رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين جمع وترتيب: إسلام محمود دربالة
رسول الإسلام =محمد =ص=
صلى الله عليه وسلم
خاتم الأنبياء والمرسلين
جمع وترتيب
إسلام محمود دربالة
الناشر دار الآفاق
للبحث العلمي والنشر والترجمة
www.afaak.net
info@afaak.net
(1/1)
مقدمة
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف - صلى الله عليه وسلم-.
ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون.
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له.
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلا قليل، فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد، علماً من أعلام نبوته، ونصراً لأمر الله، لا للأشخاص.
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث:
لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني ... على الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
(1/2)
فاستل العداوات، ومحا السخائم، وألّف القلوب، وأعاد اللُّحمة، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي ولا باني مجد ذاتي، وإن كان الطموح والمجد لبعض جنوده.
تعجب من عفويته وقلة تكلفه في سائر أمره، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق.
قل إنسان إلا وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال ويستتر في بعض، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته حاشاه -صلى الله عليه وسلم-.
فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس، ويخاطب كل قوم بلغتهم، ويحدثهم بما يعرفون، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق، إلا أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه.
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه، وكل فرد أقبل فهو جليسه.
ما تكلف مفقوداً، ولا رد موجوداً، ولا عاب طعاماً، ولا تجنب شيئاً قط لطيبه، لا طعاماً ولا شراباً ولا فراشاً ولا كساءً، بل كان يحب الطيب، ولكن لا يتكلفه.
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه، وقسمات وجهه، وصفة شعره، وكم شيبة في رأسه ولحيته، وطريقة حديثه، وحركة يده، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله، ومشربه، ومركبه، وسفره، وإقامته، وعبادته، ورضاه، وغضبه، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجه أمهات المؤمنين في المعاشرة، والغسل، والقسم، والنفقة، والمداعبة، والمغاضبة، والجد، والمزاح، وفصلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها.
ولعمر الله إن القارئ لسيرته اليوم ليعرف من تفصيل أمره ما لا يعرفه الناس عن متبوعيهم من الأحياء، ومالا يعرفه الصديق عن صديقه، ولا الزوج عن زوجه، ولا كان أهل الكتاب يعرفونه شيئاً يقاربه أو يدانيه عن أنبيائهم وهم أحياء؛ وذلك لتكون
(1/3)
سيرته موضع القدوة والأسوة في كل الأحوال، ولكل الناس.
فالرئيس والمدير والعالم والتاجر والزوج والأب والمعلم والغني والفقير ...
كلهم يجدون في سيرته الهداية التامة على تنوع أحوالهم وتفاوت طرائقهم.
والفرد الواحد لا يخرج عن محل القدوة به -صلى الله عليه وسلم- مهما تقلبت به الحال، ومهما ركب من الأطوار، فهو القدوة والأسوة في ذلك كله.
وإنك لتقرأ سيرة علم من الأعلام فتندهش من جوانب العظمة في شخصيته فإذا تأملت صلاحيتها للأسوة علمت أنها تصلح لهذا العلم في صفته وطبعه وتكوينه، ولكنها قد لا تصلح لغيره.
ولقد يرى الإنسان في أحوال السالفين من الجلد على العبادة، أو على العلم، أو على الزهد ما يشعر أنه أبعد ما يكون عن تحقيقه حتى يقول لنفسه:
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
فإذا قرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحس بقرب التناول وسهولة المأخذ، وواقعية الاتباع.
حتى لقد وقع من بعض أصحابه ما وقع فقال لهم ((أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له)) متفق عليه.
وقال ((اكلفوا من العمل ما تطيقون)) رواه البخاري ومسلم.
وقال: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا)) رواه البخاري ومسلم.
ولهذا كان خير ما يربى عليه السالكون مدارسة سيرته وهديه وتقليب النظر فيها وإدمان مطالعتها واستحضار معناها وسرها، وأخذها بكليتها دون اجتزاء أو اعتساف.
إن الله -عز وتعالى- لم يجعل لأحدٍ وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المنصب الشريف: منصب القدوة والأسوة؛ لأنه جمع هدى السابقين الذين أمر أن
(1/4)
يقتدي بهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] إلى ما خصه الله -تعالى- وخيَّره به من صفات الكمال ونعوت الجمال، ولهذا قال -سبحانه-: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
إن حياته -صلى الله عليه وسلم- وحياة خلفائه الراشدين هي المذكرة التفسيرية والترجمة العلمية لنصوص الشريعة.
وكثيرون من المسلمين، وربما من خاصتهم يستهويهم التأسي بالأحوال العملية الظاهرة في السلوك والعبادة وغيرها، فيقتدون به -صلى الله عليه وسلم- في صلاته ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) وحجّه ((خذوا عني مناسككم)) وسنن اللباس والدخول والخروج ...
وهذا جزء من الاتباع المشروع، بيد أنه ليس كله، ولا أهم ما فيه، فإن اتباع الهدي النبوي في المعاملة مع الله تعالى، والتجرد والإخلاص، ومراقبة النفس، وتحقيق المعاني المشروعة من الحب والخوف والرجاء أولى بالعناية وأحق بالرعاية، وإن كان ميدان التنافس في هذا ضعيفاً؛ لأن الناس يتنافسون –عادة- فيما يكون مكسبة للحمد والثناء من الأمور الظاهرة التي يراها الناس، ولا يجدون الشيء ذاته في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله، وربما تحرى امرؤ صفة نبوية في عبادة أو عمل واعتنى بها وتكلف تمثلها فوق المشروع، دون أن يكلف نفسه عناء التأمل في سر هذه الصفة وحكمتها وأثرها في النفس.
وهذه المسائل، حتى التعبدية منها؛ ما شرعت إلا لمنافع الناس ومصالحهم العاجلة والآجلة، وليست قيمتها في ذاتها فحسب، بل في الأثر الذي ينتج عنها فيراه صاحبه ويراه الآخرون.
وقد جمعت من بطون الكتب والمؤلفات هديه صلى الله عليه وسلم وشمائله ووصفه وخصائصه، ومعجزاته، إلى غير ذلك من جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم.
(1/5)
مع ذكر نقولاتٍ من الكتب السابقة والتي اشتملت على البشارات ببعثته وبزوغ دينه وعلو شأنه.
إضافة إلى التعريف بهذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله عز وجل للبشرية ليكون الدين الخاتم الذي لا نجاة إلا باتباعه والدخول فيه فببعثته صلى الله عليه وسلم صار الإسلام هو الدين المهيمن على الدين كله، وقد بينت طرفًا من عظمة الإسلام وسماحته، وخصائصه وفضائله.
وتجد في ثنايا الكتاب ردًا لشبهات أهل الغي والبطلان حول نبينا صلى الله عليه وسلم ودينه الخالد حتى تقوم الساعة.
وقد ألمحت إلى موقف الغرب من ديننا ونبينا عليه السلام، وختمت الكتاب بدعوة إلى نصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فهلموا معاشر الأنصار، يا حماة الإسلام ويا دعاة العقيدة الصحيحة بينوا دينكم واصدعوا بآيات كتاب ربكم، وأسمعوا الدنيا نداء الحق، حتى تبرأ الذمة وتقوم الحجة ويصير الدين كله لله أو نهلك دونه.
رزقنا الله حب نبيه وحسن اتباعه ظاهراً وباطناً وحشرنا في زمرته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وكتب
إسلام محمود دربالة
islamderbalah@hotmail.com
(1/6)
نور الرسالة المحمدية
يشرق على الأرض
جاء الإسلام، وقد أصاب الديانات السائدة في العالم الانحلال والبوار، فالمشركون الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم كانوا بعيدين عن أوامر ونواهي شريعة إبراهيم، مهملين ما أتت به من مكارم الأخلاق. وكثرت فيهم المعاصي، ونشأ فيهم على توالى الزمان ما ينشأ في الوثنيين من عادات وتقاليد تجرى مجرى الخرافات الدينية، وأثرت في الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية تأثيرًا بالغًا جدًا.
أما اليهودية، فقد انقلبت رياء وتحكمًا، وصار رؤساؤها أربابًا من دون الله، يتحكمون في الناس ويحاسبونهم حتى على خطرات النفس وهمسات الشفاه، وجعلوا همهم الحظوة بالمال والرياسة وإن ضاع الدين وانتشر الإلحاد والكفر، والتهاون بالتعاليم التي حض الله عليها وأمر كل فرد بتقديسها.
وأما النصرانية، فقد عادت وثنية عسرة الفهم، وأوجدت خلطًا عجيبًا بين الله والإنسان، ولم يكن لها في نفوس العرب المتدينين بهذا الدين تأثير حقيقي؛ لبعد تعاليمها عن طراز المعيشة التي ألفوها، ولم يكونوا يستطيعون الابتعاد عنها.
وأما سائر أديان العرب: فكانت أحوال أهلها كأحوال المشركين، فقد تشابهت قلوبهم، وتواردت عقائدهم، وتوافقت تقاليدهم وعوائدهم.
ولما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السَّوِيق والماء، ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة ـ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ـ فيقيم فيه شهر رمضان، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما
(1/7)
وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ. . . دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.
جبريل ينزل بالوحي
ولما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل ـ بدأت طلائع النبوة تلوح وتلمع، فمن ذلك أن حجرًا بمكة كان يسلم عليه، ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن.
كان ذلك يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، وقد وافق 10 أغسطس سنة 610 م.
وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا.
(1/8)
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبوة، وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ، قالت عائشة رضي الله عنها.
أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: قال: (ما أنا بقارئ)، قال: (فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 1: 3])، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: (زَمِّلُونى زملونى)، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: (ما لي؟) فأخبرها الخبر، (لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأي، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجيّ هم؟) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي.
(1/9)
البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة
يقول القس السابق / إبراهيم خليل فيلبس الذي تسمى بعد أن من الله عليه بنعمة الإسلام واتباع شريعة خير الأنام, يقول في كتابه: (محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن)
"في ذروة العمل الديني كقسيس راعي الكنيسة الإنجيلية، وأستاذ العقائد واللاهوت بكلية اللاهوت الكندية بأسيوط، وزميل للمراسلين الأمريكيين والسويسريين والألمانيين بمصر، وكضالعٍ معهم في الحركة التبشيرية من قمة هذا العمل, بدأت دراسة مقارنة للإسلام مع المسيحية من عام 1955 حتى 25/ 12/1959 عندما أعلنت إسلامي بمصر, ثم اتخذت الإجراءات القانونية لإشهار الإسلام، وكان عمري وقتئذ 40 سنة, واليوم قد بلغت 13/ 8/1982 – 13/ا/1919 بلغت 63 سنة وسبعة شهور.
أقول ويقول كبار اللاهوتيين المعاصرين:- بالرغم من البصمات البشرية الفادحة من زيادةٍ وحذف، ومن تغييرٍ وتبديل، ومن إسقاطٍ وإقحامٍ في أسفار الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) فإنه لازالت أجزاءٌ برمتها على حالتها الأولى فلم تصب ببصماتٍ بشريةٍ على الإطلاق, ظلت أصلية, برهانٌ ساطع على قطعٍ من التوراة الأصلية, وقطع من مقالات المسيح عيسى بن مريم الأصلية، وهي الإنجيل الأصلي, نعم فالكتاب المقدس المتداول الآن على اختلاف الترجمات في عصرنا هذا، وأمامي نسخة للترجمة العربية البيروتية / الطبعة الثامنة – عام 1936 بمعرفة جمعية التوراة الأمريكية المنشأة عام 1816 بنيويورك، لا زال يشمل أجزاءً هامة ووحيدة للتوراة والإنجيل الحقيقيين, وهي كثيرةٌ والحمد لله, حتى أن كل من يؤمن بالله وبرسوله المسيح عيسى بن مريم ويتبع الكتاب المقدس تمامًا في حالته الراهنة، فإن الكتاب المقدس بما يشمله من أجزاء أصلية
(1/10)
سيقوده إلى الإسلام ولا ريب. إن أولئك الذين يتبعون تعاليم موسى تمامًا، وأولئك الذين يتبعون تعاليم عيسى تمامًا عليهما السلام، حتى في حالتهما المتداوله إنما يقادون بفضل الله ونعمته إلى إنجاز وإيفاء ما يطلبه الله منهم.
ولا ريب أن هذا الاختيار الروحي قد مارسه ذوو العقول المتحررة, والقلوب المتعطشة إلى معرفة الحق، ولا غرو أن أقدم ذاتي مثالاً حيًا حتى بعد أن جاوزت الثالثة والستين من العمر أن الله شرح صدري للإسلام فأخذت طريقي إليه هجرةً إلى الله ورسوله.
يحتوي الكتاب المقدس على نصوص شديدة الوضوح حول رسالة وشخصية الرسول النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، وضوحًا بينًا لا لبس فيه.
حتى إن كثيراً من اليهود والنصارى الغيورين ليسعدون بقبول محمدٍ رسولاً نبيًا بعد ظهوره.
ولكن القرون اللاحقة للمنازعات اللاهوتية، والتي انعقد لأجلها العديد من المجامع المسكونية، شهدت موجةً رهيبةً ومحمومةً لتدوين المخطوطات المقدسة, وما أصابها من تحويرٍ وتنقيحٍ وزيادةٍ ونقصٍ وحذفٍ وإقحامٍ، كانت هذه البصمات البشرية في تدوين الكتاب المقدس غشاوةً سميكةً تخفي الحقيقة، وفي هذه القرون، ولد قانون الإيمان وغشي بشروحاتٍ مذهبية، فإذا ما نحيت هذه وتلك فإن الحقيقة ستظهر في جلاءٍ ووضوح، ومن ثم يستطيع العلماء الباحثون أن يهتدوا إلى الخيوط الربانية.
نحن معاشر المسلمين نؤمن أن التوراة الأصلية والإنجيل الأصلي موحَى بهما من الله على عبديه ورسوليه موسى وعيسى عليهما السلام، ونحن معاشر المسلمين نعلم أن المسيح عيسى ابن مريم بعثه ربه رسولاً إلى بني إسرائيل، فلما ابتدأ رسالته الجهارية بينهم، وجد أن توراة موسى قد تعرضت لبصماتٍ بشريةٍ, فلقد فقدت في عهد مملكة يهوذا، واكتشفت في أيام يوشيا ملك يهوذا، ثم تعرضت للضياع حتى الغزو البابلي في عهد نبوخذ نصر ملك بابل, ثم أعيد تدوينها بعد عودة اليهود المسبيين في بابل إلى أرض فلسطين في عهد كورش ملك الفرس، من ثم تعرضت التوراة إلى عوامل تغيير جسيمة وخطيرة للغاية, لقد تعرضت في إعادة التدوين إلى اللامبالاه، وإضافات توحي
(1/11)
بمذاهب وعقائد المحررين والنساخ، ومع هذا فإن المسيح رأى فيها أجزاء ما زالت على أصلها من وحي الله دون أن تمسه يدٌ ولا فكرٌ بشري؛ ولهذا جاهر بقوله لليهود المتعنتين وغيرهم: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل, فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحدٌ أو نقطةٌ واحدةٌ من الناموس حتى يكون الكل" [إنجيل متى 17:5 – 18] , وبهذا التصريح فإن المسيح ابن مريم يصادق على جوهر التوراة، ولقد تعرض إنجيل المسيح عبر ستمائة سنة مثلما عانت التوراة من البصمات البشرية فضلاً عن رداءة الخط في التدوين والنسخ, بالإضافة إلى المخطوطات العبرية والآرمية واليونانية التي أُعد بها كتاب العهد الجديد.
يقول كيرت: [ Curtkuhi, theolatestament. Its Original Composition]
[London, 1061 \ PP. 74.51.52]
" إن الكتاب المقدس المتداول حاليًا لا يحتوي على التوراة والإنجيل المنزلين من الله، ولقد اعترف علماء باحثين أنفسهم باللمسات البشرية في إعداد هذا الكتاب المقدس".
ويقول جيمس هيستنج:
James Hasting, Dictionury of the Bible (new york, 1963) P, p 567 - 569
" ومع هذا فإننا نتوقع أن نجد خلال صفحات الكتاب المقدس بعض الأجزاء من التوراة والإنجيل الأصليين مما يتحتم معه دراسة جادة؛ لكي تجعل مضمون الكتاب المقدس مفهومًا" إن ما يتميز به الكتاب المقدس حتى في حالته الراهنة، هو أنه يشير إلى أن التنزيل الإلهي إنما يتوالى على من اصطفاهم الله لحمل رسالته من الأنبياء والمرسلين، وسيكمل التنزيل بالنبي الخاتم، نبيٌ وحيدٌ واحدٌ مميز، ورسالته ستكون مستوعبةٌ ومهيمنةٌ، ونبوته ستكون عالمية حتى إنه لن يكون هناك حاجةٌ لرسولٍ بعده.
بشارات من التوراة:
لقد تنبأ سيدنا موسى عليه السلام ببعث الرسول الكريم في عدة آيات:
(1/12)
1 - قال في سفر التثنية [3:23] "جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران".
2 - في سفر أشعياء [7:1 - 60]: "قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك؛ لأنه هاهي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم, أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يرى، فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك، ارفعي عنينك حواليك وانظري، قد اجتمعوا كلهم، جاءوا إليك يأتي بنوك من بعيد، تحمل بناتك على الأيدي، حينئذٍ تنظرين وتنيرين، يخفق قلبك ويتسع؛ لأنه تتحول إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم، تعطيك كثيرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهبًا ولبانًا، وتبشر بتسابيح الرب كل غنم قيدار, تجتمع إليك كباش نبايوت تخدمك تصعد إليك مقبولةً على مذبحي وأزين بيت جمالي". وقيدار: هو ابن سيدنا إسماعيل عليه السلام انظر التكوين [12:25 - 18، تكوين13:21].
3 - وفي أشعياء [10:42 - 13]: "غنوا للرب أغنيةً جديدة، تسبيحةً من أقصى الأرض، أيها المنحدرون في البحر ومائه, والجزائر وسكانها؛ لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سالع، من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا مجدًا، ويخبروا بتسبيحه في الجزائر، الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه". وسالع جبل في المدينة.
وهنا نتساءل أين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في تلكم الآيات؟ وللإجابة على هذا نجد صلة نسب الرسول الكريم من نبايوت بن إسماعيل بن إبراهيم عليهم أفضل الصلوات والسلام، وهذه السلسلة النبوية الكريمة يدونها موسى عليه السلام هكذا: "وهذه أسماء بني إسماعيل حسب نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار .... اثني عشر قبيلة".
(1/13)
ويزداد الأمر وضوحًا وإشراقًا بذكر رموز خاصة "كثرة الجِمال" "يأتي إليك غنى الأمم"، "غنم قيدار"، "كباش نبايوت", "تصعد مقبولة على مذبحي", إشارة إلى يوم النحر بمنى، و"جبل عرفات بمكة"، "الجزائر وسكانها"، "الديار التي سكنها قيدار"، "الرب كالجبار يخرج كرجل حروب وينهض".
4 - وفي سفر حبقوق: [4,3:3] قال نبي العهد القديم: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران سلاه، جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع وهناك استتار قدرته". يتنبأ حبقوق بالرسول، والرسالة, وامتداد رقعة الإسلام، فيوضح سلالة نسب الرسول الكريم بمنبت جده إسماعيل عليه السلام في أرض فاران، ثم يتحدث عن امتداد الإسلام حيث تسبح الأرض بحمده قائله: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، ثم يتحدث عن الركع والسجود الذين يملأون الأرض بحمده وتسبيحه، ثم يتحدث عن الإعجاز للقرآن الكريم.
من هو قيدار؟!
تُبين نصوص الكتاب المقدس أن قيدار رمزٌ للعرب عامة، أبناء إسماعيل عليه السلام. إن الكتاب المقدس على بينة بأن في نسل إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام النبي الخاتم، ومن ثم فإن الكتاب المقدس يحمل كل الدلالات على إثبات نسب هذا النبي الخاتم.
بينما يحاول اليهود بكل الطرق أن يبينوا أن إسماعيل ليس ابنًا شرعيًا لإبراهيم.
والكتاب المقدس يحمل كل الدلالات على بنوة إسماعيل الحقيقية، فضلاً عن كونه بكر إبراهيم, ولم ولن يكون بأي ذريعةٍ يتذرع بها أحبار اليهود ابنًا غير شرعي.
نصوص الكتاب المقدس التي تبين أن قيدار رمزٌ للعرب: "فاعبروا جزائر كتيم، وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًا، وانظروا هل صار مثل هذا، هل بدلت أمةٌ آلهةً وهي ليست آلهة، أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع، ابهتي أيتها السماوات من هذا واقشعري وتحيري جدًا بقول الرب؛ لأن شعبي عمل شرّين، تركوني أنا
(1/14)
ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم أبارًا مشققة لا تضبط ماء" (إرميام: 10 - 13) ويقول حزقيال: "العرب وكل رؤساء قيدار هم تجاريدك بالخرفان والكباش, والأعتدة في هذه كانوا تجارك" (حزقيال 27: 21).
ويقول أشعياء: "كل غنم قيدار تجتمع إليك كباش نيابوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمالي" (أشعياء 7:60) , وهذه النصوص تؤكد على أن ذرية قيدار صارت مرموقة عند الله سبحانه، وليست هذه الشهرة عفوًا، ولكن بهدف رباني، وغرض لا مثيل له؛ ليؤكد لبني إسرائيل أن من نسل هذا يولد الذي حياته وأعماله فضلاً عن سمو ذاته سيتحقق فيه النصيب المضاعف لحقوق البكر من المجد لسلالة إسماعيل ولا ريب.
إن طبيعة المجد المضاعف تبدأ بالظهور في العهد القديم في سفر أشعياء التي تتعلق بإيفاء وعد الله ليبارك به الجنس البشري "ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تكوين 18:22) من خلال ذرية إبراهيم.
ومع هذا الوضوح إلا أن بعض المفسرين سواء أكانوا يهودًا أم نصارى، يزعمون أن هذه البركات إنما تنصب انصبابًا على المسيح عيسى ابن مريم في ذاته وفي رسالته، ويقف الإصحاح الثاني والأربعون من سفر أشعياء ليجلي الحقيقة في أيهما يكون المجد المضاعف في عيسى أم محمد فيقول:
"هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" إلى أن يقول: "لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته" (أشعياء: 42: 1 - 4) , فأشعياء يتنبأ عن نبي تشكل نبوته اشتمالاً للجنس البشري كافة, بعكس أنبياء بني إسرائيل ومنهم المسيح عيسى ابن مريم الذي تحددت رسالتهم إلى بني قومهم من بني إسرائيل.
وأشعياء يتنبأ عن رسالة هذا النبي، بل عن ذاته قائلاً: "وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم" (أشعياء 1:42).
(1/15)
فسيقوده الروح الأمين لوضع رواسخ وأسس العدل الاجتماعي في الأرض، وعن ذاته وصفاته فيقول أشعياء: "لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته".
بمقابلة هذا مع رسالة عيسى ابن مريم، فضلاً عن قصر مدتها إذ لا تعدو سنوات ثلاث ونصف السنة, هذا بينما نبوة هذا النبي من سلالة إسماعيل سيمتد بها الأجل لفترةٍ كافية لاستتباب الحق على الأرض؛ ولتأسيس مجتمع مؤمن موحد حقًا, وشعبٌ أسس العدل والحق والنقاء والطهارة الجوانية والظاهرية، ومن ثم فإنه سيصبح كما تنبأ أشعياء قائلاً: "أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم" (أشعياء 42: 6).
ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم سليل إسماعيل هو وحده الذي تتطابق شخصيته مع شخصية الجد الأعلى قيدار، إذ يتنبأ أشعياء فيقول في وضوح وجلاء: "لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار, لتترنم سكان طالع؛ من رؤوس الجبال ليهتفوا" (أشعياء 42: 11).
وتزداد نبوءة أشعياء وضوحًا عن ذات النبي سليل إسماعيل فيقول: "هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرَّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمع في الشارع صوته، قصبةً مرضوضةً لا يقصف, وفتيلةً خامدةً لا يطفئ, إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته" (أشعياء 42 - 1 - 3).
ويقول: "هكذا يقول الرب خالق السماوات وناشرها، باسط الأرض ونتائجها، معطي الشعب عليها نسمةً, والساكنين فيها روتحًا, أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب، ونورًا للأمم؛ لتفتح عيون العمى لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة" (اشعياء 42: 5 - 7) , وكذلك فإن أشعياء تنبأ فقال عن سلالة إسماعيل سكان جزيرة العرب: "لترفع البرية ومنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع، من رؤوس الجبال ليهتفوا؛
(1/16)
ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر، الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته، يهتف ويصرخ ويقوى أعدائه" أشعياء (42: 11 - 13).
إن هذه النبوة لا تنطبق على أحدٍ في أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح عيسى ابن مريم الذي يكفينا في بيان محدودية رسالته قوله حين قالت له المرأة الكنعانية: "ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدًا (متى 15: 22) , فرد عليها وأجاب: "قال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى 15: 4).
زد على ذلك أنه أوصى تلاميذه قائلاً: "إلى طريق أمم لا تمطوا, وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا, بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى 10: 5 - 6) , من هذين النصين على حسب رواية متى يتبين أن رسالة المسيح كانت محددة لبني قومه.
فهذه الشواهد تبين بكل وضوح أن يسوع المسيح لم يجعل لرسالته طبيعة الشمول، ولم يكن المسيح عيسى ابن مريم أو أي أحد من الأنبياء العبرانيين ينتمي بأي شكلٍ إلى قيدار، إذن فإن الوعد بنبيٍ عظيمٍ من بين العرب هو ما أشار إليه أشعياء باستيفاء حول النبوة بسليل قيدار, ولم يكن أشعياء إلا مؤيدًا لموسى كليم الله، فإن الله سبحانه قد أوحى إلى عبده موسى عليه السلام بأن الله سيقيم نبيًا من وسط إخوتهم.
إن العرب سلالة إسماعيل الابن البكر لإبراهيم أبناء عم إسحاق الابن الثاني لإبراهيم، يستحوذون انتباه عالمي ورجاء الأمم، إذ جاء في التوارة: "أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك, وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي أتكلم به باسمي أنا أطلبه" (تثنية 18: 19،18).
هذا المنتظر يتحتم أن يكون مؤسسًا وقائدًا ورائدًا لمجتمع أهل الإيمان, هذا فضلاً عن أن رسالة هذا النبي المرتجى ستمكث أمدًا طويلاً كافيًا لإنجاز أهداف حقيقية متماسكة.
(1/17)
نبوءات من الإنجيل:
1 - يسوع يخبر تلاميذه بالرحيل:
"لا تضطرب قلوبكم، أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي في بيت أبي منازل كثيرة، وإلا فإني كنت قد قلت لكم أنا أمضي لأعد لكم مكانًا" [يوحنا: 14: 2،1].
2 - يسوع يخبر تلاميذه بالنبي المنتظر:
"إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي, وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق" [يوحنا 14: 15 - 7].
3 - يسوع يؤكد لتلاميذه ملامح النبي المنتظر:
"بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم" [يوحنا 14: 25، 26].
4 - يسوع يثني تأكيداته عن شخصية النبي المنتظر:
"ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم عن الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضًا معي من الابتداء" [يوحنا 15: 26، 27].
إن ما جاء على حسب رواية يوحنا من وصف لذلك النبي الخاتم إنما هو وصفٌ ناطق واضحٌ وجلي، فجاءت الكلمة (المعزى) وهي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Comforter وهي ترجمة للكلمة اليوناينة (البارقليط) Parakletos كما جاءت في كتاب العهد الجديد الترجمة اليونانية، هذه الكلمة تعني بأكثر دقة (المحامي) Advocate أي: الإنسان الذي يدافع عن حقوق الآخرين، بل هو الإنسان الذي يحرص على المؤمنين وينصحهم في شئونهم من أجل سعادتهم ورفاهيتهم, إن كلمة (البارقليط) تشير إلى هذا المعنى، بل تشير إلى الإنسان الذي هو رحيم بالبشرية، وفي هذا قال سبحانه: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين} [الأنبياء: 107] , بل هو: الإنسان المرشد والناصح الأمين الذي يقود
(1/18)
أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وفي هذا قال سبحانه: {ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور بإذنه} [الطلاق: 11].
هو ذلك المحامي الأمين الذي يحرص على المؤمنين وفي هذا قال الله: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم} [التوبة: 128].
فهو الحريص الصادق من أجل رفاهية الإنسانية، يشفع للإنسانية ويهديهم الطريق السوي، ويجعل لهم الخطوة عند الله، فيلقون الله يوم الدين موقنين أنه وحده الديان في ذلك اليوم, ومهما اعتقد العلماء الباحثون أن حديث يسوع المسيح عن المعزى بلسانه الآرمي بأنه يمثل في دقة متناهية الترجمة اليونانية
Peroklytos التي تعني المعجب Admirable أو الممجد Glorified فكلمة (الباراقليط) تطابق (محمد) أو (محمود) في اللغة العربية
- يقول سيدنا عيسى عليه السلام للحواريين: "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم, ولكن لا تستطيعون الآن أن تحتملوا، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمورٍ آتية" (إنجيل يوحنا: 16: 12و13).
- وهكذا يسمي سيدنا عيسى عليه السلام نبي الحق محمد صلى الله عليه وسلم ((روح الحق)).
- وقال عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: [متى: 7: 21، 23] "ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات, بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات, كثيرون يقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة، فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم", ويقول: "أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب
(1/19)
كان هذا وهو في أعيننا، لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم، ويعطي لأمةٍ تعمل أثمارة " (سفراشعياء: 29: 23 - 16). فيعظ عيسى الكهنة والكتبة والفريسيين والصدوقين ويندد بهم وبأفعالهم، ويقرر لهم قرار الرب عز وجل بانتزاع النبوة والكتاب من ذرية إسحاق إلى ذرية من؟
استمع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لك ما المقصود بالحجر؟
قال الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانًا، فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنةٍ في زاويةٍ من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البناء فيقولون: ألا وُضِعت هنا لبنةٌ فيتم البناء؟ قال صلى الله عليه وسلم: فأنا اللبنة، جئت فختمت الأنبياء)) [رواه مسلم].
ولعلك أيها القارئ العزيز استطعت أن تدرك بالحجر أنه مجاز عن الرسول الكريم، كما أن فاران مجاز عن الأرض التي سكنها جد الرسول سيدنا إسماعيل عليه السلام.
(1/20)
هل رسالة عيسى عليه السلام كانت عالمية؟
جاء في إنجيل متى (15: 22) أن امرأةً كنعانية جاءت إلى المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام قائلةً: "ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونةٌ جدًا" فرد عليها وأجاب: قال: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (متى 15: 4) أضف إلى ذلك أنه أوصى تلاميذه قائلاً: "إلى طريق أممٍ لا تمضوا, و إلى مدينة للسامريين لا تدخلوا, بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى 10: 5 - 6).
(1/21)
مولده صلى الله عليه وسلم ونشأته
ولد صلى الله عليه وسلم في عام الفيل, تُوفي والده ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَمل, وتُوفيت أمه بين مكة والمدينة ((بالأبواء)) [موضع بين مكة والمدينة] منصرفها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين.
وكفله جده عبد المطلب، وتوفي عبد المطلب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين أو أكثر, ثم كفله عمه أبو طالب، واستمرت كفالته له وعمل مع عمه في التجارة.
اسمه ونسبه صلى الله عليه وسلم
هو خير أهل الأرض نسبًا على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذِروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك, فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيله، وأشرف الأفخاذ فخذه.
فهو محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي بن كِلاب، بن مُرة، بن كعب بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مُدرِكة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان. وعدنان من ولد إسماعيل الذبيح عليه السلام.
ولما بلغ خمسًا وعشرين سنةً تزوج خديجة بنت خويلد، وهي أول امرأة تزوجها، وأول امرأة ماتت من نسائه.
بداية مبعثه صلى الله عليه وسلم
(1/22)
ثم حبب الله إليه الخلوة، والتعبد لربه، وكان يخلو بـ "غار حراء" يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وبُغِّضت إليه الأوثان ودين قومه، فلم يكن شيءٌ أبغض إليه من ذلك.
فلما كَمُلَ له أربعون، أشرق عليه نور النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى خلقه واختصه بكرامته، وجعله أمين بينه وبين عباده.
ولا خلاف أن مبعثه كان يوم الإثنين في أحد شهور سنة إحدى وأربعين بعد عام الفيل.
وقد بعثه الله على رأس أربعين سنة، وهي سن الكمال, وأول ما بدئ به رسول الله صلى عليه وسلم من أمر النبوة الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة، فجاءه المَلك وهو في "غار حراء"، وكان يحب الخلوة فيه, فكان أول ما نزل عليه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: 1].
وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة:
إحداها: الرؤيا الصادقة.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه.
الثالثة: أن يتمثل له الملك في صورة رجل، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس, وكان أشده عليه فيتلبس به الملك.
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلقه الله عليها، فيوحي إليه ما شاء الله.
السادسة: ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة مَلك.
أسمائه صلى الله عليه وسلم
محمد "صلى الله عليه وسلم" هذا الاسم هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وهو اسمٌ منقولٌ من الحمد، وهو في الأصل اسم مفعول من الحمد، وهو يتضمن الثناء على المحمود ومحبته وإجلاله وتعظيمه.
(1/23)
فمحمد هو الذي كثُر حمد الحامدين له مرةً بعد أخرى، أو الذي يستحق أن يحمد مرةً بعد أخرى.
فتسميته صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم لما اشتمل عليه من مسماه وهو الحمد، فإنه صلى الله عليه وسلم محمودٌ عند الله ومحمودٌ عند ملائكته، ومحمودٌ عند إخوانه من المرسلين، ومحمودٌ عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كل عاقل, وإن كابر عقله جحودًا وعنادًا وجهلاً باتصافه بها، ولو علم اتصافه بها لحمده، فإنه يحمد من اتصف بصفات الكمال ويجهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامدٌ له, وهو صلى الله عليه وسلم اختص من مسمى الحمد لما لا يجتمع لغيره، فإن اسمه محمدٌ وأحمدٌ، وأمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، وصلاته وصلاة أمته مفتتحةٌ بالحمد، وخُطبته مفتتحةٌ بالحمد، وكتابه مفتتحٌ بالحمد، هكذا كان عند الله في اللوح المحفوظ، إن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحًا بالحمد، وبيده صلى الله عليه وسلم لواء الحمد يوم القيامة، ولما يسجد بين يدي ربه عز وجل للشفاعة ويؤذن له يحمد ربه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
وإذا قام في ذلك المقام حمده حينئذٍ أهل الموقف كلهم مسلمهم وكافرهم, أولهم وآخرهم، وهو محمودٌ صلى الله عليه وسلم بما يملأ به الأرض من الهدى والإيمان والعلم النافع، والعمل الصالح، وفتح به القلوب وكشف به الظلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك بالله والكفر به والجهل به، حتى نال أتباعه الدنيا والآخرة، فإن رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنهم كانوا بين عُبَّاد أوثان، وعُبَّاد صلبان, وعُبَّاد نيران, وعبَّاد كواكب, ومغضوبٌ عليهم قد باءوا بغضبٍ من الله، وحيران لا يعرف ربًا يعبده، ولا بماذا يعبده، والناس يأكل بعضهم بعضًا من استحسن شيئًا دعا إليه، وقاتل من خالفه، وليس في الأرض موضع قدمٍ مشرقٌ بنور الرسالة، وقد نظر الله سبحانه إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا على آثار دينٍ صحيح، فأغاث الله به البلاد والعباد وكشف به تلك الظُلَم وأحيا به الخليقة بعد الموت,
(1/24)
فهدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة، وكثر بعد القلة، وأعز به بعد الذلة, وأغنى به بعد العيْلة، وفتح به أعينًا عميًا, وآذانًا صمًا, وقلوبًا غلفًا، فعرف الناس ربهم ومعبودهم غاية مايمكن أن تناله قواهم من المعرفة, وأبدأ وأعاد, واختصر وأطنب في ذكر أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، حتى تجلت معرفته سبحانه في قلوب عباده المؤمنين، وانجابت سحائب الشك والريب عنها كما ينجاب السحاب عن القمر ليلة إبداره، ولم يدع لأمته حاجةً في هذا التعريف لا إلى من قبله ولا إلى من بعده, بل كفاهم وشفاهم وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب.
وعرفهم الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع حسنًا إلا أمرهم به, ولا قبيحًا إلا نهى عنه، وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه, ولم يدع بابًا من العلم النافع للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه, ولا مُشْكِلاً إلا بينه وشرحه حتى هدى الله به القلوب من ضلالها, وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشرٍ أحق بأن يحمد منه صلى الله عليه وسلم؟! وجزاه عن أمته أفضل الجزاء.
ومما يحمد عليه صلى الله عليه وسلم ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه صلى الله عليه وسلم علم أنها خير أخلاق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانةً وأصدقهم حديثًا، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالاً، وأعظمهم عفوًا ومغفرةً، وكان لا يزيد شدة الجهل عليه إلا حلمًا.
وأرحم الخلق وأرأفهم بهم, وأعظم الخلق نفعًا لهم في دينهم ودنياهم, وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرًا عن المعاني الكثيرة؛ بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة, وأعظمهم مكافأةً على الجميل بأضعافه, وأشدهم تواضعًا، وأعظمهم إيثارًا على نفسه، وأشد الخلق ذبًا عن أصحابه, وحمايةً لهم ودفاعًا عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به, وأتركهم لما ينهي عنه، وأوصل الخلق لرحمه, فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملاً على ما
(1/25)
يقتضي أن يحمد مرةً بعد مرةٍ سُمي محمدًا, وهو اسمٌ موافقٌ لمسماه, ولفظٌ مطابقٌ لمعناه.
وله صلى الله عليه وسلم من الأسماء التي هي نعوت، وأسماءٌ مشتقةٌ من صفاتٍ قائمةٍ به توجب له المدح والكمال, وقد قدمنا منها محمد وهو أشهرها, وبه سُمي في التوراة، ومنها أحمد: وهو الاسم الذي سماه به المسيح عليه السلام.
ومنها: المتوكل، ومنها الماحي والحاشر، والعاقب، والمُقَفِّي، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة، والفاتح والأمين.
ويلحق بهذه الأسماء: الشاهد، والمبشر، والبشير، والنذير، والقاسم، والضحوك، والقتال، وعبد الله، والسراج المنير، وسيد ولد آدم، وصاحب لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، وغير ذلك من الأسماء؛ لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح، فله من كل وصف اسم, لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به، أو الغالب عليه، ويشتق له منه اسم، وبين الوصف المشترك، فلا يكون له منه اسم يخصه.
وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان:
أحدهما: خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل، كمحمد، وأحمد، والعاقب، والحاشر، والمقفي، ونبي الملحمة.
والثاني: ما يشركه في معناه غيره من الرسل، ولكن له منه كماله، فهو مختص بكماله دون أصله، كرسول الله، ونبيه، وعبده، والشاهد، والمبشر، والنذير، ونبي الرحمة، ونبي التوبة.
أما إن جعل له من كل وصفٍ من أوصافه اسم، تجاوزت أسماؤه المائتين، كالصادق والمصدوق، والرؤوف الرحيم، إلى أمثال ذلك.
(1/26)
شرح معاني أسمائه صلى الله عليه
أما أحمد: فهو اسمٌ على زنة أفعل التفضيل، مشتقٌ من الحمد, وتقديره أنه: أحمد الناس لربه، وقيل تقديره: أحق الناس وأولاهم بأن يحمد، فيكون كمحمد في المعنى، إلا أن الفرق بينهما أن محمدًا هو كثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره، فمحمد في الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحق غيره, وأفضل مما يستحق غيره، فيحمده أكثر حمد، وأفضل حمدٍ حمده البشر.
وأما اسمه المتوكل: فهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بهذا الاسم؛ لأنه توكل على الله في إقامة الدين توكلاً لم يشركه فيه غيره.
وأما الماحي: فهو الذي محا الله به الكفر، ولم يمح الكفر بأحدٍ من الخلق ما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه بُعِث وأهل الأرض كلهم كفار، إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين عباد أوثان، ويهود مغضوبٌ عليهم، ونصارى ضالين، وصابئة دهرية، لا يعرفون ربًا ولا معادًا، وبين عباد الكواكب، وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء، ولا يقرون بها، فمحا الله سبحانه برسوله ذلك حتى ظهر دين الله على كل دين، وبلغ دينه ما بلغه الليل والنهار، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار.
وأما الحاشر: فالحشر هو الضم والجمع، فهو الذي يحشر الناس على قدمه، فكأنه بعث ليحشر الناس.
والعاقب: الذي جاء عقب الأنبياء، فليس بعده نبي، فإن العاقب هو الآخر، فهو بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإطلاق أي: عقب الأنبياء جاء بعقبهم.
وأما المقفي: فهو الذي قفَّى على آثار من تقدمه فقفَّى الله به على آثار من سبقه من الرسل، وهذه اللفظة مشتقة من القفو، يقال: قفاه يقفوه: إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفي: الذي قفي من قبله من الرسل، فكان خاتمهم وآخرهم.
(1/27)
وأما نبي التوبة: فهو الذي فتح الله به باب التوبة على أهل الأرض، فتاب الله عليهم توبةً لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله، وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استغفارًا وتوبةً.
وأما نبي الملحمة: فهو الذي بعث بجهاد أعداء الله، فلم يجاهد نبيٌ وأمته قط ما جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, والملاحم الكبرى التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يُعهد مثلها قبله، فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار، وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمة سواهم.
وأما نبي الرحمة: فهو الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم, أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة، وأما الكفار فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله، وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم هو وأمته، فإنهم عجلوا به إلى النار، وأراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة العذاب في الآخرة.
وأما الفاتح: فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجًا، وفتح به الأعين العمي، والآذان الصم، والقلوب الغلف، وفتح الله به أمصار الكفار، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح، ففتح به الدنيا والآخرة، والقلوب والأسماع الأبصار والأمصار.
وأما الأمين: فهو أحق العالمين بهذا الاسم فهو أمين الله على وحيه ودينه، وهو أمين من في السماء، وأمين من في الأرض؛ ولهذا كانوا يسمونه قبل النبوة: الأمين.
وأما الضحوك القتَّال: فاسمان مزدوجان، لا يفرد أحدهما عن الآخر، فإنه ضحوكٌ في وجوه المؤمنين، غير عابسٍ، ولا مقطبٍ، ولا غضوبٍ، ولا فظٍ، قتالٌ لأعداء الله، لا تأخذه فيهم لومة لائم.
وأما البشير: فهو المبشر لمن أطاعه بالثواب.
والنذير: المنذر لمن عصاه بالعقاب، وقد سماه الله عبده في مواضع من كتابه، وسماه الله سراجًا منيرًا، وسمى الشمس سراجًا وهاجًا.
(1/28)
والمنير: هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، فإن فيه نوع إحراق وتوهج.
رسول الهداية
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، فلا تشرك معه في عبوديته أحدا، ولا تعد من دونه إلها آخر، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحّد قصدك له ومسألتك ودعاءك، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضرّ غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فهو أحق من شُكر وأعظم من ذكر، وأرأف من ملك، وأجود من أعطى، وأحلم من قدر، وأقوى من أخذ، وأجلّ من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا يدعى إله سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يُعبد وأن يُوحّد وأن يُخاف وأن يُطاع وأن يُرهب وأن يُخشى وأن يُحب.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} المتفرد بالجمال والكمال والجلال، خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحّدوه، وأنشأ البريّة ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبّه نال قربه، ومن خافه أمن عذابه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدّبه، ومن حاربه خذله، يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذلّ من كفره، له الحكم وإليه ترجعون.
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فأخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم،
(1/29)
ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه، لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن، وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره.
تبدأ النبوة بكلمة: {اقْرَأْ} يوم نزلت على رسولنا صلى الله عليه وسلم في الغار، ومن بداية {اقْرَأْ} بدأنا، بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا، ومن تاريخ نزول {اقْرَأْ} بدأت مسيرتنا المقدّسة، وتغيّر بها وجه الأرض وصفحة الأيام ومعالم الدنيا، فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين، وهي اللحظة الفاصلة بين الظلام والنور، والكفر والإيمان، والجهل والعلم، واختيار اقرأ من بين قاموس الألفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب، فلم يكن مكان {اقْرَأْ} غيرها من الكلمات، لا " اكتب"، ولا "ادع" ولا "تكلم" ولا "قل"، ولا "اخطب" .... إنما {اقْرَأْ}، ويا لها من كلمة جليلة جميلة أصيلة.
اقرأ يا محمد قبل أن تدعو، واطلب العلم قبل أن تعمل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} محمد 19.
إن {اقْرَأْ} منهج حياة، ورسالة حية لكل حيّ تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة، وأن يطرد الجهل عن نفسه وأمته.
وأين يقرأ بأبي وأمي وما تعلّم على شيخ ولا درس كتابا ولا حمل قلما؟
يقرأ أولا باسم ربه كلام ربّه، فمصدره الأول الوحي يتلوه غضّا طريا، ويقرأ في كتاب الكون المفتوح ليرى أسطر الحكمة تخطها أقلام القدرة، فيقرأ في الشمس الساطعة، والنجوم اللامعة، والجدول والغدير، والتل والرابية، والحديقة والصحراء، والأرض والسماء:
وكتابي الفضاء اقرأ فيه ... صورا ما قرأتها في كتابي
وكلمة {اقْرَأْ} تدلك على فضل العلم وعلوّ مكانته، وأنه أول منازل الشرف الرافعة.
(1/30)
وإن كل سعادة وفلاح سببها العلم، فرسالته صلى الله عليه وسلم علميّة عمليّة، لأنه بعث بالعلم النافع والعمل الصالح ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث)) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه.
فاليهود عندهم علم بلا عمل، فغضب عليهم، والنصارى لديهم عمل بلا علم فضلوا، فأمرنا بالاستعاذة من سبيل الطائفتين {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)} الفاتحة.
أنت يا محمد مهمّتك الهداية، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح .. أنت تهدي الى صراط مستقيم، لأنك تزيل الشبهات وتطرد الغواية وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل وتشيد الحق والعدل والخير.
أنت تهدي الى صراط مستقيم، فمن أراد السعادة فليتبعك، ومن أحبّ الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك.
أحسن صلاة صلاتك، وأتمّ صيام صيامك، وأكمل حجّ حجك، وأزكى صدقة صدقتك، وأعظم ذكرك لربك.
وأنت تهدي الى صراط مستقيم .. من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسّك بحبل رسالتك سلم. فمن تبعك ما ذلّ، وما ضلّ وزلّ وما قل، وكيف يذلّ والنصر معك؟ وكيف يضل وكل الهداية لديك؟ وكيف يزل والرشد كله عندك؟ وكيف يقلّ والله مؤيدك وناصرك وحافظك؟
وإنك لتهدي الى صراط مستقيم لأنك وافقت الفطرة وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غرّاء، وملة كاملة، ودين تام.
هديت العقل من الزيغ، وطهّرت القلب من الريبة، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحرّرت البشر من الطاغوت.
(1/31)
وإنك لتهدي الى صراط مستقيم، فكلامك هدى، وحالك هدى، وفعلك هدى، و مذهبك هدى، فأنت الهادي الى الله، الدال على طريق الخير، المرشد لكل برّ، الداعي الى الجنة.
{يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك} أدّ الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلّغها تامّة مثلما حملتها تامة، لا تنقص منها حرفا، ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة.
بلّغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تُسأل عنها، فبلغها بنصّها وروحها ومضمونها.
بلّغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم والهدى المستقيم والشريعة المطهّرة، فأنت مبلّغ فحسب، لا تزد في الرسالة حرفا، ولا تضف من عندك على المتن، لا تُدخل شيئا في المضمون، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول عن مهمة. فمثلما سمعت بلغ، ومثلما حُمّلت فأدّ.
بلّغ ما أنزل إليك، عرف من عرف، وأنكر من أنكر، استجاب من استجاب وأعرض من أعرض، أقبل من أقبل وأدبرمن أدبر.
بلغ ما أنزل إليك، بلّغ الكل وادع الجميع، وانصح الكافة، الكبراء والمستضعفين، السادة والعبيد، والإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار.
بلّغ ما أنزل إليك .. فلا ترهب الأعداء ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية.
بلّغ ما أنزل إليك فلا يغريك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرّك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردّك تحرّج.
وشبّ طفل الهدى المحبوب متّشحا
بالخير متّزرا بالنور والنار
(1/32)
في كفّه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدّى كلّ جبّار
وفي ملامحه وعد وفي يده
عزائم صاغها من قدرة الباري
{وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}: إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئا، وإن لم توصلها تامّة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصا أو أهملت منها عبارة فما بلّغت رسالة الله وما أدّيت أمانة الله، نريد منك أن تبلّغ رسالتنا للناس كما أُلقيت عليك، وكما نزل بها جبريل وكما وعاها قلبك.
بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحدا، وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذبّ عنك؟! لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطّل مسيرتك أحد لأن الله يعصمك من الناس، اصدع بما تؤمر، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية لأن الله يعصمك من الناس. اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وارفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك لأن الله يعصمك من الناس.
كل قوة في الأرض لن تستطيع لك، كلّ جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.
{ما أنت بنعمة ربك بمجنون} لست مجنونا كما قال أعداؤك لكن عندك دواء المجانين، فلمجنون الطائش والسفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك.
(1/33)
{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} القلم .. وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلا، وأتمّهم رشدا، وأسدهم رأيا، وأعظمهم حكمة، واجلذهم بصيرة!
وكيف تكون مجنونا وأنت أتيت بوحي يكشف الزيغ، ويزيل الضلال، وينسف الباطل، ويمحو الجهل، ويهدي العقل، وينير الطريق.
لست مجنونا أنك على هدى من الله، وعلى نور من ربك، وعلى ثقة من منهجك، وعلى بيّنة من دينك، وعلى رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل وأكمل الرشد وأتم الرأي وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديّون.
كذب وافترى من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة والدنيا رشدا والعالم عدلا، فأين يوجد الرشد إلا عندك؟ وأين تكون الحكمة إلا لديم؟ وأين تحلّ البركة إلا معك؟ أنت أعقل العقلاء، وأفضل النبلاء، وأجلّ الحكماء. كيف يكون محمد مجنونا وقد قدّم للبشرية أحسن تراث على وجه الأرض، وأهدى للعالم أجلّ تركة عرفها الناس، وأعطى الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
وأنت أحييت أجيالا من الرمم
(1/34)
دعوته صلى الله عليه وسلم قومه
أقام صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيًا، ثم نزل عليه قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94].
فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وجاهر قومه، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين.
الهجرة إلى الحبشة
ولما كثر المسلمون, وخاف منهم الكفار، اشتد أذاهم له صلى الله عليه وسلم، وفتنتهم إياهم، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة, وقال: إن بها ملِكًا لا يُظلم الناس عنده، فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان، وهو أول من خرج ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار، فبلغهم أن قريشًا أسلمت، وكان هذا الخبر
(1/35)
كذبًا، فرجعوا إلى مكة، فلما بلغهم أن الأمر أشد مما كان، رجع منهم من رجع، ودخل جماعةٌ فلقوا من قريش أذًى شديدًا، وكان ممن دخل عبد الله بن مسعود.
ثم أُذن لهم في الهجرة ثانيًا إلى الحبشة، فهاجر من الرجال ثلاثةٌ وثمانون أو اثنين وثمانون رجلاً, ومن النساء ثمان عشرة امرأة، فأقاموا عند النجاشي على أحسن حال، فبلغ ذلك قريشًا، فأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة في جماعة؛ ليكيدوهم عند النجاشي، فرد الله كيدهم في نحورهم.
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه والنجاشي
قال جعفر- رضي الله عنه-: أيها الملك: كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا نبيًا ورسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة, وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حُرِّم علينا, وأحللنا ما أحُلَّ لنا، فعدا علينا قومنا؛ فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
(1/36)
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ عليَّ، فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلي عليهم.
ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة.
الحصار في الشعب
اشتد أذى مشركي مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فحصروه وأهل بيته في الشعب، شعب أبي طالب ثلاث سنين، وقيل: سنتين، وخرج من الحصر وله تسعٌ وأربعون سنةً، وقيل: ثمانٍ وأربعون سنةً، وبعد ذلك بأشهرٍ مات عمه أبو طالب وله سبعٌ وثمانون سنةً, فنال الكفار منه أذًى شديدًا، ثم ماتت خديجة بعد ذلك بيسير، فاشتد أذى الكفار له
الخروج إلى الطائف
خرج إلى الطائف هو وزيدٌ بن حارثة لما اشتد أذى قريش له وتوفيت زوجته، خرج يدعو إلى الله تعالى، وأقام بها أيامًا فلم يجيبوه، وآذوه وأخرجوه، ورجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه، فانصرف عنهم صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى مكة.
وفي طريق رجوعه بموضع يقال له نخله، صُرف إليه نفرٌ من الجن سبعةٌ من أهل نصيبين، فاستمعوا القرآن وأسلموا، وفي طريقه تلك أرسل الله إليه مَلكَ الجبال يأمره بطاعته، وأن يطبق على قومه أخشبي مكة، وهما جبلاها إن أراد، فقال: لا بل أستأني
(1/37)
بهم، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا، ثم دخل مكة في جوار المطعم بن عدي.
الإسراء والمعراج
أُسري بروحه وجسده إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى فوق السماوات بجسده وروحه إلى الله عز وجل فخاطبه، وفرض عليه الصلوات.
دعوته صلى الله عليه وسلم للقبائل
أقام صلى الله عليه وسلم بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله تعالى، ويعرض نفسه عليهم في كل موسمٍ أن يؤووه، حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلم تستجب له قبيلة، وادخر الله ذلك كرامةً للأنصار.
استجابة أهل المدينة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم
فلما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإنجاز وعده، ونصر نبيه، وإعلاء كلمته، والانتقام من أعدائه، ساقه إلى الأنصار، لما أراد بهم من الكرامة، فانتهى إلى نفرٍ منهم ستة وقيل ثمانية، عند عقبة مِنى في الموسم، فجلس إليهم، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن فاستجابوا لله ورسوله، ورجعوا إلى المدينة، فدعوا قومهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذِكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/38)
فأول مسجد قُرِئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زريق، ثم قدم مكة في العام القابل اثنا عشر رجلاً من الأنصار، منهم خمسةٌ من الستة الأولين، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء عند العقبة ثم انصرفوا إلى المدينة، فقدم عليه في العام القابل منهم ثلاثةٌ وسبعون رجلاً وامرأتان، وهم أهل العقبة الأخيرة، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأنفسهم، فترحل هو وأصحابه إليهم, واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبًا، وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً متسللين.
فقدموا على الأنصار في دورهم، فآووهم ونصروهم، وفشا الإسلام بالمدينة، ثم أذن الله عز وجل لرسوله في الهجرة
الهجرة إلى المدينة
خرج صلى الله عليه وسلم من مكة ومعه أبو بكر الصديق، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي, فدخل غار ثور هو وأبو بكر، فأقاما فيه ثلاثًا، ثم أخذا على طريق الساحل، فلما انتهوا إلى المدينة وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: غير ذلك.
ونزل بقباء في أعلى المدينة على بني عمرو بن عوف وقيل: على غيرهم، فأقام عندهم أربعة عشر يومًا وأسس مسجد قباء، ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم فجمع بهم بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، ثم ركب ناقته وسار، وجعل الناس يكلمونه في النزول عليهم، ويأخذون بخطام الناقة، فبركت عند مسجده اليوم، وكان مربدًا لسهل وسهيل غلامين من بني النجار، فنزل عنها على أبي أيوب الأنصاري, ثم بني مسجده موضع المربد بيده هو وأصحابه بالجريد واللبن, ثم بني مسكنه، ثم تحول بعد سبعة أشهر من دار أبي أيوب إليها، وبلغ أصحابه بالحبشة
(1/39)
هجرته إلى المدينة فرجع منهم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً، فحبس منهم بمكة سبعة، وانتهى بقيتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة, ثم هاجر بقيتهم في السفيلة عام خيبر سنة سبع.
النبي صلى الله عليه وسلم في الغار
{لا تحزن إن الله معنا}
هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصدّيق، وقد أحاط بهما الكفار، فقالها قوية في حزم، صادقة في عزم، صارمة في جزم: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} التوبة 40. فما دام الله معنا فلم الحزن ولم الخوف ولم القلق، اسكن .. اثبت .. اهدأ .. اطمئن، لأن الله معنا.
لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضل، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط، لأن الله معنا، النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا لأن الله معنا.
من أقوى منا قلبا، من أهدى منا نهجا، من أجلّ من مبدأ، من أحسن منا سيرة، من أرفع مان قدرا؟! لأن الله معنا.
ما أضعف عدوّنا، ما أذلّ خصمنا، ما أحقر من حاربنا، ما أجبن من قاتلنا، لأن الله معنا.
لن نقصد بشرا، لن نلتجئ الى عبد، لن ندعو إنسانا، لن نخاف مخلوقا، لأن الله معنا.
(1/40)
نحن أقوى عدة وأمضى سلاحا، وأثبت جنانا وأقوم نهجا، لأن الله معنا.
نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزّون المنصورون، لأن الله معنا.
يا أبا بكر اهجر همّك، وأزح غمّك، واطرد حزنك، وأزل يأسك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر ارفع رأسك، وهدئ من روعك، وأرح قلبك، لأن الله معنا.
يا أبا بكر أبشر بالفوز، وانتظر النصر، وترقّب الفتح، لأن الله معنا.
غدا سوف تعلو رسالتنا وتظهر دعوتنا وتسمع كلمتنا، لأن الله معنا.
غدا سوف نُسمع أهل الأرض روعة الأذان وكلام الرحمن ونغمة القرآن، لأن الله معنا.
غدا سوف نخرج الإنسانية ونحرر البشرية من عبودية الأوثان، لأن الله معنا.
غزواته صلى الله عليه وسلم
غزواته كلها وبعوثه وسراياه كانت بعد الهجرة في مدة عشر سنين، فالغزوات سبعٌ وعشرون، وقيل: خمسٌ وعشرون, وقيل: غير ذلك.
(1/41)
قاتل منها في تسع: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وقيل: قاتل في بني النضير, والغابة, ووادي القرى من أعمال خيبر.
وأما سراياه وبعوثه فقريبٌ من ستين، والغزوات الكبار الأمهات سبع: بدر، وأحد، والخندق, وخيبر, والفتح, وحنين, وتبوك, وفي شأن هذه الغزوات أنزل الله أياتٍ وسور: فسورة (الأنفال) سورة بدر، وفي أحد آخر سورة (آل عمران) , وفي قصة الخندق وقريظة وخيبر صدر (سورة الأحزاب)، (وسورة الحشر) في بني النضير, وفي قصة الحديبية وخيبر سورة (الفتح) وأشير فيها إلى الفتح، وذكر الفتح صريحًا في سورة (النصر) , وجرح منها صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ واحدةٍ وهي أحد، وقاتلت معه الملائكة في بدر وحنين, ونزلت الملائكة يوم الخندق، فزلزلت المشركين وهزمتهم، وكان الفتح في غزوتين: بدر وحنين، وقاتل بالمنجنيق في غزوة واحدة وهي الطائف، وتحصن في الخندق في واحدة، وهي الأحزاب أشار به عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه.
الحرب ضد الإسلام قديمًا وحديثًا
الحرب ضد الإسلام لم تفلح قديمًا ولن تفلح في أي زمان أو مكان
تعددت طرق وأساليب أعداء الإسلام للنيل من دين الله ومن أساليبهم:
1ـ السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك:
قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ
(1/42)
إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، ويصمونه بالسحر والكذب {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]،وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51]،وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه {مَنَّ الله ُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، قال تعالى: {أَلَيْسَ الله ُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]،وكانوا كما قص الله علينا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29: 33].
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا حتى أثر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97]، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 98، 99]، وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين حيث قال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ الله ِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 95، 96]، وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [الأنعام: 10].
2ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة:
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} [الأنبياء: 5] يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون: {بَلِ افْتَرَاهُ} من عند نفسه ويقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه. {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5]
(1/43)
وأحيانا قالوا: إن له جنًا أو شيطانًا يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان. قال تعالى ردًا عليهم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222]، أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم علىّ كذبًا، وما وجدتم في فسقًا، فكيف تجعلون القرآن من تنزيل الشيطان؟
وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه مصاب بنوع من الجنون، فهو يتخيل المعانى، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهو شاعر وكلامه شعر. قال تعالى ردًا عليهم: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 225: 226] فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدة منها في النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقون صالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم لا يهيم في كل واد كما يهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد، وصراط واحد، وهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء؟ وأين الشعر والشعراء منه.
هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام.
ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية، وبين عجز آلهتهم عجزًا لا مزيد عليه، ولعل هذا كان مثار غضبهم واستنكارهم الذي أدى إلى ما أدى إليه.
أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا، والرسول لا يكون
(1/44)
بشرًا حسب عقيدتهم. فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، وقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر، و {مَا أَنزَلَ الله ُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 19]، فقال تعالى ردًا عليهم: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ}، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر. ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم: 10]، فـ {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ الله َ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]. فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاة بين البشرية والرسالة.
وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إسماعيل وموسى ـ عليهم السلام ـ كانوا رسلًا وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهم هذه، فقالوا: ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين، ما كان الله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، قال تعالى ردًا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32]، يعنى أن الوحى والرسالة رحمة من الله و {الله ُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا: إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسول الله؟ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الفرقان: 7: 8]، ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًا رسول، يعنى أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوى، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتى يستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، ولم تعد لها فائدة تذكر.
(1/45)
أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الصافات: 16، 17]،وكانوا يقولون: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى الله ِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7، 8].
وقال قائلهم:
أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو
وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى في الدنيا، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا. ولا يتصور من الله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد. قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [ص: 28]، وقال: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
وأما الاستبعاد العقلى فقال تعالى ردًا عليه: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} [النازعات: 27]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله َ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]، وقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، وبين ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهو أن الإعادة {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]،وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15].
(1/46)
وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذى عقل ولب، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون عُلوا في الأرض وفرض رأيهم على الخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون.
3 ـ الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين:
كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعوة الإسلام بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوه يصلى ويتلو القرآن. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة.
وكان النضر بن الحارث، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول: أنا و الله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني.
وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله ِ} [لقمان: 6].
(1/47)
صور من الأذى الذي لحق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئًا فشيئًا لإحباط الدعوة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب، ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلامية استشاروا فيما بينهم، فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق الإيمان.
وكان من الطبيعي أن يهرول الأذناب والأوباش خلف ساداتهم وكبرائهم، ويتحركوا حسب مرضاتهم وأهوائهم، فجروا على المسلمين ـ ولاسيما الضعفاء منهم ـ ويلات تقشعر منها الجلود، وأخذوهم بنقمات تتفطر لسماعها القلوب.
كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته.
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية.
وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول.
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع. وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة
(1/48)
العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد، أحد، ويقول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه.
وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمار ـ في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة. وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله: {مَن كَفَرَ بِالله ِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} الآية [النحل: 106].
وكان أبو فُكَيْهَةَ ـ واسمة أفلح ـ مولى لبني عبد الدار، وكان من الأزد. فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد، فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله.
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وكان المشركون
(1/49)
أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره.
وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله، وأصيبت في بصرها حتى عميت، فقيل لها: أصابتك اللات والعزى، فقالت: لا والله ما أصابتني، وهذا من الله، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا بعض سحر محمد.
وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصة مولاها الأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المستهزئين به.
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـ وهو يومئذ على الشرك ـ فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول: والله ما أدعك إلا سآمة، فتقول: كذلك يفعل بك ربك.
وممن أسلمن وعذبن من الجوارى: النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار.
وممن عذب من العبيد: عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول.
واشترى أبوبكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهن أجمعين، فأعتقهم جميعًا. وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال: أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك. قال: إني أريد وجه الله. فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه. قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 14: 16] وهو أمية بن خلف، ومن كان على شاكلته {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17: 21] وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وأوذى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا. فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين، وقيل: إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(1/50)
والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيما العبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشراف قومهم، مع شيء كبير من الحيطة والحذر.
(1/51)
صور من الأذى الذي لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم
واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة، فقد صعب على غطرستها وكبريائها أن تصبر طويلًا، فمدت يد الاعتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغير ذلك. وكان من الطبيعى أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلام وأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا.
وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما.
ولما مات عبد الله ـ الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ استبشر أبو لهب وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار أبتر.
وكان أبو لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، وقد روى طارق بن عبد الله المحاربى ما يفيد أنه كان لا يقتصر على التكذيب
(1/52)
بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه.
وكانت امرأة أبي لهب ـ أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان ـ لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب.
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ [أي بمقدار ملء الكف] من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة. ثم قالت:
مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: (ما رأتنى، لقد أخذ الله ببصرها عني).
وروى أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها: أنها لما وقفت على أبي بكر قالت: أبا بكر، هجانا صاحبك، فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمُصدَّق.
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، كان بيته
(1/53)
ملصقا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته.
قال ابن إسحاق: كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه ـ لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: (يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟) ثم يلقيه في الطريق.
وازداد عقبة بن أبي مُعَيْط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجىء بسَلاَ جَزُور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم [وهو عقبة بن أبي معيط] فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي وضع على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغنى شيئًا، لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعضهم [أي يتمايل بعضهم على بعض مرحًا وبطرًا] ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: [الله م عليك بقريش] ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى: (اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط) ـ وعد السابع فلم نحفظه ـ فوالذي نفسى بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى
(1/54)
في القَلِيب، قليب بدر.
وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه. وفيه نزل: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [سورة الهمزة: 1] قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به. واللمزة: الذي يعيب الناس سرًا، ويؤذيهم.
أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين. وجلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيًا أنبه وعاتبه، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبي بن خلف نفسه فت عظمًا رميمًا ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الأخنس بن شَرِيق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10: 13].
وكان أبو جهل يجىء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، ويؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالًا بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر، كأن ما فعل شيئًا يذكر، وفيه نزل: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]، وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلى في الحرم، ومرة مر به وهو يصلى عند المقام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد، بأي شىء تهددنى؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادى ناديًا. فأنزل الله {فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17، 18].
(1/55)
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهو يقول له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34، 35] فقال عدو الله: أتوعدنى يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بينى وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا).
هذه صورة مصغرة جدًا لما كان يتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من الظلم والخسف والجور على أيدى طغاة المشركين، الذين كانوا يزعمون أنهم أهل الله وسكان حرمه.
وصف خلقته صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، ولا بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، ولا بالجعد القطط ولا بالسبط، بعثه الله تعالى على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر
(1/56)
سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء)) رواه البخاري ومسلم.
((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن)) المراد أنه لم يكن بعيدًا من التوسط.
((ولا بالقصير)): أي المتردد الداخل بعضه في بعض، والمعنى أنه كان متوسطًا بين الطول والقصر لا زائد الطول ولا القصر وفي نفي أصل القصر ونفي الطول البائن لا أصل الطول, إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان مربوعًا مائلاً إلى الطول، وأنه كان إلى الطول أقرب، كما رواه البيهقي، ولا ينافيه وصفه الآتي بأنه ربعة لأنها أمر نسبي، ويوافقه خبر البراء: كان ربعة وهو إلى الطول أقرب.
((ولا بالأبيض الأمهق)): أي الشديد البياض الخالي عن الحمرة والنور كالجص وهو كريه المنظر، وربما توهمه الناظر أبرص بل كان بياضه نيرًا مشربًا بحمرة كما في روايات أخر.
((ولا بالآدم)) الأدمة شدة السمرة وهي منزلة بين البياض والسواد، قال العسقلاني: تبين من مجموع الروايات أن المراد بالبياض المنفي ما لا يخالطه الحمرة, والمراد بالسمرة الحمرة التي يخالطها البياض.
((ولا بالجعد)): بفتح الجيم وسكون العين من الجعودة وهي في الشعر أن لا يتكسر تكسرًا تامًا ولا يسترسل.
((القطط)): بفتحتين وبكسر الثاني وهو شدة الجعودة.
((ولا بالسبط)): بفتح المهملة، وكسر الموحدة وتسكن وتفتح, والسبوطة في الشعر ضد الجعودة وهو الامتداد الذي ليس فيه تعقد ولا نتوء أصلاً, والمراد أن شعره صلى الله عليه وسلم متوسطًا بين الجعودة والسبوطة.
(1/57)
((بعثه الله تعالى)) أي أرسله الحق إلى الخلق للنبوة والرسالة وتبليغ الأحكام والحكم للامة، قيل ولد صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وأنزل عليه الوحي يوم الإثنين, وخرج من مكة مهاجرًا يوم الإثنين, و قدم المدينة يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين.
((على رأس أربعين سنة)): في ررواية البخاري: أنزل عليه -أي الوحي- وهو ابن أربعين سنة.
قال شراح الحديث: المراد بالرأس الطرف الأخير منه لما عليه الجمهور من أهل السير والتواريخ, من أنه بعث بعد استكمال أربعين سنة، قال الطيبي: الرأس هنا مجاز عن آخر السنة، كقولهم رأس الآية أي آخرها، وتسمية آخر السنة رأسها باعتبار أنه مبدأ مثله من عقد آخر انته، وأما لفظ الأربعين فتارة يراد به مجموع السنين من أول الولادة إلى ساتكمال أربعين سنة، وتارة يراد به السنة التي تنضم إلى تسعة وثلاثين والاستعمالان شائعان، فالأول كما يقال: عمْرُ فلان أربعون، والثاني: كقولهم: الحديث الأربعون، وإيراد التمييز، وهو قوله: سنة يؤيد المعنى الأول، قال الحافظ العسقلاني: المشهور عند الجمهور أنه ولد في شهر ربيع الأول، وبعث في شهر رمضان. لكن قال المسعودي وابن عبد البر: إنه بعث في شهر ربيع الأول.
((فأقام)) أي بعد البعثة ((بمكة عشر سنين)) بسكون الشين أي رسولاً وثلاث عشرة سنة نبيًا ورسولاً لأن العلماء متفقون على أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بعد النبوة وقبل الهجرة ثلاث عشرة سنة، فقوله: أقام بمكة عشر سنين محتاج إلى تأويل وهو ما ذكرناه، ويحتمل أن الراوي اقتصر على العقد وترك الكسر ولا خلاف في قوله: ((وبالمدينة عشر سنين)) لكن يشكل قوله: ((فتوفاه الله تعالى)) أي قبض روحه، ((على رأس ستين سنة)): لأنه يقتضي أن يكون سِنه ستين، والمرجح أنه ثلاث وستون، وقيل: خمس وستون، وجمع بأن من روى الأخير عد سنتي المولد والوفاة، ومن روى ثلاثًا لم يعدهما، ومن روى الستين لم يعد الكسر، واعلم أن ابتداء التاريخ الإسلامي من هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وقد قدم بها يوم الإثنين ضحى لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول.
(1/58)
((وليس في رأسه ولحيته)) بكسر اللام ((عشرون شعرة)) بسكون العين فقط، وقد يفتح، وأما الشعر فبالفتح ويسكن.
((بيضاء)): صفة لشعرة، وأخرج ابن سعد بإسناد صحيح عن ثابت، عن أنس قال: ما كان في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته إلا سبع عشرة، أو ثمان عشرة شعرة بيضاء، وأما ما جاء من نفي الشيب في رواية، فالمراد به نفي كثرته لا أصله.
ملابسه صلى الله عليه وسلم
كانت له صلى الله عليه وسلم عمامةٌ تسمى السحاب، وكان يلبسُها، ويلبس تحتها القلنسوة، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه.
(1/59)
ولبس القميص, وكان أحب الثياب إليه، وكان كمه إلى الرسغ، ولبس الجبه والفروج وهو شبه القباء.
وكان قميصه من قطن, وكان قصير الطول, قصير الكمين, وكان أحب الألوان إليه البياض.
ولبس خاتمًا من ذهب ثم رمى به، ونهى عن التختم بالذهب ثم اتخذ خاتمًا من فضة.
وكان غالب ما يلبس هو وأصحابه ما نُسِج من القطن, وربما لبسوا ما نسج من الصوف والكتان, وكان إذا لبس قميصه بدأ بميامنه.
طعامه وشرابه
كان صلى الله عليه وسلم لا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا, فما قُرِّب إليه شيءٌ من الطيبات إلا أكله، إلا أن تعافه نفسه، فيتركه من غير تحريم، وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
هديه صلى الله عليه وسلم في نومه
كان ينام على الفراش تارة وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة.
وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال: ((باسمك اللهم أحيا وأموت)) [رواه البخاري ومسلم] , وكان يجمع كفيه ثم ينفث فيهما وكان يقرأ فيهما (قل هو الله أحد) , (وقل أعوذ برب الفلق) , (وقل أعوذ برب الناس) , ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
(1/60)
وكان ينام على شقه الأيمن، ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن.
في هديه صلى الله عليه وسلم في الركوب
ركب الخيل والإبل والبغال والحمير وركب الفرس, وكان يركب وحده, وهو الأكثر, وربما أردف خلفه على البعير, وربما أردف خلفه وأركب أمامه, وكان أكثر مراكبه الخيل والإبل.
في هديه صلى الله عليه وسلم بيعه وشرائه
باع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى, وكان أحسن الناس معاملة, وكان إذا استسلف قضى خيرًا منه، وكان إذا استسلف من رجلٍ سلفًا قضاه إياه ودعا له.
في هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه
كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله, وأعذبهم كلامًا, وأسرعهم أداءً, وأحلاهم منطقًا حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويسبي الأرواح.
وكان إذا تكلم, تكلم بكلامٍ مفصلٍ مبينٍ يعده العاد، ليس بهذ مسرعٍ لا يُحفظ، ولا منقطعٍ تخلله السكتات بين أفراد الكلام.
وكان يضحك مما يُضحك منه، وهو مما يُتعجب من مثله ويُستغرب وقوعه ويُستندر، ولم يكن ضحكه بقهقهة.
(1/61)
وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فلم يكن بشهيقٍ ورفع صوتٍ، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويُسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه تارةً رحمةً للميت, وتارةً خوفًا على أمته وشفقةً عليها, وتارةً من خشية الله، وتارةً عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ، مصاحبٌ للخوف والخشية.
هديه صلى الله عليه وسلم في خُطبه
خطب صلى الله عليه وسلم على الأرض وعلى المنبر، وعلى البعير، وعلى الناقة، وكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه.
وكان لا يخطب خطبةً إلا افتتحها بحمد الله عز وجل، وكان مدار خطبه على حمد الله والثناء عليه بآلائه، وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه، فعلى هذا كان مدار خطبه.
وكان يخطب في كل وقتٍ بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم.
هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء
كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاةٍ في غالب أحيانه وربما صلى الصلوات بوضوءٍ واحد، وكان يتوضأ بالمد تارة وبثلثيه تارة، وبأزيد منه تارة.
هديه صلى الله عليه وسلم في صلاته
(1/62)
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر، وكان يرفع يديه معها ممدودة الأصابع، مستقبلاً بها القبلة إلى فروع أذنيه، وروي إلى منكبيه.
ثم يضع اليمنى على ظهر اليسر، وكان يستفتح الصلاة بأدعيةٍ مأثورة، صح عنه أكثر من دعاء في هذا الموضع, وكان يقول بعد ذلك: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يقرأ الفاتحة.
وكانت قراءته مدًا، يقف عند كل آية، ويمد بها صوته.
فإذا فرغ من قراءة الفاتحة قال: آمين، فإن كان يجهر بالقراءة رفع بها صوته وقالها من خلفه.
فإذا فرغ من الفاتحة أخذ في سورةٍ غيرها، وكان يطيلها تارة، ويخففها لعارض من سفرٍ أو غيره، ويتوسط فيها غالبًا.
وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الركعة الأولى على الثانية من صلاة الصبح، ومن كل صلاة, وكان يطيل صلاة الصبح أكثر من سائر الصلوات, وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من القراءة سكت بقدر ما يتراد إليه نفسه، ثم رفع يديه كما تقدم وكبر راكعًا ووضع كفيه على ركبتيه كالقابض عليهما ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه، وبسط ظهره ومده واعتدل, ولم ينصب رأسه ولم يخفضه بل يجعله حيال ظهره معادلاً له, وكان يقول في ركوعه "سبحان ربي العظيم".
وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات وسجوده كذلك.
ثم كان يرفع رأسه بعد ذلك قائلاً: سمع الله لمن حمده ويرفع يديه كما تقدم.
وكان دائمًا يقيم صلبه إذا رفع من الركوع، وبين السجدتين، وكان إذا استوى قائمًا قال: "ربنا ولك الحمد", وكان من هديه أنه يطيل هذا الركن بقدر الركوع والسجود, ثم كان يكبر ويخر ساجدًا، ولا يرفع يديه, وكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض، ونحى يديه عن جنبيه وجافى بهما, وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه.
(1/63)
وكان يعتدل في سجوده ويستقبل أطراف أصابع رجليه القبلة.
وكان يبسط كفيه وأصابعه ولا يفرج بينهما ولا يقبضها, وكان يقول في سجوده "سبحان ربي الأعلى".
ثم كان صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه مكبرًا غير رافعٍ يديه، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه, ثم يجلس مفترشًا, يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى.
وكان يضع يديه على فخذيه ويجعل مرفقه على فخذه، وطرف يديه على ركبتيه, ثم كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني" وتارة يقول: "رب اغفر لي رب اغفر لي".
وكان هديه صلى الله عليه وسلم إطالة هذا الركن بقدر السجود, ثم كان ينهض صلى الله عليه وسلم, وكان إذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت كما كان يسكت عند افتتاح الصلاة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الثانية كالأولى سواء، إلا في أربعة أشياء: السكوت أو الاستفتاح، وتكبيرة الإحرام، وتطويلها كالأولى، فإنه كان صلى الله عليه وسلم لا يستفتح ولا يسكت, ولا يكبر للإحرام فيها, أو يقصرها عن الأولى.
فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى, وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى, وأشار بإصبعه السبابة ويرمي ببصره إليها.
ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى, ثم كان صلى الله عليه وسلم يتشهد في هذه الجلسة ويعلم أصحابه أن يقولوا: ((التحيات لله والصلوات والطيبات, السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)). [البخاري ومسلم].
ثم كان ينهض مكبرًا على صدور قدميه وعلى ركبتيه, ثم كان يقرأ في الركعتين الأخيرتين الفاتحة وحدها.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس في التشهد الأخير وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى, وضم أصابعه الثلاث, ونصب السبابة, وكان يبسط ذراعه على فخذه ولا
(1/64)
يجافيهما فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، وأما اليسرى فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى.
وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه في ركوعه, وفي سجوده, وفي تشهده, ويستقبل بأصابع رجليه القبلة في سجوده, وكان يقول في كل ركعتين التحيات, ثم كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك.
هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة الزكاة
هديه صلى الله وسلم في الزكاة أكمل هدي في وقتها، وقدرها, ونصابها, ومن تجب عليه، ومصرفها، وقد راعى فيها مصلحة أرباب الأموال، ومصلحة المساكين، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرةً للمال ولصاحبه، وقيد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاته، بل يحفظه عليه وينميه له، ويدفع عنه بها الآفات، ويجعلها سورًا عليه، وحصنًا له وحارسًا له.
ثم إنه جعلها في أربعة أصنافٍ من المال: وهي أكثر الأموال دورانًا بين الخلق، وحاجتهم إليه ضرورية.
أحدها: الزرع، والثمار.
الثاني: بهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم.
الثالث: الجوهران اللذان بهما قوام العالم، وهما الذهب والفضة.
الرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها.
ثم إنه أوجبها مرة كل عام، وجعل حول الزروع الثمار عند كمالها واستوائها، وهذا أعدل ما يكون إذ وجوبها كل شهرٍ أو كل جمعةٍ يضر بأرباب الأموال، ووجوبها في العمر مرة مما يضر بالمساكين, فلم يكن أعدل من وجوبها كل عامٍ مرة.
(1/65)
ثم إنه فاوت بين مقادير الواجب بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها, وسهولة ذلك, ومشقته.
والرب سبحانه تولى قسم الصدقة بنفسه، وجزأها ثمانية أجزاء، يجمعها صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجة، فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها وكثرتها، وقلتها، وهم الفقراء والمساكين، وفي الرقاب، وابن السبيل.
والثاني: من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها, والمؤلفة قلوبهم، والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجًا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه, وإن سأله أحدٌ من أهل الزكاة ولم يعرف حاله أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغنيٍ ولا لقويٍ مكتسب.
هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام
لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية؛ لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها, وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية, ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين, وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب, وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كل عضوٍ منها وكل قوةٍ من جماحه وتُلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين, ورياضة الأبرار، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئًا وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك
(1/66)
محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، وهو سرٌ بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده, فهو أمرٌ لا يطلع عليه بشر, وذلك حقيقة الصوم.
وللصوم تأثيرٌ عجيبٌ في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها, واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها, فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى, والمقصود: أن مصالح الصوم لما كانت مشهودةً بالعقول السليمة والفطر المستقيمة, شرعه الله لعباده رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وحميةً لهم وجُنة.
وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي, وأعظم تحصيل للمقصود، وأسهلة على النفوس.
ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها؛ تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة,
وألفت أوامر القرآن, فنقلت إليه بالتدريج, وكان فرضه في السنة الثانية من الهجرة، فتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسع رمضانات, وفُرض أولاً على وجه التخيير بينه وبين أن يُطعم عن كل يومٍ مسكينًا، ثم نُقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة إذا لم يُطيقا الصيام، فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكينًا، ورخص للمريض والمسافر أن يُفطرا ويقضيا، وللحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما كذلك، فإن خافتا على ولديهما، زادتا مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم، فإن فطرهما لم يكن لخوف مرض، وإنما كان مع الصحة فجُبر بإطعام المسكين كفطر الصحيح في أول الإسلام.
وكان للصوم رتبٌ ثلاث: إحداها: إيجابه بوصف التخيير.
والثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة, فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة, وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة.
(1/67)
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يُدارسه القرآن في رمضان, وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان يُكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن، والصلاة، والذكر، والاعتكاف, وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره من الشهور. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو بشهادة شاهدٍ واحد.
وكان صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي, وكان فِطره على رطباتٍ إن وجدها فإن لم يجدها فعلى تمراتٍ، فإن لم يجد فعلى حسواتٍ من ماء.
وكان صلى الله عليه وسلم في غير رمضان يصوم حتى يقال: لا يُفطر، ويُفطر حتى يقال: لا يصوم، وما استكمل صيام شهر غير رمضان، وما كان يصوم في شهرٍ أكثر مما يصوم في شعبان.
وكان يتحرى صيام يوم الإثنين والخميس, ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم سرد الصوم وصيام الدهر.
(1/68)
هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته
اعتمر صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة أربع عُمر، كلهن في ذي القعدة، الأولى: عمرة الحديبية، وهي أولاهن سنة ست، فصده المشركون عن البيت, فنحر البُدن حيث صُدَّ بالحديبية وحلق هو وأصحابه رؤوسهم، وحلوا من إحرامهم، ورجع من عامه إلى المدينة.
الثانية: عمرة القضية في العام المقبل، دخل مكة فأقام بها ثلاثًا، ثم خرج بعد إكمال عمرته، واختُلف؛ هل كانت قضاءٌ للعمرة التي صُد عنها في العام الماضي، أم عمرةٌ مستأنفة؟ على قولين للعلماء.
الثالثة: عمرته التي قرنها مع حجته، فإنه كان قارنًا لبضعة عشر دليلاً.
الرابعة: عمرته من الجعرانه، لما خرج إلى حنين، ثم رجع إلى مكة، فاعتمر من الجعرانة داخلاً إليها.
ولا خلاف أن عُمَرَه لم تزد على أربع, ولا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجةٍ واحدة، وهي حجة الوداع, ولا خلاف أنها كانت سنة عشر.
ولما نزل فرضُ الحج، بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير.
ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أعلم الناس أنه حاج, فتجهزوا للخروج معه وسمع ذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون فكانوا من بين يديه, ومن خلفه, وعن يمينه، وعن شماله مد البصر، وخرج من المدينة نهارًا بعد الظهر لستٍ بقين من ذي القعدة بعد أن صلى الظهر أربعًا، وخطبهم قبل ذلك خطبةً علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه.
(1/69)
فصلى الظهر بالمدينة بالمسجد أربعًا، ثم ترجَّل وأدهن، ولبس إزاره ورداءه، وخرج بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين, ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر, فصلى فيها خمس صلوات, فلما أراد الإحرام اغتسل, وأهل في مصلاه، ثم ركب على ناقته وأهل أيضًا, ثم أهل لما استقلت به على البيداء, وعند وصوله مكة نزل بذي طُوى وهي المعروفة بآبار الزاهر، فبات بها ليلة الأحد لأربعٍ خلون من ذي الحجة، وصلى بها الصبح، ثم اغتسل من يومه ونهض إلى مكة فدخلها نهارًا من أعلاها من الثنية العليا التي تُشرف على الحجون، وكان في العمرة يدخل من أسفلها، وفي الحج دخل من أعلاها وخرج من أسفلها, ثم سار حتى دخل المسجد وقت الضحى, فلما دخل المسجد عمد إلى البيت ولم يصل تحية المسجد؛ فإن تحية المسجد الطواف، فلما حاذى الحجر الأسود استلمه، ولم يزاحم عليه بل استقبله واستلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيت عن يساره، ورمل في هذا الطواف في الثلاثة أشواط الأول، وكان يسرع في مشيه، ويقارب بين خطاه، واضطبع بردائه فجعل صارفيه على أحد كتفيه وأبدى كتفه الأخرى ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه أو استلمه بمحجنه، وقبل المحجن والمحجن عصا محنية الرأس، وثبت عنه أنه استلم الركن اليماني، ولم يثبت عنه أنه قبله فلما فرغ من طوافه، جاء إلى خلف المقام فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} [البقرة: 125] فصلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت، قرأ فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله، فلما قرب منه قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 159] أبدأ بما بدأ الله به.
ثم رقى إلى الصفا حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) ثم دعا بين ذلك وقال مثل هذا ثلاث مرات.
(1/70)
ثم نزل إلى المروة يمشي, فلما انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى إذا جاوز الوادي وأصعد مشى، وهذا الذي صح عنه، وذلك اليوم قبل الميلين الأخضرين في أول المسعى وآخره.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة أرقى عليها واستقبل البيت، وكبر الله ووحده، وفعل كما فعل على الصفا.
فلما كان يوم الخميس ضحى، توجه بمن معه من المسلمين إلى منى, فلما وصل إلى منى نزل بها، وصلى بها الظهر والعصر، وبات بها، وكان ليلة الجمعة، فلما طلعت الشمس سار منها إلى عرفة.
وكان من أصحابه الملبي ومنهم المكبر، وهو يسمع ذلك ولا ينكر على هؤلاء ولا على هؤلاء.
فوجد القبة قد ضربت له بنمرة بأمره، وهي قرية شرقي عرفات، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس، أمر بناقته القصواء فَرُحلت, ثم سار حتى أتى بطن الوادي من أرض عرنة، فخطب الناس وهو على راحلته خطبةً عظيمةً قرر فيها قواعد الإسلام وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التي اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض, ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرًا، وذكر الحق الذي لهن والذي عليهن، وأن الواجب لهن الرزق والكسوة بالمعروف.
وأوصى الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به, ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه واستنطقهم بماذا يقولون وبماذا يشهدون، فقالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت, فرفع أصبعه إلى السماء، واستشهد الله عليهم ثلاث مرات، وأمرهم أن يبلغ شاهدهم غائبهم.
وموضع خطبته صلى الله عليه وسلم لم يكن من الموقف، فإنه خطب بعرنة، ووقف بعرفة، وخطب خطبةً واحدة فلما أتمها أمر بلالاً فأذن ثم أقام الصلاة، فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة، فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة،
(1/71)
ثم أقام فصلى العصر ركعتين, فلما فرغ من صلاته ركب حتى أتى الموقف، فوقف في ذيل الجبل عند الصخرات، واستقبل القبلة، وكان على بعيره، فأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس, وكان في دعائه رافعًا يديه إلى صدره كاستطعام المسكين، وأخبرهم أن خير الدعاء دعاء يوم عرفة, وفي عرفة أُنزل عليه قول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3].
فلما غربت الشمس، واستحكم غروبها بحيث ذهبت الصفرة، أفاض من عرفة، وأردف أسامة بن زيد خلفه وأفاض بالسكينة, وكان يلبي في مسيره ذلك لم يقطع التلبية, فلما كان في أثناء الطريق نزل وتوضأ وضوءًا خفيفًا.
ثم سار حتى أتى المزدلفة فتوضأ وضوء الصلاة، ثم أمر بالأذان فأذن المؤذن ثم أقام، فصلى المغرب قبل حط الرحال، وتبريك الجمال، فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة، ثم صلى عشاء الآخرة بإقامةٍ بلا أذان، ولم يصل بينهما شيئًا, ثم نام حتى أصبح وأذن في تلك الليلة لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر، وكان ذلك عند غيبوبة القمر، وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
فلما طلع الفجر، صلاها في أول الوقت بأذان وإقامة يوم النحر، وهو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك.
ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرع والتكبير والتهليل والذكر حتى أصفر جدًا، وذلك قبل طلوع الشمس, وقف صلى الله عليه وسلم في موقفه، وأعلم الناس أن مزدلفة كلها موقف، ثم سار من مزدلفة مردفًا للفضل بن عباس وهو يلبي في مسيره.
وفي طريقه ذلك أمر ابن عباس أن يلقط له حصى الجمار سبع حصيات, فالتقط له سبع حصيات من حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: ((بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)).
(1/72)
فلما أتى بطن مُحَسِّر، حَرك ناقته وأسرع السير، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه، فإن هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا، ولذلك سُمي ذلك الوادي وادي مُحَسِّر؛ لأن الفيل حَسَر فيه، أي: أُعيي وانقطع عن الذهاب إلى مكة، وكذلك فعل في سلوكه الججر ديار ثمود، فإنه تقنَّع بثوبه، وأسرع السير.
ومحسر: برزخٌ بين مِنى وبين مزدلفة, لا من هذه ولا من هذه.
وعرنة: برزخ بين عرفة والمشعر الحرام, وسلك صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى بين الطريقين، وهي التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى منى، فأتى جمرة العقبة، فوقف في أسفل الوادي، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه, واستقبل الجمرة وهو على راحلته, فرماها راكبًا بعد طلوع الشمس، واحدةٌ بعد واحدة, يُكبِّر مع كل حصاة، وحينئذ قطع التلبية, وكان في مسيره ذلك يلبي حتى شرع في الرمي، ورمي الجمرات وبلالٌ وأسامة بن زيدٍ معه.
ثم رجع إلى منى فخطب الناس خطبةً بليغة, أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر وتحريمه، وفضله عند الله، وحرمة مكة على جميع البلاد، وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قادهم بكتاب الله، وأمر الناس بأخذ مناسكهم عنه, وعلمهم مناسكهم، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر الناس أن لا يرجعوا بعده كفارًا يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمر بالتبليغ عنه.
وقال في خطبته تلك: ((اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) , وودع حينئذ الناس، فقالوا: حَجَة الوداع.
ثم انصرف إلى المنحر بمنى، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده.
ونحر صلى الله عليه وسلم بمنحره بمنى، وأعلمهم أن منى كلها منحر، وأن ضجاج مكة طريقٌ ومنحر, فلما أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحره، استدعى الحلاق فحلق رأسه, ودعا للمحلقين بالمغفرة ثلاثًا، وللمقصرين مرة، وحلق كثيرٌ من الصحابة بل أكثرهم، وقصر بعضهم. ثم أفاض إلى مكة قبل الظهر راكبًا، فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة, وهو طواف الصدر, ولم يطف غيره, ولم يسع معه وهذا
(1/73)
هو الصواب, ثم أتى زمزم بعد أن قضى طوافه, ثم رجع إلى منى من يومه ذلك فبات بها، فلما أصبح انتظر زوال الشمس، فلما زالت مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب, فبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصياتٍ واحدةً بعد واحدة، ويقول مع كل حصاة: ((الله أكبر)) ثم تقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل, فقام مستقبل القبلة، ثم رفع يديه ودعا دعاءً طويلاً بقدر سورة البقرة، ثم أتى إلى الجمرة الوسطى فرماها كذلك, ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي, فوقف مستقبل القبلة رافعًا يديه يدعو قريبًا من وقوفه الأول, ثم أتى الجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة، فاستبطن الوادي، واستعرض الجمرة، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، فرماها بسبع حصيات كذلك, فلما أكمل الرمي رجع من فوره ولم يقف عندها.
وقد تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفاتٍ للدعاء: الموقف الأول: على الصفا, والثاني: على المروة, والثالث: بعرفة, والرابع: بمزدلفة, والخامس: عند الجمرة الأولى والسادس: عند الجمرة الثانية.
ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة، وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى المُحَصَّب، وهو الأبطح.
فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قبةً هناك، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدةً ثم نهض إلى مكة فطاف للوداع ليلاً سحرًا.
ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم راجعًا إلى المدينة, فلما أتي ذا الحليفة بات بها، فلما رأى المدينة كبر ثلاث مرات وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون, صدق الله وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده)).
البيت النبوي
(1/74)
1 - كان البيت النبوي في مكة قبل الهجرة يتألف منه عليه الصلاة والسلام، ومن زوجته خديجة بنت خويلد، تزوجها وهو في خمس وعشرين من سنه، وهي في الأربعين، وهي أول من تزوجه من النساء، ولم يتزوج عليها غيرها، وكان له منها أبناء وبنات، أما الأبناء، فلم يعش منهم أحد، وأما البنات فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، فأما زينب فتزوجها قبل الهجرة ابن خالتها , أبوالعاص بن الربيع، وأما رقية وأم كلثوم فقد تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه الواحدة بعد الأخرى، وأما فاطمة فتزوجها على بن أبي طالب بين بدر وأحد، ومنها كان الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمتاز عن أمته بحل التزوج بأكثر من أربع زوجات لأغراض كثيرة، فكان عدد من عقد عليهن ثلاثة عشرة امرأه، منهن تسع مات عنهن، واثنتان توفيتا في حياته، إحداهما خديجة، والأخرى أم المساكين زينب بنت خريمة، واثنتان لم يدخل بهما، وها هي أسماؤهن وشيء عنهن.
2 - سودة بنت زمعة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من النبوة، بعد وفاة خديجة بنحو شهر، وكانت قبله عند ابن عم لها يقال له: السكران بن عمرو، فمات عنها. توفيت بالمدينة في شوال سنة54هـ.
3ـ عائشة بنت أبي بكر الصديق، تزوجها في شوال سنة إحدى عشرة من النبوة، بعد زواجه بسودة بسنة، وقبل الهجرة بسنتين وخمسة أشهر، تزوجها وهي بنت ست سنين، وبني بها في شوال بعد الهجرة بسبعة أشهر في المدينة، وهي بنت تسع سنين، وكانت بكراً ولم يتزوج بكراً غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق، فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. توفيت في 17رمضان سنة 57هـ أو 58 هـ ودفنت بالبقيع.
4 - حفصة بنت عمر بن الخطاب، تأيمت من زوجها خنيس بن خذافة السهمي بين بدر وأحد، فلما حلت تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة 3هـ توفيت في شعبان سنة 45هـ بالمدينة، ولها ستون سنة، ودفنت بالبقيع.
5 - زينب بنت خزيمة من بنى هلال بن عامر بن صعصة، وكانت تسمى أم المساكين، لرحمتها أياهم ورقتها عليهم، كانت تحت عبد الله بن جحش، فاستشهد في أحد، فتزوجها رسول الله صلى
(1/75)
الله عليه وسلم سنة 4 هـ. ماتت بعد الزواج بنحو ثلاثة أشهرفي ربيع الآخر سنة 4هـ، فصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ودفنت بالبقيع.
6 - أم سلمة هند بنت أبي أمية، كانت تحت أبي سلمة، وله منها أولاد، فمات عنها في جمادى الآخر سنة 4 هـ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال السنة نفسها، وكانت من افقه النساء وأعقلهن. توفيت سنة 59هـ، وقيل: 62هـ ودفنت بالبقيع، ولها 84 سنة.
7 - زينب بنت جحش بن رباب من بنى أسد بن خزيمة، وهي بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحت زيد بن حارثة - الذي كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم - فطلقها زيد، فلما انقضت العدة أنزل الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، وفيها نزلت من سورة الأحزاب آيات فصلت قضية التبني - وسنأتي على ذكرها - تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة. وقيل: سنة 4هـ، وكانت أعبد النساء وأعظمهن صدقة، توفيت سنة 20هـ ولها 53 سنة. وكانت أول أمهات المؤمنين وفاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى عليها عمر بن الخطاب، ودفنت بالبقيع.
8 - جويرية بنت الحارث سيد بنى المصطلق من خزاعة، كانت في سبي بنى المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في شعبان سنة 6 هـ. وقيل: سنة 5هـ، فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق، وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت أعظم النساء بركة على قومها. توفيت في ربيع الأول سنة 56هـ، وقيل: 55 هـ. ولها 65 سنة.
9 - أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، كانت تحت عبيد الله بن جحش، فولدت له حبيبة فكنيت بها، وهاجرت معه إلى الحبشة، فارتد عبيد الله وتنصر، وتوفي هناك، وثبتت أم حبيبة على دينها وهجرتها، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أميه الضمري بكتابه إلى النجاشي في المحرم سنة 7 هـ. خطب عليه أم حبيبة فزوجها إياه وأصدقها من عنده أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة. فابتنى بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من خيبر. توفيت سنة 42 هـ، أو 44هـ، أو 50هـ.
(1/76)
10 - صفية بنت حيي بن أخطب سيد بن النضير من بنى إسرائيل، كانت من سبي خيبر، فاصطفاها رسول الله صلى الله وعليه وسلم لنفسه، وعرض عليها الإسلام فأسلمت، فأعتقها وتزوجها بعد فتح خيبر سنة 7هـ، وابتنى بها بسد الصهباء على بعد 12 ميلا من خيبر في طريقه إلى المدينة. توفيت سنة 50 هـ وقيل: 52هـ، وقيل 36 هـ ودفنت بالبقيع.
11 - ميمونة بنت الحارث، أخت أم الفضل لبابة بنت الحارث، تزوجها في ذي القعدة سنة 7 هـ، في عمرة القضاء، بعد أن حل منها على الصحيح.
وابتنى بها بسرف على بعد 9 أميال من مكة، وقد توفيت بسرف سنة 61 هـ، وقيل: 63، وقيل: 38 هـ ودفنت هناك، ولا يزال موضع قبرها معروفا.
فهؤلاء إحدى عشرة سيدة تزوج بهن الرسول صلى الله عليه وسلم، وبنى بهن وتوفيت منهن اثنتان - خديجة وزينب أم المساكين - في حياته، وتوفي هو عن التسع البواقي.
وأما الاثنتان اللتان لم يبن بهما، فواحدة من بنى كلاب، وأخرى من كندة، وهي المعروفة بالجونبة، وهناك خلافات لاحاجة إلى بسطها.
وأما السراري فالمعروف أنه تسرى باثنتين إحداهما مارية القبطية، أهداها له المقوقس، فأولدها ابنه إبراهيم، الذي توفي صغيرا بالمدينة في حياته صلى الله عليه وسلم، في 28 / أو 29 من شهر شوال سنة 10 هـ وفق 27 يناير سنة 632م.
والسرية الثانية هي ريحانة بنت زيد النضرية أو القرظية، كانت من سبايا قريظة، فاصطفاها لنفسه، وقيل: بل هي من أزواجه صلى الله عليه وسلم، أعتقها فتزوجها. والقول الأول رجحه ابن القيم. وزاد أبو عبيدة اثنتين أخريين، جميلة أصابها في بعض السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
ومن نظر إلى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عرف جيداً أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه وأجود أيامه مقتصرا على وجة واحدة شبه عجوز - خديجة ثم سودة - عرف أن هذا الزواج لم يكن لأجل أنه وجد بغته في
(1/77)
نفسه قوة عارمة من الشبق، لا يصبر معها إلا بمثل هذا العدد الكثير من النساء؛ بل كانت هناك أغراض أخرى أجل وأعظم من الغرض الذي يحققه عامة الزواج.
فاتجاه الرسول صلى الله عليه وصلى إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة - وكذلك تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنتيه رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان - يشير إلى أنه يبغي من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة، الذي عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام.
وكان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار سبة وعاراً على أنفسهم، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر سورة عداء القبائل للإسلام، ويطفئ حدة بغضائها، كانت أم سلمة من بنى مخزوم - حي أبي جهل وخالد بن الوليد - فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعا راغباً، وكذلك أبو سفيان لم يواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفي ما لهدا المن من الأثر البالغ في النفوس.
وأكبر من كل ذلك وأعظم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتزكية وتثقيف قوم لم يكونوا يعرفون شيئا من آداب الثقافة والحضارة والتقيد بلوازم المدينة، والمساهمة في بناء المجتمع وتعزيزه.
والمبادئ التي كانت أسسها لبناء المجتمع الإسلامي، لم تكن تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء، فلم يكن يمكن تثقيفهن مباشرة مع المراعاة لهذه المبادئ، مع أن مسيس الحاجة إلى تثفيفهن مباشرة لم يكن أهون وأقل من الرجال، بل كان أشد وأقوى.
وإذن فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم سبيل إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، ويثقفهن بثقافة الإسلام حتى يعدهن؛ لتربية البدويات والحضريات، العجائر منهن والشابات، فيكفين مؤنة التبليغ في النساء.
(1/78)
وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله - صلى الله عليه وسلم - المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من افعاله وأقواله.
وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني. وكان للمتبني عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء. وكانت قد تاصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لم يكن محوها سهلاً، لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للأسس والمبادئ التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات، وكانت تلك القاعدة تجلب كثيرا من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام؛ ليمحوها عن المجتمع.
وقدر الله أن يكون هدم تلك القاعدة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذاته الشريفة، وكانت ابنة عمته زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هم زيد بطلاقها، وفاتح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إما بإشارات الظروف، وإما بإخبار الله عز وجل إياه ـ أن زيدا إن طلقها فسيؤمر هو صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك في ظروف حرجة من تألب المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وكان يخاف ـ إذا وقع هذا الزواج ـ دعاية المنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين، فلما فاتح زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرادته طلاق زينب أمره بأن يمسكها ولا يطلقها، وذلك لئلا تجئ له مرحلة هذا الزواج في تلك الظروف الصعبة.
ولم يرض الله من رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا التردد والخوف حتى عاتبه الله عليه بقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
وأخيرا طلقها زيد، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها. وكان الله قد أوجب عليه هذا النكاح، ولم يترك له خيارا ولا مجالا، حتى تولى الله ذلك النكاح بنفسه يقول: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلاً كما
(1/79)
هدمها قولا: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
وكم التقاليد المتأصلة الجافة لا يمكن هدمها أو تعديلها لمجرد القول، بل لابد له من مقارنة فعل صاحب الدعوة، ويتضح ذلك بما صدر من المسلمين في عمرة الحديبية، كان هناك أولئك المسلمون الذين رآهم عروة بن مسعود الثقفي، لا يقع من النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا في يد أحدهم، ورآهم يتبادرون إلى وضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه، نعم كان أولئك الذين تسابقوا إلى البيعة على الموت أو على عدم الفرار تحت الشجرة، والذين كان فيهم مثل أبو بكر وعمر، لما أمر النبي صلى الله عليه وسم أولئك الصحابة المتفانين في ذاته - بعد عقد الصلح - أن يقوموا فينحروا هديهم لم يقم لامتثال أمره أحد، حتى أخذه القلق والاضطراب، ولكن لما أشارت عليه أم سلمة أن يقوم إلى هديه فينحر، ولا يكلم أحدا ففعل، تبادر الصحابة إلى اتباعه في فعله، فتسابقوا إلى نحر جزورهم. وبهذا الحادث يتضح جليا ما هو الفرق بين أثري القول والفعل لهدم قاعدة راسخة.
وقد أثار المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لا سيما أن زينب كانت خامسة أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيدا كان يعتبر ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل الله في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى، وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن الله تعالى وسع لرسوله صلى الله عليه وسلم في الزواج ما لم يوسع لغيره، لأغراضٍ نبيلة.
هذا، وكانت عشرته صلى الله عليه وسلم مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج , مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد. قال أنس: ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفا مرفقا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطا بعينه قط. وقالت عائشة: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقال لها عروة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء. والأخبار بهذا الصدد كثيرة.
(1/80)
ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سببا لتشريع الأحكام - فأنزل الله آية التخيير {أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمً} [الأحزاب: 28، 29] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن الله ورسوله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا.
وكذلك لم يقع منهن ما يقع بين الضرائر ـ مع كثرتهن ـ إلا شيء يسير من بعضهن حسب اقتضاء البشرية، ثم عاتب الله عليه فلم يعدن له مرة أخرى وهو الذي ذكره الله في سورة التحريم بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى تمام الآية الخامسة.
تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
تعدد الزوجات عبر تاريخ الديانات السماوية:
(1) إن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم قد عددوا الزوجات ووصل الأمر بهم إلى الزواج من مئة مثل داود الذي لم يكتف بتسع وتسعين حتى تزوج تمام المئة بعد موت زوجها، وسليمان كانت له ثلاثمائة زوجة وأربعمائة جارية كما في العهد القديم مصدر التشريع الأول عند النصارى (ما جئت لأنقص بل لأكمل).
(2) كافة نصوص العهد القديم تأذن بالتعدد وتبيحه للأفراد رسلاً أو بشراً.
(3) لم يرد نص واحد يحرم التعدد في النصرانية وقد تأثر النصارى بالبلاد التي نشروا فيها النصرانية، ففي أفريقيا يأذنون بالتعدد ويبيحون الزواج للقساوسة، وفي أوروبا يحرمون التعدد ويحرمون الزواج على القساوسة ويبيحون الصداقة.
(4) النص الذي يستشهد به النصارى على تحريم التعدد هو (أما علمتم أن الخالق منذ البدء جعلهما ذكراً وأنثى وقال لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فما جمعه الله لا يفرقه إنسان). فجعلوا من ضمير الإفراد في قوله:"امرأته" أن الرجل لا يتزوج إلا بامرأة واحدة. والنص قد فهم على غير وجهه، فالمسيح حين سئل "أيحل لأحدنا أن يطلق
(1/81)
امرأته لأي علة كانت ... " كانت إجابته كما سبق.
(5) أن الإجابة لا صلة لها بالتعدد بل بالنهي عن الطلاق لا التزوج.
(6) المسيحية تأذن بالتعدد بالتتابع ولكنها ترفضه بالجمع وينتهي التعدد عند الرابعة متتابعاً حتى لا يكون الإنسان غاوياً، وتسمح بالخلة والصديقة بدون حد ولا عد.
(7) كان العرب يجمعون بين أربعين امرأة في وقت واحد كدليل على الرجولة وطلب للولد.
(8) بالنسبة لتعدد زوجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- فإنه يرجع إلى أسباب اجتماعية وتشريعية وسياسية يمكن بيانها –والله أعلم- على النحو التالي:
أولاً: الأسباب الاجتماعية:
(أ) زواجه من خديجة –رضي الله عنها- وهذا أمر اجتماعي أن يتزوج البالغ العاقل الرشيد وكان –عليه الصلاة والسلام- في سن الخامسة والعشرين وظلت معه وحدها حتى توفيت وهو في سن الخمسين.
(ب) تزوج بعدها بالسيدة سودة بنت زمعة وكانت أرملة لحاجة بناته الأربع إلى أم بديلة ترعاهن وتبصرهن بما تبصر به كل أم بناتها.
(ج) حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوجها بعد وفاة زوجها إكراماً لأبيها سـ3هـ.
(هـ) زينب بنت خزيمة استشهد زوجها في أحد فتزوجها سـ 4هـ.
(و) أم سلمة هند بنت أمية توفى زوجها ولها أولاد فتزوجها سـ4هـ.
خامساً: الأسباب التشريعية:
- زواجه من عائشة –رضي الله عنها- فلقد كان بوحي، حيث رآها في المنام ورؤيا الأنبياء وحي.
- زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد بالتبني فنزل قول الله تعالى:"وما جعل أدعياءكم أبناءكم" [الأحزاب: 4] "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله" [الأحزاب: 5] وبعد خلاف مع زوجها طلقت منه وأمر الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يتزوجها لإقامة الدليل العملي على بطلان التبني، وذلك سنة خمسة
(1/82)
للهجرة.
ثالثاً: الأسباب السياسية:
كان لبعض زيجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- بعداً سياسياً من حيث ائتلاف القلوب والحد من العداوة وإطلاق الأسرى ... إلخ، ومن هن:
(1) جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من خزاعة وقعت في الأسر، تزوجها سنة 6 هـ.
(2) أما حبيبة رملة بنت أبي سفيان، تنصر زوجها وبقيت على إسلامها، وكان للزواج منها كبير الأثر في كسر حدة أبي سفيان في العداء للإسلام، حتى هداه الله.
(3) صفية بنت حيي بن أخطب كانت من سبي خيبر أعتقها الرسول وتزوجها سـ7هـ.
(4) ميمونة بنت الحارث تزوجها سـ 7هـ.
مات من هؤلاء اثنتان في حياة الرسول وهما خديجة وزينب بنت خزيمة وتوفى الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن تسع.
وأما الجواري فهما مارية القبطية التي ولدت إبراهيم وتوفى صغيراً، وريحانة بنت زيد القرطية.
إذن التعدد بدأ في سن الثالثة والخمسين من عمره فهل هذا دليل الشهوة، ومن يشته هل يتزوج الثيبات وأمهات الأولاد والأرامل، كيف وقد عرض عليه خيرة بنات قريش فأبى!
إن التعدد كله لحكم منها –فضلا عما سبق- بيان كل ما يقع في بيت النبوة من أحكام عملاً بقوله تعالى:"واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة" [الأحزاب: 34] وإذا كان الحكم الشرعي لا يثبت بخبر الواحد غالباً فإن للتعدد أثره في إثبات الأحكام بالتواتر، كما أن زوجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- اختلفت أحوالهن بين غنى وفقرٍ وحسب ونسب وبساطة لكل من يتزوج بأي صورة من هذه الصور قدوة في حياة الرسول –صلى الله عليه وسلم- مع زوجته التي تطابق حال زوجه وتعددهن فيه بيان لكل ما يمكن أن يقع من النساء داخل البيت كالغيرة والصبر والتآمر وطلب الدنيا؟ والتواضع ونشر العلم والرضى ... إلخ.
(1/83)
إن بسط الكلام في هذا الأمر متعذر في هذه العجالة ومن أراد المزيد فليراجع زوجات النبي –صلى الله عليه وسلم- لبنت الشاطئ. تعدد الزوجات لأحمد عبد الوهاب. الرحيق المختوم للمباركفوري.
وأخيرا، فمن نظر في حياة سكان أوروبا الذين يصدر منهم النكير الشديد على هذا المبدأ تعدد الزوجات، ونظر إلى مايقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
المعجزات المحمدية
إن المراد من المعجزات: ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله فيكون ما يأتي به النبي معجزًا لغيره من سائر الناس، بحيث لم يقدروا عليه أفرادًا أو جماعات؛ لأنه خارج عن طوق البشر واستطاعتهم، فإن قُرِنَ بالتحدي كان المعجزة الخاصة بالأنبياء، وإن لم يقرن بتحدًّ فهو كرامة يكرم الله تعالى بها من يشاء من أوليائه وصالحي عباده؛ إذ الفرق بين المعجزة والكرامة أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي غالبًا والكرامة خالية من ذلك، فالمعجزة مثبتة للنبّوة مقررة لها، إذ بها يعرف النبي الحق من المدَّعي الكاذب.
ولفظ المعجزة غير وارد في القرآن الكريم، وإنما الوارد لفظ الآية؛ لأنّ الأصل في الآية العلامة الدالة على الشيء، إذ يقول الإنسان لأخيه: فلان يقول لك: أعطني كذا أو كذا، فيقول له: ما آية ذلك؟ أي: ما علامته أنه قال: أعطه كذا أو كذا؟ فيريه خاتمه أو كتابه أو سيفه أو أي شيء خاص به فيكون ذلك آية وعلامة على صدق ما ادعاه وطالب به.
(1/84)
هذا وللحبيب محمد صلى الله عليه وسلم معجزات أكرمه الله تعالى بها وصدق رسالته بمثلها بلغت الألف معجزة، هكذا قرر أهل العلم إن لم تكن أكثر من ذلك وها نحن نورد ما يحضرنا منها:
وأولى تلك المعجزات أو الآيات:
القرآن الكريم
لأنه كلام الله تعالى أوحاه الله فدل ذلك على نبوته، وصدقه في رسالته؛ لأن القرآن الكريم عجز بحروفه وكلماته وتراكيبه، ومعانيه، وأخبار الغيوب التي وردت فيه، فكانت كما أخبر، كما هو معجز بالأحكام الشرعية والقضايا العقلية التي لا قبل للبشر بمثلها، مع التحدي القائم إلى اليوم بأن يأتي الإنس أو الجن متعاونين بمثله قال تعالى موحيه ومنزله: من سورة الإسراء، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} , وتحدى العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان على أن يأتوا بعشر سورٍ مثله فما استطاعوا قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} , وتحداهم بسورةٍ واحدةٍ من مثله فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ... } نفي لقدرتهم على الإتيان بسورة مثل القرآن في مستقبل الأيام، وقد مضى حتى الآن ألف وأربعمائة سنة وسبع سنين، ولم يستطع الكافرون أن يأتوا بسورة من مثله.
وهذا كان القرآن معجزة خالدة باقية ببقاء هذه الحياة، ولذا سيخلد الإسلام ويبقى إلى نهاية الحياة؛ لأن معجزته باقية كذلك.
(1/85)
انشقاق القمر
فقد روى أحمد والبخاري ومسلم في صحيحيهما أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقَّين، قال مطعم: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سَحَرَنَا محمد, وأنزل الله تعالى مصداق ذلك وهو قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ}.
نزول المطر بدعائه صلى الله عليه وسلم
لقد أمحلت البلاد، وأصابها قحط شديد فدخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فاستقبل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله لنا يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: ((اللهمَّ اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا))، قال أنس: والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيء، وما بيننا وبين سلع [جبل داخل المدينة النبوية اليوم] من بيتٍ ولا دارٍ فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، والله ما رأينا الشمس سِتًّا، ثم دخل رجلٌ من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله الرجل، وقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، ادع الله يمسكها، فرفع رسول الله صلى إليه عليه وسلم يديه، ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال
(1/86)
ومنابت الشجر)). قال أنس: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس. رواه البخاري ومسلم.
فهذه المعجزة وهي نزول المطر بدعائه صلى الله عليه وسلم قد كررت مرات عديدة وهي معجزة سماوية كانشقاق القمر ولا دخل لغير القدرة الإلهيّة فيها، وهي آية نبوّته صلى الله عليه وسلم ولكثرة تكرار هذه الآية كانوا يردّدون قول أبي طالب فيه:
وأبيض يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
نبوع الماء من بين أصابعه أسمائه صلى الله عليه وسلم
ومن معجزات الحبيب صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوّته وصدق رسالته نبوع الماء من بين أصابعه الشريفة، فقد قال أنس بن مالك -خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم-: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوَضوء [الوضوء بفتح الواو الماء يتوضَؤ به]، فلم يجدوه فأُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَهُ في ذلك الإناء، وأمر الناس أن يتوضأوا منه فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضأوا من عند آخرهم، قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلثمائة رجل. أخرجه البخاري ومسلم
فهذه معجزة ظاهرة؛ إذ ليس في طوق البشر أن يأتوا بمثلها، إذ لم تجر سنة الله في الكون أن الماء ينبع من بين أصابع الإنسان مهما كان إلا أن تكون آية تدل على صدق نبّوة من ادعاها، فقد كانت هذه آية نبّوته صلى الله عليه وسلم إذ وقعت في
(1/87)
سوق المدينة العاصمة وحضرها وشهدها قرابة الثلثمائة رجل من أصدق الرجال وأذكاهم، وأتقاهم.
فيضان ماء بئر الحديبية
وروى الإمام البخاري رحمه الله من معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه لما كان بالحديبية [مكان يبعد عن مكة بنحو عشرين ميلاً] هو وأصحابه سنة ست من الهجرة, وكان من الحديبية بئر ماء فنزحها أصحابه بالسقى منها حتى لم يبق فيها ما يملأ كأس ماء وكانا ألفًا وأربعمائة رجل، وخافوا العطش فشكوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم.
فجاء فجلس على حافة البئر فدعا بماء فجيء به إليه فتمضمض منه، ومجّ ما تمضمض به في البئر فما هي إلا لحظات، واذا البئرُ فيها الماء فأخذوا يسقون فسقوا وملأوا أوانيهم وأدوات حمل الماء عندهم, وهم كما تقدم ألف وأربعمائة رجل وهم أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم، وأنزل فيهم قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} , ففيضان الماء من بئر جافة لا ماء بها حتى سقى منها أهل معسكر بكامله لم يكن إلا آية نبويّة صادقة تنطق قائلة أن صدقوا محمدًا فيما جاءكم به ودعاكم إليه فإنه رسول الله إليكم حقًا وصدقًا.
قدح لبن روى فئامًا من الناس
(1/88)
روى البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه القصة التالية:
قال: والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشُدُّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله عز وجل ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمرّ عمر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله تعالى ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فعرف ما في وجهي، وما في نفسي فقال: ((أبا هريرة)) قلت له: لبيك يا رسول الله فقال: ((الحق)) واستأذنت فأذِن لي فوجدت لبنًا في قدح، قال: ((من أين لكم هذا اللبن؟)) فقالوا: أهداه لنا فلان -أو آل فلان-, قال: ((أبا هرٍّ))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي)) قال -أي أبو هريرة-: وأهل الصفة أضياف الإسلام لم يأووا إلى أهلٍ ولا مالٍ، إذا جاءت رسول الله هدية أصاب منها وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها، قال أبو هريرة: وأحزنني ذلك كنت أرجوا أن أصيب من اللبن شربة أتقوّى بها بقية يومي وَلَيْلَتي، وقلت: أنا الرسول فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيتهم، وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وورسوله بدٌّ, فانطلقت فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت ثم قال: ((يا أبا هريرة خذ فأعطهم)) فأخذت القدح فجعلت أعطيهم فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يُروى، ثم يرد القدح حتى أتيت على آخرهم ودفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ القدح فوضعه في يديه وبقي فيه فضلة، ثم رفع رأسه ونظر إليَّ وابتسم، وقال: ((أبا هريرة))، فقلت: لبيك رسول الله، قال: ((بقيت أنا وأنت)) فقلت: صدقت يا رسول الله، قال: ((فاقعد فاشرب)) , قال: فقعدت فشربتُ، ثم قال لي: ((اشرب)) فشربتُ فما زال يقول
(1/89)
لي: اشرب فأشرب حتى قلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له فيّ مسلكًا، قال: ((ناولني القدح)) فرددته إليه فشرب من الفضلة.
وهكذا تتجلى هذه المعجزة وهي آية النبوّة المحمدية، إذ قَدَحُ لبن لا يروي ولا يشبع جماعة من الناس كلهم جياع بحالٍ من الأحوال، فكيف أرواهم وأشبعهم؟ إنها المعجزة النبوية, وآية أخرى للكمال المحمدي أن يكون صلى الله عليه وسلم هو آخر من يشرب من ذلك القدح الذي شرب جماعة من الناس.
وهنا يقال: ما بال الذين يتقززون من شرب السؤر ويرفضونه في كبرياء وخوف أيضًا أن يصابوا بمرض من ذلك؟ أين هم من هذ الكمال المحمدي؟ إنهم بعيدون كل البعد ذاهبون في أودية الأوهام حيث لا يسمعون ولا يبصرون.
الطعام القليل يشبع العدد الكثير
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قوله: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصًا من شعير، ثم أخرجت خمارًا لها فلّفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرسلك أبو طلحة؟)) فقلت: نعم، قال: ((بطعام؟)) قلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: ((قوموا)) فانطلق، وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليس عندنا ما نطعمهم؟ فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/90)
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلمَّ يا أم سليم ما عندك؟)) فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وعصرت أم سليم عكة فآدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقول، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) , فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) , فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) , فأكل القومك كلهم، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. أليست هذه من أعظم المعجزات؟ بل وربِّي إنها لمن أعظم المعجزات إن أقراصًا عدة حملها غلام تحت إبطه يطعم منها ثمانون رجلاً ويشبع كل واحدٍ منهم شبعًا لا مزيد عليه، إن لم تكن هذه معجزة فما هي المعجزات إذًا يا تُرى؟
تكثير الطعام
إن معجزة تكثير الطعام والشراب قد تكررت فبلغت عشرات المرات، وفي ظروفٍ مختلفة، ومناسباتٍ عديدة، منها ما تقدم، ومنها هذه، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها (وهي غزوة تبوك) فأرمل [نفد زادهم واحتاجوا إلى الطعام] فيها المسلمون واحتاجوا إلى الطعام فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحر الإبل فأذن لهم، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إبلهم تحملهم وتبلغهم علوهم ينحرونها؟ ادع يا رسول الله بغبَّرات [غبرات الزاد: بقاياه] الزاد فادع الله عز وجل فيها بالبركة، قال: ((أجل)) فدعا بغبرات الزاد فجاء الناس بما بقي معهم فجمعت, ثم دعا الله عز وجل فيها بالبركة, ودعاهم بأوعيتهم فملأوها وفضل كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني عبد الله ورسوله, ومن لقي الله عز وجل بها غير شاكٍ دخل الجنة)) رواه أحمد ومسلم.
(1/91)
فهذه معجزة ظاهرة في تكثير الطعام القليل حتى أصبح كثيرًا وهي كما تقدم واحدة من عشرات المعجزات في تكثير الطعام والشراب.
(1/92)
توفية دين جابر الذي استغرق كلَّ مالِه
فقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- في دلائل النبوة المحمدية قصة جابر الآتية: فقال: حدثنا أبو نعيم وساق السند إلى جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما فقال: إنّ أبي تُوفيّ وعليه دين فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أبي ترك دينًا، وليس عندي إلا ما يخر نخله، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه، فانطلق معي لكيلا يفحش عليّ الغرماء فمشى حول بيدر [الموضع الذي يجمع فيه التمر] من بيادر التمر فدعا، ثم آخر، ثم جلس عليه فقال: ((انزعوه)) فأوفاهم الذي لهم، وبقي مثل ما أعطاهم، وهكذا بعد أن كان الدين قد استغرق كل التمر ولسنين عدة أيضًٍا، وفَّى التمر الموجود كل الديون وبقي التمر في البيادر مثل ما سددت به الديون الكثيرة، وذلك ببركة وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين البيادر ودعائه بالبركة فيها، فباركها الله عز وجل فوفت الديون وزادت، فكانت آية النبوة والمعجزة الظاهرة التي يبعث بها الأنبياء، ويكرم الله تعالى بها الأولياء متى شاء وهو على كل شيءٍ قدير.
انقياد الشجر له صلى الله عليه وسلم
روى مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديًا أفيح [أي: واسعاً رحباً] فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فأتبعته بإداوة فيها ماء، فنظر فلم يَرَ شيئًا يستتر به وإذ شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق إلى إحداهما فأخذ ببعضٍ من أغصانها وقال: ((انقادي
(1/93)
عليّ بإذن الله)) , فانقادت معه كالبعير المخشوش [الذي جُعل في أنفه الخشاش وهو العود يجلع في عظم أنف الجمل لينقاد] الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بعضًا من أغصانها وقال: ((انقادي عليّ بإذن الله)) , فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يُصانع قائده حتى إذا كانت بالمنتصف فيما بينهما لاءم بينهما أي جَمَعَهما، وقال: ((التئما عليّ بإذن الله)) فالتأمتا.
قال جابر: فخرجت أحضر [أي: أعْدُو بشدّة] مخافة أن يحس بقربي منه فيبعُد، فجلست أحدّث نفسي فحانت منِّي التفاتة، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مُقبلٌ وإذا الشجرتان قد افترقتا، وقامت كل واحدةٍ منهما على ساقٍ إلى آخر الحديث ..
فهذه إحدى المعجزات الخارقة للعادة التي لا تكون إلا لنبي من الأنبياء عليهم السلام، إذ كون الشجرة تستجيب وتنقاد مطيعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمرٌ خارق للعادة لم تجر به سنن الله تعالى في الكون، وبذا كانت معجزة للحبيب صلى الله عليه وسلم.
(1/94)
حنين الجذع شوقًا إليه صلى الله عليه وسلم
فقد روى أحمد -رحمه الله- بإسناده وأصل الحديث في صحيح البخاري وقد صحح الحديث بتمامه الألباني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع نخلةٍ فقالت امرأة من الأنصار وكان لها غلام نجار: يا رسول الله إن لي غلامًا نجارًا أفآمره أن يتخذ لك منبرًا تخطب عليه؟ قال: ((بلى))، فاتخذ له منبرًا فلما كان يوم الجمعة خطب صلى الله عليه وسلم على المنبر فأنَّ الجذع الذي كان يقوم عليه كما يَئِنّ الصبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا بكى لما فقد من الذكر)). وفي رواية البخاري فصاحت النخلة (جذع النخلة) صياح الصبي، ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: ((كانت تبكي (النخلة) على ما كانت تسمع من الذكر عندها)) , فحنين الجذع شوقًا إلى سماع الذكر وتألمًا لفراق الحبيب الذي كان يخطب إليه واقفًا عليه وهو جماد لا روح له ولا عقل في ظاهر الأمر، وحسب علم الناس بالجمادات آية من أعظم الآيات الدالة على نبوة الحبيب صلى الله عليه وسلم وصدق رسالته وهي معجزة كبرى على مثلها آمن البشر لعجزهم على الإتيان بمثلها.
سلام الحجر عليه صلى الله عليه وسلم
(1/95)
فقد روى مسلم وأحمد بسنده عن جابر بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن))، فسلام الحجر وهو جماد أمر خارق للعادة، معجز للبشر أن يأتوا بمثله، فلذا هو آية النبوة المحمدية ومعجزة من معجزات الحبيب صلى الله عليه وسلم.
سجود البعير له صلى الله عليه وسلم وشكواه إليه
كما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يومًا مع بعض أصحابه حائطًا من حيطان الأنصار، فإذا جمل قد أتاه فجرجر وذرفت عيناه، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذفراه فٍَسكَن، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من صاحب الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار قال: هو لي يا رسول الله, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكها الله لك؛ إنه شكا إليَّ أنك تجيعُه وتدئبه)) أي: تواصل العمل عليه بدون انقطاع.
أليست هذه آية من آيات النبوة ومعجزة من عظيم معجزاتها؟ بلى, ولذا كان الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من أقبح الكفر وأسوأه، ولا يكون إلا من جهل كامل، أو حسد قاتل، أو خوف فوات منافع مادية طائلة، كما كان شأن الجهال من الأمم والشعوب وحسد اليهود، وخوف رجال الكنيسة من زوال سلطانهم الروحي، وما يترتب عليه من فقدانهم المال والرئاسة الروحية على الشعوب المسيحية.
شهادة الذئب برسالته صلى الله عليه وسلم
(1/96)
فقد روى أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده والترمذي في سننه وصحح إسناده الألباني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عَدَا الذئب على شاة فأخذها، فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذَنَبه فقال: ألا تتقي الله، تنزع مني رزقًا ساقه الله إليَّ. فقال: يا عجبى ذئب يكلمني كلام الإنس!! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد بشر يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي: أخبرهم فأخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق والذي نفس محمدٍ بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس، ويكلم الرجلَ عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده)).
هذه آية من آيات النبوّة المحمدية، ومعجزة من معجزاته بكل شطريها: الأول الذي فيه كلام الذئب للراعي، والثاني الذي فيه إخبار بغيب لم يكن فكان اليوم، فعذبة السوط ظاهرة في تلفون الشرَط، وتكليم الفخذ وشراك النعل ظاهرة كذلك في آلات التسجيل الصغيرة التي يستعملها رجال المخابرات بمهارة خاصة.
فنطق الغزالة ووفاؤها له صلى الله عليه وسلم آية من آيات النبوة المحمدية ومعجزة من معجزاته الموجبة للإيمان به وطاعته ومحبته صلى الله عليه وسلم.
شفاء علي رضي الله عنه بتفاله صلى الله عليه وسلم
ففي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم في غزو خيبر: ((لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يده))، فلما أصبحوا نادى عليًّا,
(1/97)
فقالوا: مريض يا رسول الله يشكو عينيه فقال: ((ائتوني به)) , فأتي به فنفث في عينه بقليل من ريقه صلى الله عليه وسلم فبرأ لتوّه ولم يمرض بعينه بعد قط.
فكانت أية من آيات النبوة المحمدية، ومعجزة من معجزاته الدالة على نبوته وصدق رسالته صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
صدق إخباره بالغيب صلى الله عليه وسلم
ومن آيات النبوة والمعجزات المحمدية صدق أخباره الغيبيّة الآتية:
- قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن رضي الله عنه: ((إن ابني هذا سيد وسيُصلح الله به بين فئتين عظيمتين)) رواه البخاري، فكان الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم فقد أصلح به بين من كان مع الحسن وبين من كان مع معاوية رضي الله عنهم أجمعين.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصدّيق وشهيدان)) رواه البخاري، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فمات أبو بكر بمرضٍ أصابه، وقُتل عمر في المحراب شهيدًا، وقُتل عثمان في داره شهيدًا، فرضي الله عنهم أجمعين.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة)). رواه البخاري ومسلم، وقد وقع هذا كما أخبر، فقد اقتتل عليّ ومعاوية رضي الله عنهما بجيشيهما في صفين، ودعواهما واحدة، فكان ما أخبر به صلى الله عليه وسلم كما أخبر فهي آية نبوّته صلى الله عليه وسلم ومعجزته التي على مثلها آمن البشر.
- قوله صلى الله عليه وسلم لخباب بن الأرت وقد جاء يشكو إليه ما يلقى المؤمنون من كفار قريش، يطلب منه أن يستنصر الله تعالى لهم، قال له وقد احمّر وجهه صلى
(1/98)
الله عليه وسلم -أو تغير لونه-: ((لقد كان من قبلكم تحفر له الحفرة، ويُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق نصفين ما يصرفه ذلك عن دينه، ولَيُتمَّن اللهُ هذا الأمر، حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت ما يخشى إلا الله والذئب على غنمه)) رواه البخاري، وقد تم هذا كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فكان آية نبوته ومعجزتها التي لا يقدر عليها أحدٌ إلا الله جل جلاله، وعظم سلطانه.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((منعت العراق درهَمَها وقفيزها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم)) رواه مسلم. فهذا الخبر قد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد منعت العراق، ومنعت الشام، ومنعت مصر، ما كانوا يؤدونه إلى أهل الحجاز من خراج وغيره، وعاد أهل الحجاز كما بدأوا فمسّهم الجوع، ونالهم التعب بعد ما أصابهم من رغد العيش وسعة الرزق، فكان هذا آية النبوة المحمدية ومعجزة على مثلها آمن البشر.
- قوله صلى الله عليه وسلم في عثمان رضي الله عنه: ((افتح له وبشرّه بالجنة على بلوى تصيبه)). وذلك في حديث الصحيح ونصه: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا (بستانًا) فدلّى رجليه في القفّ (1) فقال أبو موسى وكان معه: لأكوننّ اليوم بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست خلف الباب فجاء رجل فقال: افتح فقلت من أنت؟ قال: أبو بكر، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((افتح له وبشره بالجنة))، ثم جاء عمر فقال كذلك، ثم جاء عثمان فقال: ((ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)). فهذا الخبر من أنباء الغيب الدالة على نبّوته صلى الله عليه وسلم.
- قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: ((إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرّة، وإنه عارضني العام مرتين، وما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي)). فبكت ثم سارّها فأخبرها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وأنها أول أهله لحوقًا به، فكان
__________
(1) القف: الدكة تجعل حول البئر يجلس عليها وتدلى الأرجل في الماء المستخرج من البئر.
(1/99)
كما أخبر إذ ماتت بعده بستة أشهر، ولم يمت قبلها من آل البيت أحد، فكان هذا الخبر آية نبوّته صلى الله عليه وسلم.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة في الجنة)) , وسئل عنها فقال: ((هم الذين يكونون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي))
فهذا القول النبوي الشريف منه كان كما أخبر، حيث بلغت فرق هذه الأمة ثلاث وسبعين فرقة كما أخبر، فكان آية النبوة المحمدية. وكانت تلك أربعين معجزة للحبيب صلى الله عليه وسلم،
والمراد من إيرادها تقوية إيمان المؤمنين، ودعوة غيرهم إلى الإيمان به صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً تجب متابعته وتتحتم طاعته وتلزم محبته من أجل النجاة من الخسران، والفوز بالمغفرة والرضوان، في دار السلام مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إذ قال تعالى، وقوله الحق من سورة النساء من كتابه الكريم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}.
(1/100)
الأخلاق المحمديّة التي فيها أسوة للمؤمنين
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
فقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} شهادة من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم بأنه على أكمل الأخلاق وأتمها وأرفعها وأفضلها، بحيث لا يدانى فيها بحال من الأحوال.
وفي قوله في الحديث الصحيح: ((بعثت لأتمم صالح الأخلاق)).
وفي قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} إعلام من الله تعالى لعباده المؤمنين بما أوجب عليهم من الاقتداء برسوله الذي كمله خَلْقًا وخُلٌُقَا، وشرفه أصلاً ومحتدًا، ورفعه منزلةً وقدرًا، حتى لا تأنف النفوس في اتباعه, والاقتداء به في كل ما هو في استطاعتها التّحَلِّي به، والتقرب إلى ربها عز وجل باتباعه والاقتداء به فيه.
ومن هنا كان الكمال المحمدي ضربين: ضربًا لم تشرع الأسوة فيه لعجز المرء عن كسب مثله وذلك كشرف الأصل، وجمال الذات، وعلوّ القدر، والاصطفاء للرسالة، وتلقي الوحي الإلهيّ، وضربًا مأمورًا بالاقتداء به فيه، والمنافسة في تحصيل أكبر قدر منه، والمسابقة إليه، والجدّ في الطلب للظفر به، والحصول عليه، وهو ما سنذكر جملاً صالحة منه، سائلين الله تعالى أن يرزقنا التحليّ به، والحياة والموت عليه، اللهم آمين.
الآداب المحمدية
(1/101)
لقد كان صلى الله عليه وسلم يتجمل بالآداب التالية ويتحلى بها وهي:
أولاً: غض الطرف فلا يبتع نظره الأشياء، وكان جل نظره الملاحظة، فلا يحملق إذا نظر، ونظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء.
ثانيًا: إذا مشى مع أصحابه يسوقهم أمامه فلا يتقدمهم، ويبدأ من لقيه بالسلام.
ثالثًا: إذا تكلم يتكلم بجوامع الكلم، كلامه فصل، لا فضول ولا تقصير، أي: على قدر الحاجة، فلا زيادة عليها ولا نقصان عنها، وهذا من الحكمة وكان يقول: ((من حسن إسلام المر تركه ما لا يعنيه)) ويقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)). ويبدأ كلامه ويختمه بأشداقه من أجل أن يسمع محدثه ويُفِهمَهُ لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت.
رابعًا: متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة، دمث الخُلُق، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النّعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئًا ولا يمدحه.
خامسًا: لا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تُعُرِّضَ للحقّ لم يعرفْه أحد، ولم يقم لغضبه شيءٌ حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها.
سادسًا: إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جُلُّ ضَحِكه التبسُّم، ويفترّ عن مثل حبّ الغمام.
سابعًا: إذا تكلم تكلم ثلاثًا، وإذا سلم سلم ثلاثًا، وإذا استأذن استأذن ثلاثًا، وذلك ليعقل عنه ويفهم مراده من كلامه نظرًا إلى ما وجب عليه من البلاغ.
ثامنًا: كان يشارك أصحابه في مباح أحاديثهم، إذا ذكروا الدنيا ذكرها معهم، وإذا ذكروا الآخرة ذكرها معهم، وإذا ذكروا طعامًا أو شرابًا ذكره معهم.
(1/102)
تاسعا: كان إذا جلس نصب ركبتيه واحتبى بيديه، وإذا جلس للأكل نصب رجله اليمنى وجلس على اليسرى.
عاشرًا: كان لا يعيب طعامًا يقدم إليه أبدًا، وإنما إذا أعجبه أكل منه، وإن لم يعجبه تركه، هذه الآداب مجملة، وكلها يمكن الاقتداء به فيها، وهو غاية الطلب، وبغية أولي الأرب.
الأخلاق المحمديّة
إن لذوي الأخلاق الفاضلة منزلة عالية. ففي الحديث الصحيح: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا)) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح, ((إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا)) رواه البخاري ومسلم.
وسُئل صلى الله عليه وسلم عن البر، فقال: ((حسن الخلق)) أخرجه مسلم.
ومن هنا كان اكتساب الأخلاق الفاضلة خيرًا من اكتساب الذهب والفضّة، والأموال الطائلة، والطريق إلى ذلك هو الائتساء بالنبي الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولذا كان إيرادنا للأخلاق المحمدية في آخر هذا الكتاب من باب حمل المسلم على اكتساب تلك الأخلاق المحمدية الفاضلة، ودفعًا له على التجمل والتحلي بها، ليكمل بها ويفضل ويشرف عليها، بعد أن عرف صاحبها، وعرف كمالاته الذاتية والروحيةّ، وقوى إيمانه به نبيًا ورسولاً تجب طاعته ومتابعته وتعظيمه ومحبته وتوقيره.
وهذه نماذج من تلك الأخلاق لننظر إليها، فلْنُوَطِّن النّفس على اكتسباها والتخلق الصادق بها.
(1/103)
الكرم المحمَّدِي
- إن الأمر المحمدي كان مضرب الأمثال، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يردّ سائلاً وهو واجد ما يعطيه، فقد سأله رجل حّلةً كان يلبسها، فدخل بيته فخلعها، ثم خرج بها في يديه وأعطاه إياها، ففي صحيح البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، سأله رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فأتى الرجل قومه فقال لهم: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة، إن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحبَّ إليه وأعز من الدنيا وما فيها، وحسبنا في الاستدلال على كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد سئل عن جود الرسول وكرمه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة. بمعنى أن عطاءه دائم لا ينقطع بيسر وسهولة.
وكيف لا يكون الحبيب صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجودهم على الإطلاق، وهو القائل: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) أخرجه البخاري ومسلم.
(1/104)
- والقائل أيضًا: ((يقول الله تعالى: ابن آدم أَنفِق أُنفِق عليك)) أخرجه البخاري ومسلم. وقد نزل عليه قول ربّه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
الحلم المحمدي
إن الحلم وهو ضبط النفس حتى لا يظهر منها ما يكره قولاً كان أو فعلاً عند الغضب، وما يثيره هَيَجاَنُه من قولٍٍ سيئ أو فعلٍٍ غير محمود، هذا الحلم كان فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم مضرب المثل، والأحداث التالية شواهد لحلمه فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم، وذلك لتربية الله تعالى له، وإفاضته الكمالات على روحه صلى الله عليه وسلم:
- لما شجّت وجنتاه وكسرت رباعيته ودخل المغفر في رأسه صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد قال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) رواه البخاري ومسلم. فهذا منتهى الحلم والصفح والعفو والصبر منه صلى الله عليه وسلم.
- لما قاله له ذو الخويْصرة: اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، حَلُمَ عليه وقال له: ((ويحك فمن يعدل إن لم أعدلْ)) رواه البخاري ومسلم، ولم ينتقم منه ولم يأذن لأحد من أصحابه بذلك.
- عن أنس بن مالك قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء)) رواه البخاري ومسلم.
(1/105)
هذه قطرةٌ من بحر الحلم المحمدي تُذهب ظمأ من أراد أن يتحلّى بالحلم ويتجمل به.
العفوُ المحمَّديَ
إن العفو هو ترك المؤاخذة عند القدرة على الأخذ من المسيء المبطل، وهو من خلال الكمال، وصفات الجمال الخلقي، أمر الله تعالى به رسول الله في قوله من سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
- قالت عائشة رضي الله عنها: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه (1) إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها)) رواه البخاري ومسلم.
- تصدّى له غوْرث بن الحارث ليفتك به صلى الله عليه وسلم، ورسول الله مطرح تحت شجرة وحده قائلاً، وأصحابه قائلون كذلك، وذلك في غزاة، فلم ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وغورث قائم على رأسه، والسيف مصلت في يده، وقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((الله)). فسقط السيف من يد غورث، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((من يمنعك؟)) قال غورث: كن خير آخذٍ فتركه وعفا عنه. فعاد إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس)) رواه البخاري ومسلم، فهكذا كان العفو المحمدي.
__________
(1) هو معنى أنه يعفو عمن ظلمه.
(1/106)
الشجاعة المحمدية
- إن الشجاعة خلق فاضل، ووصف كريم، وخلة شريفة، لا سيما إذا كانت في العقل كما هي في القلب، وكان صاحبها من أهل الإيمان والعلم، والشجاعة في القلب عدم الخوف مما يخاف عادة، والإقدام على دفع ما يخاف منه بقوة وحزم، وفي العقل المضاء فيما هو الرأي وعدم النظر إلى عاقبة الأمر متى ظهر أنه الحق والمعروف، وقد كان الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أشجع إنسان على الإطلاق، فلم تكتحل عين الوجود بمثله صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة ذلك تكليف الله تعالى له بأن يقاتل وحده في قوله من سورة النساء: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}.
ومن أدلة شجاعته صلى الله عليه وسلم ومظاهرها ما يلي:
- شهادة الشجعان الأبطال له بذلك فقد قال البراء بن عازب رضي الله عنه: ((كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم)) متفق عليه أي: نتقي الضرب والطعان.
- موقفه البطولي الخارق للعادة في أُحد حيث فر الكماة، ووجم الأبطال وذهل عن أنفسهم الشجعان، ووقف محمد رسول الله كالجبل الأشم حتى لاذ به أصحابه، والتفوا حوله وقاتلوا حتى انجلت المعركة بعد قتال مرير وهزيمة نكراء حلت بالقوم لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم.
- وفي حنين حيث انهزم أصحابه وفر رجاله لصعوبة مواجهة العدو، من جراء الكمائن التي نصبها وأوقعهم فيها وهم لا يدرون، بقي وحده صلى الله عليه وسلم في الميدان يطاول ويصاول وهو على بغلته يقول:
(1/107)
((أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب))
وما زال في المعركة وهو يقول: ((إليّ عباد الله، إليّ عباد الله)) حتى فاء أصحابه إليه، وعاودوا الكرة على العدو فهزموه في ساعة، وما كانت هزيمتهم أول مرة إلا من ذنب ارتكبه بعضهم وهو قوله: لن نغلب اليوم من قلة؛ إذ هذا القول كان عُجبًا والعُجب حرام، وقد ذكرهم تعالى به في كتابه إذ قال تعالى من سورة التوبة: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا .. }.
(فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا قد سبقهم إلى الصوت, واستبرأ (1) الخبر على فرس لأبي طلحة عُري والسيف في عنقه وهو يقول: ((لن تراعوا)). في هذه يقول أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، وقص هذه القصة، رواه البخاري ومسلم.
كانت تلك شواهد شجاعته القلبيّة، أما شجاعته العقلية، فنكتفى فيها بشاهد واحد، فإنه يكفى عن ألف شاهد ويزيد، وهو موقفه من تعنّت سهيل بن عمرو وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذ تنازل صلى الله عليه وسلم على كلمة بسم الله إلى باسمك اللهم، وعن كلمة محمد رسول الله إلى كلمة محمد بن عبد الله، وقد استشاط أصحابه غيظًا، وبلغ الغضب حدًّا لا مزيد عليه وهو صابر ثابت حتى انتهت، وكانت بعد أيام فتحًا مبينًا فضرب صلى الله عليه وسلم بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين القلبية، والعقلية، مع بعد النظر وأصالة الرأي وإصابته فصلى الله عليه وسلم ما بقي شجاعة أو جبن في العالمين.
الصبْر المحمَّديَ
__________
(1) يقال استبرأ الخبر إذا طلبه حتى وقف على حقيقته.
(1/108)
إن الصبر وهو حبس النفس على طاعة الله تعالى حتى لا تفارقها، وعن معصية الله تعالى حتى لا تقربها، وعلى قضاء الله تعالى حتى لا تجزع له ولا تسخط عليه، هذا هو الصبر في مواطنه الثلاثة وهو خلق من أشرف الأخلاق وأسماها، وهو خلق مكتسب يحمل العاقل عليه نفسه ويروضها شيئًا فشيئًا حتى يصبح ملكة لها ثابتة عفوًا بدون طلب.
يدل على ذلك أمره تعالى رسوله به في غير موطن من كتابه العزيز وذلك كقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} , وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} , وقوله في أمر كافة المؤمنين به: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصابر طيلة عهد إبلاغ رسالته الذي دام ثلاثًا وعشرين سنة، فلم يجزع يومًا، ولم يتخلّ عن دعوته وإبلاغ رسالته حتى بلغ بها الآفاق التي شاء الله تعالى أن تبلغها، وباستعراضنا المواقف التالية تتجلى لنا حقيقة الصبر المحمدي الذي هو فيه أسوة كل مؤمن ومؤمنة في معترك هذه الحياة.
- صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قريش طيلة ما هو بين ظهرانيها بمكة، فقد ضربوه، والقوا سلى الجزور على ظهره، وحاصروه ثلاث سنوات مع بني هاشم في شعب أبي طالب، وحكموا عليه بالإعدام، وبعثوا رجالهم لتنفيذه فيه إلا أن الله سلّمه، وعصم دمه، كل هذا لم يرده عن دعوته، ولم يثن عزمه عن بيانها وعرضها على القريب والبعيد.
(1/109)
- صبره صلى الله عليه وسلم عام الحزن، حيث ماتت خديجة الزوجة الحنون، ومات العم الحاني الحامي المدافع أبو طالب، فلم تفتّ هذه الرزايا من عزمه، ولم توهن من قدرته، إذ قابل ذلك بصبر ولم يعرف له في تاريخ الأبطال مثل ولا نظير.
- صبره في كافة حروبه في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي الفتح وفي حنين وفي الطائف وفي تبوك، فلم يجبن ولم ينهزم، ولم يفشل، ولم يكل ولم يمل حتى خاض حروبًا عدة، وقاد سرايا عديدة، فقد عاش من غزوة إلى أخرى طيلة عشر سنوات، فأيّ صبرٍ أعظم من هذا الصبر؟؟
- صبره على تآمر اليهود عليه بالمدينة وتحزيبهم الأحزاب لحربه والقضاء عليه، وعلى دعوته.
- صبره على الجوع الشديد قد مات ولم يشبع من خبز شعير مرتين في يوم واحد قط.
- لقد صبر صلى الله عليه وسلم على كل ذلك فلم يهن ولم تضعف همته، ولم تمس كرامته ولم يدنس عرضه، ولو أوذي غيره بمعشار ما أوذي أو أصابه من البلايا والرزايا دون ما أصابه لتخلى عن دعوته، وهرب من مسئوليته، ووجد في نفسه مبررًا لذلك، ولكن الله عصمه فصبّره وجبره، وحماه وقواه ليبلغ عنه رسالته، ويجعله آية للناس في صبره وحكمته وعفوه وكرمه وشجاعته وفي سائر أخلاقه فصلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(1/110)
العَدْل المحمَّديّ
إن العدل خلاف الجوْر أمر الله تعالى به في القول والحكم فقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} , {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} , وعلى العدل قام أمر السماء والأرض، ومن هنا كيف لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عادلاً وهو القائل: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط)) رواه أبو داود وحسنه الألباني، والمقسط أي: العادل، وذكر أن سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم الإمام العادل، وقال: ((إن المقسطين على منابرٍ من نور يوم القيامة)) رواه مسلم، وبين أنهم الذين يعدلون في حكمهم وما ولوا، ولذا كان صلى الله عليه وسلم عادلاً في قوله وفعله وحكمه، لا يجور ولا يحيف، وكان العدل من أخلاقه وأوصافه اللازمة له، فقد عُرف به في الجاهلية قبل الإسلام، وهذه مواقف له صلى الله عليه وسلم يتجلى فيها هذا الخلق النبوي الكريم وهي:
- لما سرقت المخزوميّة، وشق على المسلمين إقامة الحد عليها فتقطع يدها فتوسطوا له بحبّه وابن حبّه أسامة بن زيد فرفع إليه القضية، فقال: ((أتشفع في حدٍ من حدود الله تشفع يا أسامة؟ والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)) متفق عليه، فكان هذا مظهرًا عظيمًا للعدل المحمدي.
وقوله للأعرابي الذي قال له: اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله: ((ويحك فمن يعدل إن لم أعدل؟! خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل)) رواه البخاري ومسلم.
(1/111)
- وفي الطعام والشراب كان يقول: ((ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس)) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
- وكان صلى الله عليه وسلم يقسم وقته ثلاثة أجزاء: جزءًا لربه تعالى، وجزءًا لأهله، وجزءًا لنفسه، ويقسم الجزء الذي لنفسه بينه وبين الناس.
وهكذا يتجلى خلق العدل في الحبيب صلى الله عليه وسلم بصورةٍ واضحة، يدعو كلّ مؤمن إلى التّخَلُّق به ائتساءً به صلى الله عليه وسلم، وهو أسوة كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة.
الزهد المحمدي
إنَّ المراد بالزهد الزهد في الدنيا، وذلك بالرغبة عنها، وعدم الرغبة فيها، وذلك بطلبها طلبًا لا يشق، ولا يحول دون أداء واجب، وسد باب الطمع في الإكثار منها والتزيد من متاعها، وهو ما زاد على قدر الحاجة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني، وقد كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأقلهم رغبة فيها، حتى كان الزهد خلقًا من أخلاقه الفاضلة وسجيّة من سجاياه الطيبة الطاهرة.
والمواقف الآتية تدل على ذلك وتشهد له وتقرره:
- قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ((لو كان لي مثل أحد ذهبًا لما سرّني أن يبيت عندي ثلاثًا إلا قلت فيه هكذا وهكذا إلا شيئًا أرصده لدين)) رواه البخاري ومسلم. فهذا أكبر مظهر للزهد الصادق الذي كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يعيش عليه ويتحلى به.
(1/112)
- قوله صلى الله عليه وسلم لعمر وقد دخل عليه فوجده على فراش من أدم حشوه ليف قال عمر يصف فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت فقال ما يبكيك فقلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون لهما الدنيا ولك الآخرة)) رواه البخاري ومسلم.
فكان هذا أقوى مظهر من مظاهر الزهد المحمدي الصادق.
قول عائشة رضي الله عنها مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رفّ لي. وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير.
وبالتأمل في هذه المواقف تتجلى الحقيقة واضحة وهي أن الزهد الحق كان خلق النبي الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فصل اللهم وبارك وسلم على عبدك ورسولك أزهد الزهّاد، وأفضل العبّاد إلى يوم التلاقي والميعاد.
الحياء المحمدي
إن الحياء خلق فاضل فاقده لا خير فيه، إذ هو من الإيمان، وهو خير كله، وحقيقته أنه تغّير يسببه الخوف مما يكره قوله أو فعله، أو يُذم عليه, ويظهر أثره في احمرار الوجه، وترك ما يخشى معه الذم والملامة، وهو في المرأة بمنزلة الشجاعة في الرجل، أي كما أن الشجاعة محمودة في الرجل أكثر ما هي محمودة في المرأة، فكذلك الحياء هو في المرأة محمود أكثر مما هو في الرجل, ومع هذا
(1/113)
فهو خلق فاضل كريم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان))، وقال: ((الحياء كله خير)) , و ((الحياء لا يأتي إلا بخير))، و ((الحياء شعبة من الإيمان)) في أحاديث صحاح.
ومن مظاهر الحياء المحمدي التي يتجلى فيها بوضوح ما يلي:
- قوله تعلى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} , فهذه شهادة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالحياء وكفى بها شهادة.
- رواية الشيخين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيها، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من البكر في خدرها (1)، وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه.
- قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول كذا؟ ولكن يقول: ((ما بال أقوامٍ يصنعون أو يقولون كذا))، ينهى ولا يسمي فاعله.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا (2) ولا متفحِّشا ولا سخابًا (3) في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، وهذا وصفه في التوراة أيضًا كما رواه عبد الله ابن سلام رضي الله عنه.
وكان صلى الله عليه وسلم من شدة حيائه لا يثبت بصره في وجه أحد، ويَكْنِي عما اضطره الكلام إليه ما يكره ولا يصرح به.
__________
(1) الخدر: الستر في البيت.
(2) الفاحش: من يصدر عنه الفحش وهو القول أو الفعل القبيح، والمتفحش من يتعمد الفحش ويبالغ فيه.
(3) السخب والصخب رفع الصوت، والسخاب فاعل ذلك.
(1/114)
كانت هذه مظاهر حيائه صلى الله عليه وسلم وشواهده، وفيها كفاية لمن أراد أن يأتسي صلى الله عليه وسلم في حيائه، وفي سائر أخلاقه، فقد جعله الله تعالى أسوة المؤمنين, فقال تعالى في آيتين من كتابه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ (1) حَسَنَةٌ (2)}.
حُسن عشرته صلى الله عليه وسلم
إن من كمال خلق المرء حسن صحبته ومعاشرته لأهله، وكمال أدبه في مخالطته لغيره، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في حسن الصحبة وجميل المعاشرة وأدب المخالطة وفيما نعرضه من مواقف له صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن كفاية لمن أراد الائتساء به صلى الله عليه وسلم في كمالاته الروحية والخلقية والأدبية:
وصف عليّ رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم في قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِِشرة.
فأي كمال أعظم من هذا الكمال المحمدي في أدبه ومخالطته لأصحابه؟
ولنستمع إلى ابن أبي هالة (3) في وصفه له صلى الله عليه وسلم إذ يقول: كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخاب ولا فحاش، ولا عيّاب ولا مدّاح يتغافل عما لا يشتهى ولا يؤيسُ منه، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب من دعاه، ويقبل الهدية ممن أهداه، ولو كانت كراع شاة ويكافئ عليها.
__________
(1) القدوة.
(2) الصالحة.
(3) ووصف أبي هالة صحيح كذلك.
(1/115)
وفي الحديث الصحيح قال أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال: لي أفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركتُه: لم تركته؟
وصفه عارف به صلى الله عليه وسلم فقال: كان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم، ويجلسُهم في حجره، ويجيب دعوة الحرّ والعبد، والأمة والمسكين, ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
ووصفه عليم به فقال: كان صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولم ير قط مادّا رجليه بين أصحابه حتى لا يضيّق بهما على أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويُكنّي (1) أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثُه حتى يتجوز -أي يكثر فيتجاوز الحد- فيقطعه بنهي أي له أو قيام. وكان إذا جلس إليه أحد وهو يصلي خفف صلاته، وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته.
وحسبنا في بيان أدبه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته وجميل مخالطته قول ربّه عز وجل فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}. وقد فعل صلى الله عليه وسلم فجزاه الله عن أمته خير الجزاء.
خشية الحبيب صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أي: يدعوهم لابأسمائهم بل بكناهم كأن يقول: يا أبا الحسن، وأبا حفص، وأبا أميمة مثلاً.
(1/116)
إن خشية الله تعالى في السرّ والعلن ثمرة العلم بالله تعالى ربَّا وإلهًا ذا جلال وكمال لا حد لهما تقصر الفهوم دون إدراكهما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. وقال رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ((إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية))، فدل هذا على أن الخشية يثمرها العلم الصحيح، العلم بالله ذي الجلال والإكرام، وبأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وبمحابه من العقائد والأقوال والأعمال والصفات والذوات، وبمكارهه من ذلك كله.
ومن أعلم بالله من رسول الله؟ اللهم لا أحد، ولذا فلا أتقى لله من رسول الله في سائر عباد الله، ولا أكثر طاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرغب فيما عند الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرهب مما لدى الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أشد انقطاعًا وتبتّلا لله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث والآثار تقرر ذلك وتؤكده.
(1) مظاهر خشيته صلى الله عليه وسلم:
روى الترمذي وقال حسن غريب، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني أرى ما ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت (1) السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات (2) تجأرون إلى الله تعالى)) لوددت أني شجرة تعضد (3)، فهذا الحديث شاهد حق على خشية رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوفه من ربّه تعالى، ويؤكد قوله: ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)).
__________
(1) الأطيط: صوت القتب إذا ضغطه ثقل ما عليه من الحمل.
(2) الطرقات.
(3) تقطع: كناية عن تمنيه أن لو لم يكن في هذ الحياة إنساناً حياًا وهذا تمني أبي ذر، وليس قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
(1/117)
ما حدث به عبد الله بن الشِّخّير حيث قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل)) رواه أبو داود وغيره بإسنادٍ صحيح.
ما تقدم عن أبي هالة في وصفه صلى الله عليه وسلم إذ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة.
ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) ووفي رواية ((سبعين مرة))، فهو دائم الاستغفار، يومًا يستغر سبعين ويومًا يستغفر مائة، وهذا من كمال خشيته وعظيم تقواه لربه عز وجل.
ما حدث به عبد الله بن عمر رضي الله عنهما اذ قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قوله: ((ربّ اغفر لي وتُب عليّ إنك أنت التواب الرحيم)) مائة مرة.
(ب) مظاهر طول عبادته صلى الله عليه وسلم:
- حديث الصحيح عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إذ قال فيه: قام صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورا؟)).
- ما حدثت به عائشة رضي الله عنها في قولها: كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم دِيمَة، وأيكم يطيق ما كان يطيق؟ كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكنت لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته مصليًا، ولا نائمًا إلا رأيته نائمًا.
روى أبو داود في سننه بإسناد صححه الألباني عن عوف بن مالك قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فاستاك ثم توضأ، ثم قام يصل فقمت معه فبدأ فاستفتح البقرة فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف
(1/118)
فتعوذ، ثم ركع فمكث بقدر قيامه يقول: سبحان ذي الجبروت والملك والملكوت والعظمة، ثم سجد وقال مثل ذلك، ثم قرأ آل عمران، ثم سورة سورة يفعل مثل ذلك.
- ما حدثت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة هي آخر سورة المائدة: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
- ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
فهذه مظاهر إطالة العبادة، ووطول التبتّل، وبه ائتسى الصالحون من هذه الأمة ففازوا بالقرب والرضا، جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم، وصلى الله وسلم وبارك على أسوة المؤمنين وقرة عين المحبين محمد الحبيب وعلى آله وصحبه أجمعين.
التواضع المحمدي
إذا كان التواضع معناه إظهار الضعة وذلك من رفيع القدر عالي المقام، شريف الأصل والمحتد وهو كذلك، فإن خلق التواضع من أفضل الأخلاق وأسماها، وقد بلغ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم شأوًا لا يلحقه فيه أحد من الأولين ولا من الآخرين.
وباستعرضنا لأقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله الظاهرة تتجلى هذه الحقيقة ويطمع كل مؤمن يستعرض ما نورده في هذا الباب في أن ينال قدرًا من التواضع ائتساءً بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما رجوناه من كتابة هذه السيرة العطرة وتقديمها للمسلمين.
(1/119)
مظاهر التواضع المحمدي:
أخبر صلى الله عليه وسلم أنه قد خيّر بين أن يكون نبيَّا ملكًا، أو نبيا عبدًا فاختار أن يكون نبيًا عبدًا، وأخبر أن الله تعالى كافأه على اختياره العبودية بأن يكون سيد ولد آدم وأول من تنشقّ عنه الأرض، وأول شافع، فاختياره العبوديةّ على الملوكيّة أكبر مظهر من مظاهر التواضع المحمدي.
- ما عرف به صلى الله عليه وسلم وشهد به غير واحد من أصحابه، وأنه كان يركب الحمار ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس، وكان يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنّخة فيجيب.
- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)).
- وفي حجه الذي أهدى فيه مائة بدنة حج على بعير فوقه رحل عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم.
- ولما فتح الله تعالى على رسوله مكة ودخلها ظافرًا منتصرًا والجيوش الإسلامية قد دخلتها من كل أبوابها دخل راكبًا على ناقته، وإن لحيته الشريفة تكاد تمسُّ قائم رحله تطامنًا وتواضعًا لله عز وجل، وهو موقف لم يقفه غيره في دنيا البشر قط.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ينبغي لعبدٍ أن يقول أنا خيرٌ من يونس بن متى)).
- وروى أبو داود بإسنادٍ صحيح أن رجلاً قال له صلى الله عليه وسلم: يا خير البريّة: ((ذاك إبراهيم)).
(1/120)
- ما أخبر به بعض نساءه، وتحدثن وهو أنه صلى الله عليه وسلم يكون في بيته في مهنة أهله يفلّي (1) ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه ويخصف نعله (2)، ويخدم نفسه، ويقم البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السوق.
- دخل عليه رجل فأصابته من هيبته رِعْدة فقال له: ((هون على نفسك فإني لست ملكًا وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
- عن سويد بن قيس رضي الله عنه فقال: دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه وسلم فاشترى سراويل وقال للوازن: ((زن وارجح)) فوثب الوزان إلى يد النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها فجذب يده وقال: ((هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم)) , ثم أخذ السراويل فذهبت لأحملها فقال: ((صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله)) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي قال الترمذي: حسن صحيح وصححه الألباني.
- إن كل مظهر من هذه المظاهر التي بلغت أحد عشر مظهرًا دالٌ بمفرده على كماله صلى الله عليه وسلم ثم تواضعه، وأنه مضرب المثل في ذلك، ولما كان كماله لا يدانى فيه فتواضعه يكون آية نبوته ومعجزة رسالته، وغير مانع محاولة الائتساء به؛ لأن التواضع من الأخلاق المكتسبة، وبقدر صدق النية والرغبة الصادقة يحصل للعبد ما يرغب فيه من الكمالات المحمدية التي هي موضع الائتساء به صلى الله عليه وسلم.
المزاح المحمدي
__________
(1) أي: ينقيه من القمل إن كان به.
(2) يلصق بعضه ببعض إذا تقطع ويخرزه ليلصق ولا ينحلّ.
(1/121)
إن المزاح كالمداعبة والملاعبة والهزل الذي هو خلاف الجدّ يقال هزل في قوله أو فعله، أو مزح، أو داعب الكل بمعنى واحد، والسؤال: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على جلال قدره وسموّ مكانته، وانشغال باله بمهام الرسالة وأعباء القيادة وهداية الناس يمزح؟ والجواب: نعم كان يمزح ويداعب ويهزل بقلة لاستيعاب الجدّ وقته كله إلا أنه كان في مُزاحه ومداعبته وهزله لا يخرج أبدًا عن دائرة الحق, وبحال من الأحوال وهو في مزاحه ومداعبته يقدم معروفًا لأصحابه بما يدخل عليهم من الغبطة والسرور وعلى أطفالهم إذا داعبهم من الفرح والمرح والسرور والحبور.
وباستعراضنا للمواقف النبوية الآتية تتجلَّى لنا الحقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقًا، وفي الإمكان الائتساء به في ذلك؛ لأنه من المقدور المستطاع وليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم بل هو أدبٌ عام يأخذ به كل مؤمن قدر عليه.
- حدّث أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله (أي طلب منه أن يحمله على بعير ونحوه)، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((إنا حاملوك على ولد الناقة)) فقال الرجل: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تلد الإبل إلا النوق؟)) رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني، فكان قوله هذا مداعبة للرجل ومزحًا معه وهو حق لا باطل فيه.
- وحدث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا ذا الأذنين)) رواه أبوداود والترمذي وصححه الألباني، وهي مداعبة ظاهرة وهي حق واضح، إذ كل إنسان ذو أذنين اثنتين.
- وروى البخاري -رحمه الله- أن رجلاً كان يقال له عبد الله ويلقّب بحمارٍ وكان مضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤتى به في الشراب -أي السكر- ليقام
(1/122)
عليه الحد، فجيء به يومًا فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)). فقوله وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أنه كان يمازحه حتى يضحك، والمزاح يكون بين اثنين فكل واحد يمازح الثاني.
- وفي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حادٍ يحدو بنسائه يقال له أنْجَشَة فحدا فأعنقت الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويحك يا أنجشة ارفق بالقوارير)) أي: بالنساء، فإطلاق القوارير على النساء مداعبة ظاهرة ووصفهن بالقوارير لضعفهنّ، فلو سقطت إحداهن من هودجها تكسرّت، ولو كنّ غير أمهات المؤمنين لصح أن يقال: إن الحداء -وهو صوت الحادي الرقيق- قد يوجد في نفس المرأة أثرًا غير صالح.
الفصاحة المحمدية
- نترك صاحب الشفا يصف لنا فصاحة الحبيب صلى الله عليه وسلم فيقول: تحت ((فصل)) وأما فصاحة اللسان، وبلاغة القول، فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهد سلامة طبع، وبراعة (1) منزع، وإيجاز (2) مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معانِ، وقلة تكلفٍ، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة منها بلسانها ويحاورها بلغتها، ويُبِارِيها في منزع بلاغتها، حتى كان من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله.
__________
(1) براعة منزع: أي هو ذو تفوق في قوم هم أفصح الناس.
(2) إيجاز مقطع: أي هو ذو إيجاز في قوله: وفصل في كلامه مع قلة الأفاظ وتحديد المعنى وتوضيحه.
(1/123)
- ومما اختص به وتفوّق فيه فلا يدانيه فيه غيره، ولا يساميه فيه سواه أنه صلى الله عليه وسلم يتكلم مع كل قومٍ بلهجتهم وفصاحة لسانه، وبلاغة كلامهم، فكلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ليس هو ككلامه مع ذي المشعار الهمداني، وطفهة (1) النهدي، وقطن بن حارثة العُلَيْمِيّ والأشعث (2) بن قيس، ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من أقيال (3) حضر موت وملوك اليمن.
وهذه نماذج من كلامه صلى الله عليه وسلم يخاطب كل قومٍ بلهجتهم، وفصاحتهم في كلامهم ويتفوق عليهم، وقد حلّق في سماء البلاغة والبيان، ونثر الدر من كلامه الجامع للحكم المشتمل على فنون الهداية وضروب البيان، وهذه نماذج منه:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم ويِسْعى بذمتهم أدناهم وهم يد واحدة على من سواهم)) أخرجه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني.
- أقواله صلى الله عليه وسلم: ((الناس كأسنان المشط، و ((المرء مع من أحب)) متفق عليه.
- ولا خير في صحبة من لا يرى لك ما ترى له))،
- ((الناس معادن)) متفق عليه.
- ((المستشار مؤتمن)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
- ((أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)) متفق عليه
- ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا الموطأون (4) أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون))
__________
(1) هو خطيب نهد ووافِدُها عام الوفود وهو سنة تسع.
(2) وقدموا اليمن في ستين راكبا فأسلموا كلهم ورجعوا إلى اليمن.
(3) جمع قيل بمعنى الملك.
(4) الموطأ الكنف أي: الجانب من فيه لين ورفق.
(1/124)
- ((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلقٍ حسن)) رواه الترمذي وقال حسن صحيح
وخلاصة القول أن فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم لا عجب فيها ولا غرابة ما دام مضريًّا قرشيًّا هاشميًّا، خصه ربّه بالعناية في التأديب والتربية، وهيأه للوحي، وحمّله البلاغ والبيان فصلى الله عليه وسلم ما نطق ناطق وأبان من كل مخلوق من إنسٍ وجان.
الرحمة المحمدية
إن الرحمة المحمدية التي أودعها الله تعالى قلب نبيّه وصفيه وخليله من عباده محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة لسائر الخلق قال تعالى فيها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} , ورحمة خاصة قال تعالى فيها: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} , وللرحمة في القلب مظاهر في الحياة تتجلّى فيها وهذه بعض مظاهر تلك الرحمة المحمدية.
(1) الرحمة العامة:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((في كل ذات كبد رطبة أجر)) مظهر من مظاهر الرحمة العامة أيضًا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت فلا هي أطعمتها حين حبستها ولا تركتها تأكل من خشاش (1) الأرض)).
(ب) مظاهر الرحمة الخاصة:
__________
(1) ما يخش فيها ويدخل من حشرات من غيرها كالفئران ونحوها.
(1/125)
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)) , هذا مظهر من مظاهر الرحمة والشفقة المحمدية على أمته صلى الله عليه وسلم، وهو من مظاهر الرحمة الخاصة.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلغني أحدٌ منكم عن أحدٍٍ من أصحابي شيئًا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)).
هذه من رحمته وشفقته على أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين وهي من مظاهر الرحمة الخاصة.
- فصلى الله عليه من نبيّ رءوف رحيم، وحقًّا إنه الرحمة المهداة والنّعمة المعطاة وسفينة الرأفة والشفقة والرحمة المرساة، فويل لمن عاداه وما والاه، وويلٌ لمن عصاه وآذاه, وويل لمن كفر به أو كذبه في الممات والمحياة.
الوفاء المحمدي
- إن الوفاء بالعهد، وعدم نسيانه أو الإغضاء عن واجبه خلقٌ كريم، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بالمحل الأفضل والمقام الأسمى، والمكان الأشرف، فوفاؤه، وصلته لأرحامه كان مضرب المثل، وحق له ذلك وهو سيد الأوفياء والأولياء والأوصياء والأنبياء من بني آدم.
والمظاهر التالية تقرر هذه الحقيقة وتؤكدها:
(1) وفاؤه:
- روى البخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بهدية قال: ((اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة،
(1/126)
إنها كانت تحب خديجة)). أي وفاء هذا يا عباد الله؟! إنه يكرم أحباء خديجة وصديقاتها بعد موتها رضي الله عنها.
- وحَدَّثَتْ عائشة رضي الله عنها فقالت: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيُهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها ودخلت عليه امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها فلما خرجت، قال: ((إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
- وهكذا يتجلى خلق الوفاء في الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلم ينس بوفائه من مات فضلاً عمن هو حيّ ويهاب لومه أو عتابه.
(ب) صلته لرحمه:
صلة الرحم واجبة، ومن أقدر الناس على القيام بالواجب من رسول الله؟ اللهم إنه لا أحد ومع هذا نذكر نموذجين أو ثلاثة لما كان عليه صلى الله عليه وسلم من صلة أرحامه، ليقتدى به في ذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص بن أميّة وكان مشركًا ظالمًا في أول أمره ثم أسلم وحسن إسلامه قال فيه وهو مشرك: ((إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي غير أن لهم رحمًا سأبلها ببلالها)) أي: أصلها بصلتها الواجبة لها.
حدث أبو الطفيل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته.
صِلاته صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب ابنته رضي الله عنها إذ كان يحملها على عاتقه وهو يصلي فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها على عاتقه، فهذا مظهر من مظاهر صلة الرحم، كالذي قبله في بسطه رداءه لمن أرضعته.
كان صلى الله عليه وسلم يبعث إلى ثُوَيْبة مولاة أبي لهب مرضعته بصلة وكسوة، فلما ماتت سأل من بقي من قرابتها؟ فقيل لا أحد، ولو قيل: بقي فلان أو فلانة لوصلهما
(1/127)
قيامًا بواجب صلة الأرحام، ولو بعدوا، ولو كانوا لمجرد رضاع بلا أرحام فصلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
حقوق الحبيب صلى الله عليه وسلم الواجبة له على كل مسلم
إن الحقوق الواجبة للنبي صلى الله عليه وسلم على كل فردٍٍ من أفراد هذه الأمة المسلمة عشرة وهي كالآتي:
الإيمان به، محبته، طاعته، متابعته، الاقتداء به، توقيره، تعظيم شأنه، وجوب النصح له، محبة آل بيته، محبة أصحابه، الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
وهذا بيان أدلة وجوبها، وشرح معانيها، وعرض مظاهرها في الحياة.
(1) الإيمان به صلى الله عليه وسلم:
إن الإيمان به صلى الله عليه وسلم مستلزم للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، قال تعالى في الأمر به الواجب القيام به {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَاْ} , وقال عز من قائل: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
وقال هو صلى الله عليه وسلم في الإخبار بوجوب الإيمان به: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)) , وقال في حديث آخر له في موقف آخر: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)).
(1/128)
ومعنى الإيمان به صلى الله عليه وسلم التصديق بنبوّته ورسالته التي جاء بها من عند الله تعالى، وأن كل ما جاء به من الدين، وما أخبر به عن الله تعالى هو حق وصدق، ولا يكتفي بالنطق باللسان، والقلب منكر لذلك غير مصدق به، بل لابد من مطابقة القلب للسان.
ومن مظاهر الإيمان به صلى الله عليه وسلم طاعته ومحبته وموالاته وباقي الحقوق العشرة.
(ب) محبته صلى الله عليه وسلم:
إن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة بالكتاب والسنة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
فهذه الآية دليل واضح على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم لما فيها من التهديد الشديد على من آثر على حب الله ورسوله حب غيرهما من الأهل والمال والولد.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).
وما سمع عمر رضي الله عنه هذا الحديث قال للرسول صلى الله عليه وسلم: لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبيَّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه))، فقال عمر والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي فأجابه الرسول قائلا: ((الآن يا عمر)) , أي: بلغت حقيقة الإيمان.
(1/129)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
ومعنى محبته صلى الله عليه وسلم: إيثار ما يحب صلى الله عليه وسلم على ما يحب العبد.
مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم:
ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم ما يلي:
(1) طاعته، والاقتداء به، ومحبة ما جاء به ودعا إليه، ونصرته في دينه ونصرة المؤمنين به من آل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(2) توقيره وتعظيمه عند ذكره وذكر شمائله، وعند الوقوف على قبره للسلام عليه وعلى صاحبيه، وعند الجلوس في مسجده والصلاة فيه، وذلك بخفض الصوت، وغض البصر، وعدم ارتكاب أيّ حدث فيه من قولٍ أو عملٍ، وعدم إقراره أو الرضا به.
علامات حبه صلى الله عليه وسلم:
من علامات حبه صلى الله عليه وسلم:
(1) كثرة ذكره فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره.
(2) كثرة الشوق إليه إذ كل محب يحب لقاء حبيبه ويتشوق إلى لقائه.
(3) البكاء عند ذكره شوقًا وحنينًا إليه صلى الله عليه وسلم.
(ج) طاعته صلى الله عليه وسلم:
إن طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة بأمر الله تعالى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} , وبقوله عز وجل:
(1/130)
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} , ويدل على عظم شأن طاعته صلى الله عليه وسلم قوله تعالي: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} , وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} , وقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}.
ومعنى طاعته صلى الله عليه وسلم: فعل ما أمر به، وترك ما نهي عنه من اعتقاد أو قول أو عمل، إذا كان الأمر للوجوب والنهي للتحريم، فإن كان الأمر للندب، والاستحباب والنهي للتنزيه فلا معصية في الفعل ولا في الترك.
مظاهر طاعته صلى الله عليه وسلم
مظاهر طاعته صلى الله عليه وسلم:
(1) التمسك بسنته، والاهتداء بهديه، وذلك كالمحافظة على رغيبة الفجر وسنة الوتر والرواتب مع الفرائض، والمحافظة على صلاة الجماعة والرغبة في الصف الأول والذي يليه، ونافلة الضحى، والصلاة بعد الوضوء، وترك الصلاة في الأوقات المنهي عنه الصلاة فيها.
(2) الالتزام بحسن السمت وخفض الصوت، ونظافة الثوب والجسم، وتحري الصدق في القول والعمل.
(3) طلب الحلال في الطعام والشراب واللباس والنكاح.
(4) حب المساكين والإحسان إليهم، وزيارة القبور للترحم عليهم. والاستغفار لهم والتذكر بحالهم.
(5) الالتزام بمبدأ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وبمبدأ: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)) رواه مسلم.
(د) متابعته صلى الله عليه وسلم:
(1/131)
إن متابعته صلى الله عليه وسلم في المعتقد والقول والعمل واجبة وهي الدين كله، ومخالفته في ذلك هي الخروج من الدين كله؛ إذ قال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} , فمتابعته صلى الله عليه وسلم سبيل الهداية، وتركها سبيل الغواية، وقد اشترط تعالى لحبه العبد أن يتابع العبد رسوله في كل ما جاء به قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
ومعنى المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون اعتقاد العبد وقولُه وعملُه تابعًا لاعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، فلا يخالفه في شيء من ذلك، بتقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان.
ومن مظاهر المتابعة له صلى الله عليه وسلم ما يلي:
(1) أن لا يبدع المسلم بدعة، وأن لا يعمل ببدعة ابتدعها غيره مها كان هذا المبتدع إلا أن يكون أحد الخلفاء الراشدين الأربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا رضي الله عنهم أجمعين, وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).
(2) رد كل قول لقوله، وترك كل تشريع يخالف شرعه، والإعراض عن كل ما خالف هديه في الاعتقاد والقول والعمل، والأخذ بكل ما صح عنه وَثَبَت نسبته إليه صلى الله عليه وسلم, وقد قالت عائشة رضي الله عنها: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا ترخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم قال: ((فما بال أقوام يتنزهون عن شيءٍ أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)).
(3) التمسك بالسنة الواجبة والمستحبة على حدٍ سواء.
فضل المتابعة:
(1/132)
وفي بيان فضل المتابعة نورد الحديث الآتي:
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة)) , قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الذي أنا عليه اليوم وأصحابي))، رواه الترمذي وابن ماجة بألفاظٍ مختلفة، والحديث دليل على فضل المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العقيدة والعبادة والسلوك؛ إذ خلاف ذلك يفضي بالعبد إلى النار.
(هـ) الاقتداء به صلى الله عليه وسلم:
لقد أمر تعالى رسوله بالاقتداء بمن سبقه من الأنبياء والرسل فقال عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} , وأمرنا تعالى نحن أيها المسلمون بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: قدوة صالحة فاقتدو به. ورتب تعالى هدايتنا على طاعته والاقتداء به فقال عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}. ولازم هذا أن ترك الاقتداء به صلى الله عليه وسلم مفض بصاحبه إلى الضلال الموجب للهلاك في الحياتين، وهو كذلك، فهم هذا سلف هذه الأمة فالتزموا بطاعته صلى الله عليه وسلم ومتابعته والاقتداء به.
وهذه مظاهر تلك المتابعة وذلك الاقتداء:
- صلى عمر بن الخطاب فكأنما قيل له في ذلك فقال: أنا أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
- قرن عليّ بين الحج والعمرة على عهد عثمان رضي الله عنهما فقال له عثمان ترى أني أنهي الناس عنه وتفعله!! فقال عليّ: لم أكن أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحدٍ من الناس.
(1/133)
- وقال مرة: ألا إني لست بينيّ، ولا يوحى إلي ولكني أعمل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، يريد أن المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن اقتصد العبد في العمل الصالح ولم يكثر منه خير من عمل كثير في غير متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
- وكان أبيّ بن كعب رضي الله عنه يقول: إن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهادٍ في خلاف سبيل وسنة، وموافقة بدعة، وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادًا واقتصادًا أن يكون على منهج الأنبياء وسنتهم.
- روى أحمد أن ابن عمر رضي الله عنهما رؤي يدير ناقته في مكان فسئل عنه فقال: لا أدري إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ففعلته.
- وقال أبو عثمان الحيري: من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة.
- والمقصود من هذا كله أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واجب فعله محققّق للنجاة من الهلاك وتركه مقتض له والعياذ بالله تعالى، الخير كل الخير في اتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في الصغير والكبير، والقليل والكثير، وفي كل الأحوال. وسائر الظروف.
(و) توقيره صلى الله عليه وسلم:
- إن توقير النبي صلى الله عليه وسلم واجب أكيد، إذ خلافه وهو الاستخفاف به صلى الله عليه وسلم ما هو من الكفر ببعيد، بل هو كفر عتيد، أمر تعالى بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
(1/134)
فالتعزير النصرة والتوقير للتعظيم والإجلال وهذه له صلى الله عليه وسلم، والتسبيح لله عز وجل وهو تنزيهه تعالى عن النقائص والشريك والشبيه والنظير والصاحبة والولد.
- فما أرسل الله تعالى رسوله مبشرًا ونذيرًا إلا ليؤمن الناس به تعالى وبرسوله ويعزروا الرسول -أي ينصروه- ويوقروه -أي يجلوه- ويعظموه بما يليق بمنصبه الرفيع ومقامه السامي الشريف.
- ومعنى توقيره صلى الله عليه وسلم تعظيمه وإجلاله والإكبار من شأنه والرفع من قدره حتى لا يدانيه أحد من الناس. وكون أصحابه قد عرفوا قدره فأجلوه وعزروه ووقروه فليس ذلك عائدًا لكونه فيهم وبينهم فحسب بل هو لما أوجبه الله تعالى عليهم، وأفاضه في نفوسهم وأجراه على ألسنتهم من حبه وتقديره وإجلاله وتعظيمه.
ومن مظاهر توقيره صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى به وأرشد إليه في كتابه العزيز كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: لا تقولوا قبل أن يقول, واذا قال فاستمعوا له وأنصتوا، فلا يحل لأحدهم أن يسبق بقوله قوله، ولا برأيه رأيه، ولا بقضائه قضائه بل عليهم أن يكونوا تابعين له في كل ذلك، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} , فقد منعهم في هذا الخطاب من رفع أصواتهم فوق صوته لمنافاة ذلك للأدب معه والوقار له، كما منعهم من الجهر بالقول له إذا خاطبوه وكلموه لما في ذلك من سوء الأدب والجفاء والغلظة المنافية للإجلال والتوقير والتعظيم, وقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} , فقد نهاهم عن ندائه باسمه العَلَم: يا محمد، وأرشدهم أن يدعوه بلقب النبوة والرسالة نحو يا نبيّ الله، ويا رسول الله، وبأحب كناه إليه نحو يا أبا القاسم، واستجاب أصحابه البررة لأمر الله تعالى فقال أبو بكر
(1/135)
الصديق: والله يا رسول الله لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار (1)، وفعلاً لما نزلت هذه الآية كان عمر إذا حدثه حدثه كأخي السرار فما كان يسمع الرسول حتى يستفهم، ليبين مراده من كلامه، ونزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
مظاهر توقيره:
ومن مظاهر توقير الأصحاب رضوان الله عليهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم ما يلي:
- حدث عمرو بن العاص يومًا فقال: ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
- قال عروة بن مسعود حين وجهته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية ورأى من تعظيم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له ما رأى، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وَضُوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقًا ولا يتنخّم نُخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرةٌ إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمرَه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيمًا له، فما رجع إلى قريش قال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا من قومٍ قط مثل محمد في أصحابه، فهذا الذي حكاه عروة بن مسعود رضي الله عنه وهو حق ثابت أكبر مظهر من مظاهر توقير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنبيّهم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
(ز) تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) أي: كلامًا خفيًا كالمسارة التي لا يسمعها غير من ساره بها من الحاضرين.
(1/136)
- إن المراد من تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم: احترام وإكبار كل ما له تعلق به صلى الله عليه وسلم كاسمه وحديثه، وسنته، وشريعته، وآل بيته، وصحابته، وأفراد أمته، ومسجده وقبره، وكل ماله اتصال به من قريبٍ أو بعيد؛ إذ كل هذا داخل تحت وجوب توقيره وحبه وتعظيمه ما هو مندرج تحت حرمات الله، والله يقول: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، ويدل لذلك ويشهد له أن الله تعالى نهى عن رفع الصوت بحضرته، وأمر بخفضه بين يديه, ولم يأذن بأن يدعى كما يدعى غيره، وذلك لما له من الفضل والتفوق على سائر الناس.
ولنستعرض الآن مواقف الصحابة والتابعين في هذا الشأن لنزداد يقينًا بوجوب تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم كله، وهذه مظاهر ذلك:
مظاهر تعظيم حديثه:
- روي عن عبد الرحمن بن مهدي أنه كان إذا قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الحاضرين بالسكوت، وقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، يرى أنه يجب له الإنصات عند قراءة حديثه كما يجب ذلك عند سماع قوله صلى الله عليه وسلم.
- ما روي عن جعفر بن محمد الصادق، وكان كثير الدعابة والتبسّم أنه إذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفرَّ وجهه، وما رُئي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة.
ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه إذا حدث فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم علاه كرب: وتحدّر العرق من جبينه رضي الله عنه وأرضاه.
مرّ مالك بن أنس إمام دار الهجرة -رحمه الله- مرّ على أبي حازم وهو يحدث فجازه ولم يقف عنده, وعلل لذلك بقوله: إني لم أر موضعًا أجلس فيه فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم، وكان -رحمه الله تعالى- إذا أراد أن يحدث
(1/137)
بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه، ثم خرج فحدث.
مظاهر تعظيم أصحابه صلى الله عليه وسلم:
- إن تعظيم أصحابه صلى الله عليه وسلم من تعظيمه -فداه أبي وأمي- إذ لولا صحبتهم له ما عظموا هذا التعظيم الخاص دون غيرهم من سائرالناس.
ومن مظاهر تعظيمهم ما يلي:
- قول مالك بن أنس -رحمه الله تعالى-: من غاظه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لقول الله تعالى فيهم: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.
- قول عبد الله بن المبارك خصلتان من كانتا فيه نجا، الصدق وحب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
- قول أبي أيوب السّختياني: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور الله، ومن أحب عليًا فقد أخذ بالعروة الوثقى, ومن أحسن الثناء على أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم بريء من النفاق، ومن انتقص أحدًا منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح، وأخاف أن لا يرفع له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعًا ويكون قلبه سليمًا.
(حـ) وجوب النصح له صلى الله عليه وسلم:
إن لوجوب النصح له صلى الله عليه وسلم أدلة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى من سورة التوبة: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} , فذكر النصح لرسوله وأنه نافعٌ لصاحبه رافعٌ عنه الحرج ما دام ناصحًا لله ولرسوله غير غاشٍ ولا خادع بهما.
ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله)) فجعل النصح له دينًا.
(1/138)
معنى النصح: أنه إرادة الخير للمنصوح له، ولا يتم هذا إلا بعد تخليص النفس من كل الشوائب حتى تصل إلى درجة تريد فيها الخير كاملاً لمن تريده له.
والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكون بأمور هي مظاهر لها وهي:
(1) التصديق بنبوّته المثمر لطاعته في أمره ونهيه، ومؤازرته ونصرته، وحمايته حيًا وميتًا وإحياء سنته بتعليمها بعد العمل بها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه صلى الله عليه وسلم.
(2) شدة المحبة له ولأهل بيته، وكافة أصحابه، وموالاة من يواليه ويوالي أهل بيته وأصحابه في صدق، ومعاداة من يعاديه ويعادي أهل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
(3) إبلاغ رسالته بعده ونشر دعوته وإقامة شريعته، وإعزاز أهل ملته وإذلال أهل بغضته وعداوته من الكافرين بدينه والكائدين لأمته وملّته.
(ط) محبة أهل بيته وصحابته:
إن محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه من محبته صلى الله عليه وسلم، وما دامت محبته واجبة فمحبة ما يجب واجب أكيد أيضًا، وعليه فما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحب أهل بيته وأصحابه، إذ كان صلى الله عليه وسلم يحبهم.
- قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ارقبوا محمدًا في أهل بيته.
- وقال: عمر بن عبد العزيز لعبد الله بن الحسن بن حسين: إذا كانت لك حاجة فأرسل إليَّ، أو اكتب فإني أستحي من الله أن يراك الله على بابي. فهذا تعظيم, وأي تعظيم من عمر لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وقال: عمر لابنه عبد الله لما أعطى أسامة ثلاثة آلاف وخمسمائة وأعطى ولده عبد الله ثلاث آلاف فقال له: فلم فضّلته عليّ؟ فوالله ما سبقني إلى مشهد، قال:
(1/139)
لأن زيدًا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك, وأسامة أحب إليه منك فآثرت حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبّي!!
- كانت تلك الأخبار الموجبة لحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما أصحابه رضوان الله عليهم ففي كتاب الله ما يوجب حبهم وتقديرهم والترضي عنهم، وما يحرم انتقاصهم، الطعن فيهم، والنيل من كرامتهم، فقد قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} , فهل يرضى الله عن عبده ويجوز السخط عليه من قبل عباده؟؟ اللهم لا، لا، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} , فهل يمدح الله تعالى أقوامًا ويثني عليهم في كتابه ويجوز ذمهم وعدم إجلالهم وتقديرهم؟ اللهم لا، لا.
- قوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: ((اقتداو باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)).
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (1))).
- قوله صلى الله عليه وسلم في الأنصار: ((اعفوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم)).
- قول سهل بن عبد الله التستري -رحمه الله تعالى- لم يؤمن بالرسول من لم يوقّر أصحابه، ولم يعزّ (2) أوامره.
- قول مالك بن أنس إمام دار الهجرة: من غاظه أصحاب محمد فهو كافر لقوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.
__________
(1) المد: الحفنة، والنصيف نفصها.
(2) فينصرها ويوقويها ويجلّها ويعظمها.
(1/140)
- قوله وقول غيره أيضًا: من أبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبهم لا حقّ له في فيء المسلمين لقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} , فالذين في قلوبهم غلّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق لهم في الفيء، إذ يخرجون بهذه الآية الكريمة من سورة الحشر، وهذا فقه عظيم، وفهم لكتاب الله كبير سديد.
(ي) الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم:
- هذا آخر الحقوق العشرة الواجبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب هذه السيرة العطرة، الواجبة له على كل مؤمن ومؤمنة، وهو الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الحق الواجب الأكيد ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنف امريء ذكرت عنده فلم يصلِ عليّ)) وقال: ((صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني))، وقال له أصحابه رضي الله عنهم أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)). فالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة في الجملة وتتأكد عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وفي التشهد الأخير من كل صلاة، وجاء في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرة)). وقوله: ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ثم صلوا علي أي قولوا: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, ثم سلوا إلي الوسيلة والفضيلة أي
(1/141)
قولوا: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، فإن من فعل ذلك حلت له شفاعتي يوم القيامة)).
المواطن التي تستحب فيها الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم:
إن هناك مواطن كثيرة تستحب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم نجملها إزاء النقاط الآتية:
- يوم الجمعة وليلتها، إذ روى النسائي بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أمر بالإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة، وورد ليلتها أيضًا.
- عند سماع ذكره أو كتابته لحديث: ((رغم أنف امريء ذكرت عنده ولم يصل عليّ)).
- عند دخول المسجد بأن يقول: بسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحتمك، وعند الخروج كذلك إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك بدل رحمتك.
- وبعد التكبيرة الثانية من صلاة الجنائز، إذ الأولى يقرأ بعد الفاتحة، والثانية يصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم الصلاة الإبراهيمية وهي التي يصلي بها في التشهد الأخير من كل صلاة فريضة أو نافلة.
صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد ورد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صيغ كثيرة بعضها مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها مأثور عن السلف الصالح، وبعضها محدث مبتدع (1)، ونظرًا لذلك فإنا نكتفي بذكر أعلى الصلاة وذكر أدناها، فأعلى الصلاة وأفضلها على الإطلاق الصلاة الإبراهيمية التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) من تلك الصلوات المحدثة صلاة الفاتح عند الطائفة التيجانية.
(1/142)
أصحابه ما تقدم قريبًا إذ قال لهم: ((قولوا اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) , وأدنى الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على محمد وسلم تسليمًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
فاللهم صل علي محمدٍ عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وجوب الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)} الأحزاب.
بها يطيب السمر ويحلو الحديث ويحلّ الأنس وتحصل البركة وتنزل السكينة، وهي علامة الحب وشاهد المتابعة وبرهان الموالاة ودليل الصلاح وطريق الفلاح، يقول صلى الله عليه وسلم: • (من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه عشر درجات، وكتبت له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات)) أخرجه النسائي في الكبرى وفي عمل اليوم والليلة عن أنس بن مالك.
وقال: ((أكثروا عليّ من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة)) أخرجه ابن عدي في الكامل 3\ 102 والبيهقي في الكبرى 5790 وفي الشعب 3030 عن أنس بن مالك وانظر كشف الخفاء 1\ 190.
(1/143)
وقال:" رغم أنف من ذكرت عنده ولم يصلّ عليّ" أخرجه أحمد 7402 والترمذي 3545 والحاكم 2016. وروي مرفوعا:" البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ" أخرجه أحمد 1738 والترمذي 3546 عن علي رضي الله عنه وانظر كشف الخفاء 1\ 332.
وورد:" إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونني من أمتي السلام" أخرجه أحمد [3657، 4198] والنسائي 1282 والدارمي 2774 والحاكم 3576 عن عبدالله بن مسعود.
ولما قال أبيّ بن كعب: سوف أجعل لك صلاتي كلها، أي دعائي، قال:" إذن يغفر ذنبك، وتكفي همّك" أخرجه الترمذي 2457.
فيصلى عليه صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول والثاني، وعند ذكره، وفي خطبة الجمعة، والعيد، والاستسقاء، وفي خطبة النكاح، وفي مجلس العلم والمواعظ، والكتب والرسائل، والمعاهدات، والصكوك، وعند لقاء الأحباب، وعند الوداع، وفي الدعاء وأذكار الصباح والمساء، وعند نزول الهموم وترادف الغموم وفقد الأغراض وتزاحم الكرب وحدوث المصاب ووصول المبشرات، وعند تأليف الكتب وشرح حديثه وكتابة سيرته وذكر أخباره وقصصه .. إلى غير ذلك من المناسبات، فصلّى الله عليه وسلم ما زهر فاح، وبلبل صاح، وسر باح، وحمام ناح، وصلى الله عليه وسلم ما نسيم تدّفق وما دمع ترقرق، وما وجه أشرق، وصلى الله عليه وسلم ما اختلف الليل والنهار، وهطلت الأمطار، ودنت الثمار واهتزت الأشجار، وصلى الله عليه وسلم ما بدت النجوم، وتلبدّت الغيوم وانقشعت الهموم، وتليت الأخبار والعلوم، وعلى آله الطيبين الأبرار، وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم واقتفى الك الآثار.
وجوب التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
(1/144)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} الحجرات.
قحطان عدنان شادوا منك عزّتهم
بك التشرّف للتأريخ لا بهم
أكاد أقتلع الآهات من حرقي
إذا ذكرتك أو أرتاع من ندمي
الأدب معه صلى الله عليه وسلم شريعة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، فالأدب مع شخصه الكريم بإجلاله وإعزازه وتوقيره وتقديره واحترامه وانزاله المنزلة التي أنزله الله إياها: لا غلوّ ولا جفاء، وعدم الاعتراض عليه صلى الله عليه وسلم أو مناقضة أقواله بأقوال غيره من الناس، أو تقديم قول كائن من البشر مهما كان على قوله، أو أخذ حديثه على أنه كلام يصيب ويخطئ، بل هو كلام نبيّ معصوم، أو التعرّض لصفة من صفاته بجفاء، أو رد قوله بعد التأكد من صحة نسبته اليه، أو الشك في بعض قضاياه وأحكامه، أو مقارنته بالقادة والزعماء والملوك، فقد رفع الله قدره على الجميع وأعلى منزلته على الكل.
بل يحرم كل ما فهم منه الجفاء والتنقص والاعتراض عليه صلى الله عليه وسلم، والواجب على كل من رضي به رسولا واتبعه وآمن به حبه حبا صادقا أعظم من حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وتصديق ما أخبر به، وامتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، والاهتداء بهداه والاقتداء بسنته والرضى بحكمه والحرص على متابعته، وتوقير حديثه والصلاة والسلام عليه إذا ذكر صلى الله عليه وسلم، وعدم رفع الصوت عند ذكره وذكر حديثه، وعدم الضحك وقت تلاوة أخباره وكلامه وآثاره، والخشوع عند ذكر شيء من سنته، والتأدب عند الاستشهاد بقوله، والتسليم عند أمره ونهيه، والإيمان
(1/145)
بمعجزاته والذب عن جنابه الشريف وأهل بيته وأصحابه {فالذين ءامنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
يا من تضوّع طيب القاع منزله
فطاب من طيب ذاك القاع والأكم
نفسي الفداء لمجدٍ أنت حامله
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
فعلى المسلم أن يفعل فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في التأدب معه
(1/146)
أصول دينه ودعوته
لم يكن من قبيل الصدفة أو الاتفاق أن يختم الله الديانات السماوية بالإسلام، وأن يجعل نبي الإسلام صلوات الله عليه وسلامه آخر لبنةٍ في بيت النبوة العتيد فيتم بناؤه ويبلغ تمامه.
بل إن ذلك أمرٌ اقتضته طبيعة الإسلام نفسه فهو دينٌ لم ينزل لإصلاحٍ مؤقت أو لهداية أمةٍ مخصوصةٍ من الناس, حتى يكون بقاؤه رهنًا بهذا العصر من الزمان, أو هذه الأمة من البشر، وإنما هو دينٌ بلغ من العموم والإطلاق الدرجة التي جعلته فوق اعتبارات الزمان والمكان جميعًا.
فالإسلام هو: النظام الإلهي الكامل الذي لا يمكن للإنسانية في سعيها المتصل لبلوغ الكمال الإنساني أن تجد أرقى منه, أو ما يدانيه في جميع مجالات الرقي عقليًا كان أم نفسيًا، خلقيًا كان أم عاطفيًا، روحيًا كان أم ماديًا، فرديًا كان أم جماعيًا.
وحينئذٍ فلا يكون هناك مجالٌ لرسالةٍ إلهيةٍ أخرى، أو لرسولٍ جديد, فإنه لن يستطيع أن يضيف إلى كمال الإسلام كمالاتٍ أخرى لم يأت بها الإسلام, بل كل كمالٍ إنسانيٍ ممكن فقد جاء به الإسلام, ولا يظنن ظان أننا نقول ذلك تعصبًا منا لديننا أو حميةً له، بل إن ذلك هو الحق الذي شهدت له به الأعداء الذين لم يستطيعوا رغم كيدهم للإسلام وافتنانهم في النيل منه أن ينقضوا جزئيةً واحدةً مما قرره ودعا إليه.
وإليك أيها القارئ الكريم بعض الأسس والمبادئ التي قامت عليها دعوة الإسلام، وسترى إن تأملتها جيدًا صدق ما قدمناه لك من روح العموم والإطلاق التي تسود المنهج الإسلامي كله، وستدرك أيضًا إذا سلم عقلك من الهوى والتعصب أن النظام
(1/147)
الذي يقوم على مثل هذه الأسس والمبادئ لابد أن يكون أرقى نموذج للحياة البشرية, وأعلى مثل يمكن أن يبلغه التطور البشري في سعيه الدائب نحو الكمال.
لا شك أن سلامة العقيدة ووضوحها وبعدها عن إغراق الوهم، وجموع الخيال، وتحكم الأهواء, هو الهدف الأكبر الذي يسعى إليه العقل في تفكيره الدائب للوصول إلى الحقيقة.
والعقيدة التي جاء بها الإسلام في قوتها وبساطتها وسلامتها من الشطط والانحراف, وارتكازها على أسسٍ ثابتةٍ من الفطرة الإنسانية العامة, والمنطق العقلي المستقيم, والنصوص الدينية الصريحة, بحيث لا يمكن لعقول كل المفكرين والفلاسفة أن ينقضوا أصلاً واحدًا من أصولها.
فهي عقيدةٌ تقوم أولاً وأساسًا على الإيمان بالله ربًا واحدًا له الربوبية المطلقة على الأشياء كلها, خلقًا وملكًا وتدبيرًا ورعايةً وحفظًا، لا شركة لأحدٍ معه أصلاً، لا في خلق شيء، ولا في تدبير أمر، وأن خلقه للأشياء تم بقدرته وحدها على وفق علمه ومشيئته دون معينٍ أو وسيط، وأن تدبيره لها كذلك يجري وفق قوانين ثابتةٌ وسننٌ مطردةٌ اقتضتها حكمته، فلا يستطيع أحدٌ لها تحويلاً ولا تبديلاً، وأنه خلق الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه وجعله سيد هذه الكائنات؛ بما منحه من سلطات العقل وقوة الفكرة وسعة الحيلة, والقدرة على اكتشاف المجهول، وجعل الأشياء كلها مسخرةٌ له وطوع إرادته؛ ليستخدمها فيما يعود على أفراده بالخير, وييسر لهم سبل العيش، ويعرج بهم في مدارج الرقي والكمال.
وتقوم على الإيمان به كذلك إلهًا واحدًا, لا تنبغي الإلهية إلا له, فهو الإله المألوه الذي تألهه القلوب، أي: تعبده محبةً ومخافةً وذلاً، وإنابةً واستكانةً، وخضوعًا وتعظيمًا، ورجاءً وخشيةً، وتوكلاً واستعانةً, ورغبةً ورهبةً, وذكرًا وشكرًا ورِضًا وصبرًا، وسؤالاً ودعاءً وقنوتًا وطاعةً إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي يحبها الله ويرضاها، والتي أمر عباده أن يتقربوا إليه بها.
(1/148)
وتقوم هذه العقيدة على الإيمان بأن له وحده الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وأنه متصفٌ بجميع الكمالات التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم اتصافًا حقيقيًا على الوجه الذي يليق به, من غير أن يقتضي ذلك تمثيلاً له بأحدٍ من خلقه فإنه {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير} , مع وجوب تنزيهه سبحانه عن كل ما لا يليق به من صفات النقص التي تضاد كماله, ووجوب تنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد والند والشبيه والنظير.
وتقوم عقيدة الإسلام على الإيمان بملائكة الله على الوجه الذي ورد في الكتاب والسنة, من أنهم {عبادٌ مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون* يعلم ما بين أيديهم وماخلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء:26 - 28] , وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون, وأن منهم السفراء بينه وبين رسله من البشر يحملون إليهم وحي الله ورسالاته ليقوموا بتبليغها إلى من أرسلوا إليهم من الناس، ومنهم من وُكِّل بالأرزاق والأمطار, ومنهم من وُكل بالنطف التي تصب في الأرحام، ومنهم من وُكل بقبض الأرواح من الأجساد، ومنهم من وُكِّل بكتابة أعمال العباد من الحسنات والسيئات، إلى آخر ما جاءت به النصوص في شأن هذا العالم الغيبي, الذي لا يحيل العقل وجوده, وهكذا كل ما أخبر به الدين من عوالم الغيب, كالجن والشياطين والجنة والنار وسؤال القبر، ونعيم القبر أو عذابه, مادام قد جاء الخبر الصادق بوجودها بعد أن قام الدليل على صدق المخبر بها، فليس للعقل بعد ذلك مجال لإنكار أو تكذيب.
وتقوم عقيدة الإسلام على الإيمان باليوم الآخر، وما يشتمل عليه من خراب هذه الدنيا وفساد نظامها، وخروج الناس من قبورهم أحياء وحشرهم إلى ربهم, وفصل القضاء بينهم، ومحاسبتهم على كل ما قدموا لأنفسهم، وما كسبته أيديهم من خيرٍ ومن شر.
ولا شك أن الإيمان بالبعث والجزاء مما يقتضيه العقل تحقيقًا لقاعدة العدل، إذ ليس في العقول ولا في الحكمة أن تكون هذه الحياة القصيرة هي الغاية من خلق هذا العالم
(1/149)
الكبير، وأن تكون نهاية المؤمن والكافر سواء، ونهاية الظالم والمظلوم سواء، ونهاية البر والفاجر سواء.
والإيمان بالبعث من أسس عقيدة الإسلام, فإذا علم كل إنسانٍ أنه بعد الحياة سيبعث ثم يحاسب انعكس ذلك على نظام العيش في هذه الحياة، واستقامة الأمور، فإذا علم أنه مسئولٌ عما قدم، وأن سعيه سوف يُرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى، سلك في حياته سبيل الجادة وحاسب نفسه بنفسه, فلا يظلم، ولا يصر على ذنبٍ ارتكبه، ولا يقصر في أداء ما وجب عليه، فإن وقع في شيءٍ من ذلك تذكر يوم البعث والحساب فتاب وأناب.
وتقوم عقيدة الإسلام أيضًا على الإيمان بقضاء الله وقدره إيمانًا يحمل إلى النفوس الطمأنينة والرضا, وينفي عنها الهلع والجزع, ويحملها على التسليم لله فيما قدره, والاعتراف له بقهر الربوبية, لكن من غير أن يتخذ هذا الإيمان بالقدر مطيةً للعجز والكسل, أو تكأةً للتقصير والعصيان, أو حجةً يتعلل بها أهل الكذب والبهتان، فإن القدر إنما يتعزى به عن المصائب والآلام، ولكنه ليس حجةٌ لأهل الفسوق والإجرام، بل هؤلاء عليهم أن يتوبوا ويستغفروا الله لذنوبهم بدلاً من التعلق بالأماني والأحلام.
ومن الأسس التي تقوم عليها عقيدة الإسلام أن الدين كله لله, فهو الذي يتعبد عباده بما يشاء, ويشرع لهم من الأحكام والحدود والفرائض والآداب ما اقتضته حكمته مما يعلم أن فيه صلاحهم وسعادتهم، فلا يجوز لأحدٍ أن يزيد في دين الله ما ليس منه, أو ينقص منه ما هو منه, أو يبدل كلماته عن مواضعها, أو يحرفها بتأويلٍ زائغٍ أو يشرع ما لم يأذن به الله.
وتقوم عقيدة هذا الدين الخالد على أن دين الله واحد، وهو الإسلام الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وأن الأنبياء كلهم أخوة، أصول دينهم واحدة, وشرائعهم شتى، وأن الواجب هو الإيمان بهم وبما أُنزل إليهم جميعًا قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة:285].
(1/150)
هذه هي أهم أسس عقيدة الإسلام، فهل ترى فيها ما يجافي الفطرة أو يناقض العقل، أو يصعب على الفهم، أو يتنافى مع مقررات العلم؟.
إنها الصراحة والبساطة والقوة التي تفرض نفسها لتزيح فساد العقائد وجور الوثنية وظلمات الإلحاد.
من خصائص دين الإسلام
الإسلام دين الفطرة، ودين السلام والأمان، والبشرية لن تجد الراحة، ولن تحقق السعادة إلا بالأخذ بالإسلام، وتطبيقه في شتى الشؤون.
ومما يؤكد عظمة دين الإسلام، ما يتميز به من خصائص لا توجد في غيره من المذاهب والأديان.
ومن تلك الخصائص التي تثبت تميز الإسلام، ومدى حاجة الناس إليه ما يلي:
1 - أنه جاء من عند الله: والله - عز وجل - أعلم بما يصلح عباده، قال - تعالى -: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}
2 - أنه يبين بداية الإنسان، ونهايته، والغاية التي خلق من أجلها.
قال - تعالى -: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا ونساءً}
وقال: {منها خلقناكم ومنها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}
وقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
3 - أنه دين الفطرة: فلا يتنافى معها قال - تعالى -: {فطرة الله التي فطر الناس عليها}.
(1/151)
4 - أنه يعتني بالعقل ويأمر بالتفكر: ويذم الجهل، والتقليد الأعمى، والغفلة عن التفكير السليم، قال - تعالى -: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}.
وقال: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض}.
5 - الإسلام عقيدة وشريعة: فهو كامل في عقيدته وشرائعه؛ فليس ديناً فكرياً فحسب، أو خاطرة تمر بالذهن، بل هو كامل في كل شيء، مشتمل على العقائد الصحيحة، والمعاملات الحكيمة، والأخلاق الجميلة، والسلوك المنضبط؛ فهو دين فرد وجماعة، ودين آخرة وأولى.
6 - أنه يعتني بالعواطف الإنسانية: ويوجهها الوجهة الصحيحة التي تجعلها أداة خير وتعمير.
7 - أنه دين العدل: سواء مع العدو، أو الصديق، أو القريب، أو البعيد.
قال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل}، وقال: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}، وقال: {ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}
8 - الإسلام دين الأخوة الصادقة: فالمسلمون إخوة في الدين، لا تفرقهم البلاد، ولا الجنس، ولا اللون، فلا طبقية في الإسلام، ولا عنصرية، ولا عصبية لجنس أو لون أو عرق، ومعيار التفاضل في الإسلام إنما يكون بالتقوى.
9 - الإسلام دين العلم: فالعلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، والعلم يرفع صاحبه إلى أعلى الدرجات، قال - تعالى -: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.
10 - أن الله تكفل لمن أخذ بالإسلام وطبقه بالسعادة، والعزة، والنصرة فرداً كان أم جماعة: قال - تعالى -: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
(1/152)
ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ولبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً}
وقال: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
11 - في الإسلام حل لجميع المشكلات: لاشتمال شريعته و أصولها على أحكام ما لا يتناهى من الوقائع.
12 - أن شريعته أحكم ما تساس به الأمم: وأصلح ما يقضى به عند التباس المصالح، أو التنازع في الحقوق.
13 - الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، وأمة وحال، بل لا تصلح الدنيا بغيره: ولهذا كلما تقدمت العصور، وترقت الأمم ظهر برهان جديد على صحة الإسلام، ورفعة شأنه.
14 - الإسلام دين المحبة، والاجتماع، والألفة، والرحمة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر))
وقال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن؛ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
15 - الإسلام دين الحزم والجد والعمل: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، واحرص على ما ينفعك ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)).
16 - الإسلام أبعد ما يكون عن التناقض: قال - تعالى -: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.
17 - أنه يحمي معتنقيه من الفوضى والضياع والتخبط، ويكفل لهم الراحة النفسية والفكرية.
(1/153)
18 - الإسلام واضح ميسور، وسهل الفهم لكل أحد.
19 - الإسلام دين مفتوح لا يغلق في وجه من يريد الدخول فيه.
20 - الإسلام يرتقي بالعقول، والعلوم، والنفوس، والأخلاق: فأهله المتمسكون به حق التمسك هم خير الناس، وأعقل الناس، وأزكى الناس.
21 - الإسلام يدعو إلى حسن الأخلاق والأعمال: قال - تعال -: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}
وقال: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}.
22 - الإسلام يحفظ العقول: ولهذا حرم الخمر، والمخدرات، وكل ما يؤدي إلى فساد العقل.
23 - الإسلام يحفظ الأموال: ولهذا حث على الأمانة، وأثنى على أهلها، ووعدهم بطيب العيش، ودخول الجنة، وحرم السرقة، وتوعد فاعلها بالعقوبة، وشرع حد السرقة وهو قطع يد السارق؛ حتى لا يتجرأ أحد على سرقة الأموال؛ فإذا لم يرتدع خوفاً من عقاب الآخرة ارتدع خوفاً من قطع اليد.
ولهذا يعيش أهل البلاد التي تطبق حدود الشرع آمنون على أموالهم، بل إن قطع اليد قليل جداً؛ لقلة من يسرق.
ثم إن قطع يد السارق فيه حكمة الزجر للسارق من معاودة السرقة، وردع أمثاله عن الإقدام عليها، وهكذا تحفظ الأموال في الإسلام.
24 - الإسلام يحفظ الأنفس: ولهذا حرم قتل النفس بغير الحق، وعاقب قاتل النفس بغير الحق بأن يقتل.
ولأجل ذلك يقل القتل في بلاد المسلمين التي تطبق شرع الله؛ فإذا علم الإنسان أنه إذا قتل شخصاً سيقتل به كف عن القتل، وارتاح الناس من شر المقاتلات.
25 - الإسلام يحفظ الصحة: فالإشارات إلى هذا المعنى كثيرة جدا سواء في القرآن أو السنة النبوية.
قال تعالى: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلآ تُسْرِفُوا))
(1/154)
قال العلماء: إن هذه الآية جمعت الطب كله؛ ذلك أن الاعتدال في الأكل والشرب من أعظم أسباب حفظ الصحة.
ومن الإشارات لحفظ الصحة أن الإسلام حرم الخمر، ولا يخفى ما في الخمر من أضرار صحية كثيرة، فهي تضعف القلب، وتغري الكلى، وتمزق الكبد إلى غير ذلك من أضرارها المتنوعة.
ومن ذلك أن الإسلام حرّم الفواحش من زنًا ولواط، ولا يخفى ما فيهما من الأضرار الكثيرة ومنها الأضرار الصحية التي عرفت أكثر ما عُرِفَت في هذا العصر من زهري، وسيلان، وهربس، وإيدز ونحوها.
ومن حفظ الإسلام للصحة أنه حرّم لحم الخنزير، الذي عرف الآن أنه يولّد في الجسم أدواءً كثيرة، ومن أخصِّها الدورة الوحيدة، والشعرة الحلزونية، وعملهما في الإنسان شديد، وكثيراً ما يكونان السبب في موته.
ومن الإشارات في هذا الصدد ما عرف من أسرار الوضوء، وأنه يمنع من أمراض الأسنان، والأنف، بل هو من أهم الموانع للسل الرئوي؛ إذ قال بعض الأطباء: إن أهم طريق لهذا المرض الفتاك هو الأنف، وإن أنوفاً تغسل خمس عشرة مرة لجديرة بأن لآ تبقى فيها جراثيم هذا الداء الوبيل، ولذا كان هذا المرض في المسلمين قليلاً وفي الإفرنج كثيراً.
والسبب أن المسلمين يتوضؤون للصلاة خمس مرات في اليوم، وفي كل وضوء يغسل المسلم أنفه مرة أو مرتين أو ثلاثاً.
26 - يتفق مع الحقائق العلمية: ولهذا لا يمكن أن تتعارض الحقائق العلمية الصحيحة مع النصوص الشرعية الصحيحة الصريحة.
وإذا ظهر في الواقع ما ظاهره المعارضة فإما أن يكون الواقع مجرد دعوى لآ حقيقة لها، وإما أن يكون النص غير صريح في معارضته؛ لأن النص وحقائق العلم كلاهما قطعي، ولا يمكن تعارض القطعيَّين.
(1/155)
ولقد قرر هذه القاعدة كثير من علماء المسلمين، بل لقد قررها كثير من الكتاب الغربيين المنصفين، ومنهم الكاتب الفرنسي المشهور (موريس بوكاي) في كتابه: (التوراة والإنجيل والقرآن) حيث بين في هذا الكتاب أن التوراة المحرفة، والإنجيل المحرف الموجودين اليوم يتعارضان مع الحقائق العلكية، في الوقت الذي سجل فيه هذا الكتاب شهادات تفوق للقرآن الكريم سبق بها القرآنً العلمَ الحديثَ.
وأثبت الكاتب من خلال ذلك أن القرآن لايتعارض أبدا مع الحقائق العلمية، بل إنه يتفق معها تمام الاتفاق.
ولقد تظافرت البراهين الحسية، والعلمية، والتجريبية على صدق ما جاء به الإسلام حتى في أشد المسائل بعدا عن المحسوس، وأعظمها إنكاراً في العصور السابقة.
خذ على سبيل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أُولاهنَّ بالتراب)).
ولقد جاء الطب باكتشافاته ومكبراته فأثبت أن في لعاب الكلب مكروباتٍ وأمراضاً فتاكة لا يزيلها الماء وحده، وأظهرت البحوث العلمية الحديثة أنه يحصل من إنقاء التراب لهذه النجاسة ما لا يحصل بغيره.
وجاء-أيضاً- أن شرب الكلب في الإناء يسبب أمراضاً خطيرة، فالكلب كثيراً ما تكون فيه ديدان مختلفة الأنواع، ومنها دودة شريطية صغيرة جدّا، فإذا شرب في إناء، أو لمس إنسانٌ جسد الكلب بيده أو بلباسه انتقلت بويضات هذه الديدان إليه، ووصلت إلى معدته في أكله، أو شربه، فتثقب جدرانها، وتصل إلى أوعية الدم، وتصل إلى الأعضاء الرئيسة، فتصيب الكبد، وتصيب المخ، فينشأ عنه صداع شديد، وقيءٌ متوالِ، وفقد للشعور، وتشنجات، وشلل في بعض الأعضاء، وتصيب القلب، فربما مزقته، فيموت الشخص في الحال.
ثم إن العلوم الطبيعية تؤيد الإسلام، وتؤكد صحته على غير علم من ذويها.
مثال ذلك تلقيح الأشجار الذي لم يكتشف إلا منذ عهد قريب، وقد نص عليه القرآن الذي أنزل على النبي الأمي منذ أربعة عشر قرناً في قوله-تعالى-: ((وَأَرْسَلْنَا الرِّياَحَ
(1/156)
لَوَاقِحَ)) وكذلك قوله تعالى-: ((وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ))، وقوله: ((وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)) وقوله: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا)).
فهذا كلام رب العالمين في القرآن قبل أن تبين لنا العلوم الطبيعية أن في كل نبات ذكراً وأنثى.
ولقد اعتنق بعض الأوربيين الإسلام لما وجد وصف القرآن للبحر وصفاً شافياً مع كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يركب البحر طول عمره، وذلك مثل قوله ـ تعالى ـ: ((أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَاهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)).
27 - الإسلام يكفل الحريات ويضبطها: فحرية التفكير في الإسلام مكفولة، وقد منح الله الإنسان الحواس من السمع، والبصر، والفؤاد، ليفكر، ويعقل، ويصل إلى الحق، وهو مأمور بالتفكير الجاد السليم، ومسؤول عن إهمال حواسه وتعطيلها، كما أنه مسؤول عن استخدامها فيما يضر.
والإنسان في الإسلام حر في بيعه، وشرائه، وتجارته، وتنقلاته، ونحو ذلك ما لم يتعد حدود الله في غش، أو خداع، أو إفساد.
والإنسان في الإسلام حر في الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا من مأكول، أو مشروب، أو مشموم، أو ملبوس ما لم يرتكب محرماً يعود عليه، أو على غيره بالضرر.
ثم إن الإسلام يضبط الحريات؛ فلا يجعلها مطلقة سائمة في مراتع البغي والتعدي على حريات الآخرين؛ فالشهوة على سبيل المثال لو أطلقت لاندفع الإنسان وراء شهواته، التي تكون سبباً في هلاكه؛ لأن طاقته محدودة، فإذا استنفذت في اللهو والعبث والمجون - لم يبق فيها ما يدفعها إلى الطريق الجاد، ويدلها على مسالك الخير؛ فليس من الحرية - إذاً - أن يسترسل في شهواته وملذاته غير مبال بحلال أو حرام، وغير ناظر في العواقب.
(1/157)
إن نهايته ستكون وخيمة في العاجل قبل الآجل؛ إن ثرواته ستتبدد، وإن قواه ستنهار، و إن صحته ستزول، وبالتالي سيكون تعيساً محسوراً.
ثم هب أن الإنسان أطلق لشهواته العنان هل سيجد الراحة والطمأنينة؟
الجواب: لا؛ وإذا أردت الدليل على ذلك فانظر إلى عالمنا المعاصر بحضارته المادية، لما أطلق حرية العبث والمجون، ولم يحسن استخدامها - حدثت القلاقل، والمصائب، والأمراض الجسدية والنفسية، وشاع القتل، والنهب، والسلب، والانتحار، والقلق، وأمراض الشذوذ.
وليست الحرية - أيضاً - بالسير وراء الأطماع التي لا تقف عند حد، دونما مبالاة في آثارها على الآخرين؛ فهل يعد من الحرية ما يقوم به الأقوياء من سطو على الضعفاء، واستخفاف بحقوقهم، ومصادرة لآرائهم كما هي حال الدول الكبرى في عالمنا المعاصر؟
الجواب: لا؛ فالحرية الحقة - هي ما جاء به الإسلام، وهي الحرية المنضبطة التي تحكم تصرفات الإنسان، والتي يكون فيها الإنسان عبداً لربه وخالقه؛ فذلك سر الحرية الأعظم؛ فالإنسان إذا تعلق بربه خوفاً، وطمعاً، وحباً، ورجاءً، وذلاً، وخضوعاً - تحرر من جميع المخلوقين؛ ولم يعد يخاف أحداً غير ربه، ولا يرجو سواه، وذلك عين فلاحه وعزته.
وبالجملة فالإسلام دين الكمال والرفعة، ودين الهداية والسمو.
وإذا رأينا من بعض المنتمين إليه وهناً في العزم، أو بعداً عن الهدى - فالتبعة تعود على أولئك، لا على الدين؛ فالدين براء، والتبعة تقع على من جهل الإسلام، أو نبذ هدايته وراء ظهره.
من محاسن الدين الإسلامي
(1/158)
مر بك في الفقرة السابقة ذكر لبعض خصائص الدين الإسلامي، والحديث في هذه الفقرة قريب من الحديث السابق أو إكمالٌ له.
وسيتضح لك فيما يلي شيء من محاسن الدين الإسلامي، وأنه دين السعادة والفلاح، وأنه لم يَدَع الإنسانَ في خاصة نفسه أو مع أهله، أو مع جيرانه، أو أهل ملته، أو الناس أجمعين ـ إلا علمه من دقائق الآداب، ومحاسن المعاملات ما يصفو به عيشه، ويتم سروره.
ولا يريبنك ما عليه كثير من المسلمين من سوء الحال؛ فإن ذلك بمقتضى أهوائهم لا من طبيعة دينهم.
ومحاسن الدين الإسلامي تتجلى بوضوح من خلال النظر في أوامر الإسلام ونواهيه.
فإليك نبذة عن ذلك فيما يلي من أسطر.
أولا: من أوامر الإسلام:
الإسلام يأمر بأوامر عظيمة تنتظم بها الأمور المدنية، وتصلح بها حالة المعاش؛ فالإسلام في ذلك الشأن هو البحر الذي لا يدرك غوره، و الغاية التى ليس بعدها أمل لآمل، ولا زيادة لمستزيد.
وهذه الآوامر حث عليها الإسلام بأبلغ العبارات، وأقربها إلى الأفهام، وتوعد على الخروج عن هذه الجادة بالعقاب، ووعد من أخذ بها بجزيل الثواب.
فمن تلك الآوامر العظيمة التي جاء بها الإسلام ما يلي:
1 - الإسلام يأمر بما تكون به كبير النفس عن التشبه بما دونك من أنواع الحيوانات، رفيعَ القدر عن أن تكون عبدا لشهواتك وحظوظك، عالي المنزلة عن أن تعظم غير ربك، أو تخضع لغير حكمه.
2 - يأمرك بما يشعرك أنك عضو نافع عامل تأنف أن تقلد غيرك، أو تكون عالة على سواك.
3 - الإسلام أمرك باستعمال عقلك، وجوارحك فيما خلقت له، من العمل النافع في أمر دينك ودنياك.
(1/159)
4 - الإسلام يأمرك بالتوحيد الخالص، والعقيدة الصحيحة التي لا يقبل العقل غيرها، ولا تطمئن القلوب إلا بها؛ فالعقيدة التي أمرك الإسلام بها تجعلك عظيماً كبيراً، وتشعر قلبك العزة، وتذيقك حلاوة الإيمان،.
5 - الإسلام يأمرك بستر عورات المسلمين، واتقاء مواضع التهم.
6 - الإسلام يأمر بالسعي لقضاء حاجات المسلمين، وتنفيس كرباتهم.
7 - الإسلام يأمرك بالبداء بالسلام على كل مسلم، وأن تنصر أخاك المسلم في غيبته.
8 - الإسلام أمرك بعيادة المرضى وتشييع الجنائز وزيارة القبور والدعاء لإخوانك المسلمين.
9 - الإسلام يأمرك بإنصاف الناس من نفسك وأن تحبّ لهم ما تحبه لنفسك.
10 - الإسلام أمرك بالسعي في طلب الرزق، وأن تعز نفسك، وأن ترفعها عن مواطن الذل والهوان.
11 - الإسلام أمرك بالرحمة بالخلق، والعطف عليهم، وحسن رعايتهم ومداراتهم، والسعي في نفعهم، وجلب الخيرات لهم، ودفع المضرات عنهم.
12 - الإسلام أمرك ببرّ الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الجار، والرفق بالحيوان.
13 - الإسلام أمرك بالوفاء للأصحاب، وحسن المعاملة للزوج والأبناء.
14 - الإسلام أمرك بالحياء، والحلم، والسخاء، والكرم، والشجاعة، والغيرة على الحق.
15 - وأمرك بالمروءة، وحسن السمت، والحزم، و الحكمة في الأمور.
16 - وأمرك بالأمانة، وإنجاز الوعد، وحسن الظن، والأناة في الأمور، والمبادرة في فعل الخير.
17 - وأمرك بالعفة، والاستقامة، والشهامة، والنزاهة.
18 - الإسلام يأمرك بشكر الله، ومحبته، وخوفه، ورجائه، والأنس به، والتوكل عليه.
إلى غير ذلك من المعاني الجميلة العظيمة.
ثانيا: من نواهي الإسلام:
(1/160)
فمن أعظم محاسن الإسلام ما جاء به من النواهي التي تحذر المسلم من الوقوع في الشر، وتنذره سوء العاقبة التي تترتب على الأفعال القبيحة؛ فمما نهى الإسلام عنه ما يلي:
1 - نهى عن الكفر، والفسوق، والعصيان، واتباع الهوى.
2 - ونهى عن الكبر، والحقد، والعجب، والحسد، والشماتة بالمبتلين.
3 - ونهى عن سوء الظن، والتشاؤم، واليأس، والبخل، والتقتير، والإسراف، والتبذير.
4 - ونهى عن الكسل، والخور، والجبن، والضعف، والبطالة، والعجلة، والفظاظة، وقلة الحياء، والجزع، والعجز، والغضب، والطيش، والتسخط على ما فات.
5 - ونهى عن العناد، وعن قسوة القلب التي تمنع صاحبها من إغاثة الملهوف والمضطر.
6 - ونهى عن الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره، وعن النميمة وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد.
7 - ونهى عن كثرة الكلام بلا فائدة، وعن إفشاء السر، والسخرية بالناس، والاستهزاء بالآخرين.
8 - ونهى عن السب، واللعن، والشتم، والتعبير بالعبارات المستقبحة، والتخاطب بالألقاب السيئة.
9 - ونهى عن كثرة الجدال، والخصومة، وعن المزاح البذيْ الذي يجر إلى الشر والتطاول.
10 - ونهى عن الكلام والتدخل فيما لا يعني.
11 - ونهى عن كتمان الشهادة، وعن شهادة الزور، وعن قذف المحصنات، وسب الأموات، وكتم العلم.
12 - ونهى عن السفاهة، والفحش، وعن المن بالصدقة، وعن ترك الشكر لمن أسدى إليك معروفاً.
(1/161)
13 - ونهى عن الاستطالة في الأعراض، وانتساب المرء إلى غير أبيه، وعن ترك النصيحة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
14 - ونهى عن الخيانة، والمكر، وإخلاف الوعد، والفتنة التي توقع الناس في اضطراب.
15 - ونهى عن عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وإهمال الأولاد.
16 - ونهى عن التجسس، والتحسس، وتتبع عورات الناس.
17 - ونهى عن تشبه الرجال بالنساء، وعن تشبه النساء بالرجال، وعن إفشاء سر الزوج.
18 - ونهى عن شرب الخمر، وتعاطي المخدرات، وعن المقامرة التي تعرض المال للمخاطرة.
19 - ونهى عن ترويج السلعة بالحلف الكاذب، وعن بخس الكيل والوزن، وعن إنفاق المال بالمحرمات، وعن إيذاء الجار.
20 - ونهى عن السرقة، والغصب، وخطبة الإنسان على خطبة أخيه، وشرائه على شراء أخيه.
21 - ونهى عن خيانة أحد الشريكين لشريكه، وعن استعمال العارية بغير ما أذن بها صاحبها، وعن تأخير أجرة الأجير او منعه منها بعد فراغه من عمله.
22 - ونهى عن الإكثار من الطعام بحيث يضر صاحبه.
23 - ونهى عن التهاجر، والتشاحن، والتدابر، وحذّر أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام.
24 - ونهى عن الضرب لأحد بغير مسوغ شرعي، وعن ترويع الناس بالسلاح.
25 - ونهى عن الزنا، واللواط، وقتل النفوس التي حرم الله قتلها.
26 - ونهى عن قبول القاضي هديةً من أحد لم يكن له عادة بإهداءها له قبل توليه، وعن قبول الضيافة الخاصة.
(1/162)
27 - ونهى عن أخذ الرشوة من محق أو مبطل، وعن دفع الرشوة من محق أو مبطل، إلا من محق مضطر إلى دفعها.
28 - ونهى عن خذلان المظلوم مع القدرة على نصره.
29 - ونهى عن اطلاع المرء على دار غيره بغير إذنه ولو من ثقب، و عن التسمع لحديث قوم يكرهون سماعه.
30 - ونهى عن كل ما يضر بالهيئة الاجتماعية، أو النفس، أو العقل، او الشرف، أو العرض.
هذه نبذة موجزة عن أوامر الإسلام ونواهيه، وبسط ذلك، وذكر أدلته يحتاج إلى مجلدات ضخام.
إلى الباحثين عن السعادة
إن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا و باطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان؛ ولهذا كان أكمل الناس حياةً أكملهم استجابةً لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة, فمن فاته جزءٌ منه فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم داعٍ إلى الإيمان، وإلى الجنة، فهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة، والإنسان مضطرٌ إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار، ويُؤْثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه
(1/163)
هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك؛ ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل، دون حياة من هو معافى من ذلك، وحياة قلبه وروحه بما يميز بين الحق والباطل والغي والرشاد.
وكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم من روحه فيصير حيًا بذلك النفخ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقي إليه، وهو وحي الله, فإن وحيه روحٌ ونور، فالحياة والاستنارة موقوفةٌ على نفخ الرسول الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي، ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان، ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له أحد الحياتين وفاتته الأخرى.
وأما من أعرض عن أمر الله وخالف ما أنزله على خاتم رسله، وأخذ من غير الدين الذي ارتضاه الله لخلقه، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيقٌ حرجٌ لضلاله، وإن ظهرت عليه نعمٌ في ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء, فإن قلبه لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلقٍ وحيرةٍ وشكٍ فلا يزال في ريبه يتردد، فهذا من ضنك المعيشة, فالمعرض عن الله وعن شريعة نبيه الخاتم، يصيبه من الضنك بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأنواع النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، ولا تقر العين, ولا يهدأ القلب, ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبودٍ سواه باطل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن به وعمل صالحًا.
هل الإسلام دين إرهاب
إن القول بأن الإسلام دين تطرف وإرهاب مردود على من قاله: فهو محض افتراء، ومحاولة للصد عنه؛ فالإسلام دين الرحمة، والرفق، والتسامح، و ما السيف الذي
(1/164)
يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد، حرصاً على سلامته؛ فليس الغرض من الجهاد في الإسلام سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وإنما الغرض منه إعلاء كلمة الله، وتخليص البشر من عبادة البشر، ودلالتهم على عبادة رب البشر، كي يعيشوا حياة كريمة.
وأمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس، وخير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع الحكمة بعد نضوبها.
واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغُرِّ ما بَصُرَ بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.
فماذا فعل المسلمون حين انتصروا على خصومهم؟ هل تكبروا، وتسلطوا، واستبدوا؟ وهل انتهكوا الأعراض، وقتلوا الشيوخ، والنساء، والأطفال؟
ماذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما انتصر على خصومه الذين كانوا يؤذونه أشد الأذى؟ ألم يكن يصفح عنهم؟ ويمن عليهم بالسبي والأموال؟
وماذ فعل المسلمون عندما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا وغدروا؟ هل تعرضوا للنساء؟ وهل أساءوا للرهبان في الأديرة؟ وهل عاثوا في الأرض فسادا؟ وهل هدموا المنازل، وقطعوا الأشجار؟
وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبيين الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، ونكلوا بهم أيما تنكيل؟ فماذا فعل بهم صلاح الدين لما انتصر عليهم؟ ألم يصفح عن قائدهم؟ ويعالجه؟ ويطلق سراحه؟
فهذه المواقف النبيلة وأمثالها كثير في تاريخ المسلمين، مما كان له أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.
أفغير المسلمين يقوم بهذا؟ آلغرب يقدم مثل هذه النماذج؟
(1/165)
الجواب ما تراه، وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسيليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء وأمثالهم من الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، ولاقت منهم البشرية الويلات إثر الويلات؟
ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فمن الهمج القساة العتاة إذا؟ ومن المتطرفون الإرهابيون حقيقة؟
ثم من الذين صنعوا القنابل النووية، والعنقودية، والذرية، والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟
ومن الذين لوثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟
ومن الذين يسلكون الطرق القذرة التي لا تمت إلى العدل، ولا إلى شرف الخصومة بشيء؟
من الذين يعقمون النساء؟ ويسرقون أموال الشعوب وحرياتهم، ومن الذين ينشرون الإيدز؟
أليس الغرب، ومن يسير في ركابهم؟
ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة التسلط والإرهاب؟
هذه هي الحقيقة الواضحة، وهذا هو الإرهاب والتسلط.
أما جهاد المسلمين لإحقاق الحق، وقمع الباطل، و دفاعهم عن أنفسهم وبلادهم فليس إرهاباً، وإنما هو العدل بعينه.
وما يحصل من بعض المسلمين من الخطأ في سلوك سبيل الحكمة فقليل لا يكاد يذكر بجانب وحشية الغرب، وتبعته تعود على من أخطأ السبيل ولا تعود على الدين، ولا على المسلمين.
وقد يكون لهذا مسوغاته في بعض الأحيان؛ فظلم الكفار عليهم قد يوجد مثل هذه التصرفات.
وهكذا ينبغي للعاقل المنصف؛ أن ينظر إلى الأمور كما هي بعيداً عن الظلم والتزوير والنظرة القاصرة.
(1/166)
وبعد هذا فإن كان للإنسان عجب من شيء فإن عجبه من الأوربيين، والأمريكان؛ حيث لم يكتشفوا حقيقة الدين الإسلامي فيما اكتشفوه، وهي أجلُّ من كل ما اكتشفوه، وأضمن للسعادة الحقيقية من كل ما وصلوا إليه؛ فهل هم جاهلون بحقيقة الإسلام حقاً؟!
أم أنهم يتعامون ويصدون عنه؟!
(1/167)
الإسلام والغرب
العلاقة بين الإسلام والغرب أصبحت من أهم القضايا الاستراتيجية والسياسية منذ نهاية الحرب الباردة، لكنها أصبحت بعد أحداث 11 سبتمبر أهم قضية كونية، تلك الأحداث التي هزت بقوة كبرياء القوة العظمى في العالم وغرورها، وكشفت عن الوجه الحقيقي للغرب في علاقته بالعالم الإسلامي؛ فما كان يُعَدّ له في الخفاء أصبح مكشوفاً، ولم تعد الخطط والاستراتيجيات قيد البحث في الدهاليز والغرف المغلقة، وإنما أصبحت مشاعاً لوسائل الإعلام الغربية، تتداولها مرئية ومسموعة بلا أي تحفظات أو قيود.
وكشفت هذه الخطط فيما كشفت عن وجود بعد عَقَدِيّ يحركها، فالإدارة اليمينية التي تحكم الولايات المتحدة الأمريكية لا تحركها فحسب الدوافع السياسية والاقتصادية ـ على الرغم من أهميتها ـ، وإنما تصدر عن بواعث ثقافية وحضارية ودينية؛ بحيث يمكن القول: إننا بحاجة إلى «علم سياسة» جديد، يجعل من (الدين، والهوية، والثقافة) موضوعه؛ بناء على أن المصالح لم تعد هي جوهر «علم السياسة» أو «العلاقات الدولية»، كما جرت تقاليد هذا العلم منذ (ميكافيللي) وحتى اليوم.
«علم السياسة» الجديد يجعل الجغرافيا السياسية الجديدة تقوم على الحدود الحضارية والثقافية والدينية، وليست خطوطاً وهمية على خريطة العالم، وفي الواقع؛ فإن «الدين» كان أحد محركات الغرب في علاقته بعالم الإسلام، لكن الجانب الثقافي والاجتماعي والحضاري لم يكن ظاهراً للعيان، كما كان جانباً أقل أهمية من الجانب السياسي، ومن ثم فإن الاهتمام بالعلاقة السياسية مع الغرب ـ والتي تمحورت حول التحرر السياسي منه ـ كانت هي الأساس، أما الجوانب الثقافية والحضارية والدينية فكانت غائمة ومشوشة، بل سعى الغرب إلى إسدال الحُجُب عليها، ولم ير المناضلون والساعون
(1/168)
للتحرر في العالم الإسلامي المسألة الحضارية ذات بالٍ، بل كانوا ينازعون الغرب على المستوى السياسي، لكن على المستوى الثقافي كانوا يستلهمون قيم الغرب وطريقته للحياة! وكان الغرب اللئيم يدرك جيداً أن المعركة مع العالم الإسلامي خصوصاً هي بالأساس معركة الدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية، وكأن لسان حاله يقول: إذا كسبنا معركة الدين والثقافة نكون قد انتصرنا حقاً، أما معركة السياسة والاقتصاد فخسارتها يمكن تعويضها بأدوات الهيمنة والضغوط المختلفة. واستطاع الغرب أن يستعيد مكاسب السياسة والاقتصاد، إلى حد أن التحرر السياسي والاقتصادي للعالم الثالث لم يكن سوى مسألة شكلية، لكن معركة الثقافة والحضارة والدين ظلت قائمة ومشتعلة.
وللحق؛ فإن التيار الإسلامي انتبه منذ البداية لأهمية معركة الحضارة، والتي يقع الدين في قلبها، أما العلمانيون الذين قادوا معارك الاستقلال في العالم الإسلامي وكانوا متأثرين بالنموذج الغربي الحضاري؛ فقد اعتبروا قضايا الدين والثقافة قضايا هامشية يهتم بها دراويش التيار الإسلامي، لكن الذين تحرروا من وهم أن الصراع مع الغرب هو صراع سياسي بالأساس أعلنوا أنهم كانوا مخطئين.
ومع تراجع النظرية السياسية الغربية التي تأسست على جعل الدين قوة عينية لا صلة لها بالواقع أو الحياة، وإعادة الاعتبار للدين بوصفه قوة محركة للشعوب؛ بدأ النظر للدين وللحركات الإسلامية بوصفها جزءاً من علم السياسة والاجتماع، لكننا نتحدث اليوم عن اعتبار الدين والثقافة والحضارة هي صلب علم السياسة والعلاقات الدولية، وكما كان الدين الإسلامي ـ وليس أي دين آخر ـ هُو الذي لفت انتباه الغرب لأهمية الدين في أن يصبح قوة ثورية إيجابية؛ فإنه ـ أي الدين الإسلامي ـ هو الذي يلفت الانتباه مرة أخرى إلى أن الدين، والجوانب الثقافية والحضارية هي صلب العلاقات الدولية، وصلب العلوم السياسية والاجتماعية.
والعلاقة بين الإسلام والغرب فيما يتصل بالجانب الحضاري والديني والثقافي قديمة؛
(1/169)
منذ سَعْي الغرب إلى الدعوة لِقَيمه حتى صار له أتباع وعملاء ينافحون عن هذه القيم، وكانت مسألة الغزو الثقافي والفكري محوراً أساسياً في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، ولم تَغِب الروح الصليبية في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، واعتبر الاستعمار نفسه جزءاً من استمرار الحملات الصليبية، وحين قدر للجيوش الفرنسية أن تدخل دمشق ذهب الفرنسي «جور» لقبر صلاح الدين، وقال: «ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين!»، ولم يكفّ الفرنسيون والبريطانيون وغيرهم عن محاولة النفاذ إلى مصادر القوة في الإسلام لتحطيمها، فكانت (العلمانية) و (فصل الدين عن الدولة) في تركيا وباكستان، ثم على المستوى الفكري بكتاب علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، وكانت الدعوة لتحرير المرأة التي قادها قاسم أمين، والتي كانت تعني خلع المرأة المسلمة لحجابها وحيائها، وكانت الدعوة إلى الاجتهاد، والتي لم تكن إلا عنواناً لتحريف الشريعة ذاتها لتوافق متطلبات العصر الحديث، ثم كانت اللغة العربية والأزهر ميادين للصراع مع الغرب؛ ثم كانت القومية العربية التي رَوَّجَ لها نصارى الشام لتفتيت الدولة العثمانية، وظلت معركة المصحف والإسلام والعقيدة حية لم تمت أبداً في الوعي الغربي، وظلَّ العالم الإسلامي يمثل معضلة أمام الغرب؛ لأن الإسلام بوصفه منهجاً شاملاً للحياة ظل يمثل حصناً لا يمكن القضاء عليه، وكانت العودة للإسلام مرة أخرى منذ السبعينيات معضلة جديدة أمام الغرب، فعزله على المستوى السياسي تعافى وقوي واشتد، أما غزله على المستوى الحضاري والثقافي فقد نُقض أنكاثاً بعد وهم قوته؛ ولمّا كانت المعركة الجديدة تستهدف ما نطلق عليه «ما قبل السياسة» ـ أي المحاضن الدينية والثقافية التي حفظت الإسلام طوال الصراع مع الغرب ـ فإن المعركة اليوم مقصود بها العقيدة والشريعة معاً.
الجديد في الموضوع أن الصراع الثقافي والحضاري الذي يقع الدين في قلبه كان يقوم به دوائر ثقافية؛ مثل الكنائس والجامعات، أو الدوائر الثقافية في وزارات الخارجية، أو غيرها، أما اليوم فإن الذي يقوم بتنفيذ معركة المواجهة هو قلب الإدارة الحاكمة في
(1/170)
أمريكا، فالإدارة الأمريكية اليوم تهدف إلى إعادة رسم خريطة العالم الإسلامي على أساس ديني وثقافي وحضاري، وهي تستلهم تقاليد المدرسة الإنجليزية والفرنسية، لكنها تتقدم بخطى واسعة وناجزة، وبيدها القوة والقرار، ولكن قبل الحديث عن هذه الخطط، نحاول إلقاء الضوء على البعد العقدي في الصراع بين الإسلام والغرب؛ عبر شهادات لسياسيين ومثقفين غربيين في هذا السياق.
* الرؤى الأمريكية الجديدة للعالم الإسلامي:
يقول «روبرت أليسون» في كتابه (اختفاء الهلال): «ورث الأمريكيون عن أوروبا المسيحية صورة شبح الإسلام، كدين ولد من الطغيان، يؤيد القمع الديني والسياسي والجمود الاقتصادي، ولم يهتم الأمريكيون بصحة هذا الوصف أو خطئه، لكنهم استلهموه؛ لأنه مناسب لهم سياسياً»، ويضيف: «استخدم الأمريكيون العالم الإسلامي مراراً وتكراراً كنقطة مرجعية لإظهار تميزهم في الحرية والقوة والتقدم الإنساني». الرؤية التي يتحدث عنها «أليسون» لها جذور نصرانية ورثها الأمريكيون عن أوروبا، والذي صاغ هذه الرؤية الأوروبية هم المستشرقون الذين أسسوا علماً من الزيف والبهتان والتحيز ضد الإسلام وعالمه، ولا ننسى أن مرجعية الاستشراق وأسسه هي دينية ذات طابع عقدي.
وفي تقرير فريق العمل الخاص بالإرهاب والحرب غير التقليدية بمجلس النواب عام 1990م؛ قال: «المسجد في مقدمة جهاد المتشددين المتطرفين ضد العالم الغربي المعاصر، وقيام صحوة إسلامية متطرفة، مع أهمية النفط، يجعل الصراع على الشرق الأوسط بمثابة أول مواجهة خطيرة بين هذه الصورة الجديدة من الإسلام والعالم اليهودي المسيحي».
ويقول «برنارد لويس»: «الصراع الحالي ليس سوى صراع بين الحضارات، ورد فعل غير منطقي لمنافس قديم وتاريخي ضد تراثنا (اليهودي ـ النصراني)، وحاضرنا
(1/171)
العلماني، والتوسع العالمي للاثنين»، وهذا هو نفسه ما قاله هانتنجتون عن الحدود الدامية للصراع بين الإسلام والغرب، والذي أكد أن الصدام سوف يكون حضارياً، ويقول «موريتمر زوكرمان»: «إننا في الخط الإمامي لصراع يعود تاريخه إلى مئات السنين، فنحن العقبة الرئيسة في طريق رغبة المتطرفين لإلقاء قيم الغرب الشائنة في البحر، مثلما دخلوا يوماً مع الصليبيين».
ويقول «دانيال بايبس»: «إن الأصوليين الإسلاميين يتحدون الغرب بقوة وعمق أكبر مما فعل ويفعل الشيوعيون، فهؤلاء يخالفون سياساتنا ولكن لا يخالفون نظرتنا إلى العالم كله؛ بما في ذلك طريقة اللبس والعبادة». ويقول «إدوارد ديجيريجيان» مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى: «الولايات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحيدة الباقية، والتي تبحث عن إيديولوجية لمحاربتها؛ يجب أن تتجه نحو قيادة حملة صليبية جديدة ضد الإسلام»، وهو التعبير نفسه الذي استخدمه «بوش الابن» في بداية الحملة الأمريكية الجديدة على العالم الإسلامي، والتي بدأت بأفغانستان وتتجه الآن إلى العراق.
هذه الرؤية كانت قبل أحداث 11 سبتمبر، وهو ما يؤكد أن التصورات كانت معدة، والأفكار جاهزة، وكانت تنتظر لحظة إخراجها المسرحي إلى الوجود، وجاءت أحداث سبتمبر لتكون الفرصة السانحة لإخراج هذه الخطط إلى عالم الوجود المنظور، وكما هو واضح؛ فإن البعد العقدي واضح في الرؤية الأمريكية التي عبر عنها ساسة ومفكرون، وتضمنها بشكل تفصيلي كتاب مهم عنوانه: (أمريكا والإسلام السياسي .. صدام ثقافات أو صدام مصالح).
( America and political islam, clash of cultures or clash of interests ).
لمؤلفه «فواز جرجس».
(1/172)
ومن المهم متابعة الرؤية الأمريكية الجديدة التي تتحدث عما أسميناه «السياسة الأمريكية .. ما بعد بن لادن»، وهذه السياسة عبّر عنها أحسن تعبير اثنان من المفكرين الأمريكان هم «فوكوياما، هانتنجتون»، ففي صحيفة نيوزويك بتاريخ 25/ 12/2001م قال «فوكوياما» في مقال خطير: «الصراع الحالي ليس معركة ضد الإرهاب، ولا ضد الإسلام بوصفه ديناً وحضارة، ولكن صراع ضد الفاشية الإسلامية؛ أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة، والتي تقف ضد الحداثة»، ومضى ليقول: «ويمكن تصنيف الفكر الوهابي بسهولة على أنه إسلامية فاشية، فهناك كتاب دراسي إجباري للصف العاشر يشرح أنه يجب على المسلمين أن يخلصوا بعضهم لبعض، وأن يعتبروا الكفار أعداءهم»، ثم يوضح أكثر فيقول: «التحدي الذي يواجه أمريكا هو أكثر من مجرد مجموعة صغيرة من الإرهابيين، فبحر الفاشية الإسلامية ـ يقصد الوهابية ـ الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحدياً إيديولوجياً هو أكثر من الخطر الشيوعي»، ويوضح أكثر فيقول: «إن الصراع الأساسي ليس مع الإرهابيين فقط، ولكن مع الأصوليين الإسلاميين الذين يقدرهم «دانيال بايبس» بحوالي 15% إلى 10% من العالم الإسلامي، والذين يؤيدون أسامة بن لادن»، وينهي المقال بقوله: «الصراع بين الديمقراطية الغربية الليبرالية والفاشية الإسلامية ليس صراعاً بين نظامين حضاريين يتمتعان بقابلية البقاء نفسها»، ويشير هانتنجتون إلى البعد الحضاري في استجابة الغرب مع أمريكا بعد سبتمبر، فيقول: «الدول الغربية تعاطفت بشكل كاسح مع أمريكا، وأعربت عن التزامها الانضمام للحرب، خاصة بريطانيا وأستراليا وكندا، وهي مجتمعات تشاطر أمريكا الثقافة الأنجلوساكسونية، ووقف الألمان والفرنسيون إلى جانب أمريكا؛ لأنهم اعتبروا العدوان على أمريكا عدواناً عليهم، وقالت «لوموند»: (كلنا أمريكيون)، وقال الألمان: (كلنا نيويوركيون)، وذكر أن قلة عدد الشباب المسلم سوف تؤدي إلى تراجع الحروب بين المسلمين ـ على حد فهمه ـ، وفي السياق نفسه قال «ستانلي فايس» ـ الكاتب الأمريكي في «هيرالدتريبيون»: «إن حقيقة الحرب على الإرهاب تكمن في:
(1/173)
هل ستقوم الدول الإسلامية باتباع النموذج السياسي لتركيا، أكثر النماذج نجاحاً في العالم بوصفها دولة مسلمة حديثة وعلمانية وديمقراطية، أو نموذج السعودية المبني على الرؤية الوهابية المتعصبة للأصولية الإسلامية، والذي يدفع معتنقيه إلى الوراء».
إن الرؤية الأمريكية القديمة تنتقل من التفكير إلى التنفيذ، وكما أوضحنا؛ فإن الإدارة الأمريكية تتبنى الأفكار الأصولية النصرانية، والتي تؤمن بضرورة تدمير العالم الإسلامي، وتدعيم الكيان الصهيوني تمهيداً لمعركة «هرمجدون» التي يتربع بعدها المسيح على عرش العالم، وبعدها تبدأ ألفية مسيحية جديدة، ويتحول اليهود إلى المسيحية، وسوف يكتشف المدقق الذي يولي أهمية للاقتراب الحضاري أن لحظات الخطر تكشف بقوة وعمق بروز البعد الديني والثقافي، وكما يقول «بيرلسكوني» رئيس وزراء إيطاليا وقت إعلان روما: «التاريخ والثقافة والجذور «النصرانية»؛ هي التي توحد أوروبا في لحظة الخطر الراهن»، وها هي روسيا الأرثوذكسية، وإيطاليا الكاثوليكية، وأمريكا البروتستانية جميعهم يقفون صفاً واحداً في مواجهة الإسلام الذي أطلقوا عليه الإرهاب!
* الأهداف الأمريكية .. العقل الإسلامي:
تسعى أمريكا في استراتيجيتها الجديدة نحو العالم الإسلامي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الخطيرة، وهي:
1 - القضاء على الإسلام السُّنِّي الذي يلتزم المنهج السلفي الصحيح؛ بدعوى أنه وهابي، والتأسيس لإسلام أمريكي مستنير لا يعترف بعقيدة الولاء والبراء، ولا يعترف بقتال الكفار أو جهاد الأعداء، ولا يعترف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يقول بأن المسلمين أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، الإسلام الجديد ـ كما يريدون ـ نسخة مشوهة من الطقوس النصرانية التي تُمارس في دور
(1/174)
العبادة.
2 - تغيير المناهج الإسلامية الدينية بوصفها منبعاً للأصولية والالتزام بالدين الإسلامي، وقد قدمت أمريكا مذكرة لحكومات إسلامية عديدة بضرورة تغيير مناهجها الدينية؛ حدث ذلك في السعودية واليمن وباكستان، وبالطبع كانت مصر سبّاقة لهذا، والعمل على علمنة التعليم الديني من أجل تجفيف ينابيع التدين عند الشعوب الإسلامية، وحتى لا يخرج «بن لادن» من جديد، أو حتى لا تظهر «طالبان» مرة أخرى.
3 - العمل على تجنيد «أئمة مستنيرين» يروجون للإسلام الأمريكي الجديد؛ عن طريق زيادة المنح الثقافية لرجال الدين الأمريكان؛ بحيث يقوم هؤلاء الأئمة بتفسير الإسلام وفق التصور الأمريكي؛ أي الإسلام الذي يعلي قيم الحياة (أي يمنع العمليات الاستشهادية ضد الغاصبين المعتدين، ويعزز قيم التسامح وقبول الآخر)، الدور الآن على تجنيد المشايخ والدعاة بعد أن كانت أمريكا تسعى لتجنيد المثقفين المدنيين؛ أي أنها تركز الآن على الذين لم يتعلموا تعليماً دينياً.
4 - تحديث الخطاب الديني ـ طبعاً الإسلامي ـ؛ بحيث يفسر الحجاب بأنه الحشمة، وبعض المأجورين في مصر يتحدثون عن «الحجاب رؤية عصرية»، ويفسر الجهاد بالجري وراء لقمة العيش، وتفسر طاعة ولي الأمر بالطاعة المطلقة؛ بصرف النظر عن كونها في المعروف أم لا؟ ثم البحث عما يطلق عليه الأمريكان: «القواسم المشتركة بين الإسلام والنصرانية»، وتدعيم الجانب الصوفي والروحي الذي يجعل من الإسلام الجديد طاقة سلبية تعزز البدع والخرافات ليس إلا.
5 - هدم النظام الاجتماعي الإسلامي عن طريق «عولمة المرأة»، وتعزيز انطلاقها وإباحيتها عبر الأجندة الدولية التي ترعاها اتفاقيات الأمم المتحدة؛ بحيث يعطيها الحق
(1/175)
في التضحية بالأسرة، وخلق علاقات شراكة خارجها، بل وهدم قوامة الرجل، وعدم النظر للأسرة بوصفها أداة للعمران والاستخلاف، وإنما مظلة للمتعة والشهوة، وأعطيت المرأة في مصر والغرب الحق في السفر دون إذن الزوج أو موافقته، وصارت قضايا الخُلع مثار سخرية في مصر، فكل من تطلب الخُلع تتحدث عن أنها لا تستطيع أن تقيم حدود الله مع زوجها!! والوثائق الدولية تتحدث عن «عولمة الطفل» المسلم أيضاً، فهناك وثيقة الطفل الدولية التي تعطي له الحرية الكاملة أمام تسلط والده؛ بحيث لا يكون له سلطان عليه، وكذلك البنت المسلمة.
هذا ما يريده الغرب منا ـ وهو لا يتورع عن الذهاب كل مذهب لتنفيذ مخططه؛ بما في ذلك الإطاحة بأنظمة، وتقسيم دول؛ لحرمان من يصفهم بالأصوليين من مصادر الثروة (البترول)، والإدارة الجديدة الأمريكية تسوق خططاً للتنفيذ، وبعد ضربة العراق؛ فإن «باول» يتحدث عن «شرق أوسط جديد».
إنها لحظة الحقيقة التي يواجهها العالم الإسلامي .. فماذا يفعل؟
1 - تقوية الجبهة الداخلية في البلدان الإسلامية بتكاتف النظم الإسلامية، وأبناء الحركات الإسلامية في مواجهة الخطر الأمريكي القادم.
2 - إعادة الالتزام بالمنهج القرآني في المواجهة، ومنه قوله ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، والملة هنا ليست الدين أو العقيدة، ولكنها معنى أوسع يمكن أن نقول عليه: طريقة الحياة ( Way of life ). وآيات الموالاة والمعاداة الكثيرة في القرآن تؤكد أن الصراع مع الغرب هو صراع عقدي بالأساس، وهو في الوقت نفسه صراع شامل على جميع المستويات.
3 - التمسك بالفهم الصحيح لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة السلف الصالح بوصفها الطريقة المستقيمة، والطريق الذي يدخل بنا إلى الجنة، والعض
(1/176)
بالنواجذ على هذا الفهم؛ فهو النجاة في وقت الفتنة والمحنة.
4 - إعادة الالتزام بمبدأ الاعتصام بحبل الله، وتمثل مفهوم الأمة الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ونبذ التفرق والشقاق، فالخطر القادم يؤكد أن «حصوننا مقصودة من العدو»، والدفاع عنها يوجب الاعتصام والوحدة، ونبذ التفرق والخلاف.
5 - توعية المسلمين كافة بالخطر المحدق بهم، لحماية أسرهم وزوجاتهم من فتنة مضلة، وإفهامهم أن المعركة هي معركة المسلمين جميعاً، وليس فقط الدعاة، أو الطليعة من أبناء المسلمين، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]، وقوله ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، إن المشهد الراهن يظهر لنا الغرب بقيادة أمريكا كأنه القوة التي لا غالب لها، وهي فتنة عظيمة أشبه بفتنة الدجال التي يُختبر فيها إيمان الناس، والإيمان بالله هو الذي يحفظ المسلمين من التزلزل أو الشك في نصر الله، وثقته في أن المستقبل لهذا الدين، إن تقديم الغرب لنفسه كفرعون يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]؛ هو قمة الصراع العقدي معه، وثبات المسلم على عقيدته هو مفازته وأمته إلى الصبر والمصابرة، والرباط والمرابطة، والنصر بإذن الله
نبي الإسلام والغرب
مع كل الجنايات التي تتوالى على المسلمين، والبغي والعدوان بألوان وصنوف شتى فما زال المسلمون يواصلون الاحتمال والصبر ولو على مضض، إلا رسول الله أن ينال فلا نغضب له، ويساء إليه فلا ننصره، ويتعدى عليه فلا ندافع عنه، فها هي تتوالى بذاءات
(1/177)
وإهانات للمسلمين في جناب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – تطلقها عصابة من قساوسة الكنيسة الإنجيلية (جيري فاويل، بات روبرتسون، فرانكلين جراهام، جيري فاينز) ومجملها وصفهم للنبي – صلى الله عليه وسلم- بأنه إرهابي ورجل عنف وحرب، وتزوج 12 زوجة، أما تفصيلها فبذاء وتفحش، وتسفل في العقل والخلق.
وهذه القيادات الكنسية ذات علاقة قوية بالرؤساء الأمريكيين الجمهوريين، ففرانكلين جراهام هو الذي تلى الأدعية في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي، وبات روبنسون هو الذي نال المنحة المالية من البيت الأبيض، كما أن الرئيس الأمريكي خاطب عبر الأقمار الصناعية مؤتمر الكنيسة المعمدانية الذي ألقى فيه القس جيري فاينر تهمه الفاحشة على النبي – صلى الله عليه وسلم-.
-وهذه ليست أوّل مرة ينال فيها من مقام النبوة، أو يساء فيها إلى الجناب الكريم فقد صدر مثل ذلك من مستشرقين وصحفيين وفنانين وغيرهم كثيرين، ولكن جانب الفظاعة أن يصدر ذلك من قادة دينيين كبار، و بشكل شبه جماعي من هؤلاء القسسا.
- إن هؤلاء يتكلمون عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي علّم البشرية تعظيم أنبياء الله وتوقير رسله: (لا نفرق بين أحد من رسله) وأن الإيمان برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يصح ولا يقبل إلا مع الإيمان برسالة عيسى – عليه السلام- ومن سبقه من المرسلين.
- وعندما كان اليهود يصفون المسيح بأقبح الأوصاف كان محمد – صلى الله عليه وسلم- يعلم البشرية: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين)، (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).
- وعندما كان اليهود يصفون المحصنة العذراء بأفحش الصفات كان محمد – صلى الله عليه وسلم- يعلّم البشرية: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين).
- وإن هؤلاء الذين يشتغلون بالوقيعة في النبي العظيم بمثل أوصاف السفّاح والقاتل إنما
(1/178)
يصفون بذلك نبي الرحمة الذي علم البشرية: (أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) والذي علم البشرية الرحمة والعدل حتى في حال الحرب والقتال، وكان ذلك في وقت البربرية والتوحش العالمي حيث لا هيئات ولا مواثيق ولا قوانين عالمية فجاء إلى هذا العالم بقوانين العدل في السلم والحرب: (لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً).
- إن إلقاء هذه التهم من هؤلاء القسس دلالة على إفلاسهم؛ لأنهم لم يجدوا ما يثيرونه إلا اجترار تهم قديمة سبق المستشرقون من قبل إلى إثارتها، وقد تهافتت وأفلست وانتهت صلاحيتها ودحضتها الأجوبة الموضوعية التي كتبت عنها في حينها.
كما له دلالة أخرى وهو مقدار الجبن والتضليل الذي يتلبس به هؤلاء القسس، أما كيف ذلك؛ فإننا عندما نعلم أن قسّيساً يؤمن بالعهد القديم ومع ذلك يطعن في النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه تزوج اثنتي عشرة امرأة. ونحن نعلم أنه يعلم من العهد القديم الخبر عن سليمان – عليه السلام- أنه كان لديه سبعمئة زوجة وثلاثمئة محظية (سفر الملوك الإصحاح الحادي عشر).
وفي (سفر صموئيل الإصحاح الخامس) أن داود – عليه السلام- اتخذ لنفسه زوجات ومحظيات ومثله عن يعقوب – عليه السلام -؛ فما بال تعدد الزوجات عند هؤلاء الرسل والمذكور في العهد القديم الذي تؤمن به الكنيسة الإنجيلية؟ أم هو الجبن والخوف إلى حد الذعر من اليهود أن يُنَال أنبياؤهم وآباؤهم؟
ثم انظر إلى وصفهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بالقتل وأنه سفاح؛ مع أن في العهد القديم الذي يؤمنون به أنّ داود – عليه السلام – خطب ابنة الملك شاؤول فطلب إليه مهراً مئة غلفة من غلف الفلسطينيين، فانطلق داود مع رجاله فقتل (مئتي) رجل من الفلسطينيين، وأتى بغلفهم وقدمها للملك، فزوجه شاؤول عندئذ من ابنته ميكال، وأدرك شاؤول يقيناً أن الرب مع داود (سفر صموئيل الإصحاح الثامن عشر) وما جاء فيه أيضاً أن يوشع هاجم مدن عجلون وحبرون ودبير وقتل ملوكها وكل نفس فيها بحد السيف فلم يفلت منها ناج (سفر يوشع 34).
(1/179)
وأن موسى قال للإسرائيليين: (الآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة ضاجعت رجلاً، ولكن استحيوا لكم كل عذراء لم تضاجع رجلاً) (سفر العدد 31).
ويتجاهل إلى حد العمى ما ورد في الإنجيل منسوباً إلى المسيح: (لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته) إنجيل متى الإصحاح (34).
ويتجاهل ما ورد في العهد القديم من كتابهم المقدس من الأمر بقتل الكفار وحرق ممتلكاتهم ورجمهم بالحجارة حتى الموت وكلها موجودة في العهد القديم في مواضع منها (سفر الخروج الاصحاح 34، سفر التثنية الأصحاح 13، 17).
فأين الكلام عن القتل وسفك الدماء هناك؟ أم هو الذعر المخرس من معاداة السامية، والمقاييس الانتقائية الجبانة، والتعصب الأعمى المقيت؟
- أين الكلام عن القتل الذي مارسته الكنيسة ضد المسلمين واليهود في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش؟
-أين الكلام عن القتل وسفك دماء المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ في هيروشيما ونجازاكي وفيتنام وغيرها؟
-أين الكلام عن سفك الدماء الذي يمارسه اليهود ضد الأطفال والصبايا في فلسطين؟
-إن هؤلاء يصنعون الإرهاب ويقذفون بالنار إلى صهاريج الوقود، فالنيل من جناب النبوة استفزاز واستنفار لكل مسلم، ودونه أبداً مهج النفوس، وفداه الأمهات والآباء، وإن جمرة الغضب التي يوقدها هؤلاء في قلب كل مسلم لا يمكن التنبؤ بالحريق الذي ستشعله ولا كيف ولا أين. وسيدفع هؤلاء برعونتهم هذه البشرية إلى أتون سعير متواصل من الصراعات والثارات.
ولإن احتمل المسلمون ألواناً من البغي، وتقبلوا تبريرات متنوعة للعدوان فلن يوجد من يحتمل البغي على النبي – صلى الله عليه وسلم- ولن يمكن تبرير أي حماقة من هذا النوع.
(1/180)
-ألا يطرح هذا سؤالاً كبيراً عن هذه الحملة: هل هي محاولة لدفع المواجهة التي تخوضها أمريكا مع العالم الإسلامي باتجاه ديني، أم أنها كشف للوجه الحقيقي للحملة الأمريكية؟ وسيجيب كلٌ على هذا السؤال وفق ما لديه من معطيات.
-إن هؤلاء القسس يجرّون أمريكا إلى بؤرة خطرة لم تجربها من قبل، وسيكون عاقبة أمرها خسراً، إذ قد تستطيع تغيير الأنماط الاجتماعية والاقتصادية في بعض البلاد الإسلامية، أما مقام النبوة في نفوسهم فأخطر من أن يمس، وأبعد من أن ينال.
-إن اليهود قد استطاعوا أن يرهبوا أوروبا وأمريكا، وأن يكمموا الأفواه دون ما يسمونه معاداة السامية، وأصبحت هذه الوصمة رعباً لا يستطيع أحد تجاوزه، فإذا فكر وقدر تكالبت عليه أجهزة الإعلام بهجوم عنيف يقضي على كيانه وقيمته، فهل تعجز الملايين المملينة من أتباع محمد – صلى الله عليه وسلم- أن تدفع أو تدافع، فتحرك ساكناً وتحدث أثراً.
-وبعد فإن عظمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في نفوسنا أعلى من قبّة الفلك، ولن ينال منها مثل هذا التواقح الجبان (والذي يبصق على السماء عليه أن يمسح وجهه بعد ذلك)، ولكن الذي يعنينا هنا واجبنا نحن تجاه مقام النبوة، والانتصار لجناب الرسول – صلى الله عليه وسلم- والذبّ عن شريف مقامه.
- فهذا نداء إلى كل مؤمن بالله ورسله، إلى كل قلب يخفق حباً لنبيه – صلى الله عليه وسلم -، وإلى كل مهجة تتحرق شوقاً إليه، إلى كل مسلم يعلم أنه لولا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لكنا حيارى في دياجير الظلمات، ولولا رسول الله لكنا فحماً في نار جهنم، إلى كل مسلم يقول من أعماق قلبه: فدى لرسول الله نفسي، وفدى لأنفاسه أبي وأمي، إلى كل مسلم تضج جوانحه تعظيماً وتوقيراً، وإجلالاً وتقديساً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا نداء لنصرة النبي أمام هذا التواقح الفاحش والتسفل البذيء، ولن يعدم كل غيور أن يجد له مكاناً ومكانة، وأن يبذل فيه جهداً ولو قل، وكل كثير منّا فهو في حق النبي قليل. وذلك بإعلان الاستنكار لهذا التهجم والهجوم والاحتجاج القوي عليه، والرد بعزة ووثوق على شبههم المستهلكة، وأن يعلم هؤلاء ومن
(1/181)
يلحد إليهم عظيم جنايتهم وتجنيهم على مشاعر المسلمين، وأن يُعلموا أن مكانة النبي – صلى الله عليه وسلم – في نفوس المسلمين أعظم مما يتصورون، والمساس بها أخطر مما يقدرون، كل ذلك مع ملاحظة حصر الخطأ فيمن صدر منه، فليس من العدل ولا من العقل توسيع دائرة الخطأ لتشمل غير من صدر منه، وإن كانوا يشتركون في قواسم أخرى. كما أن تعميم الخطأ يعيق عملية التصحيح والإيضاح، كما أنه ينبغي ألا يوقف الحملة المضادة ولايضعفها الاعتذارات الواهنة التي صدرت من أحدهم ويمكن أن تصدر من آخرين، فالخطيئة أكبر من أن يمحوها اعتذار باهت.
وسيترتب على هذه الحملة في نصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – مصالح أخرى تابعة لذلك منها تصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والمسلمين، ونشر الإسلام، ومقاومة الحملة اليهودية على المسلمين، ومقاومة المد التنصيري وغير ذلك.
(1/182)
نصرة النبي صلى الله عليه وسلم
ويمكن أن تأخذ الحملة لنصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – طرائق متنوعة منها:
1 - الاحتجاج على الصعيد الرسمي على اختلاف مستوياته، واستنكار هذا التهجم بقوة، وإننا نعجب أن الشجب والاستنكار الذي نحن أهله دائماً لم يستعمل هذه المرة، ونعجب أخرى أن يستنكر هذه الإساءة وزير خارجية بريطانيا، سابقاً بذلك آخرين كانوا أحق بها وأهلها.
2 - الاحتجاج على مستوى الهيئات الشرعية الرسمية كوزارات الأوقاف، ودور الفتيا، والجامعات الإسلامية.
3 - الاحتجاج على مستوى الهيئات والمنظمات الشعبية الإسلامية وهي كثيرة.
4 - إعلان الاستنكار من الشخصيات العلمية والثقافية والفكرية والقيادات الشرعية، وإعلان هذا النكير من عتبات المنابر وأعلاها ذروة منبري الحرمين الشريفين.
5 - المواجهة على مستوى المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب بالرد على هذه الحملة واستنكارها.
6 - المواجهة على المستوى الفردي، وذلك بإرسال الرسائل الإلكترونية المتضمنة الاحتجاج والرد والاستنكار إلى كل المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر المسلمون بإرسال ملايين الرسائل الرصينة القوية إلى المنظمات والأفراد فإن هذا سيكون له أثره اللافت قطعاً.
7 - استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية تدافع عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وتذب عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ، والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.
(1/183)
8 - كتابة المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف -ولو كمادّة إعلانية- ونشرها على مواقع الإنترنت باللغات المتنوعة.
9 - إنتاج شريط فيديو عن طريق إحدى وكالات الإنتاج الإعلامي يعرض بشكل مشوق وبطريقة فنية ملخصاً تاريخياً للسيرة، وعرضاً للشمائل والأخلاق النبوية، ومناقشة لأهم الشبه المثارة حول سيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم-، وذلك بإخراج إعلامي متقن ومقنع.
10 - طباعة الكتب والمطويات التي تعرف بشخصية النبي – صلى الله عليه وسلم- ويراعى في صياغتها معالجة الإشكالات الموجودة في الفكر الغربي.
11 - عقد اللقاءات، وإلقاء الكلمات في الجامعات والمنتديات والملتقيات العامة في أمريكا لمواجهة هذه الحملة.
12 - إقامة مؤتمرات في أمريكا وأوروبا تعالج هذه القضية وتعرض للعالم نصاعة السيرة المشرفة وعظمة الرسول – صلى الله عليه وسلم-.
13 - إصدار البيانات الاستنكارية من كل القطاعات المهنية والثقافية التي تستنكر وتحتج على هذه الإساءة والفحش في الإيذاء.
14 - تبادل الأفكار المجدية في هذه القضية، وإضافة أفكار جديدة والتواصي بها، وسيجد كل محب لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – معظم لجنابه مجالاً لإظهار حبه وغيرته وتعظيمه، فهذا يأتي بفكرة، وذاك يكتب مقالة وآخر يترجم، وآخر يرسل، وآخر يمول في نفير عام لنصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ولسان حالهم كل منهم يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحب إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد وأوردنا حوضه، وارزقنا مرافقته في الجنة،.
(1/184)
ألف طريقة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
أذكر هنا بعض الطرق ولن يعدم الموحد الغيور أن يكملها إلى الألف بل الآلاف من الطرق لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
على مستوى الفرد:
1 - التفكير في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم القاطعة بأنه رسول رب العالمين، وأصلها القرآن الكريم، وما تضمنه من دلائل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
2 - تعلم الأدلة من القرآن والسنة والإجماع الدالة على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر باتباعه، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
3 - العلم والمعرفة بحفظ الله لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وذلك من خلال الجهود العظيمة التي قام بها أهل العلم على مر العصور المختلفة , فبينوا صحيحها من سقيمها، وجمعوها على أدق الأصول التي انفردت بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم السالفة.
4 - استشعار محبته صلى الله عليه وسلم في القلوب بتذكر كريم صفته الخَلقية والخُلقية، وقراءة شمائله وسجاياه الشريفة، وأنه قد اجتمع فيه الكمال البشري في صورته وفي أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
5 - استحضار عظيم فضله وإحسانه صلى الله عليه وسلم على كل واحد منا، إذ أنه هو الذي بلغنا دين الله تعالى أحسن بلاغ وأتمه وأكمله، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، ورسولاً عن قومه.
6 - عزو كل خير دنيوي وأخروي نوفق إليه ونتنعم به إليه صلى الله عليه وسلم بعد فضل الله تعالى ومنته، إذ كان هو صلى الله عليه وسلم سبيلنا وهادينا إليه، فجزاه
(1/185)
الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
7 - استحضار أنه صلى الله عليه وسلم أرأف وأرحم وأحرص على أمته. قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} {الأحزاب:}.
8 - التعرف على الآيات والأحاديث الدالة على عظيم منزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه، ورفع قدره عند خالقه، ومحبة الله عز وجل له، وتكريم الخالق سبحانه له غاية التكريم.
9 - الالتزام بأمر الله تعالى لنا بحبه صلى الله عليه وسلم، بل تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين) [متفق عليه].
10 - الالتزام بأمر الله تعالى لنا بالتأدب معه صلى الله عليه وسلم ومع سنته لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات:] وقوله تعالى {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} [الحجرات:] وقال تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} [النور:].
11 - الانقياد لأمر الله تعالى بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته وحمايته من كل أذى يراد به، أو نقص ينسب إليه، كما قال تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه).
12 - استحضار النية الصادقة واستدامتها لنصرته، والذب عنه صلى الله عليه و سلم.
13 - استحضار الثواب الجزيل في الآخرة لمن حقق محبة النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الصحيح، بأن يكون رفيق المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنة، لقوله صلى الله عليه وسلم لمن قال إني أحب الله ورسوله: (أنت مع من أحببت).
14 - الحرص على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر، وبعد الآذان،
(1/186)
وفي يوم الجمعة، وفي كل وقت، لعظيم الأجر المترتب على ذلك، ولعظيم حقه صلى الله عليه وسلم علينا.
15 - قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، مع الوقوف على حوادثها موقف المستفيد من حكمها وعبرها، والاستفادة من الفوائد المستخلصة من كل حادث منها، ومحاولة ربطها بحياتنا وواقعنا.
16 - تعلم سنته صلى الله عليه وسلم، بقراءة ما صححه أهل العلم من الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم، مع محاولة فهم تلك الأحاديث، واستحضار ما تضمنته تلك التعاليم النبوية من الحكم الجليلة والأخلاق الرفيعة والتعبد الكامل لله تعالى، والخضوع التام للخالق وحده.
17 - اتباع سنته صلى الله عليه وسلم كلها، مع تقديم الأوجب على غيره.
18 - الحرص على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في المستحبات، ولو أن نفعل ذلك المستحب مرة واحدة في عمرنا، حرصاً على الاقتداء به في كل شيء.
19 - الحذر والبعد عن الاستهزاء بشيء من سنته صلى الله عليه وسلم.
20 - الفرح بظهور سنته صلى الله عليه وسلم بين الناس.
21 - الحزن لاختفاء بعض سنته صلى الله عليه وسلم بين البعض من الناس.
22 - بغض أي منتقد للنبي صلى الله عليه وسلم أو سنته.
23 - محبة آل بيته صلى الله عليه وسلم من أزواجه وذريته، والتقرب إلى الله تعالى بمحبتهم لقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم ولإسلامهم، ومن كان عاصياً منهم أن نحرص على هدايته لأن هدايته أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداية غيره، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مهلاً يا عباس لإسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب، ومالي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب).
24 - العمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في آل بيته، عندما قال: (أذكركم
(1/187)
الله في أهل بيتي) ثلاثاً.
25 - محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم واعتقاد فضلهم على من جاء بعدهم في العلم والعمل والمكانة عند الله تعالى.
26 - محبة العلماء وتقديرهم، لمكانتهم وصلتهم بميراث النبوة فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فلهم حق المحبة والإجلال، وهو من حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته.
على مستوى الأسرة والمجتمع:
1 - تربية الأبناء على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- تربية الأبناء على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله.
- اقتناء الكتب عن سيرته صلى الله عليه وسلم.
4 - اقتناء الأشرطة عن سيرته صلى الله عليه وسلم.
- انتقاء الأفلام الكرتونية ذات المنهج الواضح في التربية.
- تخصيص درس أو أكثر في الأسبوع عن السيرة تجتمع عليه الأسرة.
7 - اقتداء الزوج في معاملة أهل بيته بالرسول صلى الله عليه وسلم.
- تشجيع الأبناء على حفظ الأذكار النبوية وتطبيق ذلك.
- تشجيع الأبناء على اقتطاع جزء من مصروفهم اليومي من أجل التطبيق العملي لبعض الأحاديث، مثل: كفالة اليتيم , إطعام الطعام , مساعدة المحتاج.
- تعويد الأبناء على استخدام الأمثال النبوية في الحديث مثل المؤمن كيس فطن , لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين , يسروا ولا تعسروا.
- وضع مسابقات أسرية عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- تعريف الأسرة المسلمة بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال تطبيق مشروع (يوم في بيت الرسول).
على مستوى قطاع التعليم والعاملين فيه:
1 - زرع محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس الطلبة والطالبات من خلال
(1/188)
إبراز حقه صلى الله عليه وسلم على أمته.
- الإكثار من عقد المحاضرات التي تغطي جوانب من حياة الرسول شخصيته صلى الله عليه وسلم.
- حث مسئولي قطاعات التعليم إلى إضافة مادة السيرة النبوية إلى مناهج التعليم والدراسات الإسلامية في التخصصات الإنسانية.
- العمل على تمويل وضع كراسي لدراسات السيرة النبوية في الجامعات الغربية المشهورة.
- تشجيع البحث العلمي في السيرة النبوية وحث الباحثيين على تصنيف كتب السنة بتصانيف عدة مثل المغازي والشمائل.
- العمل على إقامة المعارض المدرسية والجامعية التي تعرف بالرسول صلى الله عليه وسلم مع مراعاة التمثيل الجغرافي لنشأة الإسلام.
- تخصيص أركان خاصة في المكتبات تحوي كل ماله علاقة بالرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته والإهتمام به وجعلها في مكان بارز.
8 - العمل على إعداد أعمال موسوعية أكاديمية غنية في السيرة النبوية تصلح كأعمال مرجعية وترجمتها إلى اللغات العالمية.
- إقامة مسابقة سنوية للطلبة والطالبات لأفضل بحث في السيرة النبوية وتخصيص جوائز قيمة لها.
- إقامة مخيمات شبابية تتضمن أنشطة تزرع محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتعلق بسنته.
11 - إقامة دورات تدريبية متخصصة لإعداد القادة بالإقتداء بالمصطفي صلى الله عليه وسلم.
على مستوى الأئمة و الدعاة وطلبة العلم:
1 - بيان خصائص دعوته ورسالته صلى الله عليه وسلم وانه بعث بالحنيفية السمحة وأن الأصل في دعوته هو حرصه على هداية الناس كافة إلى إفراد العبادة لرب الناس.
(1/189)
2 - العمل على دعوة الناس وهدايتهم إلى هذا الدين؛ بجميع أجناسهم وقبائلهم.
- بيان صفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية والخُلقية قبل وبعد الرسالة.
4 - بيان فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته بأسلوب ممتع.
5 - بيان مواقفه صلى الله عليه وسلم مع أهله وجيرانه وأصحابة رضوان الله عليهم.
6 - بيان كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين.
- بيان منهجه صلى الله عليه وسلم في حياته اليومية.
8 - تخصيص الخطبة الثانية لبعض الجمع للتذكير بمشاهد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فضلاً عن تخصيص خطب كاملة عنه من وقت إلى آخر.
9 - التعليق على الآيات التي تتكلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم عند قراءتها في الصلاة ولمدة ثلاث إلى خمس دقائق.
10 - إضافة حلقات لتحفيظ السنة النبوية إلى جوار حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد.
11 - تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى عامة الناس حول سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى التمسك بما صح عنه صلى الله عليه وسلم بأسلوب بسيط واضح.
- ذكر فتاوى علماء الأمة التي تبين حكم من تعرض لرسول الأمة صلى الله عليه وسلم بشيء من الانتقاص ووجوب بغض من فعل ذلك والبراءة منه.
- العمل على رد الناس إلى دينهم من خلال عرض مبسط لمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية.
- التحذير في الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم، وبيان الآيات التي تنهي عن الغلو كقوله (لا تغلو في دينكم). 15 - والأحاديث الخاصة في ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، وبيان أن المحبة الصادقة هي في اتباعه صلى الله عليه وسلم.
(1/190)
16 - حث الناس على قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مصادرها الأصلية وتبيين ذلك لهم.
17 - دحض وتفنيد الشبهات والأباطيل التي تثار حول الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته.
الخاتمة
فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهذا إسلامنا فيا طالب الخير والنجاة أقبل، ويا مريد الشر والفتنة أقصر فلن يهدأ بال أهل الإسلام حتى يكون الدين كله لله.
وأنت يا من تزعم حب النبي انظر لنفسك، ما دليل حبك وما برهان صدقكك، وماذا قدمت لنصرة دين الله.
فشمر أيها المحب فالطريق طويل والأجل قصير والموعد الجنة بإذن الله.
وأنت يا من جهلت قدر المصطفى ولم تعرف له قدره وعظيم منزلته وأثره على العالم حتى قيام الساعة، أقرأ وتعرف ثم اعلنها للعالم ولا تخف؛ إنه الدين الحق وإنه النبي الخاتم، فلا نجاة ولا فلاح إلا بمحبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالاقتداء به والامتثال لأمره ونصرة دينه
.
المراجع:
- إظهار الحق – الكيرواني الهندي
- تعريف غير المسلمين بالإسلام - محمد بن إبراهيم الحمد
- زاد المعاد في هدي خير العباد – ابن قيم الجوزية.
- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام عليى خير الأنام – ابن قيم الجوزية.
- هداية الحيارى – ابن قيم الجوزية.
- الجواب الصحيح – ابن تيمية
- الرسل والرسالات – عمر الأشقر
- السيرة النبوية – لابن هشام.
- الشمائل المحمدية – الترمذي.
- جمع الوسائل في شرح الشمائل- علي القاري
- السيرة النبوية الصحيحة – الدكتور أكرم ضياء العمري.
- الرحيق المختوم – الشيخ صفي الرحمن المباركفوري.
- الرسول صلى الله عليه وسلم كأنك تراه - القرني
- هذا الحبيب – الشيخ أبو بكر الجزائري.
- محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن - إبراهيم خليل فيلبس
- 1000 سؤال وجواب في المذاهب والأديان والفرق المعاصرة – إسلام محمود.
- 1000 سؤال وجواب في السيرة النبوية – إسلام محمود.
- القاموس الفريد في العقيدة والتوحيد – إسلام محمود.
- موقع الإسلام اليوم - www.islamtoday.net
- موقع اللجنة العالمية لنصرة خاتم المرسلين www.icsfp.com -
- معجزات النبي صلى الله عليه وسلم – مصطفى العدوي
- موسوعة الكتب التسعة – شركة حرف.
(1/192)
- مكتبة الألباني – برنامج ألكتروني.
فهرس الموضوعات
نورالرسالة المحمدية يشرق على الأرض
البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة
(1/193)
هل رسالة عيسى عليه السلام كانت عالمية؟
مولده صلى الله عليه وسلم ونشأته
اسمه ونسبه صلى الله عليه وسلم
بداية مبعثه صلى الله عليه وسلم
أسمائه صلى الله عليه وسلم
شرح معاني أسمائه صلى الله عليه
رسول الهداية
دعوته صلى الله عليه وسلم قومه
(1/194)
الهجرة إلى الحبشة
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه والنجاشي
الحصار في الشعب
الخروج إلى الطائف
الإسراء والمعراج
دعوته صلى الله عليه وسلم للقبائل
استجابة أهل المدينة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم
الهجرة إلى المدينة
(1/195)
النبي صلى الله عليه وسلم في الغار
غزواته صلى الله عليه وسلم
الحرب ضد الإسلام قديمًا وحديثًا
صور من الأذى الذي لحق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
صور من الأذى الذي لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم
وصف خلقته صلى الله عليه وسلم
ملابسه صلى الله عليه وسلم
طعامه وشرابه
(1/196)
هديه صلى الله عليه وسلم في نومه
في هديه صلى الله عليه وسلم في الركوب
في هديه صلى الله عليه وسلم بيعه وشرائه
في هديه صلى الله عليه وسلم في كلامه وسكوته وضحكه وبكائه
هديه صلى الله عليه وسلم في خُطبه
هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء
هديه صلى الله عليه وسلم في صلاته
هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة الزكاة
(1/197)
هديه صلى الله عليه وسلم في الصيام
هديه صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته
البيت النبوي
تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
المعجزات المحمدية
القرآن الكريم
انشقاق القمر
نزول المطر بدعائه صلى الله عليه وسلم
(1/198)
نبوع الماء من بين أصابعه أسمائه صلى الله عليه وسلم
فيضان ماء بئر الحديبية
قدح لبن روى فئامًا من الناس
الطعام القليل يشبع العدد الكثير
تكثير الطعام
توفية دين جابر الذي استغرق كلَّ مالِه
انقياد الشجر له صلى الله عليه وسلم
(1/199)
حنين الجذع شوقًا إليه صلى الله عليه وسلم
سلام الحجر عليه صلى الله عليه وسلم
سجود البعير له صلى الله عليه وسلم وشكواه إليه
شهادة الذئب برسالته صلى الله عليه وسلم
شفاء علي رضي الله عنه بتفاله صلى الله عليه وسلم
صدق إخباره بالغيب صلى الله عليه وسلم
الأخلاق المحمديّة التي فيها أسوة للمؤمنين
الآداب المحمدية
(1/200)
الأخلاق المحمديّة
الكرم المحمَّدِي
الحلم المحمدي
العفوُ المحمَّديَ
الشجاعة المحمدية
الصبْر المحمَّديَ
(1/201)
العَدْل المحمَّديّ
الزهد المحمدي
الحياء المحمدي
حُسن عشرته صلى الله عليه وسلم
خشية الحبيب صلى الله عليه وسلم
التواضع المحمدي
المزاح المحمدي
الفصاحة المحمدية
(1/202)
الرحمة المحمدية
الوفاء المحمدي
حقوق الحبيب صلى الله عليه وسلم الواجبة له على كل مسلم
أصول دينه ودعوته
من خصائص دين الإسلام
من محاسن الدين الإسلامي
إلى الباحثين عن السعادة
(1/203)
هل الإسلام دين إرهاب
(1/204)
الإسلام والغرب
نبي الإسلام والغرب
نصرة النبي صلى الله عليه وسلم
ألف طريقة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق