط المعاني الآتية مما مرّ من الآيات القرآنية.
__________
(1) مفاتيح الغيب: 12/ 249- 250.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(3) سُوْرَة (طَه) : الآية 47.
(4) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 16.
(5) سُوْرَة (طَه) : الآية 47.

(1/425)


أولا ـ إذا كلف والي أمر المسلمين أحداً بمهمة ما، أو أسند إليه مسؤولية ما، لا ضير عليه أن يطلب إشراك غيره معه في المهمة إذا كانت نيته خالصة لله، ويريد الإخلاص والنجاح في مهمته، حتَّى ولو كان ذلك المستعان به أخوه، أو ابنه، إذا كان ينطبق عليه الشرط السابق للعمل {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((1)) ، وشرط أن يكون العمل المكلف به مما يرضي الله أولاً.
ثانياً ـ وكذلك على المكلف بواجب أو مهمة أن يبين لمن كلّفه ويصارحه بكل شيء يمكن أن يفسد عليه مهمته ويقترح ما يعتقده كافٍ في إزالة هذه العوائق {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} وقد أجابه الله تعالى بإرسال هارون معه إلى فرعون وملائه ((2)) .

المطلب الرابع: المقارنة بين سورة النمل وسورة القصص
من خلال الآيات الخاصة ببعثة
سيدنا موسى (- عليه السلام -)

سورة النمل
سورة القصص

إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
------
سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ
أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ
فَلَمَّا جَاءَهَا
نُودِيَ أَنْ بُورِكَ
وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
يَامُوسَى
إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
وَأَلْقِ عَصَاكَ
يَا مُوسَى لا تَخَفْ
إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
فِي تِسْعِ آيَاتٍ
-------
إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ
آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا
امْكُثُوا
لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ
أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ
فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26.
(2) ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 373.

(1/426)


------
أَنْ يَامُوسَى
إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ
يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ
إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ
------
اسْلُكْ يَدَكَ
فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ

من خلال استعرضنا لقصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) في القران الكريم نلاحظ أنها ذكرت مرات عديدة وبصيغ مختلفة، وقد تكلمنا في الفصل التمهيدي عن فوائد وأغراض التكرار في القصة القرآنية، وسنتكلم الآن عن الأوجه المناسبة والاختلاف في بعض الألفاظ بين سورتي النمل والقصص فيما يخص بعثة سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، فقد لا حظنا هناك اختلاف في الزيادة والنقصان في بعض الكلمات، وسنبين أسباب هذا الاختلاف وماذا يعني ذلك.
فكما نعرف أن سورة القصص قد استوعبت تقريباً كل مراحل حياة سيدنا موسى (- عليه السلام -) تقريباً ابتداء من اللحظات التي سبقت ولادته إلى بعثته وما بعدها من أحداث، أما ما ورد في سورة النمل فلم يكن بهذا التوسع، وورد بصورة مجملة.
وقد درسها الدكتور فاضل صالح السامرائي بالتفصيل في كتابه لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ((1)) . وفيما يأتي بعض من هذه المقومات:
قال تعالى في سورة النمل {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} وقال في سورة القصص: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} . في سورة القصص زاد {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} ، وذلك لمقام التفصيل الذي بنيت عليه القصة في سورة القصص.
قال في سورة النمل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} وقال في سورة القصص: {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} بزيادة {امْكُثُوا} وذلك لمقام التفصيل في سورة القصص أيضاً.
__________
(1) لسمات بيانية في نصوص من التنزيل: ص 69- 86

(1/427)


قال في سورة النمل: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ، وقال في القصص:
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ، فبنى الكلام في سورة النمل على القطع
{سَآتِيكُمْ} وفي القصص {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} إن مقام الخوف في القصص لم يدعه يقطع بالأمر، فإن الخائف لا يستطيع القطع بما سيفعل بخلاف الأمن، ولما لم يذكر الخوف في سورة النمل بناه على الوثوق والقطع بالأمر.
إن الترجي من سمات سورة القصص، والقطع من سمات سورة النمل واليك الشواهد.
قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ((1)) وهو ترجي
{عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((2)) وهو ترج أيضاً.
{لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} ((3)) .
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ((4)) .
{لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ((5)) .
{لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((6)) .
{فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((7)) .
وقال: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ((8)) .
أما سورة النمل لم يرد ترجي إلا في موطنين وهما:
قوله: {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} ((9)) .
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ((10)) .
فناسب الترجي ما ورد في القصص، وناسب القطع واليقين ما ورد في سورة النمل.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 43، 46، 51.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 73.
(9) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 7.
(10) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 46.

(1/428)


وكذلك كرر فعل الإتيان في سورة النمل فقال: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ} ، ولم يكرر في القصص بل قال: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} ، فأكد الإتيان في سورة النمل لقوة يقينه في حين لم يكرر فعل الإتيان في القصص مناسبة لجو الخوف.
قال في سورة النمل: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} وقال في القصص: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} . فذكر في سورة النمل أنه يأتيهم بشهاب قبس والشهاب هو شعلة من النار ساطعة ومعنى (القبس) : شعلة نار تقتبس من معظم النار. (والجذوة) العود الغليظ في رأسه نار (1) ، والشهاب الشعلة والقبس: النار المقبوسة ((2)) .
أولا: المجيء بالشهاب أحسن من المجيء بالجمرة، لأن الشهاب يدفئ أكثر من الجمرة لما فيها من اللهب الساطع، كما أنه ينفع في الاستنارة أيضاً، فهو أحسن من الجذوة في الاستضاءة والدفء.
وثانياً: إنه سيأتي بالشهاب مقبوساً من النار، وليس مختلساً أو محمولاً منها، لأن الشهاب يكون مقبوساً وغير مقبوس ((3)) ، وهذا أدل على القوة والثبات، لأن معناه أنه سيذهب إلى النار ويقبس منها شعلة ساطعة، أما في القصص فقد ذكر أنه ربما أتى بجمرة من النار ولم يقل إنه سيقتبسها منها، ولا شك أن الحالة الأولى أكمل لما فيها من زيادة دفع كل تعبير في موطنه اللائق به، ففي موطن الخوف ذكر الجمرة، وفي غير موطن الخوف ذكر الشهاب القبس.
__________
(1) الكشاف 3/ 244
(2) الكشاف 3/ 137
(3) ينظر: الكَشَّاف: 3 /137. البحر المحيط: 7/55.

(1/429)


قال في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} ، وقال في القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي} ، وقد فرق الراغب بين المجيء والإتيان فقال: " المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم لأن الإتيان مجيء بسهولة، والإتيان قد يقال باعتبار القصد وأن لم يكن منه الحصول، والمجيء يقال اعتباراً بالحصول " ((1)) ، فإن ما قطعه موسى على نفسه في سورة النمل أصعب مما في سورة القصص، فقد قطع على نفسه أن يأتيهم بخبر أو بشهاب قبس، في حين ترجى ذلك في القصص، والقطع أشق وأصعب من الترجي، وغالباً ما يستعمل القران الكريم المجيء لما فيه صعوبة ومشقة ((2)) .
ذكر في القصص جهة النداء {نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} ، ولم يذكر الجهة في سورة النمل، وذلك لأن موطن القصص موطن تفصيل وموطن النمل موطن إيجاز.
قال في سورة النمل: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال في القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . قال الرازي: " ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل، إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء " ((3)) ، ولأن الموقف في سورة النمل موقف تعظيم.
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القران: ص 120.
(2) ينظر: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل. د. فاضل صالح السامرائي. الطبعة الأولى. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد. 1999 م: ص 74 - 80.
(3) مفاتيح الغيب: 12/ 425. البحر المحيط: 7/ 117.

(1/430)


قال في سورة النمل: {يَا مُوسَى} ، وقال في القصص: {أَنْ يَا مُوسَى} ، فجيء بـ (أن) المفسرة، وذلك لأن المقام في سورة النمل مقام تعظيم لله سبحانه وتعالى وتكريم لموسى فشرفه بالنداء المباشر، في حين ليس المقام كذلك في القصص، فجاء بما يفسر الكلام، أي: ناديناه بنحو هذا، أو بما هذا معناه ((1)) .
قال في سورة النمل: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وقال في القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فجيء بضمير الشان الدال على التعظيم في آية النمل (إِنَّهُ أَنَا) ، ولم يأت به في القصص، ثم جاء باسميه الكريمين (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في سورة النمل زيادة في التعظيم.
قال في سورة النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} ، وقال في القصص: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ، فجيء بـ (أن) المفسرة أو المصدرية، ويقال فيها مثل ما قيل في الفقرة العاشرة من النمل {يَا مُوسَى} ، وفي القصص {أَنْ يَا مُوسَى} .
قال في سورة النمل: {يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ} . وقال في القصص: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} بزيادة {أَقْبِلْ} ، وذلك أن مقام الإيجاز في سورة النمل يستدعي عدم الإطالة، ولأن شيوع جو الخوف في القصص يدل على إيغال موسى في الهرب، فدعاه إلى الإقبال وعدم الخوف ((2)) .
قال في سورة النمل: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ، وقال في القصص: {إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} ، وذلك أن المقام في سورة القصص مقام الخوف، والخوف يحتاج إلى الأمن، فأمنه قائلاً: {إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} ، وأما في سورة النمل فالمقام مقام تكريم وتشريف. فقال: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ((3)) .
__________
(1) لمسات بيانية: ص 80.
(2) المصدر نفسه: ص 80.
(3) لمسات بيانية: ص 83.

(1/431)


قال في القصص: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} ، ولم يذكر مثل ذلك في سورة النمل، والرهب هو الخوف، وهو مناسب لجو الخوف الذي تردد في القصة، ومناسب لجو التفصيل فيها ((1)) .
يقول الباحث: بعد هذا العرض لأوجه الاختلاف بين هذين النصين يمكن أن نقول أن ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب:
السبب الأول ـ هو أن سورة القصص جاءت مفصلة استوعبت كلّ جوانب حياة سيدنا موسى تقريباً، بينما وردت هذه القصة بصورة مجملة في سورة النمل، فكان ذلك سبباً من أسباب الاختلاف.
السبب الثاني ـ طابع الخوف الذي كان سمة من سمات سوره القصص فكان سبباً أخراً من أسباب الاختلاف.
السبب الثالث ـ إن المقام في سورة النمل مقام تكريم لسيدنا موسى (- عليه السلام -) أوضح مما هو في القصص ((2)) .
ففي سورة القصص كان جو القصة مطبوعاً بطابع الخوف، وفيما يأتي جرد لعبارات الخوف التي جاءت في سُوْرَة الْقَصَصِ:
فقد خافت أم موسى (- عليه السلام -) على ولدها من فرعون وملائه قال تعالى:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي} ((3)) .
ومن شدة الخوف اصبح فؤادها فارغاً من الحزن قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((4)) .
خوفه بعد قتل القبطي: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((5)) .
وبعد خروجه من مصر قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((6)) .
__________
(1) المصدر نفسه: ص 83.
(2) المصدر نفسه: ص 70.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.

(1/432)


بعد أن ذهب إلى مدين واتصل بالشيخ الكبير والد البنات وقص عليه قصته فطمأنه: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((1)) .
وبعد البعثة طلب المعونة من الله أن يرسل معه أخوه هارون {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((2)) .
ونلاحظ في سورة النمل أنه لم يرد ذكر للخوف إلا في مقام العصا: {يا يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ((3)) . وانما اخترنا سُوْرَة النَّمْلِ نموذجاً للمقارنة بين القصتين، وقد وضعنا الجدول في أول المطلب لتسهيل المقارنة.

المبحث الثاني: موقف فرعون وقومه من دعوة سيدنا موسى (- عليه السلام -)
المطلب الأول: اتهام سيدنا موسى بالسحر
{فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((4)) .
المناسبة
لقد بينت الآيات السابقات أن الله جل وعلا قد وعد سيدنا موسى بأن يجيب طلبه ودعائه بأن يحميه من فرعون وملائه، وأن يرسل معه أخوه هارون معيناً:
{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} ، وليبين جل وعلا سرعة امتثال موسى وهارون لأمر الله قال: {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(3) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 10.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 36 - 37.

(1/433)


وقال البقاعي: " ولما كان التقدير فأتاهم كما أمر الله وعاضده أخوه كما أخبر الله ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهر ما أمر به من الآيات بنى عليه قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله {فَلَمَّا جَاءهُمْ} ، أي: فرعون وقومه، ولما كانت رسالة هارون (- عليه السلام -) إنما هي تأييد لموسى (- عليه السلام -) أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي فقال {مُوسَى بِآيَاتِنَا} ((1)) .
فنلاحظ مرة أخرى إلى روعة التناسق والتناسب في الآيات القرآنية كذلك الروعة في استخدام الحروف للدلالة على معانٍ لا يمكن أن تعبر عنها الجمل الطويلة.
تحليل الألفاظ
1. {سِحْرٌ} :
قال ابن منظور: هو كل ما لطف مأخذه ودقّ فهو سِحْر والجمع أسْحَار وسَحُور وسَحَرَة يَسْحَرَه سَحْراً وسِحْراً وسحَّرَه. ورجل ساحِر من قوم سَحَرَة وسُحَّار من قوم سَحَّارِين. وأصل السِحْر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأن الساحر لمّا أُري من الباطل في الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته ـ وقد سَحَر الشيء عن وجهه، أي: صرفه ((2)) وعرف الشافعي السِحْر بأنه: " عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور وقلبه، أو عقله من غير مباشرة وله حقيقته " ((3)) .
2. {مُفْتَرًى} :
الفِرْية الكذب فَرَى كَذِباً فَرْيَاً وافْتَرَاه اختلقه، ورجل فَرِىُّ ومِفْرىً وأنه لقبيح الفِرْيَة، قال الليث: يقال فَرَى فلان الكذب يَفْرِيه إذا اختلقه ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {وَقَالَ مُوسَى} :
__________
(1) نظم الدرر: 5/ 488.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (سحر) 4/ 348.
(3) المغني (ابن قدامة) : 8/ 28.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (فري) 15/ 154.

(1/434)


قرأ ابن كثير: (قال) بغير واو لأنها كذلك في مصحف أهل مكة كأنه استئناف كلام. وقرأه الباقون: (وقال) بالواو، كأنه عطف على ما قبله عطف جملة على جملة ((1)) .
2. {رَبِّي أَعْلَمُ} :
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر بالفتح (رَبِّيَ) بالفتح ((2)) .
المعنى العام
{فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}
{فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا} وهي العصا واليد (بينات) ، أي واضحات الدلالة على صدقه وأنه أمر خارق معجز، كفوا عن مقاومته ومعارضته، فرجعوا إلى البهت والكذب، ونسبوه إلى السحر، لأنهم يرون الشيء على حالة، ثم يرونه على حالة أخرى، ثم يعود إلى الحالة الأولى، فزعموا أنه سحر يفتعله موسى ويفتريه على الله، فليس بمعجز ثم مع دعواهم إنه سحر مفترى وكذبهم في ذلك، زادوا في الكذب أنهم ما سمعوا بهذا في آباءهم، أي: في زمان آبائهم وأيامهم ((3)) .
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
لما اخبره تعالى بقولهم عطف عليه الأخبار بقول موسى (- عليه السلام -)
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، ليوازن السامع بين الكلامين ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما فبضدهما تتبين الأشياء ((4)) .
__________
(1) الكشف عن وجوه القراءات: 2/ 174 الإقناع في القراءات السبع: 2/ 723.
(2) الكشف عن وجوه القراءات: 2/ 176.
(3) ينظر البحر المحيط: 7/ 119.
(4) ينظر نظم الدرر: 5/ 489.

(1/435)


وقال الرازي في تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} :
" من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة، والدليل عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ} ((1)) . وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} ((2)) ، والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقابها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت، فإن قيل: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار، لأن الدنيا قد تكون خاتمتها خير في حق البعض، وشر في حق البعض الآخر، فلم اختصت خاتمتها بالخير في هذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلنا: إنه قد وضع الله سبحانه وتعالى الدنيا مجازاً إلى الآخرة، وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الخير، وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار، ثُمَّ إنه (- عليه السلام -) أكد ذلك بقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، أي: لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع، بل يحصلون على ضد ذلك، وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم " ((3)) .
ما يستفاد من النص
__________
(1) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآيتان 22 -23.
(2) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآية 42.
(3) مفاتيح الغيب: 12 / 351.

(1/436)


أولاً ـ في هذه الآية بشرى من البشارات القرآنية لانتصار المسلمين على أعدائهم، وذلك قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، وهذه الآية نظير ما جاء في سورة الأعراف من قول موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((1)) .
فمن السنن الإلهية التي لا تنتهي أبداً هي أن العاقبة الحسنة للمتقين في الدنيا والآخرة، وليست مقصورة على الآخرة بدخول الجنان، وإنما تشمل عاقبتهم الحسنة المرضية في الدنيا، وتشمل انتصارهم على أعدائهم وإزالة الظلم عنهم، واسترداد حقوقهم، وعزتهم وكرامتهم، وعلو مكانتهم. وهذه العاقبة الحسنة هي للمتقين من عباده، وهم القائمون بكل مقتضيات ولوازم العبودية لله، والتي هي عبادة الله وحده لا شريك له، وتنفيذ ما أمر الله به، والابتعاد عمّا نهى عنه، وتحكيم شرع الله، وإقامة المجتمع الصالح القائم على الأخلاق الفاضلة التي ربى عليها الإسلام الجيل الأول ((2)) .
ودلت كذلك على الاستعانة بالله في جميع الأحوال وجمع الكلمة، ولا ينبغي للمسلم أن ييأس أبداً.
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128.
(2) ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 375.

(1/437)


ثانياً ـ نلاحظ التشابه الواضح في رد فعل قوم فرعون من دعوة سيدنا موسى (- عليه السلام -) واتهامهم له بالسحر في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ، ورد فعل كفار قريش من دعوة المصطفى
(- صلى الله عليه وسلم -) وعجزهم عن معارضته لما رأوا فصاحة القران وبلاغته، نسبوه إلى السحر قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} ((1)) ، فعلى الدعاة أن لا يضجروا من عدم استجابة من يدعونهم إلى الله، فالناس بطبيعتهم يختلفون في مدى استعدادهم للاستجابة لصوت الحق وفي سرعة هذه الاستجابة، فمن الناس من يقبل الحق بدون تردد، ومن الناس من لا يقبل الدعوة إلى الله ويظل يقاومها ثُمَّ يقبلها بعد ذلك، فعلى الداعي أن يفقه ذلك، ولا يتعجب ولا ييأس من الاستجابة له حتَّى من أعتى الناس وأشدهم مقاومة للدين ((2)) .
وكذلك ما ورد أيضا من تشابه بين ما جاء في خطاب سيدنا موسى
(- عليه السلام -) لقومه: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} .
وما ورد من خطاب الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) للمشركين بقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} ((3)) .
وهو يرجح ما ذهبت إليه.
__________
(1) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 30.
(2) ينظر المستفاد من قصص القران: 1/ 376.
(3) سُوْرَة سَبَأ: الآيات 24-26.

(1/438)


المطلب الثاني: ادعاء فرعون الألوهية وتكبره وملؤه في الأرض
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((1)) .
المناسبة
بعد أن بينت الآيات السابقات سرعة امتثال سيدنا موسى لأمر الله بدعوته لفرعون وقومه، وجاءهم بالمعجزات الدالات على صدقه، فاتهموه بالسحر، فقال لهم موسى بكل أدب: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فتضمن رده عليهم ترغيب وترهيب بعد أن قدم لهم المعجزات، وجاء رده عليهم بأسلوب غاية في الروعة، وبأسلوب عالٍ من أدب الخطاب والمناظرة " فهو لم يؤكد أن خصمه في ضلال، كما لم ينسبه إلى نفسه، بل ردده بينهما وهو يعلم انه لأيهما " ((2)) ، ثم علل هذا بأن من سنن الله أن المخذول هو الكاذب فقال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 38 - 39.
(2) تفسير المراغي: 20/ 58.

(1/439)


ثم يأتي النص القرآني والذي نحن بصدد تحليله ليبين في الجانب الآخر رد فرعون على مقالة موسى بمقالة تدل على الجهل ونقصان العقل ليؤكد النص القرآني على أنه بلغ غاية لا حد لها في الإنكار، وأنه لا مطمع في إيمانه لعتوه وطغيانه واستكباره في الأرض، وما جرى له من العذاب في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} ((1)) . فأراد النص القرآني في هذا المقطع أن يبين الفرق بين رد أهل الحق المتمثل في قول موسى المتفائل بنصر الله والمتوكل على الله، ورد فرعون المتكبر الظالم وليبين لنا بوضوح الفرق بين أخلاق الأنبياء، وبين أخلاق أعداء الله.
تحليل الألفاظ
{صَرْحًا} :
الصَّرْح بيت واحد يبنى منفرداً ضخماً طويلاً في السماء. وقيل: هو القصر. وقيل: هو كل بناء مرتفع. وقال الزجاج: الصَّرح في اللغة القصر والصحن ((2)) . وقال الراغب الأصفهاني: " وهو بيت عالي مزوق سمي بذلك اعتباراً بكونه صرحاً عن الشوب، أي: خالصاً " ((3)) .
وقال الآلوسي هو: " بناء مكشوف عالياً، من صرح الشيء إذا ظهر " ((4)) .
وقال ابن عاشور هو: " القصر المرتفع " ((5)) .
القراءات القرآنية
1. {لَعَلِّي} :
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر بالفتح:
(لَعَلَى) ((6))
2. {لاَ يُرْجَعُونَ} :
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 38- 39.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (صرح) 2/ 511.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 287.
(4) روح المعاني: 20/ 80.
(5) التحرير والتنوير: 20/ 123.
(6) ينظر الإقناع في القراءات السبع: 2/ 721.

(1/440)


قرأ حمزة، والكسائي، ونافع: (لاَ يَرْجِعُون) مبيناً للفاعل والجهور مبيناً للمفعول ((1)) .
القضايا البلاغية
في قوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} فيها إطناب ((2)) بديع، وذلك أنه لم يقل: اطبخ لي الآجر، وذلك ليتفادى ذكر كلمة الآجر لأن تركيبها على سهولة لفظه ليس فصيحاً، وذلك امر يقرره الذوق وحده، فعبر عن الآجر بالوقود على الطين لأن هذه العبارة أحسن مطابقة لفصاحة القرآن، وعلو طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة، وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين، منادى باسمه بـ (يا) في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر، وقد اشتملت هذه العبارة على الكثير من ألفاظ الجبابرة العتاة، وذلك على الوجه الآتي:
نادى وزيره بحرف النداء.
توسيط ندائه خلال الأمر وبناء الصرح.
رجاؤه الإطلاع إلى الله.
الغباء الذي يلازم الجبابرة العتاة، إذ يقعون في التناقض من حيث لا يشعرون، فقد صرح قبل قليل بقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، فعرب عن نفي المعلوم بنفي العلم، وأعلن تصميمه على الجحود، ثُمَّ ما عتم أن أعلن رجاءه الإطلاع، فهل كان مصمماً على الجحود أم لم يكن ((3)) ؟
المعنى العام
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}
__________
(1) ينظر الكَشَّاف: 3 /180. البحر المحيط: 7/ 120.
(2) الإطناب: هو البلاغة في المنطق والوصف مدحاً كان أو ذماً، وأطنب في الكلام بالغ فيه. ينظر معجم المصطلحات البلاغية: 1 /224.
(3) ينظر الكَشَّاف: 3 /179 –180. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /231.

(1/441)


أي: وقال فرعون منكراً لما أتى به موسى (- عليه السلام -) من توحيد الله وحده وعبادته، فقد اخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: " لما قال فرعون: {يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال جبريل (- عليه السلام -) : يا رب طغى عبدك، فأذن لي في هلاكه، قال: يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني له أجل قد أجلته حتى يجيء ذلك الأجل، فلما قال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} ((1)) قال جبريل: قد سكنت روعتك بقى عبدي وقد جاء أوان هلاكه " ((2))
{فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ}
" أي أطبخ لي يا هامان الآجر، فعن ابن عباس (رضي الله عنه) وقتادة: هو أول من صنع الآجر وبنى به " ((3)) .
وقد اختلف العلماء في فرعون هل بنى الصرح أم لا؟
1.فقال قوم: إنه بناه، " فقالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتَّى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الاتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتَّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث الله تعالى جبريل (- عليه السلام -) عند غروب الشمس فضربه بجناحيه فقطعه ثلاث قطع " ((4)) .
ونقل الآلوسي رواية عن السدي " بأنه لما بنى له الصرح ارتقى فوقه، وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دماً فقال: قتلت إله موسى " ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 24.
(2) ينظر تفسير ابن أبي حاتم: 9/ 2979. والأثر لم أقف عليه في كتب الأحاديث والآثار.
(3) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5004 وما بعدها.
(4) مفاتيح الغيب: 12 /253.
(5) روح المعاني: 20 /80.

(1/442)


2.ومن الناس من قال: إنه لم يبن ذلك الصرح، لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما يراها حين كان على قرار الأرض، ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل، وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء، وأن من حاول ذلك كان من المجانين، فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل، فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القران ((1)) .
والذي أراه أن أمر فرعون لهامان ببناء الصرح لم يكن يقصد البناء حقيقة، ولكنه أراد الاستهزاء بموسى وتكذيبه بدلالة قوله تعالى حكاية عن فرعون: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ} بعد الأمر ببناء الصرح، فهو إنما أراد أن يبين لهم بطريقة الاستدلال العقلي أنه لا دليل حيّ على وجود إله موسى، فأوهمهم بأن الإله لا بد أن يكون محسوساً، وهذا ما أراده من قوله لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}
أي: ما دمت أنا محسوساً فأنا أحق بالعبادة من إله موسى غير المحسوس وهذا من قلة عقله واستخفافه بعقول قومه.
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
__________
(1) المصدر نفسه: 20/ 80.

(1/443)


أي: رأوا كل من سواهم حقيراً بالإضافة إليهم، ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم، فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك للعبيد في الأرض وقوله: {بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، لأن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر، أي: المتبالغ في كبرياء الشأن، فكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق ((1)) . قال (- صلى الله عليه وسلم -) فيما يحكيه عن ربه: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحدة منهما قذفته في النار)) ((2)) .
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ}
الظن، قيل: إما على ظاهره، أو عبر عن اعتقادهم به تحقيراً وتمهيلاً ((3)) .
ويقول الرازي في معنى قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ، فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى، إلا أنهم كانوا ينكرون البعث، فلأجل ذلك تمردوا " ((4)) .
وقال ابن عاشور: " فذكر (إلينا) لحكاية الواقع وليس بقيد، فلا يتوهم أنهم أنكروا البعث ولم ينكروا وجود الله مثل المشركين، وبتقديم (إلينا) على عامله لأجل الفاصلة، ويمكن أن يكون المعنى: وظنوا أنهم في منعة من أن يقعوا في قبضة قدرتنا " ((5)) . أو أنهم كانوا يعتقدون بالبعث، ولكن الذي يحاسبهم هو فرعون وليس الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما هو الواقع بدليل قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُون} .
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) ينظر الكشاف: 3/ 181. روح المعاني: 20/ 82.
(2) صحيح ابن حبان: 2 /35. المستدرك على الصحيحين: 1 /129. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأخرجه مسلم بغير هذا اللفظ.
(3) روح المعاني: 20/ 83.
(4) مفاتيح الغيب: 12/ 254.
(5) التحرير والتنوير: 20/ 124.

(1/444)


لقد ذم القرآن الكريم في آيات كثيرة الكبر بصورة مباشرة أو من خلال ذكره لقصص المتكبرين في الأرض وذمه لهم، وتبيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وفي هذه الآية يقص علينا القرآن قصة من قصص المتكبرين في الأرض، وكيف أوصله تكبره إلى ادعاه الألوهية، فكان عاقبته أنه وقومه في النار.
ودلت كذلك على التشابه بين ردّ فرعون وقومه من دعوة موسى (- عليه السلام -) ورد فراعنة قريش من دعوة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) كأبي جهل، وأمية بن خلف، وغيرهم. وفي هذه الآية تحذير واضح لكل من يقف في طريق الدعوة إلى الله من الحكومات والأفراد، فمهما بلغ من القوة والمنعة فإنه ليس بمأمن من قوة الله وعقابه في الدنيا والآخرة.

المطلب الثالث: عاقبة فرعون وجنوده
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) .
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 40 - 43.

(1/445)


بعد أن بينت الآيات السابقات الدواعي لاستحقاق فرعون وجنوده العقوبة لادعائه الألوهية وتكبره في الأرض وتهكمه واستهزاءه بموسى أمام قومه ليشكك في صدق مقالته، جاءت هذه الآيات لتخبر بما نالهم من عقاب الدنيا، فقال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ، ثم أمر رسوله محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وقومه بالنظر والاعتبار والتأمل بالعواقب ليعلموا أن هذه سنة الله في كل مكذب برسله ((1)) . فقال: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ، ثم بينت الآيات مصيرهم في النار، فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} .
" فإن السياق هنا يعجل بالضربة القاضية، ويختصر حلقة السحرة التي تذكر في سور أخرى بتفصيل أو إجمال، يختصرها ليصل من التكذيب مباشرة إلى الإهلاك، ثم لا يقتصر عند الأخذ في الدنيا بل يتابع الرحلة إلى الآخرة، وهذا الإسراع في هذه الحلقة مقصود متناسق مع اتجاه القصة في السورة، وهو تدخل القدرة بلا ستار من البشر، فما أن يواجه موسى فرعون، حتى يعجل الله بالعاقبة وتضرب يد القدرة ضربتها الحاسمة بلا تفصيل في المواجهة أو تطويل " ((2)) .
تحليل الألفاظ
1. {فَنَبَذْنَاهُمْ} :
" النَّبْذُ طرحك الشيء من يدك أمامك أو وراءك، نَبَذْتُ الشيء أَنْبِذَه نَبْذاً إذا ألقيته من يدك، ونَبَّذتُه شدد للكثرة، ونَبَذَت الشيء أيضاً إذا رميته وأبعدته " ((3)) .
2. {الْمَقْبُوحِينَ} :
__________
(1) ينظر تفسير المراغي: 20 / 58.
(2) في ضلال القران: 6/ 348.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (نبذ) 3/ 511.

(1/446)


" القُبْح ضد الحسن يكون في الصورة، والفعل قَبَحَ يَقْبَح قُبْحاً وقُبُوحاً وقُبَاحة وقُبوحة وهو قَبِيح والجمع قَبَائح وقَباحى، والأنثى قَبِيحة، وقال الأزهري: هو نقيض الحسن عام في كل شيء " ((1)) .
3. {بَصَائِرَ} :
قال ابن الأثير في أسماء الله تعالى البصير، وهو الذي يشاهد الأشياء كلها ظاهرها وخافيها بغير جارحة. وقيل: البصر العين إلا أنه مذكر. وقيل: البصر حاسة الرؤية، وقال ابن الأعرابي: أبصر الرجل إذا خرج من الكفر إلى الإيمان ((2)) .
القراءات القرآنية
1. {الدُّنْيَا} :
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وورش بالإمالة.
2. {الأُولَى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وورش، وخلف بالإمالة.
3. {لِلنَّاسِ} :
قرأ الدوري بالإمالة.
4. {وَهُدًى} :
قرأ كل من حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((3)) .
القضايا البلاغية
تشبيه بليغ في قوله تعالى: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} ، أي: أعطيناه التوراة كأنها أنوار لقلوب الناس، حذف أداة التشبيه ووجه الشبه، فأصبح بليغاً، قال الشيخ زاده: " أي مشبهاً بأنوار القلوب من حيث أن القلوب لو كانت خالية عن أنوار التوراة وعلومها لكانت عمياء لا تبصر ولا تعرف حقاً من باطل " ((4)) .
المعنى العام
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ}
أي: طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة: بحر من وراء مصر يقال له: أساف، أغرقهم الله فيه. وقال وهب، والسدي: المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له: بطن مريرة. وقال مقاتل: يعني نهر النيل ((5)) .
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (قبح) 2/ 552.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (بصر) 4/ 64.
(3) ينظر معجم القراءات القرآنية: 5/ 25-26.
(4) حاشية الشيخ زاده: 3 /515. وينظر الكَشَّاف: 3 /181.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5005.

(1/447)


{فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ}
جعلهم الله عبرةً لمن سلك وراءهم وأخذ طريقهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع، فأجمع الله عليهم خزي الدنيا موصولاً بذل الآخرة ((1))
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ}
أي أهلكهم الله فلا ناصر لهم من دون الله، وأتبعهم زيادة في عقوبتهم وخزيهم في الدنيا، لعنة يلعنون، ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقت والذم وهذا أمر شاهد فهم أئمة الملعونين في الدنيا ومقدمتهم ((2)) .
ما يستفاد من النصّ
بينت الآيات سنة من سنن الله في الطغاة والظلمة بأن مصيرهم الهلاك مهما تحصنوا، ومهما بلغت قوتهم، ولتنبهنا الآية على هذه الحقيقة الساطعة جاءت بكلمة (فانظر) لتحفز القارئ على الاتعاظ بتأكيدها على عاقبة الظالمين بقوله تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وهي كلمة عامة تشمل كلّ ظالم من دول وأفراد.
ودلت كذلك الآيات على أن الجزاء من جنس العمل، ففرعون كما كان في الدنيا إماماً من أئمة الظلم والطغيان سيكون يوم القيامة هو وجنوده من أئمة النار.
ودلت الآيات على أن التاريخ لا يذكر الظالمين إلا بسوء لقوله تعالى:
{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} .
ودلت الآيات كذلك على سنة من سنن الله في إرسال الرسل والأنبياء، فكلما تنقضي فترة من الزمن ويصبح الناس بحاجة إلى رسول يبعث ليعيد الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد.
__________
(1) ينظر تفسير القران العظيم: 3/ 390.
(2) ينظر تفسير الكريم الرحمن: 4/ 20.

(1/448)


المطلب الرابع: الفرق بين الرواية التوراتية وسفر الخروج وبين الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ لقصة موسى (- عليه السلام -)

لقد كان الَقُرْآن الكَرِيم ولا زال كتاباً مهيمناً على كلّ الكتب التي سبقته باعتباره أخر الكتب الإلهية المنزلة بعد صحف إِبْرَاهِيمُ وموسى والتوراة وزبور داود وإنجيل عيسى ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فكيف إذا ما حرفت تلك الكتب من بعد أنبيائها على يد اليهود والنصارى، ونحن في تحليلنا العام لسورة القصص الشريفة استطعنا أن نجد أن الرواية القرآنية ـ إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير في وصف كلام الله تعَاَلىَ ـ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كانت ولا زالت مهيمنة وشاملة وعالية فوق النصوص التوراتية لقصة موسى (- صلى الله عليه وسلم -) منذ طفولته حتَّى غرق فرعون على يديه بنصر الله سبحانه وتعالى.
وإن ما ذكره الَقُرْآن الكَرِيم كان منزهاً لموسى (- عليه السلام -) ، بل وزائداً على ما في العهد القديم المسمى بالتوراة زيادات فيها فائدة وتوجب حقائق تاريخية ألهمها الله تعَاَلىَ وأوحاها إلى رسوله مُحَمَّد بن عَبْد الله النبي الأمي (- صلى الله عليه وسلم -) مما لم يكن هو
(- صلى الله عليه وسلم -) ولا قومه يعرفونه من قبل، وهو ما جعل اليهود يتميزون من الغيظ حسداً وحقداً على ما آتاهم الله من كتابه، فنسوه وحرفوه واشتروا بآياته ثمناً قليلاً ثُمَّ نبذوه وراء ظهورهم، فأنزل الله تعَاَلىَ كتاباً أخر على الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) .
ولا ننسى هاهنا أن سُوْرَة الْقَصَصِ مكية أنزلت قبل أن يقدم رَسُول الله
(- صلى الله عليه وسلم -) المدينة المنورة حتَّى لا يقول قائل أن أحداً علم رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) تلك القصة.

(1/449)


وسوف نحاول فيما يلي استعراض الروايتين وفق جداول علمية للمقارنة، ثُمَّ بعد ذلك ـ إِنْ شاء الله العلي العظيم ـ نجري مقارنة نقدية بين الروايتين، لنرجح أي الروايتين هما الأصح والأدق تاريخياً:
ت
الخروج
سُوْرَة الْقَصَصِ
(وقام ملك جديد على مصر … فأقاموا عليهم وكلاء تسخير … فاستخدم المصريون بني إسرائيل) (1: 14) .
{إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءهُمْ} (4)
(ولما لم تستطع أن تخفيه بعد أخذت له سفطاً من بردى … وجعلت الولد فيه) (2: 4)
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (7)
(ووقفت أخته من بعيد لتنظر ما يقع له) (5: 2)
{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (11)
(فقالت أخته لابنة فرعون هل أذهب وأدعو لك مرضعاً) (2: 8)
{فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} (12)
(فأخذت المرأة الصبي وأرضعته) (2: 10)
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} (13)
(إذا برجل مصري يضرب رجلاً عبرانياً من اخوته … فقتل العبري) (2:13)
{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (15)

(ثُمَّ خرج في اليوم الثاني فإذا برجلين عبرانيين يتضاربان) (2: 14)
{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} (18)
(أتريد أن تقتلني كما قتلت المصري) (2: 15)
{أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} (19)

(1/450)


(وسمع فرعون بهذا الخبر فطلب أن يقتل موسى) (2: 16)
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} (20)

(فهرب موسى من وجه فرعون) (2: 26)
{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (21)
(وصار إلى أرض مدين وقعد عند البئر)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} (22)

(وكان لكاهن مدين سبع بنات) (2: 17)
{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ} (23)

(فجئن واستقين وملأن المساقي ليسقين غنم أبيهن فجاء الرعاء وطردوهن فقام موسى ونجدهن وسقى غنمهن) (2: 118 –19)
{فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (24)

(فقال لبناته وأين هو لم تتركن الرجل ادعونه ليأكل طعاماً) (2: 21)
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (25)
(فارتضى موسى أن يقيم عند الرجل فزوجه صفورة أبنته) (2: 22)
{قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (27)

(وكان موسى يرعى غنم بيثرو حميه كاهن مدين فساق الغنم إلى ما وراء البرية حتَّى أفضى إلى جبل الله حوريب) (3: 2)
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} (29)

(فتجلى له ملاك الرب في لهيب نار من وسط العليقة) (3:3)

{آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} (29)

(1/451)


(ورأى الرب أنه قد مال لينظر فناداه الله من وسط العليقة وقال: موسى موسى. قال ها أنذا) (3: 5)
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ} (30)

(قال لا تدن إلى هاهنا أخلع نعليك من رجلك فإن الموضع الذي انت فيه أرض مقدسة) (3: 6)
{أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} (31)

(فالآن تعال أبعثك إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر) (3: 11)
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (32)
(قال موسى لله من أنا حتَّى أمضي إلى فرعون) (3: 12)
{إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي} (33)
(قال أنا أكون معك) (3: 12)
(وقال إنهم لا يصدقوني) (4: 2)
{فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} (35)
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} (34)

(فقال الرب ما تلك التي بيدك قال عصا قال ألقها على الأرض فألقاها على الأرض فصارت حية تسعى فهرب موسى من وجهها فقال الرب لموسى خذ يدك وأمسك بذنبها فمد يده فأمسكها فعادت منا في يده) (4: 1 – 5)
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ} (31)

(أدخل يدك في جيبك فأدخل يده في جيبه ثُمَّ أخرجها فإذا يده برصاء كالثلج قال أردد يدك في جيبك فرد يده في جيبه ثُمَّ أخرجها من جيبه فعادت كسائر بدنه) (4: 6-8)
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} (32)

(1/452)


(فإن لم يصدقوك ولم يسمعوا لصوت الآية الأولى يصدقون صوت الآية الأخرى) (4: 9)
{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} (32)

(فقال موسى للرب رحماك يا رب إني لست أحسن الكلام) (4: 11)
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} (34)
(يا رب أبعث من أنت باعثه) (4: 14)
{فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} (34)

(فاتقد غضب الرب على موسى وقال ألست أعلم أن أخاك هارون اللاوي هو فصيح اللسان وهاهو أيضاً خارج للقائك) (4: 15)
{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} (35)

(فإني أكون مع فيك وأعلمكما ما تصنعان) (4: 16)
{فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} (35)

(فقال فرعون من هو الرب فاسمع لقوله وأطلق إسرائيل لا أعرف الرب ولا أطلق إسرائيل) (5: 3)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (38)

(وأمر فرعون في ذلك مسخري الشعب ومدبريهم قائلاً لا تعطوا الشعب) (5: 6 –7)
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} (39)

(فغرق الرب المصريين في وسط البحر) (14: 28)
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (40)

(1/453)


فحيث نجد في الفقرة الأولى أن الرواية التوراتية تنسب التسخير للمصريين في عهد الملك الجديد، أما الرواية القرآنية فتجعل إسناد الفعل إلى فرعون وهو الأليق والأًصوب لأنه ليس كلّ المصريين كانوا يضطهدون بني إسرائيل، وهذا من الحقد اليهودي العام على كلّ الأمم، أما الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ فتجعل الإلقاء عاماً في اليم، وتوضحها آية أخرى إذ تجعل الإلقاء في التابوت، فالنص القرآني أوضح تاريخياً.
ونجد تقارباً بين الفقرة الثالثة في الروايتين التوراتية والقرآنية في المعنى فقط دون اللفظ، فالقرآن استخدم كلمة (قصيه) أي تتبع الأثر فهي تتبع أثر التابوت إلى أنَّ وصل إلى قصر فرعون، فهي أبلغ وأدل على الواقع من العبارة العامية لرواية التوراة، فقد استفاد حاخامات بني إسرائيل من الترجمة العربية للتوراة من النصوص القرآنية التي أعادوا صياغتها.
وتجعل الفقرة الرابعة الخطاب مباشراً بين أخت موسى وابنة فرعون، وهو ما تبهمه الرواية القرآنية لحكمة إلهية لتجعل النصّ القرآني أبلغ في التعبير بإبهام المقصود بخطاب الأخت.
أما الفقرة الخامسة فتتشابه الروايتان إلاَ أَن صياغة النصّ القرآني أجمل وابلغ وأدق في الدلالة، وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآني في مبناه ومعناه.

(1/454)


وتصرح الفقرة السادسة بالنسب الخاص بالمتشاجرين، أما النصّ القرآني فجعل النصّ مبهماً (من شيعته) (من عدوه) (يستصرخه) دون تعيين. والفقرة الثامنة تصرح بأن المقتول مصري، أما النصّ القرآني فيستمر في الإبهام، وذلك لأن آفاق إعجاز الإبهام في الَقُرْآن الكَرِيم تتمثل في أن الإبهام لما يأتي بيانه من بعده كون ما قبله أهم منه في الذكر، فقوله تعالى: {مِنْ شِيعَتِهِ} إلهام لهذه الشيعة التي تقدم ذكرها في قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} وهذا ترابط في النصّ الَقُرْآنيّ، ولم يقل الله عَزَّ وجَلَّ: (وهذا من بني إسرائيل) ولو قيل ذلك لكان غير بليغ، وغير دال بل أبهم الله عَزَّ وجَلَّ الضمير في الخطاب حتَّى يفسر ما تقدم من تقسيم فرعون لأبناء مصر على شيع (أي: جماعات) وفيهم بنو إسرائيل، فهذا من شيعته أي من بني إسرائيل، وهذا وجه مهم إدراكه.
ويأتي الإبهام إما تعظيماً، وإما تفخيماً، فجاء النصّ مبهماً في سُوْرَة الْقَصَصِ كذلك وفق الأسلوب القرآني، ولأن الإبهام القرآني قد يراد به في بعض الآراء أن يبحث المسلم في ما أبهم ولا يتكل على الصراحة القرآنية.
وتجعل الفقرة التاسعة فرعون هو الذي يأتمر بقتل موسى، أما النصّ القرآني فيجعل الملأ هم الذين يأتمرون بقتل موسى دون تصريح بمن هم أولئك الملأ وهو ما يتعلق بالفقرة العاشرة، إذ تجعل الرواية التوراتية الهرب من فرعون، أما الرواية القرآنية فتجعل الهرب بترقب من المدينة.
وفي الفقرة الحادية عشر تتشابه الروايتان إلاَ أَن الفقرة الثانية عشر تجعل نبي الله شعيب (- عليه السلام -) كاهن مدين، وهذا انتقاص منه (- عليه السلام -) خلافاً للنصّ القرآنيّ، أما عدد البنات فتجعله الرواية التوراتية سبعاً على عادة اليهود في تقديس الرقم سبعة، أما الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ فتجعل عدد بناته اثنين.

(1/455)


وتطيل الرواية التوراتية في الفقرة الثالثة عشر في قصة الاستسقاء بينما توجز ذلك الرواية القرآنية وتجعل موسى (- عليه السلام -) في صورة الحيي الكريم ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ.
وفي الفقرة الرابعة عشر يجري الحوار بين شعيب (- عليه السلام -) وبين بناته، أما الرواية القرآنية فهي من الإعجاز الوصفي بمكان عالٍ جداً إذ تقول هذه الرواية الإلهية ـ ومن أصدق من الله قيلاً ـ {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ولا وصف أبلغ من هذا الوصف الإلهي لحياء هذه الفتاة المؤمنة وهو ما أتى بصيغة الحال.
وتظهر الفقرة الخامسة عشر رضا موسى (- عليه السلام -) بالمقام عند شعيب
(- عليه السلام -) ، وتعلن أن نتيجة هذا المقام الزواج. أما الرواية القرآنية فتظهر أن الخاطب هو والد الفتاتين، أي: شعيب (- عليه السلام -) مقابل تأجير موسى (- عليه السلام -) لنفسه لديه ثماني أو عشر سنين، والنصّ القرآني أبلغ وأفصح وأبين.
أما الفقرة السادسة عشر فهي تتناقض في الرواية التوراتية التي تجعل يوم إنزال الوحي هو يوم سوق الغنم إلى جبل الله حوريب مع الرواية القرآنية التي تجعل ذلك بعد قضاء موسى (- عليه السلام -) الأجل وسيره نحو جبل الطور في سيناء، ولا ريب أن تغيير الحقيقة الواحدة من قبل حاخامات بني إسرائيل الذين يحرفون الكلم عن مواضعه إنما كان لمآرب إسرائيلية. وبذلك يتبين لنا أن التحديد القرآني للطور بأنه يوم بدء الوحي لموسى (- عليه السلام -) هو الحقيقة التاريخية المطلقة والمهيمنة على النصّ والرواية التوراتية في سفر الخروج الذي تعرض لتحريف شديد.
أما الفقرة الثامنة عشر في الرواية التوراتية فتجعل نداء الرب من وسط شجرة العليق، والرواية القرآنية تجعل النداء الإلهي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وهو تحديد فيه البلاغة كلّ البلاغة والفصاحة كلّ الفصاحة.

(1/456)


وهناك تناقض في الفقرة التاسعة عشر إذ تجعل النداء نهياً لموسى (- عليه السلام -) عن القدوم، أما الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ فتجعل الخطاب الإلهي لموسى (- عليه السلام -) أشرف خطاب بطمأنته ودعوته للإقبال في قوله تعالى: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ} وهو نص تكرر في عدة مواضع من الَقُرْآن الكَرِيم.
وفي الفقرة العشرين كان سبب الدعوة إخراج بني إسرائيل من مصر، أما الرواية القرآنية فتبين أن السبب هو دعوة فرعون وملأه للهداية إذ كانوا قوماً فاسدين وهذا أسلوب الهداية العالمية القرآنية خلافاً لأسلوب الشعب المختار توراتياً.
أما الفقرة الحادية والعشرون فتنسب لموسى (- عليه السلام -) خوفه من البعثة واستهانته بنفسه على العموم، إلاَ أَن الرواية القرآنية تكرم موسى (- عليه السلام -) وتجعل سبب خوفه قتله نفساً من عندهم، وفي هذا قمة التكريم الإلهي لموسى (- عليه السلام -) .
وتجعل الفقرة الثانية والعشرون من الله مخاطباً في التوراة لموسى (- عليه السلام -) وهو ما يستقيم به النصّ، أما التكملة فتجعل الخوف من أن لا يُصدق المصريون موسى، أما الرواية القرآنية فتجعل الخوف من التكذيب، وكأن الحاخامات اليهود من بني إسرائيل اقتبسوا هذه الفقرة القرآنية هاهنا في رواية سفر الخروج.
ونجد في الفقرة الثالثة والعشرين تشابه بين الرواية التوراتية المأخوذة من الرواية القرآنية في زمن ترجمة التوراة إلى العربية في العصر العباسي على ما حققه التاريخ، لذلك جاءت الروايتان متشابهتان.
أما الفقرة الرابعة والعشرون فتجعل اليد برصاء بعد خروجها من الجيب بينما تجعلها الرواية القرآنية {بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي منيرة وتزيد على الرواية التوراتية بضم الجناح من الرهب، وهذ معجزة قرآنية في الزيادة على اليهود في توراتهم ما لم يكونوا يعرفونه حتَّى في مروياتهم.

(1/457)


ونجد الفقرة الخامسة والعشرين تتشابه في معناها العام مع الرواية القرآنية في وجود البرهانين الذين تسميهما الرواية التوراتية آيتين، وهو من اختلاف الترجمة في النقل من الآرامية والعبرانية إلى العربية، وهذا ما يعزز ما ذهبنا إليه في هذا البحث من أن حاخامات اليهود اعتمدوا بخفاء على الرواية القرآنية في تنقيح ترجمتهم للتوراة، وهذا ما استندنا في اكتشافه إلى تحليلنا العام لسورة القصص.
والفقرة السادسة والعشرون تجعل موسى لا يحسن الكلام، أما الرواية القرآنية فتنسب لموسى (- عليه السلام -) من تواضعه أنه جعل أخاه هارون (- عليه السلام -) أفصح منه لساناً، ونلاحظ هاهنا أن الرواية التوراتية في سفر الخروج تتعمد الانتقاص بصورة غير مباشرة من موسى (- عليه السلام -) ، وهذه عادة اليهود وديدنهم في الانتقاص من الأنبياء، فهم قتلتهم ومن رموهم بالكبائر والصغائر، ومصداق ذلك في الفقرة السابعة والعشرين التي تجعل موسى يخاطب الله تعَاَلىَ ـ حاشاه ـ خطاباً جافاً (أبعث من أنت باعثه) . أما الرواية القرآنية فتجعل الخطاب ألطف خطاب {فَأَرْسِلْهُ مَعِي} وهذا دليل على كمال النصّ القرآني وهيمنته على النصّ التوراتي.

(1/458)


وكذلك نجد أن الفقرة الثامنة والعشرين من هذه الفقرات تنتقص انتقاصاً جد عظيم من نبي الله موسى (- عليه السلام -) بسبب حقد بني إسرائيل على أنبياء الله ـ عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ فهي تجعل غضب الرب متعمداً على موسى
(- عليه السلام -) ـ وحاشاه ـ ويمن عليه بهارون (- عليه السلام -) ، وهذا خلاف الحقيقة، فإن الرواية القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ تجعل الخطاب الإلهي مؤازراً لموسى (- عليه السلام -)
{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} وهو ما يتناسب مع واقع الحال كلّ التناسب وليس فيه انتقاص من سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، بل على العكس، فإن فيه تكريم له بشد عضده بأخيه.
ونجد في الفقرة التاسعة والعشرين تشابهاً بين الرواية التوراتية والنصّ القرآني وإن كان الخطاب القرآني أعمق في الدلالة والأمر. كذلك في الفقرة الثلاثين وإن اختلف الخطاب في الأمر بإطلاق إسرائيل، ولكن صيغة الخطاب القرآني تجعل إسناد الألوهية لفرعون، وهو ما أغفل عنه النصّ التوراتي المحرف المنحول في أساسه كله على ما قدمناه.
أما الفقرة الحادية والثلاثون فتجعل إسناد الأمر من فرعون لأعوانه من مسخري الشعب، بينما يجعل النصّ القرآني إسناد الاستكبار لفرعون وجنوده وينسب إليهم الاعتقاد الذي أثبته علم الحفريات من أن فرعون وقومه يومذاك في مصر كانوا يظنون أنهم لا يرجعون إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل يرجعون إلى دنيا أخرى يحكم فيها فرعون الإله، فسبق النصّ القرآني علم الحفريات الحديث في إثباته اعتقاد الفراعنة بعالم آخر ولكنهم لا يرجعون فيه إلى الله ليحاسبهم، بل إلى فرعون، وهو ما غفل عنه كُتّاب التوراة، وهذا مما يقتضي التنبيه عليه.

(1/459)


أما الفقرة الثانية والثلاثون فتختصر الرواية التوراتية القصة إلى الإغراق، أما النصّ القرآني فهو يزيد بلاغة على بلاغة، إذ يجعل الإغراق بأخذ فرعون وجنوده والتذكير بعاقبة الظالمين، وهذا أحد أوجه الإعجاز القرآني.
فإذا استبان لنا من خلال الجدول السابق وتحليلنا له الفرق الشاسع بين الروايتين، فنستطيع أن نؤكد أن العقل السليم يدلّ على أن الرواية القرآنية أصدق دلالة وأكثر تاريخية من تلك الرواية التوراتية لكل الحقائق التاريخية.

(1/460)


الفصل السابع: الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ودعوته في سُوْرَة الْقَصَصِ
المبحث الأول: الدلائل الَقُرْآنية على صدق الرَّسُول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) في دعوته
المطلب الأول: دلالة قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) على صدق دعوة الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -)
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) .
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 44 - 51.

(1/461)


بعد أن بين الله عز وجل وعلا قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) وما جرى فيها من أحداث عظام، ينتقل السياق القرآني ليوظف هذه القصة كأحد الأدلة على صدق الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) في دعوته، فرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يتلو هذه الأحداث بتفاصيلها كما يقصها شاهد عيان، وما كان حاضراً زمانها، ولم يكن يقرأ ويكتب، ولكن تنزيل العزيز الرحيم، فبعد أن بين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) أنه تعالى أرسل سيدنا موسى بعد أن أهلك القرون الأولى، ودرست الشرائع واحتيج إلى نبي يرشد الناس إلى ما فيه صلاحهم أردف بقوله تعالى:
{وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} لبيان الحاجة إلى إرسال رسوله محمد (- صلى الله عليه وسلم -) لمثل تلك الدواعي، التي دعت إلى إرسال موسى (- عليه السلام -) ، لئلا يكون للناس حجة ((2)) بعد الرسل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2) ينظر تفسير المراغي: 20 /65.
(3) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 15.

(1/462)


وإن ذكر قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) وما جرى للمكذبين له من عقاب بشارة للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) أن النصر هو حليف المؤمنين مهما عظمت قوة الكافرين. ومن هذا يتبين لنا الإعجاز القرآني في اختيار الآيات والكلمات والمعاني في مواقفها الخاصة بها، وجاء ذكر سيدنا موسى (- عليه السلام -) كدليل على صدق رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، ولوجود توافق كبير بين حياة النبيين الكريمين ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ وللتشابه في الظروف التي مرت بهم، وهذا ما سنبينه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
فمع وجود قصتين في السورة بينهما زمن طويل، إلاَ أَن السورة جاءت بأحداث القصتين فيها ترابط، وبين آياتها تناسب في دلالتها بحيث وظفت قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) توظيفاً رائعاً للاستدلال بها على صدق الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) وصدق دعوته.
أسباب النزول
ذكر الطبري في سبب نزول قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} عن مجاهد، قال: اليهود تأمر قريشاً أن تسأل مُحَمَّداً مثل ما أوتي موسى، يقول الله لمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) : قل لقريش يقولوا لهم: أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل ((1)) ؟
__________
(1) جامع البيان: 10 /79.

(1/463)


ونقل القرطبي عن الكلبي: " بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث مُحَمَّد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الجواب إليهم
{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ، وقال قوم: إن اليهود علموا المشركين، وقالوا: قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة، فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، أي: أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهارون هما ساحران " ((1)) .
وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} نقل الطبري عن رفاعة القرظي، قال: " نزلت هذه الآية في عشرة أنا أحدهم " ((2)) .
وقال الواحدي: " إن الآية مما اختلف العلماء في سبب نزولها " ((3)) .
تحليل الألفاظ
1. {قَضَيْنَا} :
القضاء، قال ابن منظور: " الحكم وأصله قضايّ، لأنه من قَضَيْت إلا أن الياء لما جاءت بعد الألف همزت والجمع الأقضية، القضيّة مثله والجمع القضايا على فَعالى، وأصله فضائل. وقال أبو بكر: قال أهل الحجاز: القاضي معناه في اللغة القاطع للأمور المحكِم لها… والقضايا الأحكام واحدتها قضية.
قال ابن السيرافي: قضاهما فرغ من عملها، والقضاء الحكم والأمر، وقضى أي حكم، ومنه القضاء والقدر " ((4)) .
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5010.
(2) جامع البيان: 10 /79.
(3) أسباب النزول. أبو الحَسَن عَلِيّ بن أحمد الواحدي النيسابوري. ت 468 هـ. ط2. بإشراف لجنة تحقيق التراث. دار مَكْتَبَة الهلال. بيروت. لبنان. 1985 م.: ص 211 وما بعدها.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (قضى) 15 /186.

(1/464)


وقال الراغب: " القضاء فصل الآمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكل واحد منهما على وجهين إلهي وبشري، فمن القول الإلهي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} ((1)) ، أي: أمر بذلك، ومن القول البشري نحو: قضى الحاكم بكذا، فإن حكم الحاكم يكون بالقول، ومن الفعل البشري: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} ((2)) ، فالقضاء هو الحكم من أعلى إلى أدنى على ما قاله أهل اللغة ((3)) .
2. {قُرُونًا} :
قال الراغب: " القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ} ((4)) " ((5)) .
وقال ابن منظور: " الأُمَّة تأتى بعد الأَمَةِ. قيل: مدته عشر سنين وقيل: عشرون سنة. وقيل: ثلاثون. وقيل: ستون. وقيل: سبعون. وقيل: ثمانون. وقيل: القرن مائة سنة، والذي يقع عندي إن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي، أو كان فيها طبقة من أهل العلم. قلت السنون أو كثرت " ((6)) .
3. {فَتَطَاوَلَ} :
يقال: طويل وطوّال، وعريض وعراض للجمع طِوالُ. وقيل: طيال باعتبار الطول. قيل: للحبل المرخي على الدابة: طَول وطوّل فرسك أي أرخ طِوَلهُ. وقيل: طوال الدهر لمدته الطويلة، وتطاول فلان " إذا اظهر الطوّل أو الطْوّل قال تعالى: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((7)) " ((8)) .
4. {ثَاوِيًا} :
__________
(1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 23.
(2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 200.
(3) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 42.
(4) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 13.
(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 417.
(6) لِسَان العَرَب: مَادة (قرن) 13/ 333 –334.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(8) لِسَان العَرَب: مَادة (طول) 11 / 412 –413.

(1/465)


الثوّاء " طولُ المقام ثَوَى يَثْوي ثَواءً، وَثوَيْتُ بالمكان وثَويَتهُ ثواءً وثوِايّاً مثل مضى يمضي مَضَاء وُمضاءً وُمضّياً، والأخيرة عند سيبويه، وثويت له أطلت الإقامة به وأثْوَيتْه أنا وَثّويْته ألزمته الثّواء فيه، وثَوَى بالمكان نزل فيه، وبه سمي المنزل مثوَى، والمثوَى الموضع الذي يقام به وجمعه المثاوي " ((1)) .
وقال الراغب: " الثواء الإقامة مع الاستقرار " ((2)) .
5. {تَظَاهَرَا} :
" الظّهر الجارِحَةُ وجمعهُ ظهورُ رجل ُمظَهّرُ شديد الظهر. ويعبّر عن المركوب بالظهر ويستعار لمن يتقوى به ظهر عليه غلبه وظاهرته عاونته قال تعالى: {وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} ((3)) " ((4)) .

قال الآلوسي: أي تعاوناً بتصديق كل واحد منهما الآخر تأييده إياه ((5)) .
6. {وَصَّلْنَا} :
قال ابن منظور: " وصلت الشيء وصلاً وصلة، والوصل ضد الهجران. وقال ابن سيده: الوصل خلاف الفصل وفي التنزيل: {وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ} ، أي: وصلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص بعضها ببعض لعلهم يعتبرون " ((6)) .
وقال الراغب: " أي أكثرنا لهم القول موصولاً بعضه البعض " ((7)) .
7. {وَيَدْرَءُونَ} :
" الدّرْءُ الدفع درأهُ يَدْرؤهُ دَرْءاً دَرْأ هُو درْأهُ دَفَعَهُ تداَرأ القوم تدافعوا في الخصومة " ((8)) .
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (ثوى) 14 /125.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 81.
(3) سُوْرَة المّمْتَحَنَةِ: الآية 9.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 328.
(5) روح المعاني: 20/91.
(6) لسان العرب: مادة (وصل) 11/726.
(7) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 562.
(8) لسان العرب: مادة (درء) 1/71.

(1/466)


وقال الراغب: " الَدْرءُ الميل إلى أحد الجانبين يقال: قوّمتُ دَرْأه وَدَرَأتُ عنه َدفعتُ عن جانبه ودارَأتهُ دافعته " ((1)) .
8. {نُتَخَطَّفْ} :
الخَطْفُ: الاستلابُ. وقيل: الخَطْفُ الأخذ في سرعِة استلاب خطفِه بالكسر يْخطفهُ خَطفاً بالفتح " ((2)) . وقال الراغب: " الخطف والاختطاف الاختلاس بالسرعة يقال خَطَفَ يَخْطَفَ وخَطفَ يْخِطفْ وقرئ بهما جميعاً " ((3)) .
القراءات القرآنية
1. {رَحْمَةً} :
قرأت رحمة في قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بالنصب والرفع، فقد قرأ الجمهور: (رَحْمَةً) بالنصب بمعنى جعلناك رحمة وقدر: أعلمناك ونبأناك رحمة. وقرأ عيسى، وأبو حيوة بالرفع: (رَحْمَةٌ) ، وقدر: ولكن هو رحمة، أو أنت رحمة ((4)) .
2. {سِحْرَانِ} :
واختلف القراء في قراءة (سِحْرَانِ) ، فقرأ الجمهور: (سَاحِرَان) وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والكوفيين: (سِحْرَان) ((5)) .
3. {تَظَاهَرَا} :
أصلها تتظاهران ثم أدغمت التاء في الظاء وحذفت النون وروعي ضمير الخطاب، ولو قريء يظاهرا بالياء حملاً على مراعاة ساحران لكان له أوجه، أو على تقديرهما ساحران تظاهرا ((6)) .
4. {أَتَّبِعْهُ} :
قرأ زيد بن علي، والفرّاء بالرفع (اتَّبِعُهُ) لأنه صفة لكتاب وكتاب نكرة ((7)) .
5. {وَصَّلْنَا} :
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 168.
(2) لسان العرب: مادة (خطف) 9/75.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 152.
(4) الكَشَّاف: 3 /182. البَحْر المُحِيْط: 7/123.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7 /124.
(6) البحر المحيط 7/124. معجم القراءات القرآنية: 5/27.
(7) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5011.

(1/467)


قرأ الحسن (وَصَلْنا) بالتخفيف ((1)) .
القضايا البلاغية
المجاز العقلي: {أَنشَأْنَا قُرُونًا} المراد به الأمم، لأنهم يخلقون في تلك الأزمنة، فنسب إلى القرون بطريق المجاز العقلي ((2)) .
{تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} جناس الاشتقاق، ويسمّى أيضاً جناساً ناقصاً ((3)) ((4)) .
{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} مجاز مرسل ((5)) . قال الزَّمَخْشَرِيّ: " لما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي جعل كلّ عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي وتقديم الأيدي وإن كان من أعمال القلوب، وهذا من الاتساع في الكلام وتصير الأقل تابعاً للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل " ((6)) ، أي: من باب إطلاق الجزء على الكل، فالمجاز المرسل بذلك تعلق بما قدمته أيديهم، والأيدي لا تقدم العمل لأن العمل لا يمسك باليد، فكان التعبير القرآني {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} دالاً على عظم الصيغة القرآنية في تصوير القضايا البلاغية.
__________
(1) الكَشَّاف: 3 /184. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5011. معجم القراءات القرآنية: 5 /28.
(2) صفوة التفاسير: 2 /443.
(3) الجناس الناقص، هو التجنيس الناقص، أي غير التام والكامل، وذلك أن يكون نقص في إحدى الكلمتين، وذلك بأن يكون الاختلاف واقعاً في هيئة الحروف. معجم المصطلحات البلاغية: 2/108.
(4) البلاغة الَقُرْآنية. د. عَبْد الله أدهم. الطبعة الثانية. القاهرة. 1990م.: ص 115.
(5) المجاز المرسل: هو الكلام المستعمل في غير المعنى الذي وضع له لعلاقة غير المتشابه مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. ينظر تنبيه الوسنان إلى علم البَيَان. د. عَبْد الرَّزَّاق عَبْد الرَّحْمَن السَّعْدِي. دار الأنبار للطابعة والنشر. بغداد. 1997 م: ص 29.
(6) الكَشَّاف: 3/ 184.

(1/468)


قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ} فالأمر خرج عن حقيقته إلى معنى التعجيز ((1)) ، وهذا من أساليب الَقُرْآن الكَرِيم البليغة أن يأمر الله تعَاَلىَ بشيء هو سبحانه وتعالى يعلم أنهم لا يقدرون عليه كقوله تعالى: {قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} ((2)) ، وهو تعالى يعلم أنهم لا يستطيعون ذلك.
المعنى العام للآيات
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ}
وما كنت يا محمد بجانب غربي الجبل ((3)) . وقال البقاعي " أي: الوادي من الطور الذي رأى موسى (- عليه السلام -) فيه النار، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرفة، ومن ناحية مصر، فناداه منه العزيز الجبار وهو ذو طوى " ((4)) .
والمعنى أنك على ما أخبرتك لم تكن موجوداً وقت ذاك {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ} .
قال أبو حيان: " والأمر. قيل: النبوة والحكم الذي أتاه الله موسى وقيل: الأمر أمر مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) أن يكون من أمته، وهذا التأويل يستقيم معه مما بعده من قوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا} . وقيل: الأمر هلاك فرعون بالماء، ويحمل الغربي على اليم، وبدأ أولا بنفي شئ خاص، وهو أنه لم يحضر ومعه وقت قضاء الله لموسى الأمر، ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به، ونفي لشهادة جميع ما جرى لموسى، فكان عموماً بعد خصوص " ((5)) .
__________
(1) ينظر روح المعاني: 20 /90.
(2) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 50.
(3) جامع البيان: 10/ 76.
(4) نظم الدرر: 5/494.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7/120-121.

(1/469)


ويجيب الرازي ـ رَحِمَه الله ـ عن سؤال مهم ربما يخطر في البال وهو: أنه تعالى لما قال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ثبت أنه لم يكن شاهداً، لأن الشاهد لا بد أن يكون معه حاضراً، فما الفائدة إذاً من إعادة قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ} بقوله: " قال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمَا ـ التقدير: لم تحضر الموضع، ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع، فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ويرى " ((1)) .
وأرى أن ذلك قمة البلاغة في الوصف القرآني، فيزول بذلك سؤال فخر الدين الرازي، والإشكال الذي افترضه في تفسيره {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} " أي: ولكنا أنشأنا من عهد موسى إلى عهدك قروناً كثيرة، فتطاول عليهم العمر إلى أن وجد القرن الذي أنت فيه، فدرست العلوم، فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى، وأرسلناك بما فيه سعادة البشر " ((2)) .
ونحن نوافق ما أورده القرطبي في الذي ذهب إليه من أن ذكر رسول الله
(- صلى الله عليه وسلم -) جاء على لسان كل الأنبياء " ظاهراً هذا يوجب أن يكون جرى لنبينا (- عليه السلام -) ذكر في ذلك الوقت وان الله سيبعثه، ولكن طالت المدة وغلبت القسوة فنسى القوم ذلك " ((3)) .
__________
(1) مفاتيح الغيب: 12/ 257.
(2) تفسير المراغي: 20/ 65.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5007.

(1/470)


ويشير الزملكاني في البرهان عن إشارة لطيفة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ …} ، فيقول: " فإن مثل هذا يقال لمن جرى له ذكر. وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ} ، وهو من الشهادة على الشيء، لا أنه بمعنى الحضور، إذ قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} قد أفاده. وقوله تعالى:
{وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ، من باب {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} ((1)) ، وطول العهد منسيٍ ومؤدٍ إلى الإهمال، أي: فأهملوا وصيتنا بالإيمان بك، وهو إشارة إلى ما أوحي إليهم في التوراة من أمر نبينا (- صلى الله عليه وسلم -) " ((2)) .
وفي الآية نكتة بلاغية جديرة بالالتفات إليها هي أن الصيغة القرآنية للخطاب ذكرت رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بأنه رسول صادق كصدق موسى الرسول (- عليه السلام -) باقتضاء الدلالة المفهومة بمقابلة (بجانب الغربي) برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في مكة المكرمة.
__________
(1) سُوْرَة (طَه) : الآية 86.
(2) البرهان الكاشف عن وجوه إعجاز القرآن: ص 76.

(1/471)


وقال أبو حيان في البَحْر المُحِيْط، والرازي في مفاتيح الغيب: " فإن قلت كيف يتصل قوله: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا} بهذا الكلام، ومن أي جهة يكون استدراكاً؟ قلت: اتصاله به وكونه استدراكاً من حيث أن معناه: ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قروناً كثيرة، فتطاول على أخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم. واندرست العلوم، فوجب إرسالك، فأرسلناك وكسبنّاك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه، ولكنا أوحيناه إليك، فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة النظرة، ودلّ به على المسبب على عادة الله في اختصاره " ((1)) .
{وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
" أي: وما كنت مقيماً في أهل مدين إقامة موسى وشعيب حال كونك {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ} ، أي: تقرأ على أهل مدين بطريق التعليم منهم {آيَاتِنَا} الناطقة بالقصة
{وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إياك وموحين إليك تلك الآيات " ((2)) .
ونقل الرازي وجهين في قوله تعالى: {تَتْلُوا عَلَيْهِمْ} " الوجه الأول ـ قال مقاتل: يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا كنا مرسلين أرسلناك وأنزلنا عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها. الوجه الثاني ـ قال الضحاك: يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب، وإنما كان غيرك، ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً " ((3)) .
ونحن نرجح الوجه الأول.
__________
(1) البَحْر المُحِيْط: 7 /122. وينظر مفاتيح الغيب: 12 /257.
(2) تنوير الأذهان: 3 /149.
(3) مفاتيح الغيب: 12 /257.

(1/472)


{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
" أي: كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات " ((1)) .
{وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} " أي: لكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر رحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس " ((2)) .
وذكر الرازي لطيفة من لطائف القرآن الكريم الكثيرة، وهي " إنه تعالى لما بين قصة موسى (- عليه السلام -) قال لرسوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ، و {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} ، و {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ، فجمع تعالى بين كل ذلك، لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى (- عليه السلام -) ، إذ المراد بقوله: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا} أول أمره، والمراد ناديناه وسط أمره، وهو ليلة المناجاة لما بين تعالى أنه (- عليه السلام -) لم يكن في هذه الأحوال حاضراً، بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين، ثم فسر تلك الرحمة بأن قال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} " ((3)) .
{لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
" أي: لم يأتيهم نذير لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة " ((4)) .
وفي الآية اقتضاء لرسالة محمد (- صلى الله عليه وسلم -) بتذكيره (- عليه السلام -) بإنذاره كفار قريش الذين لم يأتهم نذير ليتذكروا ذلك، وهذا من بديع الأسلوب القرآني.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5008.
(2) تنوير الأذهان: 3 /149.
(3) مفاتيح الغيب: 12 / 258.
(4) تنوير الأذهان: 3 /149.

(1/473)


{وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}
قال الطبري في تأويل هذه الآية: " لولا أن يقول هؤلاء الذين أرسلناك يا محمد إليهم، لو حلّ بهم بأسنا أو أتاهم عذابنا من قبل أن نرسلك إليهم على كفرهم بربهم واكتسابهم الآثام واجتراحهم المعاصي، ربنا هلا أرسلت إلينا رسولاً من قبل أن يحل بنا سخطك والمصيبة في هذا الموضع العذاب والنقمة " ((1)) .
وذكر القرطبي أنه تعالى " خص الأيدي بالذكر في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ، لأن الغالب من الكسب إنما يقع بها " ((2)) .
وأرى أن الآية دالة في عمومها على معنى المنة على الكفار من أهل مكة بإرسال رسول الله مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، إذ لو لم يرسل لهم لاحتجوا بأنهم لم يعرفوا رسلاً، وهذه بعض مواطن رحمة الله تعالى بعباده، وإقامة الحجة عليهم.
{فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُون َ}
__________
(1) جامع البيان: 10 /79.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5009.

(1/474)


قال أبو حيان " والحق هو الرسول محمد (- صلى الله عليه وسلم -) جاء بالكتاب المعجز الذي قطع معاذيرهم. وقيل: القرآن. {مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أي: من قبل الكتاب المنزل جملة واحدة، وانقلاب العصا حية، وفلق البحر وغيرها من الآيات، اقترحوا ذلك على سبيل التعنت والعناد، كما قالوا: لولا أنزل عليه كنز، وما أشبه ذلك من المقترحات لهم، وهذه المقالة التي قالوها هي من تعليم اليهود لقريش قالوا لهم ألاَ يأتي بآية باهرة كآيات موسى، فرد الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، وقد وقع منهم في آيات موسى ما وقع من هؤلاء في آيات الرسول " ((1)) .
{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} نقل الطبري عن قتادة في قوله تعالى: {قَالُوا سِحْرَانِ} : قالت ذلك أعداء الله اليهود للإنجيل والفرقان فمن قال: (ساحران) فيقول (محمد وعيسى) ((2)) .
وقيل: المراد به " أن موسى ومحمد ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ تعاونا على السحر " ((3)) .
وقيل: المراد به " موسى وهارون قاله مجاهد، فعلى هذا هو من قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة " ((4)) .
والذي يبدو لي أن المراد به سيدنا موسى (- عليه السلام -) ، وسيدنا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، وذلك بدلالة قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} وهو القرآن، ومن جاء به هو سيدنا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} هذا على قراءة (ساحران) أو على قراءة (سحران) يكون المقصود القرآن والتوراة.
__________
(1) البَحْر المُحِيْط: 7 /123.
(2) جامع البيان: 10 /81.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5010.
(4) زَاد المَسِيْر: 6 /227.

(1/475)


{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}
أي " قل يا محمد للقائلين للتوراة والإنجيل هما سحران تظاهرا أتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما لطريق الحق ولسبيل الرشاد {أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ} في زعمكم أن هذين الكتابين سحران، وأن الحق في غيرهما " ((1)) .
وذكر أبو حيان " أن تعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق متيقن أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم، كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين " ((2)) . وهذا من آرائه البليغة.
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
قال الآلوسي رحمه الله: " فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب أهدى منهما، وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذاناً بأنه (- صلى الله عليه وسلم -) على كمال أمن من أمره، كان أمره (- صلى الله عليه وسلم -) لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه. وقيل: المراد فإن لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم، فالاستجابة على ظاهرها لأن الإيمان أمر يريد (- صلى الله عليه وسلم -) حقيقة وقوعه منهم بمعنى الإجابة ونتصدى إلى الداعي باللام " ((3)) .
والذي يتوجه عندي في ذلك أنهم خوطبوا بذلك لعجزهم الكلي عن الآتيان بكتاب أهدى من الكتب التي أنزلها الله تعالى، وهذا وجه من أوجه الإعجاز القرآني.
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
__________
(1) جامع البيان: 10 / 82.
(2) البَحْر المُحِيْط: 7 /124.
(3) روح المعاني: 20 /93.وينظر البَحْر المُحِيْط: 7 /124.

(1/476)


قال الفراء: " أنزلنا عليهم الَقُرْآن يتبع بعضه بعضاً " ((1)) .
وقال ابن عاشور: " للتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه ووصلِّ بعضه ببعض، ولم ينزل جملة واحدة، وباعتبار معانيه، ووصلّ أصنافاً من الكلام وعداً ووعيداً، وترغيباً وترهيباً، وقصصاً ومواعظ، وعبراً ونصائح، يعقب بعضه بعضاً " ((2)) .
ما يستفاد من النصّ
بعد تحلينا للنص والوقوف على معانيه يمكن لنا أن نستخلص المعاني والعبر الآتية:
أولا. استدل القرآن الكريم بقصص الأنبياء والأمم السابقة التي جاء ذكرها في القرآن بتفاصيل أحداثها على صدق الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) فيما جاء به فالقرآن الكريم تحدث عن قصة سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع فرعون وقومه بتفاصيل دقيقة ربما لا يعرفها حتى أهل الكتاب أنفسهم، وتحدث كذلك عن قصص للأنبياء مع أممهم مما لا علم للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) ولا لأهل جزيرة العرب بها، مما يؤكد كون القرآن وحياً من عند الله بصدقه في الخطاب التاريخي خلافاً لمن زعم أن قصصه للعظة وليست للأخبار التاريخية.
ثانياً. دلت هذه الآيات على حاجة البشرية إلى هدي النبوة في عهد سيدنا موسى
(- عليه السلام -) بعد أن أهلك القرون الأولى ودرست الشرائع واحتيج إلى نبي يرشد الناس إلى صلاحهم في الدنيا والآخرة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((3)) .
ثالثاً. نستدل من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} على تاريخ اليهود المريب تكذيبهم ومحاربتهم لرسل الله ـ عَلَيْهِمْ السَّلاَم ـ على مرّ العصور وقتلهم الأنبياء بغير حق.
__________
(1) معاني القرآن (الفراء) : 2 /307.
(2) التحرير والتنوير: 20 /142.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.

(1/477)


رابعاً. نستدل من سياق الآيات على الحاجة الماسة في حياتنا المعاصرة للأخذ بالوعي الإلهي المنزل على رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في الدين والدنيا والنفس والمجتمع، لأن ذلك مما يعين على إدراك الاستقرار الروحي الذي نحن جميعاً بأمس الحاجة إليه اليوم.
خامساً. إن تلك المعاني القديمة تدل فيما تدل عليه أن التواصل الحضاري لا زال قائماً بين الأمم، وأن الأمم تنسى بمرور الزمن أحداثاً ما كان لها أن تنساها بدلالة قوله تعالى: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} وأن للأمم كلها على اختلافها لهم سنن ثابتة في حياتها الحضارية.

المطلب الثاني: إيمان طوائف من أهل الكتاب بدعوته (- صلى الله عليه وسلم -)
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ((1)) .
المناسبة
نلاحظ أن النص القرآني يعرض في هذه الآيات والتي قبلها صوراً مختلفة للإيمان وللسلوك الخلقي.
الصورة الأولى متمثلة في كفر كفار قريش وتكذيبهم للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) مستعينين باليهود على اختلاق الحجج الواهية وزرع الشكوك في نفوس المؤمنين كما مرّ في الآيات السابقة.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 52 - 55.

(1/478)


والصورة الثانية تقدم نموذجاً أخراً، وصوراً أخرى وهي استقامة الطبع وخلوص النية متمثلة في فريق من الذين أوتوا الكتاب الذين كانوا مثلاً للعباد الصالحين، فآمنوا بالنبي محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وصدقوا بالقرآن وكانوا مثالاً في الأخلاق الحميدة، كما عبر عنه المفسرون من قدماء ومحدثين
فأراد الَقُرْآن الكَرِيم بامتداحه الذين آمنوا من أهل الكتاب أن يعيب على كفار قريش عدم إيمانهم بالرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، فكان الأولى بهم أن يصدقوه لأنهم يعرفون صدقه وسيرته الحسنة بينهم، ونلاحظ الترابط والتناسق بين هذه الآيات والتي قبلها في مدح الَقُرْآن الكَرِيم للذين آمنوا من قريش، بالمقارنة التي استخدمها الَقُرْآن.
أسباب النزول
ذكر في سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} عدة روايات منها ما رواه الطبري عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن علي بن رفاعة، قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم أبو رفاعة ـ يعني أباه ـ إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، فآمنوا، فأوذوا، فنزلت:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} قبل القرآن ((1)) .
ونقل الماوردي قولين في سبب نزول هذه الآية:
أحدهما ـ نزلت في عَبْد الله بن سلام، وتميم الداري، والجارود العنبري وسلمان الفارسي، أسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، قاله قتادة.
__________
(1) جامع البيان: 10 /85.

(1/479)


الآخر ـ إنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) قبل مبعثه اثنان وثلاثون رجلاً من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه، وثمانية قدموا من الشام منهم بحيرة، وغبرهة، والأرشف، وعامر، وايمن، وإدريس، ونافع، فأنزل الله فيهم هذه الآية، والتي بعدها إثر قوله: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} ((1)) .
ونقل القرطبي رواية عن عروة بن الزبير أنها نزلت في النجاشي وأصحابه، ووجه باثني عشر رجلاً، فجلسوا مع النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكان أبو جهل وأصحابه قريباً منهم، فآمنوا بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، فلما قاموا من عنده تبعهم أبو جهل ومن معه، فقال لهم: خيبكم الله من ركب، وقبحكم من وفد، ولم تلبثوا أن صدقتموه، وما رأينا ركباً أحمق منكم ولا أجهل، فقالوا: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} ، لم نأل أنفسنا رشداً.
{لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} ((2)) .
ولا يمكن ترجيح رواية على أخرى، ولكن الذي أراه مناسباً أنها نزلت عامة فيمن كان قبل رسالة النبي (- صلى الله عليه وسلم -) على دين سماوي ولما جاء المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) آمنوا به وأوذوا في سبيل الإسلام أشد الأذى فصبروا.

تحليل الألفاظ
1. {يُؤْمِنُونَ} :
الإيمان ضد الكفر والإيمان بمعنى التصديق ضده التكذيب يقال: آمن به قوم وكذب به قوم.
__________
(1) ينظر النُّكَت والعُيون: 3 /232.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5012.

(1/480)


وقال الزجاج: الإيمان إظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي
(- صلى الله عليه وسلم -) واعتقاده وتصديقه بالقلب، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن مسلم غير مرتاب ولا شاك، وهو الذي يرى أداء الفرائض واجب عليه لا يدخله في ذلك ريب (1) .
وقال الراغب الأصفهاني: " الإيمان يستعمل تارة اسماً للشريعة التي جاء بها محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ويوصف بها كل من دخل في شريعته مقراً بالله وبنبوته قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ} ((2)) .
وتارة يستعمل على سبيل المدح ويراد به إذعان النفس للحق على السبيل التصديق ((3)) .
2. {مُسْلِمِينَ} :
الإسلام والاستلام الانقياد والإسلام من الشريعة إظهار الشريعة والتزام ما أتى به النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وبذلك يحقن الدم. قال ثعلب: الإسلام باللسان، والإيمان بالقلب. قال الأزهري: الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) ، وبه يحقن الدم فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان ((4)) .

3. {وَيَدْرَءُونَ} :
الدَرّءُ الدَفّعْ دَرَأهُ يَدْرؤهُ دَرْءاً وَدْرأهً دَفَعهُ وتدارَأ القومُ تدافعوا في الخصومة ونحوها ودرأت بالهمز دافَعْت، وكل من دَفْعتهُ عنك فقد دَرَأْتهُ
والمدارَأَةُ المخالفةُ المدافعة ((5)) .
قال الراغب الأصفهاني: " الدرْءُ المَيلُ إلى أحَدِ الجانبين يقال: قوّمتُ َدرْأهُ وَدَرأتُ عنه دَفعْتُ عن جانبه " ((6)) .
4. {اللَّغْوَ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (أمن) 13/21.
(2) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 69.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 22.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (سلم) 12/ 293-294.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (درأ) 11/ 71.
(6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 168.

(1/481)


الّلغا الّسقط وما لا ُيعتّد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع. اللّغو والّلغا والَلغوْي ما كان من الكلام غير معقود عليه. اللغو في الإيمان ما لا يعقد عليه القلب مثل قولك (لا والله) . قال الشافعي: اللغو في لسان العرب الكلام غير المعقود عليه ((1)) .
القضايا البلاغية
في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} عبر الَقُرْآن الكَرِيم عنهم باسم الإشارة لتنبيه على أنهم جديرون بما سيذكر بعد اسم الإشارة من الأوصاف.
{لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها. وأما قوله: {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فهو تتميم على حد {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ((2)) .
{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} المقصود من السلام أنه سلام المباركة المكنى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم. قال الحسن: كلمة (السلام عليكم) تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين، ولعل الَقُرْآن غير مقالتهم بالتقديم والتأخير لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز، لأن تأخير الكلام الذي فيه المباركة إلى أخر الخطاب أولى ان يكون فيه براعة المقطع " ((3)) .
المقابلة في قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} فإن الحسنة مقابلة للسيئة، وقد زادت بها الجملة جمالاً.
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (لغو) 15/250.
(2) سُوْرَة الكَافِرُوْن: الآية 6.
(3) ينظر التحرير والتنوير: 20 /146.

(1/482)


ونحن نرى أن القضايا البلاغية في هذه الآيات هو ما يتمثل في قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} آفاق في الكلام تقديماً وتأخيراً إذ الأصل يدرءون السيئة بالحسنة، ولكن لما كان ذكر الحسنة مقدماً بلاغياً على ذكر السيئة قدمت الحسنة وأضيف لهما باء الجر.
المعنى العام للآيات
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ}
قال الماوردي: " في معناها وجهان:
أحدهما ـ يعني الذين آتيناهم التوراة والإنجيل من قبل الَقُرْآن وهم بالقرآن يؤمنون قاله يحيى بن سلام.
الثاني ـ الذين آتيناهم التوراة والإنجيل هم بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) يؤمنون، قاله ابن شجرة " ((1)) .
وهاهنا يثور سؤال مهم: هل المقصود بالذين آتيناهم الكتاب اليهود وحدهم أم اليهود والنصارى؟
والذي أراه أن سياق الآيات يدلّ على أن المقصود جميع أهل الكتاب من يهود ونصارى على اختلاف مشاربهم، فكلهم يعرفون رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كما يعرفون أبنائهم، ولكن كفر من كفر منهما حسداً وحقداً وغلاً " ((2)) .
{مِنْ قَبْلِهِ} ، أي: من قبل الَقُرْآن. وقيل: من قبل مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) {هُمْ بِهِ} ، أي: بالقرآن أو بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) {يُؤْمِنُونَ} ((3)) .
__________
(1) النُّكَت والعُيون: 3 /232.
(2) ينظر مُحَمَّد في الكتاب المقدس. عبد الأحد داود. الطبعة الثالثة. قطر. الدار الإسلامية. 1404 هـ.: ص 115.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5013.

(1/483)


{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} ، أي: إذا قريء عليهم الَقُرْآن قالوا صدقنا بما فيه {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} . وقال الرازي: " قوله إنه الحق من ربنا يدلّ على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به. وقوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} بيان لقوله: {آمَنَّا بِهِ} لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيد، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء ـ عَلَيْهم السَّلام ـ المتقدمين من البشارة بمقدمه ((1)) . وهو ما تدلّ عليه المعاني الكامنة في الآية الكريمة: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} ، وذكروا في معناها عدة وجوه، وهي:
الأول ـ إنهم صبروا على الإيمان بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) قبل أن يبعث ثُمَّ على إتباعه حين بعث، قاله الضحاك.
الثاني ـ يؤتون أجورهم مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذين كانوا قبل مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ومرة أخرى بإيمانهم بمُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) .
الثالث ـ قال مقاتل: هؤلاء لما آمنوا بمُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران، أجر على الصفح، وأجر على الإيمان، فيروى أَنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه.
ويرجح الرازي القول الأول، ويستدل على ذلك بأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة، وبيّن أيضاً أنهم كانوا به مؤمنين قبل البعثة، ثُمَّ أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك " ((2)) .
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /262. البَحْر المُحِيْط: 7 /125.
(2) ينظر زَاد المَسِيْر: 6 /230. مفاتيح الغيب: 12/ 162.

(1/484)


والذي أرجحه هو القول الثاني بأنهم يؤتون أجرهم مرتين لإيمانهم بأنبيائهم الذين كانوا قبل النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ، ومرة لإيمانهم بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) ، فعن أبي موسى الأشعري (- رضي الله عنه -) : ((أن رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قال: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي (- صلى الله عليه وسلم -) فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أدّى حق الله تعَاَلىَ وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثُمَّ أدبها فأحسن أدبها، ثُمَّ أعتقها وتزوجها فلها أجران " ((1)) .
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} " فيه عدة وجوه:
أحدهما ـ (يدفعون) بالعمل الصالح ما تقدم من ذنب، قاله ابن شجرة.
الثاني ـ يدفعون بالحلم جهل الجاهل.
الثالث ـ يدفعون بالسلام قبح اللقاء، وهذا معنى قول النقاش.
الرابع ـ يدفعون بالمعروف المنكر، قاله ابن جبير.
الخامس ـ يدفعون بالخير الشر، قاله ابن زيد.
السادس ـ يدفعون بالتوبة ما تقدم من المعصية " ((2)) .
وأغلب هذه الأقوال يدلّ على مكارم الأخلاق وذات معنى متقارب ولا نجد فيها خلافاً كبيراً.
يقول القرطبي: " فهذه آية مهادنة، وهي من صدر الإسلام، وهي مما نسختها آية السيف وبقي حكمها فيما دون الكفر يتعاطاه أمة محمد (- صلى الله عليه وسلم -) إلى يوم القيامة ((3)) .
__________
(1) متفق عليه. صحيح البخاري: كتاب العلم، باب العلم 1 /229. . صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الإيمان 241 –245.
(2) النُّكَت والعُيون: 3 /232.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5014.

(1/485)


ومنه قوله (- صلى الله عليه وسلم -) لأبي ذر: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) ((1)) .
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} في سبيل الخير {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} فيه ثلاثة أقوال:
قال مجاهد: السبّ والأذى.
وقال الضحاك: الشرك.
وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -)
{أَعْرَضُوا عَنْهُ} وتركوه تكرماً ((2)) .
والراجح أنهم إذا سمعوا ما قال المشركون من الأذى والشتم، أعرضوا عنه ولم ينشغلوا به كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} ((3)) .
أما قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} فقال الطبرسي: " أي: لا نسأل نحن عن أعمالكم ولا تسألوا عن أعمالنا، بل كلّ منا يجازى على عمله " ((4)) .
وهذه الآية نظير قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} ((5)) .
{سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} قال صاحب الخازن: " ليس المراد من (سلام) تحية، ولكن سلام المشاركة، والمعنى: سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم " ((6)) .
{لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} " لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم " ((7)) .
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) سنن الترمذي: 4 /335 وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. المستدرك على الصحيحين: 1 /121 من حديث أبي ذر قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) ينظر روح المعاني: 20 /95.
(3) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 72.
(4) مجمع البيان: 7 /258.
(5) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 63.
(6) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /436.
(7) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /19.

(1/486)


نستدل من إيمان هؤلاء النفر من أهل الكتاب بنبوة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) أن جميع رسالات الله ذات أصل واحد فيما يتعلق بالعقائد ومكارم الأخلاق، فهي قاطبة تدعو إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتدعو إلى فعل الخير، وتنهى عن فعل الشر، وتأمر بطاعة الله. والَقُرْآن الكَرِيم قد احتوى على تلك الأسس جميعاً من حلال وحرام، وترغيب وترهيب، ومواعظ وقصص، فجاء مصدقاً للأنبياء من قبله، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) وكذلك تضمن الَقُرْآن فضلاً عن ذلك أحكام وتشريعات جديدة تتناسب ورسالة الله الخاتمة.
لما كان الَقُرْآن الكَرِيم مشتملاً على أصول كتبهم ومصدقاً لنبوة أنبيائهم ودعا الناس للإيمان بهم، فصار كفر أهل الكتاب بالنبي (- صلى الله عليه وسلم -) أو بكتابه كفراً بكتبهم ورسلهم، فإن التوراة قد بشرت بنبوته (- صلى الله عليه وسلم -) في عدة أسفار ((2)) ، وكذلك الإنجيل، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ((3)) .
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ودلت هذه الآية كذلك على صفة أخرى من صفات الأتقياء، وهي بذل المال في سبيل الله.
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 101.
(2) إظهار الحق. رحمة الله الهندي. الطبعة الرابعة. دار جدة. السعودية. 1388 هـ: 12/ 145.
(3) سُوْرَة الصَّفِ: الآية 6.

(1/487)


ودل قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} الآية، على الدعوة بالابتعاد عن اللغو، والابتعاد عن الدخول في المنافسات والجدال العقيم في مسائل أخلاقية غير مهمة والابتعاد عن مجادلة الجهلة لأن الجدل مع أهل اللغو لغو، والتركيز على كلّ ما يربط الإنسان بخالقه.
نستدل من الآيات على أن الكفر برسالة بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) يدخل اليهود والنصارى في الكفر {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} ((1)) ما دامت الدعوة قد بلغتهم على اختلاف مشاربهم المذهبية.

المطلب الثالث: الهداية البيانية والهداية التوفيقية
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((2)) .
المناسبة
فيما مرّ من الآيات السابقات تم استعراض نموذجاً من الذين نزل عليهم الوحي، وبلغتهم دعوة المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) النموذج الأول المتمثل في كفار قريش الذين كانوا يمارون بغير حقّ، ويأتون بالحجج لا ليؤمنوا كقولهم: {لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ، فبين الَقُرْآن الكَرِيم أنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم بقوله تعالى: {أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ، والنموذج الآخر هو فريق من الذين أوتوا الكتاب ممن استقام طبعهم، وخلصت نيتهم، فبين الَقُرْآن الكَرِيم طريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم، فقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} .
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 19.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.

(1/488)


ثُمَّ أراد الَقُرْآن الكَرِيم في هذه الآيات أن يبين أن هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لم يزد الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) في جهاده معهم للإيمان على أن يتلو عليهم الَقُرْآن ووراءه من قومه من جهده ليؤمن، ومن أحب بكل نفسه أن يهديه للإسلام فلم يقدِّر الله له ذلك لأمر يعلمه من نفسه، وما كان النبي (- صلى الله عليه وسلم -) ليهدي من يحب، إنما يهدي الله من يعلم من نفسه ما يستحق به الهدى ومن هو مستعد للإيمان ((1)) . فناسبت هذه الآية مكانها في سُوْرَة الْقَصَصِ، وناسبت أيضاً ما قبلها ليكتمل المعنى بأن الهداية التوفيقية هي بيد الله وحده، العالم بمن يستحقها، والهداية البيانية هي مهمة الرسل والأنبياء والدعاة أن يقوموا بها.
أسباب النزول
أخرج مسلم، عن أبي هريرة (- رضي الله عنه -) قال: قال رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لعمه:
((قل لا إله إلا الله أشهد لك يوم القيامة. قال: لولا أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقرت بها عينك، فأنزل الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ} )) ((2)) .
وأخرج النسائي بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أفي أبي جهل، وأبي طالب؟ قال: نعم " ((3)) .
تحليل الألفاظ
1. {تَهْدِي} :
__________
(1) ينظر في ظلال القرآن: 6 /360.
(2) صحيح مسلم: باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت 1/55 رقم (25) .
(3) السنن الكبرى (النسائي) : 6 /245. وينظر أسباب النزول (الواحدي) : ص 243. لباب النقول في أسباب النزول. عَبْد الرَّحْمَن بن أَبِي بكر بن مُحَمَّد السيوطي أبو الفضل. (849 ـ 911) . الطبعة الأولى. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. مصر. 1964 م.: ص 598 –599.

(1/489)


الهُدى ضدّ الضلال وهو الرَّشادُ، والهادي من أَسماء الله سبحانه وتعالى. وقد هَداه هُدىً وهَدْياً وهِدايةً وهِديةً وهَداه للدِّين هُدىً وهَداه يَهْدِيه في الدِّين هُدىً. وقال الليث: ومعنى هَدَيْتُ لك في معنى بَيَّنْتُ لك وهُدَى الله، أَي: الصِّراط الذي دَعا إِليه هو طَرِيقُ الحقّ. وقال ابن بري: يقال هديته الطريق بمعنى عرفته.
وقال ابن الأَثير: والهادي هو الذي بَصَّرَ عِبادَه وعرَّفَهم طَريقَ معرفته حتى أَقرُّوا برُبُوبِيَّته، وهَدى كل مخلوق إِلى ما لا بُدَّ له منه في بَقائه ودَوام وجُوده ((1)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " الهداية دلالة بلطف … وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه:
الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية.
الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن ونحو ذلك، وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (2) .
الثالث: الهداية التوفيقية التي يختص بها من اهتدى، وهو المعني بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} ((3)) . وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ((4)) .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر. مجد الدِّيْن بن أَبِي الكرم مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَرِيْم الشيباني الجزري. المعروف بابن الأثير أبو السعادات. (544 ـ 606) . تحقيق: طاهر أحمد الزاوي – محمود مُحَمَّد الطناحي. المكتبة العلمية. بيروت. ط1. 1399هـ – 1979م.: 5 /525. لِسَان العَرَب: مَادة (هدى) 15 /535.
(2) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 73. سُوْرَة السَّجْدَةِ: الآية 24.
(3) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 17.
(4) سُوْرَة التَّغَابُن: الآية 11.

(1/490)


الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعني بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} ((1)) .
وهذه الهدايات الأربع مرتبة؛ فإن من لم تحصل له الأولى لا تحصل له الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله.
أما بقية أنواع الهداية فهي لله وحده، قال تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، وكل هداية ذكر الله عز وجل أنه منع الظالمين والكافرين منها، فهي الهداية التوفيقية، والرابعة التي هي الثواب في الآخرة، وإدخال الجنة.
قال تعالى: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((2)) وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ((3)) … إذ طالب الهدى ومتحريه هو الذي يوفقه ويهديه إلى طريق الجنة لا من يتحرى طريق الظلال والكفر ((4)) .
فالهداية بذلك التي هي نقيض الضلال دالة في سياق تعريفها الاصطلاحي على كونها بنوعيها هي من هبات الله عَزَّ وجَلَّ.
القضايا البلاغية
1. في الآية طباق سلب بين {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وبين {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
المعنى العام للآيات
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}
__________
(1) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 5.
(2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 258 وغيرها.
(3) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 107.
(4) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 536.

(1/491)


" هداية متواصلة إلى البغية لا محالة " ((1)) . وقال الزَّمَخْشَرِيّ: " لا تقدر أن تدخل في الإسلام كلّ من أحببت أن يدخل فيه من قومك ومن غيرهم لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره " ((2)) .
وقال النسفي: " يخلف فعل الاهتداء فيمن يشاء " ((3)) .
وقال الشيخ أحمد الصاوي: " أي فسلّم أمرك لله، فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاء ولا يبالي بأحد " ((4)) .
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
" بالمستعدين لذلك " ((5)) .
وقال البقاعي: " أي الذين هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم، فيكونوا عرقيين فيه سواء كانوا من أهل الكتاب أو العرب، أقارب كانوا أو أباعد " ((6)) .
وقال الشيخ زاده: " وهذه الآية حجة لنا على المعتزلة في قولهم إن الهدى هو البيان، وقد هدى الناس جميعاً، ولكن لم يهتد البعض منهم بسوء اختيارهم، فهذه الآية دلت على أن وراء البيان ما يسمى هداية، وهو خلق الاهتداء، وإعطاء التوفيق والقدرة التي هي داعية اكتساب الخير والاجتناب عن الشر إذ يفعل ما يشاء بحكمته لا يسئل عما يفعل " ((7)) .
ما يستفاد من النصّ
1ـ كثيراً ما يعتذر المخلّ بواجب الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الآية، ويتشبث بظاهرها ليرفع اللوم عنه بسبب تكاسله بحجة أن الهداية بيد الله، ونفاها عن حبيبه (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكذلك يعتذر بهذه الآية المنهمكون في الشهوات والمعاصي بحجة أن الله لم يهده، والجواب عن ذلك في شقين:
__________
(1) روح المعاني: 20 /96.
(2) الكَشَّاف: 3 /185.
(3) مَدَارِك التَّنْزِيل: 3 /240.
(4) حاشية الصاوي: 3 /221.
(5) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /19.
(6) نظم الدرر: 5 /501.
(7) حاشية الشيخ زاده: 2 /518.

(1/492)


إِنْ الله جَلَّ وَعَلا قد أرسل رسله وأنبياءه ليهدون الناس إلى طريق مستقيم، طريق الهداية، وهو ما يسمى بالهداية الإرشادية، لكي لا يكون للناس حجة بعد الرسل، فمن واجب الأنبياء والرسل والدعاة أن يقوموا ما باستطاعتهم ويؤدوا واجبهم في التبليغ، وتبيين شرع الله، وهذا الواجب الذي عليهم، وليس بمقدورهم ولا من واجبهم أن يجعلوا كلّ الناس مهتدين، فهذا بيد الله وحده.
إِنْ هداية الله جَلَّ وَعَلا لبعض عباده دون آخرين بما يسمى (الهداية التوفيقية) تسبقها مقدمات مستندة إلى الهدايات الأخرى وهذه المقدمات هي عبارة عن صلاحيات اكتسبها أصحابها بالهداية الأولى العامة، وأتبعها أعمال صالحة، بمعنى أن المعنيين بالهداية الخاصة أصبحوا مستحقين لنزول تلك الرحمة، إما بإنابتهم إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} ((1)) ، أو بجهادهم في سبيل الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ((2)) ، أو بأعمالهم الصالحة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} ((3)) ، فإن الله لا يهدي الوقم الكافرين، ولا الظالمين، قال تعالى: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ((4)) ، وقوله: {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) . فالظلم والفسوق تكون حجباً تمنع نفوذ الهداية الإلهية (التوفيقية) .
__________
(1) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 7.
(2) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 69.
(3) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 9.
(4) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 264 وغيرها.
(5) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 37 وغيرها.

(1/493)


2 ـ اختلف المفسرون في إسلام (أبي طالب) استناداً إلى مدلولات هذه الآية
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، ومن الأحاديث الواردة في سبب نزول هذه الآية. قال قسم من المفسرين: إنه لم يسلم. وقال آخرون إنه الأسلم. قال الرازي: " وهذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ". وذكر الطباطبائي أن الروايات المستفيضة عن أهل البيت دلت على إيمانه " والمنقول من أشعاره بالإقرار على صدق النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وحقية دينه، وهو الذي آوى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) صغيراً وحماه بعد البعثة وقبل الهجرة فقد كان آثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريف " ((1)) .
الذي أراه أن الثابت في الروايات الصحيحة الواردة في سبب نزول هذه الآية أنه مات على غير الإسلام، أما ما استدل به الطباطبائي من أشعار أبي طالب على إسلامه فليس بحجة، فليس فيها دلائل على إسلامه وإنما فيها دلالة على نصرته، ولم ينكره أحد، كقوله:
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما نطاعن عن حوله ونقاتل
ونسلمه حتَّى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ((2))
__________
(1) ينظر تفسير الميزان: 16/ 57.
(2) ينظر حاشية الشيخ زاده: 2 /518.

(1/494)


المبحث الثاني: موقف المشركين من دعوته (- صلى الله عليه وسلم -)
المطلب الأول: أعذار المشركين والرد عليها
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ* وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ * وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} ((1)) .
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 57 -61.

(1/495)


قال البقاعي: " ولما عجب من حال قريش في طلبهم من الآيات مثل ما أوتي موسى (- عليه السلام -) ، ثُمَّ كفرهم به، وبما هو أعظم منه، وختم بِأَنَّهُ أعلم بأهل الخير وأهل الشرّ إلى الإعراض عن الأسف على أحد، والإقبال على عموم الدعاء للقريب والبعيد على حد سواء، قال دليلاً لأنهم إنما يتبعون أهوائهم عاطفاً على قولهم: {لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ((1)) ، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ((2)) ، كان الرد بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} " ((3)) . ومناسبة هذه الآيات على موقعها أنها جاءت لبيان حال قريش في كفرهم برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكيف أن الله بين تفاهة حججهم بعد تعداد نعمه عليهم.
ثُمَّ دعتهم الآيات إلى الاعتبار بإهلاك الله للأمم السابقة لأنهم تنكروا لنعم الله، وبطروا بها، فنلاحظ كيف أن الآيات جاءت متناسقة متناسبة فيما بينها، ولتعطي القارئ صورة لعناد قريش، ثُمَّ تربطه بما جرى للأمم السابقة لغرض العبرة والعظة، ولكي يستمر الاتعاض بها في كلّ زمان ومكان من خلال نبذها للدنيا، وتذكير الإنسان بأن ما عند الله خير وأبقى ((4)) .
أسباب النزول
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(3) نظم الدرر: 5 /502.
(4) ينظر مُحَمَّد والقوى المضادة. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة الثالثة. القاهرة. 1982 م: ص 42 –143.

(1/496)


نقل الطبري عن ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ أن الحارث بن نوفل الذي قال {إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} . وقال أيضاً: قد علمنا أنك رسول الله، ولكن نخاف أن نتخطف من أرضنا، فقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} ((1)) .
ونقل الزمخشري " عن الزجاج إجماع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمد أو صدقوه، تفلحوا وترشدوا، فقال النبي (- صلى الله عليه وسلم -) : يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال: فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا اله ألا الله أشهد لك بها عند الله، قال: يا ابن أخي قد علمت أنك لصادق، ولكن أكره أن يقال: خرع عند الموت، ولولا أن تكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها، ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب، وهاشم، وعبد مناف.
قالت قريش ـ وقيل: إن القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ـ نحن نعلم أنك على الحق، ولكن نخاف أن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة راس ـ أي: قليلون ـ يتخطفونا من أرضنا " ((2)) .
وجاء في بيان نزول قول تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ}
والتي اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية؟
قال مجاهد: نزلت في النبي (- صلى الله عليه وسلم -) وفي أبي جهل بن هشام.
__________
(1) جامع البيان: 10 /89. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /437. أسباب النزول (السيوطي) : ص 306.
(2) جامع البيان: 21 /139. الكَشَّاف: 3 /185.

(1/497)


وعن مجاهد أنها نزلت في حمزة، وعلي بن أبي طالب، وأبي جهل ((1)) .
وقيل: نزلت في عمار، وفي الوليد بن المغيرة ((2)) .
والذي أرجحه جمعاً بين الروايات أنها نزلت في رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ومن معه ـ رضوان الله عليهم ـ وفي قريش ومن معهم من الكافرين أخذاً لظاهر المعنى وتوجيههاً للقراءات المختلفة فيه.
تحليل الألفاظ
1. {نُتَخَطَّفْ} :
" الخَطْفُ: الإِسْتِلابُ، وقيل: الخَطْفُ الأَخْذُ في سُرْعةٍ واسْتِلابٍ. خَطِفَه، بالكسر، يَخْطَفُه خَطْفاً، بالفتح، وهي اللغة الجيّدة، وفيه لغة أُخرى حكاها الأَخفش: خَطَفَ، بالفتح، يَخْطِفُ بالكسر، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف: اجّتَذَبه بسُرْعة " ((3)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " الخطف والاختطاف: الاختلاس بالسرعة، يقال: خَطِفَ يَخْطِف، وخَطَف يَخْطَف، وقرئ بهما جميعاً " ((4)) .
2. {نُمَكِّنْ} :
المَكْنُ والمَكِنُ: بيضُ الضَّبَّةِ والجَرَادة ونحوهما واحدته مَكْنةٌ. ومَكِنة، بكسر الكاف. وقد مَكِنَتِ الضَّبَّةُ وهي مَكُونٌ وأَمْكَنتْ وهي مُمْكِنٌ إِذا جمعت البيض في جوفها، والمكنة التمكن، تقول العرب: إِن بني فلان لذوو مَكِنةٍ من السلطان أَي تَمكُّنٍ. قال ابن بري: لا يصح أَن يقال في المَكِنة إِنه المكان إلا على التَّوَسُّع لأن المكنّة إنما هي بمعنى التمكن.
__________
(1) جامع البيان: 10 /91 –92.
(2) مجمع البيان: 7 /261.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (خطف) 9 /57.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 152.

(1/498)


والطَّلِبَة بمعنى التَّطَلُّبِ والتَّبِعَةِ بمعنى التَّتُّبع. يقال: إِنَّ فلاناً لذو مَكِنةٍ من السلطان، فسمي موضع الطير مَكِنةً لتَمكُّنه، والمَكانةُ المَنْزلة عند الملك. وقال أبو منصور: المكان والمكانة واحد. قال ابن سيده: تَمَكَّنَ من الشيء واستمكن: ظفر ((1)) .
3. {يُجْبَى} :
جَبَى الخراجَ والماء والحوضَ يَجْبَاهُ ويَجْبِيه: جَمَعَه. جَبَيْتُ الماء في الحوض وجَبَوْته والجابي: الذي يجمع الماء للإبل. والجِباوةً اسم الماء المجموع، والجبا بالفتح الحوض الذي يجبى فيه الماء ((2)) .
قال الراغب الأصفهاني: جبيت الماء في الحوض: جمعته، والحوض الجامع له: جابية، وجمعها جواب. ومنه استعير: جبيت الخراج جباية على طريق الاصطفاء ((3)) .
4. {بَطِرَتْ} :
البَطَرُ: النشاط، وقيل: التبختر، وقيل: قلة احتمال النِّعمة، وقيل: الدَّهَشُ والحَيْرَةُ. وقيل: البَطَرُ الطُّغيان في النِّعْمَة. وقيل: هو كراهة الشيء من غير أَن يستحق الكراهية. بَطِرَ بَطَراً، فهو بَطِرٌ. والبَطَرُ: الأَشَر، وهو شدّة المَرَح. وبَطِرَ النِّعْمَةَ بَطَراً، فهو بَطِرٌ: لم يشكرها ((4)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " البطر: دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها " ((5)) .
5. {مُهْلِكَ} :
الهَلْكُ: الهلاك. هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً وهَلْكاً وهَلاكاً: مات. واستعمل أبو حنيفة الهلكة في جفوف النبات ((6)) .
__________
(1) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (مكن) 13 /412 –413.
(2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (جبي) 14 /129 –131.
(3) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 85.
(4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (بطر) 4 /68 –69.
(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 48.
(6) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (هلك) 10 /503.

(1/499)


وقال الراغب الأصفهاني: " الهلاك على أربعة أوجه:
افتقاد الشيء عنك، وهو عند غيرك موجود كقوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} ((1)) .
وهلاك الشيء باستحالة وفساد، كقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} ((2)) .
والثالث: الموت، كقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ((3)) .
بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا، وذلك المسمى فناء المشار إليه بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((4)) ، ويقال للعذاب والخوف والفقر: الهلاك ((5)) .
6. {الْمُحْضَرِينَ} :
الحُضُورُ: نقيض المَغيب والغَيْبةِ؛ حَضَرَ يَحْضُرُ حُضُوراً وحِضارَةً؛ وقال الجوهري: حَضْرَةُ الرجل قُرْبهُ وفِناؤه. وقال الأَزهري: الحَضْرَةُ قُرْبُ الشيء، تقول: كنتُ بِحَضْرَةِ الدار، أي: بقربه ((6)) .
القراءات القرآنية
1. {الْهُدَى} :
قرأها بالإمالة حمزة، والكسائي، وورش ((7)) .
2. {نُتَخَطَّفْ} :
قرأ المنقري: (نُتَخَطَّفُ) برفع الفاء ((8)) .
3. {يُجْبَى} :
قرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر: (تُجْبَى) بتاء التأنيث، وقرأ الباقون بالياء، وحجة من قرأ بتاء التأنيث (الثمرات) ، وحجة من قرأ بالياء أنه فرق بين المؤنث وفعله بـ (إليه) لأنه تأنيث غير حقيقي، ولأن معنى الثمرات الرزق، فحمل على المعنى فَذُكِّر ((9)) .
4. {ثَمَرَاتُ} :
__________
(1) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 29.
(2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 205.
(3) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 176.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 542- 543.
(6) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (حضر) 4 /196 –197.
(7) غيث النفع: ص 317.
(8) البَحْر المُحِيْط: 7 /129.
(9) الحجة في علل القراءات: 5 /424. الكشف عن وجوه القراءات: 2 /175.

(1/500)


قرأ الجمهور (ثَمَرَاتُ) بفتحتين، وقرأ أبان بن تغلب بضمتين: (ثُمُرات) ، وهي قراءة شاذة ((1)) .
5. {فِي أُمِّهَا} :
قرأ حمزة، والكسائي: (امِّها) وصلاً للإتباع ((2)) .
6. {تَعْقِلُونَ} :
قرأ أبو عمرو (يعقلون) بالياء إعراضاً عن خطابهم، وخطاب لغيرهم كأنه قال: انظروا إلى هؤلاء وسخافة عقولهم أفلا يعقلون يا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) .
وقرأ الجمهور بالتاء على خطابهم وتوبيخهم في كونهم أهملوا العقل في العاقبة، ونسب هذه القراءة أبو علي في الحجة إلى أبي عمرو وحده ((3)) .
7. {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ} :
قرأ طلحة: (أمَن وَعَدْنَاه) بحذف الفاء ((4)) .

8. {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} :
وقريء: (مَتَاعًا الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) انتصب الحياة الدنيا على الظرف ((5)) .
9. {ثُمَّ هُوَ} :
بسكون الهاء (هْوَ) كما قرأها الكسائي، وأبو جعفر وصلاً ((6)) .
القضايا البلاغية
__________
(1) الكَشَّاف: 3 /185. البَحْر المُحِيْط: 7/126.
(2) النشر في القراءات العشر: 2 /248. إتحاف فضلاء البشر: ص 343. غيث النفع: ص 317.
(3) التيسير في القراءات السبع: ص 172. السبعة في القراءات: ص 495. إتحاف فضلاء البشر: ص 343.
(4) البَحْر المُحِيْط: 7/127.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7 /127.
(6) التيسير في القراءات السبع: ص 317. السبعة في القراءات: ص 548. إتحاف فضلاء البشر: ص 343.

(2/1)


1. الإسناد المجازي ((1)) (مجاز عقلي) في قوله: {حَرَمًا آمِنًا} ، لأن المراد أهل الحرم. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} المراد أهلها بدليل قوله تعالى بعد:
{فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً} ، أي: لقد زهوا بها حيناً من الدهر وغرتهم الأماني وأبطرتهم النعمة وكان ديدنهم ديدن المترفين الرافلين في حلل السعادة، فما عتموا أن فنوا وطوتهم الأيام وبقيت آثارهم شواخص ((2)) .
المعنى العام الآيات
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}
" أي: نستلب من أرضنا يعني أرض مكة والحرم، وقيل: إنما قاله الحارث بن نوفل بن عبد مناف فإنه قال للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) : إنا لنعلم أن قولك الحق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك أن يتخطفنا العرب من أرضنا، ولا طاقة لنا بالعرب ((3)) ، فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} .
قال الماوردي: " فيه وجهان:
أحدهما ـ إنه جعله آمناً بما طبع النفوس عليه من السكون إليه حتَّى لا ينفر منه الغزال والذئب والحمام والحدأة.
الثاني ـ إنه جعله آمناً بالأمر الوارد من جهته بأمان من دخله ولاذ به، قاله يحيى بن سلام، يقول: كنتم آمنين في حرمي تأكلون رزقي وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وأمنتم بي " ((4)) .
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}
__________
(1) الإسناد المجازي: هو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل، ينظر الإيضاح للقزويني: 16.
(2) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /256 –257.
(3) مجمع البيان: 7 /260.
(4) النُّكَت والعُيون: 3 /234.

(2/2)


{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ} " هو استفهام إنكار، وهذا الإنكار يقتضي توبيخاً على هذا الحال التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرماً " ((1)) .
{يُجْبَى} أي يجمع ويجلب مما لا يرجونه ولا قدرة لهم على استجلابه
{إِلَيْهِ} ، أي: خاصة دون غيره من جزيرة العرب ((2)) .
{كُلِّ شَيْءٍ} " أي يجمع إليه ثمرات كلّ أرض وبلد " ((3)) ، وقال ابن عاشور: " عام في كلّ ذي ثمرة، وهو عموم عرفي، أي: ثمر كلّ شيء من الأشياء المثمرة المعروفة " ((4)) .
{رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} من عندنا، والعندية مجاز في التكريم والبركة أي: رزقاً قدرناه لهم إكراماً، فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص ((5)) .
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قال النسفي:" متعلق بـ (من لدنا) ، أي: قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله. و (أكثرهم) جهلة لا يعلمون ذلك، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ولما خافوا التخطف إذ أمنوا به " ((6)) .
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}
قال القرطبي: " بين لمن توهم أنه لو آمن لقاتلته العرب أن الخوف في ترك الإيمان أكثر، فكم من قوم كفروا ثم حل بهم البوار" ((7)) .
{فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}
قال الرازي: " في هذا الاستثناء وجوه:
__________
(1) التحرير والتنوير: 20 /149.
(2) ينظر نظم الدرر: 5 /504.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5016.
(4) التحرير والتنوير: 20 /149.
(5) ينظر التحرير والتنوير: 20 /149.
(6) مَدَارِك التَّنْزِيل: 3 /241.
(7) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5016.

(2/3)


أحدهما ـ قال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ: لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة.
ثانياً ـ يحتمل أن شؤم معاصي المهلكين بقى أثرها في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً فتهلكه كما أهلكت من قبله " ((1)) . {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} " لهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم، وسائر ما يتصرف فيه، والشيء إذا لم يبق له مالك معين. قيل: إنه ميراث الله هو الباقي بعد خلقه " ((2)) .

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} قال أبو السعود: " بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة، أي: وما صحّ، وما استقام، بل يستحال في سنته المبنية على الحكم البالغة، أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار، بل كانت عادته أن لا يهلكها {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} " ((3)) .
{فِي أُمِّهَا} قال الماوردي فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما ـ أوائلها، قاله الحسن.
الثاني ـ في معظم القرى من سائر الدنيا، حكاه ابن عيسى.
الثالث ـ إن أم القرى مكة، قاله قتادة " ((4)) .
وقال الخازن: " في أكبرها وأعظمها رسولاً ينذرهم، وخصّ الأم ببعثه الرسول لأنه يبعث إلى الأشراف وهم سكان المدن. وقيل: حتَّى يبعث في أم القرى وهي مكة رسولاً يعني مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) لأنه خاتم الأنبياء " ((5)) .
والذي أرجحه أن المقصود هو أم القرى بدلاله السياق.
__________
(1) مفاتيح الغيب: 13 /6.
(2) تفسير المراغي: 20 /76.
(3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /20.
(4) النُّكَت والعُيون: 3 /235.
(5) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 / 347.

(2/4)


{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ، أي: بتكذيب الرسل والعتو في الكفر " ((1)) .
وقال عطاء: " يريد بظلمهم أهلكتهم وظلمهم شركهم " ((2)) .
وجاء في المحرر الوجيز " إن الله تعالى يقيم الحجة على عباده بالرسل فلا يعذب إلا بعد أن يتمادى أهل القرى في ظلم وطغيان، والظلم هنا يجمع الكفر والمعاصي والتقصير في الجهاد. وبالجملة وضع الباطل موضع الحق " ((3)) .
والذي أراه أن المعنى الخاص بالظلم يشمل كفرهم بالله تعالى على ما يتضح من سياق النص.
ويثور هنا سؤالان أوردها الرازي رحمه الله:
السؤال الأول: لماذا ما أهلك الله الكفار قبل بعثة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى، والتكذيب بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) ؟
السؤال الثاني: لماذا ما أهلكهم بعد مبعث مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد (- صلى الله عليه وسلم -) ؟
فأجاب عن السؤال الأول بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} .
وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة.
وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أنفسهم بالشرك، وأهل مكة ليسوا كذلك، فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون، وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمناً ((4)) .
__________
(1) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /221.
(2) الوسيط: 3 /404.
(3) المحرر الوجيز: 12 /178.
(4) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /6.

(2/5)


{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
أجاب الله جل وعلا عن شبهتهم التي قالوا فيها تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا، فبين الله تعالى خطأهم في ذلك، لأن ما عند الله خير وأبقى وذلك لوجهين كما ذكر الرازي:
أحدهما ـ إن المنافع هناك أعظم.
وثانيها ـ إنها خالصة عن الشوائب، ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار بل الضار فيها أكثر.
وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة، ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً، فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر، فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستيفاء منافع الدنيا، ونبه عن ذلك بقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يعني: من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل ((1)) .
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ}
قال المراغي في تفسير هذه الآية "أي: أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا بالجنة وجزيل نعيمها مما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر فآمن بما وعدناه وأطاعنا، فاستحق أن نجزله وعدنا فهو لاقيه حتماً وصائر إليه، كمن متعناه الحياة الدنيا ونسي العمل بما واعدنا به أهل الطاعة، وآثر لذة عاجلة على لذة آجلة لا تنفذ، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله من المحضرين لعذابه واليم عقابه " ((2)) .
وأرى أن المقصود بذاك الوعد بمغفرة الله تعالى ورضوانه بإقراره في دار القرار والمستقر الجنة يوم القيامة، وهو ما يوضحه المعنى العام للآيات.
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /7.
(2) تفسير المراغي: 20 /79.

(2/6)


1. دل قوله تعالى: {إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} على أنهم لا ينكرون أنه الهدى، فإن أهل الجزيرة العربية بما اشتهروا به من فصاحة اللغة وحسن البيان أدركوا بفطرتهم أن الذي جاء به مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ليس من كلام البشر، ولا هو من سجع الكهان، ولا هو من السحر، ولكن ما منعهم من الإيمان به هو العصبية القبلية، والخشية من ذهاب السلطة الدينية والسياسية والإدارية عن مكة المكرمة.
فقد جاء فيما يرويه ابن هشام عن ابن إسحاق أن عتبة بن ربيعه قرا عليه الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) سورة فصلت إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} ((1)) ، فأمسك عتبة بفيه وناشده الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفاً مما تتضمنه الآية من تهديد. ثم عاد عتبة إلى أصحابه فقالوا: ما ورائك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي إني سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فو الله ليكون لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة فُصِّلَتِ: الآية 13.
(2) الطبقات الكبرى. مُحَمَّد بن سَعَد بن مَنِيْع الزُّهْرِي البصري (كاتب الواقدي) أبو عَبْد الله. (168 ـ 230) . قَدَّمَ لَهُ: د. إحسان عباس. دار صار بيروت 1968 م.: 5 /431. سيرة ابن هشام: 2 /131. الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث. أحمد بن الحسين البيهقي. (384 ـ 458) . تحقيق: أحمد عصام الكاتب. دار الآفاق الجديدة. بيروت. ط1. 1401 هـ.: 1 /267. تفسير القرآن العظيم: 4/ 92. فقه السيرة: ص 88.

(2/7)


2. دلت الآيات على أن الأمن والخوف من الله، فالله جل وعلا وحده الحافظ، والنافع والضار، والمحي والمميت، والمعز والمذل، وأنه لو اجتمعت كل قوى الأرض على أن تضر إنساناً أو مجتمعاً دخل في حمى الله لا تستطيع، ولا أن تنصر من خذله الله، فالخوف الحقيقي هو في البعد عن هوى الله، والأمن لا يكون إلا في حمى الله.
قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ((1)) .
فلو عادت الدول العربية والإسلامية إلى كتابها وتمعنت به لأنقذها من حيرتها أمام القوة الغاشمة (أمريكا) وتفردها بمصائر الشعوب، فقد انهار من انهار من المسلمين أمام قوة أمريكا، وقدم التنازلات تلو الأخرى لإرضائها، ولم يجرأ على مخالفتها، فعلى المسلمين أن يعلموا أن الأمن من الله لا من أمريكا والخوف من الله لا من أمريكا.
3. ودلت كذلك هذه الآيات على أن البطر والظلم من أسباب هلاك الأمم والشعوب قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} .
4. ودلت هذه الآيات كذلك على أن الأمم لا تستمر حضارياً إن عتت باقتصادها ببطران المعيشة، وتغيير نعم الله سبحانه وتعالى، لأن ذلك مشعر ببوار هذه الأمم إلى يوم القيامة.
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 38.

(2/8)


المطلب الثاني: مشاهد من يوم القيامة وتوبيخ المشركين على مزاعمهم
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((1)) .
المناسبة
بعد أن ردّ القرآن الكريم على حجج المشركين، وبيَّن تهافتها بتأكيده على أن الأمن يكون بالقرب من الله، وأن الخوف في البعد عنه، يجول النص بهم جولة أخرى بعرض مشهد من مشاهد يوم القيامة وما يحصل فيه من الإهانة والتقريع والعذاب للمشركين حين يسألهم عدة أسئلة للتوبيخ والتأنيب:
السؤال الأول: {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ؟
السؤال الثاني: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} ؟
السؤال الثالث: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} ؟
فأراد القرآن الكريم من خلال هذه الآيات أن يجسد حقيقية مهمة لعباده، مفادها أن الخوف ينبغي أن يكون من الله، فهو القاهر فوق عبادة ويبطل الخوف من غيره، فما قدره الله كائن لا محالة، وما لم يقدر لم يقع أبداً. إذن علام الخوف من المرض، وعلام الخوف من الفقر، وعلامة الخوف من الموت إذا كان كلّ شي مقدر ومكتوب؟
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 62 - 67.

(2/9)


قال تعالى {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ((1)) .
تحليل الألفاظ
1. {تَزْعُمُونَ} :
الزَّعْم والزِّعم والزُّعْم ثلاث لغات القول زَعَمَ زَعْماً وزُعْماً وزِعْماً، أي: قال. وقيل: هو القول يكون حقاً ويكون باطلاً.
وقال الليث: سمعت أهل العربية يقولون: إذا قيل: ذكر فلان كذا أو كذا، فإنما يقال ذلك للأمر يستيقن أنه حق، وإذا شك فيه فلم يدر لعله كذب أو باطل. قيل: زعم فلان. وقيل: الزعم الظن. وقيل: الكذب ((2)) .
قال الراغب الأصفهاني: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلين به ((3)) .
2. {أَغْوَيْنَا} :
غَوَى الغَيَّ الظَّلال والخيبة. غَوَى بالفتح غَيَّاً وغَوِى غِوَايَة، فعن أبي عبيد: ضلَّ ورجل غاوٍ وغَوٍ وغَوَى وغَيَّان ضَالّ وإِغْواء. قال ابن الإعرابي: الغَيّ الفساد ((4)) .
قال الراغب الأصفهاني: " الغَيُّ جهل من اعتقاد فاسد " ((5)) .
3. {تَبَرَّأْنَا} :
قال الراغب: برأ أصل البُرْء والبَراء والتَّبِّري مما يكره مجاوزته ولذلك. قيل: بَرَأْتُ من المرض، وبَرَأتُ من فلان، وتَبَرَّأتُ وأبْرَأتُه وأَبْرَأتُه من كذا، وبَرَأتُه، ورجل بَرِئ وقوم بُرَاء وبَرِيئُون ((6)) .
4. {فَعَمِيَتْ} :
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 175.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (زعم) 12/ 264.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 217.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (غوي) 15 /140.
(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 380.
(6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 38.

(2/10)


العمى: ذهاب البصر كله عَمِي يَعْمَى عَمَىً فهو أَعْمَى وأعْمَاي يعَامِي أعْمِياء، وتعمَى في معنى عَمِيَ. قال الليث: رجل أعْمَى وامرأة عَمْياء ولا يقع هذا النعت على العين الواحدة لأن المعنى يقع عليها جميعاً ويقال: امرأتان عُمياً ونسوة عُمياً وقوم عُمي، وتَعَامى الرجل أي أري من نفسه ذلك ((1)) .
وقال الراغب: العَمَى في اقتضاء البصر والبصيرة، ويقال في الأول: أعمى، وفي الثاني أعمى وعمٍّ. وعَمِي عليه، أي: أشتبه حتى صار بالإضافة إليه كالأعمى ((2)) .
5. {الْمُفْلِحِينَ} :
الفَلح والفَلاح: الفوز والنجاة والبقاء في النعيم والخير. قال الأزهري: إنما قيل لأهل الجنة مفلحون لفوزهم ببقاء الأبد ((3)) .
وقال الراغب الأصفهاني: الفلاح الظفر وإدراك بغية، وذلك ضربان دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، وهو البقاء والغنى والعز، وفلاح أخروي وذلك أربعة اشياء بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل " ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {غَوَيْنَا} :
قرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين: (غَوِينا) بكسر الواو ((5)) .
2. {يُنَادِيهِمْ} :
قرأ يعقوب: (يناديهم) بضم الهاء ((6)) .
3. {فَعَمِيَتْ} :
وقرأ الأعمش، وجناح بن حبيش، وأبو زرعة، وابن عمرو بن جرير بضم العين وتشديد الميم (فَعُمَّيَتْ) والمعنى أظلمت عليهم الأمور فلا يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم ((7)) .
4. {يَتَسَاءَلُونَ} :
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (عمي) 150 /95 – 99.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 361.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (فلح) 2 /547.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: 399.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7 /128.
(6) غيث النفع: ص 343.
(7) المحرر الوجيز: 12 /180. البَحْر المُحِيْط: 7/129.

(2/11)


قرأ طلحة (يسَّاءلون) بإدغام التاء في السين، أي: لا يسأل بعضهم بعضاً فيما يتحاجون به ((1)) .
القضايا البلاغية
أولاً. أسلوب السخرية والتهكم في قول تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((2)) .
ثانياً. تشيبه مرسل في قوله تعالى: {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} ووجه الشبة في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مغوون قبلهم وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعية عنهم ((3)) .
ثالثاً. استعارة تصريحية ((4)) تبعية في قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} أستعير العمى لعدم الاهتداء، فهم لا يهتدون للأنباء، ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن معنى الخفاء فعدي بـ‍ (على) ففيه أنواع من البلاغة الاستعارة والقلب والتضمين ((5)) .
المعنى العام للآيات
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}
__________
(1) البَحْر المُحِيْط: 7 /129.
(2) الكَشَّاف: 3 /187.
(3) التحرير والتنوير: 2 /158.
(4) الاستعارة التصريحية: ما صرّح فيها بلفظ المشبه به، وذكر فيها شيء من لوازم المشبه. كقول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
المشبه به: المستعار منه: الدقات القائمة والقول بمعنى الدلالة. والمشبه: المستعار: الشيء الدال. والجامع بينهما: إيضاح المراد من الحياة. والقرينة: نسبة القول إلى الدقات. والتبعية منها: هي ما يكون فيها اللفظ المستعار فعلا أو اسما مشتقا أو اسما مبهما أو حرفا. ينظر شرح التلخيص: 122، 144. تنبيه الوسنان: ص 32 –33.
(5) ينظر محاسن التأويل: 13/ 4719. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /366.

(2/12)


قال أبو حيان: " يوم يناديهم الله ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة " ((1)) .
وقال الثعالبي: " الضمير المتصل بـ‍ (ينادي) لعبدة الأوثان والإشارة إلى قريش وكفار العرب " ((2)) .
{أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} . قال الرازي: " أين الذين ادعيتم ألهيتهم لتخلصكم؟ أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى، وقد علموا أن لا اله إلا الله، فيكون ذلك زائداً في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول " ((3)) .
وقال البقاعي: " ثم بين أنهم لا يستحقون هذا الاسم بقوله {الَّذِينَ كُنتُمْ} ، أي: كوناً أنتم عريقون فيه (تزعمون) ليدفعوا عنكم أو عن أنفسهم " ((4)) .
{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ}
" الشياطين وأئمة الكفر ورؤوسه و (حق) ، أي: وجب عليهم القول، أي: مقتضاه ((5)) ، وهو قوله تعالى: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ((6)) .
نلاحظ تكرار (الذين) :
أولاً: {الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} .
وثانياً: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} .
ما الغرض من ذلك؟
يجيبنا الآلوسي ـ رحمه الله ـ بقوله: " المراد بالموصول الشركاء والذين كانوا يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضاً لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب، والتعبير عنهم بذلك دون زعمهم شركاء لإخراج مثل عيسى وعزير والملائكة ـ عليهم السلام ـ لشمول الشركاء على ما سمعت له " ((7)) .
__________
(1) البَحْر المُحِيْط: 7 /128.
(2) الجواهر الحسان: 4 /278.
(3) مفاتيح الغيب: 13/ 13.
(4) نظم الدرر: 5/ 509.
(5) ينظر الوسيط: 3 /405. البَحْر المُحِيْط: 7 /128.
(6) سُوْرَة هُوْد: الآية 119.
(7) ?????????????????????????????

(2/13)


{رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}
أي: ربنا أن هؤلاء الاتباع الذين أضللناهم أغويناهم باختيارهم كما غوينا نحن كذلك، ولم يكن منا لهم إلا الوسوسة والتسويل لا القسر والإلحاد فهم كانوا مختارين حين اقدموا على تلك العقائد وهذه الأعمال وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل، وأنزل عليهم من الكتب المشحونة والزواجر بالوعد والوعيد والمواعظ ((1)) .
{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} قال القرطبي: " أي: تبرأ بعضنا من بعض والشياطين يتبرؤون ممن أطاعهم والرؤساء يتبرؤون ممن قبل منهم " ((2))
كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} ((3)) .
{مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} قال الزمخشري معناها: " إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم " ((4)) .
وقال ابن عاشور: " ابتدءوا جوابهم بتوجيه النداء إلى الله بعنوان أنه ربهم، نداء أريد منه الاستعطاف بأنه الذي خلقهم اعترافاً منهم بالعبودية وتمهيداً للتنصل من أن يكونوا هم المخترعين لدين الشرك " ((5))
{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} قال البقاعي: " وقيل: أي ثانياً للاتباع تهكماً بهم وإظهاراً للاستهانة لعجزهم الملزوم لتحسرهم وعظم تأسفهم، وعبر بصيغة المجهول إظهاراً للاستهانة بهم " ((6)) .
__________
(1) ?????????????????????????????????????????????????????????????
(2) ?????????????????????????????????????????????
(3) ??????????????????????????????????????
(4) ??????????????????????????
(5) ??????????????????????????????????
(6) ??????????الدرر: 5 /510.

(2/14)


{فَدَعَوْهُمْ} قال أبو حيان:"هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن لا يجيبهم".
وقال ابن عاشور: " والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا " ((1)) .
وقال الآلوسي: " لفرط الحيرة والإفلاس هناك طلب حقيقة الدعاء وقيل: دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلباً والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه " ((2)) .
{فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} قال أبو السعود: " ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة " ((3)) .
{وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} ، فكثير من المفسرين زعموا أن جواب (لو) محذوف وذكروا فيه وجوهاً:
أحدهما ـ قال الضحاك، ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة.
ثانياً. لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق.
ثالثاً. ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون.
رابعاً. لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب.
خامساً. قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذ رأوا العذاب ((4)) ، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ} ((5)) .
فإن المراد به ـ والله اعلم ـ أن المشركين حينما يرون العذاب في الآخرة، وأنه واقع بهم لا محالة، وحاصل كما ذكره الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لهم وحذرهم منه يتمنون لو أنهم كانوا مهتدين، ولات حين مناص، ولا يمكن أن يراد بالعذاب عذاب الدنيا كما قال ابن عاشور ((6)) .
__________
(1) التحرير والتنوير: 20/160.
(2) روح المعاني: 2 /101.
(3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /22.
(4) مفاتيح الغيب: 13/9.
(5) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 201.
(6) التحرير والتنوير: 20 /160- 161.

(2/15)


وذلك لأننا إذا رجعنا قليلاً إلى الآيات التي قبل هذه، فكلها تتحدث عن يوم القيامة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أي: يوم القيامة يناديهم ثم ما يحصل من تبرأ بين الذين أتَبَعوا والذين أَتُبِعوا {رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} ، ثم يسألهم الله ليوبخهم، ويبين لهم عدم قدرة من اتخذوهم آلهةً على نصرهم. فبعد أن سقطت كل حججهم، وتبين لهم كم كانوا على ضلال ورأوا العذاب، فتمنوا لو أنهم كانوا مهتدين مع من اهتدى.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} . قال القرطبي: " أي: يقول الله لهم ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي " ((1)) .
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} . قال الماوردي: فيها وجهان:
" الوجه الأول ـ الحجج، قاله مجاهد.
الوجه الثاني ـ الأخبار، قاله السدي " ((2)) .
وقال ابن الجوزي: " سميت أنباء لأنها أخبار يخبرها " ((3)) .
{فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} نقل القرطبي عدة آراء للعلماء في معناها:
قال الضحاك: لا يسأل بعضهم بعضاً عن الحجج، لأن الله أدحض حججهم.
وقال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ: {لاَ يَتَسَاءَلُونَ} لا ينطقون بحجة.
وقيل: {لاَ يَتَسَاءَلُونَ} في تلك الساعة ولا يدرون ما يجيبون من هول تلك الساعة.
وقال مجاهد لا يتساءلون بالأنساب.
وحكى عيسى أنه لا يسأل بعضهم بعضاً أن يحمل من ذنوبه شيئاً (4) .
والذي أراه في ذلك هو رأي ابْن عَبَّاس لصوابه ودلالته على الحجة.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5020.
(2) النُّكَت والعُيون: 3/ 235.
(3) زَاد المَسِيْر: 6/ 236.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5020.

(2/16)


{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} {فَأَمَّا مَنْ تَابَ} ، أي: من الشرك {وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} جمع بين الإيمان والعمل الصالح {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} قال الآلوسي: " أي: الفائزين بالمطلوب عنده تعالى الناجين عن المهروب " ((1)) .
وقد ذكر العلماء في (عسى) وجوه ذكرها الرازي:
إنه من الكرام تحقيق والله اكرم الأكرمين.
أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح.
عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا ((2)) .
وقال الطبري: " وعسى من الله واجب " ((3)) .
وابن كثير:" عسى من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضله ومنته لا محالة " (4) .
وقال ابن عطية: " وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه فضله وكرمه واللازم من (عسى) أنها ترجيه لا واجبة، وفي كتاب الله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِن
طَلَّقَكُنَّ} ((5)) " ((6)) .
وقال الثعالبي: " معنى الوجوب الوقوع " ((7)) .
وذكر ابن عاشور: " {فَعَسَى} ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح. و {أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} أشد في إثبات الفلاح ثم أن يفلح " ((8)) .
وقال البقاعي: " وإنما يقطع له بالغلام وإن كان مثل ذلك في مجاري عادات الملوك قطعاً إعلاماً بأنه لا يجب عليه سبحانه شيء ليدوم حذره ويتقي قضاؤه وقدرة، فإن الكل منه " ((9)) .
ما يستفاد من النصّ
دلت الآيات السابقات على ما يأتي:
__________
(1) روح المعاني: 20 /103.
(2) مفاتيح الغيب: 13 /10.
(3) جامع البيان: 10 /94.
(4) تفسير القرآن العظيم: 3/ 397.
(5) سُوْرَة التَّحْرِيمِ: الآية 5.
(6) المحرر الوجيز: 12 /181.
(7) الجواهر الحسان: 4/ 279.
(8) التحرير والتنوير: 20 /164.
(9) نظم الدرر: 5 /512.

(2/17)


أولاً. هناك في الآيات نداءان؛ النداء الأول لإثبات الألوهية لله وحده لا شريك له من خلال إخباره عز وجل عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، وقوله تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} .
ثانياً. النداء الثاني لإثبات النبوات من خلال قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} ، ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم وكيف كان حالكم معهم، وهذا كما يسئل العبد في قبره: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا اله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله. وأما الكافر فيقول: هاه، هاه لا أدري. ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت، لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ولذا قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) .
ثالثاً. أجابت الآيات عن ما يتبادر من سؤال في الذهن وهو: ما حكم من تاب من المشركين ((2)) ؟ بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} .
وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها، ولذلك عطف عليه بقوله {وَعَمِلَ صَالِحًا} ، لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم، وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي افتتنوا بها " ((3)) .
فباب التوبة إذا مفتوح للمشركين ولغيرهم بهذه الشروط:
الندم بالقلب.
ترك المعصية في الحال.
العزم على ألا يعود إلى المعصية.
__________
(1) ينظر تفسير القرآن العظيم: 3 /397.
(2) ينظر التحرير والتنوير: 20/ 163.
(3) التحرير والتنوير: 20 /163.

(2/18)


أن تكون التوبة خوفاً وحياءً من الله.
أن يكثر الاستغفار.
إعادة حقوق الناس إذا كان الأمر يتعلق بهم، لأن الله تعالى لا يتخلى عن حقوق الآخرين ((1)) .
قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ((2)) . وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ((3)) .

المطلب الثالث: الله وحده الخالق المتصرف العالم بمكنونات الأنفس
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) .
المناسبة
بعد أن بين جل وعلا فيما مضى من الآيات كيف تسقط في يوم القيامة من بين أيدي المشركين الكفرة أعذارهم، ويتخلى عنهم من اعتقدوا في الدنيا أنهم ينصرونهم من دون الله، فأظلمت في وجوههم الأمور وعميت عليهم الأنباء، ثم ينتزع الله تعالى من الكفرة من تاب من كفره وآمن بالله ورسله وعمل بالتقوى، فيرتجي رحمه الله وتوبته له ونعيمه المقيم في جناته، ثم يأتي قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ليخبر بها أنه يختار من بين عباده رسلاً وأنبياء، وليس لأحد من خلقه مثل ذلك ((5)) .
__________
(1) ينظر التوابين. ابن قدامة المقدسي. الطبعة الأولى. بيروت، لبنان. 1988 م: ص 320.
(2) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 160.
(3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 222.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 68 -70.
(5) ينظر المحرر الوجيز: 12 / 181.

(2/19)


وقال ابن عاشور: " وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب متفتحة للاهتداء ولو بمراحل وقلوب غير متفتحة له، فهي قاسية صماء وأنه الذي اختار فريقاً على فريق " ((1)) .
أسباب النزول
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} :
اختلف المفسرون في سبب نزولها على قولين:
أولاً. أنه عني بذلك قوماً من المشركين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا: هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فنزل ذلك فيهم قاله ابن شجرة ((2)) .
ثانياً. وقال جماعة من المفسرين: إنها نزلت جواباً للمشركين حين قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ((3)) يعني الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف ((4)) .
تحليل الألفاظ
1. {يَخْلُقُ} :
الخالق هو الله تعالى، والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم تسبق إليه، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه. وقال أبو بكر الأنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين أحدهما: الإنشاء على مثال أبدعه والآخر التقدير.
وقال ابن سيده: خلق الله الشيء يخلقه خلقاً أحدثه بعد أن لم يكن ((5)) .
وقال الراغب: " الخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا اقتداء " ((6)) .
2. {الْخِيَرَةُ} :
__________
(1) التحرير والتنوير: 20 /164.
(2) النُّكَت والعُيون: 3 /236.
(3) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 31.
(4) ينظر المحرر الوجيز: 12 /181. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /439.
(5) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (خلق) 10 /75.
(6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 158.

(2/20)


قال الراغب: " الخبر الفاصل المختص بالخير يقال: ناقة خِيَار وجمل خِيَار واسْتَخَار الله العبد فَخَارَ له، أي: طلب منه الخير فأولاه، وخَابَرت فلاناً كذا فَخِرتَه. والخِيَرَة الحالة التي تحصل للمتَخَيّر والمُخْتَار نحو القِعْدة والجِلْسَة لحال القاعد والجالس " ((1)) .
3. {تُكِنُّ} :
" كنت الكِنّ والكِنَّة والكِنَان: وقاء كل شيء وستره. والكِنّ البيت أيضاً والجمع أَكْنَان، وأَكِنَّه وكَنَّ الشيء يَكُنَّه كَنَّا وكُنُوناً وأَكَنَّه وكَنَّنَه ستره " ((2)) .
قال الراغب: " الكِنُّ ما يحفظ فيه الشيء يقال: كَنْنَت الشيء كِنًّا جعلته في كِنٍّ، وخصّ كَنْنت بما يُستر ببيت أو ثوب وغير ذلك من الأجسام. وأَكْنَنْت بما يستر في النفس قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ} ((3)) " ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {وَيَخْتَارُ} :
قال القرطبي: " الوقف التام على (ويختار) ((5)) . وقال علي بن سليمان: هذا الوقف التام " ((6)) .
2. {تُكِنُّ} :
وقرأ ابن محيصن بفتح التاء وضم الكاف (تكن) ((7)) .
3. {تُرْجَعُونَ} :
قرأ يعقوب بفتح التاء وإسكان الراء وكسر الجيم (تَرْجِعون) ((8))
القضايا البلاغية
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 165.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (كنن) 13/ 360.
(3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 235.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 459.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5021.
(6) صفوة التفاسير: 2/ 443.
(7) البَحْر المُحِيْط: 7/130.
(8) إتحاف فضلاء البشر: ص 343.

(2/21)


أولاً. الإدماج ((1)) في قوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ} فإن هذه الآية أدمجت فيها المبالغة في المطابقة لأن انفراده سبحانه بالحمد في الآخر، وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه مبالغة في وصف ذاته بالانفراد والحمد، وهذه وإن خرج الكلام مخرج المبالغة في الظاهر فالأمر فيها حقيقة في الباطن لأن أولى بالحمد في الدارين ورب الحمد والشكر والثناء الحسن في المحلين حقيقة وغيره من جميع خلقه إنما يحمد في الدنيا مجازاً وحقيقة حمده راجعه إلى ولي الحمد سبحانه (2) .
ثانياً. الطباق بين (تكن ـ ويعلنون) ، وبين (الأولى ـ والآخرة) وهو من المحسنات البديعة ((3)) .
المعنى العام للآيات
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}
قال ابن عاشور المعنى: إن الله يخلق من يشاء من خلقه من البشر وغيرهم، ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله، وليس يرسل من اختاروه هم " ((4)) .
وقيل: هو جواب لليهود إذ قالوا: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به. قال ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ: يخلق ما يشاء من خلقه ويختار من يشاء لنبوته.
وقال النقاش: يخلق ما يشاء من خلقه يعني محمد (- صلى الله عليه وسلم -) ويختار الأنصار لدينه ((5)) .
__________
(1) الإدماج: هو أن يتضمن الكلام معنيين: معنى مصرح به، ومعنى مشار إليه، ينظر الصناعتين: ص 423.
(2) ينظر التحرير والتنوير: 20 /168. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /366.
(3) ينظر المصدران أنفسهما.
(4) التحرير والتنوير: 20/ 164.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5021.

(2/22)


وقال ابن عطية: " ويحتمل أن يريد؛ ويختار الله تعالى الأديان والشرائع وليس لهم الخيرة في أن يميلوا إلى الأصنام في العبادة. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} " ((1)) .
قال الزمخشري: " والمعنى الخيرة لله تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجود الحكمة فيها ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. وقيل: يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح وهو أعلم بصالحهم من أنفسهم " ((2)) .
{سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قال الزمخشري: " أي: الله برئ من إشراكهم وما يحملهم عليه من الجرأة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار " ((3)) .
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}
أي " ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة، ومن عداوتهم لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ونحو ذلك {وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وما يظهرونه من الأفعال الشنيعة والطعن فيه (- صلى الله عليه وسلم -) وغير ذلك، ولعله للمبالغة في خباء باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكنون كما قيل ما يعلنون " ((4)) .
وذكر الرازي أن الثواب غير واجب عليه، بل هو سبحانه يعطيه فضلاً وإحساناً، فله الحمد في الآولى والآخرة، ويؤكد ذلك قول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} ((5)) .
أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق، فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة، وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم.
__________
(1) المحرر الوجيز: 12 /181.
(2) الكَشَّاف: 3 /188 –189.
(3) المصدر نفسه: 3 /189.
(4) روح المعاني: 20 /106.
(5) سُوْرَة فَاطِرِ: الآية 34.

(2/23)


وقيل: إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار. وأيضاً بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر.
وقال الرازي: وهذا فيه نظر لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها، وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن ذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب، أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة؟ كلا بل لا بد أن يتوبوا، وأن يشتغلوا بالشكر ومتى فعلوا ذلك بطل العقاب ((1)) .
{وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
قال ابن عاشور: " له القضاء، وهو تعيين نفع أو ضر للغير وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله تعالى: {فِي الآولَى وَالآخِرَةِ} عليه أي: له الحكم في الدارين. والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه، لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصور على الله، وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها، وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها " ((2)) .
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} قال الرازي: " إلى محل حكمه وقضائه ترجعون " ((3)) .
ما يستفاد من النصّ
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /12.
(2) التحرير والتنوير: 20 /168.
(3) مفاتيح الغيب: 13/12.

(2/24)


أولاً. دلت الآيات على الاختيار الدال على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، فلا أحد يشاركه في اختياره، ولا فيما يفضله جل وعلا، فخلق الخلق، وجعل الأفضلية من بين خلقه للإنسان على كثير ممن خلق تفضيلاً قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ((1)) . ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء ذكوراً، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِير ٌ} ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 70.
(2) سُوْرَة الشُّورَى: الآيتان 49 – 50.

(2/25)


واختار من بين عبادة رسلاً وأنبياء، واختار منهم سيدنا محمد (- صلى الله عليه وسلم -) لختم الرسل والأنبياء وجعل رسالته خاتمة الرسالات وفضله على جميع الأنبياء والرسل قال تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ((1)) . واختار من بين الأيام يوم النحر كأفضل يوم عند الله، واختار من بين الشهور شهر رمضان، واختار من أفضل الليالي ليلة القدر، واختار يوم الجمعة كأفضل يوم من أيام الأسبوع، واختار البلد الحرام من بين الأمكنة ليكون مكاناً لبيته الحرام، واختار السموات السبع، واختار العليا منها فجعلها مستقراً للمقربين من ملائكته وأسكنها من يشاء من خلقه، فلا أحد له حق الاعتراض على ما فضل، وليس من واجبه معرفة السر في التفضيل والاختيار ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 55.
(2) ينظر محاسن التأويل: 13/ 4722.

(2/26)


ثانياً. أشارت الآية إلى سنة (الاستخارة) التي علمها رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لأصحابه الكرام، قال بعض العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك، بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ((1)) ، وفي الركعة الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ((2)) ، واختار بعض المشايخ أن يقرا في الركعة الأولى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((3)) ، وفي الركعة الثانية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ((4)) ، وكلٌ حسن، ثم يدعو بهذا الدعاء بعد السلام.
وهو ما أخرجه البخاري، والترمذي، والبيهقي من حديث جابر (- رضي الله عنه -) ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الكافرون: الآية 1.
(2) سُوْرَة الإخلاص: الآية 1.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.
(4) سُوْرَة الأَحْزَابِ: الآية 36.
(5) صَحِيْح البُخَارِي: باب ما جاء في التطوع 1 /391 رقم (1109) . سنن الترمذي: 2 /345. السنن الكبرى (البيهقي) : 3/ 52.

(2/27)


قال: ((كان رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذَا هَمَّ أحَدُكُمْ بالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وأسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فإنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أعْلَمُ، وأنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لي فِي دِيني وَمَعاشِي وَعاقِبَةِ أمْرِي، أو قال: عاجلِ أمْرِي وآجِلِهِ، فاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لي، ثُم بارِكْ لي فِيهِ، وَإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذَا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي وَمعاشِي وَعاقِبَةِ أمْرِي، أو قال: عاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ، فاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ، قال: ويُسمِّي حاجَتَهُ)) .
وعن سعد بن أبي وقاص (- رضي الله عنه -) : قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((مِنْ سَعَادَةِ ابنِ آدَمَ اسْتِخَارَته الله، وَمِنْ شَقَاوَته تَرْكُهُ)) ((1)) .
__________
(1) نوادر الأصول في أحاديث الرَسُوْل. مُحَمَّد بن عَلِيّ بن الحَسَن أبو عَبْد الله الحكيم الترمذي. من علماء القرن الثالث الهجري. تحقيق: د. عَبْد الرَّحْمَن عميرة. دار الجيل. بيروت. ط1. 1992 م.: 2 /107. المسند للشاشي. الهيثم بن كليب الشاشي أبو سعيد. ت 335 هـ. تحقيق: د. محفوظ الرَّحْمَن زين الله. مَكْتَبَة العُلُوْم والحكم. المدينة المنورة. ط1. 1410 هـ.: 1 /224. مجمع الزوائد: 2 /279. وقال الحافظ الهيتمي: وفيه محمد بن أبي حميد وقال ابن عدي ضعفه بين على ما يرويه وحديثه مقارب

(2/28)


قال العلماء: ينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون حائلا إلى أمر من الأمور. فعند ذلك ما يسبق إلى قلبه يعمل عليه فإن الخير فيه أن شاء الله ((1)) .

المطلب الرابع: دلائل قدرة الله عز وجل في سورة القصص وتأكيد توبيخ المشركين على مزاعمهم
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((2)) .
المناسبة
لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله: {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الآولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه ما لا يقدر عليه سواه ((3)) ، فقال لرسوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5023. الجواهر الحسان: 4 /280.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 71 - 75.
(3) ينظر مفاتيح الغيب: 13 /12.

(2/29)


وقال البقاعي: " ولما قامت على القدرة الشاملة والعلم التام، وأنه الإله وحدوا أو ألحدوا هذه الأعلام على هذا النظام أقام دليلاً على ذلك كله بما اجتمع فيه
من العلم والحكمة وتمام القدرة منبهاً على وجوب حمده مفصلاً لبعض ما يحمد عليه " ((1)) .
وقال ابن عاشور: " بعد أن تم الاستدلال بما سبق من الآيات على انفراده بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعريض بكفر المشركين جلائل نعمه " ((2)) .
فنلاحظ الترابط والتلازم بين الآيات القرآنية، وهو وجه من وجوه الإعجاز القرآني.
تحليل الألفاظ
1. {سَرْمَدًا} :
قال ابن منظور: السَّرْمَد دوام الزمان من ليل أو نهار. قال الزجاج: السرمد الدائم ((3)) . وقال الزمخشري: " والسرمد الدائم المتصل من السرد وهو المتابعة، ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ((ثلاثة سرد وواحد فرد)) ((4)) . والميم زائدة ووزنه فعمل ((5)) .
وقال قسم من العلماء أن الميم أصلية ووزنه فعلل، لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط والآخر ((6)) .
2. {تَسْكُنُونَ} :
__________
(1) نظم الدرر: 20 /168.
(2) التحرير والتنوير: 20 /168.
(3) لِسَان العَرَب: مَادة (سرمد) 3/200.
(4) لم اقف عليه في كتب الحديث. وقد رواه المفسرون ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3 /45. تفسير القرآن العظيم: 2 /356. وينظر أيضاً شرح النووي على صحيح مسلم: 11 /168. فَتْح البَاري: 2/ 315.
(5) الكشاف: 3/ 189.
(6) ينظر إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 / 367.

(2/30)


السُّكُون ضد الحركة سَكَنَ الشيء يَسْكُن سُكُوناً، إذا ذهبت حركته وأَسْكَنه هو وسَكَّنَه غيره تَسْكِيناً، وكل ما هَدَأ فقد سَكَنَ كالريح والحر والبرد ونحو ذلك. وسَكَن الرجل سَكَت. وقال أبو العباس في قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} ((1)) ، قال: إنما الساكن من الناس والبهائم، والبهائم خاصة وقال ابن الأعرابي: معناه وله ما حل في الليل والنهار ((2)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " السكون ثبوت الشيء بعد تحرك ويستعمل في الاستيطان نحو سكن فلان مكان كذا، أي: استوطن، واسم المكان مسكن، والجمع مساكن " ((3)) .
3. {وَنَزَعْنَا} :
" نَزَع الشيء يَنْزَعُه نَزْعَاً فهو مَنْزُوع ونَزِيْع وانْتَزَعَه فانْتَزَعَك اقتلعه فاقتلع. وفرّق سيبويه بين نَزَع وانْتَزَع فقال: انْتَزَع اسْتَلَب ونَزَعَ: حوَّل الشيء عن موضعه، وإن على نحو الاستلاب نَزَع الأمير العامل من عمله أزاله " ((4)) .
وقال ابن عاشور: " النَّزْع جذب شيء من بين ما هو مختلط به، واستعير هنا لإخراج بعض من جماعة، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} ((5)) " ((6)) .
4. {شَهِيدًا} :
__________
(1) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 13.
(2) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (سكن) 13/ 211.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 242.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (نزع) 8/ 349-351.
(5) سُوْرَة مَرْيَمْ: الآية 69.
(6) التحرير التنوير: 20/ 172.

(2/31)


الشَّهيد من أسماء الله عز وجل الأمين في شهادته. وقيل: الشهيد الذي لا يغيب عن علمه شيء. وقال ابن ميسره: الشاهد العالم الذي يبين ما علمه، والجمع أشهاد وشهود وشهيد والجمع شهداء والشهادة، خبر قاطع تقول منه: شهد الرجل على كذا، وقال أبو العباس: شهد الشاهد عند الحاكم بيَّن ما يعلمه وأظهره ((1)) .
وقال الراغب: " الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة أما بالبصر وأما بالبصيرة " ((2)) .
5. {بُرْهَانَكُمْ} :
" البرهان بيان للحجة، وهو فعلان مثل الرُّجْحان والثُّنْيان، وقال بعضهم: وهو مصدر بَرَه يَبَرَه إذا أبْيَّض. ورجل أَبَرَه وامرأة بَرْهَاء، وقوم بُرْه. وبَرهَرْهَة شابة بيضاء، والبُّرْهَان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبداً لا محالة " ((3)) .
وقال ابن منظور: " البرهان بيان الحجة واتضاحها " ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {أَرَأَيْتُمْ} :
قرئت بثلاث قراءات:
أ. بتسهيل الهمزة بين بين (نافع، وأبو جعفر، والازرق، وورش) .
ب. بإبدالها ألفاً ممدودة (الازرق، وورش) .
ج‍. بحذفها وليس بحذف قياسي (الكسائي) ((5)) .
2. {بِضِيَاءٍ} :
قرا ابن كثير: (بِضَأء) بهمزتين، وقرأها كذلك قنبل. وروى ابن فليح، والبزي عن ابن كثير بغير همز، وهو الصواب ((6)) .
3. {جَعَلَ لَكُمْ} :
قرأ بالإدغام الكبير ((7)) .
القضايا البلاغية
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (شهد) 3/ 238-239.
(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 276.
(3) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 42- 43.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (بره) 13/ 476.
(5) الحجة في علل القراءات: 5 /425. الكشاف: 3/ 189. روح المعاني: 20/ 106. معجم القراءات القرآنية: 5/ 33.
(6) الحجة في علل القراءات: 5/ 425.
(7) غيث النفع: ص 317. معجم القراءات القرآنية 5/ 33

(2/32)


1. (المناسبة) ((1)) في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا} إلى قوله تعالى: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} ، فإنه سبحانه وتعالى لما أسند جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة لنفسه، وهو القادر الذي جعل الشيء لا يقدر غيره على مضادته قال: {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ، لمناسبة السماع للطرف المظلم من جهة صلاحية الليل للسماع دون الإبصار لعدم نفوذ البصر في الظلمة. ولما أسند جعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة لنفسه كأن لم يخلق فيه ليل ألبتة، قال في فاصلة هذه الآية: {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} لمناسبة ما بين النهار والإبصار ((2)) .
__________
(1) المناسبة: مرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي أو غير ذلك من أنواع علاقات التلازم الذهني من السبب والمسبب، والعلة والمعلول، وفائدته جعل أجزاء كلام بعضها آخذاً ببعض. معترك الأقران: 1 /57.
(2) ينظر الكشاف: 3/ 369. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 369.

(2/33)


2. (اللف والنشر) ((1)) في قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، قال الزمخشري: " زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة: لتسكنوا في أحدها وهو الليل، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار، ولإرادة شكركم، وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء إيذانا بأن لا شيء أجلب الغضب الله من الإشراك به، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده " ((2)) .
__________
(1) اللف والنشر: هو لف الخبرين المختلفين ثُمَّ رمي تفسيرهما جملة ثقة بأن السامع يرد إلى كلّ خيره، الكامل في اللغة والأدب، المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد النحوي، ت 285 هـ، تحقيق: مُحَمَّد أبو الفضل إبراهيم. الطبعة الرابعة. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1987 م.: 1 /112.
(2) ينظر الكشاف: 3/189. التحرير التنوير: 20/ 171.

(2/34)


3. صحة المقابلات ((1) " فقد جاء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان، وجاء السكون والحركة في عجزه وهما ضدان، ومقابلة كل طرف منه بالطرف الآخر على الترتيب، وعبر سبحانه عن الحركة بلفظ الإرداف، فاستلزم الكلام ضرباً من المحاسن زائداً على المقابلة، والذي أوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل كون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة، وابتغاء الفضل حركة للمصلحة دون المفسدة، وهي اشتراك الإعانة بالقوة وحسن الاختيار الدال على رجاحة العقل، وسلامة الحس، ويستلزم إضاءة الطرف الذي تلك الحركة المخصوصة واقفة فيه ليهتدي المتحرك إلى بلوغ المآرب ويتقي أسباب المعاطب. والآية سيقت للاعتداد بالنعم، فوجب العدول عن لفظ الحركة إلى لفظ هو ردفه وتابعه ليتم حسن البيان، فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح التي لو عدد بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها إلى ألفاظ كثيرة، فحصل بهذا الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن، ألا تراه سبحانه جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان حيث قال: (لتسكنوا)
و (لتبتغوا) بلام التعليل، فجمعت هذه الكلمات المقابلة والتعليل الإشارة والإرداف والائتلاف وحسن النسق وحسن البيان لمجيء الكلام فيها متلاحماً آخذة أعناق بعضه ببعض ثم اخبر بالخبر الصادق أن جميع ما عدد من النعم التي هي من لفظي الإشارة والإرداف بعض رحمته حيث قال بحرف التبعيض (ومن رحمته) وكل هذا في بعض آية
__________
(1) صحة المقابلات: هو عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي، فإذا أتى في صدره بأشياء قابلها في عجزه بأضدادها أو بأغيارها من المخالف أو المواقف على الترتيب بحيث يقابل الأول بالأول والثاني بالثاني ولا يحرم من ذلك شيئاً في المخالف والمواقف ومتى أخل بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة، ينظر نقد الشعر: ص 154. إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 370.

(2/35)


عدتها إحدى عشرة لفظة " ((1)) .
4. التفسير ((2)) : في قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} " من هنا للسبب، أي: وبسبب رحمته إياكم جعل لكم الليل والنهار، ثُمَّ علل جعل كل واحد منها، فبدأ بعلة الأول وهو (الليل) ، وهو (لتسكنوا فيه) ، ثم بعلة الثاني وهو (ولتبتغوا من فضله) ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو (لعلكم تشكرون) ، أي: هذه الرحمة والنعمة " ((3)) .
المعنى العام للآيات
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ}
أي (قل) يا محمد لأهل مكة (أرأيتم) اخبروني إن جعل الله عليكم الليل سرمداً بأن يسكن الشمس تحت الأرض إلى يوم القيامة، لا نهار معه، فمن إله غير الله يأتيكم بنور تطلبون فيه المعيشة، ونهار تبصرون فيه، (أفلا تسمعون) ، أي: سماع فهم وقبول، فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى ((4)) .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
قال أبو السعود: " بإسكانها في وسط السماء، أو بتحريكها على مدار فوق الأفق، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه " ((5)) .
__________
(1) ينظر إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /370 –371.
(2) التفسير: هو البيان والكشف والتصريح ضد الإبهام. أنوار الربيع: 6/123.
(3) البحر المحيط: 7/ 30.
(4) ينظر الوسيط: 3 /406. لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /439. حاشية الصاوي: 3 /225.
(5) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7/ 23. وينظر أيضاً زاد المسير: 6/ 238.

(2/36)


قال الزمخشري: " فإن قلت: هلا قيل: بنهار تتصرفون فيه كما قيل: بليل تسكنون فيه؟ قلت: ذكر الضياء ـ وهو ضوء الشمس ـ لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثم قرن بالضياء (أفلا تسمعون) ، لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل (أفلا تبصرون) لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون " ((1)) .
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
قال ابن كثير في معنى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} بكم {جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، أي: خلق هذا وهذا ((2)) .
وقال الخازن: " يتعاقبان بالظلمة والضياء و {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} ، أي الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ، أي: بالنهار " ((3)) .
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} قال البيضاوي: " لكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها " ((4)) .
وقال الخازن: " وقيل: إن من نعمة الله تعالى على الخلق أن جعل الليل والنهار يتعاقبان، لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولأجله يحصل الاجتماع، فتمكن المعاملات. ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل، فلا بد منهما " ((5)) .

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}
__________
(1) الكشاف: 3/ 189. البحر المحيط: 7/ 130.
(2) تفسير القرآن العظيم: 3/ 398.
(3) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 439.
(4) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2/ 233.
(5) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 439. الفُتُوحَات الإِلَهِية: 3/ 759.

(2/37)


" نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر يناديهم الرب على رؤوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ، أي: في دار الدنيا " ((1)) .
{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}
أي: أخرجنا من كلّ أمة رسولها الذي يشهد عليها بالتبليغ ((2)) .
{فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}
" قال مجاهد: حجتكم بما كنتم تعبدون. وقال مقاتل: حجتكم بأن معي شريكاً " ((3)) .
{فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ}
نقل الماوردي في معناها ثلاثة أوجه:
أولاً ـ العدل لله.
ثانياً ـ التوحيد لله، قاله السدي.
ثالثاً ـ الحجة لله، قاله ابن جبير ((4)) .
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
" أي: وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع من ألوهية غير الله والشفاعة لهم" (5) .
ما يستفاد من النصّ
دلت الآيات فيما دلت عليه على الإعجاز العلمي في تكوين الليل والنهار:
1. دلت الآيات على أن الله جعل ليل ونهار {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
فأشارت الآية إلى أن قسم من الناس عليهم ليل يسكنون فيه، والقسم الآخر من الكرة الأرضية المواجه للشمس عليهم نهار يبتغون فيه من فضل الله، وتدور الأرض ويصبح أهل النهار عليهم ليل يسكنون فيه بعد نهار من التعب والعمل، وأهل الليل يكون عليهم نهار للعمل والابتغاء من فضل الله بعد أن أخذوا قسطاً من الراحة استعداداً لليوم التالي، ودل على أن الأرض كروية.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 3 /398.
(2) زَاد المَسِيْر: 6 /238.
(3) النُّكَت والعُيون: 3 /236.
(4) المصدر نفسه: 3 /236.
(5) مَدَارِك التَّنْزِيل: 3/ 344.

(2/38)


2. يفهم من تقديم الليل على النهار في قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . وقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} على أن النهار انما ينسلخ من الليل كما دل على ذلك قوله تعالى {وَآيَةٌ لَّهُمْ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} ((1)) ، ولقد كشف العلم الحديث أن الليل يحيط بالأرض من كل مكان، وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض، ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد وإذا دارت الأرض سلخت حالة النهار الرقيقة التي كانت متكونة بسبب انعكاسات الأشعة القادمة من الشمس على الجزيئات الموجودة في الهواء مما يسبب النهار فيحدث بهذا الدوران سلخ النهار من الله ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة (يس) : الآية 37.
(2) ينظر شبكة الانترنيت موقع (
gogele) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، عبد المجيد الزناداني.

(2/39)


3. أطلق القرآن الكريم على ما تصدره الشمس من أشعة ضياء قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ، وأطلق على ما يصدره القمر نوراً {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا} ((1)) ، فأكثر القواميس لا تفرق بين الضوء والنور، بل يعدهما البعض مرادفين لمعنى واحد، وفي الحقيقة أن هناك فرق كبير بين اللفظيين، فكما معروف أن مصادر الضوء تقسم على نوعين: مصادر مباشرة كالشمس والنجوم، ومصادر غير مباشرة كالقمر والكواكب، فهذه الأخيرة تستمد نورها من الشمس ثم تعكسه علينا، فعلى هذا فأن الأشعة التي تأتي من مصدر ضوئي مباشر تسمى (الضوء) ، والتي تأخذ من مصدر غير مباشر بـ‍ (النور) ((2)) .
4. أشارت الآيات كذلك إلى الفوائد الكثيرة التي لا تحصى لأشعة الشمس، ومنها:
أ. يقول الدكتور (بنتلي) عميد كلية الطب بكلكتا أن الشمس تسبب زيادة سكان الممالك أو نقصها كما تسبب نمو المحصولات أو ضعفها ((3))
ب. وأجمع الأطباء على أن ضوء الشمس يجب أن يتخلل جميع حجرات المنزل حتى تقتل الحيوانات الذرية بل أن الأمر فوق ذلك، فكثير من المدارس في ألمانيا تعرض التلاميذ لأشعة الشمس بين فترة وأخرى لفوائدها الكبيرة لجسم الإنسان ((4)) .
ج‍. وإن الشمس بها يكون البخار فيصير سحاباً فمطراً فيكون النبات والحيوان.
د. أن أشعة الشمس مصدر مهم للطاقة في العصر الحديث يستخدم للإنارة، وتسيير السيارات من خلال خزن الضوء في ألواح زجاجية بلورية وتوليد الطاقة منها.
__________
(1) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 5.
(2) انظر شبكة الانترنيت موقع (
gooele) الإعجاز العلمي في القرآن.
(3) تفسير الجواهر: 13/ 58 - 64.
(4) المصدر نفسه: 13/ 64.

(2/40)


5. دل قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} .
أ. على أهمية النوم لجسم الإنسان بعد ساعات العمل التي استقر فيها جميع أعضاء الجسد والتي تحتاج إلى الراحة لتبدأ نهاراً جديداً.
ب. ونستدل من جعل الليل للسكون على أهمية العتمة والظلام للنائم.

المبحث الثالث: التوجيهات الإلهية للرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال سُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: وعد الله الرسول بالنصر ورحمة الله على مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) بإرساله بالقرآن
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((1)) .
المناسبة
قال تعالى في الآيات التي سبقت هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) .
فقال البقاعي: " ولما قرر ذكر الآخرة التي هي المرجع وكرره وأثبت الجزاء فيها، وأن العاقبة للمتقين أتبعه ما هو في بيان ذلك كالعلة فقال مستأنفاً مقرراً مؤكداً لما تقرر في أذهانهم في إنكار الآخرة وما يقتضيه حال خروجه (- صلى الله عليه وسلم -) من مكة المشرفة من استبعاد رده إليها ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 83 -84.
(3) نظم الدرر: 5/ 529.

(2/41)


فنلاحظ أن الَقُرْآن جعل البشارة بالآخرة في الآيات التي سبقت هذه الآيات للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وفي هذه الآية جعلت البشارة لهم في الدنيا بالتمكين في الأرض بعد أن نوهت إلى هذا التمكين في الآيات السابقات، بقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فيتبين بذلك الترابط بين الآيات، ودلالة بعضها على بعضها الآخر.
أسباب النزول
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}
ذكر القرطبي عن مقاتل: خرج النبي (- صلى الله عليه وسلم -) من الغار ليلاً مهاجراً إلى المدينة في غير الطريق مخافة الطلب، فلما رجع الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، فقال له جرير: إن الله يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ …} ، أي: إلى مكة ظاهراً عليها ((1)) .
وفي الخازن: " قال ابن عباس إلى مكة أخرجه البخاري ((2)) عنه " ((3)) .
وقال ابن كثير بعد أن أورد رواية ابن أبي حاتم عن الضحاك: " وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان جميع السورة مكية " ((4)) .
ونقل القرطبي رواية عن ابن عباس بقوله: نزلت هذه الآية بالحجة ((5)) ليست مكية ولا مدنية ((6)) .
والذي أراه أن هذه الآية ما دامت نزلت بالجحفة وهو (- صلى الله عليه وسلم -) متوجه إلى المدينة، وهو إليها أقرب أن تكون مدنية استناداً إلى القاعدة في المكي والمدني.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5037
(2) صَحِيْح البُخَارِي: باب إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد: 4/ 1790 رقم (4495) .
(3) لُبَاب التَأَوْيِل: 3/ 433
(4) تفسير القرآن العظيم: 3/ 403
(5) الجحفة ك موضع بين مكة والمدينة وهي ميقات أهل الشام ينظر حاشية الشيخ زاده: 3/ 524.
(6) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5037.

(2/42)


تحليل الألفاظ
1. {فَرَضَ} :
" فَرَضْت الشيء أفْرِضُه فَرْضَاً وفَرَّضُته للتكثير أوجبته " ((1)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " الفرض قطع الشيء الصلب والتأثير فيه، كفرض الحديد، وفرض الزند والقوس، والفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتباراً بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه. قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} ((2)) ، أي: أوجبنا العمل بها عليك. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} ((3)) ، أي: أوجب عليك العمل به، ومنه يقال لما ألزم الحاكم من النفقة: فرض " ((4))
2. {لَرَادُّكَ} :
" الرد صرف الشيء ورجعه، والرَّدُّ مصدر رددت الشيء. ورده عن وجهه يرده رداً ومرداً وترداداً: صرفه وهو بناء للتكثير " ((5)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " الرد صرف الشيء بذاته أو بحالة من أحواله يقال: ردتته فارتد " ((6)) .
وقال ابن عاشور: " الرد إرجاع الشيء إلى حاله أو مكانه " ((7)) .
3. {مَعَادٍ} :
المعاد المصير والمرجع. والآخرة معاد الخلق. وقوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، يعني إلى مكة عدة للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) أن يفتحها له. وقال الفراء:" {إِلَى مَعَادٍ} حين ولدت، والمعاد هنا إلى عادتك حيث ولدت وليس من العود " ((8)) .
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (فرض) 7/202.
(2) سُوْرَة النُّوْرِ: الآية 1.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 390.
(5) لِسَان العَرَب: مَادة (كثر) 3/ 172.
(6) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 197.
(7) التحرير والتنوير: 20 /192.
(8) لِسَان العَرَب: مَادة (عود) 3/ 317.

(2/43)


وقال الراغب: " العود الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه إما انصرافاً بالذات، أو بالقول والعزيمة. والمعاد يقال للعود وللزمان الذي يعود فيه، وقد يكون للمكان الذي يعود إليه " ((1)) .
القراءات القرآنية
{يُلْقَى} :
قرأ حمزة، والكسائي، وورش بالإمالة ((2)) ، وليس للإمالة ها هنا أي دلالة في توجيه المعنى.
القضايا البلاغية
قال الزمخشري: " سر التنكر ((3)) في قوله تعالى {إِلَى مَعَادٍ} قيل: المراد به مكة، ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح، ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شان، ومرجعاً له اعتداد، لغلبة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عليها وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه ((4)) .
وقال ابن عاشور: " والتنكير في (معاد) للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة وموقعها بعد قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ، أي: إلى معاد أي معاد. فتنكير (معاد) أفاد أنه عظيم الشان، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله، كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله ((5)) .
المعنى العام
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}
أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به ((6)) . وقد نقل ابن الجوزي ثلاثة أقوال في معنى قوله تعالى: {فَرَضَ عَلَيْكَ} :
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 219.
(2) معجم القراءات القرآنية: 5/ 35.
(3) التنكر: هو نقيض المعرفة وخلافها، وما دلّ على شيء لا يعينه. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعُلُوْم حقائق الإعجاز. تَأَلِيْف يحيى بن حمزة بن عَلِيّ العلوي اليمني (669 – 749) هـ. انتشارات طهران. 1385 ش. ق.: 2 /11.
(4) الكشاف: 3/ 193-194. التحرير والتنوير: 20/ 192.
(5) التحرير والتنوير: 20/ 192.
(6) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /28.

(2/44)


أحدهما ـ فرض عليك العمل بالقرآن، قاله عطاء بن أبي رياح، وابن قتيبة.
الثاني ـ أعطاك القرآن، قاله مجاهد.
الثالث ـ أنزل عليك القرآن، قاله مقاتل، والفراء ((1)) .
{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}
نقل الماوردي فيها خمسة أوجه:
أحدهما ـ إلى مكة، قاله مجاهد، والضحاك، وابن جبير، والسدي.
الثاني ـ إلى بيت المقدس، قاله نعيم القارئ.
الثالث ـ إلى الموت، قاله ابن عباس، وعكرمة.
الرابع ـ إلى يوم القيامة، قاله الحسن.
الخامس ـ إلى الجنة، قاله أبو سعيد الخدري ((2)) .
وقال الشيخ زاده: إن (معاد) هاهنا بمعنى المصير والمنقلب، لا بمعنى المتبادر منه وهو المكان الذي يكون المرء مدة فيه، ثُمَّ يرجع إليه بعد أن فرق عنه، لأنه (- صلى الله عليه وسلم -) لم يكن في ذلك المقام مدة حتَّى يعود إليه ((3)) .
والذي أراه هاهنا أن المقصود بالمعاد (مكة المكرمة) لأن سياق الآية، وما ورد في ذلك من الآراء يعضد الرأي القائل بذلك.
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}
قال الرازي: " ووجه تعلقه بما قبله أن الله تعالى لما وعد رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) الرد إلى معاد قال: {قُلْ} للمشركين {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} يعني: نفسه وما يستحقه من الثواب في المعاد والاعتزاز بالإعادة إلى مكة {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} يعنيهم وما يستحقون من العقاب في معادهم ((4)) .
ما يستفاد من النصّ
أولاً. دلت الآية على معجزة من معجزات الَقُرْآن، وهي إخباره عن الغيب باعتبار ما سيكون. وهي البشرى بدخول مكة، وذلك في وقت كان يتم فيه استضعاف المسلمين.
__________
(1) زَاد المَسِيْر: 6 /250.
(2) النُّكَت والعُيون: 3 /241.
(3) حاشية الشيخ زاده: 3 /524.
(4) مفاتيح الغيب: 13 /23.

(2/45)


ثانياً. يمكن أن نستدل من هذه الآية على أن النصر هو للإسلام وللقرآن، مهما كثر أعداؤهما وأنها أحد المبشرات بانتصار الإسلام والمسلمين، فالذي أنزل القرآن ونصر الإسلام والمسلمين في الجيل الأول سينصر دينه وجنده على أعداءه في كلّ زمان ومكان.
ولكن النصر مشروط باتباع الهدى {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ} ((1)) .
المطلب الثاني: عدم جواز مظاهرة الكافرين
{وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((2)) .
المناسبة
بعد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} ، وما عطف عليها وما تخلل بينها مما اقتضى جميعه الوعد بنصره وظهور أمره وفوزه في الدنيا والآخرة، وأنه جاء من الله إلى قوم في ضلال مبين، وأن الذي رحمه فأتاه الكتاب على غير ترقب منه لا يجعل أمره سدى، فأعقب ذلك بتحذيره من أذى مظاهرة المشركين " ((3)) .
تحليل الألفاظ
{ظَهِيرًا} :
" استظهر به أي استعان، وظهرت عليه أعنته، وظهر عليّ أعانني وكلاهما عن ثعلب. وتظاهر فلان فلاناً عاونه، والمظاهرة المعاونة، والظهير العون الواحد والجمع في ذلك، وإنما يجمع ظهير لأن فعيلاً وفعولاً قد يستوي فيه المذكر والجمع " ((4)) .
القراءات القرآنية
1. {فَلاَ تَكُونَنَّ} :
قرأ ابن مسعود (فلا تجعلنَّ) ((5)) .
2. {لِلْكَافِرِينَ} :
قرأ كلّ من أبي عمرو، وورش بالإمالة ((6)) .
القضايا البلاغية
__________
(1) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(3) التحرير والتنوير: 20 /195.
(4) لِسَان العَرَب: مَادة (ظهر) 4/ 252.
(5) مختصر شواذ القراءات: ص 113.
(6) غيث النفع: ص 318.

(2/46)


قال الشيخ زاده: " {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} في معنى من يلقي إليك، عبر عنه بقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا} للمبالغة فإن نفي رجاء الإلقاء أبلغ من نفي الإلقاء، فكأنه قيل: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة، أي: في حال كونه رحمة، أو إلا لأجل رحمة، فيكون الاستثناء متصلاً مفرغاً، ويكون المستثنى منه أعم الأحوال أو العلل، ولا يجوز أن يكون الاستثناء باعتبار اللفظ لأنه إذا قيل: ما كنت ترجوه إلا رحمة، لزم أن يكون ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ راجياً أن يلقى إليه الكتاب لأجل الرحمة، وظاهر أنه ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ لم يكن راجياً له أصلاً " ((1)) .
قوله تعالى: {يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} فيه استعارة، وذلك أن معنى إلقاء الكتاب وحيه به إليه، أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة ((2))
{فَلاَ تَكُونَنَّ} قال ابن عاشور: " فإن فعل الكون لما وقع في سياق النهي، وكان سياق النهي مثل سياق النفي، لأن النهي أخو النفي في سائر تصاريف الكلام، كان وقوع فعل الكون في سياقه مفيداً في تعميم النهي عن كلّ كون من أكوان المظاهرة للمشركين ((3)) .
المعنى العام
{وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}
قال أبو حيان: " هذا تذكير لنعمه تعالى على رسوله، وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه. وقيل: بل هو متعلق بقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} وأنت بحال من لا يرجو ذلك ((4)) .
{فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ}
__________
(1) حاشية الشيخ زاده: 3/ 524.
(2) التحرير والتنوير: 20 /194.
(3) التحرير والتنوير: 20 / 195.
(4) البَحْر المُحِيْط: 7 / 136.

(2/47)


قال القرطبي: " أي عوناً ومساعدة " ((1)) .
وقال ابن عاشور: " تعميم النهي عن كون كلّ من أكوان المظاهرة للمشركين، والمظاهرة المعاونة، وهي مراتب أعلاها النصرة، وأدناها المصافحة والتسامح، لأن في المصافحة على المرغوب إعانة لراغبه " ((2)) .
ما يستفاد من النصّ
هناك معانٍ جليلة يمكن أن نستنبطها من هذه الآية، لأهميتها القصوى في هذه المرحلة الحرجة والمعقدة من حياة المسلمين، فبعد أن ابتعد المسلمون عن منهج الله وتفرقوا، تكالب الأعداء عليهم، واستلبوا حقوقهم و‘إرادتهم، نصَّبوا على كثير من البلاد الإسلامية ولاة أذناباً للأجنبي وللكافرين، فحرفوا منهج الله فقادوا شعوبهم إلى الذل والتخاذل، فأجبروا شعوبهم على تقديم المعاونة لأعداء الله، بل وحتى القتال معهم جنباً إلى جنب، فكلنا يذكر أن قسماً من الدول العربية والإسلامية قاتلت مع أمريكا في حربها الظالمة ضد العراق بفتوى باطلة أصدرها بعض علماء السلاطين.
وفي أفغانستان ذلك البلد المسلم الفقير بكل شيء إلا من إيمانهم بالله جل وعلا قام قسم من ولاة المسلمين بفتح قواعده للطائرات الأمريكية الغازية للتزود بالوقود ولضرب الشعب الأفغاني المسلم، وقسم اخر قام بمعاونة الأعداء سراً عن طريق تزويده بالمعلومات الاستخبارية عن المجاهدين الأفغان.
سنجعل من قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} منطلقاً للإجابة عن سؤال في غاية الأهمية، هو: ما الحكم الشرعي فيمن يعين دولة أجنبية على دولة إسلامية بما يكون سبباً في سفك دماء المسلمين أو إتلاف ديارهم وأموالهم؟
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5037.
(2) التحرير والتنوير: 20/ 195.

(2/48)


إن ظاهر سياق الآية الكريمة {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} جاءت في سياق التوجيهات الإلهية للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) والمقصود بها أمته (- صلى الله عليه وسلم -) لأنه حاشا لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أن يظاهر الكافرين.
إن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أولياء بعضهم للبعض الأخر، وحذر كلّ التحذير من موالاة أعداء الإسلام، وجعل الولاء والبراء شرط في الإيمان كما قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} ((1))
وعدَّ الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) ((2)) وهذا من دليل الكمال في آفاق النص القرآني بمعناه العام والخاص.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 80 –81.
(2) مسند الإمام أحمد: 4 /286. مجمع الزوائد: 1 /89 وقال الهيتمي: رواه أحمد، وفيه ليث بن أبي سليم ضعفه الأكثر.
(3) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 51.

(2/49)


فمن حارب الإسلام خفيةً أو ظاهراً منفرداً أو مع جماعة فهو عدو المسلمين، وكل من أعانه من المسلمين فهو مرتد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ((1)) ، فقد نفى الله جل وعلا الإيمان نفياً مطلقاً عن الذين يوادون من حاد الله ورسوله. وقال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} ((2)) .
فالآية تكشف عن تلك النوايا الخبيثة وتحارب الجرائم التي تنال من جسم الأمة وتفتك بقوتها والولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم ونصرتهم والنصح لهم والدعاء لهم والسلام عليهم وزيارة مريضهم وتشييع ميتهم وإعانتهم والرحمة بهم.
والبراءة من الكفار تكون ببغضهم ديناً، ومفارقتهم وعدم الركون إليهم والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً، ولما كانت موالاة الكفار تقع على شُعب متفاوتة وصور مختلفة، لذا فإن الحكم فيها ليس حكماً واحداً، فإن من هذه الشُّعب والصور ما يوجب الردة ونقض الإيمان بالله، ومنها ما هو دون ذلك من المعاصي ((3)) .
الإجماع، أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تحريم معاونة الكافرين بأي شكل من أشكال المعاونة للأدلة التي سقناها فيما مضى:
__________
(1) سُوْرَة المُجَادَلَةِ: الآية 22.
(2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 28.
(3) رسالة الولاء والبراء. عبد العزيز القحطاني. الطبعة الأولى. دار الدعوة للنشر والتوزيع. 1998 م.: ص 3 – 7.

(2/50)


فقد انعقدت ندوة لواء الإسلام ((1)) بدار لواء الإسلام في مساء الثلاثاء 16 من جمادى الأولى 1376 هجرية الموافق 18 من ديسمبر 1956 م بحضور مجموعة كبرى من علماء الأزهر، وهم كلّ من: أحمد حمزة، صبري عابدين، أمين عز العرب، عبد العزيز عامر، سليمان العقاد، مصطفى زيد، سليم أبو العز، مرسي عَبْد الله الصديق العماري، مُحَمَّد سيد جاد الحق، فهمي خالد مسعود، مُحَمَّد سابق، مُحَمَّد البنا، مُحَمَّد أبو زهرة مُحَمَّد توفيق عربة، مُحَمَّد علي شتا. وبدأت الندوة بمناقشة (الحكم الشرعي فيمن يعين دولة أجنبية على دولة مسلمة) فأجمعوا على تحريم أية معاونة للكافرين على المسلمين باعتبار من فعل ذلك تجري عليه أحكام المرتدين.
وقد أجمع ((2)) علماء العراق المجتمعون في مقر منظمة المؤتمر الإسلامي الشعبي ببغداد في صبيحة الثلاثاء الموافق 29 رجب 1422 هجرية الموافق 16 تشرين الثاني 2001 م، وحضره كبار علماء العراق؛ على أنه لا يجوز شرعاً وبإجماع الأمة أن يكون المسلمون عوناً للكافرين تحت أية ذريعة وعلى وفق أي شعار، فلا يجوز لأي مسلم أو مؤسسة تسهيل مهمة العدوان للطاغوت الأمريكي الصهيوني على أمتنا العربية الإسلامية وعلى أية دولة من دولها أو فرد من أفرادها سواء ذلك بالتسهيلات العسكرية أو المعلومات أو فتح القواعد العسكرية أو الأجواء أو الممرات البحرية أو تقديم عون وجهد للعدوان وإن من فعل ذلك يعد خائناً ويعد ناقضاً من نواقض الإيمان العشرة، وإن جهاد الكفار ومقاومة العدوان الأمريكي الصهيوني وتحالفه الصميمي فرض على كلّ مسلم وبالأدوات والوسائل كافة، وجهاده دين وشريعة، وهذا ما قالته نصوص الشريعة وأدلتها، والتي منها:
__________
(1) جريدة ندوة لواء الإسلام: ص 619 –623.
(2) جريدة الرأي عدد 130.

(2/51)


أولاً ـ قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ((1)) .
ثانياً ـ ويثبت الَقُرْآن الكَرِيم أنه لا ولاية للكافر على المسلم {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} ((2)) .
ثالثاً ـ كما يثبت الَقُرْآن الكَرِيم أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ((3)) .
رابعاً ـ وقال (- صلى الله عليه وسلم -) : ((المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم، أدناهم يد على من سواهم)) ((4)) .
المطلب الثالث: الدعوة إلى وحدانية الله وعدم الإشراك به شيئاً
{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((5)) .
المناسبة
__________
(1) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 92.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 141.
(3) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 71.
(4) سنن ابن ماجه: 2 /895. المستدرك على الصحيحين: 2 /153 ولم يعلق الحاكم عليه. مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه. أحمد بن أَبِي بكر بن إسماعيل الكناني. (762 ـ 840) . تحقيق: مُحَمَّد المنتقى الكشناوي. دار العربية. بيروت. ط2. 1403 هـ.: 3 /134 وقال: إسناده ضعيف لضعف حنش واسمه حسين بن قيس. وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب (- رضي الله عنه -) .
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 87 - 88.

(2/52)


بعد أن ذكَّر الله جَلَّ وَعَلا رسوله الكريم (- صلى الله عليه وسلم -) بنعمه عليه بقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أمره الله بخمسة أشياء:
أولاً ـ {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} .
ثانياً ـ {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} .
ثالثاً ـ {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} .
رابعاً ـ {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} .
خامساً ـ {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
قال البقاعي: " ولما كان التواني في النهي عن المنكر إعراضاً عن الأوامر، وإن كان المتواني مجتهداً في العمل قال مؤكداً تنبيهاً على شدة الأمر لكثرة الأعداء وتتابع الإيذاء والاعتداء (ولا يصدنك) ، أي: الكفار بمبالغتهم في الإعراض " ((1)) .
أسباب النزول
نقل السيوطي في الدَّرُّ المَنْثُوْرُ عن ابن المنذر عن ابن جريج (- رضي الله عنه -) قال: لما نزلت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ((2)) قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فلما نزلت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ((3)) قالت الملائكة: هلك كل نفس، فلما نزلت:
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((4)) قالت الملائكة: هلك أهل السماء وأهل الأرض.
__________
(1) نظم الدرر: 5/ 531.
(2) سُوْرَة الرَّحْمَنِ: الآية 26.
(3) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 18.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

(2/53)


وذكر السيوطي والآلوسي عن ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} قال: لما نزلت قيل: يا رسول الله فما بال الملائكة؟ فنزلت:
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم الله وبريته من الطير والوحش والسباع والأنعام، وكل ذي روح أنه هالك ميت ((1)) .
تحليل الألفاظ
1. {يَصُدُّنَّكَ} :
الصَّدُّ: الإِعْراضُ والصُّدُوف. صَدَّ عنه يَصِدُّ ويَصُدُّ صَدّاً وصُدُوداً: أَعرض. ورجل صادٌّ من قوم صُدُّادٍ، وامرأَة صادَّةٌ من نِسوة صَوادَّ وصُدادٍ أَيضاً. ويقال: صدّه عن الأَمر يَصُدُّه صَدّاً منعه وصرفه عنه ((2)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " الصدود والصد قد يكون انصرافاً عن الشيء وامتناعاً، نحو: {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} ((3)) ، وقد يكون صرفاً ومنعاً نحو:
{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} ((4)) " ((5))
2. {هَالِكٌ} :
الهَلْكُ: الهلاك. قال أَبو عبيد: يقال الهَلْك والهُلْكُ؛ هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً وهَلْكاً وهَلاكاً: مات. وقال أبو بكر: قد يجوز أن يكون ماضي يهلك هلك، كعطب فاستغنى عنه، يهلك وبقيت يهلك دليلاً عليها ((6)) .
وقال الراغب الأصفهاني: " الهلاك على أربعة أوجه:
افتقاد الشيء عنك، وهو عند غيرك موجود كقوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} ((7)) .
__________
(1) الدَّرُّ المَنْثُوْرُ: 6 /447. روح المعاني: 20 /131.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (صدد) 3 /245.
(3) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 61.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(5) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 283.
(6) لِسَان العَرَب: مَادة (هلك) 10 /503 –504.
(7) سُوْرَة الحَاقَّة: الآية 29.

(2/54)


وهلاك الشيء باستحالة وفساد كقوله: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} ((1)) . ويقال: هلك الطعام.
والثالث: الموت كقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} ((2)) .
والرابع: بطلان الشيء من العالم وعدمه رأساً، وذلك المسمى فناء المشار إليه بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((3)) " ((4)) .

القراءات
1. {يَصُدُّنَّكَ} :
قرأ يعقوب (يَصُدَّنْكَ) مجزوم النون. وقرئت (يُصِدَّنَّك) من أصده بمعنى صده وهي لغة في كلب ((5)) .
2. {تُرْجَعُونَ} :
قرأ يعقوب، وعيسى: (تَرْجِعون) بفتح التاء وإسكان الراء وكسر الجيم ((6)) .
القضايا البلاغية
الاستعارة في قال تعالى: {يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} إلقاء الكتاب وحيه إليه، أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة ((7)) .
الاستعارة: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} الرجوع مستعمل في معنى أخر الكون على وجه الاستعارة، لأن حقيقة الانصراف إلى مكان قد فارقه فاستعمل في مصير الخلق، وهو البعث بعد الموت، شبه برجوع صاحب المنزل إلى منزله ووجه الشبه الاستقرار والخلود ((8)) .
المجاز المرسل في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} أي: إلا إياه من ذكر بعض الكلام وإرادة الكل، وقد جرت عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة ((9)) .

المعنى العام
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 205.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 176.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(4) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 542.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5038. البَحْر المُحِيْط: 7/ 137.
(6) البَحْر المُحِيْط: 7 /137.
(7) المحرر الوجيز: 12 /197.
(8) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5 /369.
(9) المصدر نفسه: 5 /396.

(2/55)


{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ}
قال القرطبي: " يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوهم وامض لأمرك وشأنك.
وقال الضحاك: وذلك حين دعوه إلى دين آبائه، أي: لا تلتفت إلى هؤلاء ولا تركن إلى قولهم فيصدونك عن اتباع آيات الله " ((1)) .
{وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ}
قال ابن عاشور: " هذا النهي موجه إلى النبي (- صلى الله عليه وسلم -) في الظاهر والمقصود به إبطال الشرك وإظهار ضلال أهله إذ يزعمون أنهم معترفون بألوهية الله تعَاَلىَ، وأنهم إنما اتخذوا له شركاء وشفعاء، فبين أن الله لا إله غيره، وأن انفراده بالألوهية في نفس الأمر يقضي بطلان الإشراك في الاعتقاد ولو أضعف إشراك" (2) .
{وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}
قال أبو السعود ـ رَحِمَه الله ـ: " هذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشريّة بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدروه عنه أصلاً " ((3)) .
{لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ}
قال الطبري: " لا معبود تصلح له العبادة إلا الله الذي كلّ شيء هالك إلا وجهه " ((4)) .
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ}
قال البيضاوي: " فإن ما عداه ممكن هالك في ذاته معدوم " ((5)) .
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5038.
(2) التحرير والتنوير: 20 /197.
(3) إرْشَاد العَقل السَّلِيم: 7 /28.
(4) جامع البيان: 10 /119.
(5) أَنْوَارُ التَّنْزِيْل: 2 /225.

(2/56)


وقال الشيخ زاده في تفسير قول البيضاوي: " فإن الممكن لما استفاد الوجود من الخارج كان الوجود له كالثوب المستعار بالنسبة إلى الفقر، فكما لا يخرج الفقير باستعارة ذلك الثوب من الغني عن كونه فقيراً في حد ذاته، فكذا الممكنات لا تخرجن عن كونها هالكة عارية عن الوجود في حد نفسها، فظهر بهذا أن كلّ ما سواه من الممكنات هالك في الحال " ((1)) .
وهذه الآية من متشابه الَقُرْآن الكَرِيم وهي من الآيات التي وقف عندها المفسرون.
{لَهُ الْحُكْمُ}
أي " القضاء النافذ في خلقه، وقيل: الفصل بين الخلائق في الآخرة دون غيره " ((2)) .
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
" أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم " ((3)) .
ما يستفاد من النصّ
وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} صحيح أن هذه الآيات في ظاهرها موجه للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لكنها تشمل كل من يتصدى للدعوة، لأن وظيفة الرسل والأنبياء هي وظيفة الدعاة تبليغ الدعوة وإرشاد الناس إلى طريق الهداية، وعلى هذا فأن المطلوب من الدعاة القيام بواجب تبليغ الدعوة إلى الناس على أحسن ما يكون التبليغ وليس عليهم مسؤولية رفض الناس لدعوتهم كما ليس عليهم إجبارهم. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} ((4)) .
__________
(1) حاشية الشيخ زاده: 3 /524.
(2) مجمع البيان: 7 /270.
(3) لُبَاب التَأَوْيِل: 3 /444.
(4) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 108.

(2/57)


ضرورة الصبر للدعاة، فالصبر من أهم عوامل نجاح الدعاة في مهماتهم لأنهم يواجهون الناس بدعوتهم التي تخالف أهواءهم وانحرافهم وغالباً ما يقابلونها بالرفض والإنكار وإيذاء الدعاة، ولهذا أمر الله رسوله الكريم (- صلى الله عليه وسلم -) بالصبر على عناد وأذى المشركين وتكذيبهم له وإصرارهم على الشرك وطعنهم بالقرآن وبث الشبهات الباطلة في طريق الدعوة، وأمره الله جل وعلا في سورة القصص إلى عدم الالتفات إلى هذه الشبه بقوله تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صبره مستجيباً لأمر الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ((1)) .
أكد في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} على مبدأ الولاء والبراء عند الدعاة والذي سبق أن بينه في قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} . " فالولاء هو الإسلام وأهله، والبراء من الشرك وأهله، وهكذا يكون الولاء والبراء عند الدعاة إلى الله، فولاءهم للإسلام ومعانيه ولمن يؤمن به ويدعو إليه، والبراء من كل شيء يخالف الإسلام قولاً وعملاً واعتقاداً وأشخاصاً يحملون هذه المخالفات " ((2)) .
على الدعاة واجب أساسي وهو الدعوة إلى التوحيد الخالص لله جلا وعلا وحده لا شريك له والدعوة إلى تحكيم شرع الله في الأرض. وأن لا تشغله الدنيا بما فيها من زخارف وشهوات وملذات عن هذا الهدف السامي لأن المال والجاه والمنصب يفنى ولا يبقى إلا ما كان خالصاً لله جل وعلا. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
__________
(1) سُوْرَة الأَحْقَافِ: الآية 37.
(2) المستفاد من قصص القرآن: 2 /78.

(2/58)


المطلب الرابع: شخصية الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال سورة القصص
لا بد لنا أن نفهم أن لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) صورة مصورة في سورة القصص كانت ذات دلالات متعددة في مبناها ومعناها من خلال تصويرها الإلهي له (- صلى الله عليه وسلم -) وللمؤمنين الذين سيقرأون القرآن الكريم وقد كان تحليلنا في هذا المطلب لهذه الصورة منصباً على إدراك التفصيلات القرآنية (الكلية والجزئية) لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال مواطن ذكره في سورة القصص، ونحن واجدون في سورة القصص إلحاحاً على تأسية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما جرى لرسل الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من قبله وخصوصاً نبي الله موسى (- عليه السلام -) الذي كانت السورة كلها تقريباً مخصصة له (- عليه السلام -) . وهذا ما نلاحظه في مثل قوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ} ، فإن دلالتها الخاصة والعامة كانت على أن إخبار رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما جرى في آيات الكتاب المبين إنما هو لحكمة إلهية وسر رباني.

(2/59)


ثم إن تسلية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) جاءت بمعنى متجدد شمولي {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} فتوالي الأفعال (نمن، نجعلهم، نجعلهم) وإسنادها إلى الله سبحانه وتعالى مشعر بأن الخطاب موجه لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) الذي كان يوم أنزلت عليه هذه السورة مستضعفاً في الأرض مع أصحابه ـ عليهم الرضا والرضوان ـ فهو جانب يصور لنا جانباً من شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في سورة القصص، وجانباً آخر هو ما نلاحظه في قوله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فهذه الآية هي حديث إخبار عن رد موسى (- عليه السلام -) إلى أمه ونجد جوانباً من تشبيه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بموسى في خروج رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إلى المدينة المنورة مهاجراً {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1)) ، وهذا من بديع البلاغة القرآنية في تصوير الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بأجمل وأكمل الأوصاف.
ونجد وحدة الرسالة في قوله تعالى مخاطباً موسى (والخطاب لمحمد) ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وهو قوله عزَّ وجلَّ فيها {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) ، وهذا يرد على اليهود الذين فرقوا بين الرسل وجعلوا إلههم مختلفاً عن إله العالمين إذ جعلوا أنفسهم شعبه المختار.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.

(2/60)


ونرى تشابهاً في شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في سورة القصص بينه وبين موسى - عليه السلام - في كونها رميا جميعاً بالسحر {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} ((1)) ،
{سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} ((2)) وهو عين ما رمت به قريش رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) .
ونلاحظ أن ما فعله الله عزَّ وجلَّ بفرعون في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) هو عين ما جازى الله به كفار قريش يوم بدر إذ ألقاهم في يم الصحراء مع جنودهم، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ((4)) ، وهذا من عجيب الاتفاق الإلهي والله تعالى يخاطب رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) بلفظ الأمر {فَانظُرْ} للدلالة العامة في لفظ الأمر.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(4) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 123.

(2/61)


وتبدو لنا شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في سورة القصص واضحة كل الوضوح في قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ((1)) ، {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَن} ((2)) ، لأن ذلك الإخبار الإلهي يدل على صدق رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في كل ما أخبر به عن موسى (- عليه السلام -) في سورة القصص مما لم يكن موجوداً عنده وقومه ولا يعلمه في زمنه (- صلى الله عليه وسلم -) إلا اليهود من أهل الكتاب الأول. ويصدق ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ((3)) ، أما قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((4)) ، فهو دال على أن رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) إنما كانت عامة عالمية بعد أن ينذر قومه الذين لم يأتيهم نذير ولا رسول لعلهم يتذكرون، فقال الله عزَّ وجلَّ في إرساله رسوله مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) كما أرسل موسى يوم الطور الذي لم يكن رسول الله
(- صلى الله عليه وسلم -) بالطبع موجوداً يومه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.

(2/62)


ثم ذكر الله عزَّ وجلَّ جانباً من منته على قريش قوم رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بقوله عز من قائل: {وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاَ فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ((1)) ، وهذه الآية موضحة لعموم السنة الإلهية وفضل الوجود النبوي في قومه، وأما قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ((2)) وهذا من بليغ كفر قريش، ثم بين الله أن مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) جاء بالحق من عنده جل جلاله، وواسى الله عزَّ وجلَّ رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} ((3)) ، وفي هذا الخطاب الرقيق الحكيم كل الدلالة على صدق رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في دعوته وفي رغبته بإيمان عامة قومه وعامة العالم لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} ((4)) ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 47.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(4) سُوْرَة سَبَأ: الآية 28.
(5) سُوْرَة الأنْبِيَاءِ: الآية 107.

(2/63)


وتتضح بعض جوانب شخصيته رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بقوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((1)) ، وفي ذلك بيان كافٍ شافٍ في أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) كان يتمنى هداية بعض من يحبهم فبين الله عزَّ وجلَّ له أن الهداية بيده وحدة تعالى. ونجد كذلك شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في إخباره تعالى له بكلام قومه من كفار قريش له في قولهم: {إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ((2)) وهذا من استهزائهم برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) الذي لا ريب أنه كان يؤذيه لإصرارهم من خلاله على كفرهم وينسب الله عزَّ وجلَّ نفسه لرسول الله
(- صلى الله عليه وسلم -) تكريماً فيقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ} ((3)) . وهذه إضافة تعظيم وتفخيم تشعر بقدر رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ومقداره وقد تكررت هذه الإضافة في مواطن أخرى في سورة القصص.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.

(2/64)


ونرى كذلك أن قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} (1) يتضمن خطاب إلهي مبين لحال الكفار في سرهم ونجواهم وفي ظاهرهم وباطنهم وفي أذاهم لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) أمامه ومن ورائه أما الأوامر الإلهية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} ((2)) فهي تنبيه على لسان الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) للكافرين بأنهم إنما ينعمون بفضل الله عزَّ وجلَّ وإخبار الله عزَّ وجلَّ لنبيه مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) بقصة قارون فيه أسرار وحكم إلهية منها:
إن حال أغنياء الكافرين من قريش كحال قارون.
إن المال سلطة زائلة وليس قوة دائمة.
إن قلة الصحابة الفقراء رضوان الله عليهم فيهم البركة.
إن الاغترار لا يجر إلا إلى الندم.
سرعة انقلاب الناس عن تولي زمانه.
الصبر على الفقر في الدنيا نجاح وظفر في الآخرة.
وأسرار أخرى تتضح بقراءة الآيات الخاصة بقارون مما كان فيه مفهوم النص الموجه لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) .
ونلاحظ كذلك أن الله عزَّ وجلَّ بشر رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) في وقت ضعفه بقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((3)) ، فجعل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في أمن وأمان في الدنيا وفي الآخرة، أما قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) ، فهو قول فيه جماع شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) يستنبط منه:
عظمة شخصية المصطفى (- صلى الله عليه وسلم -) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 69.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

(2/65)


وثوق النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بربه.
عظمة الدار الآخرة في الرجوع إليها.
إسناد كل شيء لله سبحانه وتعالى.
صحة إنزال القرآن الكريم.
أهمية الرجوع لله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
انتصار الإسلام.
العودة للأرض التي أخرج منها رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) .
إن الهدى والضلال علمها عند الله سبحانه وتعالى.
وبذلك تتضح مقومات شخصية رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وكذلك الأمر في قوله تعالى مخاطباً رسوله (- صلى الله عليه وسلم -) : {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ} ((1)) ، فهي آية دالة على أن الله يصطفي من رسله من يشاء عن غير استعداد نفسي منهم كما يقول بعض الفلاسفة والعقلانيين والملاحدة الذين جعلوا الرسالة اصطفاء عقلياً فبان بذلك فضل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) .
وكذلك قوله تعالى لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) آمراً فإن المأمور من الله تعالى مستلزم لشرفه وفضله (تَكُونَنَّ) (لا يصدنك) (ادع) (لا تدع) فكلها أشرف خطاب لأشرف الرسل عليهم وعليه أفضل الصلاة والسلام.
وبذلك كله يمكن أن تصور رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على ما أسلفنا.

المطلب الخامس: المناسبة بين رسالة الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ورسالة سيدنا موسى (- عليه السلام -) كما جاءت في سُوْرَة الْقَصَصِ
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

(2/66)


لقد جاءت سورة القصص في فترة نزولها المكية لتؤكد جانباً مهماً من الجوانب الإيمانية التي نبه عليها المفسرون القدماء منهم والمحدثون ألا وهو جانب المناسبة، بمعنى (التناسب الإيماني) بين الرسالة المحمدية وبين الرسالة الموسوية، ولعل مما يوضح ذلك قول رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((لو كان موسى حياً ما وسعه إلا إتباعي)) ((1)) .
لذلك اشتدت عناية بعض حاقدي اليهود ومبشري النصارى بتحليل سورة القصص لإثبات كونها مأخوذة من سفر الخروج وسفر تثنية الاشتراع ((2)) .
وقد لاحظنا من خلال تحليلنا لسورة القصص أنها تشكل رابطاً خفياً لا يكاد ينتبه إليه أحد في العلاقة بين رسالة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ورسالة موسى (- عليه السلام -) . وهو اتحاد القضيتين في المبنى والمعنى والدلالة.
ويكفي في إثبات ذلك أن المناسبة هاهنا تكمن في وجود روابط خفية في السورة بين أولها وآخرها تدلّ على ذلك، وأن هيمنة الرواية القرآنية على المرويات الإسرائيلية (المنحولة) أمر قد غدا في حكم المسلمات العلمية التي تثبت بالبراهين والأدلة ((3)) .
__________
(1) مُصَنَّف ابن أبي شَيْبَة: 5 /312 من حديث جابر بن عَبْد الله والحديث حسن الإسناد.
(2) ينظر الَقُرْآن والكتاب: 1 /122 و 2/ 142 و 3/225. وفيه يذكر كون سُوْرَة الْقَصَصِ مأخوذة من سفر الخروج مع إعادة صياغة (إسلامية) .
(3) ينظر الإنجيل والصليب. عبد الأحد داود. الطبعة الثانية. قطر. الدار الإسلامية. 1405 هـ.: ص 57. الفارق بين الخالق والمخلوق. عَبْد الرَّحْمَن الباججي. الطبعة الأولى. بولاق. مصر. 1305 هـ: ص 145- 147.

(2/67)


وذلك أن الرواية التاريخية في أفاق النص القرآني تعتمد إضافة إلى قدسية مصدرها على الاستعداد الذاتي لقبولها بعد أن تشوهت كل الروايات التاريخية للقصص نفسها في العهد القديم وفي التلموذ (بنسختيه الأورشليمية والبابلية) وفي العهد الجديد بأناجيله الأربعة والرسائل التي تتلوها ((1)) .
وهذا ما توصلت له أحدث الدراسات الجديدة للمؤرخين اليهود والنصارى وفق أحدث المكتشفات الأثرية في فلسطين وفي أرض الجزيرة العربية في مطلع القرن العشرين الميلادي على أيدي الرحالة والمستكشفين.
وفي ذلك يذكر الدكتور رون سنوبي: " إن المقارنة بين ما ورد في أسفار التوراة (العهد القديم) وما ورد في بعض آيات وسور كتاب المسلمين المقدس ترينا أن النص الإسلامي أبتعد ابتعاداً كلياً عن التعتيم التاريخي اليهودي على حقائق حيوات أنبياء بني إسرائيل أو ما يسمى في الأدب اليهودي ـ المسيحي الأباء الأوائل (البطاركة الأول) ، وهكذا فإن قصة موسى على سبيل المثال ـ وهو كما لا يخفى أساس الوجود اليهودي ـ صيغت في أسفار العهد القديم وبخاصة سفر الخروج صياغة توحي ببدائيتها وبأنها أجترحت لموسى أفكاراً لم تكن له، أما كتاب المسلمين المقدس فأنه يصور (موسى) على أنه نبي واجب الاعتراف له بالنبوة ويصفه بأجمل وأحلى وأحسن الصفات " ((2)) .
وقد تنبه لذلك كله قوم آخرون من كبار الباحثين حتَّى وإن كانت توجهاتهم علمانية ـ لا دينية ((3)) .
__________
(1) ينظر الديانة اليهودية. إسرائيل شاماك. الطبعة الثانية. دار الطليعة. بيروت. 1995 م.: ص 46. مُحَمَّد في الكتاب المقدس: ص 111.
(2) تراث العهد القديم. (مع معجم جغرافي للعهد القديم) . د. برنارد روب. ترجمة: جوميد ميضال. الطبعة الأولى. الدار الكاثوليكية للنشر. المطبعة الكاثوليكية. بيروت، لبنان. 1980 م.: ص 117.
(3) ينظر قراءة سياسة التوراة: ص 85.

(2/68)


وهذا الأمر جعل بعض الباحثين من اليهود أنفسهم يتنصلون من قصة موسى - عليه السلام - بكاملها، أو يعيدون صياغتها صياغة تختلف كلّ الاختلاف عن النصّ التوارتي وفق نظريات جديدة، وذلك لما لاحظوه في النص التوراتي من كذب ودجل ((1)) .
وفي ذلك يقول فرويد: " المأثور الذي يستند إلى محض تناقل شفهي لا يمكن أن يكون له ذلك الطابع اللجوج التسلطي المميز للظاهرات الدينية، بل هو قد يلقى أذناً صاغية فيقيم ويحاكم وقد ينبذ ويطرح جانباً مثله مثل أي آت من الخارج، ولن يكتب له أبداً في هذه الحال امتياز الإفلات من مقتضيات نمط التفكير المنطقي" (2) .
ففرويد في هذا النص الذي يختم به تحليله للنص التوراتي الذي يسرد سيرة موسى يكَّذب كل ما ورد في التوراة عنه، ويقول كذلك:
" إن واحدة من خصائص قصة موسى تفسر علة اختلاف هذه القصة عن سائر الخرافات المماثلة لها في النوع " ((3)) .
وهذا الكلام السقيم اليهودي ـ النصراني تدحضه سورة القصص في أنبائها لصدق الرواية القرآنية وغلبتها وهيمنتها على الروايات الكاذبة وصولاً إلى صدق رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في رسالته.
__________
(1) موسى والتوحيد: ص 98.
(2) المصدر نفسه: ص 141.
(3) المصدر نفسه: ص 17.

(2/69)


فقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) جاء فيها النصّ مفتوح المعنى لاحتمال أن يفهم من خصوصية لآيات الكتاب المنزل على موسى - عليه السلام -، أو على مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) وهذا من إعجاز الأسلوب القرآني وقوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ((2)) يدلّ في اختصاص التلاوة برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على أنه إنما أريد له التسلية عن مواقف فراعنة قريش من كفارها معه - عليه السلام -)) وكون تلك المواقف سيكون عاقبتها الإلهية عاقبة فرعون.
وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} ((3)) يحتمل الوارثين وراثة قوم موسى ووراثة أصحاب رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) للأرض، وهو ما تحقق بعد فتح مكة لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فكانت المناسبة ظاهرة بين السنتين الإلهيتين.
وقوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((4)) جاءت دالة على المناسبة والمقارنة بين من مكن لهم في الأرض من الطائفتين (بني إسرائيل والصحابة الكرام رضوان الله عليهم) فالتمكين في الأرض من الله تعالى هاهنا دال على أنه يدل في دلالته على المناسبة بين رسالة موسى، ورسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) .
وقوله تعالى: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ((5)) فيه تسلية لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) في كون الخطاب محتملاً أن يكون مضارعته لام موسى (- عليه السلام -) ، أو أمر (بالتاء) لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وهذا من إعجاز النص القرآني.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.

(2/70)


وقوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1)) يشبه الذي سيحدث فيها بعد لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من الخروج بخوف مترقباً من مكة عند الهجرة، وذلك قبل أن يهاجر رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بزمن.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) يدلّ كلّ الدلالة في عموميته وخصوصيته على المناسبة التامة والمقارنة الكاملة بين التوحيد الذي جاء به موسى (- عليه السلام -) ومحمد (- صلى الله عليه وسلم -) خلافاً لبعض الذين زعموا أن موسى تعلم التوحيد من قوم فرعون ((3)) ، ولا يقول بذلك إلا كافر بالله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((4)) يدلّ في التوجيه المعنوي وفي تحليل عموميات ألفاظه على أن موسى بَشَّر صدقاً وحقاً برسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، فرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وهو الذي جائ بالهدى، وهو من كانت له ولأمته عاقبة الدار.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} ((5)) يدلّ على أن توجيه الخطاب لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) خاص بذاته، لأن النبي لم يكن موجوداً بجانب الغربي، ولكنها كانت موجودة بتواصل الرسالة النبوية ـ الإلهية
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(3) أسطورة إيزيس. سيد مُحَمَّود القمني. الطبعة الثانية. دار مدبولي. القاهرة. 1994 م.: ص 121.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44.

(2/71)


وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} ((1)) وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ((2)) يحملان المعنى ذاته في تواصل الرسالة بين موسى ومحمد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ.
أما قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} ((3)) فهو نص خاص بأن رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) كانت متواصلة مع رسالة موسى (- عليه السلام -) من خلال سياق الفعل المضارع (لتنذر) .
وقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} ((4)) خاص بأن عدم الاستجابة لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) مثل عدم الاستجابة التي قام بها فرعون وقومه لموسى (- عليه السلام -) في العاقبة والمآل. وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين} ((5)) من أعظم الأدلة على صدق ما عرضنا في هذا المطلب كون هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) كانوا من قبل مسلمين، وهذا دليل ما بعده دليل على المناسبة التواصلية بين الرسالتين.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} ((6)) مما اختلفت فيه العلماء بين أن يكون أمها (أم القرى) ، أو أي مدينة كبيرة على ما قدمنا بيان ذلك فيما مضى، فإذا كان النص محتملاً لهذه المعاني المتواصلة المتقاربة دل على صدق الرسالتين، رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ورسالة موسى (- عليه السلام -) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.

(2/72)


قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((1)) . أوتيها قوم موسى فنبذوها وأوتيها أصحاب مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فحافظوا عليهما فجعلت الأرض لهم ديناً ودنيا على مر حضارتهم الزاهرة العظيمة في الماضي والحاضر والمستقبل.
أما قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} ((2)) فإنهما في خطابهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دالة على صدقه فلو كان هذا القرآن من عنده - صلى الله عليه وسلم - لما خاطب نفسه هذه المخاطبة وهذا كذلك من الدلائل على المناسبة بين
الرسالتين.
ولا ريب في أننا واجدون من خلال القراءة التحليلية لسورة القصص إن هنالك أوجهاً عجيبة من الشبه النبوي بين سيدنا موسى - عليه السلام - وسيدنا مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - من خلال تقصينا لحياتهما قبل النبوة وبعد النبوة وهو الأمر الذي تعده بعض التقديرات الإلهية انطلاقاُ من قوله تعالى (والله أعلم حيث يجعل رسالته) فالاصطفاء الإلهي هو بين الحالتين وهذا عين ما عبرت عنه سورة القصص في فاتحتها بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((3)) فالإشارة العامة للكتاب (أي كتاب إلهي كان) تجعل أفاق المقارنة والمشابهة مفتوحة من خلال التقصي لسيرتي النبيين الكريمين.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.

(2/73)


ولقد عبر عن ذلك النص القرآني أصدق تعبير إذ قال تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((1)) إذ أن مجيء الصيغة المضارعة (يؤمنون) مشعرة باستمرارية التلاوة الحقة وهكذا يمكن لنا أن نجد استناداً إلى ذلك بعض المقارنات التفصيلية بين حالي الرسولين الكريمين ـ عليهما الصلاة والسلام ـ من خلال سيرتهما القرآنية النبوية الموثقة وفي ذلك رد كل الرد على من زعم ان القصص القرآني لا تفيد أي حقبة تاريخية لا في مبناها ولا في معناها.
وهكذا فنحن واجدون ما يأتي من خلال القراءة المقارنة لسورة القصص:
إن قوله تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ، ثم قوله تعالى على لسان شعيب - عليه السلام -: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((2)) ، ثم قوله تعالى له: {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ((3)) يشبه كل الشبه خوف رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) على الإسلام وخروجه من مكة وقوله لأبي بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنه ـ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} ((4)) ، ثم نزول قوله تعالى له (- صلى الله عليه وسلم -) : {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ((5)) فالأمر واحد في الحالتين، وهو يدل على التشابه التام بين القصتين كحكمة إلهية عالية.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(4) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 40.
(5) سُوْرَة المَائِدَة: الآية 67.

(2/74)


إن سيدنا موسى قد رعى الغنم فترة من عمره على ما جاء في الآثار العديد
{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((1)) ، فكان له من ذلك خبرة في الحياة فجعل رعية لغنم شعيب (- عليه السلام -) مهراً لأبنته، وسيدنا مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) رعى الغنم فترة من عمره قبل البعثة (على قراريط قريش) ((2)) كما قال (- صلى الله عليه وسلم -) ، فحاز من ذلك الخبرة بالناس ومعرفته لهم وتعوده على الصبر. فقوله تعالى في سورة القصص: {أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((3)) في رعي الغنم كما في حديث رعي الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) للغنم.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26.
(2) صَحِيْح البُخَارِي: باب رعي الغنم على قراريط 2 /789 رقم (2143) من حديث أبي هريرة (- رضي الله عنه -) .
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.

(2/75)


إن هناك تشابهاً عجيباً في قصتي الهجرتين هجرة موسى (- عليه السلام -) وهجرة الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) فنجد في سورة القصص قوله تعالى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((1)) و {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((2)) و {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ} ((3)) يشبه كل الشبه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} ((4)) ، فالنص واحد والمعنى واحد والنهاية واحدة في النجاة الإلهية إلى النصر الإلهي فموسى (- عليه السلام -) انتصر على فرعون {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ((5)) . ومحمد (- صلى الله عليه وسلم -) انتصر على المشركين والكافرين جميعاً {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ((6)) ، وهذا مما يوضح الترابط العفوي بين كل سور وآيات القرآن.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(4) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 30.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(6) سُوْرَة النَّصْرِ: الآية 1.

(2/76)


إن هنالك رهبة أولى من تلقي الوحي الإلهي متشابهة بين الرسولين الكريمين، فنجد قوله تعالى في سورة القصص: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} ((1)) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ((2)) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} ((3)) ، فالمعنى واحد هو محصول الاطمئنان الإلهي والأمن الرباني بعد الوحي للنبيين إذا أصابهما بعض الروع والخوف فاذهب الله سبحانه وتعالى ذلك عنهما.
إن هنالك تشابهاً كبيراً بين سيرة النبيين الكريمين قبل الزواج في اختيار الزوجة، وفي العلاقة التجارية معهما فموسى (- عليه السلام -) كما جاء في سورة القصص عمل أجيراً لدى والد زوجته (- عليه السلام -) {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((4)) ، أي: أن والدها هو الذي خطبها له. ونجد في السيرة النبوية أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عمل عند خديجة بنت خويلد ـ رضي الله تعالى عنها ـ وأجرته في تجارتها، ثم خطبته لنفسها ونجد أن النبيين عملا لدى والد الزوجة، أو الزوجة نفسها لحكمة إلهية لا تخفى على ذوي الألباب تتمثل في التعويد الإلهي على الدخول على كل أصناف المجتمع وتحمل المشاق والمسؤولية وليؤكد على أهمية العمل.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(2) سُوْرَة المُدَّثِرِ: الآيات 1 – 4.
(3) سُوْرَة المُزَّمِّلِ: الآيتان 1 – 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.

(2/77)


إن النبيين الكريمين ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ استطاعاً من خلال دعائهما أن يحوزا وزيرين يشدان بهما عضدهما وينتصران بهما في دعوتهما فقوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ((1)) ونجد مقارباً لذلك قول رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) ((2)) . وقوله تعالى:
{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} ((3)) ففي كلا الحالتين هناك ترابط واحد في السيرتين الشريفتين.
إن النبيين الكريمين رميا بالسحر، {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} ((4)) ،
{قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ((5)) وهذا من ديدن الكفار من الفراعنة، وكفار قريش على حد سواء.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 34 –35.
(2) صحيح ابن حبان: 15 /306. المستدرك على الصحيحين: 3 / 89 من حديث ابن عباس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقد صح شاهده عن عائشة بنت الصديق ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ.
(3) سُوْرَة التَّوْبَةِ: الآية 40.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(5) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 52.

(2/78)


إننا نجد من هذا التشابه الكبير الواضح بين شخصية الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) وسيرته الشريفة ومراحل دعوته. وسيرة نبي الله موسى (- عليه السلام -) أثناء قراءتنا المعاصرة للنص القرآني بآفاقه المفتوحة في سُوْرَة الْقَصَصِ إن مجيء سيدنا مُحَمَّد
(- صلى الله عليه وسلم -) بعد سيدنا موسى (- عليه السلام -) وختم الله به الرسالات دالاً على أن الله ارتضى لصلاح هذا الكون ولخلافة الأرض الديانة الإسلامية، وأن أمة الإسلام لها السيادة في الدنيا والآخرة.
وإن من أراد أن يطفئ نور الله الذي هو الإسلام من اليهود والنصارى الذين حرفوا الديانات، وقتلوا الأنبياء، قد حكم الله عليهم في سُوْرَة الْقَصَصِ بأنهم سيلاقون المصير نفسه الذي لاقاه فرعون على يد موسى (- عليه السلام -) لأن الإرادة الإلهية شاءت أن يكون الإسلام الدين المهيمن على كلّ الديانات والناسخ لهما {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} ((1)) ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} ((2)) . وهذا الترابط في سُوْرَة الْقَصَصِ يجعلنا نعرج على ما جاءت به صحاح الآثار في كتب الفتن والملاحم في الصحيحين ـ البخاري، ومسلم رحمهما الله برحمته ـ في أن النهاية القرآنية لبني إسرائيل {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً} ((3)) آتية لا محالة مهما علا اليهود في الأرض كما فعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بفرعون وهامان وجنودهما وقارون.
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 19.
(2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 85.
(3) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 5.

(2/79)


أما قوله تعالى في أخر آيتين من السورة: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) فإنها من الآيات التي تلخص سُوْرَة الْقَصَصِ كلها، وتوجه المعاني فها نحو الدلالة العامة على التواصل بين الرسالتين، رسالة موسى (- عليه السلام -) ورسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، وبذلك كله يستقيم لنا الغرض الذي قدمناه من قبل من كون سُوْرَة الْقَصَصِ تحمل صدق رسالة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ، ومن كونها تخالف التوراة المحرفة في تحريفها العام، ومن كونها تربط ربطاً متسلسلاً متواصلاً بين الرسالتين، وتدل على أن منبعهما واحد.
...
الفصل الثامن: دراسة مقارنة بين هيمنة فرعون وأمريكا وسقوط دولتها وانتصار الإسلام من خلال سُوْرَة الْقَصَصِ في دلالاتها السياسية الحديثة
تمهيد
تعدّ القراءة المعاصرة لأي سورة قرآنية في حدود الرأي المأثور باستقراء كوامن النص وبواطنه المعنوية التي تعطي للنص القرآني آفاقا جديدة، عملية مهمة جداً في التفسير القرآني والتأويل الكتابي، وقد حاولت في هذا الفصل من هذه الرسالة أن أقارن بين فرعون وقومه وقارون وأمواله، وبين أمريكا وقومها واليهود وأموالهم، وذلك لوجه الشبه الكبير بين الماضي والحاضر، وصولاً إلى استشراف آفاق المستقبل الإسلامي، فقد تأثر المسلمون اليوم بالهيمنة الأمريكية، كما تأثر قوم موسى ـ عليه السلام ـ من المؤمنين بالهيمنة الفرعونية وهو ما سنلاحظه في هذا الفصل (المقارن) ولأنه عبارة عن فكرة جديدة.
وعسى أن لا نكون في ذلك ممن يقول في القرآن الكريم برأيه، فما هي إلا محاولة لخدمة النص القرآني وتجدده الزماني ـ والمكاني.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

(2/80)


المبحث الأول: دراسة مقارنة بين دولة فرعون ودولة أمريكا
المطلب الأول: هيمنة فرعون وأمريكا في الملك والقوة والمال والأعلام وفقاً لما جاء في سُوْرَة الْقَصَصِ
إن موضوع الهيمنة في الطغيان الفرعوني مقارنة بالهيمنة في الطغيان الأمريكي، هو من المواضيع المتعددة المفاهيم، وذلك لأوجه الشبه والتشابه بين الطغيانين، فكأن التاريخ يكرر نفسه، وهو يكرر نفسه بحق في الصدام الخطابي بين الإيمان والكفر، بين القديم والحديث ((1)) .
فنحن نجد في سورة القصص إن قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبين} ((2)) يدلّ في مضمونه اللغوي على استمرارية الدلالة الزمانية ـ المكانية لآيات الكتاب المبين في الماضي والحاضر والمستقبل. وذلك كما قال عزَّ وجلَّ في آية أخرى: {إِنَّ هذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ((3)) ، بمعنى أن الهداية القرآنية التي دلّ عليها في سورة القصص قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبين} هي هداية مضافة إلى آيات باهرة تجعل الإنسان يفهم س في الأرض: {إِنَّ فِرْعَوْن علاَ في الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ يُذَبِحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((4)) . وقوله في موضع آخر: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} ((5)) يصلح أن يكون إذا ما نقل من قرآنية المعنى إلى إنسانية المعنى، ونقل من الماضي إلى الحاضر لوصف هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم كما نرى في الجدول الآتي المقتبس من دلالات سورة القصص.

الموضوع
تسلسل
هيمنة فرعون
هيمنة أميركا
هيمنة الملك
1
__________
(1) صدام الحضارات. صموئيل هنتنغتون. ترجمة: جميل حماد. الطبعة الثالثة. (د. نش) . بيروت، لبنان. 1998 م: ص 97.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(3) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 9.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(5) سُوْرَة النَّازِعَاتِ: الآية 24.

(2/81)


العلو في الأرض: {إِنَّ فرعون علاَ في الأَرْضِ} ((1))
القوة العظمى الوحيدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي
2
جعل أهلها شيعا: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((2)) .
جعل العالم إما معها وإما مع الإرهاب وإما ديمقراطياً وإما غير ديمقراطي وإما حراً وإما غير حر كذلك زرعها الفتن والنزعات الطائفية وتغذيتها
3
كان فرعون يأتمر بالمؤمنين ليقتلهم {يُذَبِّح أَبْنَاءهُمْ} ((3)) .
تشن أميركا حرب شعواء على المسلمين في كل بقاع الأرض
4
فرعون ظالم في ملكه {علاَ في الأَرْضِ} ((4))
أميركا ظالمة في قوتها العاتية
هيمنة القوة
1
يستضعف طائفة من أهل الأرض {يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ} ((5)) .
تستضعف أميركا شعوب العالم والمسلمين من خلال تهديدها بالقوة الغاشمة أو من خلال سيطرتها على مقدرات الشعوب.

2
ادعى أن الأرض له: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ((6))
تدعي أميركا اليوم أن كلّ الأرض مفتوحة أمامها باسم حق التدخل المفتوح.

3
كان لفرعون وهامان وجنودهما ما يحذرون من يومئذ ألا وهو الإيمان {وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((7)) .
لأميركا وإسرائيل وجنودهما ما يحذرون منه اليوم، وهو الإسلام.

هيمنة المال
1
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4. .
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

(2/82)


سلب أموال المستضعفين في الأرض {اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ} ((1)) .
سلب كل الأموال المودعة لديها باسم مكافحة الإرهاب، وجمدت أرصدة وحسابات دول وجماعات من الضعفاء
2
سلب إمامتهم في المال.
سلب اقتصاديات كثير من الدول التي تعد إمامة في المال، مثلما حدث في أزمة الخمور الأسيوية 1997 م.

3
كان يدعي أن له ملك مصر أو مالها {أَلَيْسَ لِي ملك مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ((2)) .
تدعي أميركا أنها ملك العالم وأموالها.

هيمنة الإعلام
1
ادعاؤه أن ما جاء به موسى سحر {قَالُوا مَا هذا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ((3)) .
رميها كل ما خالفها بالإرهاب.

2
ادعاؤه أنه الإله الواحد: {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ((4)) .
أميركا تدعي أنها القوة المتحدية الواحدة. تقول أولبرايت ((5)) : " في هذا الكون قوة عظمى واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية ".
3
استهزائه بموسى وطلبه الإيقاد على الطين برجاً (صرحاً) {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} ((6)) .
إن بناء ناطحات السحاب ومكوكات الفضاء الأميركية يشابه الأبراج والصروح التي أراد تشييدها فرعون وهامان.

4
الاستكبار مع الجنود {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ((7)) .
إن العقيدة السياسية الأميركية هي أن الأميركي لا يقهر وفق رؤية عصرية.

5
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) سُوْرَة الزُّخْرُفِ: الآية 51.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(5) هي مادلين أولبرايت وزيرة خارجية أمريكا في عهد كلنتون.
(6) سُوْرَة غَافِرِ: الآية 36.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.

(2/83)


الزعم بأنهم لن يرجعوا لله تعالى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((1)) .
أميركا تدعي أنها لن ترجع إلى أي جهة كانت كما جاء في دستور الولايات المتحدة الأميركية بانفرادها بضرب الدول، وتهديدها بالضرب دون الرجوع إلى قرارات مجلس الأمن.

الجرائم
1
قتل أبناءهم {يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ} ((2)) .
قتل الناس بالجملة كما في هيروشيما ونكازاكي والعراق وأفغانستان.

2
يستحي نسائهم {وَيستحي نِسَاءهُمْ} ((3))
استعباد النساء في الرق الأبيض.

3
الفساد {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((4)) .
إشاعة الفساد العالمي والإباحية والشذوذ.

4
التآمر على أهل الإيمان وموسى: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((5))
تآمر أميركا المستمر على أهل الإيمان وضربها تلك الحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم
إن الجدول الماضي المستخلص من سورة القصص للمقارنة بين فرعون وأميركا، يرينا كيف أن فرعون استحق قوله تعالى في سورة القصص: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} ((6)) ، وكذلك أميركا اليوم بقادتها وجنرالاتها المستكبرين في الأرض، وهيمنتها بهم على العالم، استحقت أن تكون ملعونة من قبل كل شعوب العالم في هذه الدنيا، كما لعن فرعون في سورة القصص في الآية السابقة.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42.

(2/84)


إن هيمنة فرعون قديماً، وأميركا حديثاً واستمرارية ذلك يوضحها في سورة القصص قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((1)) ، بمعنى إننا نستنتج من هذه الآية أن كل قرية (دولة، أمة) ، إذا ما بطرت معيشتها سيكون مصيرها الهلاك، وأميركا دولة باطرة مبطرة، وأمثلة بطرها كثيرة، منها أنها تلقي فائض غذائها في البحر بطراً وعدواناً.
وتوضح آيات سورة القصص أن هيمنة فرعون، وبالتالي الهيمنة الأميركية عاقبتها الإهلاك بعد الإنذار، ونجد في العصر الحديث أن أميركا لها من ينذرها من المسلمين، والنصارى المخلصين من الوعاظ الحقيقيين، ولكنها في طغيانها لا ترجع من ذلك الطغيان ((2)) . يقول عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((3)) ، وأي ظلم أشد من الظلم الأميركي اليوم، فكأن هذه الآية تنطق بحال هذا العصر مثلما نطقت بحال العصر الذي وصفته بصورة عامة، وذلك وجه من أوجه الإعجاز القرآني ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) إعاقة الديمقراطية. نعوم تشومسكي. مركز دراسات الوحدة العربية. 1999 م: ص 187 -188.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(4) ينظر الإسلام حضارة الغد. يوسف القرضاوي. الطبعة الثالثة. المكتب الإسلامي. بيروت، لبنان. 1418 هـ.: ص 50 الإسلام ومشكلات الحضارة. سيد قطب. . دار الشرق. بيروت، لبنان. (د. ت) : ص 149.

(2/85)


المطلب الثاني: أسباب زوال الطغاة قديماً وحديثاً في سُوْرَة الْقَصَصِ
كتب كثيراً عن أسباب وآليات زوال الطغاة واندثارهم في القرآن الكريم بصورة عامة، أو في سور من السور القرآنية بصورة خاصة غير أن ما تتميز به سورة القصص ـ موضوع هذه الرسالة ـ هو احتواءها على عوامل وأسباب وآليات وشروط زوال الطغاة في الماضي والحاضر والمستقبل.
وذلك أن آفاق المعنى المفتوح في سورة القصص تتضمن البشارات والإنذارات التي حددها الله عزَّ وجلَّ، كي يتعظ من يتعظ بالإنذار، ويزداد إيماناً من يزداد بالبشارات الصادقة جملة وتفصيلاً.
لقد احتوت سورة القصص على نقاط كثيرة يمكن إيجازها وفق المنهجية العلمية في النقاط التالية أدناه (أي: أسباب زوال الطغاة) التي هي:
عدم التمسك بالشرع الإلهي الذي هو: {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1))
الابتعاد عن شرعة الحق: {نَتْلُو عَلَيْكَ من نَبَإِ موسى وفرعون بِالْحَقِّ} ((2)) .
العلو في الأرض: {إِنَّ فِرْعَوْن علاَ في الأَرْضِ} ((3)) .
تفريق الناس: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((4)) .
استضعاف الناس: {يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ} ((5)) .
القتل غير المبرر: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} ((6)) .
استعباد النساء: {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءهُمْ} ((7)) .
الفساد العالمي: {إِنَّهُ كَانَ من الْمُفْسِدِينَ} ((8) (.
اغتصاب الأرض: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((9)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

(2/86)


الاغترار بالجيوش: {وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((1)) .
إشاعة الخوف في الناس: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ في الْيَمِّ} ((2))
ظهور الأعداء: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} ((3)) .
ظهور الأحزان: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} .
الخطأ العام: {إِنَّ فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} ((4))
الفساد العسكري: {وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطئِينَ} .
كثرة الهرج والمرج: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} ((5)) .
المؤامرات العالمية: {إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} ((6)) ((7)) .
الظلم: {رَبِّ نَجِّنِي من الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ((8)) .
الفسق الخاص والعام: {إِلَى فِرْعَوْن وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} ((9)) .
تكذيب الدعاة: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((10)) .
وصم الناس المصلحين بصفات مهنية: {مَا هذا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى} ((11) .
الاغترار بالدساتير الوضعية: {وَمَا سَمِعْنَا بِهذا في آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ((12)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(7) ينظر أحجار على رقعة الشطرنج أدوارد غاي. الطبعة الثالثة. دمشق. دار النهار. 1987 م: ص 127 -130.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 21.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(12) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.

(2/87)


جنون العظمة: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ من إِلَهٍ غَيْرِي} ((1)) .
طلب المحال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ موسى} ((2)) .
الاغترار بالظن الكاذب الشيطاني من الشيطان الذي لعنه الله بنفسه: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ من الْكَاذِبِينَ} ((3)) .
الاستكبار العالي: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ} ((4)) .
الحكم بغير الحق بظلم الناس: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغير الْحَقِّ} .
إنكاره الآخرة: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((5)) .
عدم معرفة العواقب: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((6)) .
تقبيح الحسن وتحسين القبيح: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ من الْمَقْبُوحِينَ} ((7)) .
المطاولة في العمر الحضاري للقوة العظمى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((8)) .
كذب الأماني: {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ من عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى} ((9)) .
الكفر: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ موسى من قَبْلُ} ((10)) .
تسخير الإعلام للإضلال: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ((11)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.
(10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.
(11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.

(2/88)


اتباع الهوى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} ((1)) .
الخوف من غير الله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أَرْضِنَا} ((2)) .
بطر المعيشة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((3)) .
الغواية: {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ الذين أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كما غَوَيْنَا} ((4)) .
الكذب الدائم: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} ((5)) .
عمى الأنباء: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((6))
الفراغ الروحي: {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} .
الانشغال بالمادة: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} ((7)) .
الزعم الكاذب: {أَيْنَ شُرَكَائِي الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ((8)) .
الافتراء: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((9)) .
البغي: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ من قَوْمِ موسى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((10)) .
وفرة المال والطغيان فيه بنسيان الله عزَّ وجلَّ: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((11)) .
الفرح بما هو ليس لهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 63.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 63.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 66.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 64.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 74.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.
(10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.

(2/89)


عدم الإحسان: {وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((1)) .
بغي الفساد في الأرض: {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((2)) .
الاغترار بالعلم: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((3)) .
الاغترار باشتداد القوة والجموع: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ من قَبْلِهِ من القُرُونِ من هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} ((4)) .
الإجرام: {وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} ((5)) .
الاغترار بالزينة: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زِينَتِهِ} ((6)) .
إرادة العلو في الأرض: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرْضِ} ((7)) .
إرادة الفساد: {وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((8)) .
المجيء بالسيئات: {وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((9)) .
الضلال المبين: {وَمن هُوَ في ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((10)) .
مظاهرة الكافرين: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((11)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84.
(10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(11) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.

(2/90)


الصد عن آيات الله جلَّ جلاله: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} ((1)) .
الشرك الظاهر والخفي: {وَلاَ تَكُونَنَّ من الْمُشْرِكِينَ} ((2)) .
دعوة إله آخر مع الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ((3)) .
الحكم بغير ما أنزل الله عزَّ وجلَّ: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) .
إن هذه الأسباب التي تقدم ذكرها يمكن رؤيتها بجلاء ووضوح في الطغيان الأميركي المعاصر لنا، وكأن سورة القصص عند التحليل الدقيق لدلالات ألفاظها تصف حال أميركا وما جنته في الأرض من إفساد وفساد عام وخاص، وكيف أنها اليوم تحاول أن تكون القوة العظمى، وتظن أنها لا تهلك ولن تهلك، والله عزَّ وجلَّ يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((5)) ، فلا بدّ من خلال استقراء ما جرى لفرعون وهامان وقارون، وما يشابههم من حال أميركا وجشعها وعدتها من ملاقاة المصير نفسه، لأنه كما قال عزَّ وجلَّ في سورة القصص: {من جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((6)) ، وهذا ما يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً ((7)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84.
(7) دعوة الرسل إلى الله. مُحَمَّد أحمد العدوي. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. 1354 هـ.: ص 176.

(2/91)


المطلب الثالث: أموال قارون واقتصاد العولمة وتفككه في سُوْرَة الْقَصَصِ
من الواضح مما تقدم أن الولايات المتحدة الأميركية في اعتمادها على الرأسمالية التي طورتها في عقد التسعينات باسم العولمة التي تعني: " تحرير التجارة العالمية، وفتح الحدود، وإلغاء الضرائب والقيود على المعاملات المالية، ونقل قيم الاقتصاد الرأسمالي إلى كل الدول والأنظمة والحكومات على اختلاف مشاربها " ((1)) .
حاولت أميركا ولا زالت تحاول من خلال آلياتها العسكرية أن تفرض نظم استهلاكها الاقتصادي، ونظم معاملاتها التجارية، ونظم مصارفها الربوية على العالم كله، اغترارً بما هي عليه من قوة وعلم وجمع مال، ووجود مؤسسات المال الدولية في الأرض الأميركية، حتَّى صار كثير من جهلة الناس يعتقدون أن أميركا هي (أرض الأحلام) ، ويتمنون السكنى فيها والتجنس بجنسيتها، وهو عين ما تتمناه أميركا، وإن تمنعت قليلاً على استحياء.
إن مقومات اقتصاد العولمة:
رأس المال المشترك.
التقانة العلمية.
الاتصالات المفتوحة.
ثورة المعلومات.
يمكن رؤيته على أنه (الوحش الكاسر) الذي يهدد عالمنا كما وصفه بعض مناهضي العولمة.
والعولمة: " وهو في الأصل مبدأ اقتصادي يهدد لإشاعة فاحشة الربا في الناس كافة " ((2)) ، وجه من أوجه الطغيان الأميركي، ونحن علينا أن نجد في القراءة المعاصرة لسورة القصص ما يدلّ على ذم العولمة فيها، ومن ذلك:
تقسيم العالم إلى أول وثان وثالث: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((3))
السيطرة على سياسات الدول وقراراتها من خلال قروض صندوق النقد الدولي: {يَسْتَضْعِفُ طائفة مِنْهُمْ} ((4)) .
__________
(1) نذر العولمة: 27 -28. وينظر القصص الَقُرْآنيّ: 3 /44.
(2) نذر العولمة: 27 -28.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.

(2/92)


أخذ أموال الناس بالباطل طمعاً: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ من قَوْمِ موسى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((1)) .
وذلك أولى بالتالي لأن تتضح صورة هذه العولمة الأميركية في مثل دلالة قوله عزَّ وجلَّ وهو أصدق القائلين: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغير الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} ((2)) .
فأميركا من خلال قوتها العسكرية وهيمنتها الإعلامية، واقتصادها المعولم المحرر التي تريد فرضه مع قيمتها (الأخلاقية) على العالم، واستكبرت هي وجنودها (بقواعدهم) في الأرض، وهي تظن أنها لن ترجع إلى الله عزَّ وجلَّ، بدليل أنها لا ترقب في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، فعل من لا يخاف الله عزَّ وجلَّ.
وقد حاول بعض الناس في العصر الحديث تبرير دخولهم إلى منظمة التجارة العالمية (بوابة العولمة الأميركية) بدعوى أنهم لا يملكون مالاً ولا تجارة ولا ثروات طبيعية، وأنهم محتاجون للعولمة. ومن قبل يبين الله عزَّ وجلَّ حجة أمثال هؤلاء في قوله تعالى في سورة القصص: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ من أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا من لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 39.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57. 

واقتصاد العولمة المحرر ادعى إلى بطر في المعيشة بفعل الرخاء الغربي، حيث يتنعم الغرب وأميركا والشمال، ويتضور المسلمون والأفارقة والجنوب من الجوع، ولقد بطرت أميركا باقتصادها حتَّى صارت تفرض ما غيرته من خلق الله عزَّ وجلَّ بإدراجها مبرراً فرض قبول الأغذية المعدلة وراثياً في مساعداتها للدول النامية. ونحن نجد مثل ذلك في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((1)) ، مع قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((2)) ، بمعنى أن ما تقوم به أمريكا في هذا العصر إنما مآله الانتهاء بالاندحار.
وهذه الآية تدل فيما تدل عليه أن الاقتصاد البطر (في عصر اقتصاد العولمة) مصيره الهلاك، وهو عين الدستور القرآني في كون الأمم التي تظلم نفسها بجحود النعم، وكفران الله عزَّ وجلَّ، تنقلب بها الأحوال من حال إلى حال، وقد حدث ذلك في عصرنا للاتحاد السوفيتي السابق سنة 1991 م، وسيكون ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ كما تدل عليه قواعد نذر سورة القصص للولايات المتحدة الأميركية.
ونجد في قصة قارون في سورة القصص كيف يتطور الاقتصاد (الكفري) ، (اقتصاد العولمة مثلاً) ، ثُمَّ كيف يذهب هذا الاقتصاد بنظرياته وأهله، (كذلك في عصرنا حدث مثل ذلك للنظرية الماركسية الشيوعية في الاقتصاد التي بدأت في أيام ماركس وأنجلز، وطبقت بعد ثورة 1917 م في روسيا، وأنشأت القوة العظمى الثانية للاتحاد السوفيتي ثُمَّ كان لها أن تتفكك وان تغرق في مهاوي النسيان) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.

(2/94)


ففي سورة القصص نجد أن قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ من قَوْمِ موسى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((1)) يدلّ على أن اليهود الذين هم (من قوم موسى) كانوا ولا زالوا أهل بغي، ثُمَّ نجد قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ((2)) ، فنلاحظ أن في عصرنا هذا قد كثرت البنوك الرأسمالية حتَّى صار من الصعب إحصاؤها أو عدها أو ذكر أسمائها، وأن ما فيها من أموال يغطي الأرض مرات ومرات، ونجد أن قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((3)) ، يحمل في طياته كل سمات العولمة الحديثة في وعظ قوم موسى من المؤمنين لقارون، فنجد من سمات العولمة في قصة قارون:
الفرح الاحتفالي المبالغ فيه.
نسيان الآخرة.
جعل الدنيا النصيب كله.
عدم الإحسان.
الفساد في الأرض.
ونجد كذلك في سورة القصص مقومات العولمة العلمية التي هي في عصرنا ثورة المعلومات والاتصالات والتقنيات في جواب قارون لقومه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((4)) .
ونجد رياء العولمة وتبخترها وتكبرها في مثل ما نجده في صفة قارون في سورة القصص في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ في زِينَتِهِ} ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 76- 77.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.

(2/95)


ونجد إعجاب بعض الجهلة بالعولمة التي لا يدرون مآلها ومآلهم معها من قوله تعالى في السورة نفسها: {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ((1)) ، وفي عصرنا تكفلت وسائل الإعلام كلها بتحبيب نموذج العولمة للأذهان، فصار الناس يتشدقون: إن العولمة في هذا العصر هي (الحظ العظيم) ، وهذا ما وسوسه الشيطان الرجيم ـ لعنه الله بلعنته ـ في قلوب الناس.
ثم نجد مصير قارون في الخسف هو عين ما يتوقع المنظرون الاقتصاديون للعولمة من مصير (التفكك) في قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((2)) ، ويبين الله عزَّ وجلَّ الحقيقة على لسان الذين اغتروا بقارون بعد أن رأوا أمثاله (وفي عصرنا بعد أن يروا تفكك العولمة) ، في قوله عزَّ وجلَّ حاكياً عنهم قولهم: {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمن يَشَاءُ من عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ((3)) ، ويقرر القرآن الكريم دلالة حقيقة الاقتصاد العالمي في كل نظرياته بقوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ من جَاءَ بِالْهُدَى وَمن هُوَ في ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((4)) ، بمعنى أن النظريات الاقتصادية في هدايتها وفي ضلالها إنما جاءت بمعناها العام لتدل على الخصوصية الاقتصادية العالمية، لأن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد هداية خاصة، والاقتصاد العالمي المعولم اقتصاد ضلال يهودي ربوي، فبان الفرق بينهما في دلالات الآية.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.

(2/96)


وبذلك كانت سورة القصص دالة كل الدلالة على وجه الشبه بين أموال قارون واقتصاد العولمة، والخسف والتفكك الذي أصاب وسيصيبها قديماً وحديثاً ((1)) .

المطلب الرابع: الاستعداد لمواجهة الطغيان الأميركي من خلال سورة القصص

لقد أمر الإسلام الحنيف المؤمنين كافة بالاستعداد وإعداد العدة لأعداء الله عزَّ وجلَّ، وذلك في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ من قُوَّةٍ وَمن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ((2)) .
لذلك فإن الولايات المتحدة الأميركية خشيت الاستعداد للجهاد، فبدأت تطالب بإلغاء تدريس آيات القتال في العالم الإسلامي، وخشيت قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} ((3)) ، فاخترعت مصطلحاً وترجمته للعربية بالفعل (ر. هـ. ب) ، وجعلته كلمة مكروه هو (الإرهاب) ، كما كره الغرب للناس من قبل كلمة الاستعمار في ترجمته لها، وهي كلمة قرآنية: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ((4)) ، (فنسب الاستعمار لله عزَّ وجلَّ) وهذا من فساد حياتنا اللغوية! .
وهكذا فإن الاستعداد لمواجهة العدو الكافر المشرك ثابت في كل آيات القتال الكريمة ظاهراً وباطناً، غير أنا نجد في سورة القصص آيات كثيرة تتعلق دلالتها الماضية بما سبق، ودلالتها الحاضرة بالوضع العام العالمي الذي نعيشه في عصر الطغيان والهيمنة الأميركية على العالم.
__________
(1) ينظر قصص الَقُرْآن: ص 284. دراسات في التفسير الموضوعي للقصص الَقُرْآنيّ. د. أحمد جمال العمري. الطبعة الأولى. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1406 هـ ـ 1986 م.: ص 295.
(2) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 60.
(3) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 60.
(4) سُوْرَة هُوْد: الآية 61.

(2/97)


وتتلخص آليات الاستعداد لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وكل من كان على شاكلتها في سورة القصص في آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) .
فإن هذه الآية في دلالتها العامة والخاصة تشمل الاستعداد بالقوة لوراثة الأرض من أميركا التي استضعفت المؤمنين.
ثم نجد أن قوله تعالى: {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)) ، يدل في دلالته الحديثة المعاصرة على أن ما وعد به الله عزَّ وجلَّ في الثواب الكريم، ورسوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في السنة النبوية الشريفة من انتصار الإسلام بعد أخذ الحذر والاهبة والاستعداد لقتال الكفرة واليهود، هو أمر متحقق إن شاء الله العلي العظيم.
ولا ننسى هاهنا أن أميركا تمثل اليهود، وأن الوعد النبوي الذي ما ينطق صاحبه عن الهوى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقتال اليهود والانتصار عليهم، يشمل أميركا بدلالته، وهو ما نجده في سورة القصص في قوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((3)) .
ونجد ضمن الاستعداد لمواجهة أميركا قوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ((4)) ، فالآية تدل على أن من فعل فعل فرعون وهامان وجنودهما ملعون في الدنيا، وفي الاستعداد لمواجهة أميركا (فرعون العصر وهامانه) ، (إذا جاز لي هذا التعبير) ، نجد أن أميركا (أمة ملعونة) كما وصفها بعض أبنائها من قبل! .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42.

(2/98)


ونجد ضمن الاستعداد لمواجهة أميركا في سورة القصص قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً من رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ من نَذِيرٍ من قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) .
وضمن الاستعداد لمواجهة أميركا نجد دلالة قوله تعالى في سورة القصص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((2)) ، وأي ظلم يجب الاستعداد لملاقاته أشد من ظلم الولايات المتحدة الأميركية منذ نشؤها (وقتلها للهنود الحمر) حتَّى اليوم (في عدوانها على أفغانستان بدعوى محاربة الإرهاب) ؟ ! .
ثُمَّ نلاحظ من سمات الاستعداد لمواجهة أميركا دلالة توجيهية لأخذ أميركا بذنوبها بعد أن اعترف شهودها بأن لا برهان لهم على ما تفعله حكومتهم بالعالم، وهو قوله تعالى في سورة القصص: {وَنَزَعْنَا من كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((3)) .
ثم خاتمة مطاف الاستعداد لمواجهة أميركا في قوله تعالى في وصف الآخرة مقابل الدنيا الزائلة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((4)) ، مع أن المبدأ الأساسي لأميركا هو:
العلو في الأرض.
الفساد في الأرض.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.

(2/99)


وهو ما أوجب على المسلمين أن يستعدوا ما وسعهم الاستعداد للملحمة الكبرى التي تستعد لها أميركا في أدبياتها النصرانية تحت اسم (هار مجدون) ، إذ يظنون أنهم باستعدادهم لملاقاة المسلمين سيعيدون مملكة (يسوع المسيح) في ألفيتها حسب مزاعمهم، وهو ما قرره الكبراء منهم من قسسهم وحاخاماتهم ودجاليهم المنبئين.
أما الاستعداد الإسلامي لذلك فنجده مندرجاً تحت قوله عزَّ وجلَّ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، على الذي تحقق من دلالته قديماً وحديثاً في التراث والمعاصرة، كما لا يخفى على أحدٍ.

المبحث الثاني: السنن الإلهية في زوال الأمم وسقوط الحضارات في سُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: الزوال ـ نهاية أميركا مقارنة بفرعون وهامان وقارون في سُوْرَة الْقَصَصِ
إن من خصائص النص القرآني أنه نص متجدد يصلح في دلالاته للماضي والحاضر والمستقبل في الدنيا والآخرة على ما قرره العلماء، ونحن يمكن أن نفهم دلالاتها الحقيقية في دلالات معاصرة على أمور نعلم أن الله عزَّ وجلَّ يعلم بها جميعاً وبأعمالها بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ((2)) .
لذلك فليس عجيباً أن نجد أن النهاية التي انتهى إليها فرعون وهامان وجنودهما وقارون، هي عين ما يتوقع المنظرون السياسيون وعلماء علم المستقبليات السياسي من الغربيين للولايات المتحدة الأميركية في قابل أيامها ومستقبل أعوامها.
ويمكن على وجه من الوجوه رؤية الزوال الفرعوني الهاماني القاروني في الزوال الذي وقع زلزالاً صبيحة 11 / أيلول / 2001 م في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا وسمي باسم (أحداث الحادي عشر من أيلول) على ما هو مشهور معروف!
ونحن في قراءتنا المعاصرة الدينية لسورة القصص، نجد أن هنالك نقاطاً تحذيرية ـ تنبيهية كثيرة، عن الزوال الأعظم في الماضي والحاضر:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(2) سُوْرَة الصَّافَاتِ: الآية 96.

(2/100)


زوال الماضي هو زوال فرعون وهامان وقارون والجنود.
زوال الحاضر هو زوال أميركا وإسرائيل وجنود العولمة.
ولا ريب أن ذلك منصوص عليه بصورة أكثر صراحة في كثير من أحاديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، ولا سيما ما نجده في أبواب الفتن ((1)) .
غير أننا في تحليلنا لسورة القصص نجد الأمر بوضوح كبير يكاد لا تخطئه العين.
إن هلاك فرعون وهامان وقارون وجنودهم جميعاً في الماضي التاريخي إنما كان بسبب عوامل أسلفنا الحديث عنها في الفصول الماضية ولا ريب في أن هذه العوامل نفسها ستكون سبب في زوال وهلاك أميركا وإسرائيل وجنود العولمة في العصر الحديث، وذلك كما يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الْكِتَابَ من بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((2)) .
__________
(1) منها ما روي عَنْ أبي بن كعب ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ((بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب)) . المستدرك على الصحيحين: 4 /346 قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.

(2/101)


وهكذا نجد أن قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) يشمل اليوم في دلالاته المسلمين والإسلام، لأنهم استضعفوا في الأرض بعد أن تفرقوا قبل بروز الصحوة الإسلامية، ثم أنهم الآن الأئمة، ولا ريب في أن الوعد الإلهي حق في أن الوراثة لهم، ولا وراثة قبل هلاك أميركا وزوالها، وذهاب دولة إسرائيل على ما ورد في سورة الإسراء، وفي أحاديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عن مقاتلة اليهود مصداقاً لهذه الآية من سورة القصص ((2)) .
وعن الزوال في سورة القصص نجد قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((3)) ، وهذا يشبه إلى حد كبير ما ابتدأت أميركا وإسرائيل والجنود يروه من علامات الزوال:
أميركا وأحداث 11 / أيلول (مقابل فرعون) .
إسرائيل وانتفاضة الأقصى المباركة (مقابل هامان) .
جنود العولمة وحركات مناهضة العولمة (مقابل قارون) .
وهذا من الأدلة على الصدق الإلهي للنص القرآني.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) من ذلك ما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ)) . صَحِيْح البُخَارِي: كتاب الجهاد والسير، باب قتال اليهود 3 /1070 رقم (2767) .
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

(2/102)


ونجد قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْن لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} ((1)) ، إن أميركا تهاوت تحت ضربات أعدائها، وان الأحزاب تغلغلها وتعمها كل العموم في هذا العصر الحديث، مثلما حدث من قبل لفرعون وآله.
ونجد أن الإسلام في العصر الحديث في صحوة بالعودة إلى القرآن الكَرِيم والسُّنَّة النَبَوِيَّة. وهو ما يدل عليه بعض الدلالة قوله تعالى: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((2)) .
ثم نجد أن دلالة قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) ، هي دلالة متجردة تصلح لوصف زوال أميركا بها، وهي في وسط البحار التي تحيط بها والمحيطات، وهذا من عجائب الأقدار الإلهية إغراق فرعون في اليم، وزوال أميركا في أرضها وسط بحارها وحيدة مع جنودها.
ثم نجد في سورة القصص أن قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((4)) ، يدل على قرب زوال أميركا باقتضاء النص لمعانيه الكامنة بين الماضي والحاضر والمستقبل، بل إن هذا النص أجود القواعد القرآنية الدائمة التي حددها العلماء لزوال الأمم والحضارات وفق العقيدة القرآنية.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

(2/103)


ونجد كذلك أن ما يدل على زوال أميركا وإسرائيل في سورة القصص زوال العولمة وتفككها، بدليل قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((1)) الذي نستطيع نحن في القراءة التفسيرية الدينية أن نربط الماضي بالحاضر وصولاً إلى آفاق المستقبل، وذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ، لأن هذه الآية تصف وصفاً معاصراً كيف أن الخسف (مع الإغراق) بكل معانيها الحالية والحقيقة المجازية هو مصير عولمة أميركا الإسرائيلية بـ (الوصف السياسي الحديث) ، وهذا من عجائب إعجاز التنبؤات القرآنية في سورة القصص.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.

(2/104)


المطلب الثاني: مصير الكفرة في العصر الحديث مقارنة بسُوْرَة الْقَصَصِ
من المعروف لدى كافة المفسرين أن النصوص القرآنية في تجددها ذات دلالات تشمل ما مضى وما سيأتي، وأن قواعدها الكلية بمعنى القواعد العامة تشمل كل الناس، وكل الأمم، وكل الأزمنة والأمكنة، وبذلك حللنا في المطالب الماضية علاقة فرعون بأميركا وإسرائيل، وسنحاول في هذا المطلب استعراض الصورة القرآنية لمصير الكفرة في العصر الحديث في سورة القصص من خلال تجدد دلالات الآيات فيها على ما نراه في الصفحات التالية وفق النقاط الآتية أدناه المستنبط بعضها من قوله تعالى فيها في المقارنة بين المؤمنين والكافرين: {أَفَمن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ كَمن مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ من الْمُحْضَرِينَ} ((1)) ، وهذا هو عين وصف مصير الكافرين في الدنيا والآخرة، أما مصير الكافرين في سورة القصص فيتحدد في:
إن الكافر يعلو في الأرض: {إِنَّ فِرْعَوْن علاَ في الأَرْضِ} ((2))
إن مصير المؤمنين وراثة الكافرين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ} ((3)) .
إن الإمامة والوراثة الإيمانية تكون بعد الإمامة والوراثة الكفرية {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((4)) .
إن التمكين الإيماني في مقابل الزلزلة الكفرية: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ في الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) .
إن الهزيمة مصير الكافرين كلهم: {مِنْهُمْ مَا كَانُوا يحذرون} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.

(2/105)


إن وعد الله حق للمؤمنين: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((1)) .
إن الكافر مهما بلغت قوته لا يصل إلى المؤمن: {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((2)) .
إن مصير الاستكبار والكفر الهزيمة والفشل: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) .
إن الكفرة ملعونين في الدنيا مقبوحين في الآخرة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ من الْمَقْبُوحِينَ} ((4)) .
إن مصير الكفر الهلاك: {من بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} ((5)) .
إن الكفرة في مصيرهم يتبعون أهواءهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمن أَضَلُّ مِمن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغير هُدًى من اللَّهِ} ((6))
إن الكفرة لا يهتدون لظلمهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((7))
إن مصير بطر الكافرين هو الهلاك: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((8))
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 40 – 41.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.

(2/106)


إن الهلاك لا يكون إلا بعد ظهور الحجة على الكافرين بظلمهم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((1))
إن العذاب مصير الكافرين: {وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} ((2)) .
العمى مصير الكفرة: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((3)) .
إن القوة والجمع ليست بمنجية من عذاب الكافرين: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ من قَبْلِهِ من القُرُونِ من هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} ((4)) .
إن الخسف مصير الكافرين: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} ((5))
لا ناصر للكافرين بعد العذاب في الدنيا والآخرة: {فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((6)) .
إن الرجوع والمال والمآب والمعاد إلى الله عزَّ وجلَّ: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((7)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 64.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 66.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.

(2/107)


وبهذه النقاط المهمة المستخلصة تحليلياً من مضامين سورة القصص نجد أن لا شيء يعادل الكفرة في كفرهم بالله عزَّ وجلَّ على علم منهم، لذلك كانت آيات سورة القصص تفسر لنا بعض دلالات قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمن يَشَاءُ} ((1)) ، لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، وهذا من استدلالاتنا الحديثة في تحليلنا الاستقرائي المعاصر لدلالات سورة القصص الشريفة.
فلا يغترن أحد بما عليه الكفار اليوم من رغد العيش وتسلط على البشر، وتقدم علمي يريد الله أن يبتليهم به. قال تعالى: {وَالذين كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ من حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ((2)) . هذا من جانب، وأن من سنن الله في خلقه أن من عمل وسعى وبذل جهده وطاقته في تحصيل مقصد وصل إليه، فالمسلمون حين يستجمعون أسباب التوفيق والتمكين المادية والمعنوية فإنهم يصلون في القيادة والريادة إلى ما وصل إليه الغرب وأكثر، فالمسلمون يملكون العون من الله والتوقيف لأنهم حملة دينه، وحماة شرعه.

المطلب الثالث: مبشرات انتصار الإسلام في مفهوم {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}
مع آيات نصر المؤمنين في سورة القصص
في العقيدة الإسلامية الحقة الحقيقية، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة من أهل الحق، نجد تقريرات مهمة لآخر الزمان من عمر الدنيا تشمله كلمتان جامعتان (انتصار الإسلام) .
__________
(1) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 48. و 116.
(2) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآيتان 182 -183.

(2/108)


وذلك هو الوعد الإلهي الذي تكفل به عزَّ وجلَّ للمؤمنين، وجعله ضمن أشراط الساعة قبل أن تقوم الساعة على شرار الناس، وليس على الأرض من يقول (الله … الله) ، كما ورد في حديث النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ((1)) .
ونحن نجد أن ضمن الدلالات الاستنباطية من مفهوم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((2)) ، يمكن لنا أن نفهم منه، وكما فهم بعض القدماء من قبل أن معاد (مكة المكرمة) مع أنه (يوم القيامة) ـ كما قال المفسرون القدماء ـ ((3)) فهماً جديداً ذا دلالات جديدة في موضوع (انتصار الإسلام) .
فالمنة الإلهية بفرض القرآن الكريم على رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اقترنت بلام التوكيد برد الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إلى معاد، يمكن لنا أن نفهمه على أنه انتصار الإسلام مع دلالته الحقيقة على يوم القيامة.
وهذا النص القرآني تعززه شواهد كثيرة في سورة القصص ضمن مبشرات الإسلام بانتصاره، فالدلالة العامة لقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((4)) هي عين الدلالة التي تدل على انتصار الإسلام بعد استضعاف أهله، وإعادة الإمامة العظمى للإسلام ووراثة الإسلام للأرض فينتشر فيها، بعد أن يتمكن المسلمون من الأرض عند زوال قوم الكفر والشرك
(أميركا وإسرائيل ومن تابعهم على حد سواء) .
__________
(1) نص الحديث: ((لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله)) . صحيح مسلم: كتاب الإيمان. كتاب باب ذهاب الإيمان آخر الزمان 1 /131 رقم (148)
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(3) ينظر ص: من هذه الرسالة
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

(2/109)


ودلالة قوله تعالى: {وَلاَ تَخَافي وَلاَ تَحْزَنِي} ((1)) ، يمكن أن تشمل فيما تشمله من دلالات حقيقية أمراً للمسلمين بأن لا يخافوا علو أميركا وإسرائيل، ولا يحزنوا من الهزيمة في معركة إذا ضمنوا من خلال مبشرات سورة القصص ربح الإسلام للحرب كلها.
ودلالات قوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)) ، يستنبط منها أن قرة عين المسلمين بالانتصار الإسلامي القادم الذي أخبر به رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في أحاديث كثيرة متواترة (في الصحيحين والسنن الأربعة والمسند والموطأ) ((3)) ـ سنذكرها لاحقاً ـ سيكون تحقيق للوعد الإلهي الحق، ولكن بعض الناس لا يعلمون ذلك، إما كفراً أو استعجالاً لقدر الله جلَّ جلاله، وهو من الأشياء المنهي عنها.
ونجد في سورة القصص ضمن مبشرات انتصار الإسلام العامة والخاصة المتعلقة بقوله تعالى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، قوله تعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((4)) ، وقد هدي المسلمون بالقرآن الكريم والسنة النبوية إلى سواء السبيل لو انهم تمسكوا بها، فإن تمسكوا بها هدوا إلى ذلك السواء وانتصروا على كل أعداء الإسلام، حتَّى وإن كانوا أشد منهم قوة وجمعاً أو لم يعلموا {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ} ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(3) تقدم تخريجه ص:
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(5) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 165.

(2/110)


ونجد في سورة القصص أن قوله عزَّ وجلَّ: {وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا} ((1)) ، يمكن أن تجعل كل مؤمن ومسلم يتوكل على الله عزَّ وجلَّ ويدعون بدعاء صادق وبدعوتهم لكل أمة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) بالنصر بدليل دعاء موسى لأخيه هارون ـ عليهما السلام ـ بالغيب.
أما قوله تعالى: {أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((2)) ، فإنه شامل لكل من آمن بموسى وهارون ـ عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ والمسلمون جميعاً يؤمنون بهما ويتبعونهما وفق قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ من رُسُلِهِ} ((3)) ، فحقت حقيقة الوعد الإلهية بالغلبة للمتبعين، وهذا من المعاني الدلالية الكامنة.
ونجد في سورة القصص أن قوله تعالى: {وَمن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((4)) ، يشمل أمة الإسلام التي جعلت لها في جاه رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عاقبة الدار، ولا شك أنها اليوم بحاجة ماسة إلى أن تعيد صلتها بعاقبة الدار، لتكون الأمة في انتصارها مع المصطفين الأخيار.
ونجد ضمن مبشرات انتصار الإسلام القادم ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ في سورة القصص قوله عز من قائل: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((5)) ، فدلت هذه الآية في بناءها ومعناها أن عاقبة الظالمين تشمل كل ظالم، كافر في كل جيل من الأجيال القديمة والحديثة والقادمة على حد سواء، وهذا وعد من الوعود الإلهية الغنية بانتصار الإسلام.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35.
(3) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 285.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.

(2/111)


ولعل ذلك هو المقصود بقوله تعالى ـ وهو عندي أبلغ الأدلة من سورة القصص على انتصار الإسلام ـ إذ يقول جلَّ جلاله: {أَفَمن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ} ((1)) .
ومن بشارات انتصار الإسلام في سورة القصص قوله جلَّ جلاله {فَأَمَّا من تَابَ وَآمن وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ} ((2)) ، والفلاح في بعض معانيه النصر والظفر والفوز والغنيمة في الدنيا والآخرة.
ومن مبشرات انتصار الإسلام في سورة القصص قوله عزَّ وجلَّ فيها: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} ((3)) ، ونحن نعلم أن الحق الذي وعد الله عزَّ وجلَّ به هذه الأمة هو النصر على أعدائها، وإعلاء كلمة الله جلَّ جلاله العليا.
ثم نجد في سورة القصص حقيقة قرآنية هي قوله عزَّ وجلَّ في وصف ديمومة الانتصار الإسلامي في الدنيا والآخرة، ضمن مبشرات سورة القصص، وذلك قوله عزَّ وجلَّ في وصف الآخرة والدنيا باب الآخرة: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * من جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها} ((4)) .
والمسلمون من صفاتهم الجماعية:
إنهم لا يريدون علو في الأرض.
إنهم لا يريدون الفساد.
إن التقوى لهم.
انهم يجيئون بالحسنة.
انهم يعرفون مزية الإحسان بالتقوى والحسنات.
فدلت هذه الصفات بمجموعها على وجود مبشرات كثيرة على الانتصار الإسلام ـ إن شاء الله العلي العظيم بحوله وقوته ـ.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 83 –84.

(2/112)


ونجد بعد ذلك في سورة القصص قوله تعالى: {إِلاَ رَحْمَةً من رَبِّكَ} ((1)) ، وديمومة الرحمة في كلّ شيء تدلّ على انتصار الإسلام، وفق هذه المبشرات التي وردت في سورة القصص، والتي يمكن لنا من استخلاص نتائجها أن نقرر استناداً لها أن انتصار الإسلام والمسلمين قريب قادم على ما تقدم بيانه في هذا المطلب والمطالب التي سبقته من مباحث هذا الفصل، فإننا باستبشارنا بنصر الله لهذه الأمة استندنا إلى عدة أسباب جاء قسم منها في سُوْرَة الْقَصَصِ وفي غيرها، وهي:
تحريم اليأس: فلا يجوز للمسلم أن ييأس أبداً، فاليأس قرين الكفر والضلال.
بشارة المؤمنين بنصر الله.
الصراع الدائم بين المسلمين وأعدائهم، دال على قوة المسلمين وخوف الأعداء منهم، لذا كانوا وما زالوا يكيدون للإسلام والمسلمين لما يرونه في الإسلام من مظاهر القوة.
الصحوة التي يشهدها الإسلام اليوم والرجوع الصادق إلى الله تعالى.
التاريخ المجيد للأمة العربية الإسلامية الذي يمد المسلمين بالعبر وما فيه من دروس تجاوزت فيها الأمة المحن.
واقع الحضارة الغربية الآيلة للانهيار، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وأما الرأسمالية التي تمثلها اليوم أمريكا، فإن واقع المجتمع الأمريكي يحمل أسباب دماره وهلاكه، جراء تفشي الأمراض الخطرة في ميادين الحياة كافة. وسنعرض بعض الحقائق المهمة التي ربما كانت غائبة عن عيون المنبهرين بالغرب وبحضارته الزائفة، ففي ذلك يقول كولن ولسن يصف عمران نيويورك وازدهارها المادي بأنه " غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء " ((2)) . فالعاصمة الأمريكية عاصمة الخوف والجريمة، يستيقضون كلّ صباح على جريمة قتل، أو سرقة، أو غير ذلك من الجرائم التي ترتكب ببشاعة. وأن عدد الجرائم قد زادت
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(2) الإيمان والحياة. د. يوسف القرضاوي. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1394 هـ ـ 1979 م.: ص 86.

(2/113)


المطلب الرابع: القواعد الكلية للمجتمعات الإنسانية في سُوْرَة الْقَصَصِ
من المعلوم شرعاً وعقلاً أن هنالك في كل أنواع الفكر السياسي القديم والحديث قواعد كلية تسير عليها الأمم في سلوكياتها العامة للأخذ بالدين والدنيا، والحاضر والمستقبل. وهو ما يطلق عليه في علم السياسة الحديث اسم (قيم الأمم) .
وفي القرآن الكريم مجموعة واسعة موحدة من هذه القواعد الكلية الشمولية التي تصلح في كل عصر، وفي كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل أمة من الأمم، على اختلاف توجهاتها الفكرية والدينية والخلقية، وتستوي في ذلك الحضارات والثقافات والقوميات والأعراف، لأن هذه القواعد السياسية (وعندنا ما أسميناه القواعد الكلية القرآنية) تصلح بمجملها لكل المجتمعات الإنسانية.
ونجدها في القرآن الكريم إما مفرقة أو مجموعة في مكان واحد، وهذه القواعد يمكن وصفها بأنها تحوي الصادق، كون مصدرها إلهي غير إنساني، بمعنى أنه كما لا يخفى لا يتطرق إليه الخطأ، وحاشا لله سبحانه وتعالى.
وفي استعراضنا لسورة القصص في هذا الفصل بمجمله الذي هو أشبه بالقراءة السياسية التأويلية لمضامينها ومعانيها، نجد أن سورة القصص أكدت على جملة من هذه القواعد الكلية التي هي عامة غير خاصة لكل المجتمعات الإنسانية.
وسوف نحاول هاهنا عرضها وفق الفهم التحليلي التأويلي الحديث، بمعنى أننا سنعطي القاعدة، ثم دليلها من سورة القصص للوصول أثناء ذلك إلى تمثل أكبر وأدق وأشمل وأكمل لكل الأهداف التي احتوتها سورة القصص في معانيها الظاهرة
والباطنة:
إن لكل أمة أو مجتمع إنساني وقتاً للاستضعاف ووقتاً للنصر {وَنُرِيدُ أَنْ نَمن عَلَى الذين اسْتُضْعِفُوا في الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((1)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.

(2/114)


إن الظالم في طغيانه لا بد له من ملاقاة ما يحذره {وَنُرِي فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((1)) .
إن الظالم الخاطئ لا بد له من عدو يحزنه قد يكون قريباً منه {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْن وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} ((2)) .
إن الوعد الإلهي صادق مهما طال الزمن. {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((3)) .
إن جزاء كل محسن الحكم والعلم. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكما وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((4)) .
إن القتل الخطأ من عمل الشيطان لعنه الله بلعنته {فَوَكَزَهُ موسى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هذا من عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبين} ((5)) .
إن المعجزات الإلهية لا تماثلها خارقات العادة ولا الكرامات. {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ من رَبِّكَ} ((6)) .
إن من جعل الله عزَّ وجلَّ له سلطاناً فليس بواصل إليه أحد {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكما سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكما بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتَّبَعَكما الْغَالِبُونَ} ((7)) .
إن التقليد المخطوء في العقائد سنة الجهلة. {مَا هذا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهذا في آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 35.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.

(2/115)


إن الملك في علم الله جلَّ جلاله. {رَبِّي أَعْلَمُ بِمن جَاءَ بِالْهُدَى من عِنْدِهِ وَمن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ((1)) .
لا فلاح لظالم. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((2)) .
إن استكبار الظالم وجنوده مصيرهم الهلاك. {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ في الأَرْضِ بِغير الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ في الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} ((3)) .
إن الظالم ملعون دائماً وأبداً في الدنيا والآخرة. {وَأَتْبَعْنَاهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} ((4)) .
إن طول العمر مضل للأمم ومجتمعاتها. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((5)) .
إن التكذيب لله ورسله قد يكون خاصاً وعاماً بذريعة أو بغير ذريعة {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ من عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ موسى من قَبْلُ} ((6)) .
إن اتباع الهوى مضل. {أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمن أَضَلُّ مِمن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغير هُدًى من اللَّهِ} ((7)) .
لا هداية للظلمة. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 39 - 40.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 42.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 48.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.

(2/116)


إن الهداية الإلهية للمجتمعات الإنسانية بأمر الله عزَّ وجلَّ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي من أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((1)) .
إن البطر مؤداه الهلاك. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا من قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((2)) .
إن مساكن الأمم والمجتمعات الهالكة قليلاً ما تسكن من بعدهم {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ من بَعْدِهِمْ إِلاَ قَلِيلاً} ((3)) .
إن وراثة الملك لله عزَّ وجلَّ وحده. {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((4)) .
إنه لا هلاك إلا بعد إنذار لأي مجتمع من المجتمعات. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((5)) .
أن كلّ ملك زائل. وَمَا أُوتِيتُمْ من شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ((6)) .
أن الغوي قد يغوي الآخرين. أَغْوَيْنَاهُمْ كما غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} ((7))
أن التوبة والعمل الصالح نتيجتهما الفلاح. {فَأَمَّا من تَابَ وَآمن وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ من الْمُفْلِحِينَ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 60.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 63.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67. 

أن العلم مهما تطور لا يمكن إيجاد الخلق فيه. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ((1)) .
أن كل فرية تضل في الدنيا والآخرة. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ((2)) .
لا قيمة للفرح الإنساني بالمال. {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((3)) .
الموازنة بين الدنيا والآخرة من رجاحة العقل. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا} ((4)) .
أن الفساد مؤداه الهلاك في الأمم والمجتمعات. {وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((5)) .
أن التقانة العملية والتطور والتقدم في المعارف لا يعني الخروج من الهلاك الساحق بالكفر والظلم. {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ من قَبْلِهِ من القُرُونِ من هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} ((6)) .
أن الأجرام لا يحتاج إلى إيضاح. {وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} ((7)) .
أن الهلاك الضاري لا ناصر له ولا يُنصر. {فَمَا كَانَ لَهُ من فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ من دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ من المُنْتَصِرِينَ} ((8)) .
لا فلاح لكافر مهما بلغ ماله من الكثرة. {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ((9)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82. 

 إن الحسنة والسيئة لهما جزاء محدد من الله عز وجل لكل المجتمعات. {من جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((1)) .
أن النصر الإلهي لا بد أن يأتي لمن آمن وعمل بالكتاب. {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((2)) .
إنه لا يجوز أن يكون المؤمن ظهيراً للكافر. {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((3)) .
أن كل الكون زائل ولا يبقى إلا الله عز وجل. {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((4)) .
إن الحكم لله عز وجل. {لهُ الْحُكْمُ} ((5)) .
أن الرجوع في الدنيا والآخرة لله عز وجل. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((6))
وبذلك يمكن بالابتعاد عن القواعد المذمومة، والقرب من القواعد المحمودة، والإيمان بما يجب الإيمان به منهما، أن تتوحد المجتمعات الإنسانية كلهما، إلى العودة إلى الفطرة الإلهية من خلال هذه القواعد الكلية الثبوتية حكما في سورة القصص الشريفة.
الخاتمة
وبعد فقد كانت هذه الأطروحة محاولة للقيام بتحليل سورة منفصلة على حدة وإبراز مكانتها التي تدل على ما فيها من عظات وعبر.
وإذ أعانني الله جَلَّ جَلاَله على إتمامها أجدني قد توصلت من خلال عملي إلى جملة من النتائج والاستنتاجات التي ظهرت من البحث نفسه أوجزها في النقاط الآتية
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88. 

 إن هذه السّورة في حد ذاتها ضمن سياق باقي السور القرآنية، فيها دلالات متعددة، وأوجه مختلفة للإعجاز القرآني. ولعل صيغها اللغوية وما يستنبط من تلك الصيغ من معانٍ وأفكار كان أحد تلك الأوجه.
إن في سُوْرَة الْقَصَصِ ربطاً متواصلاً لماضي التاريخ وحاضر الدعوة ومستقبل الأمة.
إن النصّ القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ يمكن وصفه بأنه نص متحرك المعاني والدلالات بمعنى أنه يصلح في جملة معانيه وجملة دلالاته لفهم أدق للإيمان الواحد والمصير الواحد والمآل الواحد.
كانت سُوْرَة الْقَصَصِ إحدى السور التي امتازت ببناء الجملة الطويلة وتعداد آلاء الله عَزَّ وجَلَّ وتأسية رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بما مضى وتلك بعض خصائص السور المكية.
تبرز في سُوْرَة الْقَصَصِ إرشاداتها الوعظية رداً على جميع أولئك الذين رفضوا تحكيم شرع الله وحاولوا الخروج على السنن والحدود الإلهية.
أبرزت سُوْرَة الْقَصَصِ معالم تكون الأمة والدولة والمصير الذي يصيب الطغاة بقوته، أو بماله.
إن النصّ القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ هو نص متدرج في مقاطع يرتبط بعضها ببعض وفي ذلك رد على تلامذة المستشرقين الذين لمحوا إلى تفكك النصّ القرآني.
إن القصة القرآنية في سُوْرَة الْقَصَصِ وفي باقي سور القرآن الكريم استناداً إلى ذلك هي نص تاريخي واقعي وليست رمزاً، أو أسطورة، كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين ممن أعماهم الحقد على الإسلام.
إن قضية تكرر القصة القرآنية في عدة آيات بصيغة متشابه أو مختلفة هي بعض مناحي الإعجاز الوصفي في القرآن الكريم، وذلك لأن الصياغة إذا اختلفت في الأمر الواحد دلت على القدرة في بلاغة الوصف وهكذا فإن قصة موسى ـ عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ في سُوْرَة الْقَصَصِ هي صياغة أخرى للقصة نفسها، ولكن وقف جمل وعبارات تؤدي معاني أرادها الله في موضعها.  إن المعنى العام في سُوْرَة الْقَصَصِ يؤكد تأكيداً كلياً على أن أي قوة عسكرية أو أي فساد وطغيان، وأي اقتصاد أريد به الإفساد في الدنيا، إنما يكون مآلهم إلى الهلاك.
بشرت سُوْرَة الْقَصَصِ برسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وللأمة من بعده بحتمية النصر الإلهي مها طال الزمن أو مهما استبد الطغاة بطغيانهم.
إن الأهداف العامة في سُوْرَة الْقَصَصِ تؤكد على أن وراثة الأرض لا تكون إلا للمؤمنين وأنه لا بد من مآل ورجوع إلى الوطن والأمة في أحلك أوقات الأزمات وهو وعد إلهي تحقق وسيتحقق.
تحتوي سُوْرَة الْقَصَصِ على أسس متكاملة لقواعد بناء الدولة في المنظور السياسي والأخلاقي وهي بذلك تنطق بالواقع وتقدم الصورة المثلى للدولة لئلا تظاهر كافراً، أو طاغية، أو تغتر بهما.
إن القيم الأخلاقية في السّورة هي منظومة سلوكية تجعل الإنسان الملتزم بها يتخلق بأخلاق القرآن الكريم.
إن تطور تفسير القرآن الكريم في ربطه للماضي بالحاضر بين قدامى المفسرين ومحدثيهم ودارسي النصّ القرآني كلياً وجزئياً أبرز لنا أن سُوْرَة الْقَصَصِ ما زالت تحتمل تفسيرات حديثة تنطق بالواقع المعاصر وهكذا فإن إلحاح العالم الإسلامي في تصريحاته وخطبه على تشبه دولة فرعون بالولايات المتحدة الأميركية وقادتها بقائدها، يمكن أن تجد بعض جوانب الصحة في القراءة المعاصرة لسُوْرَة الْقَصَصِ.
إن سُوْرَة الْقَصَصِ كانت لها أغراض ومقاصد تتناسب مع فترة نزولها، والبيئة التي نزلت فيها.
إن آيات السّورة قد تناسبت وتناسقت في التحليل البلاغي في انتظام بما قبلها وما بعدها بل وتناسبت في مقاطعها بين أولها وآخرها.
تضمنت سُوْرَة الْقَصَصِ صوراً بلاغية وحكمة في استخدام الجمل 

إن هناك مجموعة من دلالات التوحيد التي أظهرت أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي بيده كلّ شيء وهو المتفرد بالوحدانية وأنه هو المؤثر في هذا الكون، ودلالة وصف المرأة التي كانت في سُوْرَة الْقَصَصِ أماً وزوجةً في إيمانها بالله عَزَّ وجَلَّ، وقد أبرزت أن قيمة الزمن في السّورة قيمة متجددة، ثُمَّ أبرزت دلالات التربية والسلوك، وتحتوي على قواعد شمولية سبقت العلم الحديث.
إن الشخصية الإسرائيلية اليهودية في سُوْرَة الْقَصَصِ تتراوح بين ثلاثة أقسام هي: الذلة والضعة. الاعتداء والبغي. الكفر بالمال والحسد.
إن للمال مفهوماً وغاية في سُوْرَة الْقَصَصِ فمفهومه أنه يصيب الحياة الدنيا وغايته الاستعانة به على الحياة الدنيا وليس نتيجة الوجود بحد ذاته عن علم، أو عن غير علم.
إن أسلوب الدعوة في سُوْرَة الْقَصَصِ يظهر كيف أن التدريج في خطاب الدعاة، إنما يقر الإيمان في النفوس رويداً رويداً.
إن في سُوْرَة الْقَصَصِ نظرة قرآنية ذات مفهوم متكامل للإنسان، أي إنسان في مبدأ أمره وخاتمته وفق قربه من الهداية أو بعده منها.
إن الإيمان بمعنى الإقرار بالقلب واللسان في سُوْرَة الْقَصَصِ هو نتيجة للهداية التي تنسب لله عَزَّ وجَلَّ وحده.
أبرزت سُوْرَة الْقَصَصِ شخصية فرعون الذي حارب موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ وبينت أنه حكم في الأرض وفرق أهلها وذلك مطابق للاكتشافات الأثرية الحديثة.
إن في سُوْرَة الْقَصَصِ أحكام فقهية بالاستقراء المقارن بمعنى دلالة القصة على واقعة تستوجب حكمها الفقهي وهو ما فعلته في بعض مطالب السّورة تأسياً بالمفسرين القدامى. 

 إن هنالك فرقاً بين الرواية التوراتية في سفر الخروج لقصة موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ، وبين الرواية القرآنية لقصة موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ في سُوْرَة الْقَصَصِ، وذلك بالمقارنة النقدية بين العهد القديم والقرآن الكريم، وقد توصل الباحث استناداً إلى ذلك إلى أهمية الرواية القرآنية وتفوقه على تلك الرواية الأخرى من خلال احتوائه على دقائق التاريخ ومعالم التوحيد.
إن للرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صورة متكاملة تنبض في النصف الثاني من سُوْرَة الْقَصَصِ من خلال دلائل القرآن على صدقه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وإيمان طوائف أهل الكتاب بدعوته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ على وفق معالم الهداية البيانية، والهداية التوفيقية.
إن هنالك تشابهاً بين قصة موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ ابان بصفته، وما تعرض له من أذى مع فرعون موافقاً لما جرى لرسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ابان دعوته وما جرى له مع فراعنة قريش.
إن هناك سنناً إلهية في نظرية سقوط الحضارات تبرز واضحة في سُوْرَة الْقَصَصِ مع القواعد الكلية لنظم المجتمعات.
إن العولمة الحديثة تشبه في اعتمادها على الكفر والعلم كنوز قارون المعتمدة على الكفر بالله تعالى، وما نسبه لنفسه من علم وأن مآل الجميع إلى التفكك.
إن في سُوْرَة الْقَصَصِ مبشرات بانتصار الإسلام على كلّ من حاربه من قبل ومن بعد، وتبعاً للقياس بأحاديث رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهذه المبشرات ينبغي أن تبرز كلما أصاب الأمة الوهن، لأن الوعد الإلهي متحقق لا محالة.
لقد كانت هذه النتائج والاستنتاجات بعض ما خرجت به مما يتسع به المقام ههنا، غير أني أجدني قد توصلت من خلال تحليلي لسُوْرَة الْقَصَصِ إلى نتيجة كلية توصل إليها القدماء وستبقى كذلك إلى الأبد، هي: وحدة وتماسك النصّ القرآني كلياً.

  ولا يسعني في ختام هذه الدراسة بعد ما تقدم إلا أن أترك عملي هذا بين يدي القارئ الكريم مطلعاً عليه، تاركاً له وحده الحكم على ما بذلته من جهد، علم الله عَزَّ وجَلَّ إنني لم أقصر في اجتهاده، غير أني أقر بأن عملي لا يخلو من قصور. وقديماً قال الإمام المزني في حق بعض كتبه أبى الله أن يكون كتاباً كاملاً إلا كتابه، وإذا وقف بي القلم حامداً شاكراً مصلياً مسلماً، أسأل الله عَزَّ وجَلَّ أن يتقبل مني هذا العمل خدمة لكتابه الكريم، واعتزازاً بدينه القويم، وأردد ههنا قوله عَزَّ وجَلَّ:
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ((1)) .
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 8. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق