السبت، 6 مايو 2023

ج17وج18.تاريح الطبري للمحمول





    ج17. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري
    المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
    (صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)
    فصاروا جميعا حلقة حول التل، وارتفعت الضجة من أسفل الوادي، وإذا الكمين الذي تحت التل الذي كان يقف عليه آذين قد وثب ببشير التركي والفراغنة، فحاربوهم واشتبكت الحرب بينهم ساعة.
    وسمع أهل العسكر ضجتهم، فتحرك الناس، فأمر الأفشين أن ينادوا:
    أيها الناس، هذا بشير التركي والفراغنة قد وجهتهم، فأثاروا كمينا فلا تتحركوا فلما سمع الرجالة الناشبة الذين كانوا تقدموا، وصاروا فوق الجبل ركبوا الأعلام كما أمرهم الأفشين، فنظر الناس إلى أعلام تجيء من جبل شاهق، أعلام سود، وبين العسكر وبين الجبل نحو فرسخ، وهم ينحدرون على جبل آذين من فوقهم، قد ركبوا الأعلام، وجعلوا ينحدرون يريدون آذين، فلما نظر إليهم أهل عسكر آذين وجه آذين إليهم بعض رجالته الذين معه من الخرمية ولما نظر الناس إليهم راعوهم، فبعث إليهم الأفشين: أولئك رجالنا أنجدتنا على آذين، فحمل جعفر الخياط وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليهم، فحملوا عليهم حملة شديدة، قلبوه وأصحابه في الوادي، وحمل عليهم رجل ممن في ناحية أبي سعيد من أصحاب أبي سعيد، يقال له معاذ بن محمد- أو محمد بن معاذ- في عدة معه، فإذا تحت حوافر دوابهم آبار محفورة تدخل أيدي الدواب فيها، فتساقطت فرسان أبي سعيد فيها، فوجه الأفشين الكلغرية يقلعون حيطان منازلهم، ويطمون بها تلك الآبار، ففعلوا ذلك، فحمل الناس عليهم حملة واحدة، وكان آذين قد هيأ فوق الجبل عجلا عليها صخر، فلما حمل الناس عليه، دفع العجل على الناس فأفرجوا عنها، فقد حرجت، ثم حمل الناس من كل وجه.
    فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، خرج من طرف البذ، من باب مما يلي الأفشين، يكون بين هذا الباب وبين التل الذي عليه الأفشين قدر ميل فأقبل بابك في جماعة معه يسألون عن الأفشين، فقال لهم أصحاب أبي دلف: من هذا؟ فقالوا: هذا بابك يريد الأفشين، فأرسل أبو دلف
    (9/43)
    إلى الأفشين يعلمه ذلك، فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك، فنظر إليه، ثم عاد إلى الأفشين، فقال: نعم هو بابك، فركب إليه الأفشين، فدنا منه حتى صار في موضع يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت عليك هذا، وهو لك مبذول متى شئت، فقال: قد شئت الآن، على أن تؤجلني أجلا أحمل فيه عيالي، وأتجهز فقال له الأفشين: قد والله نصحتك غير مرة فلم تقبل نصيحتي، وأنا أنصحك الساعة، خروجك اليوم في الأمان خير من غد قال: قد قبلت أيها الأمير، وأنا على ذلك، فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك قال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التل، فمر أصحابك بالتوقف.
    قال: فجاء رسول الأفشين ليرد الناس، فقيل له: إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ وصعدوا بها القصور فركب وصاح بالناس، فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك، وكان قد كمن في قصوره- وهي اربعه- ستمائه رجل، فوافاهم الناس، فصعدوا بالأعلام فوق القصور، وامتلأت شوارع البذ وميدانها من الناس، وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور، وخرجوا رجالة يقاتلون الناس ومر بابك حتى دخل الوادي الذي يلى هشتاد سر، واشتغل الأفشين وجميع قواده بالحرب على أبواب القصور، فقاتل الخرمية قتالا شديدا، وأحضر النفاطين، فجعلوا يصبون عليهم النفط والنار، والناس يهدمون القصور، حتى قتلوا عن آخرهم وأخذ الأفشين أولاد بابك ومن كان معهم في البذ من عيالاتهم، حتى أدركهم المساء، فأمر الأفشين بالانصراف فانصرفوا، وكان عامة الخرمية في البيوت، فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
    فذكر أن بابك وأصحابه الذين نزلوا معه الوادي حين علموا أن الأفشين قد رجع إلى خندقه، رجعوا إلى البذ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله، وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادى الذى يلى هشتاد سر فلما كان في الغد خرج
    (9/44)
    الأفشين حتى دخل البذ، فوقف في القرية، وأمر بهدم القصور، ووجه الرجالة يطوفون في أطراف القرية، فلم يجدوا فيها أحدا من العلوج، فأصعد الكلغرية، فهدموا القصور وأحرقوها، فعل ذلك ثلاثة أيام حتى أحرق خزائنه وقصوره، ولم يدع فيها بيتا ولا قصرا إلا أحرقه وهدمه، ثم رجع وعلم أن بابك قد أفلت في بعض أصحابه، فكتب الأفشين إلى ملوك أرمينية وبطارقتها يعلمهم أن بابك قد هرب وعدة معه، وصار إلى واد، وخرج منه إلى ناحية أرمينية، وهو مار بكم، وأمرهم أن يحفظ كل واحد منهم ناحيته، ولا يسلكها أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه فجاء الجواسيس إلى الأفشين، فأخبروه بموضعه في الوادي، وكان واديا كثير العشب والشجر، طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه، إنما كانت غيضة.
    واحدة، ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع يعلم أن منه طريقا ينحدر منه إلى تلك الغيضة، أو يمكن بابك أن يخرج من ذلك الطريق، فصير على كل طريق وموضع من هذه المواضع عسكرا فيه ما بين أربعمائة الى خمسمائة مقاتل، ووجه معهم الكوهبانية ليقفوهم على الطريق، وأمرهم بحراسة الطريق في الليل لئلا يخرج منه أحد.
    وكان يوجه إلى كل عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره، وكانت هذه العساكر خمسة عشر عسكرا، فكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالذهب مختوما، فيه أمان لبابك فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحاب بابك، وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده، فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه منكم ويذهب به إليه؟ فلم يجسر على ذلك أحد منهم، فقال بعضهم: أيها الأمير، ما فينا أحد يجترئ أن يلقاه بهذا، فقال له الأفشين: ويحك! إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحن أعرف بهذا منك، قال: فلا بد لكم من أن تهبوا لي أنفسكم، وتوصلوا
    (9/45)
    هذا الكتاب إليه فقام رجلان منهم، فقالا له: اضمن لنا أنك تجري على عيالاتنا، فضمن لهما الأفشين ذلك، وأخذا الكتاب وتوجها فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك بكتاب يعلمه الخبر، ويسأله أن يصير إلى الأمان، فهو أسلم له وخير فدفعا إليه كتاب ابنه، فقرأه، وقال: أي شيء كنتم تصنعون؟ قالا: أسر عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا، ولم نعرف موضعك فنأتيك، وكنا في موضع تخوفنا أن يأخذونا، فطلبنا الأمان فقال للذي كان الكتاب معه: هذا لا اعرفه، ولكن أنت يا بن الفاعلة، كيف اجترأت على هذا أن تجيئني من عند ذاك ابن الفاعلة! فأخذه وضرب عنقه، وشد الكتاب على صدره مختوما لم يفضه، ثم قال للآخر: اذهب وقل لذاك ابن الفاعلة- يعني ابنه- حيث يكتب إلي، وكتب إليه: لو أنك لحقت بي واتبعت دعوتك حتى يجيئك الأمر يوما كنت ابني، وقد صح عندي الساعة فساد أمك الفاعلة يا بن الفاعلة، عسى أن أعيش بعد اليوم! قد كنت باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكا، ولكنك من جنس لا خير فيه، وأنا أشهد أنك لست يا بنى، تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير، أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل! ورحل من موضعه، ووجه مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوه من موضع من المواضع، ثم لحقوا ببابك، فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده، وخرج مما يلي طريقا كان عليه بعض العساكر، وكان موضع الطريق جبلا ليس فيه ماء، فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء، فتنحى العسكر عن الطريق إلى قرب الماء، وصيروا كوهبانيين وفارسين على طرف الطريق يحرسونه، والعسكر بينه وبين الطريق نحو من ميل ونصف، كان ينوب على الطريق كل يوم فارسان وكوهبانيان، فبينا هم ذات يوم نصف النهار، إذ خرج بابك وأصحابه، فلم يروا أحدا، ولم يروا الفارسين والكوهبانيين، وظنوا أن ليس هناك عسكر، فخرج هو وأخواه: عبد الله ومعاوية، وأمه وامرأة له
    (9/46)
    يقال لها ابنة الكلندانية فخرجوا من الطريق، وساروا يريدون أرمينية، ونظر إليهم الفارسان والكوهبانيان، فوجهوا إلى العسكر، وعليه أبو الساج: إنا قد رأينا فرسانا يمرون ولا ندري من هم فركب الناس، وساروا، فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدون عليها، فلما نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه، فأفلت وأخذ معاوية وأم بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له، فوجه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر، ومر بابك متوجها حتى دخل جبال أرمينية يسير في الجبال متكمنا، فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم وأطرافهم، وأوصوا مسالحهم ألا يجتاز عليهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه، فكان أصحاب المسالح كلهم متحفظين، وأصاب بابك الجوع، فأشرف فإذا هو بحراث يحرث على فدان له في بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحراث، وخذ معك دنانير ودراهم، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه، وكان للحراث شريك ذهب لحاجته، فنزل الغلام إلى الحراث، فنظر إليه شريكه من بعيد، فوقف بالبعد يفرق من أن يجيء إلى شريكه وهو ينظر ما يصنع شريكه، فدفع الغلام إلى الحراث شيئا، فجاء الحراث فأخذ الخبز، فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر إليه، ويظن إنما اغتصبه خبزه، ولم يظن أنه أعطاه شيئا، فعدا إلى المسلحة، فأعلمهم أن رجلا جاءهم عليه سيف وسلاح، وأنه أخذ خبز شريكه من الوادي، فركب صاحب المسلحة- وكان في جبال ابن سنباط- ووجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحراث والغلام عنده، فقال له: ما هذا؟ قال له الحراث: هذا رجل مر بي، فطلب مني خبزا فأعطيته، فقال للغلام: واين مولاك؟ قال: هاهنا- وأومى إليه- فاتبعه فأدركه وهو نازل، فلما رأى وجهه عرفه، فترجل له ابن سنباط عن دابته، ودنا منه فقبل يده، ثم قال له: يا سيداه، إلى أين؟ قال:
    أريد بلاد الروم- أو موضعا سماه- فقال له: لا تجد موضعا ولا أحدا أعرف بحقك، ولا أحق أن تكون عنده مني، تعرف موضعي، ليس بيني وبين
    (9/47)
    السلطان عمل، ولا تدخل على احد من أصحاب السلطان وأنت عارف بقضيتي وبلدي، وكل من هاهنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد، وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعض البطارقة ابنة أو أختا جميلة وجه إليها يطلبها، فإن بعث بها إليه وإلا بيته وأخذها، وأخذ جميع ماله من متاع وغير ذلك، وصار به إلى بلده غصبا سنه 222 ثم قال ابن سنباط له: صر عندي في حصني، فإنما هو منزلك، وأنا عبدك، كن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك وكان بابك قد أصابه الضر والجهد، فركن إلى كلام سهل بن سنباط، وقال له: ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، فلعله أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكن أقيم عندك أنا، ويتوجه عبد الله أخي إلى ابن اصطفانوس، لا ندري ما يكون، وليس لنا خلف يقوم بدعوتنا فقال له ابن سنباط: ولدك كثير، قال:
    ليس فيهم خير وعزم على أن يصير أخاه في حصن ابن اصطفانوس- وكان يثق به- فصار هو مع ابن سنباط في حصنه، فلما أصبح عبد الله مضى إلى حصن ابن اصطفانوس، وأقام بابك عند ابن سنباط، وكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أن بابك عنده في حصنه فكتب إليه: إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين- أيده الله- الذي تحب، وكتب يجزيه خيرا، ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصته، ممن يثق به، ووجه به إلى ابن سنباط وكتب إليه يعلمه أنه قد وجه إليه برجل من خاصته، يحب أن يرى بابك ليحكي للأفشين ذلك فكره ابن سنباط ان يوحش بابك، فقال للرجل: ليس يمكن أن تراه إلا في الوقت الذي يكون منكبا على طعامه يتغدى، فإذا رأيتنا قد دعونا بالغداء فالبس ثياب الطباخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنك تقدم الطعام، أو تناول شيئا، فإنه يكون منكبا على الطعام، فتفقد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك.
    ففعل ذلك في وقت الطعام، فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره، فقال:
    من هذا الرجل؟ فقال له ابن سنباط: هذا رجل من أهل خراسان، منقطع
    (9/48)
    إلينا منذ زمان، نصراني فلقن ابن سنباط الأشروسني ذلك، فقال له بابك:
    منذ كم أنت هاهنا؟ قال: منذ كذا وكذا سنة، قال: وكيف اقمت هاهنا؟
    قال: تزوجت هاهنا، قال: صدقت إذا قيل للرجل: من أين أنت؟ قال:
    من حيث امرأتي.
    ثم رجع إلى الأفشين فأخبره، ووصف له جميع ما رأى ثم من بابك.
    ووجه الأفشين أبا سعيد وبوزباره إلى ابن سنباط، وكتب إليه معهما، وأمرهما إذا صارا إلى بعض الطريق قد ما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج، وأمرهما ألا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما ففعلا ذلك، فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع- قد سماه ووصفه لهما- إلى أن يأتيهما رسوله فلم يزالا مقيمين بالموضع الذي وصفه لهما، ووجه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد، حتى تحرك بابك للخروج الى الصيد، فقال له: هاهنا واد طيب، وأنت مغموم في جوف هذا الحصن! فلو خرجنا ومعنا بازي وباشق وما يحتاج إليه، فنتفرج إلى وقت الغداء بالصيد! فقال له بابك: إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداة، وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زباره يعلمهما ما قد عزم عليه، ويأمرهما أن يوافياه، واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر في عسكرهما وأن يسيرا متكمنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي، فانحدروا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
    فلما ركب ابن سنباط وبابك بالغداة وجه ابن سنباط رسولا إلى أبي سعيد ورسولا الى بو زباره، وقال لكل رسول: جيء بهذا إلى موضع كذا، وجيء بهذا إلى موضع كذا، فأشرفا علينا، فإذا رأيتمونا فقولوا: هم هؤلاء خذوهم، وأراد أن يشبه على بابك، فيقول: هذه خيل جاءتنا، فأخذتنا، ولم يحب أن يدفعه إليهما من منزله، فصار الرسولان إلى أبي سعيد وبو زباره، فمضيا بهما حتى أشرفا على الوادي، فإذا هما ببابك وابن سنباط، فنظرا إليه وانحدرا وأصحابهما عليه، هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا، وأخذاهما ومعهما البواشيق، وعلى بابك دراعة بيضاء وعمامة بيضاء، وخف قصير ويقال كان بيده باشق، فلما نظر إلى
    (9/49)
    العساكر قد أحدقت به وقف، فنظر إليهما، فقالا له: انزل، فقال: ومن أنتما؟ فقال أحدهما: أنا أبو سعيد، والآخر: أنا بوزباره، فقال: نعم، وثنى رجله، فنزل، وكان ابن سنباط ينظر إليه، فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه، وقال: إنما بعتني لليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء، فقال له أبو سعيد: قم فاركب، قال: نعم.
    فحملوه وجاءوا به إلى الأفشين، فلما قرب من العسكر صعد الأفشين برزند، فضربت له خيمة على برزند، وأمر الناس فاصطفوا صفين، وجلس الأفشين في فازة، وجاءوا به، وأمر الأفشين ألا يتركوا عربيا يدخل بين الصفين فرقا أن يقتله إنسان أو يجرحه ممن قتل أولياءه، أو صنع به داهية.
    وكان قد صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان، ذكروا أن بابك كان أسرهم، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشين فجعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبيا أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه، فجاء الناس، فأخذوا منهم خلقا كثيرا، وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم.
    ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينه قدر نصف ميل، أنزل بابك يمشي بين الصفين في دراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر، فنزلوا به راكبا، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليه لطموا على وجوههم، وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس، تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله قالوا: كان يحسن إلينا فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكل به رجالا من أصحابه.
    وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار الى عيسى
    (9/50)
    ابن يوسف بن اصطفانوس، فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معه في عسكره ووكل به، أعلم بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس، فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجه إليه بعبد الله، فوجه به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد، ووكل بهما قوما يحفظونهما.
    وكتب الأفشين إلى المعتصم بأخذه بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمره بالقدوم بهما عليه، فلما أراد أن يسير إلى العراق وجه إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافر بك، فانظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي فوجه معه الأفشين قوما في ليلة مقمرة إلى البذ حتى دار فيه، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصبح، ثم رده إلى الأفشين، وكان الأفشين قد وكل به رجلا من أصحابه فاستعفاه منه بابك، فقال له الأفشين: لم استعفيت منه؟ قال: يجيء ويده ملأى غمرا، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحها فأعفاه منه وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال بين بوزبارة وديوداذ.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/51)
    ثم دخلت
    سنة ثلاث وعشرين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر قدوم الافشين ببابك على المعتصم
    فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامرا فرسا وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامرا إلى عقبة حلوان خيلا مضمرة، على رأس كل فرسخ فرسا معه مجر مرتب، فكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يدا بيد، وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج، فكان يركض بها يوما أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر، فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق، فيأخذ الخريطة منه، فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة ايام وأقل، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم، فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة، فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي دواد متنكرا، فرآه وكلمه، ثم رجع إلى المعتصم، فوصفه له، فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير، فدخل إليه متنكرا، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه، فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي
    (9/52)
    شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أمير المؤمنين، لا شيء أشهر من الفيل، فقال: صدقت، فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وهو وحده، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
    قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل شيطان خراسان
    والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان
    فاستشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة، فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزارا ليقطع يديه ورجليه، ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامه، وهو ينادى: نودنود- وهو اسم سياف بابك- فارتفعت الصيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه، فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما، ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه، فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟
    فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلا من الدهاقين يتولى قتلي قال: إنما يتولى قتلك هذا- وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك- فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج، فأخبرني، أأمرت ان تطعمني شيئا أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة، قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غدا أني دهقان إن شاء الله ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذا؟ قال: نعم، ولا تكثر، قال: فإني لا أكثر، قال: فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل
    (9/53)
    في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به راس الجسر، وامر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام وذكر عن طوق بن أحمد، أن بابك لما هرب صار إلى سهل بن سنباط فوجه الأفشين أبا سعيد وبو زباره، فأخذاه منه، فبعث سهل مع بابك بمعاوية ابنه إلى الأفشين، فأمر لمعاوية بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر وتاج البطرقة، فبطرق سهل بهذا السبب، والذي كان عنده عبد الله أخو بابك عيسى بن يوسف المعروف بابن أخت اصطفانوس ملك البيلقان.
    وذكر عن محمد بن عمران كاتب علي بن مر، قال: حدثني علي بن مر، عن رجل من الصعاليك يقال له مطر، قال: كان والله يا أبا الحسن بابك ابني، قلت: وكيف؟ قال: كنا مع ابن الرواد، وكانت أمه ترتوميذ العوراء من علوج ابن الرواد، فكنت انزل عليها، وكانت مصكة، فكانت تخدمني وتغسل ثيابي، فنظرت إليها يوما، فواثبتها بشبق السفر وطول الغربة، فأقررته في رحمها ثم قال: غبنا غيبة بعد ذلك، ثم قدمنا فإذا هي تطلبنى، فنزلت في منزل آخر، فصارت إلي يوما، فقالت: حين ملات بطنى تنزل هاهنا وتتركني! فأذاعت أنه مني، فقلت: والله لئن ذكرتني لأقتلنك، فأمسكت عني، فهو والله ابني.
    وكان يجزي الأفشين في مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق، والأنزال والمعاون في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم.
    وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنه مائتي الف وخمسه وخمسين
    (9/54)
    ألفا وخمسمائة إنسان وغلب يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد، وأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث، وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسى، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهم سبعه آلاف وستمائه إنسان، وعدة من صار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والكنات ثلاث وعشرون امرأة، فتوج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، منها عشرة آلاف ألف صلة وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:
    بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما ان به إلا الوحوش قطين
    لم يقر هذا السيف هذا الصبر في ... هيجاء إلا عز هذا الدين
    قد كان عذرة سودد فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين
    فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرين
    هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلى وشئون
    كانت من المهجات قبل مفازة ... عسرا، فأضحت وهي منه معين.
    ذكر خبر إيقاع الروم باهل زبطره
    وفي هذه السنة أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون المسلمين، إلى غير ذلك، وسبا من المسلمات- فيما قيل- أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم.
    (9/55)
    ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك:
    ذكر أن السبب في ذلك كان ما لحق بابك من تضييق الأفشين عليه وإشرافه على الهلاك، وقهر الأفشين إياه، فلما أشرف على الهلاك، وأيقن بالضعف من نفسه عن حربه، كتب الى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس، يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه خياطه- يعني جعفر بن دينار- وطباخه- يعني إيتاخ- ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك، طمعا منه بكتابه ذلك إليه في أن ملك الروم أن تحرك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بإزائه من جيوشه إلى ملك الروم، واشتغاله به عنه.
    فذكر أن توفيل خرج في مائة ألف- وقيل أكثر- فيهم من الجند نيف وسبعون ألفا، وبقيتهم أتباع حتى صار إلى زبطرة، ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم بارسيس وكان ملك الروم قد فرض لهم، وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه، فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها، وسبى الذراري والنساء التي فيها وأحرقها، بلغ النفير- فيما ذكر- إلى سامرا، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة وأهل الجزيرة إلا من لم يكن عنده دابة ولا سلاح، واستعظم المعتصم ذلك.
    فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته وسمط خلفه شكالا وسكة حديد وحقيبة، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبئة، فجلس- فيما ذكر- في دار العامة، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده، وثلثا لله، وثلثا لمواليه ثم عسكر بغربي دجلة، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى
    (9/56)
    ووجه عجيف بن عنبسة وعمرا الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد ما فعل ما قد ذكرناه، فوقفوا قليلا، حتى تراجع الناس إلى قراهم، واطمأنوا فلما ظفر المعتصم ببابك، قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟
    فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها، وهي اشرف عندهم من القسطنطينية.
    ذكر الخبر عن فتح عموريه
    وفي هذه السنة شخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم وقيل كان شخوصه إليها من سامرا في سنة أربع وعشرين ومائتين- وقيل في سنة اثنتين وعشرين ومائتين- بعد قتله بابك.
    فذكر أنه تجهز جهازا لم يتجهز مثله قبله خليفة قط، من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة.
    ولما دخل بلاد الروم أقام على نهر اللمس، وهو على سلوقية قريبا من البحر، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء إذا فودي بين المسلمين والروم، وأمضى المعتصم الأفشين خيذر بن كاوس إلى سروج، وأمره بالبروز منها والدخول من درب الحدث، وسمى له يوما أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر لعسكره وعسكر أشناس يوما جعله بينه وبين اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، بقدر ما بين المسافتين إلى الموضع الذي رأى أن يجتمع العساكر فيه- وهو أنقرة- ودبر النزول على أنقرة، فإذا فتحها الله عليه صار
    (9/57)
    إلى عمورية، إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين، ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها.
    وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وامره بانتظاره بالصفصاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقين من رجب، وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس على مقدمات المعتصم، ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب.
    فلما صار أشناس بمرج الأسقف، ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن الملك بين يديه، وأنه يريد أن يجوز العساكر اللمس، فيقف على المخاضة، فيكبسهم، ويأمره بالمقام بمرج الأسقف- وكان جعفر بن دينار على ساقة المعتصم- وأعلم المعتصم أشناس في كتابه أن ينتظر موافاة الساقة، لأن فيها الأثقال والمجانيق والزاد وغير ذلك، وكان ذلك بعد في مضيق الدرب لم يخلص، ويأمره بالمقام إلى أن يتخلص صاحب الساقة من مضيق الدرب بمن معه، ويصحر حتى يصير في بلاد الروم.
    فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيام، حتى ورد كتاب المعتصم، يأمره أن يوجه قائدا من قواده في سرية يلتمسون رجلا من الروم، يسألونه عن خبر الملك ومن معه، فوجه أشناس عمرا الفرغاني في مائتي فارس، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرة فخرجوا يلتمسون رجلا من حول الحصن، فلم يمكن ذلك، ونذر بهم صاحب قرة، فخرج في جميع فرسانه الذين كانوا معه بالقرة، وكمن في الجبل الذي فيما بين قرة ودرة، وهو جبل كبير يحيط برستاق يسمى رستاق قرة، وعلم عمرو الفرغاني أن صاحب قرة قد نذر بهم، فتقدم إلى درة، فكمن بها ليلته، فلما انفجر عمود الصبح صير عسكره ثلاثة كراديس، وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا، بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك، ووعدهم أن يوافوه به في بعض المواضع التي عرفها الأدلاء، ووجه مع كل كردوس دليلين
    (9/58)
    وخرجوا مع الصبح، فتفرقوا في ثلاثة وجوه، فأخذوا عدة من الروم، بعضهم من أهل عسكر الملك، وبعضهم من الضواحي، وأخذ عمرو رجلا من الروم من فرسان أهل القرة، فسأله عن الخبر، فأخبره أن الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللمس بأربعة فراسخ، وأن صاحب قرة نذر بهم في ليلتهم هذه، وأنه ركب فكمن في هذا الجبل فوق رءوسهم، فلم يزل عمرو في الموضع الذي كان وعد فيه أصحابه، وأمر الأدلاء الذين معه أن يتفرقوا في رءوس الجبال، وأن يشرفوا على الكراديس الذين وجههم إشفاقا أن يخالفهم صاحب قرة إلى أحد الكراديس، فرآهم الأدلاء، ولوحوا لهم، فأقبلوا فتوافوا هم وعمرو في موضع غير الموضع الذي كانوا اتعدوا له، ثم نزلوا قليلا، ثم ارتحلوا يريدون العسكر، وقد أخذوا عدة ممن كان في عسكر الملك، فصاروا إلى أشناس في اللمس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم منذ أكثر من ثلاثين يوما ينتظر عبور المعتصم ومقدمته باللمس، فيواقعهم من وراء اللمس، وأنه جاءه الخبر قريبا، أنه قد رحل من ناحية الأرمنياق عسكر ضخم، وتوسط البلاد- يعني عسكر الأفشين- وأنه قد صار خلفه.
    فأمر الملك رجلا من أهل بيته ابن خاله، فاستخلفه على عسكره، وخرج ملك الروم في طائفة من عسكره يريد ناحية الأفشين، فوجه أشناس بذلك الرجل الذي أخبره بهذا الخبر إلى المعتصم، فأخبره بالخبر، فوجه المعتصم من عسكره قوما من الأدلاء، وضمن لهم لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم، على أن يوافوا بكتابه الأفشين، وأعلمه فيه أن أمير المؤمنين مقيم، فليقم إشفاقا من أن يواقعه ملك الروم وكتب إلى أشناس كتابا يأمره أن يوجه من قبله رسولا من الأدلاء الذين يعرفون الجبال والطرق والمشبهة بالروم، وضمن لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم إن هو أوصل الكتاب، ويكتب إليه أن ملك الروم قد اقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه كتاب أمير المؤمنين.
    فتوجهت الرسل إلى ناحية الأفشين، فلم يلحقه أحد منهم، وذلك أنه كان
    (9/59)
    وغل في بلاد الروم، وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة إلى العسكر، فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدم، فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليهم من الأفشين خبر، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف سنه 223 وكان اشناس قد اسر عده اسرى في طريقه، فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير، فقال الشيخ: ما تنتفع بقتلي، وأنت في هذا الضيق، وعسكرك أيضا في ضيق من الماء والزاد، وهاهنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب، وهم بالقرب منا هاهنا، معهم من الميرة والطعام والشعير شيء كثير، فوجه معي قوما لأدفعهم إليهم، وخل سبيلي! فنادى منادي أشناس: من كان به نشاط فليركب، فركب معه قريب من خمسمائة فارس، فخرج أشناس حتى صار من العسكر على ميل، وبرز معه من نشط من الناس، ثم برز فضرب دابته بالسوط، فركض قريبا من ميلين ركضا شديدا، ثم وقف ينظر إلى أصحابه خلفه، فمن لم يلحق بالكردوس لضعف دابته رده إلى العسكر، ودفع الرجل الأسير إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى ما أراك هذا سبيا وغنيمة كثيرة فخل سبيله على ما ضمنا له فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة، فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمرج الناس دوابهم في الحشيش حتى شبعت، وتعشى الناس وشربوا حتى رووا، ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة، وسار أشناس من موضعه الذي كان به متوجها إلى أنقرة.
    وأمر مالك بن كيدر والأدلاء الذين معه أن يوافوه بأنقرة، فسار بهم الشيخ العلج بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ليس يخرجهم منه، فقال الأدلاء
    (9/60)
    لمالك بن كيدر: هذا الرجل يدور بنا، فسأله مالك عما ذكر الأدلاء، فقال: صدقوا، القوم الذين تريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر، فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم نر أحدا قتلني، ولكن أدور بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم، فأريتك إياهم حتى آمن ألا تقتلني فقال له مالك:
    ويحك! فأنزلنا في هذا الجبل حتى نستريح، فقال: رأيك، فنزل مالك ونزل الناس على الصخرة، وأمسكوا لجم دوابهم حتى انفجر الصبح، فلما طلع الفجر قال: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوقه، فيأخذان من أدركا فيه، فصعد أربعة من الرجال، فأصابوا رجلا وامرأة، فانزلوهما، فساء لهما العلج: أين بات أهل انقرة؟ فسموا لهم الموضع الذي باتوا فيه، فقال لمالك: خل عن هذين، فإنا قد أعطيناهما الأمان حتى دلونا، فخلى مالك عنهما، ثم سار بهم العلج إلى الموضع الذي سماه لهم، فأشرف بهم على العسكر عسكر أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة، فلما رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان، فدخلوا الملاحة، ووقفوا لهم على طرف الملاحة يقاتلون بالقنا، ولم يكن موضع حجارة ولا موضع خيل، وأخذوا منهم عدة أسرى، وأصابوا في الأسرى عدة بهم جراحات عتق من جراحات متقدمة، فساءلوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا لهم:
    حدثونا بالقضية فأخبروهم أن الملك كان معسكرا على أربعة فراسخ من اللمس، حتى جاءه رسول، أن عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الأرمنياق، فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه، فإن ورد عليه مقدمة ملك العرب، واقعه إلى أن يذهب هو فيواقع العسكر الذي دخل الأرمنياق- يعني عسكر الأفشين- فقال أميرهم: نعم، وكنت ممن سار مع الملك، فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم، وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم، فلما كان الظهر رجع فرسانهم، فقاتلونا قتالا شديدا حتى حرقوا
    (9/61)
    عسكرنا، واختلطوا بنا واختلطنا بهم، فلم ندر في أي كردوس الملك! فلم نزل كذلك إلى وقت العصر، ثم رجعنا إلى موضع عسكر الملك الذي كنا فيه فلم نصادفه، فرجعنا إلى موضع معسكر الملك الذي خلفه على اللمس، فوجدنا العسكر قد انتقض، وانصرف الناس عن الرجل قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا على ذلك ليلتنا، فلما كان الغد، وافانا الملك في جماعة يسيرة، فوجد عسكره قد اختل، وأخذ الذي استخلفه على العسكر، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون ألا يأخذوا رجلا ممن انصرف من عسكر الملك إلا ضربوه بالسياط، او يرجع إلى موضع سماه لهم الملك انحاز إليه ليجتمع إليه الناس، ويعسكر به، ليناهض ملك العرب، ووجه خادما له خصيا إلى أنقرة على أن يقيم بها، ويحفظ أهلها إن نزل بها ملك العرب.
    قال الأسير: فجاء الخصي إلى أنقرة، وجئنا معه، فإذا أنقرة قد عطلها أهلها، وهربوا منها، فكتب الخصي إلى ملك الروم يعلمه ذلك، فكتب إليه الملك يأمره بالمسير إلى عمورية.
    قال: وسألت عن الموضع الذي قصد إليه أهلها- يعني أهل أنقرة- فقالوا لي: إنهم بالملاحة فلحقنا بهم.
    قال مالك بن كيدر: فدعوا الناس كلهم، خذوا ما أخذتم، ودعوا الباقي، فترك الناس السبي والمقاتلة وانصرفوا راجعين يريدون عسكر أشناس، وساقوا في طريقهم غنما كثيرا وبقرا، وأطلق ذلك الشيخ الأسير مالك، وسار إلى عسكر أشناس بالأسرى، حتى لحق بأنقرة، فمكث أشناس يوما واحدا، ثم لحقه المعتصم من غد، فأخبره بالذي أخبره به الأسير، فسر المعتصم بذلك.
    فلما كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة، وأنه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
    قال: ثم ورد على المعتصم الأفشين بعد ذلك اليوم بيوم بأنقرة، فأقاموا بها
    (9/62)
    أياما، ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، والأفشين في الميمنة، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقوا القرى ويخربوها، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي، وإذا كان وقت النزول توافى كل أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية، وبينهما سبع مراحل، حتى توافت العساكر بعمورية.
    قال: فلما توافت العساكر بعمورية، كان أول من وردها أشناس، وردها يوم الخميس ضحوه، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش، فلما طلعت الشمس من الغد، ركب المعتصم، فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد كما تدور، صير إلى كل واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجا، وتحصن أهل عمورية وتحرزوا.
    وكان رجل من المسلمين قد أسره أهل عمورية، فتنصر وتزوج فيهم، فحبس نفسه عند دخولهم الحصن، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وصار إلى المسلمين، وجاء إلى المعتصم، وأعلمه أن موضعا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر جاءهم شديد، فحمل الماء عليه، فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبني ذلك الموضع، فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فيمر بالسور، فلا يراه بني، فوجه خلف الصناع فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا، وصير وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عموريه انفراج
    (9/63)
    السور، علقوا عليه الخشب الكبار، كل واحد بلزق الأخرى، فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فعلقوا خشبا غيره، وصيروا فوق الخشب البراذع ليترسوا السور.
    فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع، انصدع السور، فكتب ياطس والخصي إلى ملك الروم، كتابا يعلمانه أمر السور، ووجها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي، واخرجاهما من الفصيل، فعبرا الخندق، ووقعا إلى ناحية أبناء الملوك المضمومين إلى عمرو الفرغاني، فلما خرجا من الخندق أنكروهما، فسألوهما، من أين أنتما؟ قالا لهم: نحن من أصحابكم، قالوا:
    من أصحاب من أنتم؟ فلم يعرفا أحدا من قواد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى عمرو الفرغاني بن أربخا، فوجه بهما عمرو إلى أشناس، فوجه بهما أشناس إلى المعتصم، فساءلهما المعتصم، وفتشهما، فوجد معهما كتابا من ياطس إلى ملك الروم، يعلمه فيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة في جمع كثير، وقد ضاق بهم الموضع وقد كان دخوله ذلك الموضع خطأ- وأنه قد اعتزم على أن يركب، ويحمل خاصة أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلا غفلة، ويخرج فيحمل على العسكر كائنا فيه ما كان، أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب، حتى يتخلص من الحصار، ويصير إلى الملك.
    فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلم منهما بالعربية والغلام الرومي الذي معه ببدرة، فأسلما وخلع عليهما، وأمر بهما حين طلعت الشمس فأداروهما حول عموريه، فقالا: يا طس يكون في هذا البرج، فأمر بهما فوقفا بحذاء البرج الذي فيه ياطس طويلا، وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم وعليهما الخلع، ومعهما الكتاب حتى فهمهما ياطس وجميع الروم، وشتموهما من فوق السور، ثم أمر بهما المعتصم فنحوهما، وامر المعتصم ان يكون الحراسة بينهم نوائب، في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بالسلاح
    (9/64)
    وهم وقوف عليها، لئلا يفتح الباب ليلا، فيخرج من عمورية إنسان، فلم يزل الناس يبيتون كذلك نوائب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجها، حتى انهدم السور ما بين برجين من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله.
    وسمع أهل العسكر الوجبة فتشوفوا، وظنوا أن العدو قد خرج على بعض الكراديس حتى أرسل المعتصم من طاف على الناس في العسكر يعلمهم أن ذلك صوت السور وقد سقط، فطيبوا نفسا.
    وكان المعتصم حين نزل عمورية ونظر إلى سعة خندقها وطول سورها، وكان قد استاق في طريقه غنما كثيرة، فدبر في ذلك أن يتخذ مجانيق كبارا على قدر ارتفاع السور، يسع كل منجنيق منها أربعة رجال، وعملها أوثق ما يكون وأحكمه، وجعلها على كراسي تحتها عجل، ودبر في ذلك أن يدفع الغنم إلى أهل العسكر إلى كل رجل شاة، فيأكل لحمها، ويحشو جلدها ترابا ثم يؤتى بالجلود مملوءة ترابا، حتى تطرح في الخندق.
    ففعل ذلك بالخندق، وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال، وأحكمها على أن يدحرجها على الجلود المملوءة ترابا حتى يمتلئ الخندق، ففعل ذلك، وطرحت الجلود فلم تقع الجلود، مستوية منضدة خوفا منهم من حجارة الروم، فوقعت مختلفة، ولم يمكن تسويتها، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدمت دبابة فدحرجها، فلما صارت من الخندق في نصفه تعلقت بتلك الجلود، وبقي القوم فيها، فما تخلصوا منها إلا بعد جهد ثم مكثت تلك العجله مقيمه هناك، لم يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمورية، وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم وغير ذلك، حتى أحرقت.
    فلما كان من الغد قاتلهم على الثلمة، وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقا، فلم يمكنهم الحرب فيه، فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض،
    (9/65)
    وصيرها حول الثلمة، وأمر أن يرمى ذلك الموضع، وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب وتقدموا وكان المعتصم واقفا على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه، وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفا رجالة، فقال المعتصم: ما كان أحسن الحرب اليوم! فقال عمرو الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، وسمعها أشناس فأمسك، فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم إلى مضربه، فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، وقرب أشناس من باب مضربه، ترجل له القواد كما كانوا يفعلون، وفيهم عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، فمشوا بين يديه كعادتهم عند مضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيش تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: أن الحرب اليوم أحسن منها أمس، كان أمس يقاتل غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة- يعني أشناس- ما صنع بنا اليوم! أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل- وكان عند عمرو خبر-: يا أبا العباس، سيكفيك الله أمره، عن قريب أبشر فأوهم أحمد أن عنده خبرا، فألح عليه أحمد يسأله، فأخبره بما هم فيه، وقال: إن العباس بن المأمون قد تم أمره، وسنبايع له ظاهرا، ونقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب ثم قال له: أشير عليك أن تأتي العباس، فتقدم فتكون في عداد من مال إليه فقال له أحمد:
    هذا أمر لا أحسبه يتم، فقال له عمرو: قد تم وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي- قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح، وكان المتولي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم- فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال له أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمر
    (9/66)
    يتم فيما بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل، فذهب الحارث، فلقي العباس فأخبره أن عمرا قد ذكره لأحمد بن الخليل، فقال له:
    ما كنت أحب ان يطلع الخليل على شيء من أمرنا، أمسكوا عنه.
    ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما فأمسكوا عنه فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا فأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات.
    وكان قواد ملك الروم عند ما نزل بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج، لكل قائد وأصحابه عدة أبرجة، وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلا من قواد الروم يقال له وندوا، وتفسيره بالعربية ثور، فقاتل الرجل وأصحابه قتالا شديدا بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابه، لم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم، فلما كان بالليل مضى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم، فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا قد جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا، فشأنك وناحيتك، فليس لك عندنا مدد فاعتزم هو واصحابه على ان يخرجوا إلى أمير المؤمنين المعتصم، ويسألوه الأمان على الذرية، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من الخرثي والمتاع والسلاح وغير ذلك.
    فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة، وخرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين، وأمر أصحابه ألا يحاربوا حتى يعود إليهم، فخرج حتى وصل إلى المعتصم، فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم:
    لا تحيوا، وهم يتقدمون، ووندوا بين يدي المعتصم جالس، فدعا المعتصم
    (9/67)
    بفرس فحمله عليه، وقابل حتى صار الناس معهم على حرف الثلمة، وعبد الوهاب ابن علي بين يدي المعتصم، فأومأ إلى الناس بيده: أن ادخلوا، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا، وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟
    قال: جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي، فغدرت بي، فقال المعتصم: كل شيء تريد أن تقوله فهو لك علي، قل ما شئت، فإني لست أخالفك قال: أيش لا تخالفني وقد دخلوا المدينة! فقال المعتصم:
    اضرب بيدك إلى ما شئت فهو لك، وقل ما شئت فإني أعطيكه فوقف في مضرب المعتصم وكان ياطس في برجه الذي هو فيه وحوله جماعة من الروم مجتمعين، وصارت طائفة منهم إلى كنيسة كبيرة في زاوية عمورية، فقاتلوا قتالا شديدا، فأحرق الناس الكنيسة عليهم فاحترقوا عن آخرهم، وبقي ياطس في برجه حوله أصحابه، وباقي الروم وقد أخذتهم السيوف، فبين مقتول ومجروح، فركب المعتصم عند ذلك حتى جاء فوقف حذاء ياطس، وكان مما يلي عسكر أشناس، فصاحوا: يا ياطس، هذا أمير المؤمنين، فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس هاهنا، قالوا: بلى، قولوا له: إن أمير المؤمنين واقف، فقالوا: ليس ياطس هاهنا فمر أمير المؤمنين مغضبا، فلما جاوز صاح الروم: هذا ياطس، هذا ياطس! فرجع المعتصم إلى حيال البرج حتى وقف، ثم أمر بتلك السلاليم التي هيئت، فحمل سلم منها، فوضع على البرج الذي هو فيه، وصعد عليه الحسن الرومي- غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف- وكلمه ياطس، فقال: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه، فنزل الحسن، فأخبر المعتصم أنه قد رآه وكلمه، فقال المعتصم:
    قل له فلينزل، فصعد الحسن ثانية، فخرج ياطس من البرج متقلدا سيفا حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، فدفعه إلى الحسن، ثم نزل ياطس، فوقف بين يدي المعتصم، فقنعه سوطا، وانصرف المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه، فمشى قليلا، ثم جاءه رسول المعتصم، أن احملوه، فحملوه، فذهب به إلى مضرب أمير المؤمنين
    (9/68)
    ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر، فأمر المعتصم بسيل الترجمان أن يميز الأسرى، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية، ويعزل الباقين في ناحية، ففعل ذلك بسيل ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي عليه، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته، وامره ان ينادى ويبيع، وامر إيتاخ بناحيته مثل ذلك، وجعفرا الخياط بمثل ذلك في ناحيته، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن ابى دواد يحصي عليه، فبيعت المقاسم في خمسة أيام، بيع منها ما استباع، وأمر بالباقي فضرب بالنار، وارتحل المعتصم منصرفا إلى أرض طرسوس.
    ولما كان يوم إيتاخ قبل أن يرتحل المعتصم منصرفا، وثب الناس على المغنم الذي كان إيتاخ على بيعه، وهو اليوم الذي كان عجيف وعد الناس فيه أن يثب بالمعتصم، فركب المعتصم بنفسه ركضا، وسل سيفه، فتنحى الناس عنه من بين يديه، وكفوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه، فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات، ليتروج البيع، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات، وإلا بيع العلق، فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس، فكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، وعشرة عشرة، والمتاع الكثير جملة واحدة.
    قال: وكان ملك الروم قد وجه رسولا في أول ما نزل المعتصم على عمورية فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كان الناس يستقون منه، وكان بينه وبين عمورية ثلاثة أميال، ولم يأذن له في المصير إليه حتى فتح عمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم، فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر، فمضى في طريق الجادة مرحلة، ثم رجع إلى عمورية، وأمر الناس بالرجوع، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادي الجور،
    (9/69)
    ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم، فساروا في طريق نحوا من أربعين ميلا، ليس فيه ماء، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه، فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وهرب.
    وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم امر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعا، وهم مقدار ستة آلاف رجل، قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر.
    ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء.
    وكانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم- فيما ذكر- يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، وقفل بعد خمسة وخمسين يوما.
    وقال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم:
    أثبت المعصوم عزا لأبي ... حسن أثبت من ركن إضم
    كل مجد دون ما أثله ... لبني كاوس أملاك العجم
    إنما الأفشين سيف سله ... قدر الله بكف المعتصم
    (9/70)
    لم يدع بالبذ من ساكنة ... غير أمثال كأمثال إرم
    ثم أهدى سلما بابكه ... رهن حجلين نجيا للندم
    وقرا توفيل طعنا صادقا ... فض جمعيه جميعا وهزم
    قتل الأكثر منهم ونجا ... من نجا لحما على ظهر وضم
    ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمون
    وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
    ذكر الخبر عن سبب فعله ذلك:
    ذكر أن السبب كان في ذلك أن عجيف بن عنبسة حين وجهه المعتصم إلى بلاد الروم، لما كان من أمر ملك الروم بزبطرة مع عمرو بن أربخا الفرغاني ومحمد كوته، لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، واستبان ذلك لعجيف، فوبخ عجيف العباس على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.
    فقبل العباس ذلك، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح- وكان العباس يأنس به، وكان الحارث رجلا أديبا له عقل ومداراة- فصيره العباس رسوله وسفيره إلى القواد، فكان يدور في العسكر حتى تألف له جماعة من القواد، وبايعوه وبايعه منهم خواص، وسمى لكل رجل من قواد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممن بايعه، ووكله بذلك، وقال: إذا أمرنا بذلك، فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له ذلك، فكان يقول للرجل ممن بايعه: عليك يا فلان أن تقتل فلانا، فيقول: نعم، فوكل من بايعه من خاصة المعتصم بالمعتصم ومن خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصه اشناس باشناس، ممن بايعه من
    (9/71)
    الأتراك، فضمنوا ذلك جميعا فلما أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية، ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس ان يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس، وقد تقطعت عنه العساكر، فيقتله ويرجع إلى بغداد، فكان الناس يفرحون بانصرافهم من الغزو، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسد هذه الغزاة، حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم، كم تنام! قد فتحت عمورية، والرجل ممكن، دس قوما ينتبهون هذا الخرثي، فإنه إذا بلغه ذلك ركب بسرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى عليه العباس، وقال، أنتظر حتى يصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع، فانتهب بعض الخرثي في عسكر إيتاخ.
    فركب المعتصم وجاء ركضا، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الرجال الذين كان واعدهم، فلم يحدثوا شيئا، وكرهوا أن يفعلوا شيئا بغير أمره.
    وكان عمرو الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، ولعمرو الفرغاني قرابة، غلام أمرد في خاصة المعتصم، فجاء الغلام الى ولد عمرو يشرب عندهم تلك في الليلة، فأخبرهم أن أمير المؤمنين ركب مستعجلا، وأنه كان يعدو بين يديه، وقال: إن أمير المؤمنين قد غضب اليوم، فأمرني أن أسل سيفي، وقال:
    لا يستقبلك أحد إلا ضربته، فسمع عمرو ذلك من الغلام، فأشفق عليه أن يصاب، فقال له: يا بني، أنت أحمق، أقل من الكينونة عند أمير المؤمنين بالليل، والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة، أو شغبا أو شيئا فلا تبرح من خيمتك، فإنك غلام غر، لست تعرف بعد العساكر.
    فعرف الغلام مقالة عمرو.
    وارتحل المعتصم من عمورية يريد الثغر، ووجه الأفشين ابن الأقطع في طريق خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سماه له، وأن يوافيه في بعض الطريق، فمضى ابن الأقطع، وتوجه المعتصم يريد الثغر، فسار حتى صار إلى موضع أقام فيه ليريح ويستريح، وليسلك الناس من المضيق الذي
    (9/72)
    بين أيديهم ووافى ابن الأقطع عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم، وكان عسكر المعتصم على حدة وعسكر الأفشين على حدة، بين كل عسكر قدر ميلين أو أكثر، واعتل أشناس فركب المعتصم صلاة الغداة يعوده، فجاء إلى مضربه فعاده، ولم يكن الأفشين لحقه بعد.
    ثم خرج المعتصم منصرفا، فتلقاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:
    تريد أبا جعفر وكان عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجها إلى ناحية عسكر الأفشين لينظرا ما جاء به ابن الأقطع من السبي فيشتريا منه ما أعجبهما، فتوجها ناحية عسكر الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس- فترجلا، وسلما عليه، ونظر إليهما حاجب أشناس من بعد، فدخل الأفشين إلى أشناس، ثم انصرف، وتوجها إلى عسكر الأفشين، فلم يكن السبي أخرج بعد، فوقفا ناحية ينتظران أن ينادي على السبي، فيشتريا منه، ودخل حاجب أشناس على أشناس، فقال: إن عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل تلقيا الأفشين، وهما يريدان عسكره، فترجلا وسلما عليه، وتوجها الى عسكره سنه 223 فدعا أشناس محمد بن سعيد السعدي، فقال له: اذهب إلى عسكر الأفشين، فانظر هل ترى هناك عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل! وانظر عند من نزلا، وأي شيء قصتهما؟ فجاء محمد بن سعيد، فأصابهما واقفين على ظهور دوابهما فقال: ما اوقفكما هاهنا؟ قالا: وقفنا ننتظر سبي ابن الأقطع يخرج، فنشتري بعضه، فقال لهما محمد بن سعيد: وكلا وكيلا يشترى لكما، فقال:
    لا نحب أن نشتري إلا ما نراه، فرجع محمد، فأخبر أشناس بذلك، فقال لحاجبه: قل لهؤلاء الزموا عسكركم: فهو خير لكم- يعنى عمرا وابن الخليل- ولا تذهبوا هاهنا وهاهنا فذهب الحاجب إليهما، فأعلمهما، فاغتما لذلك واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس، فصارا إلى صاحب الخبر، فقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، يضمنا إلى من شاء، فإن هذا الرجل يستخف بنا، قد شتمنا وتوعدنا، ونحن نخاف أن يقدم علينا، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أحب
    (9/73)
    فأنهى صاحب الخبر ذلك إلى المعتصم من يومه، واتفق الرحيل صلاة الغداة، وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها، وسار أشناس والأفشين وجميع القواد في عسكر أمير المؤمنين، ووكلوا خلفاءهم بالعساكر، فيسيرون بها وكان الافشين على الميسره وأشناس على الميمنة، فلما ذهب أشناس إلى المعتصم، قال له: أحسن أدب عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل، فإنهما قد حمقا أنفسهما، فجاء اشناس ركضا إلى معسكره، فسأل عن عمرو وابن الخليل، فأصاب عمرا، وكان ابن الخليل قد مضى في الميسرة يبادر الروم، فجاءوه بعمرو الفرغاني، وقال: هاتوا سياطا، فمكث طويلا مجردا ليس يؤتى بالسياط، فتقدم عمه إلى أشناس، فكلمه في عمرو- وكان عمه أعجميا- وعمرو واقف، فقال: احملوه، فالبسوه قباء طاق، فحملوه على بغل في قبة، وساروا به إلى العسكر، وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض، فقال:
    احبسوا هذا معه، فأنزل عن دابته، وصير عديله، ودفعا إلى محمد بن سعيد السعدي يحفظهما، فكان يضرب لهما مضربا في فازة وحجرة ومائدة، ويفرش لهما فرشا وطية، وحوضا من ماء وأثقالهما وغلمانهما في العسكر، لم يحرك منها شيء، فلم يزالا كذلك حتى صارا إلى جبل الصفصاف وكان أشناس على الساقة، وكان بغا على ساقه عسكر المعتصم، فلما صار بالصفصاف، وسمع الغلام الفرغاني قرابة عمرو بحبس عمرو، ذكر الغلام للمعتصم ما دار بينه وبين عمرو من الكلام في تلك الليلة، مما قال له عمرو، إذا رأيت شغبا فالزم خيمتك، فقال المعتصم لبغا: لا ترحل غدا حتى تجيء أشناس، فتأخذ منه عمرا، وتلحقنى به، وكان هذا بالصفصاف.
    فوقف بغا بأعلامه ينتظر أشناس، وجاء محمد بن سعيد ومعه عمرو واحمد ابن الخليل، فقال بغا لأشناس: أمرني أمير المؤمنين أن أوافيه بعمرو الساعة، فأنزل عمرو، وجعل مع أحمد بن الخليل في القبة رجل يعادله، ومضى بغا بعمرو إلى المعتصم، فأرسل أحمد بن الخليل غلاما من غلمانه إلى عمرو، لينظر ما يصنع به، فرجع الغلام فاخبره انه ادخل على أمير المؤمنين، فمكث ساعة
    (9/74)
    ثم دفع إلى إيتاخ، وكان أمير المؤمنين لما دخل ساء له عن الكلام الذي قاله للغلام قرابته، فأنكر وقال: هذا الغلام كان سكران، ولم يفهم ولم أقل شيئا مما ذكره، فأمر به فدفع إلى إيتاخ، وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البدندون، وأقام أشناس ثلاثة أيام على مضيق البدندون ينتظر أن تتخلص عساكر أمير المؤمنين، لأنه كان على الساقة، فكتب أحمد بن الخليل إلى أشناس رقعة يعلمه أن لأمير المؤمنين عنده نصيحة، وأشناس مقيم على مضيق البدندون، فبعث إليه أشناس باحمد بن الخصيب وابى سعيد محمد ابن يوسف يسألانه عن النصيحة، فذكر أنه لا يخبر بها إلا أمير المؤمنين، فرجعا فأخبرا أشناس بذلك، فقال: ارجعا فاحلفا له: إني حلفت بحياة أمير المؤمنين، إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت، فرجعا فأخبرا أحمد بن الخليل بذلك.
    فأخرج جميع من عنده، وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمرو الفرغاني من أمر العباس، وشرح لهما جميع ما كان عنده، وأخبرهما بخبر الحارث السمرقندي، فانصرفا إلى أشناس، فأخبراه بذلك، فبعث أشناس في طلب الحدادين، فجاءوا بحدادين من الجند، فدفع إليهما حديدا، فقال: اعملا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل، وعجلا به الساعة، ففعلا ذلك، فلما كان عنده حبسه، وكان حاجب أشناس يبيت عند أحمد بن الخليل مع محمد بن سعيد السعدي.
    فلما كان تلك الليلة عند العتمة ذهب الحاجب الى خيمه الحارث السمرقندي فاخرجه منها، وجاء به الى اشناس فقيده، وامر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين، فحمله الحاجب إليه، واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة، فجاء أشناس إلى موضع معسكره، فتلقاه الحارث معه رجل من قبل المعتصم، وعليه خلع، فقال له أشناس: مه، فقال: القيد الذي كان في رجلي صار في
    (9/75)
    رجل العباس وسأل المعتصم الحارث حين صار إليه عن أمره، فأقر أنه كان صاحب خبر العباس، وأخبره بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القواد فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم وكثرة من سمي منهم.
    وتحير المعتصم في أمر العباس، فدعا به حين خرج إلى الدرب فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، وتغدى معه، وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل، فنادمه على النبيذ، وسقاه حتى أسكره، واستحلفه ألا يكتمه من أمره شيئا، فشرح له قصته، وسمى له جميع من كان دب في أمره، وكيف كان السبب في ذلك في كل واحد منهم، فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك، فسأله عن الأسباب، فقص عليه مثل ما قص عليه العباس، ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس، ثم قال للحارث: قد رضتك على أن تكذب، فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل، فقد أفلت، فقال له:
    يا أمير المؤمنين، لست بصاحب كذب.
    ثم دفع العباس إلى الأفشين، ثم تتبع المعتصم أولئك القواد، فأخذوا جميعا، فأمر أن يحمل أحمد بن الخليل على بغل بإكاف بلا وطاء، ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم في كل يوم رغيفا واحدا، وأخذ عجيف بن عنبسة فيمن أخذ من القواد، فدفع من سائر القواد إلى إيتاخ، ودفع ابن الخليل إلى أشناس، فكان عجيف وأصحابه يحملون في الطريق على بغال باكف بلا وطاء، وأخذ الشاه بن سهل- وهو الرأس ابن الرأس من أهل قرية من خراسان يقال لها سجستان- فدعا به المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: يا بن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر! فقال له الشاه بن سهل:
    ابن الزانية هذا الذي بين يديك- يعني العباس- لو تركني هذا كنت أنت الساعة لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول لي: يا بن الفاعلة؟ فأمر به المعتصم، فضربت عنقه، وهو أول من قتل من القواد ومعه صحبه، ودفع
    (9/76)
    عجيف إلى إيتاخ فعلق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.
    وأما العباس فكان في يدي الأفشين، فلما نزل المعتصم منبج- وكان العباس جائعا- سأل الطعام، فقدم إليه طعام كثير، فأكل فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته.
    وأما عمرو الفرغاني، فإنه لما نزل المعتصم بنصيبين في بستان، دعا صاحب البستان، فقال له: احفر بئرا في موضع أومأ إليه بقدر قامة، فبدأ صاحب البستان فحفرها، ثم دعا بعمرو والمعتصم جالس في البستان، قد شرب أقداحا من نبيذ، فلم يكلمه المعتصم، ولم يتكلم عمرو حتى مثل بين يديه، فقال: جردوه، فجرد، وضرب بالسياط ضربة الأتراك، والبئر تحفر، حتى إذا فرغ من حفرها قال صاحب البستان: قد حفرتها، فأمر المعتصم عند ذلك فضرب وجه عمرو وجسده بالخشب، فلم يزل يضرب حتى سقط، ثم قال:
    جروه إلى البئر فاطرحوه فيها، فلم يتكلم عمرو ولم ينطق يومه ذلك، حتى مات فطرح في البئر، وطمت عليه.
    وأما عجيف بن عنبسة، فلما صار بباعيناثا، فوق بلد قليلا، مات في المحمل، فطرح عند صاحب المسلحة، وأمر أن يدفن فيها، فجاء به إلى جانب حائط خرب فطرحه عليه فقبر هناك.
    وذكر عن علي بن حسن الريداني أنه قال: كان عجيف في يد محمد ابن إبراهيم بن مصعب، فسأله المعتصم عنه، فقال له: يا محمد، لم يمت عجيف؟ قال: يا سيدي اليوم يموت، ثم أتى محمد مضربه، فقال لعجيف يا أبا صالح، أي شيء تشتهي؟ قال أسفيدباج وحلوى فالوذج، فأمر أن يعمل له من كل طعام، فأكل وطلب الماء فمنع، فلم يزل يطلب وهو يسوق حتى مات، فدفن بباعيناثا
    (9/77)
    قال: وأما التركي الذي كان ضمن للعباس قتل أشناس متى ما أمره العباس- وكان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه في ليل ولا نهار- فإنه أمر بحبسه، فحبسه أشناس قبله في بيت، وطين عليه الباب، وكان يلقي إليه في كل يوم رغيفا وكوز ماء، فأتاه ابنه في بعض أيامه، فكلمه من وراء الحائط، فقال له: يا بني، لو كنت تقدر لي على سكين كنت أقدر أن أتخلص من موضعي هذا، فلم يزل ابنه يتلطف في ذلك حتى أوصل إليه سكينا، فقتل به نفسه.
    وأما السندي بن بختاشه، فأمر المعتصم أن يوهب لأبيه بختاشه- لأن بختاشه لم يكن يتلطخ بشيء من أمر العباس- فقال المعتصم: لا يفجع هذا الشيخ بابنه، فأمر بتخلية سبيله.
    وأما أحمد بن الخليل، فإنه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد السعدي، فحفر له بئرا في الجزيرة بسامرا، فسأل عنه المعتصم يوما من الأيام، فقال لأشناس: ما فعل أحمد بن الخليل؟ فقال له أشناس: هو عند محمد بن سعيد السعدي، قد حفر له بئرا وأطبق عليه، وفتح له فيها كوة ليرمي إليه بالخبز والماء فقال المعتصم: هذا أحسبه قد سمن على هذه الحال، فأخبر أشناس محمد بن سعيد بذلك، فأمر محمد بن سعيد أن يسقى الماء، ويصب عليه في البئر حتى يموت: ويمتلئ البئر، فلم يزل يصب عليه الماء، والرمل ينشف الماء، فلم يغرق ولم يمتلئ البئر، فأمر أشناس بدفعه إلى غطريف الخجندي، فدفع إليه، فمكث عنده أياما، ثم مات فدفن.
    وأما هرثمة بن النضر الختلي، فكان واليا على المراغة، وكان في عداد من سماه العباس أنه من أصحابه، فكتب في حمله في الحديد، فتكلم فيه الأفشين، واستوهبه من المعتصم، فوهبه له، فكتب الأفشين كتابا إلى هرثمة ابن النضر يعلمه أن أمير المؤمنين قد وهبه له، وأنه قد ولاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فورد به الدينور عند العشاء مقيدا، فطرح في الخان، وهو موثق في الحديد، فوافاه الكتاب في جنح الليل، فأصبح وهو والي الدينور
    (9/78)
    وقتل باقي القواد ومن لم يحفظ اسمه من الأتراك والفراغنة وغيرهم، قتلوا جميعا.
    وورد المعتصم سامرا سالما بأحسن حال، فسمي العباس: اللعين يومئذ، ودفع ولد سندس من ولد المأمون إلى إيتاخ، فحبسوا في سرداب من داره ثم ماتوا بعد.
    وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم، جرحه خادم له.
    وحج بالناس فيها محمد بن داود.
    (9/79)
    ثم دخلت
    سنة أربع وعشرين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن مخالفه مازيار بطبرستان
    فمما كان فيها من ذلك إظهار مازيار بن قارن بن وندا هرمز بطبرستان الخلاف على المعتصم، ومحاربته أهل السفح والأمصار منها.
    ذكر الخبر عن سبب إظهاره الخلاف على المعتصم وفعله ما فعل من الوثوب بأهل السفح:
    ذكر أن السبب في ذلك، كان أن مازيار بن قارن كان منافرا لآل طاهر، لا يحمل إليهم الخراج، وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحمله إليه، ولكني أحمله إلى أمير المؤمنين، فكان المعتصم إذا حمل المازيار إليه الخراج، يأمر: إذا بلغ المال همذان رجلا من قبله أن يستوفيه ويسلمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليرده إلى خراسان، فكانت هذه حالة في السنين كلها ونافر آل طاهر حتى تفاقم الأمر بينهم.
    وكان الافشين يسمع من المعتصم أحيانا كلاما يدل على أنه يريد عزل آل طاهر عن خراسان، فلما ظفر الأفشين ببابك، ونزل من المعتصم المنزلة التي لم يتقدمه فيها أحد، طمع في ولاية خراسان، وبلغته منافرة مازيار آل طاهر، فرجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر، فدس الأفشين الكتب إلى المازيار يستميله بالدهقنة، ويعلمه ما هو عليه من المودة له، وأنه قد وعد ولاية خراسان، فدعا ذلك المازيار إلى ترك حمل خراجه إلى عبد الله ابن طاهر، وواتر عبد الله بن طاهر الكتب فيه إلى المعتصم، حتى أوحش
    (9/80)
    المعتصم منه وأغضبه عليه، وحمل ذلك المازيار إلى أن وثب وخالف، ومنع الخراج، وضبط جبال طبرستان وأطرافه.
    وكان ذلك مما يسر الأفشين ويطمعه في الولاية، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربة مازيار، وكتب الأفشين إلى المازيار يأمره بمحاربة عبد الله بن طاهر، ويعلمه أنه يقوم له عند المعتصم بما يحب، وكاتبه المازيار أيضا، فلا يشك الأفشين أن المازيار سيواقف عبد الله بن طاهر ويقاومه، حتى يحتاج المعتصم إلى أن يوجهه وغيره إليه.
    فذكر عن محمد بن حفص الثقفي الطبري أن المازيار لما عزم على الخلاف، دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرها، وأخذ منهم الرهائن، فحبسهم في برج الأصبهبذ، وأمر أكرة الضياع بالوثوب بأرباب الضياع وانتهاب أموالهم، وكان المازيار يكاتب بابك، ويحرضه ويعرض عليه النصرة فلما فرغ المعتصم من أمر بابك، أشاع الناس أن أمير المؤمنين يريد المسير إلى قرماسين، ويوجه الأفشين إلى الري لمحاربة مازيار، فلما سمع المازيار بإرجاف الناس بذلك، أمر أن يمسح البلد، خلا من قاطع على ضياعه بزيادة العشرة ثلاثة، ومن لم يقاطع رجع عليه، فحسب ما عليه من الفضل ولم يحسب له النقصان.
    ثم أنشأ كتابا إلى عامله على الخراج، وكان عامله عليه رجلا يقال له شاذان بن الفضل، نسخته:
    بسم الله الرحمن الرحيم، إن الأخبار تواترت علينا، وصحت عندنا بما يرجف به جهال أهل خراسان وطبرستان فينا، ويولدون علينا من الاخبار ويحملون عليه رءوسهم، من التعصب لدولتنا والطعن في تدبيرنا، والمراسلة لأعدائنا وتوقع الفتن، وانتظار الدوائر فينا، جاحدين للنعم مستقلين للأمن والدعة والرفاهية والسعة التي آثرهم الله بها، فما يرد الري قائد ولا مشرق ولا مغرب، ولا يأتينا رسول صغير ولا كبير إلا قالوا كيت وكيت، ومدوا أعناقهم نحوه،
    (9/81)
    وخاضوا فيما قد كذب الله أحدوثتهم، وخيب أمانيهم فيه مره بعد مره، فلا تنهاهم الأولى عن الآخرة، ولا يزجرهم عن ذلك تقية ولا خشية، كل ذلك نغضي عليه، ونتجرع مكروهه، استبقاء على كافتهم، وطلبا للصلاح والسلامة لهم إلحاحا، فلا يزيدهم استبقاؤنا إلا لجاجا، ولا كفنا عن تأديبهم إلا إغراء، إن أخرنا عنهم افتتاح الخراج نظرا لهم ورفقا بهم قالوا: معزول، وإن بادرنا به قالوا: لحادث أمر، لا يزدجرون عن ذلك بالشدة إن أغلظنا، ولا برفق إن أنعمنا، والله حسبنا وهو ولينا، عليه نتوكل وإليه ننيب وقد أمرنا بالكتاب إلى بندار آمل والرويان في استغلاق الخراج في عملهما، وأجلناهما في ذلك إلى سلخ تير ماه، فاعلم ذلك، وجرد جبايتك، واستخرج ما على اهل ناحيتك كملا، ولا يمضين عنك تير ماه، ولك درهم باق، فإنك إن خالفت ذلك إلى غيره لم يكن جزاؤك عندنا إلا الصلب، فانظر لنفسك، وحام عن مهجتك، وشمر في أمرك، وتابع كتابك إلى العباس وإياك والتغرير، واكتب بما يحدث منك من الانكماش والتشمير، فإنا قد رجونا أن يكون في ذلك مشغلة لهم عن الأراجيف، ومانع عن التسويف، فقد أشاعوا في هذه الأيام أن أمير المؤمنين أكرمه الله صائر إلى قرماسين، وموجه الافشين الى الري ولعمري لئن فعل أيده الله ذلك، أنه لمما يسرنا الله به، ويؤنسنا بجواره، ويبسط الأمل فيما قد عودنا من فوائده وأفضاله، ويكبت أعداءه وأعداءنا، ولن يهمل أكرمه الله أموره، ويرفض ثغوره، والتصرف في نواحي ملكه، لأراجيف مرجف بعماله، وقول قائل في خاصته، فإنه لا يسرب أكرمه الله جنده إذا سرب، ولا يندب قواده إذا ندب، إلا إلى المخالف فاقرأ كتابنا هذا على من بحضرتك من اهل الخراج، ليبلغ شاهدهم غائبهم، وعنف عليهم في استخراجه، ومن هم بكسره فليبد بذلك صفحته، لينزل الله به ما أنزل بأمثاله، فإن لهم أسوة في الوظائف وغيرها بأهل جرجان والري وما والاهما، فإنما خفف الخلفاء عنهم خراجهم، ورفعت الرفائع عنهم للحاجة التي كانت إليهم في محاربة أهل
    (9/82)
    الجبال ومغازي الديلم الضلال، وقد كفى الله أمير المؤمنين أعزه الله ذلك كله، وجعل أهل الجبال والديلم جندا وأعوانا، والله المحمود.
    قال: فلما ورد كتاب المازيار على شاذان بن الفضل عامله على الخراج، أخذ الناس بالخراج، فجبى جميع الخراج في شهرين، وكان يجبى في اثني عشر شهرا، في كل أربعة أشهر الثلث، وإن رجلا يقال له علي بن يزداد العطار، وهو ممن أخذ منه رهينة، هرب وخرج من عمل المازيار، فأخبر أبو صالح سرخاستان بذلك، وكان خليفة المازيار على سارية، فجمع وجوه أهل مدينة سارية، وأقبل يوبخهم، ويقول: كيف يطمئن الملك إليكم! أم كيف يثق بكم! وهذا علي بن يزداد ممن قد حلف وبايع، وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج، وترك رهينه، فأنتم لا تفون بيمين، ولا تكرهون الخلف والحنث، فكيف يثق بكم الملك، أم كيف يرجع لكم إلى ما تحبون! فقال بعضهم: نقتل الرهينة حتى لا يعود غيره إلى الهرب، فقال لهم: أتفعلون ذلك؟ قالوا: نعم، فكتب إلى صاحب الرهائن، فأمره أن يوجه بالحسن بن علي بن يزداد وهو رهينة أبيه، فلما صاروا به إلى سارية ندم الناس على ما قالوا لأبي صالح، وجعلوا يرجعون على الذي أشار بقتله بالتعنيف ثم جمعهم سرخاستان، وقد أحضر الرهينة، فقال لهم: إنكم قد ضمنتم شيئا، وهذا الرهينة فاقتلوه، فقال له عبد الكريم بن عبد الرحمن الكاتب: أصلحك الله! إنك أجلت من خرج من هذا البلد شهرين، وهذا الرهينة قبلك، نسألك أن تؤجله شهرين، فإن رجع أبوه وإلا أمضيت فيه رأيك.
    قال: فغضب على القوم، ودعا بصاحب حرسه- وكان يقال له رستم ابن بارويه- فأمره بصلب الغلام وإن الغلام سأله أن يأذن له أن يصلي ركعتين، فأذن له، فطول في صلاته وهو يرعد، وقد مد له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته، ومدوه فوق الجذع، وشدوا حلقه معه حتى اختنق، وتوفي فوقه، وأمر سرخاستان أهل مدينة سارية أن يخرجوا إلى آمل، وتقدم
    (9/83)
    إلى أصحاب المسالح في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب، فأحضروا ومضى مع أهل سارية إلى آمل، وقال لهم: إني أريد أن أشهدكم على أهل آمل، وأشهد أهل آمل عليكم، وأرد ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما كنا أخذنا منكم فلما وافوا آمل جمعهم بقصر الخليل بن وندا سنجان، وصير أهل سارية ناحية عن غيرهم ووكل بهم اللوزجان، وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف منهم أحد عليه، ثم عرضهم بعد ذلك على الأسماء حتى اجتمعوا، ولم يتخلف منهم احد، واحدق الرجال في السلاح بهم، وصفوا جميعا، ووكل بكل واحد منهم رجلين بالسلاح، وأمر الموكل بهم أن يحمل رأس كل من كاع عن المشي، وساقهم مكتفين حتى وافى بهم جبلا يقال له هرمز داباذ، على ثمانية فراسخ من آمل وثمانية فراسخ من مدينة سارية، وكبلهم بالحديد، وحبسهم.
    وبلغت عدتهم عشرين ألفا، وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتين فيما ذكر عن محمد بن حفص.
    فأما غيره من أهل الأخبار وجماعة ممن أدرك ذلك فإنهم قالوا: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين، وهذا القول عندي أولى بالصواب، وذلك أن مقتل مازيار كان في سنة خمس وعشرين ومائتين وكان فعله ما فعل بأهل طبرستان قبل ذلك بسنة.
    رجع الحديث إلى الخبر عن قصة مازيار وفعله بأهل آمل على ما ذكر عن محمد بن حفص قال: وكتب إلى الدري ليفعل ذلك بوجوه العرب والأبناء ممن كان معه بمرو، وكبلهم بالحديد، وحبسهم، ووكل بهم الرجال في حبسهم، فلما تمكن المازيار، واستوى له أمره وأمر القوم، جمع أصحابه، وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل، فخربه بالطبول والمزامير، ثم سار إلى مدينة سارية، ففعل بها مثل ذلك.
    ثم وجه مازيار أخاه فوهيار إلى مدينة طميس- وهي على حد جرجان من عمل طبرستان- فخرب سورها ومدينتها، وأباح أهلها، فهرب منهم من
    (9/84)
    هرب، وبلي من بلي ثم توجه بعد ذلك إلى طميس سرخاستان، وانصرف عنها قوهيار، فلحق بأخيه المازيار، فعمل سرخاستان سورا من طميس إلى البحر، ومده في البحر مقدار ثلاثة أميال وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك، لان الترك كانت تغير على أهل طبرستان في أيامها، ونزل معسكرا بطميس سرخاستان وصير حولها خندقا وثيقا وابراجا للحرس، وصير عليها بابا وثيقا، ووكل به الرجال الثقات، ففزع أهل جرجان وخافوا على أموالهم ومدينتهم، فهرب منها نفر إلى نيسابور، وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر وإلى المعتصم، فوجه إليه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، وضم إليه جيشا كثيفا يحفظ جرجان، وأمره أن يعسكر على الخندق، فنزل الحسن بن الحسين معسكرا على الخندق الذى عمله سرخستان، وصار بين العسكرين عرض الخندق، ووجه أيضا عبد الله بن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس معسكرا على حد جبال شروين، ووجه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف، وضم إليه الحسن بن قارن الطبري القائد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجه منصور بن الحسن هار صاحب دنباوند إلى مدينة الري ليدخل طبرستان من ناحية الري، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند، فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب بعث عند ذلك إبراهيم بن مهران صاحب شرطته وعلي بن ربن الكاتب النصراني، ومعهما خليفة صاحب الحرس إلى أهل المدن المحتبسين عنده، أن الخيل قد زحفت الى من كل جانب، وانما حبستكم ليبعث إلي هذا الرجل فيكم- يعني المعتصم- فلم يفعل، وقد بلغنى ان الحجاج ابن يوسف غضب على صاحب السند في امرأة أسرت من المسلمين، وأدخلت إلى بلاد السند حتى غزا السند، وأنفق بيوت الأموال حتى استنفذ المرأة وردها إلى مدينتها، وهذا الرجل لا يكترث بعشرين ألفا، ولا يبعث إلي يسأل فيكم، وإني لا أقدم على حربه، وأنتم ورائي، فأدوا إلي خراج سنتين، وأخلي سبيلكم، ومن كان منكم شابا قويا قدمته للقتال، فمن وفى لي منكم رددت عليه ماله، ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا أو ضعيفا صيرته من الحفظه والبوابين
    (9/85)
    فقال رجل يقال له موسى بن هرمز الزاهد- كان يقال أنه لم يشرب الماء منذ عشرين سنة- أنا أؤدي إليك خراج سنتين، وأقوم به، فقال خليفة صاحب الحرس لأحمد بن الصقير: لم لا تتكلم، وقد كنت أحظى القوم عند الأصبهبذ، وقد كنت أراك تتغذى معه، وتتكئ على وسادته! وهذا شيء لم يفعله الملك بأحد غيرك، فأنت أولى بالقيام بهذا الأمر من موسى، قال أحمد: إن موسى لا يقدر على القيام بجباية درهم واحد، وإنما أجابكم بجهل وبما هو عليه وعلى الناس أجمع، ولو علم صاحبكم أن عندنا درهما واحدا لم يحبسنا، وانما حبسنا بعد ما استنظف كل ما عندنا من الأموال والذخائر، فإن أراد الضياع بهذا المال أعطيناه فقال له علي بن ربن الكاتب: الضياع للملك لا لكم، فقال له إبراهيم بن مهران: أسألك بالله يا أبا محمد، لما سكت عن هذا الكلام! فقال له أحمد: لم أزل ساكتا حتى كلمني هذا بما قد سمعت سنه 224 ثم انصرفت الرسل على ضمان موسى الزاهد، وأعلموا المازيار ضمانه، وانضم إلى موسى الزاهد قوم من السعاة، فقالوا: فلان يحتمل عشرة آلاف، وفلان يحتمل عشرين ألفا وأقل وأكثر، وجعلوا يستأكلون الناس أهل الخراج وغيرهم، فلما مضى لذلك أيام، رد مازيار الرسل مقتضيا المال، ومتنجزا ما كان من ضمان موسى الزاهد، فلم ير لذلك أثرا ولا تحقيقا، وتحقق قول أحمد، وألزمه الذنب وعلم المازيار أن ليس عند القوم ما يؤدون، وإنما أراد أن يلقي الشر بين أصحاب الخراج، ومن لا خراج عليه من التجار والصناع.
    قال: ثم إن سرخاستان كان معه ممن اختار من أبناء القواد وغيرهم من أهل آمل فتيان لهم جلد وشجاعة، فجمع منهم في داره مائتين وستين فتى ممن يخاف ناحيته، وأظهر أنه يريد جمعهم للمناظرة، وبعث إلى الأكرة المختارين من الدهاقين، فقال لهم: إن الأبناء هواهم مع العرب والمسودة، ولست آمن غدرهم ومكرهم، وقد جمعت أهل الظنة ممن أخاف ناحيته، فاقتلوهم لتأمنوا، ولا يكون في عسكركم ممن يخالف هواه هواكم ثم أمر بكتفهم
    (9/86)
    ودفعهم إلى الأكره ليلا، فدفعوهم إليهم، وصاروا بهم إلى قناة هناك، فقتلوهم ورموا بهم في آبار تلك القناة وانصرفوا فلما ثاب إلى الأكرة عقولهم ندموا على فعلهم، وفزعوا من ذلك، فلما علم المازيار أن القوم ليس عندهم ما يؤدونه إليه، بعث إلى الأكرة المختارين الذين قتلوا المائتين والستين فتى، فقال لهم: إني قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم- إلا ما كان من جارية جميلة من بناتهم، فإنها تصير للملك- وقال لهم: صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع جميعهم قبل ذلك، ثم حوزوا بعد ذلك، ما وهبت لكم من المنازل والحرم، فجبن القوم عن ذلك وخافوا وحذروا فلم يفعلوا ما أمرهم به.
    قال: وكان الموكلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدثون ليلا مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب، وبينهم عرض الخندق، حتى استأنس بعضهم ببعض، وتآمروا وحرس سرخاستان بتسليم السور إليهم، فسلموه، ودخل أصحاب الحسن بن الحسين من ذلك الموضع إلى عسكر سرخاستان في غفلة من الحسن بن الحسين ومن سرخاستان، فنظر أصحاب الحسن إلى قوم يدخلون من الحائط، فدخلوا معهم، فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فثاروا.
    وبلغ الحسن بن الحسين بن مصعب، فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم، ويقول:
    يا قوم، إني أخاف عليكم أن تكونوا مثل قوم داوندان، ومضى أصحاب قيس بن زنجويه- وهو من أصحاب الحسن بن الحسين- حتى نصبوا العلم على السور في معسكر سرخاستان، وانتهى الخبر إلى سرخاستان أن العرب قد كسروا السور، ودخلوا بغتة، فلم تكن له همة إلا الهرب، وكان سرخاستان في الحمام، فسمع الصياح، فخرج هاربا في غلالة وقال الحسن بن الحسين حين لم يقدر على رد أصحابه: اللهم إنهم قد عصوني وأطاعوك، اللهم فاحفظهم وانصرهم، ولم يزل أصحاب الحسن يتبعون القوم حتى صاروا إلى الدرب الذي على السور فكسروه، ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر، ومضى قوم في الطلب.
    وذكر عن زراره بن يوسف السجزى أنه قال: مررت في الطلب، فبينا
    (9/87)
    أنا كذلك، إذ صرت إلى موضع عن يسرة الطريق، فوجلت من الممر فيه، ثم تقحمته بالرمح من غير أن أرى أحدا، وصحت: من أنت؟ ويلك! فإذا شيخ جسيم قد صاح زينهار- يعني الأمان- قال: فحملت عليه، فأخذته، وشددت كتافه، فإذا هو شهريار أخو أبي صالح سرخاستان، صاحب العسكر، قال: فدفعته إلى قائدي يعقوب بن منصور، وحال الليل بيننا وبين الطلب، فرجع الناس إلى المعسكر، وأتي بشهريار إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه وأما أبو صالح فمضى حتى صار على خمسة فراسخ من معسكره، وكان عليلا، فجهده العطش والفزع، فنزل في غيضة يمنة الطريق إلى سفح جبل، وشد دابته واستلقى، فبصر به غلام له ورجل من أصحابه يقال له جعفر بن ونداميد، فنظر إليه نائما، فقال سرخاستان:
    يا جعفر، شربة ماء، فقد جهدني العطش، قال: فقلت: ليس معي إناء أغرف به من هذا الموضع، فقال سرخاستان: خذ رأس جعبتي فاسقني به، قال جعفر: وملت إلى عداد من أصحابي، فقلت لهم: هذا الشيطان قد أهلكنا فلم لا نتقرب به إلى السلطان، ونأخذ لأنفسنا الأمان! فقالوا لجعفر: كيف لنا به؟ قال: فوقفهم عليه، وقال لهم: أعينوني ساعة، وأنا أثاوره، فأخذ جعفر خشبة عظيمة وسرخاستان مستلق، فألقى نفسه عليه، وملكوه وشدوه كتافا مع الخشبة، فقال لهم أبو صالح: خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني، فإن العرب لا تعطيكم شيئا، قالوا له: أحضرها، قال: هاتوا ميزانا، قالوا:
    ومن اين هاهنا ميزان؟ قال: فمن اين هاهنا ما أعطيكم! ولكن صيروا معي إلى المنزل، وأنا أعطيكم العهود والمواثيق أني أفي لكم بذلك، وأوفر عليكم، فصاروا به إلى الحسن بن الحسين، فاستقبلتهم خيل للحسن بن الحسين، فضربوا رءوسهم، وأخذوا سرخاستان منهم، فهمتهم أنفسهم، ومضى أصحاب الحسن بأبي صالح إلى الحسن، فلما وقفوه بين يديه، دعا الحسن قواد طبرستان، مثل محمد بن المغيرة بن شعبة الأزدي وعبد الله بن محمد القطقطي الضبي والفتح بن قراط وغيرهم، فسألهم: هذا سرخاستان؟ قالوا: نعم، فقال لمحمد
    (9/88)
    ابن المغيرة، قم فاقتله بابنك وأخيك، فقام إليه فضربه بالسيف، وأخذته السيوف فقتل.
    ذكر خبر أبي شاس الشاعر
    وكان أبو شاس الشاعر، وهو الغطريف بن حصين بن حنش فتى من أهل العراق، ربي بخراسان، أديبا فهما، وكان سرخاستان ألزمه نفسه يتعلم منه أخلاق العرب ومذاهبها، فلما نزل بسرخاستان ما نزل به، وأبو شاس في معسكره، ومعه دواب واثقال، هجم عليه قوم البخارية، من أصحاب الحسن، فانتهبوا جميع ما كان معه، وأصابته جراحات، فبادر أبو شاس فأخذ جرة كانت معه، فوضعها على عاتقه، وأخذ بيده قدحا، وصاح: الماء للسبيل، حتى أصاب غفلة من القوم، فهرب من مضربه، وقد أصابته جراحة، فبصر به غلام- وقد كان مر بمضرب عبد الله بن محمد بن حميد القطقطي الطبري، وكان كاتب الحسن بن الحسين- فعرفوه، عرفه خدمه، وعلى عاتقه الجرة وهو يسقي الماء، فأدخلوه خيمتهم، وأخبروا صاحبهم بمكانه، فأدخل عليه، فحمله وكساه، وأكرمه غاية الإكرام، ووصفه للحسن بن الحسين، وقال له: قل في الأمير قصيدة، فقال أبو شاس: والله لقد امحى ما في صدري من كتاب الله من الهول، فكيف أحسن الشعر! ووجه الحسن برأس أبي صالح سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر، ولم يزل من معسكره وذكر عن محمد بن حفص أن حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر، كان أقبل مع الحسن بن الحسين إلى ناحية طميس، فكاتب قارن بن شهريار، ورغبه في الطاعة، وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار وهو ابن أخيه وكان مازيار صيره مع أخيه عبد الله بن قارن، وضم إليهما عدة من ثقات قواده وقراباته، فلما استماله حيان، وكان قارن قد ضمن له أن يسلم له الجبال، ومدينة سارية إلى حد جرجان، على أن يملكه على جبال أبيه وجده إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، سجل له عبد الله بن طاهر بكل ما سأل، وكتب إلى حيان بأن
    (9/89)
    يتوقف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدل به على الوفاء، لئلا يكون منه مكر، فكتب حيان إلى قارن بذلك، فدعا قارن بعبد الله ابن قارن وهو أخو مازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه، فلما أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح الشاك، وكتفهم ووجه بهم إلى حيان بن جبلة، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب حيان في جمعه حتى دخل جبال قارن.
    وبلغ مازيار الخبر فاغتم لذلك، وقال له القوهيار أخوه: في حبسك عشرون ألفا من المسلمين، من بين إسكاف وخياط، وقد شغلت نفسك بهم، وإنما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقرابتك، فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك؟ قال: فأمر مازيار بتخلية جميع من في حبسه، ثم دعا إبراهيم بن مهران صاحب شرطته، وعلي بن ربن النصراني كاتبه، وشاذان بن الفضل صاحب خراجه، ويحيى بن الروذبهار جهبذه، وكان من أهل السهل عنده، فقال لهم: إن حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل، وقد دخلت العرب إليكم، وأكره أن أشومكم، فاذهبوا إلى منازلكم، وخذوا لأنفسكم الأمان ثم وصلهم، وأذن لهم في الانصراف، فصاروا إلى منازلهم وأخذوا الأمان لأنفسهم.
    ولما بلغ أهل مدينة سارية أخذ سرخاستان واستباحة عسكره ودخول حيان ابن جبلة جبل شروين، وثبوا على عامل مازيار بسارية- وكان يقال له مهريستاني بن شهريز- فهرب منهم، ونجا بنفسه، وفتح الناس باب السجن، وأخرجوا من فيه، ووافى حيان بعد ذلك مدينة سارية وبلغ قوهيار أخا مازيار موافاة حيان سارية، فأطلق محمد بن موسى بن حفص الذي كان عامل طبرستان من حبسه، وحمله على بغل بسرج، ووجه به إلى حيان ليأخذ له الأمان، ويجعل له جبال أبيه وجده على أن يسلم إليه مازيار، ويوثق
    (9/90)
    له بذلك بضمان محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير، فلما صار محمد بن موسى إلى حيان، وأخبره برسالة قوهيار إليه، قال له حيان: من هذا؟
    يعني احمد، قال: شيخ البلاد، وبقية الخلفاء والأمير عبد الله بن طاهر به عارف، فبعث حيان إلى أحمد، فأتاه فأمره بالخروج إلى مسلحة خرماباذ مع محمد بن موسى وكان لأحمد ابن يقال له إسحاق، وكان قد هرب من مازيار، يأوي نهاره الغياض، ويصير بالليل إلى ضيعة يقال لها ساواشريان، وهي على طريق الجادة من قدح الأصبهبذ الذي فيه قصر مازيار.
    فذكر عن إسحاق، أنه قال: كنت في هذه الضيعة، فمر بي عدة من أصحاب مازيار، معهم دواب تقاد وغير ذلك، قال: فوثبت على فرس منها هجين ضخم، فركبته عريا، وصرت إلى مدينة سارية، فدفعته إلى أبي، فلما أراد أحمد الخروج إلى خرماباذ ركب ذلك الفرس، فنظر إليه حيان، فأعجبه، فالتفت حيان إلى اللوزجان- وكان من أصحاب قارن- فقال له:
    رأيت هذا الشيخ على فرس نبيل قل ما رأيت مثله، فقال له اللوزجان: هذا الفرس كان لمازيار، فبعث حيان إلى أحمد يسأله البعثة بالفرس إليه، لينظر إليه، فبعث به إليه، فلما تأمل النظر وفتشه وجده مشطب اليدين، فزهد فيه، ودفعه إلى اللوزجان، وقال لرسول أحمد: هذا لمازيار، ومال مازيار لأمير المؤمنين، فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب على اللوزجان من ذلك، فبعث إليه أحمد بالشتيمة، فقال اللوزجان: ما لي في هذا ذنب! ورد الفرس إلى أحمد، ومعه برذون وشهرى فاره، فأمر رسوله فدفعهما إليه.
    وغضب أحمد من فعل حيان به، وقال: هذا الحائك يبعث إلى شيخ مثلي فيفعل به ما فعل! ثم كتب إلى قوهيار: ويحك! لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر، وتدخل في أمان هذا العبد الحائك، وتدفع أخاك، وتضع قدرك، وتحقد عليك الحسن بن الحسين
    (9/91)
    بتركك إياه وميلك إلى عبد من عبيده! فكتب إليه قوهيار: قد غلطت في أول الأمر، وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد، ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويحاربني، ويستبيح منازلي وأموالي، وإن قاتلته فقتلت من أصحابه، وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء، ويبطل هذا الأمر الذي التمسته.
    فكتب إليه أحمد: إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنه قد عرضت لك علة منعتك من الحركة، وإنك تتعالج ثلاثة أيام، فإن عوفيت وإلا صرت إليه في محمل، وسنحمله نحن على قبول ذلك منك، والمصير في الوقت.
    وإن أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى بن حفص كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميس ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميس، فكتبا إليه أن اركب إلينا لندفع إليك مازيار والجبل، والا فاتك، فلا تقم ووجها الكتاب مع شاذان بن الفضل الكاتب، وامراه أن يعجل السير.
    فلما وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته، وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة، حتى انتهى إلى سارية، فلما أصبح سار إلى خرماباذ- وهو يوم موعد قوهيار- وسمع حيان وقع طبول الحسن، فركب فتلقاه على راس فرسخ، فقال له الحسن: ما تصنع هاهنا! فما يؤمنك أن يبدو للقوم، فيغدروا بك، فينتقض عليك جميع ما عملت ارجع إلى الجبل، فصير مسالحك في النواحي والأطراف، وأشرف على القوم أشرافا لا يمكنهم الغدر، إن هموا به.
    فقال له حيان: أنا على الرجوع، وأريد أن أحمل أثقالي، وأتقدم إلى رجالي بالرحلة، فقال له الحسن: امض أنت، فأنا باعث بأثقالك ورجالك خلفك، وبت الليلة بمدينة سارية حتى يوافوك، ثم تبكر من غد، فخرج حيان من فوره كما أمره الحسن إلى سارية، ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر أن
    (9/92)
    يعسكر بلبورة- وهي من جبال ونداهرمز، وهي أحصن موضع من جباله، وكان أكثر مال مازيار بها- وأمره عبد الله ألا يمنع قارن مما يريد من تلك الجبال والأموال فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال، والذي كان بأسباندرة من ذخائر مازيار، وما كان لسرخاستان بقدح السلتان، واحتوى على ذلك كله.
    فانتقض على حيان جميع ما كان سنح له بسبب ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان بن جبلة فوجه عبد الله مكانه على أصحابه محمد الحسين بن مصعب، وتقدم إليه عبد الله ألا يضرب على يدي قارن في شيء يريده، وصار الحسن ابن الحسين إلى خرماباذ، فأتاه محمد بن موسى بن حفص واحمد بن الصقير، فتناظروا سرا، فجزاهما خيرا، وكتب هو إلى قوهيار، فوافى خرماباذ، وصار إلى الحسن، فبره وأكرمه وأجابه إلى كل ما سال، واتعدا على يوم، ثم صرفه وصار قوهيار إلى مازيار، فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان، واستوثق له وكان الحسين بن قارن قد كاتب قوهيار من ناحية محمد بن إبراهيم بن مصعب، وضمن له الرغائب عن أمير المؤمنين، فأجابه قوهيار، وضمن له ما ضمن لغيره، كل ذلك ليردهم عن الحرب ومال إليه فركب محمد بن إبراهيم من مدينة آمل، وبلغ الحسن بن الحسين الخبر فذكر عن إبراهيم بن مهران أنه كان يتحدث عند أبي السعدي، فلما قرب وكان طريقه على باب مضرب الحسن قال: فلما حاذيت مضربه، إذا بالحسن الزوال انصرف يريد منزله راكب وحده، لم يتبعه إلا ثلاثة غلمان له أتراك، قال: فرميت بنفسي، وسلمت عليه، فقال: اركب، فلما ركبت قال: أين طريق آرم؟ قلت: هي على هذا الوادي، فقال لي: امض أمامي، قال: فمضيت حتى بلغت دربا على ميلين من آرم، قال: ففزعت، وقلت: أصلح الله الأمير! هذا موضع مهول، ولا يسلكه الا الف فارس، فأرى لك أن تنصرف
    (9/93)
    ولا تدخله قال: فصاح بي: امض، فمضيت وأنا طائش العقل، ولم نر في طريقنا أحدا حتى وافينا آرم، فقال لي: أين طريق هرمزداباذ؟
    قلت: على هذا الجبل في هذا الشراك، قال: فقال لي: سر إليها، فقلت: أعز الله الأمير! الله الله في نفسك وفينا وفي هذا الخلق الذي معك! قال: فصاح بي:
    امض يا بن اللخناء، قال: فقلت له: أعزك الله! اضرب أنت عنقي، فإنه أحب إلي من أن يقتلني مازيار، ويلزمني الأمير عبد الله بن طاهر الذنب.
    قال: فانتهرني حتى ظننت أنه سيبطش بي، ومضيت وأنا خليع الفؤاد، وقلت في نفسي: الساعة نؤخذ جميعا، او نوقف بين يدي مازيار فيوبخني، ويقول: جئت دليلا علي! فبينا نحن كذلك إذ وافينا هرمزداباذ مع اصفرار الشمس، فقال لي: أين كان سجن المسلمين هاهنا؟ فقلت له: في هذا الموضع.
    قال: فنزل فجلس ونحن صيام، والخيل تلحقنا متقطعة، وذلك أنه ركب من غير علم الناس، فعلموا بعد ما مضى، فدعا الحسن بيعقوب بن منصور، فقال له: يا أبا طلحة، أحب أن تصير إلى الطالقانية، فتلطف بحيلك لجيش أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مصعب هنالك ساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر، ما أمكنك وكان بينه وبين الطالقانية فرسخان أو ثلاثة فراسخ، قال إبراهيم: فبينا نحن وقوف بين يدي الحسن، إذ دعا بقيس بن زنجويه، فقال له: امض إلى درب لبورة، وهو على أقل من فرسخ، فابرز بأصحابك على الدرب.
    قال: فلما صلينا المغرب وأقبل الليل، إذا أنا بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلا مقبلين من طريق لبورة، فقال لي: يا إبراهيم، أين طريق لبورة؟
    فقلت: أرى نيرانا وفرسانا قد أقبلوا من ذلك الطريق، قال: وأنا داهش لا أقف على ما نحن فيه، حتى قربت النيران منا، فأنظر فإذا المازيار مع القوهيار، فلم
    (9/94)
    أشعر حتى نزلا، وتقدم المازيار، فسلم على الحسن بالإمرة، فلم يرد عليه، وقال لطاهر بن إبراهيم وأوس البلخي: خذاه إليكما.
    وذكر عن أخي وميدوار بن خواست جيلان، أنه في تلك الليلة صار مع نفر إلى قوهيار، وقال له: اتق الله، قد خلفت سرواتنا، فأذن لي أكنف هؤلاء العرب كلهم، فإن الجند حيارى جياع، وليس لهم طريق يهربون، فتذهب بشرفها ما بقي الدهر، ولا تثق بما يعطيك العرب، فليس لهم وفاء! فقال قوهيار: لا تفعلوا، وإذا قوهيار قد عبى علينا العرب، ودفع مازيار وأهل بيته إلى الحسن لينفرد بالملك، ولا يكون أحد ينازعه ويضاده.
    فلما كان في السحر، وجه الحسن بالمازيار مع طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي إلى خرماباذ، وأمرهما أن يمرا به إلى مدينة سارية، وركب الحسن، وأخذ على وادي بابك إلى الكانية مستقبلا محمد بن إبراهيم بن مصعب، فالتقيا ومحمد يريد المصير إلى هرمزداباذ لأخذ المازيار، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله، أين تريد؟ قال: أريد المازيار، فقال: هو بسارية، وقد صار إلي، ووجهت به إلى هنالك، فبقي محمد بن إبراهيم متحيرا وكان القوهيار قد هم بالغدر بالحسن، ودفع المازيار إلى محمد بن إبراهيم، فسبق الحسن إلى ذلك، وتخوف القوهيار منه أن يحاربه حين رآه متوسطا الجبل ان أحمد بن الصقير كتب إلى القوهيار: لا أرى لك التخليط والمناصبة لعبد الله بن طاهر، وقد كتب اليه بخبرك وضمانك فلا تكن ذا قلبين، فعند ذلك حذره ودفعه إلى الحسن، وصار محمد بن إبراهيم والحسن بن الحسين إلى هرمزداباذ، فأحرقا قصر المازيار بها، وأنهبا ماله، ثم صارا إلى معسكر الحسن بخرماباذ، ووجها إلى إخوة المازيار، فحبسوا هناك في داره، ووكل بهم ثم رحل الحسن إلى مدينة سارية، فأقام بها، وحبس المازيار بقرب خيمة الحسن، وبعث الحسن إلى محمد بن موسى بن حفص يسأله عن القيد الذي كان قيده به المازيار، فبعث به محمد إليه، فقيد المازيار بذلك القيد، ووافى محمد بن إبراهيم الحسن بمدينة سارية ليناظره في مال المازيار وأهل بيته، فكتبا بذلك
    (9/95)
    إلى عبد الله بن طاهر، وانتظرا أمره، فورد كتاب عبد الله إلى الحسن بتسليم المازيار وإخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم، ليحملهم إلى أمير المؤمنين المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمره أن يستصفي جميع ما للمازيار ويحرزه، فبعث الحسن إلى المازيار فأحضره، وسأله عن أمواله فذكر أن ماله عند قوم سماهم، من وجوه أهل سارية وصلحائهم عشرة نفر، وأحضر القوهيار، وكتب عليه كتابا، وضمنه توفير هذه الأموال التي ذكرها المازيار أنها عند خزانه وأصحاب كنوزه، فضمن القوهيار ذلك وأشهد على نفسه.
    ثم أن الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار، فيشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما دخلنا على المازيار، تخوفت من أحمد بن الصقير أن يفزعه بالكلام، فقلت له: أحب أن تمسك عنه، ولا تذكر ما كنت أشرت به، فسكت أحمد عند ذلك، فقال المازيار: اشهدوا أن جميع ما حملت من أموالي وصحبني ستة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت أحمر، وثمانية أوقار سلال مجلدة، فيها ألوان الثياب، وتاج وسيف من ذهب وجوهر، وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرا، وقد وضعه بين أيدينا، وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح، وهو خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى القوهيار قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين، فقال: أشهدتم على الرجل؟ قال: قلنا: نعم، قال: هذا شيء كنت اخترته لي، فأحببت أن يعلم قلته وهو انه عندي.
    وذكر عن علي بن ربن النصراني الكاتب أن ذلك الحق كان شري جوهره على المازيار وجده وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان المازيار حمل ذلك كله إلى الحسن بن الحسين، على أن يظهر أنه خرج إليه في الأمان، وأنه قد آمنه على نفسه وماله وولده، وجعل له جبال أبيه، فامتنع الحسن بن
    (9/96)
    الحسين من هذا وعف عنه- وكان أعف الناس عن أخذ درهم أو دينار- فلما أصبح أنفذ المازيار مع طاهر بن إبراهيم وعلي بن إبراهيم الحربي، وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بالمازيار ثلاث مراحل، فبعث الحسن فرده، وأنفذه مع يعقوب بن منصور ثم أمر الحسن بن الحسين القوهيار أخا المازيار أن يحمل الأموال التي ضمنها، ودفع إليه بغالا من العسكر، وأمر بإنفاذ جيش معه، فامتنع القوهيار، وقال:
    لا حاجة لي بهم، وخرج بالبغال هو وغلمانه، فلما ورد الجبل وفتح الخزائن، وأخرج الأموال وعباها ليحملها، وثب عليه مماليك المازيار من الديالمة- وكانوا ألفا ومائتين- فقالوا له: غدرت بصاحبنا، وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله! فأخذوه وكبلوه بالحديد، فلما جنه الليل قتلوه، وانتهبوا تلك الأموال والبغال، فانتهى الخبر إلى الحسن، فوجه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجه قارن جيشا من قبله في أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدة، منهم ابن عم للمازيار، يقال له شهريار بن المصمغان- وكان رأس العبيد ومحرضهم- فوجه به قارن إلى عبد الله بن طاهر، فلما صار بقومس مات، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم، فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم، وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا، فبعث بهم إلى مدينة سارية مع علي بن إبراهيم، وكان مدخل محمد بن إبراهيم حين دخل من شلنبة على طريق الروذبار الى الوريان.
    وقيل: إن فساد أمر مازيار وهلاكه كان من قبل ابن عم له يقال له كان في يديه جبال طبرستان كلها، وكان في يد المازيار السهل، وكان ذلك كالقسمة بينهم يتوارثونه، فذكر عن محمد بن حفص الطبري أن الجبال بطبرستان ثلاثة: جبل ونداهرمز في وسط جبال طبرستان، والثاني جبل أخيه
    (9/97)
    وندا سبجان بن الأنداد بن قارن، والثالث جبل شروين بن سرخاب ابن باب، فلما قوي أمر المازيار بعث إلى ابن عمه ذلك، وقيل هو أخوه القوهيار، فألزمه بابه، وولى الجبل واليا من قبله.
    يقال له دري، فلما احتاج المازيار إلى الرجال لمحاربة عبد الله بن طاهر، دعا بابن عمه أو أخيه القوهيار، فقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين ومكاتبته له، وقال له: صر في ناحية الجبل، فاحفظ علي الجبل.
    وكتب المازيار إلى الدري يأمره بالقدوم عليه، فقدم عليه، فضم إليه العساكر، ووجهه في وجه عبد الله بن طاهر، وظن أنه قد توثق من الجبل بابن عمه أو أخيه القوهيار، وذلك أن الجبل لم يظن أنه يؤتى منه لأنه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثق من المواضع التي يتخوف منها بالدري وأصحابه، وضم إليه المقاتلة وأهل عسكره، فوجه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف من خراسان إلى المازيار، ووجه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب، ووجه معه صاحب خبر يقال له يعقوب بن إبراهيم البوشنجي مولى الهادي، ويعرف بقوصرة، يكتب بخبر العسكر، فوافى محمد بن إبراهيم الحسن بن الحسين، وزحفت العساكر نحو المازيار حتى قربوا منه، والمازيار لا يشك أنه قد توثق من الموضع الذى تلقاه الجبل فيه.
    وكان المازيار في مدينته في نفر يسير، فدعا ابن عم المازيار الحقد الذي كان في قلبه على المازيار وصنيعه به وتنحيته إياه عن جبله، أن كاتب الحسن ابن الحسين، وأعلمه جميع ما في عساكره، وأن الأفشين كاتب المازيار.
    فأنفذ الحسن كتاب ابن عم المازيار إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله برجل إلى المعتصم، وكاتب عبد الله والحسن بن الحسين ابن عم المازيار- وقيل القوهيار- وضمنا له جميع ما يريد، وكان ابن عم المازيار أعلم عبد الله
    (9/98)
    ابن طاهر أن الجبل الذي هو عليه كان له ولأبيه ولآبائه من قبل المازيار، وأن المازيار عند تولية الفضل بن سهل إياه طبرستان انتزع الجبل من يديه، وألزمه بابه، واستخف به، فشرط له عبد الله بن طاهر إن هو وثب بالمازيار، واحتال له أن يصير الجبل في يديه على حسب ما لم يزل، ولا يعرض له فيه، ولا يحارب.
    فرضي بذلك ابن عم المازيار، فكتب له عبد الله بن طاهر بذلك كتابا، وتوثق له فيه، فوعد ابن عم المازيار الحسن بن الحسين ورجالهم أن يدخلهم الجبل، فلما كان وقت الميعاد، أمر عبد الله بن طاهر الحسن بن الحسين أن يزحف للقاء الدري، ووجه عسكرا ضخما عليه قائد من قواده في جوف الليل، فوافوا ابن عم المازيار في الجبل، فسلم الجبال إليهم، وأدخلهم إليها، وصاف الدري العسكر الذي بإزائه، فلم يشعر المازيار وهو في قصره حتى وقفت الرجالة والخيل على باب قصره، والدري يحارب العسكر الآخر، فحصروا المازيار، وأنزلوه على حكم أمير المؤمنين المعتصم.
    وذكر عمرو بن سعيد الطبري أن المازيار كان يتصيد، فوافته الخيل في الصيد، فأخذ أسيرا، ودخل قصره عنوة، وأخذ جميع ما فيه، وتوجه الحسن بن الحسين بالمازيار، والدري يقاتل العسكر الذي بإزائه، لم يعلم بأخذ المازيار، فلم يشعر إلا وعسكر عبد الله بن طاهر من ورائه، فتقطعت عساكره، فانهزم ومضى يريد الدخول إلى بلاد الديلم، فقتل أصحابه، واتبعوه فلحقوه في نفر من أصحابه، فرجع يقاتلهم، فقتل وأخذ رأسه، فبعث به إلى عبد الله بن طاهر وقد صار المازيار في يده، فوعده عبد الله ابن طاهر إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنه قد علم أن الكتب عنده فأقر المازيار بذلك، فطلبت الكتب فوجدت، وهي عدة كتب، فأخذها عبد الله بن طاهر،
    (9/99)
    فوجه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم، وأمره ألا يخرج الكتب من يده ولا المازيار إلا إلى يد أمير المؤمنين، لئلا يحتال للكتب والمازيار، ففعل إسحاق ذلك، فأوصلها من يده إلى يد المعتصم، فسأل المعتصم المازيار عن الكتب، فلم يقر بها، فأمر بضرب المازيار حتى مات، وصلب إلى جانب بابك.
    وكان المأمون يكتب إلى المازيار: من عبد الله المأمون إلى جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار جرشاه محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين.
    وقد ذكر أن بدء وهي أمر الدري، كان أنه لما بلغه بعد ما ضم إليه المازيار الجيش نزول جيش محمد بن إبراهيم دنباوند، وجه أخاه بزرجشنس، وضم إليه محمدا وجعفرا ابني رستم الكلاري ورجالا من اهل الثغر واهل اهل الرويان، وأمرهم أن يصيروا إلى حد الرويان والري لمنع الجيش، وكان الحسن بن قارن قد كاتب محمدا وجعفرا ابني رستم، ورغبهما، وكانا من رؤساء أصحاب الدري، فلما التقى جيش الدري وجيش محمد بن إبراهيم، انقلب ابنا رستم وأهل الثغرين وأهل الرويان على بزرجشنس أخي الدري، فأخذوه أسيرا، وصاروا مع محمد بن إبراهيم على مقدمته، وكان الدري بموضع يقال له مزن في قصره مع أهله وجميع عسكره فلما بلغه غدر محمد وجعفر ابني رستم ومتابعة أهل الثغرين والرويان لهما وأسر أخيه بزرجشنس، اغتم لذلك غما شديدا، وأذعن أصحابه، وهمتهم أنفسهم، وتفرق عامتهم يطلبون الأمان، ويحتالون لأنفسهم فبعث الدري إلى الديالمة فصار ببابه مقدار أربعة آلاف رجل منهم، فرغبهم ومناهم ووصلهم ثم ركب وحمل الأموال معه، ومضى كأنه يريد أن يستنقذ أخاه ويحارب محمد بن إبراهيم، وإنما أراد الدخول إلى الديلم، والاستظهار بهم على محمد بن إبراهيم.
    فاستقبله محمد بن إبراهيم في جيشه، فكانت بينهم وقعة صعبه، فلما
    (9/100)
    مضى الدري هرب الموكلون بالسجن، وكسر أهل السجن أقيادهم، وخرجوا هاربين، ولحق كل إنسان ببلده واتفق خروج أهل سارية الذين كانوا في حبس المازيار وخروج هؤلاء الذين كانوا في حبس الدري في يوم واحد، وذلك في شعبان لثلاث عشرة ليلة خلت منه سنة خمس وعشرين ومائتين في قول محمد بن حفص وقال غيره: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين.
    وذكر عن داود بن قحذم أن محمد بن رستم، قال: لما التقى الدري ومحمد ابن إبراهيم بساحل البحر، بين الجبل والغيضة والبحر، والغيضة متصلة بالديلم، وكان الدري شجاعا بطلا، فكان يحمل بنفسه على أصحاب محمد حتى يكشفهم، ثم يحمل معارضة من غير هزيمة، يريد دخول الغيضة، شد عليه رجل من أصحاب محمد بن إبراهيم يقال له فند بن حاجبة، فأخذه أسيرا واسترجع، واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما كان معه من الأثاث والمال والدواب والسلاح، فأمر محمد بن إبراهيم بقتل بزرجشنس أخي الدري، ودعي بالدري فمد يده فقطعت من مرفقه، ومدت رجله فقطعت من الركبة، وكذا باليد الأخرى والرجل الأخرى، فقعد الدري على استه، ولم يتكلم ولم يتزعزع، فأمر بضرب عنقه وظفر محمد بن ابراهيم باصحاب الدري فحملهم مكبلين.
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنة ولي جعفر بن دينار اليمن.
    وفيها تزوج الحسن بن الأفشين أترنجة بنت أشناس، ودخل بها في العمري، قصر المعتصم في جمادى الآخرة، وأحضر عرسها عامة أهل سامرا فحدثت أنهم كانوا يغلفون العامة فيها بالغالية في تغار من فضة، وأن المعتصم كان يباشر بنفسه تفقد من حضرها.
    وفيها امتنع عبد الله الورثانى بورثان.
    (9/101)
    ذكر الخبر عن خلاف منكجور الاشروسنى
    وفيها خالف منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأذربيجان.
    ذكر الخبر عن سبب خلافه:
    ذكر أن الأفشين عند فراغه من أمر بابك ومنصرفه من الجبال ولي أذربيجان- وكانت من عمله- وإليه منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالا عظيما، فاحتجنه لنفسه، ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى المعتصم بخبر ذلك المال، وكتب منكجور يكذب ذلك، فوقعت المناظرة بين منكجور وعبد الله بن عبد الرحمن، حتى هم منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، فاستغاث عبد الله بأهل أردبيل، فمنعوه مما أراد به منكجور، وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين أن يوجه رجلا من قبله بعزل منكجور، فوجه رجلا من قواده في عسكر ضخم، فلما بلغ منكجور ذلك، خلع وجمع إليه الصعاليك، وخرج من أردبيل، فرآه القائد فواقعه، فانهزم منكجور، وصار إلى حصن من حصون أذربيجان- التي كان بابك أخربها- حصين في جبل منيع، فبناه وأصلحه، وتحصن فيه، فلم يلبث إلا أقل من شهر حتى وثب به أصحابه الذين كانوا معه في الحصن، فأسلموه ودفعوه إلى القائد الذي كان يحاربه، فقدم به إلى سامرا، فأمر المعتصم بحسبه، فاتهم الأفشين في أمره.
    وقيل: إن القائد الذي وجه لحرب منكجور هذا كان بغا الكبير.
    وقيل: إن بغا لما لقي منكجور خرج منكجور إليه بأمان.
    وفيها مات ياطس الرومي، وصلب بسامرا إلى جانب بابك.
    وفيها مات إبراهيم بن المهدي في شهر رمضان وصلى عليه المعتصم.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/102)
    ثم دخلت
    سنة خمس وعشرين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك كان قدوم الورثاني على المعتصم في المحرم بالأمان.
    وفيها قدم بغا الكبير بمنكجور سامرا.
    وفيها خرج المعتصم إلى السن، واستخلف أشناس.
    وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسي، وتوجه ووشحه في شهر ربيع الأول.
    وفيها أحرق غنام المرتد.
    وفيها غضب المعتصم على جعفر بن دينار، وذلك من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرية، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوما، وعزله عن اليمن، وولاها إيتاخ، ثم رضي عن جعفر.
    وفيها عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
    وفيها وجه عبد الله بن طاهر بمازيار، فخرج إسحاق بن إبراهيم إلى الدسكرة، فأدخله سامرا في شوال، وأمر بحمله على الفيل، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
    قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل جيلان خراسان
    والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان
    فأبى مازيار أن يركب الفيل، فأدخل على بغل بإكاف، فجلس المعتصم في دار العامة، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأمر فجمع بينه وبين الأفشين، وقد كان الأفشين حبس قبل ذلك بيوم، فأقر المازيار أن
    (9/103)
    الأفشين كان يكاتبه، ويصوب له الخلاف والمعصية، فأمر برد الأفشين إلى محبسه، وأمر بضرب مازيار، فضرب أربعمائة سوط وخمسين سوطا، وطلب ماء فسقي، فمات من ساعته.
    ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الافشين وحبسه
    وفيها غضب المعتصم على الأفشين فحبسه.
    ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه:
    ذكر أن الأفشين كان أيام حربه بابك ومقامه بأرض الخرمية، لا يأتيه هدية من أهل أرمينية إلا وجه بها إلى أشروسنة، فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر، فيكتب عبد الله إلى المعتصم بخبره، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمر بتعريف جميع ما يوجه به الأفشين من الهدايا إلى أشروسنة، ففعل عبد الله بذلك، وكان الأفشين كلما تهيأ عنده مال حمله أوساط اصحابه من الدنانير في وسطه، فأخبر عبد الله بذلك، فبينا هو في يوم من الأيام، وقد نزل رسل الأفشين معهم الهدايا نيسابور وجه إليهم عبد الله بن طاهر، وأخذهم ففتشهم، فوجد في أوساطهم همايين، فأخذها منهم، وقال لهم: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: هذه هدايا الأفشين، وهذه أمواله فقال:
    كذبتم، لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلي يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبذرقته، لأن هذا مال عظيم، وإنما أنتم لصوص.
    فأخذ عبد الله بن طاهر المال، وأعطاه الجند قبله، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال إلى أشروسنة، ولم تكتب إلي تعلمني لأبذرقه، فإن كان هذا المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجهه إلي أمير المؤمنين في كل سنة، وإن كان المال لك- كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحق بهذا المال، وإنما دفعته إلى الجند
    (9/104)
    لأني أريد أن أوجههم إلى بلاد الترك.
    فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد، ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أشروسنة، فأطلقهم عبد الله بن طاهر، فمضوا، فكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله بن طاهر وبين الأفشين.
    ثم جعل عبد الله يتتبع عليه، وكان الأفشين يسمع أحيانا من المعتصم كلاما يدل على أنه يريد أن يعزل آل طاهر عن خراسان، فطمع الأفشين في ولايتها، فجعل يكاتب مازيار، ويبعثه على الخلاف، ويضمن له القيام بالدفع عنه عند السلطان، ظنا منه أن مازيار إن خالف احتاج المعتصم إلى أن يوجهه لمحاربته، ويعزل عبد الله بن طاهر ويوليه خراسان، فكان من أمر مازيار ما قد مضى ذكره.
    وكان من أمر منكجور بأذربيجان ما قد وصفنا قبل، فتحقق عند المعتصم- بما كان من أمر الأفشين ومكاتبته مازيار بما كان يكاتبه به- ما كان اتهمه به من أمر منكجور، وأن ذلك كان عن رأي الأفشين وأمره إياه به، فتغير المعتصم للأفشين لذلك، وأحس الأفشين بذلك، وعلم تغير حاله عنده، فلم يدر ما يصنع، فعزم- فيما ذكر- على أن يهيئ أطوافا في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف، حتى يصير إلى بلاد أرمينية، ثم إلى بلاد الخزر، فعسر ذلك عليه، فهيأ سما كثيرا، وعزم على أن يعمل طعاما ويدعو المعتصم وقواده فيسقيهم، فان لم يجبه المعتصم استاذنه في قواد الأتراك، مثل أشناس وإيتاخ وغيرهم في يوم تشاغل أمير المؤمنين، فإذا صاروا إليه أطعمهم وسقاهم وسمهم، فإذا انصرفوا من عنده خرج من أول الليل، وحمل تلك الأطواف والآلة التي يعبر بها على ظهور الدواب حتى يجيء الى الزاب فيعبر باثقاله على الاطواف، ويعبر الدواب سباحة كما أمكنه، ثم يرسل الأطواف حتى يعبر في دجلة، ويدخل هو بلاد أرمينية، وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم
    (9/105)
    يصير هو إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أشروسنة، ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام، فكان في تهيئة ذلك.
    وطال به الأمر فلم يمكنه ذلك وكان قواد الأفشين ينوبون في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد، فكان واجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث، فذكر له واجن أن هذا الأمر لا أراه يمكن ولا يتم، فذهب ذلك الرجل الذي سمع قول واجن، فحكاه للأفشين وسمع بعض من يميل إلى واجن من خدم الأفشين وخاصته ما قال الأفشين في واجن، فلما انصرف واجن من النوبة في بعض الليل أتاه فأخبره أن قد ألقي ذلك إلى الأفشين، فحذر واجن على نفسه، فركب من ساعته في جوف الليل حتى أتى دار أمير المؤمنين، وقد نام المعتصم، فصار إلى إيتاخ، فقال: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة، فقال له إيتاخ: أليس الساعة كنت هاهنا! قد نام أمير المؤمنين فقال له واجن: ليس يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يعلم المعتصم بالذي قال واجن، فقال المعتصم: قل له ينصرف الليلة إلى منزله، ويبكر علي في غد فقال واجن: إن انصرفت الليلة ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته الليلة عندك فبيته إيتاخ عنده، فلما أصبح بكر به مع صلاة الغداة، فأوصله إلى المعتصم، فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم محمد بن حماد بن دنقش الكاتب، فوجهه يدعو الافشين، فجاء الافشين في سواد، فأمر المعتصم بأخذ سواده، وحبسه، فحبس في الجوسق، ثم بنى له حبسا مرتفعا، وسماه لؤلؤه داخل الجوسق، وهو يعرف الى الان بالافشين.
    وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين- وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد- يعلمه تحامله على ضياعه وناحيته، فكتب عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد يعلمه ما كتب به امير المؤمنين في امره، ويأمره بجمع أصحابه والتأهب له، فإذا قدم عليه الحسن ابن الأفشين بكتاب ولايته استوثق منه، وحمله إليه فكتب عبد الله بن طاهر
    (9/106)
    إلى الحسن بن الأفشين يعلمه أنه عزل نوح بن أسد، وأنه قد ولاه الناحية، ووجه إليه بكتاب عزل نوح بن أسد.
    فخرج الحسن بن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه، حتى ورد على نوح بن أسد، وهو يظن أنه والي الناحية، فأخذه نوح بن اسد، وشده وثاقا.
    ووجه به إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم وكان الحبس الذي بني للأفشين شبيها بالمنارة، وجعل في وسطها مقدار مجلسه، وكان الرجال ينوبون تحتها كما تدور وذكر عن هارون بن عيسى بن المنصور، أنه قال: شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي دواد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات، فاتى بالافشين ولم يكن بعد في الحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه ولم يترك في الدار أحد من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور، وصرف الناس.
    وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيات، وكان الذين أحضروا المازيار صاحب طبرستان والموبذ والمرزبان بن تركش- وهو أحد ملوك السغد- ورجلان من أهل السغد، فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة، فقال لهما محمد بن عبد الملك: ما شأنكما؟ فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم، فقال له محمد: تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذن، وهذا إمام، بنيا مسجدا بأشروسنة فضربت كل واحد منهما ألف سوط، وذلك أن بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا، أن أترك كل قوم على دينهم وما هم عليه، فوثب هذان على بيت كان فيه أصنامهم- يعني أهل أشروسنة- فأخرجا الأصنام، واتخذاه مسجدا، فضربتهما على هذا ألفا ألفا لتعديهما، ومنعهما القوم من بيعتهم فقال له محمد: ما كتاب عندك قد زينته بالذهب والجواهر والديباج، فيه الكفر بالله؟ قال: هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه أدب من آداب العجم، وما ذكرت من الكفر، فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى
    (9/107)
    أخذ الحلية منه، فتركته على حاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
    قال: ثم تقدم الموبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخنوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.
    وقال لي يوما: إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه، حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل، ولبست النعل، غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة- يعني لم يطل ولم يختتن.
    فقال الأفشين: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقة هو في دينه؟
    - وكان الموبذ مجوسيا أسلم بعد على يد المتوكل ونادمه- قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوة تطلع علي منها وتعرف أخباري منها؟
    قال: لا، قال: أفليس كنت ادخلك الى وابثك سري وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذا أفشيت علي سرا أسررته إليك.
    ثم تنحى الموبذ، وتقدم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هل تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، فقال له المرزبان: يا ممخرق، كم تدافع وتموه! قال له الأفشين: يا طويل اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدي قال:
    فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة من
    (9/108)
    عبده فلان بن فلان، قال: بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقيت لفرعون حين قال لقومه: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم فقال له إسحاق بن ابراهيم بن مصعب: ويحك يا خيذر! كيف تحلف بالله لنا فنصدقك ونصدق يمينك ونجريك مجرى المسلمين، وأنت تدعي ما ادعى فرعون! قال: يا أبا الحسين، هذه سورة قرأها عجيف على علي بن هشام، وأنت تقرؤها علي، فانظر غدا من يقرؤها عليك! قال: ثم قدم مازيار صاحب طبرستان، فقالوا للأفشين: تعرف هذا؟
    قال: لا، قالوا للمازيار: تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، فقالوا له: هذا المازيار؟ قال: نعم، قد عرفته الآن، قالوا: هل كاتبته؟
    قال: لا، قالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار، أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك وغير بابك، فاما بابك فانه بحمقه قتيل نفسه ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلا أن دلاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليه لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك، والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبوس، وهؤلاء الذباب- يعني المغاربة- إنما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين- يعني الأتراك- فإنما هي ساعه حتى تنفذ سهامهم، ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم فقال الأفشين: هذا يدعي على أخيه وأخي دعوى لا تجب علي، ولو كنت كتبت بهذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بناحيتي كان غير مستنكر، لأني إذا نصرت الخليفة بيدي، كنت بالحيلة أحرى أن أنصره لآخذ بقفاه، وآتي به الخليفة لأحظى به عنده، كما حظي
    (9/109)
    به عبد الله بن طاهر عند الخليفة ثم نحى المازيار.
    ولما قال الأفشين للمرزبان التركشى ما قال، وقال لإسحاق بن إبراهيم ما قال، زجر ابن ابى دواد الأفشين، فقال له الأفشين: أنت يا أبا عبد الله ترفع طيلسانك بيدك، فلا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة، فقال له ابن ابى دواد: أمطهر أنت؟ قال: لا، قال: فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة! قال: أوليس في دين الإسلام استعمال التقية؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت، قال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع قلفة! قال: تلك ضرورة تعنيني فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلا آمن معه خروج نفسي، ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام، فقال ابن ابى دواد: قد بان لكم أمره يا بغا- لبغا الكبير أبي موسى التركي- عليك به! قال: فضرب بيده بغا على منطقته فجذبها، فقال قد كنت أتوقع هذا منكم قبل اليوم، فقلب بغا ذيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء من عند عنقه، ثم اخرجه من باب الوزيري الى محبسه.
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وأترنجة بنت أشناس إلى سامرا.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود
    (9/110)
    ثم دخلت
    سنة ست وعشرين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    خبر وثوب على بن إسحاق برجاء بن ابى الضحاك
    فمن ذلك ما كان فيها من وثوب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ- وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين- برجاء بن أبي الضحاك، وكان على الخراج، فقتله، وأظهر الوسواس، ثم تكلم أحمد بن أبي دواد فيه، فأطلق من محبسه، فكان الحسن بن رجاء يلقاه في طريق سامرا، فقال البحتري الطائي:
    عفا علي بن إسحاق بفتكته ... على غرائب تيه كن في الحسن
    أنسته تنقيعه في اللفظ نازلة ... لم تبق فيه سوى التسليم للزمن
    فلم يكن كابن حجر حين ثار ولا ... أخي كليب ولا سيف بن ذي يزن
    ولم يقل لك في وتر طلبت به ... تلك المكارم لا قعبان من لبن
    وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، فصلى عليه المعتصم في دار محمد
    . ذكر الخبر عن موت الافشين
    وفيها مات الأفشين.
    ذكر الخبر عن موته وما فعل به عند موته وبعده:
    ذكر عن حمدون بن إسماعيل، أنه قال: لما جاءت الفاكهة الحديثة، جمع المعتصم من الفواكه الحديثة في طبق، وقال لابنه هارون الواثق: اذهب
    (9/111)
    بهذه الفاكهة بنفسك إلى الأفشين، فأدخلها إليه فحملت مع هارون الواثق حتى صعد بها اليه في البناء الذى بنى له الذى يسمى لؤلؤه، فحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، فافتقد بعض الفاكهة، إما الإجاص وإما الشاهلوج، فقال للواثق: لا إله الا الله، ما أحسنه من طبق، ولكن ليس لي فيه إجاص ولا شاهلوج! فقال له الواثق: هو ذا، انصرف أوجه به إليك، ولم يمس من الفاكهة شيئا، فلما أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين: أقرئ سيدي السلام، وقل له: أسألك أن توجه إلي ثقة من قبلك يؤدي عني ما أقول، فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل- وكان حمدون في أيام المتوكل في حبس سليمان بن وهب في حبس الأفشين هذا، فحدث بهذا الحديث وهو فيه:
    قال حمدون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين، فقال لي: إنه سيطول عليك فلا تحتبس قال: فدخلت عليه، وطبق الفاكهة بين يديه لم يمس منه واحدة فما فوقها، فقال لي: اجلس، فجلست فاستمالني بالدهقنة، فقلت: لا تطول، فإن أمير المؤمنين قد تقدم إلي ألا أحتبس عندك، فأوجز.
    فقال: قل لأمير المؤمنين، أحسنت إلي وشرفتني، وأوطأت الرجال عقبي، ثم قبلت في كلاما لم يتحقق عندك، ولم تتدبره بعقلك، كيف يكون هذا، وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك! تخبر بأني دسست إلى منكجور أن يخرج، وتقبله، وتخبر أني قلت للقائد الذي وجهته إلى منكجور:
    لا تحاربه، واعذر، وإن أحسست بأحد منا فانهزم من بين يديه، أنت رجل قد عرفت الحرب، وحاربت الرجال، وسست العساكر، هذا يمكن رأس عسكر يقول لجند يلقون قوما: افعلوا كذا وكذا، هذا ما لا يسوغ لأحد أن يفعله، ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدو قد عرفت سببه، وأنت أولى بي، إنما أنا عبد من عبيدك، وصنيعك، ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربى عجلا له حتى أسمنه وكبر، وحسنت
    (9/112)
    حاله، وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم: ويحك! لم تربي هذا الأسد؟ هذا سبع، وقد كبر، والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه! فقال لهم: ويحك هذا عجل بقر، ما هو سبع، فقالوا: هذا سبع، سل من شئت عنه، وقد تقدموا إلى جميع من يعرفونه، فقالوا له: إن سألكم عن العجل، فقولوا له: هذا سبع، فكلما سأل الرجل إنسانا عنه، وقال له: أما ترى هذا العجل ما أحسنه! قال الآخر: هذا سبع، هذا أسد، ويحك! فأمر بالعجل فذبح، ولكني أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا! الله الله في امرى، اصطنعتنى وشرفتني وأنت سيدي ومولاي، أسأل الله أن يعطف بقلبك علي قال حمدون: فقمت فانصرفت، وتركت الطبق على.
    حاله لم يمس منه شيئا، ثم ما لبثنا إلا قليلا، حتى قيل: إنه يموت أو قد مات، فقال المعتصم:
    أروه ابنه، فأخرجوه فطرحوه بين يديه، فنتف لحيته وشعره، ثم أمر به فحمل إلى منزل إيتاخ.
    قال: وكان أحمد بن أبي دواد دعا به في دار العامة من الحبس، فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا خيدر، أقلف، قال: نعم، وإنما أراد ابن أبي دواد أن يشهد عليه، فإن تكشف نسب إلى الخرع، وإن لم يتكشف صح عليه أنه أقلف، فقال: نعم، أنا أقلف، وحضر الدار ذلك اليوم جميع القواد والناس، وكان ابن ابى دواد أخرجه إلى دار العامة قبل مصير الواثق إليه بالفاكهة، وقبل مصير حمدون بن إسماعيل إليه.
    قال حمدون: فقلت له: أنت أقلف كما زعمت؟ فقال الأفشين:
    أخرجني إلى مثل ذلك الموضع، وجميع القواد والناس قد اجتمعوا، فقال لي ما قال، وإنما أراد أن يفضحني، إن قلت له: نعم لم يقبل قولي، وقال لي: تكشف، فيفضحني بين الناس، فالموت كان أحب إلي من أن أتكشف
    (9/113)
    بين أيدي الناس، ولكن يا حمدون إن أحببت أن أتكشف بين يديك حتى تراني فعلت، قال حمدون: فقلت له: أنت عندي صدوق، وما أريد أن تكشف.
    فلما انصرف حمدون فأبلغ المعتصم رسالته، أمر بمنع الطعام منه إلا القليل، فكان يدفع إليه في كل يوم رغيف حتى مات، فلما ذهب به بعد موته إلى دار إيتاخ، أخرجوه فصلبوه على باب العامة ليراه الناس، ثم طرح بباب العامة مع خشبته، فأحرق وحمل الرماد، وطرح في دجلة.
    وكان المعتصم حين أمر بحبسه وجه سليمان بن وهب الكاتب يحصي جميع ما في دار الأفشين ويكتبه في ليلة من الليالي، وقصر الأفشين بالمطيرة، فوجد في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب، عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران أبيضان مشتبكان، عليهما ذهب، فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين، وظن أنه جوهر له قيمة، وكان ذلك ليلا، فلما أصبح ونزع عنه شباك الذهب، وجده حجرا شبيها بالصدف الذي يسمى الحبرون، من جنس الصدف الذي يقال له البوق، من صدف اخرج من منزله صور السماجة وغيرها وأصنام وغير ذلك، والاطواف والخشب التي كان أعدها، وكان له متاع بالوزيرية، فوجد فيه أيضا صنم آخر، ووجدوا في كتبه كتابا من كتب المجوس يقال له زراوه وأشياء كثيرة من الكتب، فيها ديانته التي كان يدين بها ربه.
    وكان موت الأفشين في شعبان من سنة ست وعشرين ومائتين.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بأمر أشناس، وكان أشناس.
    حاجا في هذه السنة، فولي كل بلدة يدخلها فدعي له على جميع المنابر التي
    (9/114)
    مر بها من سامرا إلى مكة والمدينة.
    وكان الذي دعا له على منبر الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، وعلى منبر فيد هارون بن محمد بن أبي خالد المروروذي، وعلى منبر المدينة محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان، وعلى منبر مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى، وسلم عليه في هذه الكور كلها بالإمارة، وكانت له ولايتها إلى أن رجع إلى سامرا.
    (9/115)
    ثم دخلت
    سنة سبع وعشرين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر خروج ابى حرب المبرقع
    فمن ذلك ما كان من خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخلافه على السلطان.
    ذكر الخبر عن سبب خروجه وما آل إليه أمره:
    ذكر لي بعض أصحابي ممن ذكر أنه خبير بأمره، أن سبب خروجه على السلطان كان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط كان معه، فاتقته بذراعها، فأصاب السوط ذراعها، فأثر فيها، فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها، وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه، فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غار، فضربه به حتى قتله، ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن، فطلبه السلطان فلم يعرف له خبر، وكان أبو حرب يظهر بالنهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه متبرقعا، فيراه الرائي فيأتيه، فيذكره ويحرضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان وما يأتي إلى الناس ويعيبه، فما زال ذلك دأبه حتى استجاب له قوم من حراثي أهل تلك الناحية وأهل القرى، وكان يزعم أنه أموي، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني، فلما كثرت غاشيته وتباعه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية، منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مطاعا في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق، فاتصل الخبر
    (9/116)
    بالمعتصم وهو عليل، علته التي مات فيها، فبعث إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء الف من الجند، فلما صار رجاء إليه وجده في عالم من الناس.
    فذكر الذي أخبرني بقصته أنه كان في زهاء مائة ألف، فكره رجاء مواقعته وعسكر بحذائه، وطاوله، حتى كان أول عمارة الناس الأرضين وحراثتهم، وانصرف من كان من الحراثين مع أبي حرب الى الحراثة وارباب الارضين الى ارضيهم، وبقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين، ناجزه رجاء الحرب، فالتقى العسكران: عسكر رجاء وعسكر المبرقع، فلما التقوا تأمل رجاء عسكر المبرقع، فقال لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلا له فروسية غيره، وإنه سيظهر لأصحابه من نفسه بعض ما عنده من الرجلة، فلا تعجلوا عليه قال: وكان الأمر كما قال رجاء، فما لبث المبرقع أن حمل على عسكر رجاء، فقال رجاء لأصحابه: أفرجوا له، فأفرجوا له، حتى جاوزهم ثم كر راجعا، فأمر رجاء أصحابه أن يفرجوا له، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ورجع إلى عسكر نفسه، ثم أمهل رجاء، وقال لأصحابه: إنه سيحمل عليكم مرة أخرى، فأفرجوا له، فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك، وخذوه ففعل المبرقع ذلك، فحمل على أصحاب رجاء، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعا فأحاطوا به، فأخذوه فأنزلوه عن دابته.
    قال: وقد كان قدم على رجاء حين ترك معاجلة المبرقع الحرب من قبل المعتصم مستحث، فأخذ الرسول فقيده إلى أن كان من أمره، وأمر أبي حرب ما كان مما ذكرنا، ثم أطلقه.
    قال: فلما كان يوم قدوم رجاء بأبي حرب على المعتصم، عزله المعتصم على ما فعل برسوله، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! وجهتني في ألف إلى مائة ألف، فكرهت أن أعاجله فأهلك ويهلك من معي، ولا نغني شيئا، فتمهلت حتى خف من معه، ووجدت فرصة،
    (9/117)
    ورأيت لحربه وجها وقياما، فناهضته وقد خف من معه وهو في ضعف، ونحن في قوة، وقد جئتك بالرجل أسيرا.
    قال أبو جعفر: وأما غير من ذكرت أنه حدثني حديث أبي حرب على ما وصفت، فإنه زعم أن خروجه إنما كان في سنة ست وعشرين ومائتين بالرملة، فقالوا: إنه سفياني، فصار في خمسين ألفا من أهل اليمن وغيرهم، واعتقد ابن بيهس وآخران معه من أهل دمشق، فوجه إليهم، المعتصم رجاء الحضاري في جماعة كبيرة، فواقعهم بدمشق، فقتل من أصحاب ابن بيهس وصاحبيه نحوا من خمسة آلاف، وأخذ ابن بيهس أسيرا، وقتل صاحبيه، وواقع أبا حرب بالرملة، فقتل من أصحابه نحوا من عشرين ألفا، وأسر أبا حرب، فحمل إلى سامرا، فجعل وابن بيهس في المطبق وفي هذه السنة أظهر جعفر بن مهرجش الكردي الخلاف، فبعث إليه المعتصم في المحرم إيتاخ إلى جبال الموصل لحربه، فوثب بجعفر بعض أصحابه فقتله.
    وفيها كانت وفاة بشر بن الحارث الحافي في شهر ربيع الأول وأصله من مرو
    ذكر الخبر عن وفاه المعتصم والعله التي مات بها
    وفيها كانت وفاة المعتصم وذلك- فيما ذكر- يوم الخميس، فقال بعضهم: لثماني عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لساعتين مضتا من النهار.
    ذكر الخبر عن العلة التي كانت منها وفاته وقدر مدة عمره وصفته:
    ذكر أن بدء علته أنه احتجم أول يوم من المحرم، واعتل عندها، فذكر عن محمد بن أحمد بن رشيد عن زنام الزامر، قال: قد وجد المعتصم في علته التي توفى فيها افاقه، فقال: هيئوا الى الزلال لاركب، فركب وركبت معه، فمر في دجلة بإزاء منازله، فقال: يا زنام، ازمر لي:
    (9/118)
    يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى
    لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى
    والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى
    قال: فما زلت أزمر هذا الصوت حتى دعا برطلية، فشرب منها قدحا وجعلت أزمره وأكرره، وقد تناول منديلا بين يديه، فما زال يبكي ويمسح دموعه فيه وينتحب، حتى رجع إلى منزله، ولم يستتم شرب الرطلية.
    وذكر عن علي بن الجعدانة، قال: لما احتضر المعتصم جعل يقول:
    ذهبت الحيل ليست حيلة، حتى أصمت.
    وذكر عن غيره أنه جعل يقول: إني أخذت من بين هذا الخلق.
    وذكر عنه أنه قال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت.
    ما فعلت فلما مات دفن بسامرا، فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين.
    وقيل: كان مولده سنة ثمانين ومائة في شعبان وقيل: كان في سنة تسع وسبعين ومائة، فإن كان مولده سنة ثمانين ومائة فإن عمره كله كان ستا وأربعين سنة وسبعة أشهر وثمانية عشر يوما.
    وإن كان مولده سنة تسع وسبعين ومائة، فإن عمره كان سبعا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وكان- فيما ذكر- أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا مشرب اللون حمرة، حسن العينين.
    وكان مولده بالخلد وقال بعضهم: ولد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن.
    وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وعمره كان ثمانيا وأربعين سنة.
    ومات عن ثمانية بنين وثمان بنات، وملك ثمان سنين وثمانية أشهر، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
    قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين
    اذهب فنعم الحفيظ كنت على ... الدنيا ونعم الظهير للدين
    لا جبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
    (9/119)
    وقال مروان بن أبي الجنوب وهو ابن أبي حفصة:
    أبو إسحاق مات ضحى فمتنا ... وأمسينا بهارون حيينا
    لئن جاء الخميس بما كرهنا ... لقد جاء الخميس بما هوينا
    ذكر الخبر عن بعض أخلاق المعتصم وسيره
    ذكر عن ابن ابى دواد أنه ذكر المعتصم بالله، فأسهب في ذكره، وأكثر في وصفه، وأطنب في فضله، وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه وطيب مركبه ولين جانبه، وجميل عشرته، فقال: قال لي يوما ونحن بعمورية: ما تقول في البسر يا أبا عبد الله؟ قلت: يا أمير المؤمنين، نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق، قال: صدقت قد وجهت إلى مدينة السلام، فجاءوا بكباستين، وعلمت أنك تشتهيه ثم قال: يا إيتاخ، هات إحدى الكباستين، فجاء بكباسة بسر، فمد ذراعه، وقبض عليها بيده، وقال:
    كل بحياتي عليك من يدي، فقلت: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! بل تضعها فآكل كما أريد، قال: لا والله إلا من يدي، قال: فو الله ما زال حاسرا عن ذراعه، ومادا يده، وانا اجتنى من العذق، وآكل حتى رمى به خاليا ما فيه بسرة.
    قال: وكنت كثيرا ما أزامله في سفره ذلك، إلى أن قلت له يوما: يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض مواليك وبطانتك فاسترحت مني إليهم مرة، ومنهم إلي مرة أخرى، كان ذلك أنشط لقلبك، وأطيب لنفسك، وأشد لراحتك، قال: فإن سيما الدمشقي يزاملني اليوم، فمن يزاملك أنت؟ قلت: الحسن ابن يونس، قال: فأنت وذاك قال: فدعوت الحسن فزاملني وتهيأ أن ركب المعتصم بغلا، فاختار أن يكون منفردا، قال: فجعل يسير بسير بعيري، فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه إلي، وإذا أردت أن أكلمه خفضت رأسي،
    (9/120)
    قال: فانتهينا الى واد ولم نعرف غوره، وقد خلفنا العسكر وراءنا، فقال لي: مكانك حتى أتقدم فأعرف غور الماء وأطلب قلته، واتبع أنت موضع سيري، قال: فتقدم فدخل الوادي.
    وجعل يطلب قلة الماء، فمره ينحرف عن يمينه، ومره ينحرف عن شماله، وتارة يمشي لسننه، وأنا خلفه متبع لأثره حتى قطعنا الوادي قال: واستخرجت منه لأهل الشاش ألفي ألف درهم لكري نهر لهم اندفن في صدر الإسلام، فأضر ذلك بهم، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لي ولك، تأخذ مالي لأهل الشاش وفرغانة! قلت: هم رعيتك يا أمير المؤمنين، والأقصى والأدنى في حسن نظر الإمام سواء.
    وقال غيره: إنه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل.
    وذكر عن الفضل بن مروان أنه قال: لم يكن للمعتصم لذة في تزيين البناء، وكانت غايته فيه الأحكام قال: ولم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب.
    وذكر محمد بن راشد، قال: قال لي أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم:
    دعاني أمير المؤمنين المعتصم يوما، فدخلت عليه وعليه صدرة وشي ومنطقة ذهب وخف أحمر، فقال لي: يا إسحاق، أحببت أن أضرب معك بالصوالجة، فبحياتي عليك إلا لبست مثل لباسي، فاستعفيته من ذلك فأبى، فلبست مثل لباسه، ثم قدم إليه فرس محلاة بحلية الذهب، ودخلنا الميدان، فلما ضرب ساعة، قال لي: أراك كسلان، وأحسبك تكره هذا الزي، فقلت:
    هو ذاك يا أمير المؤمنين، فنزل وأخذ بيدي، ومضى يمشي وأنا معه إلى أن صار إلى حجرة الحمام، فقال: خذ ثيابي يا إسحاق، فأخذت ثيابه حتى تجرد، ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت، ثم دخلنا انا وهو الحمام، وليس معنا غلام، فقمت عليه ودلكته، وتولى أمير المؤمنين المعتصم مني مثل ذلك، وأنا في كل ذلك أستعفيه، فيأبى علي، ثم خرج من الحمام فأعطيته ثيابه، ولبست ثيابي، ثم أخذ بيدي ومضى يمشي، وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فقال:
    (9/121)
    يا إسحاق، جئني بمصلى ومخدتين، فجئته بذلك، فوضع المخدتين، ونام على وجهه، ثم قال: هات مصلى ومخدتين، فجئت بهما، فقال: ألقه ونم عليه بحذائي، فحلفت ألا أفعل، فجلست عليه، ثم حضر إيتاخ التركي وأشناس، فقال لهما: امضيا إلى حيث إذا صحت سمعتما، ثم قال: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل أيه وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيب على أمان من غضبك، قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول، فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها، قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب.
    وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أنه قال: أتيت أمير المؤمنين المعتصم بالله يوما وعنده قينة كان معجبا بها، وهي تغنيه، فلما سلمت وأخذت مجلسي، قال لها: خذي فيما كنت فيه، فغنت فقال لي: كيف تراها يا إسحاق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق وتختله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور، فقال: يا إسحاق، لصفتك لها احسن منها ومن غنائها، وقال لابنه هارون: اسمع هذا الكلام.
    وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: قلت للمعتصم في شيء، فقال لي: يا إسحاق، إذا نصر الهوى بطل الرأي، فقلت له: كنت أحب
    (9/122)
    يا أمير المؤمنين أن يكون معي شبابي، فأقوم من خدمتك بما أنويه، قال لي: أولست كنت تبلغ إذ ذاك جهدك؟ قلت: بلى، قال: فأنت الآن تبلغ جهدك فسيان إذا.
    وذكر عن أبي حسان أنه قال: كانت أم أبي إسحاق المعتصم من مولدات الكوفة يقال لها ماردة.
    وذكر عن الفضل بن مروان، أنه قال: كانت أم المعتصم ماردة سغدية، وكان أبوها نشأ بالسواد، قال: أحسبه بالبندنيجين.
    وكان للرشيد من ماردة مع أبي إسحاق، أبو إسماعيل، وأم حبيب، وآخران لم يعرف اسماهما.
    وذكر عن احمد بن ابى دواد أنه قال: تصدق المعتصم ووهب على يدي وبسببي بقيمة مائة ألف ألف درهم
    . خلافة هارون الواثق أبي جعفر
    وبويع في يوم توفى المعتصم ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم، وذلك في يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس.
    وهلك هذه السنة توفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وفيها ملكت بعده امرأته تذوره، وابنها ميخائيل بن توفيل صبي.
    وحج بالناس فيها جعفر بن المعتصم، وكانت أم الواثق خرجت معه تريد الحج، فماتت بالحيرة لأربع خلون من ذي القعدة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى.
    (9/123)
    ثم دخلت
    سنة ثمان وعشرين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من الواثق إلى أشناس أن توجه وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان.
    وفيها مات أبو الحسن المدائني في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي وفيها مات حبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر.
    وفيها حج سليمان بن عبد الله بن طاهر وفيها غلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهما وأصاب الناس في الموقف حر شديد ثم مطر شديد فيه برد، فأضر بهم شدة الحر، ثم شده البرد في ساعه واحده، ومطروا بمنى في يوم النحر مطرا شديدا لم يروا مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة قتلت عدة من الحاج.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/124)
    ثم دخلت
    سنة تسع وعشرين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن حبس الواثق الكتاب وإلزامهم الأموال
    فمن ذلك ما كان من حبس الواثق بالله الكتاب وإلزامهم أموالا، فدفع أحمد بن إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، وأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط، فضربه- فيما قيل- نحوا من ألف سوط، فأدى ثمانين ألف دينار، وأخذ من سليمان بن وهب كاتب ايتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر الف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير صلحا مائة ألف وأربعين ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم ونصب محمد بن عبد الملك لابن ابى دواد وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم، فنظر في أمرهم وأقيموا للناس ولقوا كل جهد.
    ذكر الخبر عن السبب الذي بعث الواثق على فعله ما ذكرت بالكتاب في هذه السنة:
    ذكر عن عزون بن عبد العزيز الأنصاري، أنه قال: كنا ليلة في هذه السنة عند الواثق، فقال: لست أشتهي الليلة النبيذ، ولكن هلموا نتحدث الليلة، فجلس في رواقه الأوسط في الهاروني في البناء الأول الذي كان إبراهيم ابن رباح بناه، وقد كان في أحد شقي ذلك الرواق قبة مرتفعة في السماء بيضاء، كأنها بيضه الا قدر ذراع- فيما ترى العين- حولها في وسطها ساج منقوش مغشى باللازورد والذهب، وكانت تسمى قبة المنطقة، وكان ذلك الرواق يسمى رواق قبة المنطقة
    (9/125)
    قال: فتحدثنا عامة الليل، فقال الواثق: من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدي الرشيد على البرامكة فأزال نعمتهم؟ قال عزون: فقلت: أنا والله أحدثك يا أمير المؤمنين، كان سبب ذلك أن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخياط، فأرسل إليها فاعترضها، فرضي جمالها وعقلها وحسن أدبها، فقال لعون: ما تقول في ثمنها؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمر ثمنها واضح مشهور، حلفت بعتقها وعتق رقيقي جميعا وصدقة مالي الأيمان المغلظة التي لا مخرج منها لي، وأشهدت علي بذلك العدول الا انقص ثمنها عن مائة ألف دينار، ولا أحتال في ذلك بشيء من الحيل، هذه قضيتها فقال أمير المؤمنين:
    قد أخذتها منك بمائة ألف دينار، ثم أرسل إلى يحيى بن خالد يخبره بخبر الجارية، ويأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار، فقال يحيى: هذا مفتاح سوء، إذا اجترأ في ثمن جارية واحدة على طلب مائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك، فأرسل يخبره أنه لا يقدر على ذلك، فغضب عليه الرشيد، وقال: ليس في بيت مالي مائة ألف دينار، فأعاد عليه: لا بد منها، فقال يحيى: اجعلوها دراهم، ليراها فيستكثرها، فلعله يردها، فأرسل بها دراهم، وقال: هذه قيمة مائة ألف دينار، وأمر أن توضع في رواقه الذي يمر فيه إذا أراد المتوضأ لصلاة الظهر قال: فخرج الرشيد في ذلك الوقت، فإذا جبل من بدر، فقال: ما هذا؟ قالوا: ثمن الجارية، لم تحضر دنانير، فأرسل قيمتها دراهم، فاستكثر الرشيد ذلك، ودعا خادما له، فقال: اضمم هذه إليك، واجعل لي بيت مال لاضم اليه ما أريده وسماه بيت مال العروس، وأمر برد الجارية إلى عون، وأخذ في التفتيش عن المال، فوجد البرامكة قد استهلكوه، فأقبل يهم بهم ويمسك، فكان يرسل إلى الصحابة وإلى قوم من أهل الأدب من غيرهم فيسامرهم، ويتعشى معهم، فكان فيمن يحضر إنسان كان معروفا بالأدب، وكان يعرف بكنيته يقال له أبو العود، فحضر ليلة فيمن حضره، فأعجبه حديثه، فأمر خادما له أن يأتي يحيى بن خالد
    (9/126)
    إذا أصبح، فيأمره أن يعطيه ثلاثين ألف درهم ففعل، فقال يحيى لأبي العود: أفعل، وليس بحضرتنا اليوم مال، غدا يجيء المال، ونعطيك إن شاء الله ثم دافعه حتى طالت به الأيام، قال: فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتا يحرضه فيه على البرامكة- وقد كان شاع في الناس ما كان يهم به الرشيد في أمرهم- فدخل عليه ليلة، فتحدثوا، فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة:
    وعدت هند وما كانت تعد ... ليت هندا أنجزتنا ما تعد
    واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
    فقال الرشيد: أجل والله، إنما العاجز من لا يستبد، حتى انقضى المجلس وكان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادما يأتيه بأخباره، وأصبح يحيى غاديا على الرشيد، فلما رآه قال: قد أردت البارحة أن أرسل إليك بشعر أنشدنيه بعض من كان عندي، ثم كرهت أن أزعجك، فأنشده البيتين، فقال:
    ما أحسنهما يا أمير المؤمنين! وفطن لما أراد، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم، فسأله عن إنشاد ذلك الشعر، فقال: أبو العود أنشده، فدعا الوزير يحيى بأبي العود، فقال له: إنا كنا قد لويناك بمالك، وقد جاءنا مال، ثم قال لبعض خدمه: اذهب فأعطه ثلاثين ألف درهم من بيت مال أمير المؤمنين، وأعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إياه، واذهب إلى الفضل وجعفر فقل لهما هذا رجل مستحق أن يبر، وقد كان أمير المؤمنين أمر له بمال فأطلت مطله، ثم حضر المال، فأمرت أن يعطى ووصلته من عندي صلة، وقد أحببت أن تصلاه، فسألا: بكم وصله قال: بعشرين ألف درهم، فوصله كل واحد منهما بعشرين ألف درهم، فانصرف بذلك المال كله إلى منزله وجد الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم، وأزال نعمتهم، وقتل جعفرا وصنع ما صنع
    (9/127)
    فقال الواثق: صدق والله جدي، إنما العاجز من لا يستبد! وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها.
    قال عزون: أحسبه: سيوقع بكتابه، فما مضى أسبوع حتى أوقع بكتابه، وأخذ إبراهيم بن رباح وسليمان بن وهب وأبا الوزير وأحمد بن الخصيب وجماعتهم.
    قال: وأمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب ايتاخ، واخذه بمائتي ألف درهم- وقيل دينار- فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم، وسال ان يؤخذ بالباقي عشرين شهرا، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد.
    وفي هذه السنة ولي شارباميان لإيتاخ اليمن وشخص إليها في شهر ربيع الآخر.
    وفيها ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/128)
    ثم دخلت
    سنة ثلاثين ومائتين
    (ذكر خبر الخبر عما كان فيها من الأحداث)
    ذكر مسير بغا الى الاعراب بالمدينة
    فمن ذلك ما كان من توجيه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين عاثوا بالمدينة وما حواليها.
    ذكر الخبر عن ذلك: ذكر ان بدء ذلك كان أن بني سليم كانت تطاول على الناس حول المدينة بالشر، وكانوا إذا وردوا سوقا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا، ثم ترقى بهم الأمر إلى ان أوقعوا بالحجاز بناس من بني كنانة وباهلة، فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثلاثين ومائتين، وكان رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي، وهو يومئذ عامل المدينة، مدينة الرسول ص حماد بن جرير الطبري- وكان الواثق وجه حمادا مسلحة للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب، في مائتي فارس من الشاكرية- فتوجه إليهم حماد في جماعة من الجند ومن تطوع للخروج من قريش والأنصار ومواليهم وغيرهم من أهل المدينة، فسار إليهم فلقيته طلائعهم وكانت بنو سليم كارهة للقتال، فأمر حماد بن جرير بقتالهم، وحمل عليهم بموضع يقال له الرويثة من المدينة على ثلاث مراحل، وكانت بنو سليم يومئذ وامدادها جاءوا من البادية في ستمائه وخمسين، وعامة من لقيهم من بني عوف من بنى سليم، ومعهم اشهب
    (9/129)
    ابن دويكل بن يحيى بن حمير العوفي وعمه سلمه بن يحيى وعزيره بن قطاب اللبيدي من بني لبيد بن سليم، فكان هؤلاء قوادهم، وكانت خيلهم مائة وخمسين فرسا، فقاتلهم حماد واصحابه، ثم أتت بنى سليم امدادها خمسمائة من موضع فيه بدوهم، وهو موضع يسمى أعلى الرويثة، بينها وبين موضع القتال أربعة أميال، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت سودان المدينة بالناس، وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار، فصلوا بالقتال حتى قتل حماد وعامة أصحابه، وقتل ممن ثبت من قريش والأنصار عدد صالح، وحازت بنو سليم الكراع والسلاح والثياب، وغلظ أمر بني سليم، فاستباحت القرى والمناهل، فيما بينها وبين مكة والمدينة، حتى لم يمكن أحدا أن يسلك ذلك الطريق، وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب.
    فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في الشاكرية والأتراك والمغاربة، فقدمها بغا في شعبان سنة ثلاثين ومائتين، وشخص إلى حرة بني سليم، لأيام بقين من شعبان، وعلى مقدمته طردوش التركي، فلقيهم ببعض مياه الحرة، وكانت الوقعة بشق الحرة من وراء السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا يأوون إليها- والسوارقية حصون- وكان جل من لقيه منهم من بني عوف فيهم عزيزة بن قطاب والأشهب- وهما رأسا القواد يومئذ- فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا، وأسر مثلهم، فانهزم الباقون، وانكشف بنو سليم لذلك، ودعاهم بغا بعد الوقعة إلى الأمان على حكم أمير المؤمنين الواثق، واقام بالسوارقيه فاتوه، واجتمعوا إليه، وجمعهم من عشرة واثنين وخمسة وواحد، وأخذ من جمعت السوارقيه من غير بني سليم من أفناء الناس، وهربت خفاف بني سليم إلا أقلها، وهي التي كانت تؤذي الناس، وتطرق الطريق، وجل من صار في يده ممن ثبت من بني عوف، وكان آخر من أخذ منهم من بني حبشي من بني سليم، فاحتبس عنده من وصف بالشر
    (9/130)
    والفساد، وهم زهاء ألف رجل، وخلى سبيل سائرهم، ثم رحل عن السوارقية بمن صار في يده من أسارى بني سليم ومستأمنيهم إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ومائتين، فحبسهم فيها في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة حاجا في ذي الحجة، فلما انقضى الموسم انصرف إلى ذات عرق، ووجه إلى بني هلال من عرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا، فأخذ من مردتهم وعتاتهم نحوا من ثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ورجع من ذات عرق وهي على مرحلة من البستان، بينها وبين مكة مرحلتان
    . ذكر الخبر عن وفاه عبد الله بن طاهر
    وفي هذه السنة مات أبو العباس عبد الله بن طاهر بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ بعد موت أشناس التركي بتسعة أيام.
    ومات عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، وخراج هذه الأعمال كان يوم مات ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق أعمال عبد الله بن طاهر كلها ابنه طاهرا.
    وحج في هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فولى أحداث الموسم.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/131)
    ثم دخلت
    سنة إحدى وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من أمر الفداء الذي جرى على يد خاقان الخادم بين المسلمين والروم في المحرم منها، فبلغت عدة المسلمين- فيما قيل- اربعه آلاف وثلاثمائة واثنين وستين إنسانا.
    ذكر الخبر عن امر بنى سليم وغيرهم من القبائل
    وفيها قتل من قتل من بني سليم بالمدينة في حبس بغا.
    ذكر الخبر عن سبب قتلهم وما كان من أمرهم:
    ذكر أن بغا لما صار إليه بنو هلال بذات عرق، فأخذ منهم من ذكرت أنه أخذ منهم، شخص معتمرا عمرة المحرم، ثم انصرف الى المدينة، فجمع كل من أخذ من بني هلال واحتبسهم عنده مع الذين كان أخذ من بني سليم، وجمعهم جميعا في دار يزيد بن معاوية في الأغلال والأقياد وكانت بنو سليم حبست قبل ذلك بأشهر ثم سار بغا إلى بني مرة، وفي حبس المدينة نحو من الف وثلاثمائة رجل من بني سليم وهلال، فنقبوا الدار ليخرجوا، فرأت امرأة من أهل المدينة النقب، فاستصرخت أهل المدينة فجاءوا، فوجدوهم قد وثبوا على الموكلين بهم، فقتلوا منهم رجلا أو رجلين، وخرج بعضهم أو عامتهم، فأخذوا سلاح الموكلين بهم، واجتمع عليهم أهل المدينة، أحرارهم وعبيدهم- وعامل المدينة يومئذ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي- فمنعوهم الخروج، وباتوا محاصريهم حول الدار حتى أصبحوا، وكان وثوبهم عشية الجمعة، وذلك أن عزيزة بن قطاب قال لهم: إني أتشاءم بيوم السبت،
    (9/132)
    ولم يزل اهل المدينة يعتقبون القتال، وقاتلتهم بنو سليم، فظهر أهل المدينة عليهم، فقتلوهم أجمعين، وكان عزيزة يرتجز، ويقول:
    لا بد من زحم وإن ضاق الباب ... إني أنا عزيزة بن القطاب
    للموت خير للفتى من العاب ... هذا وربي عمل للبواب
    وقيده في يده قد فكه، فرمى به رجلا، فخر صريعا وقتلوا جميعا، وقتلت سودان المدينة من لقيت من الأعراب في أزقة المدينة ممن دخل يمتار، حتى لقوا أعرابيا خارجا من قبر النبي ص فقتلوه، وكان أحد بني أبي بكر بن كلاب من ولد عبد العزيز بن زرارة وكان بغا غائبا عنهم، فلما قدم فوجدهم قد قتلوا شق ذلك عليه، ووجد منه وجدا شديدا.
    وذكر أن البواب كان قد ارتشى منهم، ووعدهم أن يفتح لهم الباب، فعجلوا قبل ميعاده، فكانوا يرتجزون ويقولون وهم يقاتلون:
    الموت خير للفتى من العار ... قد أخذ البواب ألف دينار
    وجعلوا يقولون حين أخذهم بغا:
    يا بغية الخير وسيف المنتبه ... وجانب الجور البعيد المشتبه
    من كان منا جانيا فلست به ... افعل هداك الله ما أمرت به
    فقال: أمرت أن أقتلكم وكان عزيزة بن قطاب رأس بني سليم حين قتل أصحابه صار إلى بئر، فدخلها، فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقتله، وصفت القتلى على باب مروان بن الحكم، بعضها فوق بعض.
    وحدثني أحمد بن محمد أن مؤذن أهل المدينة أذن ليلة حراستهم بني سليم بليل ترهيبا لهم بطلوع الفجر، وأنهم قد أصبحوا، فجعل الأعراب يضحكون، ويقولون: يا شربة السويق، تعلموننا بالليل، ونحن أعلم به منكم! فقال رجل من بني سليم:
    (9/133)
    متى كان ابن عباس أميرا ... يصل لصقل نابيه صريف
    يجور ولا يرد الجور منه ... ويسطو ما لوقعته ضعيف
    وقد كنا نرد الجور عنا ... إذا انتضيت بأيدينا السيوف
    أمير المؤمنين سما إلينا ... سمو الليث ثار من الغريف
    فإن يمنن فعفو الله نرجو ... وإن يقتل فقاتلنا شريف
    وكان سبب غيبة بغا عنهم أنه توجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان تغلب عليها من بني فزارة ومرة، فلما شارفهم وجه إليهم رجلا من فزارة يعرض عليهم الأمان، ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته، وزين لهم الهرب، فهربوا ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفرا بقوا فيها منهم، وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها، فظفر ببعضهم، واستأمن بعضهم، وهرب الباقون مع رأس لهم يقال له الركاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق، وأقام بغا بجنفاء وهي قرية من حد عمل الشام، مما يلي الحجاز نحوا من أربعين ليلة، ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرة وفزارة.
    وفي هذه السنة صار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع جماعة، وكان وجه إليهم وإلى بني ثعلبة، فلما صاروا إليه- فيما ذكر- امر محمد ابن يوسف الجعفري، فاستحلفهم الايمان المؤكدة ألا يتخلفوا عنه متى دعاهم فحلفوا، ثم شخص إلى ضرية لطلب بني كلاب، ووجه إليهم رسله، فاجتمع إليه منهم- فيما قيل- نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاحتبس منهم من أهل الفساد نحوا من ألف رجل وثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ثم قدم بهم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، فحبسهم في دار يزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة بغا، وأقام بها حتى شهد الموسم، فبقي
    (9/134)
    بنو كلاب في الحبس لا يجري عليهم شيء مدة غيبة بغا، حتى رجع إلى المدينة، فلما صار إلى المدينة أرسل إلى من كان استحلف من ثعلبة وأشجع وفزارة فلم يجيبوه، وتفرقوا في البلاد، فوجه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير احد.
    ذكر مقتل احمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق
    وفي هذه السنة تحرك ببغداد قوم في ربض عمرو بن عطاء، فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعي البيعة.
    ذكر الخبر عن سبب حركة هؤلاء القوم وما آل إليه أمرهم وأمر أحمد بن نصر:
    وكان السبب في ذلك أن أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي- ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس، وكان ابنه أحمد يغشاه أصحاب الحديث، كيحيى بن معين وابن الدورقى وابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني العباس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك، مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه، وغلبه أحمد بن ابى دواد عليه- فحدثني بعض أشياخنا، عمن ذكره، أنه دخل على أحمد بن نصر في بعض تلك الأيام وعنده جماعة من الناس، فذكر عنده الواثق، فجعل يقول: ألا فعل هذا الخنزير! أو قال: هذا الكافر، وفشا ذلك من أمره، فخوف بالسلطان، وقيل له: قد اتصل أمرك به، فخافه.
    وكان فيمن يغشاه رجل- فيما ذكر- يعرف بأبي هارون السراج وآخر يقال له طالب، وآخر من أهل خراسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن
    (9/135)
    مصعب صاحب الشرطة ممن يظهر له القول بمقالته، فحرك المطيفون به- يعني أحمد بن نصر- من أصحاب الحديث، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد- أحمد، وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن، وقصدوه بذلك دون غيره، لما كان لأبيه وجده في دولة بني العباس من الأثر، ولما كان له ببغداد، وأنه كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنه احدى ومائتين، لما كثر الدعار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان، وقد ذكرنا خبره فيما مضى وأنه لم يزل أمره على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين، فرجوا استجابة العامة له إذا هو تحرك للأسباب التي ذكرت.
    فذكر أنه أجاب من سأله ذلك، وأن الذي كان يسعى له في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهما قبل وأن أبا هارون السراج وطالبا فرقا في قوم مالا، فأعطيا كل رجل منهم دينارا دينارا، وواعداهم ليلة يضربون فيها الطبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان، فكان طالب بالجانب الغربي من مدينة السلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقي فيمن عاقده عليه، وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذا، واجتمع عدة منهم على شربه، فلما ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة، وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد وكان إسحاق بن إبراهيم غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجه إليهم محمد بن إبراهيم غلاما له يقال له رحش، فأتاهم فسألهم عن قصتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطبل، فدل على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له
    (9/136)
    عيسى الأعور، فهدده بالضرب، فأقر على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سماهم، فتتبع القوم من ليلتهم، فأخذ بعضهم، وأخذ طالبا ومنزله في الربض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السراج ومنزله في الجانب الشرقي، وتتبع من سماه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيروا في الحبس في الجانب الشرقي والغربي، كل قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيد أبو هارون وطالب بسبعين رطلا من الحديد كل واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولى إخراجهما رجل من أعوان محمد بن عياش- وهو عامل الجانب الغربي، وعامل الجانب الشرقي العباس بن محمد بن جبريل القائد الخراساني- ثم أخذ خصي لأحمد ابن نصر فتهدد، فأقر بما أقر به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي، فإن أصبتم فيه علما أو عدة أو سلاحا لفتنة فأنتم في حل منه ومن دمي، ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيين وابنين له ورجلا ممن كان يغشاه يقال له إسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهلي، ومنزله بالجانب الشرقي، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرا على بغال باكف ليس تحتهم وطاء، فقيد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن ابى دواد وأصحابه، وجلس لهم مجلسا عاما ليمتحنوا امتحانا مكشوفا، فحضر القوم واجتمعوا عنده.
    وكان أحمد بن ابى دواد- فيما ذكر- كارها قتله في الظاهر، فلما أتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه، ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله- وأحمد بن نصر مستقتل قد تنور وتطيب، قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو
    (9/137)
    كلام الله، قال: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين [جاءت الآثار عن رسول الله ص أنه قال: ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته،] فنحن على الخبر قال: [وحدثنى سفيان ابن عيينة بحديث يرفعه: أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله يقلبه،] وكان النبي ص يدعو: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويلك! انظر ماذا تقول! قال: أنت أمرتني بذلك، فأشفق إسحاق من كلامه، وقال: أنا أمرتك بذلك! قال: نعم، أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين، ومن نصيحتي له الا يخالف حديث رسول الله ص فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟
    فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق- وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل، وكان حاضرا وكان أحمد بن نصر ودا له-: يا أمير المؤمنين، هو حلال الدم، وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب ابن أبي دواد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال ابن ابى دواد:
    يا أمير المؤمنين كافر يستتاب، لعل به عاهة أو تغير عقل- كأنه كره أن يقتل بسببه- فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه ودعا بالصمصامة- سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي وكان في الخزانة، كان أهدي إلى موسى الهادي، فأمر سلما الخاسر الشاعر أن يصفه له، فوصفه فأجازه- فأخذ الواثق الصمصامة- وهي صفيحة موصولة من أسفلها مسمورة بثلاثة مسامير تجمع بين الصفيحة والصلة- فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه.
    وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف
    (9/138)
    الصمصامة في بطنه، فحمل معترضا حتى أتي به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد، فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الجانب الغربي أياما، ثم حول إلى الشرقي، وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر، وكتب في أذنه رقعة:
    هذا رأس الكافر المشرك الضال، وهو أحمد بن نصر بن مالك، ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك، فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه وأمر أن يتتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر، ممن ذكر انه كان متشايعا له، فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلا وسموا في حبوس الظلمة، ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون، ومنعوا من الزوار، وثقلوا بالحديد وحمل أبو هارون السراج وآخر معه إلى سامرا، ثم ردوا إلى بغداد، فجعلوا في المحابس.
    وكان سبب أخذ الذين أخذوا بسبب أحمد بن نصر، أن رجلا قصارا كان في الربض جاء إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فقال: أنا أدلك على أصحاب أحمد بن نصر، فوجه معه من يتبعهم، فلما اجتمعوا وجدوا على القصار سببا حبسوه معهم، وكان له في المهرزار نخل، فقطع وانتهب منزله، وكان ممن حبس بسببه قوم من ولد عمرو بن اسفنديار، فماتوا في الحبس، فقال بعض الشعراء في احمد بن ابى دواد:
    ما إن تحولت من إياد ... صرت عذابا على العباد
    (9/139)
    أنت كما قلت من اياد ... فارفق بهذا الخلق يا إيادي
    وفي هذه السنة أراد الواثق الحج، فاستعد له، ووجه عمر بن فرج إلى الطريق لإصلاحه، فرجع فأخبره بقلة الماء فبدا له وحج بالناس فيها محمد بن داود بن عيسى وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فشخص إليها في شعبان وحج هو وبغا الكبير، وعلى أحداث الموسم بغا الكبير، وكان شخوص جعفر إلى اليمن في أربعة آلاف فارس وألفي راجل وأعطي رزق ستة أشهر وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى بني قشير من أهل أضاخ فيها على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار الخلافة، ولم يذكر أن أحدا عقد لأحد في دار الخلافة إلا الخليفة غير محمد بن عبد الملك الزيات وفي هذه السنة نقب قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفا من الدراهم، وشيئا من الدنانير يسيرا، فأخذوا بعد وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشرطة خليفة إيتاخ وفيها خرج محمد بن عمرو الخارجي من بني زيد بن تغلب في ثلاثة عشر رجلا في ديار ربيعة، فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن حميد الطوسي، وكان على حرب الموصل في مثل عدته، فقتل من الخوارج اربعه، وأخذ محمد ابن عمرو أسيرا فبعث به إلى سامرا، فبعث به إلى مطبق بغداد، ونصبت رءوس أصحابه وأعلامه عند خشبة بابك وفي هذه السنة قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس، وكان شخص في طلب الأكراد، لأنهم قد كانوا تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه منهم بنحو من خمسمائة نفس، فيهم غلمان صغار، جمعهم في قيود
    (9/140)
    وأغلال، فأمر بحبسهم، وأجيز وصيف بخمسة وسبعين الف دينار، وقلد سيفا وكسى.
    خبر الفداء بين المسلمين والروم
    وفي هذه السنة، تم الفداء بين المسلمين وصاحب الروم، واجتمع فيها المسلمون والروم على نهر يقال له.
    اللمس على سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس.
    ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان:
    ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر- أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجوه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب، فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس، فيمكثون إلى وقت الظهر، وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم، وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعا، إلا أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه، وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقان بعدهم قليلا، فقدم على الواثق رسل صاحب الروم- وهو ميخائيل بن توفيل بن ميخائيل ابن اليون بن جورجس- يسأله أن يفادي بمن في يده من أسارى المسلمين، فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء، وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين
    (9/141)
    ومائتين ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء، فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذين قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزا ولا شيخا كبيرا ولا صبيا، فلم يزل ذلك بينهم أياما حتى رضوا عن كل نفس بنفس.
    فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شري من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن، حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي دواد رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة، وجعفر بن احمد بن الحذاء، ووجه معهما كاتبا من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم، وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق، ممن فودي به دينارا لكل إنسان من ماله حمل معهم، فمضى القوم.
    فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء- فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة، فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق، وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودي به، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم، ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة
    (9/142)
    قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم، يقال لأحدهما انقاس وللآخر لمسنوس، والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس، فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه، أن من فودي به من المسلمين ومن كان معهم من أهل ذمتهم اربعه آلاف وستمائه انسان، منهم صبيان ونساء ستمائه، ومنهم من اهل الذمة اقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الآفاق.
    وذكر أبو قحطبة- وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظركم عدد الأسرى، ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم- أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطنطينية وغيرها، إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي- وكان عندهم- فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس، وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم.
    وذكر محمد هذا أنه كان أسيرا في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودي به في هذا الفداء، وقال: فودي بنا في يوم عاشوراء على نهر يقال له اللامس، على سلوقية قريبا من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسا، النساء وازواجهن وصبيانهن ثمانمائه وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيرا أو كبيرا، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه.
    قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي- وهو مخاضه- فكان هؤلاء يرسلون من هاهنا رجلا وهؤلاء
    (9/143)
    من هاهنا رجلا، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا وإذا صار الرومي إلى الروم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيها بالتكبير.
    وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسرا على النهر، وعقد الروم جسرا، فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم، فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة.
    وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين، امتحننا جعفر ويحيى، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين قال: وكان البطريقان اللذان قدما بالأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما.
    قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين، فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يوما لا يغزون حتى يصلوا إلى بلادهم ومأمنهم، وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمنين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة، وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس، ليكون عليهم الفضل استظهارا مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة، ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم.
    قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحو من ثلاثين رجلا فودي بهم.
    قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يوما، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، فأصاب الناس الثلج والمطر، فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدندون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين، فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك، وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان، وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف
    (9/144)
    بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكرا فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه، فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم.
    فأخذ نحوا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
    وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان.
    وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس وفيها مات ابو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة.
    وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضى وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو ابن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي.
    (9/145)
    ثم دخلت
    سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير الى حرب بنى نمير
    فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم.
    ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم:
    حدثني أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم، وذكر أنه كان مع بغا في ذلك السفر، وأما سياق الكلام فلغيره ذكر أن سبب شخوص بغا إلى بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فامر له بثلاثين الف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم.
    فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلا له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف، فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفا وخمسين رجلا، وأسر نحوا من أربعين، ثم سار إلى حظيان، ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة، وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه، حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين، أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحا، فسار بغا إليهم من مرأة وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة، وأرسل
    (9/146)
    إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود- وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة- فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم.
    ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه، وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة، فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحوا من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلا، وعقروا من ابل عسكره نحوا من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال.
    قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعه امير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد ابن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمه الرحيم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه، فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا- وكانوا قد جعلوا رجالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم- حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا، وأيقنا بالهلكة.
    قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجه من أصحابه نحوا من مائتي فارس إليها قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجهت
    (9/147)
    إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه، فنفخوا في صفاراتهم، فلما سمعوا نفخ الصفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر والله العبد، وولوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم.
    قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجالتهم كثير احد، حتى قتلوا عن آخرهم، وأما الفرسان فطاروا هرابا على ظهور الخيل.
    وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنهب وعقر الإبل والدواب حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع إليه من كان تفرق عنه، فكروا على بني نمير، فهزمهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام.
    فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بني نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان، فأعطاهم الأمان، فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه.
    وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له نهوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حصن باهلة قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسره وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف- وهم من بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل- وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب- فقال عماره
    (9/148)
    ابن عقيل لبغا:
    تركت الأعقفين وبطن قو ... وملأت السجون من القماش
    فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان من بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد، فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الاربعمائه الى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر، فزعم أحمد أنه حضر ضربهم ولم ينطق منهم ناطق يتوجع من الضرب، وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفا، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف، وقال لبغا: هذا أخبث ما كان- أصلحك الله- حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة او خمسمائة، فما توجع وما استغاث.
    وذكر أن فارسا من بني نمير لقي بغا في وقعتهم التي ذكرت امرها يدعى المجنون، فطعن بغا ورمى المجنون رجل من الأتراك فأفلت، وعاش أياما ثلاثة، ثم مات من رميته.
    قال: ثم قدم عليه واجن الاشروسنى الصغدي في سبعمائة رجل مددا له من الأشروسنية الإشتيخنية، فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم، فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه، فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سرايا في محاربه من امتنع ممن قبل الامان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم، كلهم يطلب الامان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم، ولم يزل مقيما إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائه رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة
    (9/149)
    من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به، فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعا في المحرم إلى سامرا سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها الفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في اربعه منازل الى الربذة، فبلغت الشربة عدة دنانير ومات خلق كثير من العطش.
    وفيها ولي محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس.
    وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.
    وفيها اشتد البرد في نيسان حتى جمد الماء لخمس خلون منه.
    ذكر خبر موت الواثق
    وفيها مات الواثق.
    ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته:
    ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفي منها كانت الاستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمي عليه، فأخرج منه، وصير في محفة، وحضره الفضل بن إسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم، ثم حضر ابن الزيات وابن أبي دواد، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات.
    وقد قيل: إن احمد بن ابى دواد حضره وقد أغمي عليه، فقضي وهو
    (9/150)
    عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه وكانت وفاته لست بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهاروني وكان الذي صلى عليه وأدخله قبره وتولى أمره أحمد بن أبي دواد، وكان الواثق امر احمد بن ابى دواد أن يصلي بالناس يوم الأضحى في المصلى، فصلى بهم العيد، لأن الواثق كان شديد العلة فلم يقدر على الحضور إلى المصلى، ومات من علته تلك.
    ذكر الخبر عن صفه الواثق وسنه وقدر مده خلافته
    ذكر من رآه وشاهده انه كان أبيض مشربا حمرة، جميلا ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى، وفيها نكتة بياض.
    وتوفي- فيما زعم بعضهم- وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، فقال الذين زعموا أنه كان ابن ست وثلاثين: كان مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة.
    وكان ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد رومية، يقال لها قراطيس.
    واسمه هارون وكنيته أبو جعفر.
    وذكر أنه لما اعتل علته التي مات فيها وسقي بطنه أمر بإحضار المنجمين، فأحضروا، وكان ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشمي وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهرا طويلا، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة، فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات.
    ذكر بعض أخباره
    ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام،
    (9/151)
    وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده، فكان أول ما تغني به من الغناء في ذلك المجلس، ان تغنت شاريه جارية إبراهيم بن المهدي:
    ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشه للثواء أم للفناء
    فليقل فيك باكياتك ما شئن ... صباحا ووقت كل مساء
    قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنى:
    ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل!
    قال: فازداد والله في البكاء، وقال: ما سمعت كاليوم قط تعزيه باب ونعى نفس، ثم ارفض ذلك المجلس.
    وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع أن علي بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولي الخلافة:
    قد فاز ذو الدنيا وذو الدين ... بدولة الواثق هارون
    أفاض من عدل ومن نائل ... ما أحسن الدنيا مع الدين!
    قد عم بالإحسان في فضله ... فالناس في خفض وفي لين
    ما أكثر الداعي له بالبقا ... وأكثر التالي بآمين
    وقال علي بن الجهم أيضا فيه:
    وثقت بالملك الواثق ... بالله النفوس
    ملك يشقى به المال ... ولا يشقى الجليس
    أنس السيف به واستوحش ... العلق النفيس
    أسد تضحك عن ... شداته الحرب العبوس
    يا بني العباس يأبى الله إلا أن تسوسوا
    (9/152)
    فغنت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، وغنت في شعر محمد بن كناسة:
    في انقباض وحشمة فإذا ... جالست أهل الوفاء والكرم
    أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما شئت غير محتشم
    فغنته الواثق، فاستحسنه، فبعث إلى ابن الزيات: ويحك من صالح ابن عبد الوهاب هذا! فابعث إليه فأشخصه، وليحمل جاريته، فغدا بها صالح إلى الواثق، فأدخلت عليه، فلما تغنت ارتضاها، فبعث إليه، فقال: قل، فقال: مائة ألف دينار يا أمير المؤمنين وولاية مصر، فردها، ثم قال أحمد بن عبد الوهاب أخو صالح في الواثق:
    أبت دار الأحبة أن تبينا ... أجدك ما رأيت لها معينا
    تقطع حسرة من حب ليلى ... نفوس ما أثبن ولا جزينا
    فصنعت فيه قلم جارية صالح، فغناه زرزر الكبير للواثق، فقال: لمن ذا؟ فقال: لقلم، فبعث الى ابن الزيات، فاشخص صالحا ومعه قلم، فلما دخلت عليه، قال: هذا لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، قال:
    بارك الله عليك! وبعث إلى صالح: استم وقل قولا يتهيأ أن تعطاه، فبعث إليه: قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فبارك الله لأمير المؤمنين فيها.
    قال: قد قبلتها، يا محمد، عوضه خمسة آلاف دينار، وسماها اغتباط فمطله ابن الزيات، فأعادت الصوت وهو:
    أبت دار الأحبة ان تبينا ... اجدك هل رايت لها معينا
    فقال لها: بارك الله عليك وعلى من رباك، فقالت: يا سيدي وما ينتفع من رباني، وقد أمرت له بشيء لم يصل اليه! فقال الواثق: يا سمانه، الدواة، فكتب إلى ابن الزيات: ادفع إلى صالح بن عبد الوهاب ما عوضناه من ثمن
    (9/153)
    اغتباط خمسة آلاف دينار، وأضعفها قال صالح: فصرت إلى ابن الزيات فقربني، وقال: هذه الخمسة الأولى، خذها، والخمسة آلاف الأخرى أدفعها إليك بعد جمعة، فإن سئلت، فقل: إني قبضت المال قال: فكرهت أن أسأل فأقر بالقبض، فاختفيت في منزلي حتى دفع إلي المال، فقال لي سمانه:
    قبضت المال؟ قلت: نعم، وترك عمل السلطان، وتجر بها، حتى توفي.
    خلافة جعفر المتوكل على الله
    وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكل على الله بالخلافة، وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد ذي الثفنات بن علي السجاد ابن عَبْد اللَّهِ بْن العباس بْن عبد المطلب.
    ذكر الخبر عن سبب خلافته ووقتها
    حدثني غير واحد، أن الواثق لما توفي حضر الدار احمد بن ابى دواد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهو غلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله! تولون مثل هذا الخلافة، وهو لا يجوز معه الصلاة! قال: فتناظروا فيمن يولونها، فذكروا عدة، فذكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء، أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه، فمررت بجعفر المتوكل، فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم، ثم دعوا به، فأخبره بغا الشرابي الخبر، وجاء به، فقال: أخاف أن يكون الواثق لم يمت، قال: فمر به، فنظر إليه مسجى، فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن ابى دواد الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته! ثم غسل الواثق وصلي عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى دار العامة، ولم يكن لقب المتوكل
    (9/154)
    وذكر أنه كان يوم بويع له ابن ست وعشرين سنة، ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر، وكان الذي كتب البيعة له محمد بن عبد الملك الزيات، وهو إذ ذاك على ديوان الرسائل، واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها، فلما كان غداة يوم بكر أحمد بن ابى دواد إلى المتوكل، فقال: قد رويت في لقب أرجو أن يكون موافقا حسنا إن شاء الله، وهو المتوكل على الله، فأمر بإمضائه، وأحضر محمد بن عبد الملك، فأمر بالكتاب بذلك إلى الناس، فنفذت إليهم الكتب، نسخة ذلك:
    بسم الله الرحمن الرحيم، امر- ابقاك الله- أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يكون الرسم الذي يجري به ذكره على أعواد منابره، وفي كتبه إلى قضاته وكتابه وعماله وأصحاب دواوينه وغيرهم من سائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، فرأيك في العمل بذلك وإعلامي بوصول كتابي إليك موفقا إن شاء الله.
    وذكر أنه لما أمر للأتراك برزق أربعة أشهر وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشميين برزق ثمانية أشهر، أمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر، فأبوا أن يقبضوا، فأرسل اليهم: من كان منكم مملوكا، فليمض إلى أحمد بن ابى دواد حتى يبيعه، ومن كان حرا صيرناه أسوة الجند، فرضوا بذلك، وتكلم وصيف فيهم حتى رضي عنهم، فأعطوا ثلاثة، ثم أجروا بعد ذلك مجرى الأتراك وبويع للمتوكل ساعة مات الواثق بيعة الخاصة وبايعته العامة حين زالت الشمس من ذلك اليوم.
    وذكر عن سعيد الصغير أن المتوكل قبل أن يستخلف ذكر له ولجماعة معه أنه رأى في المنام أن سكرا سليمانيا يسقط عليه من السماء، مكتوبا عليه جعفر المتوكل على الله، فعبرها علينا، فقلنا: هي والله أيها الأمير أعزك الله الخلافة، قال: وبلغ الواثق ذلك فحبسه، وحبس سعيدا معه، وضيق على جعفر بسبب ذلك.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/155)
    ثم دخلت
    سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر حبس محمد بن عبد الملك الزيات ووفاته
    فمن ذلك ما كان من غضب المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات وحبسه إياه.
    ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل اليه الأمر فيه:
    أما السبب في غضبه عليه، فإنه كان- فيما ذكر- أن الواثق كان استوزر محمد بن عبد الملك الزيات وفوض إليه الأمور، وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور، فوكل عليه عمر بن فرج الرخجي ومحمد بن العلاء الخادم، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كل وقت، فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلم له أخاه الواثق ليرضى عنه، فلما دخل عليه مكث واقفا بين يديه مليا لا يكلمه، ثم أشار إليه أن يقعد فقعد، فلما فرغ من نظره في الكتب، التفت إليه كالمتهدد له، فقال:
    ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عني، فقال لمن حوله:
    انظروا إلى هذا، يغضب أخاه، ويسألني أن أسترضيه له! اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك، فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده، فأتى عمر بن فرج ليسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة، وأخذ الصك، فرمى به إلى صحن المسجد.
    وكان عمر يجلس في مسجد، وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضرا، فقام لينصرف، فقام معه جعفر، فقال: يا أبا الوزير، أرأيت ما صنع بي عمر ابن فرج؟ قال: جعلت فداك! أنا زمام عليه، وليس يختم صكى بارزاقى
    (9/156)
    إلا بالطلب والترفق به، فابعث إلي بوكيلك، فبعث جعفر بوكيله، فدفع إليه عشرين ألفا، وقال: أنفق هذا حتى يهيئ الله أمرك، فأخذها ثم أعاد إلى أبي الوزير رسوله بعد شهر، يسأله إعانته، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم، ثم صار جعفر من فوره حين خرج من عند عمر الى احمد بن ابى دواد، فدخل عليه، فقام له أحمد، واستقبله على باب البيت، وقبله والتزمه، وقال: ما جاء بك، جعلت فداك! قال: قد جئت لتسترضي لي أمير المؤمنين، قال: أفعل ونعمة عين وكرامة، فكلم احمد بن ابى دواد الواثق فيه، فوعده ولم يرض عنه، فلما كان يوم الحلبة كلم أحمد بن أبي دواد الواثق، وقال: معروف المعتصم عندي معروف، وجعفر ابنه، فقد كلمتك فيه، ووعدت الرضا، فبحق المعتصم يا أمير المؤمنين إلا رضيت عنه! فرضي عنه من ساعته وكساه، وانصرف الواثق وقد قلد احمد بن ابى دواد جعفرا بكلامه حتى رضي عنه أخوه شكرا، فأحظاه ذلك عنده حين ملك.
    وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين، أتاني جعفر بن المعتصم يسألني ان اسال امير المؤمنين الرضا عنه في زي المخنثين له شعر قفا، فكتب إليه الواثق:
    ابعث إليه فأحضره، ومر من يجز شعر قفاه، ثم مر من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله فذكر عن المتوكل أنه قال: لما أتاني رسوله، لبست سوادا لي جديدا، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عنى، فقال: يا غلام، ادع لي حجاما، فدعي به، فقال: خذ شعره واجمعه، فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه.
    قال المتوكل: فما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حين أخذني على السواد الجديد، وقد جئته فيه طامعا في الرضا، فاخذ شعرى عليه.
    ولما توفي الواثق أشار محمد بن عبد الملك بابن الواثق، وتكلم في ذلك
    (9/157)
    وجعفر في حجرة غير الحجرة التي يتشاورون فيها، فيمن يعقدون، حتى بعث إليه، فعقد له هناك، فكان سبب هلاك ابن الزيات وكان بغا الشرابي الرسول إليه يدعوه، فسلم عليه بالخلافة في الطريق، فعقدوا له وبايعوا، فأمهل حتى إذا كان يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر، وقد عزم المتوكل على مكروه أن يناله به، أمر إيتاخ بأخذه وعذابه، فبعث إليه إيتاخ، فظن أنه دعي به، فركب بعد غدائه مبادرا يظن أن الخليفة دعا به، فلما حاذى منزل إيتاخ قيل له: اعدل إلى منزل أبي منصور، فعدل وأوجس في نفسه خيفة، فلما جاء إلى الموضع الذي كان ينزل فيه إيتاخ عدل به يمنه، فأحس بالشر، ثم أدخل حجرة، وأخذ سيفه ومنطقته وقلنسوته ودراعته، فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم: انصرفوا، فانصرفوا لا يشكون أنه مقيم عند إيتاخ ليشرب النبيذ.
    قال: وقد كان إيتاخ أعد له رجلين من وجوه أصحابه، يقال لهما يزيد ابن عبد الله الحلواني وهرثمة شارباميان فلما حصل محمد بن عبد الملك خرجا يركضان في جندهما وشاكريتهما، حتى أتيا دار محمد بن عبد الملك، فقال لهم غلمان محمد: أين تريدون؟ قد ركب أبو جعفر، فهجما على داره، وأخذا جميع ما فيها.
    فذكر عن ابن الحلواني أنه قال: أتيت البيت الذي كان محمد بن عبد الملك يجلس فيه، فرأيته رث الهيئة قليل المتاع، ورأيت فيه طنافس أربعة وقناني رطليات، فيها شراب، ورأيت بيتا ينام فيه جواريه، فرأيت فيه بوريا ومخاد منضدة في جانب البيت، على أن جواريه كن ينمن فيه بلا فرش.
    وذكر أن المتوكل وجه في هذا اليوم من قبض ما في منزله من متاع ودواب وجوار وغلمان، فصير ذلك كله في الهاروني، ووجه راشدا المغربي إلى بغداد في قبض ما هنالك من أمواله وخدمه، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت فأما ما كان بسامرا فحمل إلى خزائن
    (9/158)
    مسرور سمانه، بعد أن اشتري للخليفة، وقيل لمحمد بن عبد الملك: وكل ببيع متاعك وأتوه بالعباس بن أحمد بن رشيد كاتب عجيف، فوكله بالبيع عليه، فلم يزل أياما في حبسه مطلقا، ثم أمر بتقييده فقيد، وامتنع من الطعام، وكان لا يذوق شيئا، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء، قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أياما ثم سوهر، ومنع من النوم، يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يوما وليلة، فنام وانتبه، فاشتهى فاكهة وعنبا، فأتي به، فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أمر بتنور من خشب فيه مسامير حديد قيام فذكر عن ابن ابى دواد وأبي الوزير أنهما قالا: هو أول من أمر بعمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلي به فعذب به أياما.
    فذكر عن الدنداني الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه، فيمد يديه إلى السماء جميعا حتى يدق موضع كتفيه، ثم يدخل التنور فيجلس، والتنور فيه مسامير حديد وفي وسطه خشبة معترضة، يجلس عليها المعذب، إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة، ثم يجيء الموكل به، فإذا هو سمع صوت الباب يفتح قام قائما كما كان، ثم شددوا عليه.
    قال المعذب له: خاتلته يوما، واريته انى اقفلت الباب ولم أقفله، إنما أغلقته بالقفل، ثم مكثت قليلا، ثم دفعت الباب غفلة، فإذا هو قاعد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل! فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه، فما مكث بعد ذلك إلا أياما حتى مات.
    واختلف في الذي قتل به، فقيل: بطح، فضرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قلب فضرب على استه مثلها، فمات وهو يضرب، وهم لا يعلمون، فأصبح ميتا قد التوت عنقه، ونتفت لحيته وقيل: مات بغير ضرب وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه الا رغيفا
    (9/159)
    واحدا، وكان يأكل العنبة والعنبتين قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد بن عبد الملك، لم يقنعك النعمة والدواب الفرة والدار النظيفة والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة، ذق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على نفسه، فلما كان قبل موته بيوم، ذهب عنه عتاب نفسه، فكان لا يزيد على التشهد وذكر الله، فلما مات احضر ابناه سليمان وعبيد الله- كانا محبوسين- وقد طرح على باب من خشب في قميصه الذي حبس فيه، وقد اتسخ فقالا:
    الحمد لله الذي أراح من هذا الفاسق، فدفعت جثته إليهما، فغسلاه على الباب الخشب، ودفناه وحفرا له، فلم يعمقا، فذكر أن الكلاب نبشته، وأكلت لحمه وكان إبراهيم بن العباس على الأهواز، وكان محمد بن عبد الملك له صديقا، فوجه إليه محمد أحمد بن يوسف أبا الجهم، فأقامه للناس فصالحه عن نفسه بألف الف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقال إبراهيم:
    وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا عدت حربا عوانا
    وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا
    وكنت أعدك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
    وقال:
    أصبحت من رأي أبي جعفر ... في هيئة تنذر بالصيلم
    من غير ما ذنب ولكنها ... عداوة الزنديق للمسلم
    وأحدر بعد ما قبض عليه مع راشد المغربي إلى بغداد، لأخذ ماله بها، فوردها، فأخذ روحا غلامه- وكان قهرمانه- في يده أمواله يتجر بها، وأخذ عدة من أهل بيته، وأخذ معهم حمل بغل، ووجدت له بيوت فيها أنواع التجارة من الحنطة والشعير والدقيق والحبوب والزيت والزبيب والتين وبيت
    (9/160)
    مملوء ثوما، فكان جميع ما قبض له مع قيمته تسعين ألف دينار، وكان حبس المتوكل إياه يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر ووفاته يوم الخميس لإحدى عشره بقيت من شهر ربيع الاول.
    ذكر غضب المتوكل على عمر بن فرج
    وفيها غضب المتوكل على عمر بن فرج، وذلك في شهر رمضان، فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله، وصار نجاح بن سلمة إلى منزله، فلم يجد فيه إلا خمسه عشر الف درهم، وحضر مسرور سمانه، فقبض جواريه، وقيد عمر ثلاثين رطلا، وأحضر مولاه نصر من بغداد، فحمل ثلاثين ألف دينار، وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار، وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيرا فرشا، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار، وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملا، كرت مرارا، وألبس فرجية صوف وقيد، فمكث بذلك سبعا، ثم أطلق عنه وقبض قصره، وأخذ عياله، ففتشوا وكن مائة جارية، ثم صولح على عشرة آلاف ألف درهم، على أن يرد عليه ما حيز عنه من ضياع الأهواز فقط، ونزعت عنه الجبة الصوف والقيد، وذلك في شوال وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يحرضه على عمر بن فرج:
    أبلغ نجاحا فتى الكتاب مالكه ... تمضى بها الريح اصدرا وإيرادا
    لا يخرج المال عفوا من يدي عمر ... أو يغمد السيف في فوديه إغمادا
    الرخجيون لا يوفون ما وعدوا ... والرخجيات لا يخلفن ميعادا
    وقال أيضا يهجوه:
    جمعت أمرين ضاع الحزم بينهما ... تيه الملوك وأفعال المماليك
    (9/161)
    أردت شكرا بلا بر ومرزئة ... لقد سلكت سبيلا غير مسلوك
    ظننت عرضك لم يقرع بقارعة ... وما أراك على حال بمتروك
    وفي هذه السنة أمر المتوكل بإبراهيم بن الجنيد النصراني، أخي أيوب كاتب سمانه، فضرب.
    له بالأعمدة حتى أقر بسبعين ألف دينار، فوجه معه مباركا المغربي إلى بغداد حتى استخرجها من منزله، وجيء به فحبس
    . ذكر غضب المتوكل على ابى الوزير وغيره
    وفيها غضب المتوكل على أبي الوزير في ذي الحجة، وأمر بمحاسبته، فحمل نحوا من ستين ألف دينار، وحمل بدور دراهم وحليا، وأخذ له من متاع مصر اثنين وستين سفطا واثنين وثلاثين غلاما وفرشا كثيرا، وحبس بخيانته محمد بن عبد الملك أخا موسى بن عبد الملك والهيثم بن خالد النصراني وابن أخيه سعدون بن علي، وصولح سعدون على أربعين ألف دينار، وصولح ابنا أخيه عبد الله وأحمد على نيف وثلاثين ألف دينار، وأخذت ضياعهم بذلك.
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنة استكتب المتوكل محمد بن الفضل الجرجرائي.
    وفي هذه السنة عزل المتوكل يوم الأربعاء لثلاث عشره بقيت من شهر رمضان عن ديوان الخراج الفضل بن مروان، وولاه يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد، وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول في هذا اليوم ديوان زمام النفقات وعزل عنه أبا الوزير وفيها ولى المتوكل ابنه محمدا المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وعقد له
    (9/162)
    يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
    وفيها فلج أحمد بن أبي دواد لست خلون من جمادى الآخرة.
    وفيها قدم يحيى بن هرثمة مكة وهو والي طريق مكة بعلي بن محمد بن علي الرضى بن موسى بن جعفر من المدينة.
    وفيها وثب ميخائيل بن توفيل على أمه تذورة فشمسها وأدخلها الدير، وقتل اللغثيط لأنه اتهمها به، وكان ملكها ست سنين.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/163)
    ثم دخلت
    سنة أربع وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن هرب محمد بن البعيث
    فمن ذلك ما كان من هرب محمد بن البعيث بن حلبس، جيء به أسيرا من قبل أذربيجان فحبس.
    ذكر الخبر عن سبب هربه وما كان آل إليه أمره:
    ذكر أن السبب في ذلك كان أن المتوكل كان اعتل في هذه السنة، وكان مع ابن البعيث رجل يخدمه يسمى خليفة، فأخبره بأن المتوكل قد توفي، واعد له دواب، فهرب هو وخليفة الذي أخبره الخبر إلى موضعه من أذربيجان، وموضعه منها مرند- وقيل: كانت له قلعتان تدعى إحداهما شاهي والأخرى يكدر- ويكدر خارج البحيرة، وشاهي في وسط البحيرة، والبحيرة قدر خمسين فرسخا من حد أرمية، إلى رستاق داخرقان بلاد محمد بن الرواد، وشاهي قلعة ابن البعيث حصينة يحيط بها ماء قائم ثم، يركب الناس من أطراف المراغة إلى أرمية وهي بحيرة لا سمك فيها ولا خير.
    وذكر أن ابن البعيث كان في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فتكلم فيه بغا الشرابي، وأخذ منه الكفلاء نحوا من ثلاثين كفيلا، منهم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، فكان يتردد بسامرا، فهرب إلى مرند، فجمع بمرند الطعام، وفيها عيون ماء، فرم ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كل ناحية، من ربيعة وغيرهم، فصار في نحو من ألفين ومائتي رجل.
    وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة، فقصر في طلبه، فولى
    (9/164)
    المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي أذربيجان، ووجهه من سامرا على البريد، فلما صار إليهما جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له، فصار في عشرة آلاف، فزحف إلى ابن البعيث، فألجأه إلى مدينة مرند- وهي مدينة استدارتها فرسخان وفي داخلها بساتين كثيرة، ومن خارجها كما تدور شجر إلا في موضع أبوابها- وقد جمع فيها ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء، فلما طالت مدته، وجه المتوكل زيرك التركي في مائتي ألف فارس من الأتراك، فلم يصنع شيئا، فوجه إليه المتوكل عمرو بن سيسل بن كال في تسعمائة من الشاكرية، فلم يغن شيئا، فوجه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركي وشاكري ومغربي، وكان حمدويه بن علي وعمر بن سيسل وزيرك زحفوا إلى مدينة مرند، وقطعوا ما حولها من الشجر، فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة وغير ذلك من شجر الغياض، ونصبوا عليها عشرين منجنيقا، وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنون فيه، ونصب عليهم ابن البعيث من المجانيق مثل ذلك، وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنو من سور المدينة، فقتل من أولياء السلطان في حربه في ثمانية أشهر نحو من مائه رجل، وجرح نحو من أربعمائة، وقتل وجرح من أصحابه مثل ذلك.
    وكان حمدويه وعمرو وزيرك يغادونه القتال ويراوحونه، وكان السور من قبل المدينة ذليلا، ومن القرار نحوا من عشرين ذراعا، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلون بالحبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم من أصحاب السلطان لجئوا إلى الحائط، وكانوا ربما فتحوا بابا يقال له باب الماء، فيخرج منه العدة يقاتلون ثم يرجعون.
    ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث- فيما ذكر- عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث، ولابن البعيث أن ينزلوا وينزل على حكم أمير المؤمنين، وإلا قاتلهم، فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الامان، وكان عامة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالحبال، ونزل ختن ابن البعيث
    (9/165)
    على أخته أبو الأغر.
    وذكر عن أبي الأغر هذا أنه قال: ثم فتحوا باب المدينة، فدخل أصحاب حمدويه وزيرك، وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر، فلحقه قوم من الجند، معهم منصور قهرمانه، وهو راكب دابة، يريد أن يصير إلى نهر عليه رحا ليستخفي في الرحا، وفي عنقه السيف، فأخذوه أسيرا وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه وبعض منازل أهل المدينة، ثم نودي بعد ما انتهب الناس: برئت الذمة ممن انتهب وأخذوا له أختين وثلاث بنات وخالته والبواقي سراري، فحصل في يد السلطان من حرمه ثلاث عشرة امرأة، وأخذ من وجوه أصحابه المذكورين نحو من مائتي رجل، وهرب الباقون، فوافاهم بغا الشرابي من غد، فنادى مناديه بالمنع من النهب، فكتب بغا الشرابي بالفتح لنفسه.
    وخرج المتوكل فيها إلى المدائن في جمادى الأولى
    . ذكر الخبر عن حج ايتاخ وسببه
    وحج في هذه السنة إيتاخ، وكان والي مكة والمدينة والموسم، ودعي له على المنابر.
    ذكر الخبر عن سبب حجه في هذه السنة:
    ذكر أن إيتاخ كان غلاما خزريا لسلام الأبرش طباخا، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، وكان لإيتاخ رجلة وبأس، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق، حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالا كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم، وكان من قبله رجل، ومن قبل إسحاق رجل، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله فعند إيتاخ
    (9/166)
    يقتل، وبيده يحبس، منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس، وصالح بن عجيف وغيرهم، فلما ولي المتوكل كان إيتاخ في مرتبته، إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة ودار الخلافة، فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزها إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة، فعربد على إيتاخ، فهم إيتاخ بقتله، فلما أصبح المتوكل قيل له، فاعتذر إليه والتزمه، وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دس إليه من يشير عليه بالاستئذان للحج، ففعل وأذن له، وصيره أمير كل بلدة يدخلها، وخلع عليه، وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف، وذلك يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة وقد قيل إن هذه القصة من أمر إيتاخ كانت في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وأن المتوكل إنما صير إلى وصيف الحجابة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بن عيسى بن موسى.
    (9/167)
    ثم دخلت
    سنة خمس وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن مقتل ايتاخ
    فمن ذلك مقتل إيتاخ الخزري.
    ذكر الخبر عن صفة مقتله:
    ذكر عن إيتاخ أنه لما انصرف من مكة راجعا إلى العراق، وجه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أو ببعض طريقه، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
    فذكر عن إبراهيم بن المدبر، أنه قال: خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامرا، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم: أن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز قال: فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته، وطرح له بالياسرية صفة، فجلس عليها حتى قالوا: قد قرب منك فركب فاستقبله، فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل.
    قال: وكان إيتاخ في ثلاثمائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباء أبيض، متقلدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا، حتى إذا صارا عند الجسر تقدمه إسحاق عند الجسر، وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير! وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه قدموه، حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق، وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه الا
    (9/168)
    ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط، وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو دخل إلى سامرا، فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه امكنه ذلك قال: فأتي بطعام قرب الليل، فأكل فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، فحدروه إلى الحراقة، وصير معه قوم في السلاح وصاعد إسحاق، حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر، وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد.
    وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة، فحبسوا ببغداد، فأما سليمان وقدامة فضربا، فأسلم قدامة وحبس منصور ومظفر.
    وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك، فكنت أدفع عنك ما أمكنني، فلينفعني ذلك عندك، أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء، فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان، فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصير لهما مرقة ولحما وشيئا يأكلان منه قال:
    ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: ما لك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم بشيء؟ قلت: نعم، قال لي ايتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفا وكوزا من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف، فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما، فأما إيتاخ فقيد وصير في عنقه ثمانون رطلا، وقيد ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر
    (9/169)
    وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشا، وبقي ابناه في الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات، واما منصور فعاش بعده.
    ذكر خبر اسر ابن البعيث وموته
    وفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد- وكانا نزلا بأمان- وبابن لابن البعيث، يقال له العلاء، خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلا، ومات باقيهم قبل أن يصلوا، فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديدا فذكر عن علي بن الجهم، أنه قال: أتي المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو، ثم اندفع بلا فضل، فقال:
    أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى والصفح بالناس أجمل
    وهل أنا إلا جبلة من خطية ... وعفوك من نور النبوه يجبل
    فإنك خير السابقين الى العلا ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل
    قال علي: ثم التفت إلي المتوكل، فقال: إن معه لأدبا، وبادرت فقلت: بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك، فقال: ارجع إلى منزلك.
    وحدثني أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعارا لابن
    (9/170)
    البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته، وله أخبار وأحاديث.
    وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتي بابن البعيث، وكلمه ابن البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز، وهو جالس مع أبيه المتوكل، فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه.
    وكان ابن البعيث حين هرب قال:
    كم قد قضيت أمورا كان أهملها ... غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
    لا تعذليني فيما ليس ينفعني ... إليك عني جرى المقدار بالقلم
    سأتلف المال في عسر وفي يسر ... إن الجواد الذي يعطي على العدم
    وكان ابن البعيث حين هرب خلف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم:
    البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا الشرابي بعد موت ابن البعيث- ومات بعد دخوله سامرا بشهر- في أبي الأغر ختنه، فأطلق وأطلقت خالة لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحا من يومها، وبقي الباقون في الحبس.
    وذكر أن ابن البعيث صير في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوبا على وجهه حتى مات.
    ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوسا بسبب كفالته به، وقد كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصير بنوه:
    حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكريه مع عبيد الله بن خاقان، واجريت عليهم الأنزال.
    امر المتوكل مع النصارى
    وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس
    (9/171)
    مماليكهم مخالف لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسليا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسلي، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وان كان الموضع واسعا صير مسجدا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين.
    وكتب إلى عماله في الآفاق:
    بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته على ما يريد، اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرأ من الشبهات، معصوما من الآفات، محبوا بمناقب الخير، مخصوصا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها، وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرم عليهم من حرامه، وبين لهم من شرائعه وأحكامه، وحد لهم من حدوده ومناهجه، وأعد لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حض عليه فيه ووعظ:
    «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ، وقال فيما حرم على اهله
    (9/172)
    مما غمط فيه اهل الأديان من رديء المطعم والمشرب والمنكح لينزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلا: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ» إلى آخر الآية، ثم ختم ما حرم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه، ممن عند عنه وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية، وقال عز وجل: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» وقال:
    «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» الآية، فحرم على المسلمين من مآكل أهل الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزرا، وأولاها عند ذوي الحجى والألباب تحريما، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات، فجعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق، ولم يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم، بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى، ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه، فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرم فيه لهم وعليهم، قضاء من الله عز وجل في إعزاز دينه، حتما ومشيئة منه في إظهار حقه ماضية، واراده منه في اتمام نعمته على أهله نافذة «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين.
    وقد رأى أمير المؤمنين- وبالله توفيقه وإرشاده- أن يحمل أهل الذمة جميعا
    (9/173)
    بحضرته وفي نواحي أعماله، أقربها وأبعدها، وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها، من لبسها من تجارهم وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ يكون استدارة كل واحدة منهما شبرا تاما في مثله، على موضع أمام ثوبه الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وان يؤخذ الجميع منهم في قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس، ترتفع في أماكنها التي تقع بها، لئلا تلصق فتستر ولا ما يركب منها على حباك فتخفى، وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكر على قرابيسها، تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخص لهم في إزالتها عن قرابيسهم، وتأخيرها إلى جوانبها، بل يتفقد ذلك منهم، ليقع ما وقع من الذي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمنين في ذلك إيعازا تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهانا وميلا، وتتقدم إليهم في إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره، ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله.
    فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين وأمره، وانفذ إلى عمالك في نواحي عملك ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله، وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه، حفظا يحمل به ما حمله، وولاية يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده، أنه كريم رحيم.
    وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين
    (9/174)
    فقال علي بن الجهم:
    العسليات التي فرقت ... بين ذوي الرشدة والغي
    وما على العاقل ان تكثروا ... فانه اكثر للفيء
    ظهور محمود بن الفرج النيسابورى
    وفي هذه السنة ظهر بسامرا رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري فزعم أنه ذو القرنين، ومعه سبعة وعشرون رجلا عند خشبة بابك، وخرج من أصحابه بباب العامة رجلان، وببغداد في مسجد مدينتها آخران، وزعما أنه نبي، وأنه ذو القرنين، فأتي به وبأصحابه المتوكل، فأمر بضربه بالسياط، فضرب ضربا شديدا، فمات من بعد من ضربه ذلك، وحبس أصحابه، وكانوا قدموا من نيسابور، ومعهم شيء يقرءونه، وكان معهم عيالاتهم، وفيهم شيخ يشهد له بالنبوة، ويزعم أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه بالوحي، فضرب محمود مائة سوط، فلم ينكر نبوته حين ضرب، وضرب الشيخ الذي كان يشهد له أربعين سوطا، فأنكر نبوته حين ضرب وحمل محمود إلى باب العامة، فأكذب نفسه، وقال: الشيخ قد اختدعني، وأمر أصحاب محمود أن يصفعوه فصفعوه، كل واحد منهم عشر صفعات، وأخذ له مصحف فيه كلام قد جمعه ذكر أنه قرآنه، وان جبريل ع كان يأتيه به، ثم مات يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة في هذه السنه ودفن في الجزيرة.
    ذكر عقد المتوكل البيعه لبنيه الثلاثة
    وفي هذه السنة عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد وسماه المنتصر، ولأبي عبد الله بن قبيحة- ويختلف في اسمه، فقيل إن اسمه محمد، وقيل:
    (9/175)
    اسمه الزبير، ولقبه المعتز- ولإبراهيم وسماه المؤيد بولاية العهد، وذلك- فيما قيل- يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة- وقيل لليلتين بقيتا منه- وعقد لكل واحد منهم لواءين، أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل، وضم إلى كل واحد من العمل ما أنا ذاكره.
    فكان ما ضم إلى ابنه محمد المنتصر من ذلك إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب وجند قنسرين والعواصم والثغور الشامية والجزرية وديار مضر وديار ربيعه والموصل وهيت وعانات والخابور وقرقيسيا وكورباجرمى وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعك وحضر موت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماه الكوفة وماه البصره وماسبذان ومهرجانقذق وشهرزور ودراباذ والصامغان وأصبهان وقم وقاشان وقزوين وأمور الجبل والضياع المنسوبة إلى الجبال وصدقات العرب بالبصرة.
    وكان ما ضم إلى ابنه المعتز كور خراسان وما يضاف إليها، وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وكور فارس ضم إليه في سنة أربعين خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم.
    وكان ما ضم إلى ابنه المؤيد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين، فقال أبو الغصن الأعرابي:
    إن ولاة المسلمين الجله ... محمد ثم أبو عبد الله
    ثمت إبراهيم آبي الذله ... بورك في بني خليفة الله
    وكتب بينهم كتابا نسخته:
    هذا كتاب كتبه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، وأشهد الله على نفسه بجميع ما فيه ومن حضر من أهل بيته وشيعته وقواده وقضاته وكفاته وفقهائه وغيرهم من المسلمين لمحمد المنتصر بالله، ولأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، في أصالة من رأيه، وعموم من عافية بدنه، واجتماع من فهمه، مختارا لما شهد به، متوخيا بذلك طاعة ربه، وسلامة رعيته واستقامتها وانقياد طاعتها، واتساع كلمتها،
    (9/176)
    وصلاح ذات بينها، وذلك في ذي الحجة سنه خمسه وثلاثين ومائتين انه جعل، إلى محمد المنتصر بالله بن جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ولاية عهد المسلمين في حياته والخلافة عليهم من بعده، وأمره بتقوى الله التي هي عصمة من اعتصم بها ونجاة من لجأ إليها، وعز من اقتصر عليها، فإن بطاعة الله تتم النعمة، وتجب من الله الرحمة، والله غفور رحيم وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين الخلافة من بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين إلى أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، ثم من بعد أبي عبد الله المعتز ابن أمير المؤمنين الخلافة إلى إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين لمحمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابنى امير المؤمنين السمع والطاعة والنصيحة والمشايعة والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه، في السر والجهر، والغضب والرضا، والمنع والإعطاء، والتمسك ببيعته، والوفاء بعهده، لا يبغيانه غائلة، ولا يحاولانه مخاتلة، ولا يمالئان عليه عدوا، ولا يستبدان دونه بأمر يكون فيه نقض لما جعل إليه أمير المؤمنين من ولاية العهد في حياته والخلافة من بعده.
    وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين الوفاء بما عقده لهما، وعهد به إليهما من الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، وإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخليفة من بعد أبي عبد الله المعتز بالله ابن امير المؤمنين، والإتمام على ذلك، والا يخلعهما ولا واحدا منهما، ولا يعقد دونهما ولا دون واحد منهما بيعة لولد، ولا لأحد من جميع البرية، ولا يؤخر منهما مقدما، ولا يقدم منهما مؤخرا، ولا ينقصهما ولا واحدا منهما شيئا من أعمالهما التي ولاهما عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين وكل واحد منهما، من الصلاة والمعاون والقضاء
    (9/177)
    والمظالم والخراج والضياع والغنيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالهما، وما في عمل كل واحد منهما، من البريد والطرر وخزن بيوت الأموال والمعاون ودور الضرب وجميع الأعمال التي جعلها أمير المؤمنين، ويجعلها إلى كل واحد منهما، ولا ينقل عن واحد منهما أحدا من ناحيته من القواد والجند والشاكرية والموالي والغلمان وغيرهم، ولا يعترض عليه في شيء من ضياعه وإقطاعاته وسائر أمواله وذخائره وجميع ما في يده، وما حواه وملكت يده من تالد وطارف، وقديم ومستأنف، وجميع ما يستفيده ويستفاد له بنقص، ولا يحرم ولا يجنف، ولا يعرض لأحد من عماله وكتابه وقضاته وخدمه ووكلائه وأصحابه، وجميع أسبابه بمناظرة ولا محاسبة، ولا غير ذلك من الوجوه والأسباب كلها، ولا يفسخ فيما وكده أمير المؤمنين لهما في هذا العقد والعهد، بما يزيل ذلك عن جهته، أو يؤخره عن وقته، أو يكون ناقضا لشيء منه.
    وجعل عبد الله جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إن أفضت إليه الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين مثل الشرائط التي اشترطها على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين بجميع ما سمى فيه ووصف في هذا الكتاب، وعلى ما بين وفسر، مع الوفاء من أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، بما جعله أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين من الخلافة وتسليم ذلك راضيا به ممضيا له، مقدما ما فيه حق الله عليه وما أمره به أمير المؤمنين، غير ناكث ولا ناكب بذلك، ولا مبدل، فإن الله تعالى جده وعز ذكره يتوعد من خالف أمره، وعند عن سبيله في محكم كتابه: «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
    » على أن لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن امير المؤمنين، الامان، وهما مقيمان بحضرته أو أحدهما، أو كانا غائبين عنه، أو مجتمعين كانا أو متفرقين ويستمر أبو عبد الله
    (9/178)
    المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بخراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، ويستمر إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بالشام وأجنادها، فعلى محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، أن يمضي أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان وأعمالها المتصلة بها والمضمومة إليها، وأن يسلم له ولايتها وأعمالها كلها وأجنادها والكور الداخلة فيما ولي جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، فلا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دون خراسان والكور والأعمال المضمومة إليها، وإن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، مفردا بها مفوضا إليه أعمالها كلها، لينزل حيث أحب من كور عمله، ولا ينقله عنها، وأن يشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين، ويضم من مواليه وقواده وشاكريته وأصحابه وكتابه وعماله وخدمه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولادهم وعيالهم وأموالهم، ولا يحبس عنه أحدا، ولا يشرك في شيء من أعماله أحدا، ولا يوجه عليه أمينا ولا كاتبا ولا بريدا، ولا يضرب على يده في قليل ولا كثير.
    وأن يطلق محمد المنتصر بالله لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخروج إلى الشام وأجنادها فيمن ضم أمير المؤمنين ويضمه إليه من مواليه وقواده وخدمه وجنوده وشاكريته وصحابته وعماله وخدامه ومن اتبعه من صنوف الناس باهاليها وأولادهم وأموالهم، ولا يحبس عنهم أحدا، ويسلم اليه ولايتها وأعمالها وجنودها كلها، لا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إلى الشام وأجنادها واليا عليها، ولا ينقله عنها، وأن عليه له فيمن ضم إليه من القواد والموالي والغلمان والجنود والشاكرية وأصناف الناس وفي جميع الأسباب والوجوه مثل الذي اشترط على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها على ما رسم من ذلك، وبين ولخص، وشرح في هذا الكتاب.
    ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن
    (9/179)
    أمير المؤمنين- إذا أفضت الخلافة إليه، وإبراهيم المؤيد بالله مقيم بالشام- أن يقره بها أو كان بحضرته، أو كان غائبا عنه، أن يمضيه إلى عمله من الشام، ويسلم إليه أجنادها وولايتها وأعمالها كلها، ولا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجل إشخاصه إليها واليا عليها وعلى جميع أعمالها، على مثل الشرط الذي أخذ لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها، على ما رسم ووصف وشرط في هذا الكتاب، لم يجعل أمير المؤمنين لواحد ممن وقعت عليه وله هذه الشروط، من محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين، أن يزيل شيئا مما اشترطنا في هذا الكتاب، ووكدنا، وعليهم جميعا الوفاء به، لا يقبل الله منهم إلا ذلك، ولا التمسك إلا بعهد الله فيه، وكان عهد الله مسؤلا.
    أشهد الله رب العالمين جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ومن حضره من المسلمين بجميع ما في هذا الكتاب على إمضائه إياه، على محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين بجميع ما سمى ووصف فيه، وكفى بالله شهيدا ومعينا لمن أطاعه راجيا، ووفى بعهده خائفا وحسيبا، ومعاقبا من خالفه معاندا، أو صدف عن أمره مجاهدا.
    وقد كتب هذا الكتاب أربع نسخ، وقعت شهادة الشهود بحضرة أمير المؤمنين في كل نسخة منها، في خزانة أمير المؤمنين نسخة، وعند محمد المنتصر ابن أمير المؤمنين نسخة، وعند أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين نسخة، ونسخة عند إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين.
    وقد ولى جعفر الإمام المتوكل على الله أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين أعمال فارس وأرمينية وأذربيجان إلى ما يلي أعمال خراسان وكورها والأعمال المتصلة بها والمضمومة إليها، على أن يجعل له على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في ذلك الذي جعل له في الحياطة في نفسه والوثاق في أعماله، والمضمومين إليه، وسائر من يستعين به من الناس جميعا في خراسان والكور المضمومة إليها والمتصلة بها على ما سمى ووصف في هذا الكتاب
    (9/180)
    وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يمدح بني المتوكل الثلاثة:
    المنتصر، والمعتز، والمؤيد:
    أضحت عرى الإسلام وهي منوطة ... بالنصر والإعزاز والتأييد
    بخليفة من هاشم وثلاثة ... كنفوا الخلافة من ولاة عهود
    قمر توالت حوله أقماره ... يكنفن مطلع سعده بسعود
    كنفتهم الآباء واكتنفت بهم ... فسعوا بأكرم أنفس وجدود
    وله في المعتز بالله:
    أشرق المشرق بالمعتز بالله ولاحا ... إنما المعتز طيب بث في الناس ففاحا
    وله أيضا فيها:
    الله أظهر دينه وأعزه بمحمد ... والله أكرم بالخلافة جعفر بن محمد
    والله أيد عهده بمحمد ومحمد ... ومؤيد لمؤيدين إلى النبي محمد
    وفيها كانت وفاة إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر في يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة وقيل كانت وفاته لسبع بقين منه، وصير ابنه مكانه، وكسي خمس خلع، وقلد سيفا، وبعث المتوكل حين انتهى إليه خبر مرضه بابنه المعتز لعيادته مع بغا الشرابي وجماعة من القواد والجند وذكر أن ماء دجلة تغير في هذه السنة إلى الصفرة ثلاثة أيام، ففزع
    (9/181)
    الناس لذلك، ثم صار في لون ماء المدود وذلك في ذي الحجة.
    وفيها أتي المتوكل بيحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن علي بن ابى طالب ع من بعض النواحي، وكان- فيما ذكر- قد جمع قوما، فضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس ببغداد في المطبق.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
    (9/182)
    ثم دخلت
    سنة ست وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    خبر مقتل محمد بن ابراهيم بن مصعب
    فمن ذلك ما كان من مقتل محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، أخي إسحاق بن إبراهيم بفارس.
    ذكر الخبر عن مقتله وكيف قتل:
    حدثني غير واحد، عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم، أن أباه إسحاق بلغه عنه أنه أكول لا يملأ جوفه شيء، وأنه أمر باتخاذ الطعام والإكثار منه، ثم أرسل إليه فدعاه، ثم أمره أن يأكل، وقال له: إني أحب أن أرى أكلك، فأكل وأكثر حتى عجب إسحاق منه، ثم قدم إليه بعد ما ظن أنه شبع وامتلأ من الطعام حمل مشوي، فأكل منه حتى لم يبق منه إلا عظامه، فلما فرغ من أكله، قال: يا بني، مال أبيك لا يقوم بطعام بطنك، فالحق أمير المؤمنين، فإن ماله أحمل لك من مالي فوجهه الى الباب والزمه الخدمه، فكان في خدمة السلطان حياة أبيه، وخليفة أبيه ببابه، حتى مات أبوه إسحاق، فعقد له المعتز على فارس، وعقد له المنتصر على اليمامة والبحرين وطريق مكة، في المحرم من هذه السنة، وضم إليه المتوكل أعمال أبيه كلها، وزاده المنتصر ولاية مصر، وذلك أنه كان- فيما ذكر- حمل إلى المتوكل وأولياء عهده مما كان في خزائن أبيه من الجواهر والأشياء النفيسة ما حظي به عندهم، فرفعوه ورفعوا مرتبته.
    فلما بلغ محمد بن إبراهيم ما فعل بابن أخيه محمد بن إسحاق تنكر للسلطان، وبلغ المتوكل عنه أمور أنكرها، فأخبرني بعضهم أن تنكر محمد بن إبراهيم إنما كان لابن أخيه محمد بن إسحاق، واعتلاله عليه بحمل خراج فارس
    (9/183)
    إليه وأن محمدا شكا إلى المتوكل ما كان من تنكر عمه محمد بن إبراهيم في ذلك، فبسط يده عليه، وأطلق له العمل فيه بما أحب، فولى محمد بن إسحاق الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب فارس، وعزل عمه، وتقدم محمد إلى الحسين بن إسماعيل في قتل عمه محمد بن إبراهيم، فذكر أنه لما صار إلى فارس أهدى إليه في يوم النيروز هدايا، فكان فيما اهدى اليه حلواء، فأكل محمد بن إبراهيم منها، ثم دخل الحسين بن إسماعيل عليه، فأمر بإدخاله إلى موضع آخر واعاده الحلواء عليه، فأكل أيضا منها، فعطش فاستسقى، فمنع الماء، ورام الخروج من الموضع الذي أدخل إليه، فإذا هو محبوس لا سبيل له إلى الخروج، فعاش يومين وليلتين، ومات فحمل ماله وعياله إلى سامرا على مائة جمل ولما ورد نعي محمد بن إبراهيم على المتوكل امر بالكتاب فيه إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بالتعزية فكتب:
    أما بعد، فإن أمير المؤمنين يوجب لك مع كل فائدة ونعمة تهنئتك بمواهب الله وتعزيتك عن ملمات أقداره، وقد قضى الله في محمد بن إبراهيم مولى أمير المؤمنين ما هو قضاؤه في عباده، حتى يكون الفناء لهم والبقاء له.
    وأمير المؤمنين يعزيك عن محمد بما أوجب الله لمن عمل بما أمره به في مصائبه، من جزيل ثوابه وأجره، فليكن الله وما قربك منه أولى بك في أحوالك كلها، فإن مع شكر الله مزيده، ومع التسليم لأمر الله رضاه، وبالله توفيق أمير المؤمنين.
    والسلام
    . ذكر خبر وفاه الحسن بن سهل
    وفي هذه السنة توفي الحسن بن سهل في قول بعضهم في أول ذي الحجة منها، وقال قائل هذه المقالة: مات محمد بن إسحاق بن إبراهيم في هذا الشهر لأربع بقين منه وذكر عن القاسم بن احمد الكوفى، انه قال: كنت في خدمة الفتح بن خاقان في سنة خمس وثلاثين ومائتين، وكان الفتح يتولى للمتوكل أعمالا، منها أخبار الخاصة والعامة بسامرا والهاروني وما يليها، فورد
    (9/184)
    كتاب إبراهيم بن عطاء المتولي الأخبار بسامرا يذكر وفاة الحسن بن سهل، وأنه شرب شربة دواء في صبيحة يوم الخميس لخمس ليال بقين من ذي القعدة من سنة خمس وثلاثين ومائتين أفرطت عليه، وأنه توفي في هذا اليوم وقت الظهر، وأن المتوكل أمر بتجهيز جهازه من خزائنه فلما وضع على سريره تعلق به جماعة من التجار من غرماء الحسن بن سهل، ومنعوه من دفنه، فتوسط أمرهم يحيى بن خاقان وإبراهيم بن عتاب ورجل يعرف ببرغوث، فقطعوا أمرهم، ودفن فلما كان من الغد ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام بوفاة محمد بن إسحاق بن إبراهيم بعد الظهر يوم الخميس لخمس خلون من ذي الحجة، فجزع عليه المتوكل جزعا، وقال: تبارك الله وتعالى! كيف توافت منية الحسن ومحمد بن إسحاق في وقت واحد!
    ذكر خبر هدم قبر الحسين بن على
    وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه، وحرث ذلك الموضع، وزرع ما حواليه.
    وفيها استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وصرف محمد بن الفضل الجرجرائي وفيها حج محمد المنتصر، وحجت معه جدته شجاع أم المتوكل، فشيعها المتوكل إلى النجف.
    وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي الكبح فجاءه، ذكر أن فارس بن بغا الشرابي وهو خليفة أبيه، عقد لأبي سعيد هذا، وهو مولى طيئ على أذربيجان وأرمينية، فعسكر بالكرخ، كرخ فيروز، فلما كان لسبع بقين من شوال وهو بالكرخ مات فجاءة، لبس أحد خفيه ومد الآخر ليلبسه
    (9/185)
    فسقط ميتا، فولى المتوكل ابنه يوسف ما كان أبوه وليه من الحرب، وولاه بعد ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها، ووجه عماله في كل ناحية.
    وحج بالناس في هذه السنة المنتصر محمد بن جعفر المتوكل.
    (9/186)
    ثم دخلت
    سنة سبع وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر وثوب اهل أرمينية بعاملهم يوسف بن محمد
    فمن ذلك ما كان من وثوب أهل أرمينية بيوسف بن محمد فيها.
    ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به:
    قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب استعمال المتوكل يوسف بن محمد هذا اياه على أرمينية، فأما سبب وثوب أهل أرمينية به، فإنه كان- فيما ذكر- أنه لما صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط، وكان يقال له بطريق البطارقة، يطلب الإمارة، فأخذه يوسف بن محمد، وقيده وبعث به إلى باب الخليفة، فأسلم بقراط وابنه، فذكر أن يوسف لما حمل بقراط بن أشوط اجتمع عليه ابن أخي بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية، وكان الثلج قد وقع في المدينة التي فيها يوسف، وهي- فيما قيل- طرون، فلما سكن الثلج أناخوا عليها من كل ناحية، وحاصروا يوسف ومن معه في المدينة، فخرج يوسف إلى باب المدينة، فقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه، فأما من لم يقاتل معه، فإنهم قالوا له: ضع ثيابك، وانج عريانا، فطرح قوم منهم كثير ثيابهم، ونجوا عراة حفاة، فمات أكثرهم من البرد، وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا، وكانت البطارقة لما حمل يوسف بقراط بن أشوط تحالفوا على قتله، ونذروا دمه، ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة، وهو على ابنة بقراط، فنهى سوادة بن عبد الحميد الحجافي يوسف بن أبي سعيد عن المقام بموضعه، وأعلمه بما أتاه من أخبار البطارقة، فأبى أن يفعل، فوافاه القوم في شهر رمضان، فأحدقوا بسور المدينة والثلج ما بين عشرين ذراعا إلى أقل حول المدينة إلى خلاط إلى دبيل، والدنيا كلها ثلج
    (9/187)
    وكان يوسف قبل ذلك قد فرق أصحابه في رساتيق عمله، فتوجه إلى كل ناحية منها قوم من أصحابه، فوجه إلى كل طائفة منهم من البطارقة، وممن معهم جماعة، فقتلوهم في يوم واحد، وكانوا قد حاصروه في المدينة أياما، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل، فوجه المتوكل بغا الشرابي إلى أرمينية طالبا بدم يوسف، فشخص إليها من ناحية الجزيرة، فبدأ بأرزن بموسى بن زرارة، وهو ابو الحر وله إخوة: إسماعيل وسليمان وأحمد وعيسى ومحمد وهارون، فحمل بغا موسى بن زرارة إلى باب الخليفة، ثم سار فأناخ بجبل الخويثية، وهم جمة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد، فحاربهم فظفر بهم، فقتل زهاء ثلاثين ألفا، وسبى منهم خلقا كثيرا، فباعهم بأرمينية، ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس وهو صاحب الباق- والباق من كور البسفرجان وبني النشوى، ثم سار إلى مدينة دبيل من أرمينية، فأقام بها شهرا، ثم سار إلى تفليس.
    وفي هذه السنة ولي عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد.
    وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، فولي الشرطة والجزية وأعمال السواد وخلافة أمير المؤمنين بمدينة السلام، ثم صار إلى بغداد.
    وفيها عزل المتوكل محمد بن أحمد بن ابى دواد عن المظالم، وولاها محمد ابن يعقوب المعروف بأبي الربيع.
    وفيها رضي عن ابن أكثم، وكان ببغداد فأشخص إلى سامرا، فولي القضاء على القضاة، ثم ولي أيضا المظالم، وكان عزل المتوكل محمد بن أحمد ابن ابى دواد عن مظالم سامرا لعشر بقين من صفر من هذه السنه.
    (9/188)
    ذكر غضب المتوكل على ابن ابى دواد
    وفيها غضب المتوكل على ابن ابى دواد، وامر بالتوكيل على ضياع احمد ابن ابى دواد لخمس بقين من صفر، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأول ابنه أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي دواد في ديوان الخراج، وحبس إخوته عند عبيد الله بن السري خليفة صاحب الشرطة فلما كان يوم الاثنين حمل أبو الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف ألف درهم، وأشهد عليهم جميعا ببيع كل ضيعة لهم، وكان احمد بن ابى دواد قد فلج، فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من شعبان، أمر المتوكل بولد أحمد بن ابى دواد، فحدروا إلى بغداد، فقال أبو العتاهية:
    لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق
    لكان في الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول: كلام الله مخلوق
    ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان في الفرع لولا الجهل والموق
    وأقيم فيها الخلنجي للناس في جمادى الآخرة.
    وفيها ولى ابن أكثم قضاء الشرقية حيان بن بشر، وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي، وكلاهما أعور، فقال الجماز:
    رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
    هما اقتسما العمى نصفين قدا ... كما اقتسما قضاء الجانبين
    وتحسب منهما من هز رأسا ... لينظر في مواريث ودين
    كأنك قد وضعت عليه دنا ... فتحت بزاله من فرد عين
    هما فأل الزمان بهلك يحيى ... إذ افتتح القضاء باعورين
    (9/189)
    خبر انزال جثه ابن نصر ودفعه الى اوليائه
    وفيها أمر المتوكل في يوم الفطر منها بإنزال جثة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه ذكر الخبر عما فعل به وما كان من الأمر بسبب ذلك:
    ذكر أن المتوكل لما أمر بدفع جثته إلى أوليائه لدفنه، فعل ذلك، فدفع إليهم، وقد كان المتوكل لما أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق، وهم بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء والرعاع إلى موضع تلك الخشبة، وكثروا وتكلموا، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم نصر بن الليث، فأخذ منهم نحوا من عشرين رجلا، فضربهم وحبسهم، وترك إنزال أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامة في أمره، وبقي الذين أخذوا بسببه في الحبس حينا، ثم أطلقوا، فلما دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الذي ذكرت، حمله ابن أخيه موسى إلى بغداد، وغسل ودفن، وضم رأسه إلى بدنه، وأخذ عبد الرحمن بن حمزة جسده في منديل مصري، فمضى به إلى منزله، فكفنه وصلى عليه، وتولى إدخاله القبر مع بعض أهله رجل من التجار، ويقال له الأبزاري فكتب صاحب البريد ببغداد- وكان يعرف بابن الكلبي، من موضع بناحية واسط، يقال له الكلبانيه- إلى المتوكل بخبر العامة، وما كان من اجتماعها وتمسحها بالجنازة، جنازة أحمد بن نصر وبخشبه رأسه، فقال المتوكل ليحيى بن أكثم: كيف دخل ابن الأبزاري القبر على كبرة خزاعة! فقال:
    يا أمير المؤمنين، كان صديقا له فأمر المتوكل بالكتاب إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر بمنع العامة من الاجتماع والحركة في مثل هذا وشبهه، وكان
    (9/190)
    بعضهم أوصى ابنه عند موته أن يرهب العامة، فكتب المتوكل ينهى عن الاجتماع.
    وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكان والى مكة.
    (9/191)
    ثم دخلت
    سنة ثمان وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر ظفر بغا بإسحاق بن اسماعيل وإحراقه مدينه تفليس
    فمن ذلك ما كان من ظفر بغا بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس وإحراقه مدينة تفليس.
    ذكر الخبر عما كان من بغا في ذلك:
    ذكر أن بغا لما صار إلى دبيل بسبب قتل القاتلين من اهل أرمينية يوسف ابن محمد، أقام بها شهرا، فلما كان يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وجه بغا زيرك التركي، فجاوز الكر- وهو نهر عظيم مثل الصراة ببغداد وأكبر، وهو ما بين المدينة وتفليس في الجانب الغربي وصغدبيل في الجانب الشرقي- وكان معسكر بغا في الشرقي، فجاوز زيرك الكر إلى ميدان تفليس، ولتفليس خمسة أبواب: باب الميدان، وباب قريس، وباب الصغير، وباب الربض، وباب صغدبيل- والكر نهر ينحدر مع المدينة- ووجه بغا أيضا أبا العباس الواثي النصراني إلى أهل أرمينية عربها وعجمها، فأتاهم زيرك مما يلي الميدان وأبو العباس مما يلي باب الربض، فخرج إسحاق بن إسماعيل إلى زيرك، فناوشه القتال، ووقف بغا على تل مطل على المدينة مما يلي صغدبيل، لينظر ما يصنع زيرك وأبو العباس، فبعث بغا النفاطين فضربوا المدينة بالنار، وهي من خشب الصنوبر، فهاجت الريح في الصنوبر، فأقبل إسحاق بن إسماعيل إلى المدينة لينظر، فإذا النار قد أخذت في قصره وجواريه، وأحاطت به النار، ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا، وأخذوا ابنه عمرا، فأتوا بهما بغا، فأمر بغا به، فرد إلى باب
    (9/192)
    الحسك، فضربت عنقه هناك صبرا، وحمل رأسه إلى بغا، وصلبت جيفته على الكر، وكان شيخا محدودا ضخم الرأس، يخضب بالوسمة، آدم أصلع أحول، فنصب رأسه على باب الحسك.
    وكان الذي تولى قتله غامش خليفة بغا، واحترق في المدينة نحو من خمسين الف انسان، واطفئت النار في يوم وليلة، لأنها نار الصنوبر، لا بقاء لها، وصبحهم المغاربة، فأسروا من كان حيا، وسلبوا الموتى.
    وكانت امرأة إسحاق نازلة بصغدبيل، وهي حذاء تفليس في الجانب الشرقي، وهي مدينة بناها كسرى أنوشروان، وكان إسحاق قد حصنها وحفر خندقها، وجعل فيها مقاتلة من الخويثية وغيرهم وأعطاهم بغا الأمان على ان يضعوا أسلحتهم، ويذهبوا حيث شاء وكانت امرأة إسحاق ابنة صاحب السرير.
    ثم وجه بغا- فيما ذكر- زيرك إلى قلعة الجردمان- وهي بين برذعة وتفليس- في جماعة من جنده، ففتح زيرك الجردمان، وأخذ بطريقها القطريج أسيرا، فحمله إلى العسكر ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس، وهو في قلعة كثيش من كورة البيلقان، وبينها وبين البيلقان عشرة فراسخ، وبينها وبين برذعة خمسة عشر فرسخا، فحاربه، ففتحها، وأخذه وحمله وحمل ابنه معه وأباه، وحمل أبا العباس الواثي- واسمه سنباط بن أشوط- وحمل معه معاوية بن سهل بن سنباط بطريق اران، وحمل آذر نرسى بن إسحاق الخاشنى
    . ذكر مقدم الروم بمراكبهم الى دمياط
    وفي هذه السنه جاءت للروم ثلاثمائة مركب مع عرفا وابن قطونا وامردناقه- وهم كانوا الرؤساء في البحر- مع كل واحد منهم مائة مركب، فأناخ ابن قطونا
    (9/193)
    بدمياط، وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون فيها الماء إلى صدر الرجل، فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر، فجازها قوم فسلموا، وغرق قوم كثير من نساء وصبيان، واحتمل من كانت له قوة في السفن، فنجوا إلى ناحية الفسطاط، وبينها وبين الفسطاط مسيرة أربعة أيام وكان والي معونة مصر عنبسة بن إسحاق الضبي، فلما قرب العيد، أمر الجند الذين بدمياط أن يحضروا الفسطاط لتحمل لهم في العيد، وأخلى دمياط من الجند، فانتهى مراكب الروم من ناحية شطا التي يعمل فيها الشطوي، فأناخ بها مائة مركب من الشلنديه، تحمل كل مركب ما بين الخمسين رجلا إلى المائه، فخرجوا اليه وأحرقوا ما وصلوا إليه من دورها وأخصاصها، واحتملوا سلاحا كان فيها أرادوا حمله إلى أبي حفص صاحب إقريطش نحوا من ألف قناة وآلتها، وقتلوا من أمكنهم قتله من الرجال، وأخذوا من الأمتعة والقند والكتان ما كان عبئ ليحمل إلى العراق، وسبوا من المسلمات والقبطيات نحوا من ستمائه امرأة، ويقال إن المسلمات منهن مائة وخمس وعشرون امرأة والباقي من نساء القبط.
    ويقال إن الروم الذين كانوا في الشلنديات التي أناخت بدمياط كانوا نحوا من خمسة آلاف رجل، فأوقروا سفنهم من المتاع والأموال والنساء، وأحرقوا خزانة القلوع وهي شرع السفن، وأحرقوا مسجد الجامع بدمياط، وأحرقوا كنائس، وكان من حزر منهم ممن غرق في بحيرة دمياط من النساء والصبيان أكثر ممن سباه الروم ثم رحل الروم عنها.
    وذكر أن ابن الأكشف كان محبوسا في سجن دمياط، حبسه عنبسة، فكسر قيده وخرج، فقاتلهم، وأعانه قوم، فقتل من الروم جماعة، ثم صاروا إلى أشتوم تنيس، فلم يحمل الماء سفنهم إليها، فخشوا أن توحل، فلما لم يحملهم الماء صاروا إلى أشتومها- وهي مرسى بينه وبين تنيس أربعة فراسخ وأقل، وله سور وباب حديد كان المعتصم أمر بعمله- فخربوا عامته، وأحرقوا ما فيه من
    (9/194)
    المجانيق والعرادات، وأخذوا بابيه الحديد، فحملوها، ثم توجهوا إلى بلادهم، لم يعرض لهم أحد.
    وخرج المتوكل في هذه السنة يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الآخرة من سامرا يريد المدائن، فصار إلى الشماسية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، فأقام هنالك إلى يوم السبت، وعبر بالعشي إلى قطربل، ثم رجع ودخل بغداد يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت منه فمضى في سوقها وشارعها حتى نزل الزعفرانية، ثم صار إلى المدائن.
    وغزا الصائفة فيها علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر.
    (9/195)
    ثم دخلت
    سنة تسع وثلاثين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية والدراريع في المحرم منها، ثم أمره في صفر بالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين.
    وفيها نفى المتوكل على بن الجهم بن بدر إلى خراسان.
    وفيها قتل صاحب الصنارية بباب العامة في جمادى الآخرة منها.
    وفيها أمر المتوكل بهدم البيع المحدثة في الإسلام.
    وفيها مات أبو الوليد محمد بن أحمد بن ابى دواد ببغداد في ذي الحجة.
    وفيها غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني وحج بالناس فيها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد ابن علي، وكان والي مكة.
    وفيها حج جعفر بن دينار، وكان والي طريق مكة مما يلي الكوفة فولي أحداث الموسم.
    وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز، وذلك يوم الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، فذكر أن النصارى زعمت أنهما لم يجتمعا في الاسلام قط.
    (9/196)
    ثم دخلت
    سنة أربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن وثوب اهل حمص بعاملهم
    4 فمما كان فيها من ذلك وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة.
    ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل إليه أمرهم ووثوبهم:
    ذكر أن عاملهم على المعونة قتل رجلا كان من رؤسائهم، وكان العامل يومئذ أبو المغيث الرافعي موسى بن إبراهيم، فوثب أهل حمص في جمادى الآخرة من هذه السنة، فقتلوا جماعة من أصحابه، ثم أخرجوه وأخرجوا صاحب الخراج من مدينتهم، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم عتاب بن عتاب، ووجه معه محمد بن عبدويه كرداس الأنباري، وأمره أن يقول لهم: إن أمير المؤمنين قد أبدلكم رجلا مكان رجل، فإن سمعوا وأطاعوا ورضوا، فول عليهم محمد بن عبدويه، وإن أبوا وثبتوا على الخلاف فأقم بمكانك، واكتب إلى أمير المؤمنين حتى يوجه إليك رجاء، أو محمد بن رجاء الحضاري أو غيره من الخيل لمحاربتهم، فخرج عتاب بن عتاب من سامرا يوم الاثنين لخمس بقين من شهر جمادى الآخرة، فرضوا بمحمد بن عبدويه، فولاه عليهم ففعل فيهم الأعاجيب.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها مات احمد بن ابى دواد ببغداد في المحرم بعد ابنه أبي الوليد محمد، وكان ابنه محمد توفي قبله بعشرين يوما في ذي الحجة ببغداد.
    وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء في صفر، وقبض منه ما كان له
    (9/197)
    ببغداد ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، ومن أسطوانة في داره ألفا دينار وأربعة آلاف جريب بالبصرة.
    وفيها ولي جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي القضاء على القضاة في صفر.
    وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن داود وحج جعفر بن دينار وهو والي الأحداث بالموسم
    (9/198)
    ثم دخلت
    سنة إحدى وأربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن وثوب اهل حمص بعاملهم مره اخرى
    فمن ذلك ما كان من وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة، وهو محمد ابن عبدويه.
    ذكر الخبر عما كان من أمرهم فيها وما آل إليه الأمر بينهم.
    ذكر أن أهل حمص وثبوا في جمادى الآخرة من هذه السنة بمحمد بن عبدويه عاملهم على المعونة، وأعانهم على ذلك قوم من نصارى حمص، فكتب بذلك إلى المتوكل، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وأمده بجند من راتبة دمشق، مع صالح العباسي التركي، وهو عامل دمشق وجند من جند الرملة، فأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر فيضربهم بالسياط ضرب التلف، فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ بعد ذلك من وجوههم عشرين إنسانا فيضربهم ثلاثمائة سوط، كل واحد منهم، ويحملهم في الحديد إلى باب أمير المؤمنين، وأن يخرب ما بها من الكنائس والبيع، وأن يدخل البيعة التي الى جانب مسجدها في المسجد، والا يترك في المدينة نصرانيا إلا أخرجه منها، وينادى فيهم قبل ذلك، فمن وجده فيها بعد ثلاثة أحسن أدبه وأمر لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وأمر لقواده ووجوه أصحابه بصلات، وأمر لخليفته علي بن الحسين بخمسة عشر ألف درهم، ولقواده بخمسة آلاف خمسه آلاف درهم، وأمر بخلع، فأخذ محمد بن عبدويه عشرة منهم، فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم
    (9/199)
    يضربهم، فوجه المتوكل رجلا من أصحاب الفتح بن خاقان يقال له محمد بن رزق الله، ليرد من الذين وجه بهم ابن عبدويه محمد بن عبد الحميد الحميدى والقاسم بن موسى بن فوعوس إلى حمص، وأن يضربهما ضرب التلف، ويصلبهما على باب حمص، فردهما وضربهما بالسياط حتى ماتا، وصلبهما على باب حمص، وقدم بالآخرين سامرا وهم ثمانية، فلما صاروا بنصيبين مات واحد منهم، فأخذ المتوكل بهم رأسه، وقدم بسبعة منهم سامرا وبرأس الميت ثم كتب محمد بن عبدويه أنه أخذ عشرة نفر منهم بعد ذلك، وضرب منهم خمسة نفر بالسياط فماتوا، ثم ضرب خمسة فلم يموتوا ثم كتب محمد ابن عبدويه بعد ذلك أنه ظفر برجل منهم من المخالفين يقال له عبد الملك بن إسحاق ابن عمارة- وكان فيما ذكر- رأسا من رءوس الفتنة، فضربه بباب حمص بالسياط حتى مات، وصلبه على حصن يعرف بتل العباس.
    قال ابو جعفر: وفي هذه السنة مطر الناس- فيما ذكر- بسامرا مطرا جودا في آب وفيها ولي القضاء بالشرقية في المحرم أبو حسان الزيادي
    . ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل اليه امره
    وفيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد- فيما قيل- ألف سوط.
    ذكر الخبر عن سبب ضربه وما كان من أمره في ذلك: وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، سبعة عشر رجلا، شهاداتهم- فيما ذكر- مختلفة من هذا النحو، فكتب بذلك صاحب بريد بغداد الى عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن
    (9/200)
    يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله.
    فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى:
    بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله وحفظك، وأتم نعمته عليك، وصل كتابك في الرجل المسمى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله ص ولعنهم وإكفارهم، ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق، وغير ذلك مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله ص، وتثبتك في أمر أولئك الشهود وما شهدوا به، وما صح عندك من عدالة من عدل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك، فعرضت على أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأمر بالكتاب إلي أبي العباس محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله بما قد نفذ إليه، مما يشبه ما عنده ابقاه الله، في نصرة دين الله، وإحياء سنته، والانتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حدا في مجمع الناس حد الشتم، وخمسمائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فان مات القى في الماء من غير صلاة ليكون ذلك ناهيا لكل ملحد في الدين، خارج من جماعة المسلمين، وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى- والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
    وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا- وقد قال بعضهم:
    إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم- لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.
    وفي هذه السنة انقضت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدواب والبقر.
    وفيها أغارت الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من الزط، مع نسائهم وذراريهم وجواميسهم وبقرهم
    (9/201)
    خبر الفداء بين المسلمين والروم في هذه السنه وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم.
    ذكر الخبر عن السبب الذي كان ذلك من أجله:
    ذكر أن تذورة صاحبة الروم أم ميخائيل، وجهت رجلا يقال له جورجس بن قريافس يطلب الفداء لمن في أيدي الروم من المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفا، فوجه المتوكل رجلا من الشيعة يقال له نصر بن الأزهر بن فرج، ليعرف صحة من في أيدي الروم من أسارى المسلمين، ليأمر بمفاداتهم، وذلك في شعبان من هذه السنة بعد أن أقام عندهم حينا فذكر أن تذورة امرت بعد خروج نصر بعرض من في اسارها من المسلمين على النصرانية، فمن تنصر منهم كان أسوة من تنصر قبل ذلك، ومن ابى قتلته، فذكر أنها قتلت من الأسرى اثني عشر ألفا، ويقال ان قنقله الخصي كان يقتلهم من غير أمرها ونفذ كتاب المتوكل إلى عمال الثغور الشامية والجزرية أن شنيفا الخادم قد جرى بينه وبين جورجس رسول عظيم الروم في أمر الفداء قول، وقد اتفق الأمر بينهما، وسأل جورجس هذا هدنة لخمس ليال تخلو من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سبع ليال بقين من شوال من هذه السنة، ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى إنصرافهم إلى مأمنهم فنفذ الكتاب بذلك يوم الأربعاء لخمس خلون من رجب، وكان الفداء يقع في يوم الفطر من هذه السنة وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور يوم السبت لثمان بقين من رجب على سبعين بغلا اكتريت له، وخرج معه أبو قحطبة المغربي الطرطوسي لينظروا وقت الفطر، وكان جورجس قدم معه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنسانا، وخرج شنيف الخادم للفداء في النصف من شعبان، معه مائة فارس: ثلاثون من الأتراك، وثلاثون من المغاربة، وأربعون من فرسان الشاكرية، فسأل جعفر بن عبد الواحد- وهو قاضي القضاة- أن يؤذن
    (9/202)
    له في حضور الفداء، وأن يستخلف رجلا يقوم مقامه- فأذن له، وأمر له بمائة وخمسين ألفا معونة وأرزاق ستين ألفا، فاستخلف ابن أبي الشوارب- وهو يومئذ فتى حدث السن- وخرج فلحق شنيفا، وخرج أهل بغداد من أوساط الناس، فذكر أن الفداء وقع من بلاد الروم على نهر اللامس، يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكان أسرى المسلمين سبعمائة وخمسه وثمانين إنسانا، ومن النساء مائه وخمسا وعشرين امرأة.
    وفي هذه السنة جعل المتوكل كورة شمشاط عشرا، ونقلهم من الخراج إلى العشر، واخرج لهم بذلك كتابا.
    ذكر غاره البجه على حرس من ارض مصر
    وفي هذه السنة غارت البجة على حرس من أرض مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله القمي ذكر الخبر عن أمرهم وما آلت إليه حالهم:
    ذكر أن البجة كانت لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة، قد ذكرناها فيما مضى قبل من كتابنا هذا، وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب، وبالمغرب من السودان- فيما ذكر- البجة وأهل غانة الغافر وبينور ورعوين والفرويه وبكسوم ومكاره اكرم والنوبه والحبش وفي بلاد البجة معادن ذهب، فهم يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى عمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى فلما كان أيام المتوكل امتنعت البجة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية فذكر أن المتوكل ولى بريد مصر رجلا من خدمه يقال له يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي مولى الهادي، وهو المعروف بقوصرة، وجعل إليه بريد مصر والإسكندرية وبرقة ونواحي المغرب، فكتب يعقوب إلى المتوكل أن البجة قد نقضت العهد
    (9/203)
    الذي كان بينها وبين المسلمين، وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر، وهي على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البجة، فقتلوا عدة من المسلمين ممن كان يعمل في المعادن ويستخرج الذهب والجوهر، وسبوا عدة من ذراريهم ونسائهم، وذكروا أن المعادن لهم في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها، وأن ذلك أوحش جميع من كان يعمل في المعادن من المسلمين، فانصرفوا عنها خوفا على أنفسهم وذراريهم فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة والجوهر الذي يستخرج من المعادن، فاشتد إنكار المتوكل لذلك وأحفظه، وشاور في أمر البجة، فأنهي إليه أنهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأن الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن يسلك إليهم الجيوش، لأنها مفاوز وصحاري، وبين أرض الإسلام وبينها مسيره شهر، في ارض قفر وجبال وعر، لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل، ولا حصن، وأن من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزود لجميع المدة التي يتوهم أن يقيمها في بلادهم إلى أن يخرج إلى أرض الإسلام، فإن امتد به المقام حتى يتجاوز تلك المدة هلك وجميع من معه، وأخذتهم البجة بالأيدي دون المحاربة، وأن أرضهم أرض لا ترد على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.
    فأمسك المتوكل عن التوجيه إليهم، وجعل أمرهم يتزيد، وجرأتهم على المسلمين تشتد حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريهم منهم، فولى المتوكل محمد بن عبد الله المعروف بالقمي محاربتهم، وولاه معاون تلك الكور- وهي قفط والأقصر وإسنا وأرمنت وأسوان- وتقدم إليه في محاربة البجة، وأن يكاتب عنبسة بن إسحاق الصبى العامل على حرب مصر وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكرية المقيمين بمصر.
    فأزاح عنبسة علته في ذلك، وخرج إلى أرض البجة، وانضم إليه
    (9/204)
    جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المتطوعة، فكانت عدة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان، بين فارس وراجل، ووجه إلى القلزم، فحمل في البحر سبعة مراكب موقرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلججوا بها في البحر حتى يوافوه في ساحل البحر من أرض البجة، فلم يزل محمد بن عبد الله القمي يسير في أرض البجة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب، وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم- واسمه علي بابا واسم ابنه لعيس- في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمي من الناس، وكانت البجة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرة تشبه بالمهاري في النجابة، فجعلوا يلتقون أياما متوالية، فيتناوشون ولا يصححون المحاربة، وجعل ملك البجة يتطارد للقمي لكي تطول الأيام طمعا في نفاد الزاد والعلوفة التي معهم، فلا يكون لهم قوة، ويموتون هزلا، فيأخذهم البجة بالأيدي.
    فلما توهم عظيم البجة أن الأزواد قد نفدت، أقبلت السبع المراكب التي حملها القمي حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة، فوجه القمي إلى هنالك جماعة من أصحابه يحمون المراكب من البجة، وفرق ما كان فيها على اصحابه، فاتسعوا في الزاد والعلوفة، فلما رأى ذلك علي بابا رئيس البجة قصد لمحاربتهم، وجمع لهم، والتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت الإبل التي يحاربون عليها إبلا زعرة، تكثر الفزع والرعب من كل شيء، فلما رأى ذلك القمي جمع أجراس الإبل والخيل التي كانت في عسكره كلها، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل على البجة، فنفرت إبلهم لأصوات الأجراس، واشتد رعبها، فحملتهم على الجبال والأودية، فمزقتهم كل ممزق، واتبعهم القمي بأصحابه، فأخذهم قتلا وأسرا حتى أدركه الليل، وذلك في أول سنة احدى واربعين، ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم، فلما أصبح القمي وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجالة، ثم صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمي، فوافاهم القمي في
    (9/205)
    الليل في خيله، فهرب ملكهم، فأخذ تاجه ومتاعه، ثم طلب علي بابا الأمان على أن يرد إلى مملكته وبلاده، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها- وهي اربع سنين- لكل سنه أربعمائة مثقال، واستخلف علي بابا على مملكته ابنه لعيس، وانصرف القمي بعلي بابا إلى باب المتوكل، فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكسا علي بابا هذا دراعة ديباج وعمامة سوداء، وكسا جمله رحلا مدبجا وجلال ديباج، ووقف بباب العامة مع قوم من البجة نحو من سبعين غلاما على الإبل بالرحال، ومعهم الحراب في رءوس حرابهم رءوس القوم الذين قتلوا من عسكرهم، قتلهم القمي فأمر المتوكل أن يقبضوا من القمي يوم الأضحى من سنة إحدى وأربعين ومائتين وولى المتوكل البجة وطريق ما بين مصر ومكة سعدا الخادم الإيتاخي، فولى سعد محمد بن عبد الله القمي، فخرج القمي بعلي بابا، وهو مقيم على دينه، فذكر بعضهم أنه رأى معه صنما من حجارة كهيئة الصبي يسجد له.
    ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة.
    وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن داود، وحج جعفر بن دينار فيها، وهو والي طريق مكة واحداث الموسم.
    (9/206)
    ثم دخلت
    سنة اثنتين وأربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر احداث الزلازل بالبلاد
    فمما كان فيها من ذلك الزلازل الهائلة التي كانت بقومس ورساتيقها في شعبان، فتهدمت فيها الدور، ومات من الناس بها مما سقط عليهم من الحيطان وغيرها بشر كثير، ذكر أنه بلغت عدتهم خمسة وأربعين ألفا وستة وتسعين نفسا، وكان عظم ذلك بالدامغان وذكر أنه كان بفارس وخراسان والشام في هذه السنة زلازل وأصوات منكرة، وكان باليمن أيضا مثل ذلك مع خسف بها.
    ذكر خروج الروم من ناحيه شمشاط
    وفيها خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد، ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهبوا عدة قرى، وأسروا نحوا من عشرة آلاف إنسان، وكان دخولهم من ناحية أبريق، قرية قربياس، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في أثرهم، فلم يلحقوا منهم أحدا، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيا.
    وفيها قتل المتوكل عطاردا- رجلا كان نصرانيا فأسلم- فمكث مسلما
    (9/207)
    سنين كثيرة ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه لليلتين خلتا من شوال، وأحرق بباب العامة.
    وفي هذه السنة مات أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية في رجب.
    وفيها مات الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور.
    وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي، وهو والي مكة.
    وحج فيها جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
    (9/208)
    ثم دخلت
    سنة ثلاث وأربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كان شخوص المتوكل إلى دمشق لعشر بقين من ذي القعدة، فضحى ببلد، فقال يزيد بن محمد المهلبي حين خرج:
    أظن الشام تشمت بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق
    فإن تدع العراق وساكنيها ... فقد تبلى المليحة بالطلاق
    وفيها مات إبراهيم بن العباس، فولي ديوان الضياع الحسن بن مخلد بن الجراح، خليفة إبراهيم في شعبان، ومات هاشم بن بنجور في ذي الحجة.
    وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.
    وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم.
    (9/209)
    ثم دخلت
    سنة أربع وأربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك دخول المتوكل دمشق في صفر، وكان من لدن شخص من سامرا إلى أن دخلها سبعة وتسعون يوما- وقيل سبعة وسبعون يوما- وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها فتحرك الأتراك في أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم به ثم استوبأ البلد، وذلك أن الهواء بها بارد ندي والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر، فلا تزال تشتد حتى يمضي عامة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت فيها الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة.
    وفيها وجه المتوكل بغا من دمشق لغزو الروم في شهر ربيع الآخر، فغزا الصائفة فافتتح صملة، وأقام المتوكل بدمشق شهرين وأياما، ثم رجع إلى سامرا، فأخذ في منصرفه على الفرات، ثم عدل إلى الأنبار، ثم عدل من الأنبار على طريق الحرف إليها، فدخلها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة.
    وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار- فيما زعم بعضهم- والصواب عندي أنه عقد له على طريق مكة في سنة ثنتين وأربعين ومائتين.
    وفيها أتي المتوكل- فيما ذكر- بحربة كانت للنبي ص تسمى العنزة، ذكر أنها كانت للنجاشي ملك الحبشة، فوهبها للزبير بن العوام، فأهداها الزبير لرسول الله ص، فكانت عند المؤذنين، وكان يمشى بها بين يدي رسول الله ص في العيدين، وكانت
    (9/210)
    تركز بين يديه في الفناء فيصلي إليها فأمر المتوكل بحملها بين يديه، فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة، ويحمل حربته خليفة صاحب الشرطة.
    وفيها غضب المتوكل على بختيشوع، وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين، فقال أعرابي:
    يا سخطة جاءت على مقدار ... ثار له الليث على اقتدار
    منه وبختيشوع في اغترار ... لما سعى بالسادة الأقمار
    بالأمراء القادة الأبرار ... ولاة عهد السيد المختار
    وبالموالي وبني الأحرار ... رمى به في موحش القفار
    بساحل البحرين للصغار.
    وفي هذه السنة اتفق عيد المسلمين الأضحى وشعانين النصارى وعيد الفطر لليهود.
    وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.
    (9/211)
    ثم دخلت
    سنة خمس وأربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر بناء الماحوزه
    ففيها أمر المتوكل ببناء الماحوزة، وسماها الجعفري، وأقطع القواد وأصحابه فيها، وجد في بنائها، وتحول إلى المحمدية ليتم أمر الماحوزة، وأمر بنقض القصر المختار والبديع، وحمل ساجهما إلى الجعفري، وأنفق عليها- فيما قيل- أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء فقرءوا، وحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم، وكان يسميها هو وأصحابه الخاصة المتوكلية، وبنى فيها قصرا سماه لؤلؤة، لم ير مثله في علوه، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال له كرمى يكون شربا لما حولها من فوهه النهر إليها، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له، ويخرجهم عنها، وقدر للنهر من النفقة مائتي ألف دينار، وصير النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا في ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائتين، وألقى في حفر النهر اثني عشر ألف رجل يعملون فيه، فلم يزل دليل يعتمل فيه، ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب، حتى قتل المتوكل، فبطل النهر، وأخربت الجعفرية، ونقضت ولم يتم أمر النهر.
    وزلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر، فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وزلزل عسكر
    (9/212)
    المهدي ببغداد فيها، وزلزلت المدائن وبعث ملك الروم فيها بأسرى من المسلمين، وبعث يسأل المفاداة بمن عنده، وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولا إلى المتوكل شيخا يدعى اطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلا من أسرى المسلمين، اهداهم ميخائيل ابن توفيل ملك الروم إلى المتوكل، وكان قدومه عليه لخمس بقين من صفر من هذه السنة، فأنزل على شنيف الخادم ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر الشيعي مع رسول صاحب الروم، فشخص في هذه السنة، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين.
    وذكر أنه كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال، قتلت خلقا كثيرا، وسقط منها الف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجا، وسمعوا أصواتا هائلة لا يحسنون وصفها من كوي المنازل، وهرب أهلها إلى الصحارى، وتقطع جبلها الأقرع، وسقط في البحر، فهاج البحر في ذلك اليوم، وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب وسمع فيها- فيما قيل- أهل تنيس في مصر ضجة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير وفيها زلزلت بالس والرقة وحران ورأس عين وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة واذنه وسواحل الشام ورجفت اللاذقية، فما بقي منها منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها وفيها غارت مشاش- عين مكة- حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهما، فبعثت أم المتوكل فانفقت عليها.
    وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله وهلال الرازى.
    (9/213)
    ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمه
    وفيها هلك نجاح بن سلمة.
    ذكر الخبر عن سبب هلاكه:
    حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن أبي أسامة ببعض ما أنا ذاكره من أخباره وببعض ذلك غيره، أن نجاح بن سلمة كان على ديوان التوقيع والتتبع على العمال، وكان قبل ذلك كاتب إبراهيم بن رباح الجوهري، وكان على الضياع، فكان جميع العمال يتقونه ويقضون حوائجه، ولا يقدرون على منعه من شيء يريده، وكان المتوكل ربما نادمه، وكان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل، وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج، فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى يذكر أنهما قد خانا وقصرا فيما هما بسبيله، وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم، فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية، وقال: يا نجاح، خذل الله من يخذلك، فبكر إلي غدا حتى أدفعهما إليك، فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى، فغدا نجاح إلى المتوكل، فلقي عبيد الله، وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل، فقال له: يا أبا الفضل، انصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر، وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح، قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما، وتكتب رقعة تذكر فيها أنك كنت شاربا، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين، فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به، فأدخلها على المتوكل، وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عما قال البارحة، وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا، فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما، فتأخذ منهما قريبا مما ضمن لك عنهما.
    فسر المتوكل، وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: ادفعه إليهما،
    (9/214)
    فانصرفا به، وامرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزا، فوجد البرد، فقال:
    ويحك يا حسن! قد وجدت البرد، فأمر بوضع قلنسوته على رأسه، وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأخذ أبو الفرج وهرب أبو محمد، ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطر بلى وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب- وكان انقطاعه إلى نجاح- فأقر لهما نجاح وابنه بنحو من مائة وأربعين ألف دينار سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة، فأمر بقبض ذلك كله، وضرب مرارا بالمقارع في غير موضع الضرب نحوا من مائتي مقرعة، وغمز وخنق، خنقه موسى الفرانق والمعلوف.
    فأما الحارث فإنه قال: عصر خصيتيه حتى مات، فأصبح ميتا يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه، فدفن ليلا، وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن سعد نحوا من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقر عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار.
    وقيل عشرين ألف دينار وكان ابنه احمد بن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان، وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما، وأخذ وكيله بناحية السواد، وهو ابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار، وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي وحسن بن يعقوب البغدادي، وأخذ بسببه قوم فحبسوا.
    وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه، ذكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان- وكان عبيد الله متمكنا من المتوكل، وإليه الوزارة وعامة أعماله، وإلى نجاح توقيع العامة- فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري قال له نجاح- وكان في الندماء- يا أمير المؤمنين، أسمي
    (9/215)
    لك قوما تدفعهم إلي حتى أستخرج لك منهم أموالا تبني بها مدينتك هذه، أنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره، ويجل ذكره فقال له: سمهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك وعيسى بن فرخان شاه خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد وزيدان بن إبراهيم، خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه: عبد الله بن يحيى وزكرياء وميمون بن إبراهيم ومحمد بن موسى المنجم وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور وجعفرا المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحوا من عشرين رجلا، فوقع ذلك من المتوكل موقعا أعجبه، وقال له: اغد غدوة، فلما أصبح لم يشك في ذلك وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أراد ألا يدع كاتبا ولا قائدا إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين! وغدا نجاح، فأجلسه عبيد الله في مجلسه، ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: أنه إن دخل إلي أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبان إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعه بخطوطهما، وأوصلها عبيد الله ابن يحيى، وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن ابن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل، فضمنا ذلك، وخرج معهما فدفعه إليهما جميعا، والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح، للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل، فأخذاه، وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا، وضربه دررا وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق ابن سعد- وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الولد- أن يغرم واحدا وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك، وقال: أنه أخذ مني في أيام الواثق وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين دينارا، حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفا وزيادة ألف فضلا كما أخذ فضلا فحبس ونجم عليه في ثلاثة
    (9/216)
    أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد، فأغرم سبعة عشر ألف دينار ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل- وكان أحد حجاب المتوكل- وعتاب ابن عتاب عن رسالة المتوكل أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤد ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين انى ميت وامر موسى ابن عبد الملك جعفرا المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات وأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: انى اريد مالي الذى ضمنتاه، فاحتالاه، فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج- وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد- وقبضا أمتعته كلها وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه، فكان المتوكل كثيرا ما يقول لهما كلما شرب: ردوا على كاتبي، وإلا فهاتوا المال، وضم توقيع ديوان العامة إلى عبيد الله بن يحيى، فاستخلف عليه يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، ابن عمه، ومكث موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد على ذلك يطالبهما المتوكل بالأموال التي ضمناها من قبل نجاح، فما أتى على ذلك الا يسيرا حتى ركب موسى بن عبد الملك يشيع المنتصر من الجعفري، وهو يريد سامرا إلى منزله الذي ينزله بالجوسق، فبلغه معه ساعة، ثم انصرف راجعا، فبينا هو يسير إذ صاح بمن معه خذوني، فبدروه فسقط على أيديهم مفلوجا، فحمل إلى منزله، فمكث يومه وليلته، ثم توفي، فصير على ديوان الخراج أيضا عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فاستخلف عليه أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز، وكان أيضا خليفته على كتابة المعتز فقال القصافي:
    ما كان يخشى نجاح صولة الزمن ... حتى أديل لموسى منه والحسن
    غدا على نعم لاحرار يسلبها ... فراح وهو سليب المال والبدن
    (9/217)
    وفيها ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب
    . غاره الروم على سميساط
    وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحوا من خمسمائة وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يوما، فبعث ملك الروم إليهم بطريقا يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلؤة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة، وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور وقيل: إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا: نقتلك، فقال: أنتم أعلم، وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وهو يعرف بالزينبي، وهو والي مكة.
    وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم فيها يوم السبت لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أرديوهشت ماه، فقال البحتري الطائي:
    إن يوم النيروز عاد إلى العهد ... الذي كان سنه أردشير.
    (9/218)
    ثم دخلت
    سنة ست وأربعين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك غزو عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة آلاف رأس وغزوة قربياس، فأخرج خمسة آلاف رأس، وغزو الفضل بن قارن بحرا في عشرين مركبا، فافتتح حصن انطاليه وغزوة بلكاجور فغنم وسبى.
    وغزو علي بن يحيى الأرمني الصائفة، فأخرج خمسة آلاف رأس ومن الدواب والرمك والحمير نحوا من عشرة آلاف وفيها تحول المتوكل إلى المدينة التي بناها الماحوزه، فنزلها يوم عاشوراء من هذه السنه.
    ذكر خبر الفداء بين الروم والمسلمين في هذه السنة
    وفيها كان الفداء في صفر على يدي علي بن يحيى الأرمني، ففودي بألفين وثلاثمائة وسبعة وستين نفسا وقال بعضهم: لم يتم الفداء في هذه السنة إلا في جمادى الأولى.
    وذكر عن نصر بن الأزهر الشيعي- وكان رسول المتوكل إلى ملك الروم في أمر الفداء- أنه قال: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي، فجرت بيني وبين خال الملك بطرناس المناظرة- وهو القيم بشأن الملك- وأبوا أن يدخلوني بسيفي وسوادي، فقلت:
    أنصرف، فانصرفت فرددت من الطريق ومعي الهدايا نحو من ألف نافجة مسك وثياب حرير وزعفران كثير وطرائف، وقد كان أذن لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه، وحملت الهدايا التي معي، فدخلت عليه، فإذا هو على
    (9/219)
    سرير فوق سرير، وإذا البطارقة حوله قيام، فسلمت ثم جلست على طرف السرير الكبير، وقد هيئ لي مجلس، ووضعت الهدايا بين يديه، وبين يديه ثلاثة تراجمة: غلام فراش كان لمسرور الخادم، وغلام لعباس بن سعيد الجوهري، وترجمان له قديم يقال له سرحون، فقالوا لي: ما نبلغه؟ قلت:
    لا تزيدون على ما أقول لكم شيئا، فأقبلوا يترجمون ما أقول، فقبل الهدايا ولم يأمر لأحد منها بشيء، وقربني وأكرمني، وهيأ لي منزلا بقربه، فخرجت فنزلت في منزلي، وأتاه أهل لؤلؤة برغبتهم في النصرانية، وأنهم معه، ووجهوا برجلين ممن فيها رهينة من المسلمين.
    قال: فتغافل عني نحوا من أربعة أشهر، حتى أتاه كتاب مخالفة أهل لؤلؤة، وأخذهم رسله واستيلاء العرب عليها، فراجعوا مخاطبتي، وانقطع الأمر بيني وبينهم في الفداء، على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي، وكانوا أكثر من ألف قليلا، وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين، منهم عشرون امرأة، معهن عشرة من الصبيان، فأجابوني إلى المخالفة، فاستحلفت خاله، فحلف عن ميخائيل، فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك، فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه: نعم، ولم اسمعه يتكلم بكلمة منذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه: نعم أو لا، وليس يتكلم وخاله المدبر أمره، ثم خرجت من عنده بالأسرى بأحسن حال، حتى إذا جئنا موضع الفداء أطلقنا هؤلاء جملة وهؤلاء جملة، وكان عداد من صار في أيدينا من المسلمين أكثر من ألفين منهم عدة ممن كان تنصر وصار في أيديهم أكثر من ألف قليلا، وكان قوم تنصروا، فقال لهم ملك الروم: لا أقبل منكم حتى تبلغوا موضع الفداء، فمن أراد أن أقبله في النصرانية فليرجع من موضع الفداء، وإلا فليضمن ويمض مع أصحابه، وأكثر من تنصر أهل المغرب، وأكثر من تنصر بالقسطنطينية، وكان هنالك صائغان قد تنصرا، فكانا يحسنان إلى الأسرى، فلم يبق في بلاد الروم من المسلمين ممن ظهر عليه الملك إلا سبعة نفر، خمسة أتي بهم من سقلية، أعطيت فداءهم على أن يوجه بهم الى سقليه، ورجلان كانا من رهائن لؤلؤة،
    (9/220)
    فتركتهما، وقلت: اقتلوهما، فإنهما رغبا في النصرانية.
    ومطر أهل بغداد في هذه السنة واحدا وعشرين يوما في شعبان ورمضان، حتى نبت العشب فوق الأجاجير.
    وصلى المتوكل فيها صلاة الفطر بالجعفرية، وصلى عبد الصمد بن موسى في مسجد جامعها، ولم يصل بسامرا أحد.
    وورد فيها الخبر أن سكة بناحية بلخ تنسب إلى الدهاقين مطرت دما عبيطا.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي.
    وحج فيها محمد بن عبد الله بن طاهر، فولي أعمال الموسم.
    وضحى أهل سامرا فيها يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء.
    (9/221)
    ثم دخلت
    سنة سبع وأربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الخبر عن مقتل المتوكل
    فمما كان فيها من ذلك مقتل المتوكل.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف قتل:
    قال أبو جعفر: ذكر لي أن سبب ذلك كان أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعها الفتح بن خاقان، فكتبت الكتب بذلك، وصارت الى الخاتم على ان تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان، فبلغ ذلك وصيفا، واستقر عنده الذي أمر به في أمره، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه، وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يصلى في آخر جمعه من الشهر بالناس، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا هو ركب فلما كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد اجتمعوا وكثروا، من اهل بيتك وغيرهم، وبعض متظلم وبعض طالب حاجة، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه جميعا فليفعل فقال: قد رأيت ما رأيتما، فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض المنتصر ليركب للصلاة قالا: يا أمير المؤمنين، قد رأينا رأيا، وأمير المؤمنين أعلى عينا، قال: وما هو؟ اعرضاه علي، قالا: يا أمير المؤمنين، مر أبا عبد الله المعتز بالله الصلاة
    (9/222)
    لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف، فقد اجتمع أهل بيته، والناس جميعا فقد بلغ الله به.
    قال: وقد كان ولد للمعتز قبل ذلك بيوم، فأمر المعتز، فركب وصلى بالناس، فأقام المنتصر في منزله- وكان بالجعفرية- وكان ذلك مما زاد في اغرائه به، فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان، فقبلا يديه ورجليه، وفرغ المعتز من الصلاة، فانصرف وانصرفا معه، ومعهم الناس في موكب الخلافة، والعالم بين يديه، حتى دخل على أبيه وهما معه، ودخل معه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، فقال داود:
    يا أمير المؤمنين، ائذن لي فأتكلم، قال: قل، فقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد رايت الامين والمأمون ورايت المعتصم صلوات الله عليهم، ورايت الواثق بالله، فو الله ما رأيت رجلا على منبر أحسن قواما، ولا أحسن بديها، ولا أجهر صوتا، ولا أعذب لسانا، ولا أخطب من المعتز بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيرا، وأمتعنا بك، فلما كان يوم الأحد، وذلك يوم الفطر وجد المتوكل فترة، فقال:
    مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين، قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين، ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجف الناس بعلته، ويتكلموا في أمره، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل فأمرهم بالتأهب والتهيؤ لركوبه، فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه.
    وذكر أنه ركب يوم الفطر، وقد ضربت له المصاف نحوا من أربعة أميال، وترجل الناس بين يديه، فصلى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حفنة من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إني رايت
    (9/223)
    كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عز وجل، فلما كان من غد يوم الفطر لم يدع بأحد من ندمائه، فلما كان اليوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال- أصبح نشيطا فرحا مسرورا، فقال:
    كأني أجد مس الدم، فقال الطيفوري وابن الأبرش- وهما طبيباه:
    يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير، افعل، ففعل، واشتهى لحم جزور، فأمر به فأحضر بين يديه، فاتخذه بيده.
    وذكر عن ابن الحفصي المغني أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصي: وما كان احد ممن يأكل بين يديه حاضرا غيري وغير عثعث وزنام وبنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ، فإنه جاء مع المنتصر قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معا، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم، لم يدع بأحد منهم بعد قال ابن الحفصي: فالتفت إلي أمير المؤمنين، فقال:
    كل أنت وعثعث بين يدي ويأكل معكما نصر بن سعيد الجهبذ، قال: فقلت: يا سيدي، نصر والله يأكلني، فكيف ما يوضع بين أيدينا! فقال: كلوا بحياتي، فأكلنا ثم علقنا أيدينا بحذائه قال: فالتفت أمير المؤمنين التفاتة، فنظر إلينا معلقي الأيدي، فقال: ما لكم لا تأكلون؟
    قلت: يا سيدي، قد نفد ما بين أيدينا، فأمر أن يزاد، فغرف لنا من بين يديه.
    قال ابن الحفصي: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم قال: وأخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين فحضروا، وأهدت إليه قبيحة أم المعتز مطرف خز أخضر، لم ير الناس مثله حسنا، فنظر إليه فأطال النظر، فاستحسنه وكثر تعجبه منه، وأمر به فقطع نصفين، وأمر برده عليها، ثم قال لرسولها: أذكرتني به، ثم قال: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي، وإنما أمرت بشقه لئلا يلبسه أحد بعدي، فقلنا له: يا سيدنا، هذا يوم سرور
    (9/224)
    يا أمير المؤمنين نعيذك بالله أن تقول هذا يا سيدنا، قال: وأخذ في الشراب واللهو، ولهج بان يقول: أنا والله مفارقكم عن قليل، قال: فلم يزل في لهوه وسروره إلى الليل.
    وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يصيرا غداءهما عند عبد الله ابن عمر البازيار يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، على أن يفتك بالمنتصر، ويقتل وصيفا وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم، فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم- فيما ذكر ابن الحفصي- بابنه المنتصر مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرة يتهدده بالقتل.
    فذكر عن هارون بن محمد بن سليمان الهاشمي أنه قال: حدثني بعض من كان في الستارة من النساء، أنه التفت إلى الفتح، فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله ص إن لم تلطمه- يعني المنتصر- فقام الفتح ولطمه مرتين، يمر يده على قفاه، ثم قال المتوكل لمن حضر:
    اشهدوا جميعا أني قد خلعت المستعجل- المنتصر- ثم التفت إليه، فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس لحمقك المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي، فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وامر بنانا غلام احمد ابن يحيى أن يلحقه، فلما خرج وضعت المائدة بين يدي المتوكل، وجعل يأكلها ويلقم وهو سكران.
    وذكر عن ابن الحفصي أن المنتصر لما خرج إلى حجرته أخذ بيد زرافة، فقال له: امض معي، فقال: يا سيدي، إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال:
    إن أمير المؤمنين قد أخذه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك الى، فان اوتامش سألني أن أزوج ابنه من ابنتك، وابنك من ابنته، فقال له زرافة: نحن عبيدك يا سيدي، فمرنا بأمرك وأخذ المنتصر
    (9/225)
    بيده وانصرف به معه قال: وكان زرافة قد قال لي قبل ذلك: ارفق بنفسك، فإن أمير المؤمنين سكران والساعة يفيق، وقد دعاني تمرة، وسألني أن أسألك أن تصير إليه فنصير جميعا إلى حجرته قال: فقلت له: أنا أتقدمك إليه، قال: ومضى زرافة مع المنتصر إلى حجرته.
    فذكر بنان غلام أحمد بن يحيى أن المنتصر قال له: قد املكت ابن زرافه من ابنه اوتامش وابن اوتامش من ابنة زرافة؟ قال بنان: فقلت للمنتصر: يا سيدي، فأين النثار فهو يحسن الإملاك؟ فقال: غدا إن شاء الله، فإن الليل قد مضى قال: وانصرف زرافة إلى حجرة تمرة، فلما دخل دعا بالطعام فأتي به، فما أكل إلا أيسر ذلك حتى سمعنا الضجة والصراخ، فقمنا، فقال بنان: فما هو إلا أن خرج زرافة من منزل تمرة، إذا بغا استقبل المنتصر، فقال المنتصر: ما هذه الضجة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول، ويلك! قال: أعظم الله أجرك في سيدنا امير المؤمنين! كان عبدا لله دعاه فأجابه، قال: فجلس المنتصر، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل والمجلس، فأغلق وأغلقت الأبواب كلها، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
    وذكر عن عثعث أن المتوكل دعا بالمائدة بعد قيام المنتصر وخروجه ومعه زرافة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائما عند الستر، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير في الدار، وكان خليفته في الدار ابنه موسى- وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل، وبغا الكبير يومئذ بسميساط- فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع، فقال له بغا: إن أمير المؤمنين أمرني إذا جاوز السبعة ألا أترك في المجلس أحدا، وقد شرب أربعة عشر رطلا، فكره الفتح قيامهم، فقال له بغا: إن حرم أمير المؤمنين خلف الستارة، وقد سكر، فقوموا فاخرجوا، فخرجوا جميعا، فلم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة، منهم شفيع وفرج الصغير ومؤنس وأبو عيسى مارد
    (9/226)
    المحرزي قال: ووضع الطباخ المائدة بين يدي المتوكل، فجعل يأكل ويلقم، ويقول لمارد: كل معي حتى أكل بعض طعامه وهو سكران، ثم شرب أيضا بعد ذلك.
    فذكر عثعث أن أبا أحمد بن المتوكل أخا المؤيد لأمه- كان معهم في المجلس، فقام إلى الخلاء، وقد كان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها غير باب الشط، ومنه دخل القوم الذين عينوا لقتله، فبصر بهم أبو أحمد، فصاح بهم: ما هذا يا سفل! وإذا بسيوف مسللة، قال: وقد كان تقدم النفر الذين تولوا قتله بغلون التركي وباغر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي، فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه، فرأى القوم، فقال: يا بغا، ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة التي تبيت على باب سيدي أمير المؤمنين، فرجع القوم إلى ورائهم عند كلام المتوكل لبغا، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم بعد قال عثعث: فسمعت بغا يقول لهم:
    يا سفل، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كراما، فرجع القوم إلى المجلس، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلا قطع الله يدك! ثم قام وأراد الوثوب به، فاستقبله بيده فأبانها، وشركه باغر، فقال الفتح:
    ويلكم، أمير المؤمنين! فقال بغا: يا حلقى، لا تسكت! فرمى الفتح بنفسه على المتوكل، فبجعه هارون بسيفه، فصاح: الموت! واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما، فقتلاه وقطعاه، وأصابت عثعث ضربة في رأسه وكان مع المتوكل خادم صغير، فدخل تحت الستارة، فنجا، وتهارب الباقون قال:
    وقد كانوا قالوا لوصيف في وقت ما جاءوا إليه: كن معنا فإنا نتخوف ألا يتم ما نريد فنقتل، فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: فأرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحا، وأحمد، وعبد الله، ونصرا، وعبيد الله، حتى صاروا إلى ما أرادوا.
    وذكر عن زرقان خليفة زرافة على البوابين وغيرهم أن المنتصر لما أخذ بيد
    (9/227)
    زرافة فأخرجه من الدار ودخل القوم، نظر إليهم عثعث، فقال للمتوكل:
    قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب، وصرنا إلى السيوف، وذلك أنه كان ربما أشلى الحية والعقرب أو الأسد، فلما ذكر عثعث السيوف، قال له:
    ويلك! أي شيء تقول؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه، فقام الفتح في وجوههم، فقال لهم: يا كلاب، وراءكم وراءكم! فبدر إليه بغا الشرابي، فبعج بطنه بالسيف، وبدر الباقون إلى المتوكل، وهرب عثعث على وجهه.
    وكان أبو أحمد في حجرته، فلما سمع الضجة خرج فوقع على أبيه، فبادره بغلون فضربه ضربتين، فلما رأى السيوف تأخذه خرج وتركهم، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف، فقالوا له: بايع، فبايعه وأرسل المنتصر إلى وصيف: أن الفتح قتل ابى، فقتلته، فاحضر في وجوه أصحابك فحضر وصيف وأصحابه فبايعوا قال: وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم ينفذ الأمور وقد ذكر أن امرأة من نساء الأتراك ألقت رقعة تخبر ما عزم عليه القوم، فوصلت الرقعة إلى عبيد الله، فشاور الفتح فيها، وكان ذلك وقع إلى أبي نوح عيسى بن إبراهيم كاتب الفتح بن خاقان، فأنهاه إلى الفتح، فاتفق رأيهم على كتمان المتوكل لما رأوا من سروره، فكرهوا أن ينغصوا عليه يومه، وهان عليهم أمر القوم، ووثقوا بأن ذلك لا يجسر عليه أحد ولا يقدر.
    فذكر أن أبا نوح احتال في الهرب من ليلته، وعبيد الله جالس في عمله ينفذ الأمور، وبين يديه جعفر بن حامد، إذ طلع عليه بعض الخدم، فقال:
    يا سيدي، ما يجلسك؟ قال: وما ذاك! قال: الدار سيف واحد، فأمر جعفرا بالخروج، فخرج وعاد، فأخبره أن أمير المؤمنين والفتح قد قتلا، فخرج فيمن معه من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، فأخذ نحو الشط، فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان مما يلي الشط، فكسرت ثلاثة أبواب حتى
    (9/228)
    خرج إلى الشط، فصار إلى زورق، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد، وغلام له، فصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يصادفه، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قتلني وقتل نفسه، وتلهف عليه، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل والاعراب والصعاليك وغيرهم وقد اختلف في عدتهم، فقال بعضهم: كانوا زهاء عشرين ألف فارس وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف رجل، وقال آخرون:
    كان معه ثلاثة عشر ألف لجام، وقال المقللون: ما بين الخمسة آلاف إلى العشرة آلاف، فقالوا له: إنما كنت تصطنعنا لهذا اليوم، فأمر بأمرك، وأذن لنا نمل على القوم ميلة، نقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم فأبى ذلك، وقال: ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم- يعني المعتز وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتابا من كتب الملاحم، فوقفت عن قراءته وقطعته، فقال لي:
    ما لك قد وقفت! قلت: خير، قال: لا بد والله من أن تقرأه، فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء، فقال المتوكل: ليت شعري من هذا الشقي المقتول! وذكر عن سلمة بن سعيد النصراني أن المتوكل رأى أشوط بن حمزة الأرمني قبل قتله بأيام، فتأفف برؤيته، وأمر بإخراجه، فقيل له:
    يا أمير المؤمنين، أليس قد كنت تحب خدمته؟ قال: بلى، ولكني رأيت في المنام منذ ليال كأني قد ركبته، فالتفت إلي وقد صار رأسه مثل رأس البغل فقال لي: إلى كم تؤذينا! إنما بقي من أجلك تمام خمسة عشر سنه غير ايام قال: فكان بعدد أيام خلافته.
    وذكر عن ابن أبي ربعي أنه قال: رأيت في منامي كأن رجلا دخل من باب الرستن على عجلة ووجهه إلى الصحراء وقفاه إلى المدينة، وهو ينشد:
    (9/229)
    يا عين ويلك فاهملي ... بالدمع سحا واسبلي
    دلت على قرب القيامة ... قتلة المتوكل
    وذكر أن حبشي بن أبي ربعي مات قبل قتل المتوكل بسنتين.
    وذكر عن محمد بن سعيد، قال: قال أبو الوارث قاضي نصيبين:
    رأيت في النوم آتيا أتاني، وهو يقول:
    يا نائم العين في جثمان يقظان ... ما بال عينك لا تبكي بتهتان!
    أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان!
    وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا ... حتى يصيروا كأمس الذاهب الفاني
    فأتى البريد بعد أيام بقتلهما جميعا.
    قال أبو جعفر: وقتل ليلة الأربعاء بعد العتمة بساعة لأربع خلون من شوال- وقيل: بل قتل ليلة الخميس- فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام وقتل يوم قتل وهو- فيما قيل- ابن أربعين سنة، وكان ولد بفم الصلح في شوال من سنة ست ومائتين.
    وكان أسمر حسن العينين خفيف العارضين نحيفا
    . ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته:
    ذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعرا، وذكرت الرافضة فيه، فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع علي أربع خلع في دار العامة، وخلع علي المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعدا الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئا، فجمعاها، فانصرفت بها
    (9/230)
    قال: والشعر الذي قال فيه:
    ملك الخليفة جعفر ... للدين والدنيا سلامه
    لكم تراث محمد ... وبعدلكم تنفى الظلامه
    يرجو التراث بنو البنات ... وما لهم فيها قلامه
    والصهر ليس بوارث ... والبنت لا ترث الإمامه
    ما للذين تنحلوا ... ميراثكم إلا الندامه
    أخذ الوراثة أهلها ... فعلام لومكم علامه!
    لو كان حقكم لما ... قامت على الناس القيامه
    ليس التراث لغيركم ... لا والإله ولا كرامه
    أصبحت بين محبكم ... والمبغضين لكم علامه
    ثم نثر على رأسي- بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى- عشرة آلاف درهم.
    وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة- مدحت فيها ابن ابى دواد- الى ابن ابى دواد، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما:
    وقيل لي الزيات لاقى حمامه ... فقلت أتاني الله بالفتح والنصر
    لقد حفر الزيات بالغدر حفرة ... فألقي فيها بالخيانة والغدر
    قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن ابى دواد ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هو باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال:
    ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامرا، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها:
    رحل الشباب وليته لم يرحل ... والشيب حل وليته لم يحلل
    (9/231)
    فلما صار إلى هذين البيتين من القصيدة:
    كانت خلافة جعفر كنبوة ... جاءت بلا طلب ولا بتنحل
    وهب الإله له الخلافة مثل ما ... وهب النبوة للنبي المرسل
    أمر له بخمسين ألف درهم.
    وذكر عن أبي يحيى بن مروان بن محمد الشني الكلبي، قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب، قال: لما صرت إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله مدحت ولاة العهود، وأنشدته:
    سقى الله نجدا والسلام على نجد ... ويا حبذا نجد على النأي والبعد!
    نظرت إلى نجد وبغداد دونها ... لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد!
    ونجد بها قوم هواهم زيارتي ... ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي
    قال: فلما استتممت إنشادها، أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثة من الظهر: فرس وبغلة وحمار، فما برحت حتى قلت في شكره:
    تخير رب الناس للناس جعفرا ... فملكه أمر العباد تخيرا
    قال: فلما صرت إلى هذا البيت:
    فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا
    قال: لا والله، لا أمسك حتى أعرفك بجودي، ولا برحت حتى تسأل حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها باليمامة، ذكر ابن المدبر أنها وقف من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها قال:
    فإني أقبلكها بدرهم في السنة مائة سنة، قلت: لا يحسن يا أمير المؤمنين أن يؤدى درهم في الديوان، قال: فقال ابن المدبر: فالف درهم؟ فقلت:
    نعم، فأنفذها لي ولعقبي، ثم قال: ليس هذه حاجة، هذه قبالة، قلت: فضياعي التي كانت لي كان الواثق أمر بإقطاعي إياها، فنفاني ابن الزيات، وحال بيني وبينها، فتنفذها لي فأمر بإنفاذها بمائة درهم في السنة وهي السيوح
    (9/232)
    وذكر عن أبي حشيشة أنه كان يقول: كان المأمون يقول: إن الخليفة بعدي في اسمه عين، فكان يظن أنه العباس ابنه فكان المعتصم، وكان يقول: وبعده هاء، فيظن أنه هارون، فكان الواثق، وكان يقول: وبعده اصفر الساقين، فكان يظن انه ابو الحائز العباس فكان المتوكل ذلك، فلقد رأيته إذا جلس على السرير يكشف ساقيه، فكانا أصفرين، كأنما صبغا بزعفران.
    وذكر عن يحيى بن أكثم، أنه قال: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون وكتبه إلى الحسن بن سهل، فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته ونباهته قولا كثيرا، لم يقع بموافقة بعض من حضر، فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ قلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع سنه الرسول ص وحشة إلى فعل أحد، ولا مع البيان والإفهام حجة لتعلم، ولا بعد الجحود للبرهان والحق إلا السيف لظهور الحجة فقال له المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه من هذا المعنى، قال له يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة، قال: فما كان يقول خلال حديثه، فإن المعتصم بالله يرحمه الله كان يقوله، وقد أنسيته؟ فقال: كان يقول: اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها احد غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك.
    قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئا أو بشر بشيء، فقد كان المعتصم بالله أمر علي بن يزداد أن يكتبه لنا، فكتبه فعلمناه ثم أنسيناه؟ قال: كان يقول: إن ذكر آلاء الله ونشرها وتعداد نعمه والحديث بها فرض من الله على أهلها، وطاعة لأمره فيها، وشكر له عليها، فالحمد لله العظيم الآلاء، السابغ النعماء بما هو أهله، ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا، ولا يحيط به ذكرنا، من ترادف مننه، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه فقال المتوكل: صدقت، هذا هو الكلام بعينه، وهذا كله حكم من ذي حنكة وعلم، وانقضى المجلس
    (9/233)
    وقدم فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بن طاهر بغداد منصرفا من مكة في صفر، فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأن يسار بها كما يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم، وأمر أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشمع مكان الزيت والنفط.
    وفيها ماتت أم المتوكل بالجعفرية لست خلون من شهر ربيع الآخر وصلى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع
    . خلافه المنتصر محمد بن جعفر
    وفيها بويع للمنتصر محمد بن جعفر بالخلافة في يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال- وقيل لثلاث خلون منه- وهو ابن خمس وعشرين سنة وكنيته أبو جعفر بالجعفرية، فأقام بها بعد ما بويع له عشرة أيام، ثم تحول منه بعياله وقواده وجنوده الى سامرا.
    وكان قد بايعه ليلة الأربعاء الذين ذكرناهم قبل، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما كان صبيحة يوم الأربعاء، حضر الناس الجعفرية من القواد والكتاب والوجوه والشاكرية والجند وغيرهم، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا يخبر فيه عن أمير المؤمنين المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل أباه جعفرا المتوكل، فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف.
    وذكر عن أبي عثمان سعيد الصغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدار مع المنتصر، فكان كلما خرج الفتح خرج معه، وكلما رجع قام لقيامه وجلس لجلوسه، وخرج في أثره، وكلما ركب أخذ بركابه، وسوى عليه ثيابه في سرج دابته، وكان اتصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعد له قوما في طريقه ليغتالوه عند انصرافه، وقد كان
    (9/234)
    المتوكل أسمعه وأحفظه قبل انصرافه، ووثب به، فانصرف على غضب، وانصرفنا معه، فلما صار إلى داره أرسل إلى ندمائه وخاصته- وقد كان واعد الأتراك على قتل المتوكل قبل انصرافه إذا ثمل من النبيذ- قال: فلم ألبث أن جاءني الرسول: أن أحضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير، وهو على الركوب، فوقع في نفسي ما كان دار بيننا أنهم على اغتيال المنتصر، وأنه إنما يدعى لذلك، فركبت في سلاح وعدة، وصرت إلى باب الأمير، فإذا هم يموجون، وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنه قد فرغ من أمره، فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب، فرأى ما بي، فقال: ليس عليك! إن أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه بعد انصرافنا، فمات رحمه الله.
    فأكبرت ذلك، وشق علي، ومضينا وأحمد بن الخصيب وجماعة من القواد معنا حتى دخلنا الحير، وتتابعت الأخبار بقتل المتوكل، فأخذت الأبواب، ووكل بها، وقلت: يا أمير المؤمنين، وسلمت عليه بالخلافة، وقلت:
    لا ينبغي أن نفارقك لموضع الشفقة عليك من مواليك في هذا الوقت، قال:
    أجل، فكن أنت من ورائي وسليمان الرومي وألقي منديل، فجلس عليه، وأحطنا به، وحضر أحمد بن الخصيب وكاتبه سعيد بن حميد لأخذ البيعة.
    فذكر عن سعيد بن حميد ان احمد بن الخصيب، قال له: ويلك يا سعيد! معك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة، قلت: نعم، وكلمات وعملت كتاب البيعة، وأخذتها على من حضر وكل من جاء حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله إلى المؤيد، وقال لسعيد الصغير: امض أنت إلى المعتز حتى تحضره، قال سعيد الصغير: فقلت: أما ما دمت يا أمير المؤمنين في قلة ممن معك فلا أبرح والله من وراء ظهرك، حتى يجتمع الناس.
    قال أحمد بن الخصيب: هاهنا من يكفيك، فامض، فقلت: لا أمضي حتى يجتمع من يكفي، فإني الساعة أولى به منك! فلما كثر القواد، وبايعوا، ومضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان، فلما صرت إلى باب أبي نوح،
    (9/235)
    والناس يموجون ويذهبون ويجيئون، وإذا على الباب جمع كبير في سلاح وعدة، فلما أحسوا بي لحقني فارس منهم، فسألني وهو لا يعرفني: من أنت؟
    فعميت عليه خبري، وأخبرته أني من بعض أصحاب الفتح، ومضيت حتى صرت إلى باب المعتز، فلم أجد به أحدا من الحرس والبوابين والمكبرين ولا خلقا من خلق الله حتى صرت إلى الباب الكبير، فدققته دقا عنيفا مفرطا، فأجبت بعد مدة طويلة، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: سعيد الصغير، رسول أمير المؤمنين المنتصر، فمضى الرسول، وأبطأ علي، وأحسست بالمنكر وضاقت علي الأرض ثم فتح الباب فإذا ببيدون الخادم قد خرج، وقال لي: ادخل وأغلق الباب دوني، فقلت: ذهبت والله نفسي، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن أمير المؤمنين شرق بكأس شربها ومات من ساعته، وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر، وأنه أرسلني إلى الأمير أبي عبد الله المعتز بالله ليحضر البيعة فدخل ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت على المعتز، فقال لي: ويلك يا سعيد! ما الخبر؟ فأخبرته بمثل ما أخبرت به بيدون، وعزيته وبكيت، وقلت: تحضر يا سيدي، وتكون في أوائل من بايع، فتستدعي بذلك قلب أخيك، فقال لي: ويلك حتى نصبح! فما زلت افتله في الحبل والغارب، ويعينني عليه بيدون الخادم، حتى تهيأ للصلاة، ودعا بثيابه فلبسها، وأخرج له دابة، وركب وركبت معه، وأخذت طريقا غير طريق الجادة، وجعلت أحدثه وأسهل الأمر عليه، وأذكره أشياء يعرفها من أخيه، حتى إذا صرنا إلى باب عبيد الله بن يحيى بن خاقان سألني عنه، فقلت:
    هو يأخذ البيعه على الناس، والفتح قد بايع، فيئس حينئذ، وإذا بفارس قد لحق بنا، وصار إلى بيدون الخادم، فساره بشيء لا أعلمه، فصاح به بيدون، فمضى ثم رجع ثلاثا، كل ذلك يرده بيدون ويصيح به: دعنا، حتى وافينا باب الحير فاستفتحه فقيل لي: من أنت؟ قلت: سعيد الصغير والأمير المعتز، ففتح لي الباب، وصرنا إلى المنتصر، فلما رآه قربه وعانقه وعزاه، وأخذ البيعة عليه، ثم وافى المؤيد مع سعيد الكبير، ففعل به مثل
    (9/236)
    ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري فأمر بدفن المتوكل والفتح، وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار، حتى وهب لي عشره آلاف درهم.
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، واظهر خلعهما في القصر الجعفري المحدث وكانت نسخة البيعة التي أخذت للمنتصر:
    بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة الله وتقواه، وإعزاز دين الله وحقه، ومن عموم صلاح عباد الله، واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن محمدا الإمام المنتصر بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ومناصحته والوفاء بحقه وعقده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع له، والطاعة والمسالمة، والنصرة والوفاء والاستقامة، والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين، وعلى أنكم أولياء أوليائه، وأعداء أعدائه، من خاص وعام، وأبعد وأقرب، وتتمسكون ببيعته بوفاء العقد، وذمة العهد، سرائركم في ذلك مثل علانيتكم، وضمائركم مثل ألسنتكم، راضين بما يرضاه لكم أمير المؤمنين في عاجلكم وآجلكم وعلى إعطائكم أمير المؤمنين بعد تجديدكم بيعته هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم، صفقة أيمانكم، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد الله عليكم، وعلى ألا يميل بكم مميل في ذلك عن نصرة وإخلاص، ونصح وموالاة، وعلى ألا تبدلوا، ولا يرجع منكم راجع عن نيته، وانطوائه إلى غير علانيته، وعلى أن تكون
    (9/237)
    بيعتكم التي أعطيتم بها ألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتقادها، وعلى الوفاء بذمته بها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم دغل ولا إدهان ولا احتيال ولا تأول، حتى تلقوا الله، موفين بعهده، ومؤدين حقه عليكم، غير مستشرفين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
    عليكم بذلك وبما أكدت هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم بها من وفاء ونصر، وموالاة واجتهاد ونصح، وعليكم عهد الله، إن عهده كان مسئولا، وذمة الله وذمة رسوله وأشد ما أخذ على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من متأكد وثائقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا، وأن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تخلصوا ولا ترتابوا، وأن تتمسكوا بما عاهدتم عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم وذوي العهد والوفاء بوفائهم وحقهم، لا يلفتكم عن ذلك هوى ولا مميل، ولا يزيغ بكم فيه ضلال عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها.
    فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين هذه البيعة عما أكد عليه مسرا أو معلنا، أو مصرحا أو محتالا، فأدهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذت به مواثيق أمير المؤمنين، وعهود الله عليه، مستعملا في ذلك الهوينى دون الجد، والركون إلى الباطل دون نصرة الحق، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الوفاء منهم بعهودهم، فكل ما يملك كل واحد ممن خان في ذلك بشيء نقض عهده من مال أو عقار أو سائمة، أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محرم عليه أن يرجع شيء من ذلك إلى ماله عن حيلة يقدمها لنفسه أو يحتال بها وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل قدرها، فتلك سبيله إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله، وكل مملوك يملكه اليوم إلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى أحرار لوجه الله، ونساؤه
    (9/238)
    في يوم يلزمه الحنث، ومن يتزوجه بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق البتة طلاق الحرج والسنة، لا مثنوية فيه ولا رجعة وعليه المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
    * وذكر أنه لما كانت صبيحة اليوم الذي بويع فيه المنتصر شاع الخبر في الماحوزة- وهي المدينة التي كان جعفر بناها في أهل سامرا- بقتل جعفر، وتوافى الجند والشاكرية بباب العامة بالجعفري وغيرهم من الغوغاء والعوام، وكثر الناس وتسامعوا، وركب بعضهم بعضا، وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتاب بن عتاب- وقيل: إن الذي خرج إليهم زرافة- فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون، فاسمعوه، فدخل إلى المنتصر فأخبره، فخرج وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم: يا كلاب! خذوهم، فحملوا على الناس فدفعوهم إلى الثلاثة الأبواب، فازدحم الناس ووقع بعضهم على بعض، ثم تفرقوا عن عدة قد ماتوا من الزحمة والدوس، فمنهم من ذكر أنهم كانوا ستة نفر، ومنهم من قال: كانوا ما بين الثلاثة إلى الستة.
    وفيها ولي المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد- مولى بني هاشم، بعد البيعة له بيوم- المظالم، فقال قائل:
    يا ضيعة الإسلام لما ولي ... مظالم الناس أبو عمره
    صير مأمونا على أمة ... وليس مأمونا على بعره
    وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد ووكل به.
    وحج بالناس فيها محمد بن سليمان الزينبي.
    (9/239)
    ثم دخلت
    سنة ثمان وأربعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر غزاه وصيف التركى الروم
    فمن ذلك ما كان من إغزاء المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم.
    ذكر الخبر عن سبب ذلك، وما كان في ذلك من وصيف:
    ذكر أن السبب في ذلك أنه كان بين أحمد بن الخصيب ووصيف شحناء وتباغض، فلما استخلف المنتصر، وابن الخصيب وزيره، حرض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره غازيا إلى الثغر، فلم يزل به حتى أحضره المنتصر، فأمره بالغزو.
    وقد ذكر عن المنتصر أنه لما عزم على أن يغزي وصيفا الثغر الشامي، قال له أحمد بن الخصيب: ومن يجترئ على الموالي حتى تأمر وصيفا بالشخوص! فقال المنتصر لبعض من الحجبة: ائذن لمن حضر الدار، فاذن لهم وفيهم وصيف، فأقبل عليه، فقال له: يا وصيف، أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه، فإما شخصت وإما شخصت، فقال وصيف:
    بل أشخص يا أمير المؤمنين، قال: يا أحمد، انظر ما يحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما نعم! قم الساعة لذلك، يا وصيف مر كاتبك يوافقه على ما يحتاج إليه، ويلزمه حتى يزيح علتك فيه فقام أحمد بن الخصيب، وقام وصيف، فلم يزل في جهازه حتى خرج، فما أفلح ولا أنجح.
    وذكر أن المنتصر لما أحضر وصيفا وأمره بالغزو، قال له: إن الطاغية- يعني ملك الروم- قد تحرك، ولست آمنه أن يهلك كل ما يمر به من بلاد
    (9/240)
    الإسلام، ويقتل ويسبي الذراري، فإذا غزوت وأردت الرجعة انصرفت إلى باب أمير المؤمنين من فورك وأمر جماعة من القواد وغيرهم بالخروج معه وانتخب له الرجال، فكان معه من الشاكرية والجند والموالي زهاء عشرة آلاف رجل، فكان على مقدمته في بدأته مزاحم بن خاقان، أخو الفتح بن خاقان، وعلى الساقة محمد بن رجاء، وعلى الميمنة السندي بن بختاشة، وعلى الدراجة نصر بن سعيد المغربي، واستعمل على الناس والعسكر أبا عون خليفته، وكان على الشرطة بسامرا.
    وكتب المنتصر عند إغزائه وصيفا مولاه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتابا نسخته:
    بسم اللَّه الرحمن الرحيم: من عبد اللَّه محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين.
    سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله أما بعد:
    فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، اختار الإسلام وفضله، وأتمه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلا نهجا إلى رحمته، وسببا إلى مذخور كرامته، فقهر له من خالفه، وأذل له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصه بأتم الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها، وبعث به خيرته من خلقه وصفوته من عباده محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه، وأنجحها وسيلة إليه، لأن الله عز وجل أعز دينه، وأذل عتاة الشرك، قال عز وجل أمرا بالجهاد، ومفترضا له: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ، وليست تمضي بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصبا ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدوا، ولا يقطع بلدا، ولا يطأ أرضا، إلا وله بذلك امر
    (9/241)
    مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
    » ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته، وما لهم من الزلفى عنده، فقال: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً» فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنته ثمنا لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها، وعدا منه حقا لا ريب فيه، وحكما عدلا لا تبديل له، قال الله عز وجل: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وحكم الله عز وجل لإحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال:
    «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا
    (9/242)
    بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
    » وليس من شيء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به في حط أوزارهم، وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة، لان اهله بذلوا الله أنفسهم، لتكون كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا بجهادهم العدو.
    وقد رأى أمير المؤمنين- لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته- أن ينهض وصيفا مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازيا لما عرف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربه من الله ومن خليفته.
    وقد رأى أمير المؤمنين- والله ولي معونته وتوفيقه- أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز، فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا، ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والخفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين
    (9/243)
    ومائتين، وصير على ما ذكر على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي.
    وكتب معه المنتصر كتابا إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأتيه رأي امير المؤمنين.
    ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهما
    وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما في القصر الجعفري المحدث.
    ذكر الخبر عن خلعهما أنفسهما:
    ذكر أن محمدا المنتصر بالله لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتز، فلا يبقي منا باقية، ويبيد خضراءنا، والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر وقالوا: يا أمير المؤمنين، تخلعهما من الخلافة، وتبايع لابنك عبد الوهاب، فلم يزالوا به حتى فعل، ولم يزل مكرما المعتز والمؤيد، على ميل منه شديد إلى المؤيد، فلما كان بعد أربعين يوما من ولايته، أمر بإحضار المعتز والمؤيد بعد انصرافهما من عنده، فأحضرا وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، لم ترانا أحضرنا؟ فقال: يا شقي، للخلع! فقال: لا أظنه يفعل بنا ذلك، فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة، وقال المعتز:
    ما كنت لأفعل، فإن أردتم القتل فشأنكم، فرجعوا إليه، فأعلموه ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه إلى بيت، وأغلقوا عليه الباب.
    فذكر عن يعقوب بن السكيت، أنه قال: حدثني المؤيد، قال: لما رأيت ذلك قلت لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب! فقد ضريتم على دمائنا، تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اعزبوا قبحكم الله! دعوني اكلمه، فكاعوا
    (9/244)
    عن جوابي بعد تسرع كان منهم، وأقاموا ساعة، ثم قالوا لي: القه إن أحببت، فظننت أنهم استأمروا، فقمت إليه، فإذا هو في البيت يبكي، فقلت: يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك- وهو هو- ما نالوا، ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك ولا تراجعهم!، قال: سبحان الله! أمر قد مضيت عليه، وجرى في الآفاق أخلعه من عنقي! فقلت: هذا الأمر قتل أباك، فليته لا يقتلك! اخلعه ويلك! فو الله لئن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين.
    قال: أفعل قال: فخرجت فقلت: قد أجاب، فأعلموا أمير المؤمنين، فمضوا ثم عادوا فجزوني خيرا، ودخل معهم كاتب قد سماه، ومعه دواة وقرطاس، فجلس، ثم أقبل على أبي عبد الله، فقال: اكتب بخطك خلعك، فتلكأ، فقلت للكاتب: هات قرطاسا، أملل ما شئت، فأملى علي كتابا إلى المنتصر، أعلمه فيه ضعفي عن هذا الأمر، وأني علمت أنه لا يحل أن أتقلده، وكرهت أن يأثم المتوكل بسببي إذ لم أكن موضعا له، وأسأله الخلع، وأعلمه أني خلعت نفسي، وأحللت الناس من بيعتي فكتبت كل ما أراد، ثم قلت: اكتب يا أبا عبد الله، فامتنع، فقلت: اكتب ويلك! فكتب وخرج الكاتب عنا، ثم دعانا فقلت: نجدد ثيابنا أو نأتي في هذه؟ فقال:
    بل جددا، فدعوت بثياب فلبستها، وفعل أبو عبد الله كذلك، وخرجنا فدخلنا، وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فسلمنا فردوا، وأمر بالجلوس، ثم قال: هذا كتابكما؟ فسكت المعتز، فبدرت فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا كتابي بمسألتي ورغبتي، وقلت للمعتز: تكلم، فقال مثل ذلك، ثم أقبل علينا والأتراك وقوف، وقال: أترياني خلعتكما طمعا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن في ذلك طمع، فو الله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من ان يليها بنو عمى، ولكن
    (9/245)
    هؤلاء- واما إلى سائر الموالي ممن هو قائم وقاعد- ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما، فما تريانى صانعا! اقتله؟ فو الله ما تفي دماؤهم كلهم بدم بعضكم، فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل علي قال: فأكبا عليه، فقبلا يده، فضمهما إليه، ثم انصرفا.
    وذكر أنه لما كان يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وكتب كل واحد منها رقعة بخطه أنه خلع نفسه من البيعة التي بويع له، وأن الناس في حل من حلها ونقضها، وأنهما يعجزان عن القيام بشيء منها، ثم قاما بذلك على رءوس الناس والأتراك والوجوه والصحابة والقضاة، وجعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، والقواد وبني هاشم، وولاة الدواوين والشيعة ووجوه الحرس، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف وبغا الكبير وبغا الصغير، وجميع من حضر دار الخاصة والعامة، ثم انصرف الناس بعد ذلك.
    والنسخة التي كتباها:
    بسم الله الرحمن الرحيم: إن أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه قلدني هذا الأمر، وبايع لي وأنا صغير، من غير إرادتي ومحبتي، فلما فهمت أمري علمت أني لا أقوم بما قلدني، ولا أصلح لخلافة المسلمين، فمن كانت بيعتي في عنقه فهو من نقضها في حل، وقد احللتكم منها، وأبرأتكم من أيمانكم، ولا عهد لي في رقابكم ولا عقد، وأنتم براء من ذلك.
    وكان الذي قرأ الرقاع أحمد بن الخصيب ثم قام كل واحد منهما قائما، فقال لمن حضر: هذه رقعتي وهذا قولي، فاشهدوا علي، وقد أبرأتكم من
    (9/246)
    أيمانكم، وحللتكم منها، فقال لهما المنتصر عند ذلك: قد خار الله لكما وللمسلمين، وقام فدخل وكان قد قعد للناس، وأقعدهما بالقرب منه، فكتب كتابا إلى العمال بخلعهما وذلك في صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
    نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس محمد بن عبد الله
    ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين، أما بعد، فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، جعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث به رسوله ص والذابين عن دينه، والداعين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل ما اختصهم به من كرامته قواما لعباده، وصلاحا لبلاده، ورحمه غمر بها خلقه وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأوجبها في محكم تنزيله، لما جمع فيها من سكون الدهماء، واتساق الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور، وانتظام الأمور، فقال: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ، فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى رحمته، وسببا لرضاه ومثوبته، لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم، ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم، وأن يكون محلهم من الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر المسلمين.
    وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه، وتذللا لعظمته، أن يتولاه فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعينه بتوفيقه
    (9/247)
    على طاعته، أنه سميع قريب.
    وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما، يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته بهما، وجميل نظره لهما، وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد بعد أبي عبد الله وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث سنين، ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجر أحكامهما ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد، وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في حل، إذ كانا لا يقومان بما رشحا له، ولا يصلحان لتقلده، وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعا ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك، ويسألانه فيه، منذ أفضى الله بخلافته إليه، وانهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها، وجعلا كل من لهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه ورعيته، قريبهم وبعيدهم، وحاضرهم وغائبهم، في حل وسعة من بيعتهم وأيمانهم، ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما.
    وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله، وأشد ما أخذ على ملائكته وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية، ويسألان أمير المؤمنين
    (9/248)
    أن يظهر ما فعلاه، وينشره، ويحضر جميع أوليائه، ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين، طائعين غير مكرهين ولا مجبرين، ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكرا من وقوع الأمر لهما من ولاية العهد، وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان بها ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع عمال النواحي وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم، وسائر أوليائه الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم وحضر أبو عبد الله وإبراهيم ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه، وقرئت رقعتاهما بخطوطهما بحضرتهما، إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر، وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به ورأى أمير المؤمنين أن يجمع في إجابتهما إلى نشر ما فعلاه وإظهاره، وإمضائه ذلك، قضاء حقوق ثلاثة: منها حق الله عز وجل فيما استحفظه من خلافته، وأوجب عليه من النظر لأوليائه فيما يجمع لهم كلمتهم في يومهم وغدهم، ويؤلف بين قلوبهم ومنها حق الرعية الذين هم ودائع الله عنده حتى يكون المتقلد لأمورهم ممن يراعيهم آناء الليل والنهار بعنايته ونظره وتفقده وعدله ورأفته، ومن يقوم بأحكام الله في خلقه، ومن يضطلع بثقل السياسة وصواب التدبير ومنها حق أبي عبد الله وإبراهيم فيما يوجبه أمير المؤمنين لهما بأخوتهما وماس رحمهما، لأنهما لو أقاما على ما خرجا منه، لم
    (9/249)
    يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يعظم في الدين ضرره، ويعم المسلمين مكروهه، ويرجع عليهما عظيم الوزر فيه، فخلعهما أمير المؤمنين إذ خلفا أنفسهما من ولاية العهد، وخلعهما جميع إخوة أمير المؤمنين ومن بحضرته، من أهل بيته، وخلعهما جميع من حضر من قواد أمير المؤمنين ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم من سائر أولياء أمير المؤمنين، الذين كانت أخذت لهما البيعة عليهم وأمر أمير المؤمنين بإنشاء الكتب بذلك إلى جميع العمال، ليتقدموا في العمل بحسب ما فيها، ويخلعوا أبا عبد الله وإبراهيم من ولاية العهد، إذ كانا قد خلعا أنفسهما من ذلك، وحللا الخاص والعام، والحاضر والغائب، والداني والقاصي منه، ويسقطوا ذكرهما بولاية العهد، وذكر ما نسبا إليه من نسب ولاية العهد من المعتز بالله والمؤيد بالله من كتبهم وألفاظهم، والدعاء لهما على المنابر، ويسقطوا كل ما ثبت في دواوينهم من رسومهما القديمة والحديثة الواقعة على من كان مضموما إليهما، ويزيلوا ما على الأعلام والمطارد من ذكرهما، وما وسمت به دواب الشاكرية والرابطة من أسمائهما ومحلك من أمير المؤمنين وحالك عنده على حسب ما أخلص الله لأمير المؤمنين من طاعتك ومناصحتك، وموالاتك ومشايعتك، ما أوجب الله لك بسلفك ونفسك، وما عرف الله أمير المؤمنين من طاعتك ويمن نقيبتك، واجتهادك في قضاء الحق وقد أفردك أمير المؤمنين بقيادتك، وإزالة الضم إلى أبي عبد الله عنك وعمن في ناحيتك بالحضرة وسائر النواحي.
    ولم يجعل أمير المؤمنين بينك وبينه احد يرؤسك، وخرج أمره بذلك إلى ولاة دواوينه.
    فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وأوعز إليهم في العمل على حسبه إن شاء الله، والسلام
    (9/250)
    وكتب أحمد بن الخصيب يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
    ذكر الخبر عن وفاه المنتصر
    وفي هذه السنة توفي المنتصر.
    ذكر الخبر عن العلة التي كانت فيها وفاته والوقت الذي توفي فيه وقدر المدة التي كانت فيها حياته:
    فأما العلة التي كانت بها وفاته، فإنه اختلف فيها، فقال بعضهم:
    أصابته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول، ومات مع صلاة العصر من يوم الأحد لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر.
    وقيل: توفي يوم السبت وقت العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، وإن علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات، وإن علته كانت ثلاثة أيام أو نحوها.
    وحدثني بعض أصحابنا انه كان وجد حرارة، فدعا بعض من كان يتطبب له، وأمره بفصده، ففصده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وإن الطبيب الذي فصده انصرف إلى منزله، وقد وجد حرارة، فدعا تلميذا له، فأمره بفصده ووضع مباضعه بين يديه ليتخير أجودها، وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر، وقد نسيه فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعا أجود من المبضع المسموم، ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره، فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك، فأوصى من ساعته، وهلك من يومه
    (9/251)
    وقد ذكر أنه وجد في رأسه علة فقطر ابن الطيفوري في أذنه دهنا، فورم رأسه، وعوجل فمات وقد قيل: إن ابن الطيفورى انما سمه في محاجمه.
    قال ابو جعفر: ولم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولي إلى أن مات يقولون: إنما مدة حياته ستة أشهر، مدة شيرويه ابن كسرى قاتل أبيه، مستفيضا ذلك على ألسن العامة والخاصة.
    وذكر عن يسر الخادم، وكان- فيما ذكر- يتولى بيت المال للمنتصر في أيام إمارته، أنه قال: كان المنتصر يوما من الأيام في خلافته نائما في إيوانه، فانتبه وهو يبكى وينتخب، قال: فهبته أن أسأله عن بكائه، ووقفت وراء الباب، فإذا عبد الله بن عمر البازيار قد وافى فسمع نحيبه وشهيقه، فقال لي: ما له؟ ويحك يا يسر! فأعلمته أنه كان نائما فانتبه باكيا، فدنا منه، فقال له: ما لك يا أمير المؤمنين تبكي لا أبكى الله عينك؟! قال:
    ادن مني يا عبد الله، فدنا منه فقال له: كنت نائما، فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني، فقال لي: ويلك يا محمد! قتلتني وظلمتني وغبنتنى في خلافتي، والله لا تمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار.
    فانتبهت، وما أملك عيني ولا جزعي فقال له عبد الله: هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، بل يعمرك ويسرك الله، فادع الآن بالنبيذ، وخذ في اللهو، ولا تعبأ بالرؤيا قال: ففعل ذلك، وما زال منكسرا إلى أن توفي.
    وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكي عنه أمورا قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب، فأشاروا عليه بقتله، فكان من أمره ما ذكرنا بعضه.
    وذكر عنه أنه لما اشتدت به علته، خرجت إليه أمه فسألته عن حاله، فقال: ذهبت والله مني الدنيا والآخرة.
    قال ابراهيم بن جيش: حدثنى موسى بن عيسى الكاتب، كاتب عمى يعقوب وابن عمى يزيد، ان المنتصر لما افضت الخلافه اليه، كان يكثر إذا سكر قتل ابيه المتوكل، ويقول في الاتراك: هؤلاء قتله الخلفاء، ويذكر من ذلك ما تخوفوه، فجعلوا الخادم له ثلاثين الف دينار على ان يحتال في سمه،
    (9/252)
    وجعلوا لعلى بن طيفور جمله، وكان المنتصر يكثر اكل الكمثرى إذا قدمت اليه الفاكهة، فعمد ابن طيفور الى كمثراه كبيره نضيجه، فادخل في راسها خلاله، ثم سقاها سما، فجعلها الخادم في اعلى الكمثرى الذى قدمه اليه، فلما نظر إليها المنتصر امره ان يقشرها ويطعمه إياها، فقشرها وقطعها، ثم اعطاه قطعه قطعه حتى اتى عليها، فلما أكلها وجد فتره، فقال لابن طيفور: أجد حراره، فقال: يا امير المؤمنين، احتجم تبرا من عله الدم، وقدر انه إذ خرج الدم قوى عليه السم فحجم فحم، وغلظت علته عليه فتخوف هو والاتراك ان تطول علته، فقال له: يا امير المؤمنين، ان الحجامة لم يكن فيها ما قدرنا في عافيتك، وتحتاج الى الفصد، فانه انجح لما تريد، فقال: افعل، ففصده بمبضع مسموم، ودهش، فالقاه في مباضعه- وكان أحدها وأجودها ثم ان على بن طيفور، وجد حراره، فدعا تلميذا له ليفصده، فنظر في المباضع فلم يجد احد منه، ولا اخير ففصده، فكانت منيته فيه.
    وذكر عن ابن دهقانه أنه قال: كنا في مجلس المنتصر يوما بعد ما قتل المتوكل، فتحدث المسدود الطنبوري بحديث، فقال المنتصر: متى كان هذا؟
    فقال: ليلة لا ناه ولا زاجر، فأحفظ ذلك المنتصر.
    وذكر عن سعيد بن سلمة النصراني أنه قال: خرج علينا أحمد بن الخصيب مسرورا يذكر أن أمير المؤمنين المنتصر رأى في ليلة في المنام، أنه صعد درجة حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة منها، فقيل له:
    هذا ملكك، وبلغ الخبر ابن المنجم، فدخل عليه محمد بن موسى وعلي بن يحيى المنجم مهنئين له بالرؤيا، فقال: لم يكن الأمر على ما ذكر لكم احمد ابن الخصيب، ولكني حين بلغت أخر المراقي، قيل لي: قف فهذا آخر عمرك، واغتم لذلك غما شديدا، فعاش بعد ذلك أياما تتمة سنة، ثم مات وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل: توفي وهو ابن خمس وعشرين سنة.
    وستة أشهر وقيل: بل كان عمره أربعا وعشرين سنة، وكانت مدة خلافته ستة اشهر
    (9/253)
    في قول بعضهم ويومين.
    وقيل: كانت ستة أشهر سواء.
    وقيل: كانت مائة يوم وتسعة وسبعين يوما.
    وكان وفاته بسامرا بالقصر المحدث، بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع وأربعين ليلة، وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال:
    فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ... ولكن إلى الرب الكريم أصير
    وصلى عليه أحمد بن محمد بن المعتصم بسامرا، وبها كان مولده.
    وكان أعين أقنى قصيرا جيد البضعة وكان- فيما ذكر- مهيبا.
    وهو أول خليفة من بني العباس- فيما بعد- عرف قبره.
    وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره وكانت كنيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي أم ولد رومية
    . ذكر بعض سيره
    ذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح عن المدينة وتوليه علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها، فذكر عن علي بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودعه، فقال لي:
    يا علي، إني أوجهك إلى لحمي ودمي- ومد جلد ساعده- وقال: إلى هذا وجهتك، فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين أيده الله فيهم إن شاء الله، فقال: إذا تسعد بذلك عندي وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن علي برد الخيار وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولا على فراشه، به عده ضربات
    (9/254)
    بالسيف، فأحضر ولده خادما أسود كان له ووصيفا، ذكر أن الوصيف أقر على الأسود، فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقر به، ووصف فعله به وسبب قتله إياه، فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره، فأشاروا بقتله، فضرب عنقه وصلبه، عند خشبة بابك 4 وفي هذه السنة حكم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية الموصل، فوجه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه أسيرا مع عدة من أصحابه، فقتلوا وصلبوا 34 وفيها تحرك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان، فصار إلى هراة.
    وذكر عن أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب المصلى أنه قال: كان لأبي مؤذن، فرآه بعض أهلنا في المنام كأنه أذن أذانا لبعض الصلوات، ثم دنا من بيت فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ.
    وذكر عن بنان المغني- وكان فيما قيل أخص الناس بالمنتصر في حياة أبيه وبعد ما ولي الخلافة- أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو خليفة، فقال: او خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال:
    تتمارض حتى أعودك، فإنه سيهدى لك أكثر من الثوب الديباج، قال: فمات في تلك الأيام، ولم يهب لي شيئا.
    وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بن محمد بن المعتصم.
    (9/255)
    خلافة أحمد بن محمد بن المعتصم وهو المستعين ويكنى أبا العباس
    ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه:
    ذكر أن المنتصر لما توفي، وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ سَنَةِ ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع الموالي إلى الهاروني يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش ومن معهم، فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية- وكان الذى يستحلفهم على بن الحسين ابن عبد الأعلى الإسكافي كاتب بغا الكبير- على ان يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل، لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم، فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم، فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، وقد كانوا قبله ذكروا جماعة من بني هاشم، فبايعوه وقت العشاء الآخرة من ليلة الاثنين، لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ السنة، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس.
    فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر اوتامش فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمري بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسني باب العامة من طريق الشارع على بيت المال، فصف أصحابه صفين، وقام في الصف هو وعدة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبيين وغيرهم ممن لهم مرتبه، فبينا هم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف، جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، فإذا نحو من خمسين فارسا من الشاكرية، ذكروا أنهم من أصحاب
    (9/256)
    أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من فرسان طبرية وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل، فشهروا السلاح، وصاحوا:
    يا معتز يا منصور، وشدوا على صفي الأشروسنية اللذين صفهما واجن، فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضة مع الشاكرية، فكثروا، فشد عليهم المغاربة والأشروسنية، فهزموهم حتى أدخلوهم الدرب الكبير المعروف بزرافة وعزون وحمل قوم منهم على المعتزية، فكشفوهم، حتى جاوزوا بهم دار أخي عزون بن إسماعيل وهم في مضيق الطريق، فوقف المعتزية هنالك، ورمى الأشروسنية عدة منهم بالنشاب، وضربوهم بالسيوف، ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزية والغوغاء يكبرون، فوقعت بينهم قتلى كثيرة، إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم، وانصرفوا مما يلي العمري والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب وخرج المستعين من باب العامة منصرفا إلى الهاروني، فبات هنالك ومضى الأشروسنية إلى الهاروني، وقد قتل من الفريقين عدد كثير، ودخل قوم من الأشروسنية دورا، فظفرت بهم الغوغاء، فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة منصرفين إلى الهاروني، فانتهبوا الخزانه التي فيها السلاح والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها، وربما مر أحدهم بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة أصحاب الفقاع تراس خيزران وقنا بلا أسنة، فكثرت الرماح والتراس في أيدي الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقلي، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك منهم بغا الصغير من درب زرافه، فاحلوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وأمسكوا قليلا ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم، وأقبل الغوغاء لا يمر أحد من الأتراك من أسافل سامرا يريد باب العامة إلا انتهبوا سلاحه، وقتلوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش
    (9/257)
    أخي يعقوب قوصرة في شوارع سامرا، وعامة من انتهب- فيما ذكر- هذا السلاح أصحاب الفقاع والناطف وأصحاب الحمامات والسقاءون وغوغاء الأسواق، فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرك أهل السجن بسامرا في هذا اليوم، فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في اليوم الذي بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به أخ لأتامش ومحمد بن عبد الله في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق وورد في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد الله على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر على خراسان والاعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان.
    ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها وولي ديوان البريد.
    وفي هذه السنه وجه انوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله يوم السبت بكفرتوثى لخمس بقين من شهر ربيع الآخر.
    وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجه خلفه رسول من الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج.
    وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما كان لهما، خلا شيئا استثنى منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة، فلما كان يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ
    (9/258)
    من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم وقيل: ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد الله ما يكون غلته من العين في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة آلاف دينار، فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ، وأشهدا عليهما بذلك الفقهاء والقضاة وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وحبسا في حجرة الجوسق، ووكل بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما، فمنعهم من ذلك أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما، وإنما المشغبة من أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا.
    وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب، وذلك في جمادى الأولى منها، واستصفي ماله ومال ولده، ونفي إلى أقريطش.
    وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على أرمينية وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة.
    وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامرا، وهدم سورهم.
    وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيما بالثغر الشامي حتى ورد عليه موت
    (9/259)
    المنتصر، ثم دخل بلاد الروم، فافتتح حصنا يقال له فروريه، وعقد المستعين فيها لاوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرا.
    وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجانقذق، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره، وقدمه اوتامش على جميع الناس.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي.
    (9/260)
    ثم دخلت
    سنة تسع وأربعين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمما كان فيها من ذلك غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنا ومطامير، واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم، فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له أرز من مرج الأسقف، فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفا، فقتل عمر وألفا رجل من المسلمين، وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب.
    خبر قتل على بن يحيى الأرمني
    وفيها قتل علي بن يحيى الأرمني.
    ذكر الخبر عن سبب قتله:
    ذكر أن الروم لما قتلت عمر بن عبيد الله، خرجوا إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين بها، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من أرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم في جماعة من أهل ميافارقين والسلسلة، فقتل في نحو من أربعمائة رجل، وذلك في شهر رمضان.
    شغب الجند والشاكريه ببغداد
    وشغب الجند والشاكرية ببغداد في هذه السنة في أول يوم من صفر
    (9/261)
    ذكر الخبر عن السبب في ذلك:
    وكان السبب في ذلك أن الخبر لما اتصل بأهل مدينة السلام وسامرا وسائر ما قرب منهما من مدن الإسلام بمقتل عمر بن عبيد الله الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني- وكانا نابين من أنياب المسلمين، شديدا بأسهما، عظيما غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بها- شق ذلك عليهم، وعظم مقتلهما في صدورهم، مع قرب مقتل أحدهما من مقتل الآخر، ومع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء، واستخلافهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة، ولا نظر للمسلمين، فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الأبناء والشاكرية تظهر أنها تطلب الأرزاق، وذلك أول يوم من صفر، ففتحوا سجن نصر بن مالك، وأخرجوا من فيه وفي القنطرة بباب الجسر، وكان فيها جماعة- فيما ذكر- من رفوغ خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانحدرت سفنه، وانتهب ديوان قصص المحبسين، وقطعت الدفاتر، وألقيت في الماء، وانتهبوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون النصرانيين كاتبي محمد بن عبد الله، وذلك كله بالجانب الشرقي من بغداد وكان والي الجانب الشرقي حينئذ أحمد بن محمد بن خالد بن هرثمة ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامرا أموالا كثيرة من أموالهم، فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم بذلك، وأقبلت العامة من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم، فلم يبلغنا أنه كان للسلطان فيما كان من الروم إلى المسلمين من ذلك تغيير، ولا توجيه جيش إليهم لحربهم في تلك الأيام.
    ولتسع بقين من شهر ربيع الأول، وثب نفر من الناس لا يدرى من هم يوم الجمعة بسامرا، ففتحوا السجن بها، وأخرجوا من فيه، فوجه في طلب النفر الذين فعلوا ذلك زرافة في جماعة من الموالي، فوثبت بهم العامة فهزموهم، ثم ركب في ذلك
    (9/262)
    اوتامش ووصيف وبغا وعامة الأتراك، فقتلوا من العامة جماعة، وألقي على وصيف- فيما ذكر لي- قدر مطبوخ، ويقال: بل رماه قوم من العامه عند السريجه بحجر، فأمر وصيف النفاطين، فقذفوا ما هنالك من حوانيت التجار ومنازل الناس بالنار، فأنا رأيت ذلك الموضع محترقا، وذلك بسامرا عند دار إسحاق.
    وذكر أن المغاربة انتهبت منازل جماعة من العامة في ذلك اليوم، ثم سكن الأمر في آخر ذلك اليوم، وعزل بسبب ما كان من العامه والنفر الذين ذكرت في ذلك اليوم من الحركة، أحمد بن جميل عما كان إليه من المعونة بسامرا، وولى مكانه ابراهيم بن سهل الدارج
    . ذكر خبر قتل اوتامش وكاتبه
    وفي هذه السنه قتل اوتامش وكاتبه شجاع بن القاسم، وذلك يوم السبت لأربع عشرة خلون من شهر ربيع الآخر منها.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله:
    ذكر أن المستعين لما أفضت اليه الخلافه، اطلق يد اوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباحهما فعل ما أرادا فعله فيها، وفعل ذلك أيضا بأم نفسه، فلم يمنعها من شيء تريده، وكان كاتبها سلمه بن سعيد النصراني، وكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنما يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة الأنفس، فعمد اوتامش إلى ما في بيوت الأموال من الأموال فاكتسحه، وكان المستعين قد جعل ابنه العباس في حجر اوتامش، فكان ما فضل من الأموال عن هؤلاء الثلاثة الأنفس يؤخذ للعباس، فيصرف في نفقاته وأسبابه- وصاحب ديوان ضياعه يومئذ دليل- فاقتطع من ذلك أموالا جليلة لنفسه، وجعلت الموالي تنظر إلى الأموال تستهلك، وهم في ضيقة، وجعل اوتامش وهو صاحب المستعين وصاحب أمره، والمستولي عليه ينفذ أمور الخلافة، ووصيف
    (9/263)
    وبغا من ذلك كله بمعزل، فأغريا الموالي به، ولم يزالا يدبران الأمر عليه حتى احكما التدبير، فتذمرت الاتراك والفراغنه على اوتامش، وخرج إليه منهم يوم الخميس لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخر من هذه السنة أهل الدور والكرخ، فعسكروا وزحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين.
    وبلغه الخبر، فأراد الهرب، فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره فأقاموا على ذلك من أمرهم يوم الخميس ويوم الجمعة، فلما كان يوم السبت دخلوا الجوسق، فاستخرجوا اوتامش من موضعه الذي توارى فيه، فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم، وانتهبت دار اوتامش، فأخذ منها- فيما بلغني- أموال جليلة ومتاع وفرش وآله.
    ولما قتل اوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، ووليه عيسى بن فرخان شاه، وولي وصيف الأهواز، وبغا الصغير فلسطين في شهر ربيع الآخر ثم غضب بغا الصغير وحزبه على أبي صالح بن يزداد، فهرب أبو صالح إلى بغداد في شعبان، وصير المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي، فصير ديوان الرسائل إلى سعيد بن حميد رياسة، فقال في ذلك الحمدوني:
    ليس السيف سعيد بعد ما ... عاش ذا طمرين لا نوبة له
    إن لله لآيات وذا ... آية لله فينا منزله
    مقتل على بن الجهم
    وفيها قتل علي بن الجهم بن بدر، وكان سبب ذلك أنه توجه من بغداد إلى الثغر، فلما كان بقرب حلب بموضع يقال له خساف، لقيته خيل لكلب، فقتلته، وأخذ الأعراب ما كان معه، فقال وهو في السياق:
    أزيد في الليل ليل ... أم سال بالصبح سيل
    (9/264)
    ذكرت أهل دجيل ... وأين مني دجيل!
    وكان منزله في شارع الدجيل.
    وفيها عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء، ووليه جعفر بن محمد بن عمار البرجمي من أهل الكوفة، وقد قيل إن ذلك في سنة خمسين ومائتين.
    وفيها أصاب أهل الري في ذي الحجة زلزلة شديدة ورجفة تهدمت منها الدور، ومات خلق من أهلها وهرب الباقون من أهلها من المدينة، فنزلوا خارجها ومطر أهل سامرا يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى، وذلك يوم السادس عشر من تموز مطر جود برعد وبرق، فأطبق الغيم ذلك اليوم، ولم يزل المطر جودا سائلا يومئذ إلى اصفرار الشمس ثم سكن.
    وتحركت المغاربة في هذه السنة يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكانوا يجتمعون قرب الجسر بسامرا، ثم تفرقوا يوم الجمعة.
    وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام وهو والى مكة.
    (9/265)
    ثم دخلت
    سنة خمسين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    ظهور يحيى بن عمر الطالبي ثم مقتله
    فمن ذلك ما كان من ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المكنى بأبي الحسين بالكوفة، وفيها كان مقتله رضي الله عنه.
    ذكر الخبر عن سبب ظهوره وما آل إليه أمره:
    ذكر أن أبا الحسين يحيى بن عمر- وأمه أم الحسين فاطمه بنت الحسين ابن عبد الله بْن إسماعيل بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا، فلقي عمر بن فرج- وهو يتولى امر الطالبين- عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل، فكلمه في صلته، فأغلظ عليه عمر القول، فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه، فحبس، فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله، فأطلق، فشخص إلى مدينة السلام، فأقام بها بحال سيئة، ثم صار إلى سامرا، فلقي وصيفا في رزق يجرى له، فأغلظ له وصيف في القول، وقال: لأي شيء يجري على مثلك! فانصرف عنه.
    فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفي الطالبي حدثه، أنه أتاه في الليلة التي كان خروجه في صبيحتها، فبات عنده، ولم يعلمه بشيء مما عزم عليه، وأنه عرض عليه الطعام، وتبين فيه أنه جائع، فأبى أن يأكل، وقال:
    إن عشنا أكلنا، قال: فتبينت أنه قد عزم على فتكة، وخرج من عندي،
    (9/266)
    فجعل وجهه إلى الكوفة، وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملا عليها من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر، فجمع يحيى بن عمر جمعا كثيرا من الأعراب، وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة، فأتى الفلوجة، فصار إلى قرية تعرف بالعمد، فكتب صاحب البريد بخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أيوب بن الحسن وعبد الله بن محمود السرخسي- وكان عامل محمد بن عبد الله على معاون السواد- يأمرهما بالاجتماع على محاربه يحيى ابن عمر- وكان على الخراج بالكوفة بدر بن الأصبغ- فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها، وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه، والذي وجد فيه ألفا دينار وزيادة شيء، ومن الورق سبعون ألف درهم، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين، وأخرج جميع من كان فيهما، وأخرج عمالها عنها، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسي- وكان في عداد الشاكرية، فضربه يحيى بن عمر ضربة على قصاص شعره في وجهه أثخنته، فانهزم ابن محمود مع أصحابه، وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدواب والمال ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها، فصار إلى موضع يقال له بستان- أو قريبا منه- على ثلاثة فراسخ من جنبلاء، ولم يقم بالكوفه، وتبعته جماعه من الزيدية، واجتمعت على نصرته جماعة من قرب من تلك الناحية من الأعراب وأهل الطفوف والسيب الأسفل، وإلى ظهر واسط ثم أقام بالبستان، فكثر جمعه، فوجه محمد بن عبد الله لمحاربته الحسين بن اسماعيل ابن إبراهيم بن مصعب، وضم إليه من ذوي البأس والنجدة من قواده جماعة، مثل خالد بن عمران وعبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس، وأبي السناء الغنوي، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وسعد الضبابي، ومن الاسحاقيه احمد ابن محمد بن الفضل وجماعة من خاصة الخراسانية وغيرهم.
    وشخص الحسين بن إسماعيل، فنزل بإزاء هفندى في وجه يحيى بن عمر، لا يقدم عليه الحسين بن إسماعيل ومن معه، وقصد يحيى نحو البحرية
    (9/267)
    - وهي قرية بينها وبين قسين خمسة فراسخ، ولو شاء الحسين أن يلحقه لحقه- ثم مضى يحيى بن عمر في شرقي السيب والحسين في غربيه، حتى صار الى احمداباذ فعبر إلى ناحية سورا، وجعل الجند لا يلحقون ضعيفا عجز عن اللحاق بيحيى إلا اخذوه، واوقعوه بمن صار إلى يحيى بن عمر من أهل تلك القرى.
    وكان أحمد بن الفرج المعروف بابن الفزاري يتولى معونة السيب لمحمد ابن عبد الله، فحمل ما اجتمع عنده من حاصل السيب قبل دخول يحيى بن عمر احمداباذ، فلم يظفر به.
    ومضى يحيى بن عمر نحو الكوفة، فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس، فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالا شديدا، فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب، وانحاز إلى ناحية شاهي، ووافاه الحسين بن إسماعيل، فعسكر بها، ودخل يحيى بن عمر الكوفة، واجتمعت إليه الزيدية، ودعا إلى الرضا من آل محمد وكثف أمره، واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه، وتولاه العامة من أهل بغداد- ولا يعلم أنهم تولوا من أهل بيته غيره- وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيعهم، ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم.
    وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي، واستراح وأراح أصحابه دوابهم، ورجعت إليهم أنفسهم، وشربوا العذب من ماء الفرات، واتصلت بهم الأمداد والميرة والأموال وأقام يحيى بن عمر بالكوفة يعد العدد، ويطبع السيوف، ويعرض الرجال، ويجمع السلاح.
    وإن جماعة من الزيدية ممن لا علم له بالحرب، أشاروا على يحيى بمعاجلة الحسين، وألحت عليه عوام أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب، ومعه الهيضم العجلي، في فرسان من بني عجل وأناس من بني أسد ورجالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا تدبير ولا شجاعة، فأسروا ليلتهم، ثم صبحوا حسينا وأصحابه- وأصحاب حسين مستريحون ومستعدون- فثاروا إليهم في الغلس
    (9/268)
    فرموا ساعة، ثم حمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا، ووضع فيهم السيف، فكان أول أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلي، فانهزم رجالة أهل الكوفة، وأكثرهم عزل بغير سلاح، ضعفي القوى، خلقان الثياب، فداستهم الخيل، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر، وعليه جوشن تبتي، وقد تقطر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير، فلم يعرفه، وظن أنه رجل من أهل خراسان، لما رأى عليه الجوشن، ووقف عليه أيضا أبو الغور بن خالد بن عمران، فقال لخير بن خالد: يا أخي، هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه، وهو نازل لا يعرف القصة لانفراج قلبه، فأمر خير رجلا من أصحابه المواصلين من العرفاء يقال له محسن بن المنتاب، فنزل إليه فذبحه، وأخذ رأسه وجعله في قوصرة، ووجهه مع عمر بن الخطاب، أخي عبد الرحمن بن الخطاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر.
    وادعى قتله غير واحد، فذكر عن العرس بن عراهم أنهم وجدوه باركا، ووجدوا خاتمه مع رجل يعرف بالعسقلاني مع سيفه، وادعى أنه طعنه وسلبه، وادعى سعد الضبابي أنه قتله.
    وذكر عن أبي الحسين خال أبي السناء أنه طعن في الغلس رجلا في ظهره لا يعرفه، فأصابوا في ظهر أبي الحسين طعنة ولا يدرى من قتله، لكثرة من ادعاه، وورد الرأس دار محمد بن عبد الله بن طاهر، وقد تغبر، فطلبوا من يقور ذلك اللحم، ويخرج الحدقة والغلصمة، فلم يوجد، وهرب الجزارون، وطلب ممن في السجن من الخرمية الذباحين من يفعل ذلك فلم يقدم عليه أحد، إلا رجل من عمال السجن الجديد، يقال له سهل بن الصغدي، فإنه تولى إخراج دماغه وعينيه وقوره بيديه، وحشي بالصبر والمسك والكافور بعد أن غسل وصير في القطن وذكر أنهم رأوا بجنبيه ضربة بالسيف منكرة
    (9/269)
    ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد اليوم الذي وافاه فيه، وكتب إليه بالفتح بيده، ونصب رأسه بباب العامة بسامرا، واجتمع الناس لذلك، وكثروا وتذمروا، وتولى إبراهيم الديرج نصبه، لأن إبراهيم بن إسحاق خليفة محمد بن عبد الله أمره فنصبه لحظة، ثم حط، ورد إلى بغداد لينصب بها بباب الجسر، فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله لكثرة من اجتمع من الناس وذكر لمحمد بن عبد الله أنهم على أخذه اجتمعوا، فلم ينصبه، وجعله في صندوق في بيت السلاح في داره، ووجه الحسين ابن إسماعيل بالأسرى ورءوس من قتل معه مع رجل يقال له أحمد بن عصمويه، ممن كان مع إسحاق بن إبراهيم، فكدهم وأجاعهم وأساء بهم، فأمر بهم فحبسوا في سجن الجديد، وكتب فيهم محمد بن عبد الله يسأل الصفح عنهم، فأمر بتخليتهم، وأن تدفن الرءوس ولا تنصب، فدفنت في قصر بباب الذهب.
    وذكر عن بعض الطاهرين أنه حضر مجلس محمد بن عبد الله وهو يهنأ بمقتل يحيى بن عمرو بالفتح وجماعة من الهاشميين والطالبيين وغيرهم حضور، فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري فيمن دخل، فسمعهم يهنئونه، فقال: أيها الأمير، إنك لتهنَّأ بقتل رجل لو كان رسول الله ص حيا لعزي به! فما رد عليه محمد بن عبد الله شيئا، فخرج أبو هاشم الجعفري، وهو يقول:
    يا بني طاهر كلوه وبيا ... إن لحم النبي غير مري
    إن وترا يكون طالبه الله ... لوتر نجاحه بالحري
    وكان المستعين قد وجه كلباتكين مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد ما هزم القوم وقتل يحيى بن عمر، فمضى ومعهم صاحب بريد الكوفة فلقي جماعة ممن كان مع يحيى بن عمر، ومعهم أسوقة وأطعمة يريدون عسكر يحيى، فوضع فيهم السيف فقتلهم، ودخل الكوفة، فأراد أن
    (9/270)
    ينهبها ويضع السيف في اهلم، فمنعه الحسين وآمن الأسود والأبيض بها، وأقام أياما ثم انصرف عنها
    ذكر خبر خروج الحسن بن زيد العلوي
    وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن ابن زيد بْن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي شهر رمضان منها.
    ذكر الخبر عن سبب خروجه:
    حدثني جماعة من أهل طبرستان وغيرهم، أن سبب ذلك كان أن محمد بن عبد الله بن طاهر لما جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر، ودخول أصحابه وجيشه الكوفة بعد فراغهم من قتل يحيى، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وأن من تلك القطائع التي أقطعها قطيعة فيما قرب من ثغري طبرستان مما يلي الديلم، وهما كلار وسالوس، كان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق، منها محتطبهم ومراعي مواشيهم ومسرح سارحتهم، وليس لأحد عليها ملك، وإنما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنها ذات غياض وأشجار وكلأ.
    فوجه- فيما ذكر لي- محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له جابر بن هارون، لحيازة ما أقطع هنالك من الأرض، وعامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، أخو محمد بن عبد الله بن طاهر، والمستولي على سليمان، والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان، وجعلهم ولاتها، وضم إلى كل واحد منهم مدينة منها، وهم أحداث سفهاء، قد تأذى بهم وبسفههم من تحت أيديهم من الرعية واستنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سفههم وسيرهم فيهم، وغلظ عليهم سوء
    (9/271)
    أثرهم فيهم، بقصص يطول الكتاب بشرح أكثرها.
    ووتر مع ذلك- فيما ذكر لي- محمد بن أوس الديلم بدخوله إلى ما قرب من بلادهم من حدود طبرستان، وهم أهل سلم وموادعة لأهل طبرستان على اغترار من الديلم بما يلتمس بدخوله إليهم بغارة، فسبى منهم وقتل، ثم انكفأ راجعا إلى طبرستان، فكان ذلك مما زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا، فلما صار رسول محمد بن عبد الله- وهو جابر بن هارون النصراني- إلى طبرستان لحيازة ما أقطعه هنالك محمد، عمد- فيما قيل لي- جابر بن هارون إلى ما أقطع محمد بن عبد الله من صوافي السلطان فحازه، وحاز ما اتصل به من موات الأرض التي يرتفق بها أهل تلك الناحية- فيما ذكر- فكان فيما رام حيازته من ذلك الموات الذى بقرب من الثغرين اللذين يسمى أحدهما كلار والآخر سالوس، وكان في تلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالبأس والشجاعة، وكانا مذكورين قديما بضبط تلك الناحية ممن رامها من الديلم، وبإطعام الناس بها وبالإفضال عن من ضوى إليهما، يقال لأحدهما محمد وللآخر جعفر، وهما ابنا رستم أخوان، فأنكرا ما فعل جابر بن هارون من حيازته الموات الذي وصفت أمره، ومانعاه ذلك وكان ابنا رستم في تلك الناحية مطاعين فاستنهضا من أطاعهما ممن في ناحيتهما لمنع جابر بن هارون من حيازة ما رام حيازته من الموات الذي هو مرفق لأهل تلك الناحية- فيما ذكر- وغير داخل فيما أقطعه صاحبه محمد بن عبد الله، فنهضوا معهما، وهرب جابر بن هارون خوفا على نفسه منهما وممن قد نهض معهما، لإنكار ما رام جابر النصراني فعله فلحق بسليمان بن عبد الله ابن طاهر، وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم ومن نهض معهما في منع جابر عما حاول من حيازة ما حاول حيازته من الموات الذي ذكرت بالشر، وذلك أن عامل طبرستان كلها سليمان بن عبد الله، وهو أخو محمد بن عبد الله بن طاهر وعم محمد ابن طاهر بن عبد الله عامل المستعين على خراسان وطبرستان والري والمشرق كله يومئذ
    (9/272)
    فلما ايقن القوم بذلك، راسلوا جيرانهم من الديلم، وذكروهم وفاءهم لهم بالعهد الذي بينهم وبينهم، وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي، وأنهم لا يأمنون من ركوبه إياهم بمثل الذي ركبهم به، ويسألونهم مظاهرتهم عليه وعلى من معه، فأعلمهم الديلم أن ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين والبلاد، إنما عمالها إما عمال لطاهر، واما عمال من يتخذ آل طاهر إن احتاجوا إلى إنجادهم، وإن ما سألوا من معاونتهم لا سبيل لهم إليه إلا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمال سليمان بن عبد الله، فأعلمهم الذين سألوهم المظاهرة على حرب سليمان وعماله أنهم لا يغفلون عن كفايتهم ذلك، حتى يأمنوا مما خافوا منه فأجابهم الديلم إلى ما سألوهم من ذلك، وتعاقدوا هم وأهل كلار وسالوس على معاونه بعضهم بعضا على حرب سليمان ابن عبد الله وابن أوس وغيرهم ممن قصدهم بحرب.
    ثم أرسل ابنا رستم محمد وجعفر- فيما ذكر- إلى رجل من الطالبيين المقيمين كانوا يومئذ بطبرستان، يقال له محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وامتنع عليهم، وقال لهم: لكني أدلكم على رجل منا هو أقوم بما دعوتموه إليه مني، فقالوا: من هو؟ فأخبرهم أنه الحسن بن زيد، ودلهم على منزله ومسكنه بالري فوجه القوم إلى الري عن رسالة محمد بن إبراهيم العلوي إليه من يدعوه إلى الشخوص معه إلى طبرستان، فشخص معه إليها، فوافاهم الحسن بن زيد، وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وسالوس ورويان على بيعته وقتال سليمان بن عبد الله واحدة، فلما وافاهم الحسن بن زيد بايع له ابنا رستم، وجماعة أهل الثغور ورؤساء الديلم: كجايا ولاشام ووهسودان بن جستان، ومن أهل رويان عبد الله بن ونداميد- وكان عندهم من أهل التأله والتعبد- ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمال ابن أوس فطردوهم عنها، فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله، وهما بمدينه ساريه، وانضم الى الحسن ابن زيد مع من بايعه من أهل النواحي التي ذكرت، لما بلغهم ظهوره بها
    (9/273)
    حوزيه جبال طبرستان كما صمغان وفادسبان وليث بن قباذ، ومن أهل السفح خشكجستان بن ابراهيم بن الخليل بن وندا سفجان، خلا ما كان من سكان جبل فريم، فإن رئيسهم كان يومئذ والمتملك عليهم قارن بن شهريار، فإنه كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد ولا من معه حتى مات ميتة نفسه، مع موادعة كانت بينهما في بعض الاحوال، ومخاتنه ومصاهرة كفا من قارن بذلك من فعله عادية الحسن بن زيد ومن معه.
    ثم زحف الحسن بن زيد وقواده من أهل النواحي التي ذكرت نحو مدينة آمل، وهي أول مدن طبرستان مما يلي كلار وسالوس من السفح- وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها، فالتقى جيشاهما في بعض نواحي آمل، ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة ممن معه من أصحابه موضع معركة القوم إلى ناحية أخرى، فدخلوها فاتصل الخبر بدخوله مدينة آمل بابن أوس، وهو مشتغل بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد، فلم يكن له هم إلا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان بسارية، فلما دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه، وغلظ أمره، وانقض إليه كل طالب نهب ومريد فتنة من الصعاليك والحوزية وغيرهم، فأقام- فيما حدثت- الحسن بن زيد بآمل أياما، حتى جبى الخراج من أهلها، واستعد ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدا سليمان بن عبد الله، فخرج سليمان وابن أوس بمن معهما من جيوشهما، فالتقى الفريقان خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قواد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية، فدخلها برجاله وأصحابه، فانتهى الخبر إلى سليمان بن عبد الله ومن معه من الجند، فلم يكن لهم هم غير النجاة بأنفسهم.
    ولقد حدثني جماعة من أهل تلك الناحية وغيرها، أن سليمان بن عبد الله هرب وترك أهله وعياله وثقله وكل ما كان له بسارية من مال وأثاث وغير ذلك بغير مانع ولا دافع، فلم يكن له ناهية دون جرجان وغلب على ما كان له ولغيره بها من جنده الحسن بن زيد وأصحابه
    (9/274)
    فأما عيال سليمان وأهله وأثاثه فإنه بلغني أن الحسن بن زيد أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان، وأما ما كان لأصحابه فإن من كان مع الحسن بن زيد من التبع انتهبه، فاجتمع للحسن بن زيد بلحاق سليمان بن عبد الله بجرجان إمرة طبرستان كلها.
    فلما اجتمعت للحسن بن زيد طبرستان، وأخرج عنها سليمان ابن عبد الله وأصحابه وجه إلى الري خيلا مع رجل من أهل بيته، يقال له الحسن بن زيد، فصار إليها، فطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية، فلما دخل الموجه به من قبل الطالبيين الري هرب منها عاملها، فاستخلف بها رجلا من الطالبيين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها، فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الري إلى حد همذان، وورد الخبر بذلك على المستعين، ومدبر أمره يومئذ وصيف التركي، وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاد، وإليه خاتم المستعين ووزارته فوجه إسماعيل بن فراشة في جمع الى همذان، وامره بالمقام بها وضبطها الى أن يتجاوز إليها خيل الحسن بن زيد، وذلك أن ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبه عماله، وعليه صلاحه.
    فلما استقر بمحمد بن جعفر الطالبي القرار بالري ظهرت منه- فيما ذكر- أمور كرهها أهل الري، فوجه محمد بن طاهر بن عبد الله قائدا له من قبله، يقال له محمد بن ميكال- وهو أخو الشاه بن ميكال- في جمع من الخيل والرجالة إلى الري، فالتقى هو ومحمد بن جعفر الطالبي، خارج الري، فذكر أن محمد بن ميكال أسر محمد بن جعفر الطالبي، وفض جيشه، ودخل الري، فأقام بها، ودعا بها للسلطان، فلم يتطاول بها مكثه حتى وجه الحسن بن زيد إليه خيلا، عليها قائد له من اهل اللازر، يقال له واجن فلما صار واجن إلى الري خرج إليه محمد بن ميكال، فاقتتلا، فهزم واجن وأصحابه محمد بن ميكال وجيشه، والتجأ محمد بن ميكال إلى مدينة الري معتصما بها، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الري إلى أصحاب الحسن بن زيد فلما كان يوم عرفة من هذه السنة بعد مقتل محمد بن ميكال، ظهر بالري أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بْن علي بْن حسين بْن علي بْن
    (9/275)
    أبي طالب رضي الله عنه وإدريس بن موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن عبد الله ابن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، فصلى أحمد بن عيسى بأهل الري صلاة العيد، ودعا للرضا من آل محمد، فحاربه محمد بن علي بن طاهر، فهزمه احمد بن عيسى، فصار الى قزوين
    . [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنة غضب على جعفر بن عبد الواحد، لأنه كان بعث إلى الشاكرية، فزعم وصيف أنه أفسدهم، فنفي إلى البصرة لسبع بقين من شهر ربيع الأول.
    وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية، كابن أبي الشوارب والعثمانيين.
    وأخرج في هذه السنة من الحبس الحسن بن الأفشين.
    وأجلس فيها العباس بن أحمد بن محمد، فعقد لجعفر بن الفضل بن عيسى ابن موسى المعروف ببشاشات على مكة في جمادى الأولى.
    وفيها وثب أهل حمص وقوم من كلب- عليهم رجل يقال له عطيف ابن نعمة الكلبي- بالفضل بن قارن أخي مازيار بن قارن، وهو يومئذ عامل السلطان على حمص، فقتلوه في رجب، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا الكبير، فشخص موسى من سامرا يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فلما قرب موسى تلقاه أهلها فيما بينها وبين الرستن، فحاربهم فهزمهم، وافتتح حمص وقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من رؤساء أهلها، وكان عطيف قد لحق بالبدو.
    وفيها مات جعفر بن أحمد بن عمار القاضي يوم الأحد لسبع بقين من شهر رمضان.
    وفيها مات أحمد بن عبد الكريم الجواري والتيمي قاضي البصرة.
    وفيها ولي أحمد بن الوزير قضاء سامرا
    (9/276)
    وفيها وثبت الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن، وهرب عبد الله بن إسحاق.
    وفيها وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين كان وجه بهما إليه من كابل وأصنام وفوائح.
    وغزا الصائفة فيها بلكاجور.
    وحج بالناس في هذه السنة جعفر بن الفضل بشاشات وهو والي مكة.
    (9/277)
    ثم دخلت
    سنة إحدى وخمسين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر قتل باغر التركى
    فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي.
    ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر:
    ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع، فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي- رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك- بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا، فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال، لمكانه من بغا وكان ابن مارمة صديقا لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة، وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الاتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره.
    فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بد
    (9/278)
    ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى اصير مكانه إنسانا، وشانك به ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب، وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلا، فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين دليل وباغر، وباغر يتهدد دليلا بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه، فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلا، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك، وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك، فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني، وإنما باغر عبد من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له انه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه، ويخلع عليه، ويجلس في الدار مجلس بغا ووصيف- وهما يسميان الأميرين- ودافعوه بذلك وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم، فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال:
    الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد
    (9/279)
    استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء، فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين فبعث إلى بغا ووصيف، وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة، وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم تريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر.
    وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه، فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضرا دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود، فامتنع عليهم، فحبسوه في الحمام، وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إصطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح، فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة، فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه، فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعا، وتراكض الناس يومهم- وهو يوم الثلاثاء وليلته- بالسلاح جائين وذاهبين، فقال لهم وصيف:
    ترفقوا حتى تنظروا، فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى علموا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد، وقد كان وصيف أعطى قوما من المغاربة فرسانا ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث
    (9/280)
    إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور، وقد كان عدة من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد- وكان أحد خلفاء وصيف من الأتراك- أنه كان المتولي مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين، فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك الى دور دليل ابن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه، فانتهبوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات، وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب، ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها، من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار، لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب.
    وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي:
    لعمري لئن قتلوا باغرا ... لقد هاج باغر حربا طحونا
    وفر الخليفة والقائدان ... بالليل يلتمسان السفينا
    وصاحوا بميسان ملاحهم ... فجاءهم يسبق الناظرينا
    فألزمهم بطن حراقة ... وصرت مجاذيفهم سائرينا
    وما كان قدر ابن مارمه ... فتكسب فيه الحروب الزبونا
    ولكن دليل سعى سعية ... فأخزى الإله بها العالمينا
    فحل ببغداد قبل الشروق ... فحل بها منه ما يكرهونا
    فليت السفينة لم تأتنا ... وغرقها الله والراكبينا
    (9/281)
    وأقبلت الترك والمغربون ... وجاء الفراغنة الدارعونا
    تسير كراديسهم في السلاح ... يروحون خيلا ورجلا ثبينا
    فقام بحربهم عالم ... بأمر الحروب تولاه حينا
    فجدد سورا على الجانبين ... حتى أحاطهم أجمعينا
    وأحكم أبوابها المصمتات ... على السور يحمي بها المستعينا
    وهيا مجانيق خطارة ... تفيت النفوس وتحمي العرينا
    وعبى فروضا وجيشية ... ألوف ألوف إذ تحسبونا
    وعبى المجانيق منظومة ... على السور حتى أغار العيونا
    فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له: ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل:
    لئن عقرك القيد، لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة ومات ابن مارمة في تلك الأيام، فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد:
    ما زال إلا لزوال ملكه ... وحتفه من بعده وهلكه
    ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحا قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار الا سرا او بمؤنه ثقيله.
    وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان
    وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين.
    ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة، وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين، ونصبهم الحرب لمن اقام على الوفاء ببيعته:
    (9/282)
    قال ابو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد، وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام- وقيل لخمسة أيام- خلون من المحرم من هذه السنة، فلما وافاها، نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام، فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعا إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحيه وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي، وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا.
    وكان- فيما ذكر- وجه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولا، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللا وخضوعا، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم، ألم ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها، كل ذلك إرادة لصلاحكم ورضاكم، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهددا وإبعادا! فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن
    (9/283)
    نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت، فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا، فإن الأتراك ينتظرونك، فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين، قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك وقال: هؤلاء قوم عجم، ليس لهم معرفة بحدود الكلام وقال لهم المستعين، تصيرون الى إلى سامرا، فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في امرى هاهنا ومقامي.
    فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضا لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له، وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه، موكل بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة، وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم.
    وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طلمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشام نحوا من خمسمائة ألف دينار، وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس ابن المستعين قيمه ستمائه ألف دينار، فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت:
    بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد، ورضا ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه، ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن
    (9/284)
    العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله أبو عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين، من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد، سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى به أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقة، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة، وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها.
    وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول، حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
    » عليكم بذلك وبما أكدت عليكم به هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم من وفاء ونصرة، وموالاة واجتهاد وعليكم عهد الله إن عهده كان مسئولا، وذمة الله عز وجل وذمة محمد ص، وما أخذ الله على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من مواكيده ومواثيقه،
    (9/285)
    أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا ولا تميلوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم الله عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم، وذوي الوفاء والعهد بوفائهم، ولا يلفتكم عن ذلك هوى ولا ميل، ولا يزيغ قلوبكم فتنة أو ضلالة عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة والوفاء بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها.
    فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين هذه البيعة على ما أخذ عليكم، مسرا أو معلنا، مصرحا أو محتالا أو متأولا، وادهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق الله وعهوده، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الرأي، فكل ما يملك كل واحد منكم ممن ختر في ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محبوس محرم عليه أن يرجع شيئا من ذلك إلى ماله، عن حيلة يقدمها لنفسه، أو يحتال له بها، وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل، فذلك سبيلها، إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله وكل مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة، ذكر أو أنثى، أحرار لوجه الله، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوج بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق طلاق الحرج، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
    وأحضر- فيما ذكر- البيعة ابو احمد بن الرشيد وبه النقرس محمولا في محفة، فأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتز: خرجت إلينا خروج طائع فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها، فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف فقال أبو أحمد: ما علينا أنك أكرهت، وقد بايعنا هذا الرجل، فتريد أن نطلق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون! إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس، وإلا فهذا السيف فقال المعتز اتركوه، فرد إلى منزله من غير بيعة
    (9/286)
    وكان ممن بايع إبراهيم الديرج وعتاب بن عتاب، فهرب فصار إلى بغداد وأما الديرج فخلع عليه، وأقر على الشرطة، وخلع على سليمان بن يسار الكاتب، وصير على ديوان الضياع، وأقام يومه يأمر وينهى وينفذ الأعمال، ثم توارى في الليل، وصار إلى بغداد ولما بايع الأتراك المعتز ولي عماله، فولى سعيد بن صالح الشرطه، وجعفر ابن دينار الحرس، وجعفر بن محمود الوزارة، وأبا الحمار ديوان الخراج، ثم عزل وجعل مكانه محمد بن ابراهيم منقار، وولى ديوان جيش الأتراك المعروف بأبي عمر كاتب سيما الشرابي، وولى مقلدا كيد الكلب أخا أبي عمر بيوت الأموال وإعطاء الأتراك والمغاربة والشاكرية، وولى بريد الآفاق والخاتم سيما السارباني، واستكتب أبا عمر، فكان في حد الوزارة.
    ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتز وتوجيهه العمال، أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا، وكتب إلى مالك بن طوق في المصير إلى بغداد هو ومن معه من أهل بيته وجنده، وإلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع أهل بيته ومنع السفن أو شيء من الميرة أن ينحدر إلى سامرا، ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد إلى سامرا، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط، فهرب الملاح منها وبقيت السفينة حتى غرقت، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد، فتقدم في ذلك، فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة ومن دجلة من باب قطيعة أم جعفر، حتى أورده قصر حميد بن عبد الحميد، ورتب على كل باب قائدا في جماعة من أصحابه وغيرهم وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعا ومظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والأمطار، فبلغت النفقة- فيما ذكر- على السورين وحفر الخنادق والمظلات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شداخات بعرض الطريق، فيها
    (9/287)
    العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني باب معلق بمقدار الباب ثخين، قد ألبس بصفائح الحديد، وشد بالحبال كي إن وافى أحد ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلق، فقتل من تحته وجعل على الباب الداخل عرادة، وعلى الباب الخارج خمسة مجانيق كبار، وفيها واحد كبير سموه الغضبان، وست عرادات ترمي بها إلى ناحية رقة الشماسية، وصير على باب البردان ثماني عرادات، في كل ناحية أربع، وأربع شداخات وكذلك على كل باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقي والغربي، وجعل على كل باب من أبوابها قوادا برجالهم وجعل لكل باب من أبوابها دهليزا بسقائف تسع مائة فارس ومائة راجل، ولكل منجنيق وعرادة رجالا مرتبين يمدون بحباله وراميا يرمي إذا كان القتال وفرض فروضا ببغداد ومر قوم من اهل خراسان قدموا حجاجا، فسألوا المعونة على قتال الاتراك.
    فأعينوا وأمر محمد بن عبد الله بن طاهر أن يفرض من العيارين فرض، وأن يجعل عليهم عريف، ويعمل لهم تراس من البواري المقيرة، وأن يعمل لهم مخال تملأ حجارة ففعل ذلك وتولى- فيما ذكر- عمل البواري المقيرة محمد بن أبي عون وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها.
    عملت نسائجات، أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب البواري المقيرة من العيارين رجلا يقال له ينتويه وكان الفراغ من عمل السور يوم الخميس لسبع بقين من المحرم.
    وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان إلى بغداد، ولا يحملون إلى سامرا شيئا، وإلى عمال المعاون في رد كتب الأتراك وأمر بالكتاب إلى الأتراك والجند الذين بسامرا يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء ببيعتهم إياه، ويذكرهم أياديه عندهم، وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته، وكان كتابه بذلك إلى سيما الشرابي
    (9/288)
    ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله بن طاهر مكاتبات ومراسلات، يدعو المعتز محمدا إلى الدخول فيما دخل فيه من بايعه بالخلافة وخلع المستعين، ويذكره ما كان أبوه المتوكل أخذ له عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة، ودعوة محمد بن عبد الله المعتز إلى ما عليه من الأوبة إلى طاعة المستعين، واحتجاج كل واحد منهما على صاحبه فيما يدعوه إليه من ذلك بما يراه حجة له، تركت ذكرها كراهة الإطالة بذكرها.
    وأمر محمد بن عبد الله بكسر القناطر وبثق المياه بطسوج الأنبار وما قرب منه من طسوج بادوريا، ليقطع طريق الأتراك حين تخوف من ورودهم الأنبار.
    وكان الذي تولى ذلك نجوبة بن قيس ومحمد بن حمد بن منصور السعدي.
    وبلغ محمد بن عبد الله توجيه الأتراك لاستقبال الشمسة التي كانت مع البينوق الفرغاني من يحميها من أصحابه فوجه محمد ليلة الأربعاء لعشر بقين من المحرم خالد بن عمران وبندار الطبري إلى ناحية الأنبار.
    ثم وجه بعدهما رشيد بن كاوس، فصادفوا البينوق ومن معه من الأتراك والمغاربة، وطالبهم خالد وبندار بالشمسة، فصار البينوق وأصحابه مع خالد وبندار إلى بغداد إلى المستعين وكان محمد بن الحسن بن جيلويه الكردي يتولى معونة عكبراء، وكان على الراذان رجل من المغاربة قد اجتمع عنده مال، فتوجه إليه ابن جيلويه، ودعاه إلى حمل مال الناحية، فامتنع عليه، ونصب له الحرب، فأسر ابن جيلويه المغربي، وحمله إلى باب محمد بن عبد الله، ومعه من مال الناحية اثنا عشر ألف دينار وثلاثون ألف درهم، فأمر محمد بن عبد الله لابن جيلويه بعشرة آلاف درهم وكتب كل واحد من المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا، وهو مقيم بأطراف الشام قرب الجزيرة- وكان خرج إلى حمص لحرب أهلها- يدعوه إلى نفسه، وبعث كل واحد منهما إليه بعدة ألوية يعقدها لمن أحب، ويأمره المستعين بالانصراف إلى مدينة السلام، ويستخلف على عمله من رأى فانصرف
    (9/289)
    إلى المعتز وصار معه وقدم عبد الله بن بغا الصغير بغداد على ابيه، وكان قد تخلف بسامرا حين خرج أبوه منها مع المستعين، وصار إلى المستعين، فاعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك وأقام ببغداد أياما، ثم استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له، فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت ليلته، فمضى في الجانب الغربي الى سامرا مجانبا لأبيه، وممالئا عليه، واعتذر إلى المعتز من مصيره إلى بغداد، وأخبره أنه إنما صار إليها ليعرف اخبارهم، وليصير اليه فيعرفه صحتها فقبل ذلك منه، ورده إلى خدمته.
    وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة، وزاد في أرزاقه ستة عشر ألف درهم في كل شهر.
    ولم يزل أسد بن داود سياه مقيما بسامرا، حتى هرب منها، فذكر أن الأتراك بعثوا في طلبه إلى ناحية الموصل والأنبار والجانب الغربي في كل ناحية خمسين فارسا، فوافى مدينة السلام، فدخل على محمد بن عبد الله، فضم إليه من أصحاب إبراهيم الديرج مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبد الله بن موسى بن ابى خالد.
    وعقد المعتز لأخيه أبي أحمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة- وهي سنة إحدى وخمسين ومائتين- على حرب المستعين وابن طاهر، وولاه ذلك، وضم إليه الجيش، وجعل إليه الأمر والنهي، وجعل التدبير الى كلباتكين التركي، فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة، وضم المغاربة إلى محمد بن راشد المغربي، فوافوا عكبراء ليلة الجمعة لليلة بقيت من المحرم، فصلى أبو أحمد، ودعا للمعتز بالخلافة، وكتب بذلك نسخا إلى المعتز، فذكر جماعة من أهل عكبراء أنهم رأوا الأتراك والمغاربة وسائر أتباعهم، وهم على خوف شديد، يرون أن محمد بن
    (9/290)
    عبد الله قد خرج إليهم فسبقهم إلى حربهم، وجعلوا ينتهبون القرى ما بين عكبراء وبغداد وأوانا وسائر القرى من الجانب الغربي، تخوفا على أنفسهم وخلوا عن الغلات والضياع، فخربت الضياع، وانتهبت الغلات والأمتعة وهدمت المنازل، وسلب الناس في الطريق.
    ولما وافى أبو أحمد عكبراء ومن معه خرج جماعة من الأتراك الذين كانوا مع بغا الشرابي بمدينة السلام من مواليه والمضمومين إليه، فهربوا ليلا، فاجتازوا بباب الشماسية، وكان على الباب عبد الرحمن بن الخطاب، ولم يعلم بخبرهم، وبلغ محمد بن عبد الله ذلك، فأنكره عليه وعنفه، وتقدم في حفظ الأبواب وحراستها والنفقة على من يتولاها.
    ولما وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكل بباب الشماسية.
    ثم وافى أبو أحمد وعسكره الشماسية ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، ومعه كاتبه محمد بن عبد الله بن بشر بن سعد المرثدي، وصاحب خبر العسكر من قبل المعتز الحسن بن عمرو بن قماش ومن قبله، صاحب خبر له يقال له جعفر بن احمد البناتى، يعرف بابن الخبازة، فقال رجل من البصريين كان في عسكره ويعرف بباذنجانة:
    يا بني طاهر أتتكم جنود الله ... والموت بينها منثور
    وجيوش أمامهن أبو أحمد ... نعم المولى ونعم النصير
    ولما صار أبو أحمد بباب الشماسية ولى المستعين الحسين بن اسماعيل باب الشماسيه، وصير من هناك من القواد تحت يده، فلم يزل مقيما هناك مدة الحرب إلى أن شخص إلى الأنبار، فولى مكانه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، ولثلاث عشرة مضت من صفر، صار إلى محمد بن عبد الله جاسوس له، فأعلمه أن أبا أحمد قد عبى قوما يحرقون ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فكشطت في ذلك اليوم
    (9/291)
    وذكر أن محمد بن عبد الله وجه محمد بن موسى المنجم والحسين بن إسماعيل، وأمرهما أن يخرجا من الجانب الغربي، وأن يرتفعا حتى يجاوزا عسكر أبي أحمد ويحزرا: كم في عسكره؟ فزعم محمد بن موسى أنه حزرهم ألفي إنسان، معهم ألف دابة، فلما كان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية، فوقفوا بالقرب منه، فوجه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبري فيمن معهم، وعزم على الركوب لمقاتلتهم، فانصرف إليه الشاه، فأعلمه أنه وافى بمن معه باب الشماسية.
    فلما عاين الأتراك الأعلام والرايات وقد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم، فانصرف الشاه والحسين، وترك محمد الركوب يومئذ.
    فلما كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم محمد بن عبد الله على توجيه الجيوش إلى القفص ليعرض جنده، هنالك، ويرهب بذلك الأتراك، وركب معه وصيف وبغا في الدروع، وعلى محمد درع، وفوق الدرع صدرة من درع طاهر، وعليه ساعد حديد، ومضى معه بالفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى الرجوع عما هم عليه من التمادي في الطغيان واللجاج والعصيان، وبعث يبذل لهم الأمان على أن يكون أبو عبد الله ولي العهد بعد المستعين، فإن قبلوا الأمان وإلا باكرهم بالقتال يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة تخلو من صفر، فمضى نحو باب قطربل، فنزل على شاطئ دجلة هو ووصيف وبغا، ولم يمكنه التقدم لكثرة الناس، وعارضهم من جانب دجلة الشرقي محمد بن راشد المغربي.
    ثم انصرف محمد، فلما كان من الغد وافته رسل عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس وعلك القائد ومن معهما من القواد، يعلمونه أن القوم قد دنوا منهم، وأنهم قد رجعوا إلى عسكرهم إلى رقة الشماسية، فنزلوا وضربوا مضاربهم فأرسل إليهم ألا تبدءوهم، وإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم، وادفعوهم اليوم فوافى باب الشماسية اثنا عشر فارسا من عسكر الأتراك- وكان على باب الشماسية
    (9/292)
    باب وسرب، وعلى السرب باب، فوقف الاثنا عشر الفارس بإزاء الباب، وشتموا من عليه، ورموا بالسهام، ومن باب الشماسية سكوت عنهم، فلما أكثروا أمر علك صاحب المنجنيق أن يرميهم، فرماهم فأصاب منهم رجلا فقتله، فنزل أصحابه إليه، فحملوه وانصرفوا إلى عسكرهم بباب الشماسية.
    وقدم عبد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي الموجه إلى طريق مكة لضبط الطريق مع أبي الساج في ثلاثمائة رجل من الشاكرية، فدخل على محمد بن عبد الله، فخلع عليه خمس خلع، وعلى آخر ممن معه أربع خلع.
    ودخل أيضا في هذا اليوم رجل من الأعراب من أهل الثعلبية يطلب الفرض معه خمسون رجلا، وورد الشاكرية القادمون من سامرا من قيادات شتى، وهم أربعون رجلا، فأمر بإعطائهم وإنزالهم فأعطوا.
    ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية، فرموا بالسهام والمنجنيق والعرادات، وكان بينهم قتلى وجرحى كثير، وكان الأمير الحسين بن اسماعيل لمحاربتهم، ثم أمد بأربعمائة رجل من الملطيين مع رجل يعرف بأبي السنا الغنوي وهو ابن أخت الهيثم الغنوي، ثم أمدهم بقوم من الاعراب نحو من ثلاثمائة رجل، وحمل في هذا اليوم من الصلات لمن أبلى في الحرب.
    خمسة وعشرين ألف درهم، واطوقه واسوره من ذهب، فصار ذلك الى الحسين ابن إسماعيل وعبد الرحمن بن الخطاب وعلك ويحيى بن هرثمة والحسن بن الأفشين وصاحب الحرب الحسين بن إسماعيل، فكان الجرحى من أهل بغداد أكثر من مائتي إنسان، والقتلى عدة، وكذلك الجراحات في الأتراك والقتلى أكثرهم بالمجانيق، وانهزم أكثر عامة أهل بغداد، وثبت أصحاب البواري وانصرفوا جميعا، وهم في القتلى والجرحى شبيه بالسواء، وجرح من هؤلاء- فيما ذكر- مائتان، ومن هؤلاء مائتان، وقتل جماعة من الفريقين.
    وجاء كردوس من الفراغنة والأتراك في هذا اليوم إلى باب خراسان من
    (9/293)
    الجانب الشرقي ليدخلوا منه، وأتى الصريخ محمد بن عبد الله، وثبت لهم المبيضة والغوغاء فردوهم وقد كان محمد أمر أن يمخر تلك الناحية، فلما أرادوا الانصراف، وحلت عامة دوابهم، ونجا أكثرهم، أحضر الأتراك منجنيقا، فغلبهم الغوغاء عليه والمبيضة، وكسروا قائمة من قوائمه، وقتل اثنان من الشاشية من الحجاج، وأمر بحمل الآجر من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية، وفتحوا باب الشماسية، وأخرجوا إلى الآجر من لقطه، وردوه إلى هذا الجانب من السور.
    وكان محمد بن عبد الله اتصل به أن جماعة من الأتراك قد صاروا إلى ناحية النهروان، فوجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الله بن محمود السرخسي ويحيى بن حفص المعروف بحبوس في خمسمائة من الفرسان والرجالة إلى هذه الناحية، ثم اردفهم بسبعمائة رجل أيضا، وأمرهم بالمقام هناك، ومنع من أراده من الأتراك، فتوجه آخرهم إلى هذه الناحية يوم الجمعة لسبع خلون من صفر.
    فلما كان ليلة الاثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، صار قوم من الأتراك إلى النهروان، فخرج جماعة ممن كان مع عبد الله بن محمود، فرجعوا هرابا، وأخذت دوابهم، وانصرف من نجا منهم إلى مدينة السلام مفلولين، وقتل زهاء خمسين رجلا، وأخذوا ستين دابة، وعدة من البغال قد كانت جاءت من ناحيه حلوان عليها الثلج، فوجهوا بها إلى سامرا، ووجهوا برءوس من قتلوا من الجند، فكانت أول رءوس وافت في تلك الحرب سامرا.
    وانصرف عبد الله بن محمود مفلولا في شرذمة، وصار طريق خراسان في أيدي الأتراك، وانقطع الطريق من بغداد إلى خراسان.
    وكان إسماعيل بن فراشة وجه إلى همذان للمقام بها، فكتب إليه بالانصراف، فانصرف، فأعطي هو وأصحابه استحقاقهم
    (9/294)
    ووجه المعتز عسكرا من الأتراك والمغاربة والفراغنة ومن هو في عدادهم.
    وعلى الأتراك والفراغنة الدرغمان الفرغاني، وعلى المغاربة ربلة المغربي، فساروا إلى مدينة السلام من الجانب الغربي، فجازوا قطربل إلى بغداد، وضربوا عسكرهم بين قطربل وقطيعة أم جعفر، وذلك عشية الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر فلما كان يوم الأربعاء من غد هذه الليلة، وجه محمد بن عبد الله بن طاهر الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالد بن عمران فيمن معهم من أصحابهم من الفرسان والرجالة فصافهم الشاه وأصحابه، فتراموا بالحجارة والسهام، وألجئوا الشاه إلى مضيق عند باب القطيعة، وكثر المبيضة من أهل بغداد، ثم حمل الشاه والمبيضة حملة واحدة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم، وحمل عليهم المبيضة، وأصحروا بهم، وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم، وخرج عليهم بندار وخالد بن عمران من الكمين، وكانوا كمنوا في ناحية قطربل، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد الأتراك منهم وغيرهم السيف، فقتلوهم أبرح قتل، فلم يفلت منهم إلا القليل، وانتهب المبيضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأهل والأثقال والمضارب والخرثي، فكل من أفلت منهم من السيف رمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد، فأخذه أصحاب الشبارات، وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة- فقتلوا وأسروا، وجعل القتلى والرءوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسرين، وعلى باب محمد بن عبد الله، فأمر محمد بن عبد الله لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، فسور قوم كثير من الجند وغيرهم، فطلب المنهزمة، فبلغ بعضهم أوانا، وبلغ بعضهم ناحية عسكر أبي أحمد عبر دجلة، وبعضهم نفذ إلى سامرا.
    وذكر أن عسكر الاتراك يوم هزموا بباب القطيعة كانوا أربعة آلاف، فقتل منهم يوم الوقعة هنالك ألفان، وكان وضع فيهم بالسيف من باب
    (9/295)
    القطيعة إلى القفص، فقتلوا من قتلوا، وغرق من غرق، وأسر منهم جماعة، فخلع محمد بن عبد الله على بندار أربع خلع ملحم، ووشي وسواد وخز، وطوقه طوقا من ذهب، وخلع على أبي السنا أربع خلع، وعلى خالد بن عمران وجميع القواد، كل رجل أربع خلع وكان انصرافهم من الوقعة مع المغرب، وسخرت البغال، وأخذ لها الجواليق لتحمل فيها الرءوس إلى بغداد.
    وكان كل من وافى دار محمد برأس تركي أو مغربي أعطوه خمسين درهما، وكان أكثر ذلك العمل للمبيضه والعيارين، ثم وافى عيار وبغداد قطربل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع أهل قطربل وأبواب دورهم، فوجه محمد في آخر هذا اليوم أخاه أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله والمظفر بن سيسل في أثر المنهزمين حياطة لأهل بغداد، لأنه لم يأمن رجعتهم عليه فبلغا القفص، وانصرفا سالمين، وزعجا من اقام من الرجاله والعيار بن بناحية قطربل، وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة، ليوغل في آثارهم، فأبى ذلك ولم يتبع موليا، ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر فيه هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد في مسجد جامعها، نسخته:
    بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في امره، والحكم العدل فلا يرد حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلا للحق وأهله، والمالك لكل شيء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادي إلى الرحمة فلا يضل من انقاد لطاعته، والمقدم إعذاره ليظاهر به حجته، الذي جعل دينه لعباده رحمة، وخلافته لدينه عصمة، وطاعة خلفائه فرضا واجبا على كافة الأمة، فهم المستحفظون في ارضه على
    (9/296)
    ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقه، لئلا يتشعب بهم الطريق إلى المخالفة لسبيله، والهادي لهم إلى صراطه، ليجمعهم على الجادة التي ندب إليها عباده الذين بهم يحمى الدين من الغواة والمخالفين، محتجين على الأمم بكتاب الله الذي استعملهم به، ودعا الأمة بحق الله الذي اختارهم له، إن جاهدوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن بغاهم عدو كانت كفاية الله حائلة دونهم ومعقلا لهم، وإن كادهم كائد فالله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه، فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذي أعزه وحرسه بهم، ومن ناواهم فإنما طعن على الحق الذي يكلؤه بحراستهم، جيوشهم بالنصر والعز منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدوهم محفوظة، وأيديهم عن دين الله دافعة، وأشياعهم بتناصرهم في الحق عالية، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضه، ووسائلهم إلى النصر مردودة، تجمعهم مواطن التحاكم، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعاداتهم في الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية، ليكون أهل الحق على ثقة من انجاز سابق الوعد، واعداؤه محجوبون بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معد لهم العذاب عند ربهم، والخزي موصول بنواصيهم في دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
    وصلى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامة نامية بركاتها، دائمة اتصالها، وسلم تسليما.
    والحمد لله تواضعا لعظمته، والحمد لله إقرارا بربوبيته، والحمد لله اعترافا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته والحمد لله الهادي إلى حمده، والموجب به مزيده، والمحصي به عوائد إحسانه، حمدا يرضاه ويتقبله، ويوجب طوله وأفضاله والحمد لله الذي حكم بالخذلان على من
    (9/297)
    بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغي عليه من أنصار حقه.
    وأنزل بذلك كتابه العزيز، موعظة للباغين، فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجة عند الله لمن قام بها فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدم من وعده، وأبان من برهانه: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» ، وعدا من الله حقا نهى به أعداءه عن معصيته، وثبت به أولياءه على سبيله، والله لا يخلف الميعاد ولله عند أمير المؤمنين في رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامي عن سلطانه ومحل ثقته، والمتقدم في طاعته ونصيحته لأوليائه، والذاب عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه، محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، نعمة يرغب إلى الله في إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطول بمن أراد المزيد فيها، فإن الله قدر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية، حين حاول أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفوها، فقام بحق الله وحق خليفته، محاميا عنها، ومراميا من ورائها، متناولا للبعيد برأيه ونظره، مباشرا للقريب بإشرافه وتفقده، باذلا نفسه في كل ما قربه من الله، وأوجب له الزلفة عنده، وسيمتع الله أمير المؤمنين به وليا، مكانفا على الحق، وناصرا موازرا على الخير، وظهيرا مجاهدا لعدو الدين وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة لنعم الله ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التي ألف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة الإسلام من أعناقها، الموالي الأتراك، وما صارت إليه من نصر الغلام المعروف بأبي عبد الله بن المتوكل لإقامتها عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محل سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه، وما قابل به أمير المؤمنين خيانتهم وآثره من الأناة في أمرهم
    (9/298)
    ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعا من الأتراك والمغاربة، ومن ولج في سوادهم، ودخل في غمارهم، مؤاتيا للفتنة من ألفاف الغي، ورأسوا عليهم المعروف بأبي أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام في الجانب الشرقي، معلنين للبغي والاقتدار، مظهرين للغي والإصرار، فتأناهم أمير المؤمنين، وفسح لهم في النظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدموا من البيعة، وإفهامهم ما لله عليهم وله في ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعا، الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن في تمسكهم به سلامة أديانهم، وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبين لهم ما سلف من بلائه عندهم، من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسني المراتب، والتقدم في المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسكا بالغي وإصرارا.
    فقلد أمير المؤمنين نصيحة المؤتمن ووليه محمد بن عبد الله مولى امير المؤمنين تدبير أمورهم ودعائهم إلى الحق ما كانت الإنابة او محاربتهم ان جنح بهم غيهم، وتتابعوا في ضلالهم، فلم يألهم نظرا وإفهاما، وتبيينا وإرشادا، وهم في ذلك رافعون أصواتهم بالتوعد لأهل لمدينه السلام، بسفك دمائهم وسبي نسائهم وتغنم أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا في مسيرهم على السبيل التي يستعملها أهل الشرك في غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النهزة لهم، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمي إلا أخذوه، حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخبارهم ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصنا من معرتهم، لا يمرون بغني إلا خلعوا عنه لباس الغنى، ولا بمستور إلا هتكوا عن الذرية والنساء ستره، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً، ولا يتوقفون عن مسلم بهتك ولا مثلة، ولا يرغبون عما حرم الله من دم ولا حرمة.
    ثم تلقوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا
    (9/299)
    التبصير بالاستبصار في الباطل، فذلفوا نحو باب الشماسيه، وقد رتب محمد ابن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العدة الكاملة، والعدة المتظاهرة، معاقلهم التوكل على ربهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهليل أمام عدوهم.
    ومحمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، يأمرهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم، فباداهم الأولياء بالموعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وعادوهم أياما بجموعهم وعدادهم، مدلين بعدتهم ومقدرين ألا غالب لهم، ولا يعلمون بالله أن قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامه عادلة ماضية لأهل الحق عليهم، حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفر وافوا باب الشماسية بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم وعيد دون سفك الدماء، وسبي النساء، واستباحة الأموال، فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم، فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم، فقتل الله من حماتهم وفرسانهم ورؤسائهم وقاده باطلهم جماعه كثيرا عددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي على من نالته أكثر عامتهم.
    فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم، استنهضوا جيشا من سامرا من الأتراك والمغاربة في العتاد والعدة والجلد والأسلحة في الجانب الغربي، طالبين المعرة، ومؤملين أن ينالوا نيلا من أهله باشتغال إخوانهم في الجانب الشرقي بأعدائهم.
    وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعا
    (9/300)
    بالرجال والعدة، ووكل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكف عن الرعية بوائق أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدا في جمع كثيف، ورتب على السور من يراعيه في الليل والنهار وبث الرجال ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفت الله في أعضادهم بها.
    فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي الباب المعروف بباب قطربل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقي من دجلة في عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دنوهم من الأبواب معا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقهم بباطلهم، املا كاذبا كادهم الله فيه غير صادق، وظنا خائبا لله فيه قضاء نافذ.
    وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبندار بن موسى الطبري مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربل، وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرف مع كتابه، والتوقف عن الحرب حتى تسبق التذكره الاسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمع يقابل جمعهم، مستبصرين في حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل فتلقاهم ومن معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنتهم، وأشرعوا لنحورهم أسنتهم، لا يشكون أنهم نهزة المختلس، وغنيمه المنتهب، فنادوهم بالموعظة نداء مسمعا، فمجتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدقهم أولياء الله في لقائهم، بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم، فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرة بعد كرة عليهم، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسهم ألم جراحها، وكلمتهم الحرب بأنيابها، ودارت
    (9/301)
    عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى دمائهم، ولوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية، فوقفوا بإزاء الأولياء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم، فانهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخونها فتور، ونية لا يلحقها تقصير، ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين.
    فلما وافى الشاه فيمن معه أعداء الله، وكل بالمواضع التي يتخوف منها مدخل الكمناء، ثم حمل من توجه معه من القواد المسمين ماضين لا يغويهم الوعيد، ولا يشكون من الله في النصر والتأييد، فوضعوا أسيافهم فيهم، تمضي أحكام الله عليهم، حتى ألحقوهم بالمعسكر الذي كانوا عسكروا فيه وجاوزوه، وسلبوهم كل ما كان من سلاح وكراع وعتاد الحرب، فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجئ من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة نفسه، قد أسكن الله الخوف قلبه، فكانت النقمة بحمد الله واقعة بالفريقين ممن وافى الجانب الغربي قادما، ومن عبر إليهم من الجانب الشرقي منجدا، لم ينج منهم ناج، ولم يعتصم منهم بالتوبة معتصم، ولا أقبل إلى الله مقبل، فرقا أربعا يجمعها النار، ويشملها عاجل النكال، عظة ومعتبرا لأولي الأبصار، فكانوا كما قال اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ.
    » ولم تزل الحرب بين الأولياء وبين الفرقة التي كانت في الجانب الشرقي والقتل محتفل في أعلامهم، والجراح فاشية فيهم، حتى إذا عاينوا ما أنزل الله بأشياعهم من البوار، وأحل بهم من النقمة والاستئصال، ما لهم من الله من عاصم، ولا من أوليائه ملجأ ولا موئل، ولوا منهزمين مفلولين منكوبين، قد
    (9/302)
    أراهم الله العبر في إخوانهم الغاوية، وطوائفهم المضلة، وضل ما كان في أنفسهم لما رأوا من نصر الله لجنده، وإعزازه لأوليائه، والحمد لله رب العالمين، قامع الغواة الناكبين عن دينه، والبغاة الناقضين لعهده، والمراق الخارجين من جملة أهل حقه، حمدا مبلغا رضاه، وموجبا أفضل مزيده وصلى الله أولا وآخرا على محمد عبده ورسوله، الهادي إلى سبيله، والداعي إليه بإذنه، وسلم تسليما.
    وكتب سعيد بن حميد يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين وركب محمد بن عبد الله بن طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر إلى باب الشماسية، وأمر بهدم ما وراء سور بغداد من الدور والحوانيت والبساتين وقطع النخل والشجر من باب الشماسيه الى ثلاثة أبواب، لتتسع الناحية على من يحارب فيها، وكان وجه من ناحية فارس والأهواز نيف وسبعون حمارا بمال إلى بغداد، قدم به- فيما ذكر- منكجور بن قارن الأشروسني القائد، فوجه الاتراك وأبو أحمد بن بابك إلى طرارستان في ثلاثمائة فارس وراجل، ليلتقى ذلك المال إذا صار إليها فوجه محمد بن عبد الله قائدا له يقال له يحيى بن حفص، يحمل ذلك المال، فعدل به عن طرارستان، خوفا من ابن بابك، فلما علم ابن بابك أن المال قد فاته صار بمن معه إلى النهروان، فأوقع من كان معه من الجند بأهلها، وأخرج أكثرهم، وأحرق سفن الجسر، وهي أكثر من عشرين سفينة، وانصرف إلى سامرا.
    وقدم محمد بن خالد بن يزيد- وكان المستعين قلده الثغور الجزرية، وكان مقيما بمدينة بلد ينتظر من يصير إليه من الجند والمال- فلما كان من اضطراب أمر الأتراك ودخول المستعين بغداد ما كان، لم يمكنه المصير إلى بغداد إلا من طريق الرقة، فصار إليها بمن معه من خاصته وأصحابه، وهم زهاء أربعمائة فارس وراجل، ثم انحدر منها إلى مدينة السلام، فدخلها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، فصار إلى دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فخلع عليه خمس خلع: دبيقي، وملحم، وخز، ووشي، وسواد،
    (9/303)
    ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد، فأخذ على ظهر الفرات فحاربه في نفر يسير، فهزم وصار إلى ضيعته بالسواد.
    فذكر عن سعيد بن حميد أنه قال: لما انتهى خبر هزيمة محمد بن عبد الله، قال: ليس يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره به.
    وفي هذا اليوم كانت للأتراك وقعة بباب الشماسيه، كانوا صاروا إلى الباب، فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى كشفوا من عليه، ورموا المنجنيق المنصوب بسره الباب بالنفط والنار، فلم يعمل فيه نارهم، وكثرهم من على الباب من الجند حتى أزالوهم عن موقفهم، ودفعوهم عن الباب بعد قتلهم عدة يسيرة من أهل بغداد، وجرحهم منهم جماعة كثيرة بالسهام فوجه محمد بن عبد الله إليهم عند ذلك العرادات التي كانت تحمل في السفن والزواريق، فرموهم بها رميا شديدا، فقتلوا منهم جماعة كثيرة نحوا من مائة إنسان، فتنحوا عن الباب، وكان بعض المغاربة صار في هذا اليوم إلى سور باب الشماسيه، فرمى كلاب إلى السور، وتعلق به وصعد، فأخذه الموكلون بالسور فقتلوه، ورموا برأسه في المنجنيق إلى عسكر الأتراك، وانصرفوا عند ذلك إلى معسكرهم.
    وذكر أن بعض الموكلين بسور باب الشماسية من الأبناء هاله ما رأى من كثرة من ورد باب الشماسيه في هذا اليوم من الأتراك والمغاربة، وكانوا قربوا من الباب بأعلامهم وطبولهم، ووضع بعض المغاربة كلابا على السور، فأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح: يا مستعين، يا منصور، فغلط، فصاح: يا معتز، يا منصور، فظنه بعض الموكلين بالباب من المغاربة، فقتلوه وبعثوا برأسه الى دار محمد بن عبد الله، فأمر بنصبه، فجاءت أمه وأخوه في عشية هذا اليوم بجثته في محمل يصيحان ويطلبان رأسه، فلم يدفع إليهما، ولم يزل منصوبا على الجسر إلى أن أنزل مع ما أنزل من الرءوس.
    ووافى ليلة الجمعة لسبع بقين من صفر جماعة من الأتراك باب البردان، وكان الموكل به محمد بن رجاء، وذلك قبل شخوصه إلى ناحية واسط، فقتل منهم
    (9/304)
    ستة نفر، وأسر أربعة، وكان الدرغمان شجاعا بطلا، وصار في بعض الأيام مع الأتراك إلى باب الشماسية، فرمى بحجر منجنيق، فأصاب صدره، فانصرف به إلى سامرا، فمات بين بصرى وعكبراء، فحمل إلى سامرا، فذكر يحيى بن العكي القائد المغربي أنه كان إلى جنب الدرغمان في يوم من ايامهم، إذ وافاه ناوكي، فأصاب عينه، ثم أصابه بعد ذلك حجر فأطار رأسه، فحمل ميتا.
    وذكر عن علي بن حسن الرامي، أنه قال: كنا قد جمعنا على السور على باب الشماسية من الرماة جماعة، وكان مغربي يجيء حتى يقرب من الباب، ثم يكشف استه ثم يضرط ويصيح، قال: فانتخبت له سهما فأنفذته في دبره حتى خرج من حلقه، وسقط ميتا وخرج من الباب جماعة فنصبوه كالمصلوب، وجاءت المغاربة بعد ذلك، فاحتملوه.
    وذكر أن الغوغاء اجتمعوا بسامرا بعد هزيمة الأتراك يوم قطربل، ورأوا ضعف أمر المعتز، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والسيوف والصيارفة، وأخذوا جميع ما وجدوا فيها من متاع وغيره، فاجتمع التجار إلى إبراهيم المؤيد أخي المعتز، فشكوا ذلك اليه، واعلموه انهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم قال: فقال لهم: كان ينبغي لكم أن تحولوا متاعكم الى منازلكم، وكبر عنده ذلك وقدم بحونه بن قيس بن أبي السعدي يوم السبت لثمان بقين من صفر بمن فرض من الاعراب وهم ستمائه راجل ومائتا فارس وقدم في هذا اليوم عشرة نفر من وجوه أهل طرسوس يشكون بلكاجور، ويزعمون أن بيعة المعتز وردت عليه، فخرج بعد ساعتين من وصول الكتاب، ودعا إلى بيعة المعتز، وأخذ القواد وأهل الثغر بذلك.
    فبايع أكثرهم، وامتنع بعض، فأقبل على من امتنع بالضرب والقيد والحبس، وذكر أنهم امتنعوا وهربوا لما أخذهم بالبيعة
    (9/305)
    كرها، فقال وصيف: ما أظن الرجل إلا اغترموه عليه وإن الوارد عليه بكتاب المعتز هو الليث بن بابك، وذكر له أن المستعين مات، وأقاموا المعتز مكانه، فتكلم هؤلاء النفر يشكون بلكاجور، ونسبوه إلى أنه فعل ذلك على عمد، ورفعوا عليه أنه كان يرى في بني الواثق، وقد ورد كتاب بلكاجور يوم الأربعاء لأربع بقين من صفر مع رجل يقال له على الحسين المعروف بابن الصعلوك، يذكر فيه أنه ورد عليه كتاب من أبي عبد الله بن المتوكل، أنه قد ولي الخلافة، وبايع له فلما ورد عليه كتاب المستعين بصحة الأمر، جدد أخذ البيعة على من قبله، وأنه على السمع والطاعة له فأمر للرسول بألف درهم فقبضها، وقد كان أمر بالكتاب إلى محمد بن علي الأرمني المعروف بأبي نصر بولايته على الثغور الشامية فلما ورد كتاب بلكاجور بالطاعة أمسك عن إنفاذ كتاب محمد بن علي الأرمني بالولاية.
    وفي يوم الاثنين لست بقين من صفر من هذه السنة قدم إسماعيل بن فراشة من ناحيه همذان في نحو ثلاثمائة فارس، وكان جنده ألفا وخمسمائة، فتقدم بعضهم وتأخر بعض، وتفرقوا، وقدم معه برسول للمعتز، كان وجه إليه لأخذ البيعة، فقيد الرسول، وصار به إلى مدينة السلام على بغل بلا اكاف، فخلع على إسماعيل خمس خلع وورد برجل ذكر أنه علوي أخذ بناحية الري وطبرستان، متوجها إلى من هناك من العلوية، وكان معه دواب وغلمان، فأمر به فحبس في دار العامة أشهرا، ثم أخذ منه كفيل وأطلق.
    وقرئ في هذا اليوم كتاب موسى بن بغا يذكر فيه أنه ورد كتاب المعتز، وأنه دعا أصحابه، وأخبرهم بما حدث، وأمرهم بالانصراف معه إلى مدينة السلام، فامتنعوا، وأجابه الشاكرية والأبناء، واعتزله الأتراك ومن كانفهم، وحاربوه فقتل منهم جماعة وأسر أسرى، فهم قادمون معه فكبروا في دار ابن طاهر عند قراءتهم كتابه.
    ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة عشر سفائن بحرية، تسمى
    (9/306)
    البوارج، في كل سفينة اشتيام وثلاثة نفاطين ونجار وخباز وتسعة وثلاثون رجلا من الجذافين والمقاتلة، فذلك في كل سفينة خمسة وأربعون رجلا.
    فمدت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، ولعب أصحابها بالنيران، ثم مدت إلى ناحية الشماسية في هذه الليلة، فرمى من فيها من الأتراك بالنيران، فعزموا على الانتقال من معسكرهم برقه الشماسيه الى بستان ابى جعفر بالحير، ثم بدا لهم فارتفعوا فوق عسكرهم في موضع لا ينالهم شيء من النار.
    ولليلة بقيت من صفر صار الأتراك والمغاربة إلى أبواب مدينة السلام من الجانب الشرقي، فأغلقت الأبواب في وجوههم، ورموا بالسهام والمنجنيقات والعرادات، فقتل من الفريقين وجرح جماعة كثيرة، فلم يزالوا كذلك إلى العصر.
    وفي هذه السنة كر سليمان بن عبد الله راجعا من جرجان إلى طبرستان وشخص من آمل، وخرج بجمع كثير وخيل وسلاح، فتنحى الحسن بن زيد ولحق بالديلم، فكتب إلى السلطان ابن أخيه محمد بن طاهر بدخوله طبرستان، فقرئ كتابه ببغداد، وكتب نسخة ذلك المستعين إلى بغا الصغير مولى أمير المؤمنين بفتح طبرستان على يدي محمد بن طاهر وهزيمه الحسن ابن زيد، وأن سليمان بن عبد الله دخل سارية على حال من السلامة، وأنه ورد عليه ابنان لقارن بن شهريار مولى أمير المؤمنين، يقال لهما مازيار ورستم، في خمسمائة رجل، إلى ما ذكر من غير ذلك في الفتح، وأن أهل آمل أتوه منيبين مظهرين إنابتهم، مستقيلين عثراتهم، فلقيهم بما زاد في سكونهم وثقتهم، ونهض بعسكره على تعبيته، مستقرئا للقرى والطرق، وتقدم بالنهي عن القتل، وترك العرض لأحد في سلب وغيره، وتوعد من جاوز ذلك، وأن كتاب أسد بن جندان وافاه بهزيمة علي بن عبد الله الطالبي المسمى بالمرعشي فيمن كان معه، وهم أكثر من ألفي رجل ورجلين من رؤساء الجبل، في جمع عظيم عند تأدي الخبر إليهم بانهزام الحسن بن زيد ودخوله بالأولياء إلى تلك الناحية، وأنه دخل مدينة آمل في احسن هيئة، واظهر عزه وسلامه شامله،
    (9/307)
    وانقطعت عنه أسباب الفتنة ولخمس بقين من المحرم من هذه السنة ورد كتاب العلاء بن أحمد عامل بغا الشرابي على الخراج والضياع بأرمينية، بما كان من خروج رجلين بتلك الناحية، سماهما وذكر إيقاعه بهما، وأنهما التجآ إلى قلعة، فوضع عليها المجانيق حتى جهدها، وأنهما خرجا من القلعة هاربين، وخفي أمرهما وصارت القلعة في أيدي الأولياء.
    وفيها أيضا ورد كتاب مؤرخ لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم بانتقاض أهل أردبيل، وكتاب الطالبي إليهم، وأنه بعث أربعة عساكر على أربعة أبواب مدينتهم ليحاصرهم وفيها ورد كتاب مخبر عن الحرب التي كانت بين عيسى بن الشيخ والموفق الخارجي وأسر عيسى الموفق، ومسألة عيسى المستعين توجيه ما يحتاج إليه من السلاح، ليكون عدة له في البلد، يقوى به الجند على الغزو، وأن يكتب إلى صاحب الصور في توجيه أربع مراكب إليه بجميع آلتها، تكون قبله مع ما قبله منها وفيها أيضا ورد كتاب محمد بن طاهر بخبر الطالبي الذي ظهر بالري ونواحيها، وما أعد له من العساكر، ووجه اليه من المقاتله، وبهرب الحسن ابن زيد عند مصيره إلى المحمدية وإحاطة عسكره بها، وأنه عند دخوله المحمدية وكل بالمسالك والطرق، وبث أصحابه، وأن الله أظفره بمحمد بن جعفر أسيرا على غير عقد ولا عهد والذي صار إلى الري من العلوية في المرة الثانية بعد ما أسر محمد بن جعفر أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن على ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بْن عبد الله بْن موسى بْن
    (9/308)
    عبد الله بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، وهو الذي خرج في مصعد الحاج، والذي بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بْن الحسن بْن زيد بْن الحسن بْن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه وفيها أيضا ورد كتاب من محمد بن طاهر على المستعين، يذكر فيه انهزام الحسن بن زيد منه، وأنه لقيه في زهاء ثلاثين ألفا، فجرت فيما بينه وبينه حرب، وأنه قتل من رءوس اصحابه ثلاثمائة ونيفا وأربعين رجلا وأمر المستعين أن يقرأ نسخة كتابه في الآفاق 4 وفيها خرج يوسف بن إسماعيل العلوي ابن أخت موسى بن عبد الله الحسيني وفي شهر ربيع الأول منها أمر محمد بن عبد الله أن يتخذ لعيارى اهل بغداد كافر كوبات، وأن يصير فيها مسامير الحديد، ويجعل ذلك في دار المظفر بن سيسل، لأنهم كانوا يحضرون القتال بغير سلاح، وكانوا يرمون بالآجر، ثم أمر مناديا، فنادى: من أراد السلاح فليحضر دار المظفر، فوافاها العيارون من كل جانب، فقسم ذلك فيهم، وأثبت أسماءهم، ورأس العيارون عليهم رجلا يدعى ينتويه، ويكنى أبا جعفر وعدة أخر، يدعى أحدهم دونل، والآخر دمحال، والآخر أبا نملة، والآخر أبا عصارة، فلم يثبت منهم إلا ينتويه، فإنه لم يزل رئيسا على عياري الجانب الغربي، حتى انقضى امر هذه الفتنة ولما اعطى العيارون الكافر كوبات تفرقوا على أبواب بغداد، فقتلوا من الأتراك ومن أتباعهم نحوا من خمسين نفسا في ذلك اليوم، وقتل منهم عشره انفس وجرح منهم خمسمائة بالنشاب، وأخذوا من الأتراك علمين وسلمين.
    وفيها كانت لبحونه بن قيس وقعة مع جماعة من الأتراك بناحيه بزوغى،
    (9/309)
    لقيهم هو ومحمد بن أبي عون وغيرهما، فأسروا منهم سبعة، وقتلوا ثلاثة، ورمى بعضهم بنفسه في الماء، فغرق بعضهم ونجا بعضهم.
    وذكر عن أحمد بن صالح بن شيرزاد، أنه سأل رجلا من الأسرى عن عدة القوم الذين لقيهم بحونه، قال: كنا اربعين رجلا، فلقينا بحونه وأصحابه سحرا، فقتل منا ثلاثة، وغرق ثلاثة، وأسر ثمانية، وأفلت الباقون، وأخذ ثماني عشرة دابة وجواشن وراية لعامل أوانا، وهو أخو هارون بن شعيب.
    وكانت الوقعة بأوانا يوم الأربعاء، واقام جند بحونه وعبد الله بن نصر بن حمزة بقطربل مسلحة.
    وخرج- فيما ذكر- ينتويه وأصحابه من العيارين في بعض هذه الأيام من باب قطربل، فمضوا يشتمون الأتراك حتى جازوا قطربل، فعبر من عبر إليهم من الأتراك ناشبة في الزواريق، فقتلوا منهم رجلا، وجرحوا منهم عشرة، وكاثرهم العيارون بالحجارة فأثخنوهم، فرجعوا إلى معسكرهم، فأحضر ينتويه دار ابن طاهر، فأمر ألا يخرج إلا في يوم قتال، وسور، وامر له بخمسمائة درهم.
    ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول منها، قدم من ناحية الرقة مزاحم بن خاقان، وأمر القواد وبني هاشم وأصحاب الدواوين بتلقيه، وقدم معه من كان معه من اصحابه من الخراسانية والأتراك والمغاربة، وكانوا زهاء ألف رجل، معهم عتاد الحرب من كل صنف، ودخل بغداد، ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله، وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن يسار بغا، وإبراهيم بن إسحاق خلفهم، وهو بوقار ظاهر، فلما وصل خلع عليه سبع خلع، وقلد سيفا، وخلع على ابنيه، على كل واحد منهما خمس خلع ثم أمر أن يفرض له ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة، ووجه المعتز موسى بن اشناس ومعه حاتم بن داود بن بنحور في ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة فعسكر بإزاء عسكر أبي أحمد من الجانب الغربي بباب قطربل لليلة خلت
    (9/310)
    من ربيع الأول وخرج رجل من العيارين يعرف بديكويه على حمار وخليفته على حمار، ومعهم ترسة وسلاح، وخرج آخر في الجانب الشرقي يكنى أبا جعفر ويعرف بالمخرمي في خمسمائة رجل في سلاح ظاهر، معهم الترسة وبواري مقيره وسيوف وسكاكين في مناطقهم، ومعهم كافر كوبات، وقرب العسكر الوارد من سامرا إلى الجانب الغربي من بغداد فركب محمد بن عبد الله ومعه أربعة عشر قائدا من قواده في عدة كاملة، وخرج من المبيضة والنظارة خلق كثير، فسار حتى حاذى عسكر أبي أحمد، وكانت بينهم في الماء جولة قتل من عسكر أبي أحمد أكثر من خمسين رجلا، ومضى المبيضة حتى جازت العسكر بأكثر من نصف فرسخ، فعبرت إليهم شبارات من عسكر أبي أحمد، فكانت بينهم مناوشة، وأخذوا عدة من الشبارات بما فيها من المقاتلة والملاحين، فاستوثق منهم، وانصرف محمد بن عبد الله، وأمر ابن أبي عون أن يصرف الناس، فوجه ابن أبي عون إلى النظارة والعامة من صرفهم وأغلظ لهم القول، وشتمهم وشتموه، وضرب رجلا منهم فقتله وحملت عليه العامة، فانكشف من بين أيديهم، وقد كان أربع شبارات من شبارات أهل بغداد تخلفت، فلما انصرف ابن أبي عون منهزما من العامة نظر إليها أهل عسكر أبي أحمد فوجهوا في طلبها شبارات، فأخذوها وأحرقوا سفينة فيها عرادة لأهل بغداد وصار العامة من فورهم إلى دار ابن أبي عون لينهبوها، وقالوا:
    مايل الأتراك، وأعانهم وانهزم بأصحابه، وكلموا محمد بن عبد الله في صرفه وضجوا، فوجه المظفر بن سيسل في أصحابه، وأمره أن يصرف العامة ويمنعهم أن يأخذوا لابن أبي عون شيئا من متاعه، وأعلمهم أنه قد عزله عن امر الشبارات والبحريات والحرب، وصير ذلك إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله، فمضى مظفر، فصرف الناس عن دار محمد بن أبي عون.
    وفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول وافى عسكر الأتراك الشاخص من سامرا إلى بغداد عكبراء، فأخرج ابن طاهر بندار الطبري وأخاه عبيد الله وأبا السنا ومزاحم بن خاقان وأسد بن داود سياه وخالد
    (9/311)
    ابن عمران وغيرهم من قواده، فمضوا حتى بلغوا قطربل، وفيها كمين الأتراك فأوقع بهم، ونشبت الحرب بينهم، فدفعهم الأتراك حتى بلغوا الحائطين بطريق قطربل وقاتل أبو السنا وأسد بن داود قتالا شديدا، وقتل كل واحد منهما عدة من الأتراك والمغاربة، ومال أبو السنا ميله، وتبعه الناس، فقتل قائدا من قواد الأتراك يقال له سور، ورفع رأسه فصار من فوره إلى دار ابن طاهر، وأعلمه هزيمة الناس وسأله المدد، فأمر ابن طاهر به فطوق- وكان وزن الأطواق كل طوق ثلاثين دينارا، وكل سوار سبعة مثاقيل ونصف- وانصرف أبو السنا راجعا إلى الناس فيمن أخرج إليهم من المدد من جميع الأبواب، فذكر أن محمد بن عبد الله عنف أبا السنا بإخلاله بموضعه ومجيئه نفسه بالراس، وقال له: اخللت بالفاس، فقبح الله هذا الرأس ومجيئك به! ولما انصرف محمد بن عبدوس قاتل أسد بن داود أشد قتال بعد تفرق الناس عنه، فقتل وثاب إلى موضعه قوم من أهل بغداد بعد ما أخذ الأتراك رأسه، فدافعوهم عن جثته، فحملوه إلى بغداد في زورق، وبلغ الأتراك باب قطربل، فخرج الناس إليهم فدفعوهم عن الباب دفعا شديدا، واتبعوهم حتى نحوهم، فأتي دار ابن طاهر بعدة رءوس ممن قتل من الأتراك والمغاربة في هذا اليوم، فأمر بنصبها بباب الشماسية، فنصبت هنالك، ثم رجع الاتراك والمغاربه على اهل بغداد ممن ناحية قطربل، فقتل من أهل بغداد خلق كثير، وقتل من الأتراك جمع كثير، ولم يزل بندار ومن معه يقاتلونهم حتى أمسوا وانصرف بندار بالناس، وغلقت الأبواب، وأمر ابن طاهر المظفر بن سيسل ورشيد ابن كاوس وقائدا معهم فتوجهوا في نحو من خمسمائة فارس من باب قطربل إلى ناحية عسكر ابن أشناس، فوافوهم على حال سكون وأمن، فقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة، وأسروا عدة وانصرفوا.
    وذكر أن الأتراك والمغاربة وافوا في هذا اليوم باب القطيعة، فنقبوا نقبا
    (9/312)
    بقرب الحمام الذي يعرف بباب القطيعة، فقتل أول من خرج منهم من النقب، وكان القتل في هذا اليوم أكثر في الأتراك والمغاربة والجراح بالسهام في أهل بغداد.
    وسمعت جماعة يذكرون أنه حضر هذه الوقعة غلام لم يبلغ الحلم، ومعه مخلاة فيها حجارة ومقلاع في يده، يرمي عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابهم وأن أربعة من فرسان الأتراك الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه، وجعل يرميهم فلا يخطئ، وتقطر بهم دوابهم، فمضوا حتى جاءوا معهم بأربعة من رجالة المغاربة بأيديهم الرماح والتراس، فجعلوا يحملون عليه، ثم داخله اثنان منهم، فرمى بنفسه في الماء، ودخلا خلفه فلم يلحقاه، وعبر إلى الجانب الشرقي، وصيح بهما، وكبر الناس، فرجعوا ولم يصلوا إليه.
    وذكر أن عبيد الله بن عبد الله دعا القواد في هذا اليوم وهم خمسة نفر، فأمر كل واحد منهم بناحية، ثم مضى الناس إلى الحرب، وانصرف هو إلى الباب، فقال لعبد الله بن جهم وهو موكل بباب قطربل: إياك أن تدع منهم أحدا يدخل منهزما من الباب ونشبت الحرب، وتشتت الناس، ووقعت الهزيمة، وثبت أسد بن داود، حتى قتل وقتل بيده ثلاثة، ثم أتاه سهم غرب، فوقع في حلقه فولى، وجاء سهم آخر فوقع في كفل دابته فشبت به فصرعته، ولم يثبت معه أحد إلا ابنه، فجرح، وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من عدوهم، وحمل- فيما ذكر- إلى سامرا من أهل بغداد سبعون أسيرا، ومن الرءوس ثلاثمائة رأس.
    وذكر أن الاسرى لما قربوا من سامرا أمر الذي وجه به معهم ألا يدخلهم سامرا إلا مغطي الوجوه، وأن أهل سامرا لما رأوهم كثر ضجيجهم وبكاؤهم، وارتفعت أصواتهم وأصوات نسائهم بالصراخ والدعاء، فبلغ ذلك المعتز، فكره ان تغلظ قلوب من بحضرته من الناس عليه، فأمر لكل أسير بدينارين،
    (9/313)
    وتقدم إليهم بترك معاودة القتال، وأمر بالرءوس فدفنت.
    وكان في الأسرى ابن لمحمد بن نصر بن حمزة وأخ لقسطنطينة جارية أم حبيب وخمسة من وجوه بغداد ممن كان في النظارة، فأما ابن محمد بن نصر، فذكر أنه قتل وصلب بإزاء باب الشماسية لمكان أبيه.
    وفي يوم الخميس لأربع بقين من شهر ربيع الأول، قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب في الأغلال، ودخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر، فصار إلى الدار، فخلع عليه خمس خلع، وقلد سيفا، وانصرف إلى منزله مع أصحابه.
    وقد خلع على أربع نفر من أصحابه وفي يوم الاثنين لانسلاخ شهر ربيع الأول، وافى باب الشماسية- فيما قيل- جماعة من الأتراك، معهم من المعتز كتاب إلى محمد بن عبد الله، وسألوا إيصاله إليه، فامتنع الحسين بن إسماعيل من قبوله حتى استأمر، فأمر بقبوله، فوافى يوم الجمعة ثلاثة فوارس، فأخرج إليهم الحسين بن إسماعيل رجلا معه سيف وترس، فأخذ الكتاب من خريطة، فأخرج، فأوصله إلى محمد، فإذا فيه تذكير محمد بما يجب عليه من حفظه لقديم العهد بينه وبين المعتز والحرمة، وأن الواجب كان عليه أن يكون أول من سعى في أمره وتوجيه خلافته، وذكر أن ذلك أول كتاب ورد عليه من المعتز بعد الحرب.
    وفي يوم السبت لخمس خلون من ربيع الآخر وافى بغداد حبشون ابن بغا الكبير ومعه يوسف بن يعقوب قوصرة مولى الهادي فيمن كان مع موسى ابن بغا من الشاكرية، وانضم إليهم عامة الشاكرية المقيمين بالرقة، وهم في نحو من ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع، وعلى يوسف أربع خلع، وعلى نحو من عشرين من وجوه الشاكرية، وانصرفوا إلى منازلهم
    (9/314)
    وقدم بغداد رجل ذكر أن عدة الأتراك والمغاربة وحشوهم في الجانب الغربي اثنا عشر ألف رجل ورأسهم بايكباك القائد، وأن عدة من مع أبي أحمد في الجانب الشرقي سبعة آلاف رجل خليفته عليهم الدرغمان الفرغاني، وأنه ليس بسامرا من قواد الأتراك ولا من قواد المغاربة إلا ستة نفر، وكلوا بحفظ الأبواب وكانت بين الفريقين وقعة يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الآخر، فقتل- فيما ذكر- فيها من أصحاب المعتز مع من غرق منهم أربعمائة رجل، وقتل من أصحاب ابن طاهر مع من غرق ثلاثمائة رجل، لم يكن فيهم إلا جندي، وذلك أنه لم يخرج في ذلك اليوم من الغوغاء أحد وقتل الحسن بن علي الحربي، وكان يوما صعبا على الفريقين جميعا.
    وذكر أن مزاحم بن خاقان رمى فيه موسى بن أشناس بسهم فأصابه، فانصرف مجروحا، وافتقد من عسكر أبي أحمد نحو من عشرين قائدا من الأتراك والمغاربة.
    ولما كان يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على أبي الساج خمس خلع، وعلى ابن فراشة أربع خلع، وعلى يحيى بن حفص حبوس ثلاث خلع وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء، وأعطى الجند بغالا من بغال السلطان يحمل عليها الرجالة، وحول مزاحم بن خاقان من باب حرب إلى باب السلامة، وصار مكان مزاحم خالد بن عمران الطائي الموصلي.
    وذكر أن أبا الساج لما أمره ابن طاهر بالشخوص قال له: أيها الأمير، عندي مشورة أشير بها، قال: قل يا أبا جعفر، فإنك غير متهم، قال:
    إن كنت تريد أن تجاد هؤلاء القوم فالرأي لك ألا تفارق قوادك ولا تفرقهم، واجمعهم حتى تفض هذا العسكر المقيم بإزائك، فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من وراءك! فقال: ان لي تدبيرا، ويكفى ان شاء فقال
    (9/315)
    أبو الساج: السمع والطاعة، ومضى لما أمر به.
    وذكر أن المعتز كتب إلى أبي أحمد يلومه للتقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه:
    لأمر المنايا علينا طريق ... وللدهر فيه اتساع وضيق
    فأيامنا عبر للأنام ... فمنها البكور ومنها الطروق
    ومنها هنات تشيب الوليد ... ويخذل فيها الصديق الصديق
    وسور عريض له ذروة ... تفوت العيون وبحر عميق
    قتال مبيد، وسيف عتيد ... وخوف شديد، وحصن وثيق
    وطول صياح لداعي الصباح ... السلاح السلاح، فما يستفيق
    فهذا قتيل وهذا جريح ... وهذا حريق وهذا غريق
    وهذا قتيل وهذا تليل ... وآخر يشدخه المنجنيق
    هناك اغتصاب وثم انتهاب ... ودور خراب وكانت تروق
    إذا ما سمونا إلى مسلك ... وجدناه قد سد عنا الطريق
    فبالله نبلغ ما نرتجيه ... وبالله ندفع ما لا نطيق
    فأجابه محمد بن عبد الله- أو قيل على لسانه:
    ألا كل من زاغ عن أمره ... وجار به عن هداه الطريق
    ملاق من الأمر ما قد وصفت ... وهذا بأمثال هذا خليق
    ولا سيما ناكث بيعة ... وتوكيدها فيه عهد وثيق
    يسد عليه طريق الهدى ... ويلقى من الأمر ما لا يطيق
    وليس ببالغ ما يرتجيه ... من كان عن غيه لا يفيق
    (9/316)
    أتانا به خبر سائر ... رواه لنا عن خلوق خلوق
    وهذا الكتاب لنا شاهد ... يصدقه ذا النبي الصدوق
    أما الشعر الأول، فإنه ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، والجواب لا يعرف قائله.
    وفي ربيع الآخر من هذه السنة ذكر أن مائتي نفس من بين فارس وراجل مضوا من قبل المعتز الى ناحيه البندنيجين ورئيسهم تركي يدعى أبلج، فقصدوا الحسن بن علي، فانتهبوا داره، وأغاروا على قريته، ثم صاروا إلى قرية قريبة منها، فأكلوا وشربوا، فلما اطمأنوا استصرخ عليهم الحسن بن علي أكرادا من أخواله وقوما من قرى حوله، فصاروا إليهم وهم غارون، فأوقع بهم وقتل أكثرهم، وأسر سبعة عشر رجلا منهم، وقتل أبلج، وهرب من بقي منهم ليلا، ثم بعث الحسن بن علي الأسرى ورأس أبلج ورءوس من قتل معه إلى بغداد.
    والحسن بن علي هذا رجل من شيبان كان يخلف- فيما ذكر- يحيى بن حفص في عمله، وأمه من الأكراد.
    ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة
    ذكر أن أبا الساج وإسماعيل بن فراشة ويحيى بن حفص، لما خلع عليهم للشخوص نحو المدائن، عسكروا بسوق الثلاثاء، فلما كان يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الأول، حمل رجالته على البغال، وصار إلى المدائن، ثم إلى الصيادة، وابتدأ في حفر خندق المدائن- وهو خندق كسرى- وكتب يستمد، فوجه اليه خمسمائة رجل من رجاله الجيشية، وكان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل، ثم استمده فأمده، فحصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل، ثم أمد بمائتي راجل من الشاكرية القدماء، وحملوا في السفن، وانحدروا إليه يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة
    (9/317)
    ذكر الخبر عن أمر الأنبار وما كان فيها من هذه الفتنة فمما كان بها ان محمد بن عبد الله وجه بحونه بن قيس في الأعراب إلى الأنبار، وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، ففرض قوما منهم ومن المشبهة بهم نحوا من ألفي رجل، فأقام بالأنبار وضبطها، فبلغه أن قوما من الأتراك قد قصدوه، فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار، فامتلأ الخندق لزيادة الماء، وفاض على ما يليه من الصحاري، فصار الماء إلى السالحين فصار ما يلي الأنبار بطيحة واحدة، وقطع القناطر التي توصل إلى الأنبار، وكتب يستمد فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين، وضم إليه ممن كان معه من رجاله تتمة ألف رجل، خمسمائة فارس وخمسمائة راجل، فشخص وعسكر في قصر عبدويه، وأمده ابن طاهر بثلاثمائة راجل من الملطيين القادمين من الثغور، وانتخبوا، ودفع إليهم استحقاقهم، ونفذوا إليه يوم الثلاثاء ورحل من قصر عبدويه يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر في نحو من الف وخمسمائة رجل، وأخرج المعتز أبا نصر بن بغا من سامرا على طريق الإسحاقي يوم الثلاثاء، فسار يومه وليلته، فصبح الأنبار ساعة نزلها رشيد بن كاوس.
    وكان بحونه نازلا في المدينة ورشيد خارجها، فلما وافى أبو نصر عاجل رشيدا وأصحابه وهم غارون على غير تعبئة، فوضع أصحابه فيهم السيف، ورموهم بالنشاب فقتلوا عدة، وثار بعض أصحاب رشيد إلى أسلحتهم، فقاتلوا الاتراك والمغاربه قتالا شديدا، وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا فيه منصرفين الى بغداد.
    ولما بلغ بجونه ما لقيه أصحاب رشيد، وأن الأتراك قد مالوا عند انهزام رشيد إلى الأنبار عبر إلى الجانب الغربي، وقطع جسر الأنبار، وعبر معه جماعة من أصحابه، وصار رشيد إلى المحول في ليلته، وسار بحونه
    (9/318)
    في الجانب الغربي حتى وافى بغداد يوم الخميس بالعشي ثم دخل رشيد في هذه العشية الى دار ابن طاهر، فاعلم بحونه محمد بن عبد الله أنه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجه إلى رشيد يسأله أن يوجه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتبهم قدام أصحابه، فامتنع من ذلك، وسأله أن يضم إليه ناشبة من الفرسان والرجالة ليصير إلى بني عمه، وذكر أنهم مقيمون هنالك في الجانب الغربي على الطاعة وانتظار أمير المؤمنين، وضمن أن يتلافى ما كان منه فضم اليه ثلاثمائة رجل من فرسان الشاكرية الناشبة ورجالتهم، وخلع عليه خمس خلع، ومضى إلى قصر ابن هبيرة يستعد هنالك.
    ثم اختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار، ووجه محمد بن رجاء الحضاري معه وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس ومحمد بن يحيى وجماعة من الناس، وأمر بإخراج المال لمن يخرج مع الحسين ومع هؤلاء القوم، فامتنع من كان قدم من ملطية من الشاكرية وهم عظم الناس من قبض رزق أربعة أشهر، لأن أكثرهم كان بغير دواب، وقالوا: نحتاج إلى أن نقوى في أنفسنا، ونشتري الدواب وكان الذي أطلق لهم أربعة آلاف دينار، ثم رضوا بقبض أربعة أشهر، فجلس الحسين في مجلس على باب محمد بن عبد الله، وتقدم في تصحيح الجرائد، ليكون عرضه الناس وأصحابه في مدينة أبي جعفر، فأعطى في ذلك اليوم جماعة من خاصته ثم صار الحسين وأصحاب الدواوين بعد ذلك الى مدينة أبي جعفر، ووضع العطاء لمن يخرج معه من الجند في ثلاثة مجالس، واستتم إعطاؤهم يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى.
    فلما كان يوم الاثنين أحضر الحسين بن إسماعيل الدار ومعه القواد الخارجون معه: رشيد بن كاوس، ومحمد بن رجاء، وعبد الله بن نصر بن حمزه، وارمش الفرغاني، ومحمد بن يعقوب أخو حزام، ويوسف بن منصور بن يوسف البرم، والحسين بن علي بن يحيى الأرمني، والفضل بن محمد بن الفضل، ومحمد بن هرثمة بن النصر،، وخلع على الحسين، وقدمت مرتبته
    (9/319)
    إلى الفوج الثاني- وكان في الفوج الرابع- وخلع على هؤلاء القواد، وصير رشيد بن كاوس على المقدمة، ومحمد بن رجاء على الساقة، ومضى الحسين ومن ضم إليه من عشيرته وقواده إلى معسكرهم، وأمر وصيف وبغا أن يسبقا الحسين إلى معسكره، وشيعه عبيد الله بن عبد الله وجميع قواد ابن طاهر وكتابه وبنو هاشم والوجوه إلى الياسرية، وأخرج لأهل العسكر من المال ستة وثلاثون ألف دينار، وحمل إلى معسكر الياسرية بعد لاعطاء من بقي الف وثمانمائه دينار، تمام استحقاقهم.
    فلما كان يوم الخميس سارت مقدمة الحسين والمقلد لها عبد الله بن نصر ومحمد بن يعقوب في ألف فارس وراجل، فنزلوا البثق المعروف بالقاطوفة، وكان الأتراك قد وجهوا إلى المنصورية على خمسة فراسخ من بغداد جماعة منهم ومن المغاربة والغوغاء زهاء مائة إنسان، فظفر بسبعة من المغاربة، فوجه بهم إلى الحسين، فأنفذهم إلى الباب، وسار الحسين يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى وقد كان أهل الأنبار حين تنحى بحونه ورشيد، وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا الأمان، فأعطوه، وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوق فيها والانتشار في أمورهم، واطمأنوا إلى ذلك منهم وسكنوا، وطمعوا فيهم أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا، وكان في وقت غلبتهم عليها وافتهم سفن من الرقة فيها دقيق وأطواف فيها زيت وغير ذلك، فأخذوه وجمعوا ما وجدوا فيها من إبل ودواب وبغال وحمير، ووجهوا بذلك مع من يؤديه إلى منازلهم بسامرا، وانتهبوا ما وجدوا، ووجهوا برءوس من قتل من أصحاب رشيد وبحونه وأهل بغداد وبمن أسروا وكانوا مائة وعشرين رجلا، والرءوس سبعون رأسا، وجعلوا الأسرى في الجوالقات، قد أخرجوا منها رءوسهم حتى صاروا إلى سامرا، وصار الأتراك إلى فم الأستانة، وحاولوا سدها ليقطعوا ماء الفرات عن بغداد، فوجهوا رجلا، ودفعوا إليه مالا لآلة السكر وسده مع القلوس والصواري، ففطن به وهو يبتاع ذلك، فحمل إلى دار
    (9/320)
    ابن طاهر بعد أن نالته العامة بالضرب والشتم، حتى أشفى على الموت، فسئل عن أمره فصدق، فوجه به إلى الحبس.
    وكان ابن طاهر قد وجه الحارث خليفة أبي الساج، فكان على طريق مكة إلى قصر ابن هبيرة، وضم اليه خمسمائة رجل من فرسان الشاكرية القادمين معه، فنفذ ومن معه لسبع خلون من جمادى الأولى، ووجه ابن ابى دلف هشام ابن القاسم في مائتي راجل وفارس إلى السيبين، ليقيم هناك، فلما توجه الحسين إلى الأنبار كتب إليه باللحاق بعسكر الحسين ليصير معه إلى الأنبار، ونودي ببغداد في أصحاب الحسين ومزاحم بن خاقان أن يلحقوا بقوادهم فسار الحسين، وتقدم خالد بن عمران حتى نزل دمما، فأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه أصحابه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من الرجالة فكشفوهم، وعقد خالد الجسر، فعبر هو وأصحابه، وصار الحسين إلى دمما فعسكر خارجها، وأقام في معسكره يوما، ووافته طلائع الأتراك مما يلي نهر أنق ونهر رفيل فوق قرية دمما، فصف الحسين أصحابه من جانب النهر والأتراك من الجانب الآخر، وهم زهاء ألف رجل، وتراشقوا بالسهام، فجرح بينهم عداد، وانصرف الأتراك إلى الأنبار.
    وكان بحونه مقيما بقصر ابن هبيرة، فانضم إلى الحسين في جميع من كان معه من الأعراب وغيرهم، وكتب بحونه يسأل مالا لإعطاء أصحابه، فأمر أن يحمل الى معسكر الحسين لاعطاء اصحاب بحونه ثلاثة آلاف دينار، وحمل إلى الحسين مال واطواق واسوره وجوائز لمن أبلى في الحرب، وكان الحسين وعد أن يمد بالرجال حتى يكمل عسكره عشره آلاف رجل، فكتب ينتجز ذلك، فأمر بتوجيه أبي السنا محمد بن عبدوس الغنوي والجحاف بن سواد في ألف فارس وراجل من الملطيين وجند انتخبوا من قيادات شتى، فقبضوا أنزالهم لليلتين بقيتا من جمادى وساروا مع أبي السناء والجحاف على نهر كرخايا إلى المحول، ثم إلى دمما، ونزل الحسين بعسكره في موضع يعرف
    (9/321)
    بالقطيعة واسع يحتمل العسكر، فأقام فيه يومه، ثم عزم على الرحلة منه إلى قرب الأنبار، فأشار عليه رشيد والقواد أن ينزل عسكره بهذا الموضع لسعته وحصانته، ويسير هو وقواده في خيل جريدة، فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره وراجع عدوه، فلم يقبل الرأي، وحملهم على المسير من موضعهم، فساروا بين الموضعين فرسخان أو نحوهما فلما بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه، أمر الناس بالنزول، وكان جواسيس الأتراك في عسكر الحسين، فساروا إليهم، وأعلموهم رحلة الحسين، وضيق العسكر بالموضع الذي نزل فيه، فوافوهم والناس يحطون أثقالهم، فسار أهل العسكر، ونادوا السلاح، فصافوهم، فكانت بينهم قتلى من الفريقين، وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الفرات وكان الأتراك قد كمنوا قوما، فخرج الكمين عند ذلك على بقية العسكر، فلم يكن لهم ملجأ إلا الفرات وغرق من أصحاب الحسين خلق كثير، وقتل جماعة وأسر من الرجالة جماعة، وأما الفرسان فضربوا دوابهم هرابا لا يلوون على شيء، والقواد ينادونهم يسألونهم الرجعة، فلم يرجع منهم أحد، وأبلى محمد بن رجاء ورشيد يومئذ بلاء حسنا، ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد، فلم يملك القواد أمور أصحابهم، فأشفقوا حينئذ على أنفسهم، فانثنوا راجعين وراءهم، يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا، وحوى الأتراك جميع عسكر الحسين بما فيه من المضارب وأثاث الجند وتجارات أهل السوق، وكان معه في السفن سلاح سلم، لأن الملاحين حرزوا سفنهم، فسلم ما كان معهم من السلاح ومن تجارات التجار.
    وذكر عن ابن زنبور كاتب الحسين أنه أخذ للحسين اثنا عشر صندوقا فيها كسوة ومال من مال السلطان مبلغه ثمانية آلاف دينار، ونحو من أربعة آلاف دينار لنفسه، ونحو من مائة بغل، وانتهب فروض الحسين مضارب الحسين وأصحابه، وطاروا مع من طار، فوافوا الياسرية، وكان اكثر
    (9/322)
    النهب مع أصحاب أبي السنا ووافى الحسين والفل الياسرية يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة.
    ولقي الحسين رجل من التجار في جماعة ممن ذهبت أموالهم في عسكره، فقال: الحمد لله الذي بيض وجهك! أصعدت في اثني عشر يوما، وانصرفت في يوم واحد! فتغافل عنه.
    قال أبو جعفر: ومما انتهى إلينا من خبر الحسين بن إسماعيل ومن كان معه من القواد والجند الذين كان محمد بن عبد الله بن طاهر استنهضهم من بغداد في هذه السنة لحرب من كان قصد الأنبار وما اتصل بها من البلاد من الأتراك والمغاربة، أنه لما صار إلى الياسرية منصرفه مهزوما من دمما، أقام بها في بستان ابن الحروري، وأقام من وافى الياسرية من المنهزمة في الجانب الغربي من الياسرية، ومنعوا من العبور، ونودي ببغداد فيمن دخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في معسكره، وأجلوا ثلاثة ايام، فمن وجد منهم ببغداد بعد ثلاثة ضرب ثلاثمائة سوط، ومحي اسمه من الديوان.
    فخرج الناس، وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر في أصحابه بالمحول، وأعطى أصحابه أرزاقهم في تلك الليلة في الشرج، ونودي في أصحابه بالمحول باللحاق به.
    ونودي في الفرض القدماء الذين كانوا فرضوا بسبب أبي الحسين يحيى بن عمر بالكوفه وهم خمسمائة رجل، وأصحاب خالد وهم نحو من ألف رجل، فعسكروا بالمحول يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد فلقيه في الطريق، فرده إلى بستان ابن الحروري، وأقاموا يومهم، فلما كان الليل صاروا إلى دار ابن طاهر، فوبخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية لينفذ إلى الأنبار مع من ينفذ إليها من الجند، فصار من ليلته إلى الياسرية، ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لآل هذا العسكر
    (9/323)
    فحمل تسعة آلاف دينار، وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسرية لعرض الجند وإعطائهم.
    فلما كان يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الآخرة توجه خالد بن عمران مصعدا إلى قنطرة بهلايا- وهي موضع السكر- وخرجت معه نحو من عشرين سفينة وركب عبيد الله بن عبد الله وأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد إلى عسكر الحسين بن إسماعيل بالياسرية، فقرءوا على الحسين والقواد كتابا كتب به عن المستعين، يخبرهم فيه بسوء طاعتهم وما ركبوا من العصيان والتخاذل، فقرئ عليهم والعسكر مقيم، والعراض يعرضونهم ليتعرفوا من قتل ومن غرق من كل قيادة، ونودي باللحاق بعسكرهم، فخرجوا.
    وأتاهم كتاب بعض عيونهم بالأنبار يخبر أن القتلى كانت من الأتراك أكثر من مائتين، والجرحى نحوا من أربعمائة، وأن جميع من أسره الأتراك من أهل بغداد الجيشية والفروض من الرجالة مائتان وعشرون إنسانا، وأنه عد رءوس من قتل فوجدها سبعين رأسا، وكانوا أخذوا جماعة من أهل الأسواق.
    فصاحوا لأبي نصر: نحن أهل السوق، فقال: ما بالكم معهم! فقالوا:
    أكرهنا فخرجنا، شئنا او أبينا فأطلق من كان منهم يشبه السوقة، وأمر بحبس الأسرى في القطيعة.
    وذكر عن صاحب بغال السلطان: أن جميع ما ذهب من بغال السلطان مائة وعشرون بغلا.
    ورحل الحسين يوم الاثنين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وكتب إلى خالد بن عمران وهو مقيم على السكر، أن يرحل متقدما أمامه، فامتنع خالد من ذلك، وذكر أنه لا يبرح من موضعه إلا أن يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه، لأنه يتخوف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم بناحية قطربل وأمر ابن طاهر بمال، فحمل إلى الحسين بن إسماعيل لإعطاء جميع من في عسكره رزق شهر واحد، ليفرق فيهم بدمما، وأمر أن يخرج معه الكتاب والعراض لأصحابه هنالك، وقلد أمر نفقات
    (9/324)
    عسكره وإعطاء الجند من قبل ديوان الخراج الفضل بن مظفر السبعي، وحمل المال مع السبعي إلى معسكر الحسين، لينفذ.
    معه إذا نفذ وقد قيل: إن الحسين ارتحل إلى الأنبار في النصف من ليلة الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، فسار وتبعه من في عسكره يوم الأربعاء، ونودي في أصحابه باللحاق به، فسار حتى نزل دمما، وأراد أن يعقد على نهر أنق جسرا ليعبر عليه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من أصحابه من الرجالة، فحاربوهم حتى كشفوهم وعقد خالد الجسر، فعبر اصحابه ووجه محمد بن عبد الله بكاتبه محمد بن عيسى بشيء شافهه به، فيقال: أنه حمل معه أطواقا وأسورة، وانصرف إلى منزله، وصار إلى الحسين يوم السبت لثمان خلون من رجب رجل، فأخبره أن الأتراك قد دلوا على عدة مواضع في الفرات، تخاض إلى عسكره، فأمر بضرب الرجل مائتي سوط، ووكل بالمخاوض رجلا من قواده، يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائة راجل ومائة فارس، فطلع أول القوم، فخرج عليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة، ووكل بالقنطرة أبا السنا، وأمره أن يمنع من انهزم من العبور، فأتى الأتراك المخاضة، فرأوا الموكل بها، فتركوه واقفا، وصاروا إلى مخاضة أخرى خلف الموكل فقاتلوهم، فصبر الحسين بن علي وقاتل، فقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه، ولم يصل إليه حتى انهزم، وانهزم خالد بن عمران معه ومن معه، ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات، فغرق من لم يحسن السباحة، وعبر من كان يحسن السباحة، فنجا عريانا، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشط، لما على الشط من الأتراك، فذكر عن بعض جند الحسين، أنه قال: بعث الحسين بن علي الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة، فأتاه الرسول، فقيل: الأمير نائم، فرجع الرسول فأعلمه، فرد آخر، فقال له الحاجب: الأمير في المخرج، فرجع فأخبره، فرد
    (9/325)
    رسولا ثالثا، فقال: قد خرج من المخرج ونام، فعلت الصيحة فعبر الاتراك، فقعد الحسين في زورق أو شبارة، وانحدر واستأثر قوم من الخراسانية، ورموا ثيابهم وسلاحهم، وقعدوا على الشط عراة، وشد أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين بن إسماعيل، واقتطعوا السوق، وانحدرت عامة السفن، فسلمت إلا ما كان موكلا به منها، ولحق الأتراك أصحاب الحسين، فوضعوا فيهم السيف، فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين، وغرق خلق كثير، ووافى الحسين والمنهزمة بغداد نصف الليل، ووافى فلهم وبقيتهم في النهار، وفيهم جرحى كثيرة، فلم يزالوا إلى نصف النهار يتتابعون عراة مجرحين، وفقد من قواد الحسين بن يوسف البرم وغيره.
    ثم جاء كتابه أنه أسير في أيدي الأتراك عند مفلح، وأن عدة الأسرى من وقعة الحسين الثانية مائة ونيف وسبعون إنسانا، والقتلى مائة، والدواب نحو من ألفي دابة ومائتي بغل وأكثر، وقيمة السلاح والثياب وغير ذلك اكثر من مائه الف دينار، فقال الهندواني في الحسين بن إسماعيل:
    يا أحزم الناس رأيا في تخلفه ... عن القتال خلطت الصفو بالكدر
    لما رأيت سيوف الترك مصلتة ... علمت ما في سيوف الترك من قدر
    فصرت منحجزا ذلا ومنقصة ... والنجح يذهب بين العجز والضجر
    ولحق بالمعتز في جمادى الآخرة منها من بغداد جماعة من الكتاب وبني هاشم، ومن القواد مزاحم بن خاقان أرطوج، ومن الكتاب عيسى بن ابراهيم ابن نوح ويعقوب بن إسحاق ونماري ويعقوب بن صالح بن مرشد ومقله وابن لأبي مزاحم بن يحيى بن خاقان ومن بني هاشم على ومحمد ابنا الواثق، ومحمد ابن هارون بن عيسى بن جعفر، ومحمد بن سليمان من ولد عبد الصمد بن علي وفيها كانت وقعة بين محمد بن خالد بن يزيد وأحمد المولد وأيوب بن أحمد
    (9/326)
    بالسكير من أرض بني تغلب، قتل بين الفريقين جماعه كثيره، وانهزم محمد ابن خالد، وانتهب الآخرون متاعه، وهدم أيوب دور آل هارون بن معمر.
    وقتل من ظفر به من رجالهم وفيها كانت لبلكاجور غزوة فتح- فيما ذكر- فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين وفي يوم السبت لثمان بقين من رجب من هذه السنة كانت وقعه بين محمد ابن رجاء وإسماعيل بن فراشة وبين جعلان التركي بناحية بادرايا وباكسايا، فهزم ابن رجاء وابن فراشة جعلان، وقتلا من أصحابه جماعة.
    وأسرا جماعة وفي رجب منها كان- فيما ذكر- وقعة بين ديوداد أبي الساج وبين بايكباك بناحية جرجرايا، قتل فيها أبو الساج بايكباك، وقتل من رجاله جماعة، وأسر منهم جماعة، وغرق منهم في النهروان جماعة.
    وفي النصف من رجب منها اجتمع من كان ببغداد من بني هاشم من العباسيين، فصاروا إلى الجزيرة التي بإزاء دار محمد بن عبد الله، فصاحوا بالمستعين وتناولوا محمد بن عبد الله بالشتم القبيح، وقالوا: قد منعنا أرزاقنا، وتدفع الأموال إلى غيرنا ممن لا يستحقها، ونحن نموت هزلا وجوعا! فإن دفعت إلينا أرزاقنا وإلا قصدنا إلى الأبواب ففتحناها، وأدخلنا الأتراك، فليس يخالفنا أحد من أهل بغداد فعبر إليهم الشاه بن ميكال، فكلمهم ورفق بهم، وسألهم أن يعبر معه منهم ثلاثة أنفس ليدخلهم على ابن طاهر، فامتنعوا من ذلك، وأبوا إلا الصياح وشتم محمد بن عبد الله، فانصرف عنهم الشاه، فلم يزالوا على حالهم إلى قرب الليل، ثم انصرفوا واجتمعوا من غد ذلك اليوم، فوجه إليهم محمد بن عبد الله، فأمرهم بحضور الدار يوم الاثنين ليأمر من يناظرهم،
    (9/327)
    فصاروا إلى الدار، فأمر محمد بن داود الطوسي بمناظرتهم، وبذل لهم رزق شهر واحد، وأمرهم أن يقبضوا ذلك، ولا يكلفوا الخليفة أكثر من هذا، فأبوا أن يقبضوا رزق شهر، وانصرفوا.
    خروج الحسين بن محمد الطالبي وما آل اليه امره
    وفيها خرج بالكوفة رجل من الطالبيين يقال له الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بْن علي بْن حسين بْن علي بْن أبي طالب، فاستخلف بها رجلا منهم يقال له محمد بن جعفر بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن حسن، ويكنى أبا أحمد، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان أرطوج، وكان العلوي بسواد الكوفه في ثلاثمائة رجل من بنى اسد وثلاثمائة رجل من الجارودية والزيدية وعامتهم صوافية، وكان العامل يومئذ بالكوفه احمد ابن نصر بن مالك الخزاعي، فقتل العلوي من أصحاب ابن نصر أحد عشر رجلا، منهم من جند الكوفة أربعة، وهرب أحمد بن نصر إلى قصر ابن هبيرة، فاجتمع هو وهشام بن أبي دلف، وكان يلي بعض سواد الكوفة- فلما صار مزاحم إلى قرية شاهي كتب إليه في المقام حتى يوجه إلى العلوي من يرده إلى الفيئة والرجوع فوجه إليه داود بن القاسم الجعفري، وأمر له بمال، فتوجه إليه وأبطأ داود وخبره على مزاحم، فزحف مزاحم إلى الكوفة من قرية شاهي، فدخلها وقصد العلوي فهرب، فوجه في طلبه قائدا، وكتب بفتحه الكوفة في خريطة مريشة 4 وقد ذكر أن أهل الكوفة عند ورود مزاحم حملوا العلوي على قتاله، ووعدوه النصر، فخرج في غربي الفرات، فوجه مزاحم قائدا من قواده في الشرقي من الفرات، وأمره أن يمضي حتى يعبر قنطرة الكوفة ثم يرجع، فمضى القائد لذلك، وأمر مزاحم بعض أصحابه الذين بقوا معه أن يعبروا مخاضة الفرات في
    (9/328)
    قرية شاهي، وأن يتقدموا حتى يحاربوا أهل الكوفة ويصافوهم من أمامهم فساروا ومعهم مزاحم، وعبر الفرات، وخلف أثقاله ومن بقي معه من أصحابه، فلما رآهم أهل الكوفة ناوشوهم الحرب، ووافاهم قائد مزاحم، فقاتلهم من ورائهم ومزاحم من أمامهم، فأطبقوا عليهم جميعا فلم يفلت منهم أحد.
    وذكر عن ابن الكردية أن مزاحما قتل من أصحابه قبل دخوله الكوفة ثلاثة عشر رجلا، وقتل من الزيدية أصحاب الصوف سبعة عشر رجلا، ومن الأعراب ثلاثمائة رجل، وأنه لما دخل الكوفة رمي بالحجارة فضرب ناحيتي الكوفة.
    بالنار، وأحرق سبعة أسواق، حتى خرجت النار إلى السبيع، وهجم على الدار التي فيها العلوي فهرب، ثم أتي به وقتل في المعركة من العلوية رجل وذكر أنه حبس جميع من بالكوفة من العلوية، وحبس أبناء هاشم، وكان العلوي فيهم.
    وذكر عن أبي إسماعيل العلوي أن مزاحما أحرق بالكوفة ألف دار، وأنه أخذ ابنة الرجل منهم فعنفها.
    وذكر أنه أخذ للعلوي جوار، فيهم امرأة حرة مضمومة، فأقامها على باب المسجد ونادى عليها.
    وفي النصف من رجب من هذه السنة، ورد على مزاحم كتاب من المعتز يأمره بالمصير إليه، ويعده وأصحابه ما يحب ويحبون فقرأ الكتاب مزاحم على أصحابه، فأجابه الأتراك والفراغنة والمغاربة، وأبي الشاكرية ذلك، فمضى فيمن أطاعه منهم وهم زهاء أربعمائة إنسان وقد كان أبو نوح تقدمه إلى سامرا، فأشار بالكتاب إليه، وكان مزاحم ينتظر أمر الحسين بن إسماعيل، فلما انهزم الحسين مضى إلى سامرا، وقد كان المستعين وجه إلى مزاحم عند فتح الكوفة عشرة آلاف دينار وخمس خلع وسيفا ونفذ الرسول إليه، والفى الجند الذين كانوا معه في الطريق، فردوا جميع ذلك معهم، وصاروا إلى باب محمد بن عبد الله، وأعلموه ما فعل مزاحم وكان في الجند والشاكرية خليفة
    (9/329)
    الحسين بن يزيد الحراني وهشام بن أبي دلف والحارث خليفة أبي الساج، فأمر ابن طاهر أن يخلع على كل واحد منهم ثلاث خلع وذكر أن هذا العلوي كان قد ظهر بنينوى في آخر جمادى الآخرة من هذه السنة، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب، وفيهم قوم ممن كان خرج مع يحيى بن عمر في سنة خمسين ومائتين، وقد كان قدم إلى تلك الناحية هشام ابن ابى دلف، فواقعهم العلوي في جماعه نحو من خمسين رجلا، فهزمه وقتل عدة من أصحابه، وأسر عشرين رجلا وغلاما، وهرب العلوى إلى الكوفة، فاختفى بها، ثم ظهر بعد ذلك وحمل الأسرى والرءوس إلى بغداد، فعرف خمسة نفر ممن كان مع أصحاب أبي الحسين يحيى بن عمر، فأطلقوا.
    وأمر محمد بن عبد الله أن يضرب كل واحد ممن اطلق وعاد خمسمائة سوط، فضربوا في آخر يوم من جمادى الآخرة وذكر أن كتب أبي الساج لما وردت بما كان من إيقاعه ببايكباك، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من رجب من هذه السنة، وجه إليه بعشرة آلاف دينار معونة له، وبخلعه فيها خمسه أثواب وسيف.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها كانت وقعة- فيما ذكر- بين منكجور بن خيدر وبين جماعة من الأتراك بباب المدائن هزمهم فيها منكجور، وقتل منهم جماعة وفيها كانت لبلكاجور صائفة، فتح فيها فتوحا فيما ذكر وفيها كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبو الحسين بن قريش وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان كانت بباب بغواريا وقعة بين الأتراك وأصحاب ابن طاهر، وكان السبب في ذلك ان الموكل كان بباب بغواريا إبراهيم بن محمد بن حاتم والقائد المعروف بالنساوى في نحو من
    (9/330)
    ثلاثمائة فارس وراجل، فجاءت الأتراك والمغاربة في جمع كثير، فنقبوا السور في موضعين، فدخلوا منهما، فقاتلهم النساوي فهزموه، ووافوا باب الأنبار، وعليه إبراهيم بن مصعب وابن أبي خالد وابن أسد بن داود سياه، وهم لا يعلمون بدخولهم باب بغواريا، فقاتلهم قتالا شديدا، فقتل من الفريقين جماعة ثم إن من كان على باب الأنبار من أهل بغداد انهزموا لا يلوون على شيء، فضرب الأتراك والمغاربة باب الأنبار بالنار فاحترق، وأحرقوا ما كان على باب الأنبار من المجانيق والعرادات، ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد ومقابر الرهينة ومن ناحية الشارع إلى موضع أصحاب الدواليب، فاحرقوا ما هنالك وأحرقوا كل ما قرب من ذلك من أمامهم وورائهم، ونصبوا أعلامهم على الحوانيت التي تقرب من ذلك الموضع، وانهزم الناس، حتى لم يقف بين أيديهم أحد، وكان ذلك مع صلاة الغداة، فوجه ابن طاهر إلى القواد، ثم ركب في السلاح فوقف على باب درب صالح المسكين، ووافاه القواد، فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي، وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف، فتوجه بغا في أصحابه وولده إلى باب بغواريا، وصار الشاه بن ميكال والعباس بن قارن والحسين بن إسماعيل إلى باب الأنبار والغوغاء، فالتقوا والأتراك في داخل الباب، فبادرهم العباس بن قارن، فقتل- فيما ذكر- في مقام واحد جماعة من الأتراك، ووجه برءوسهم إلى باب ابن طاهر، وكاثرهم الناس على هذه الأبواب، فدفعوهم حتى أخرجوهم بعد أن قتل منهم جماعة، وكان بغا الشرابي خرج إلى باب بغواريا في جمع كثير، فوافاهم وهم غارون، فقتل منهم جماعة كثيرة، وهرب الباقون، فخرجوا من الباب، فلم يزل بغا يحاربهم إلى العصر، ثم انهزموا وانصرفوا، ووكل بالباب من يحفظه، وانصرف إلى باب الأنبار، ووجه في حمل الجص والآجر، وأمر بسده.
    وفي هذا اليوم أيضا كانت حرب شديدة بباب الشماسية، قتل من الفريقين- فيما ذكر- جماعة كثيرة، وجرح آخرون، وكان الذي قاتل الأتراك في هذا اليوم- فيما ذكر- يوسف بن يعقوب قوصرة
    (9/331)
    وفيها أمر محمد بن عبد الله المظفر بن سيسل أن يعسكر بالياسرية، ففعل ذلك، ثم انتقل إلى الكناسة إلى أن وافاه بالفردل بن إيزنكجيك الأشروسني، فأمر له بفرض، وضم إليه رجالا من الشاكرية وغيرهم، وأمر أن يضام المظفر ويعسكر بالكناسة، ويكون أمرهما واحدا، ويضبط تلك الناحية، فأقاما هنالك حينا، ثم أمر بالفردل المظفر بالمضي، ليعرف خبر الأتراك ليدبر في أمرهم بما يراه، فامتنع من ذلك المظفر، وزعم أن الأمير لم يأمره بشيء مما سأله، وكتب كل واحد منهما يشكو صاحبه، وكتب المظفر يستعفي من المقام بالكناسة، ويزعم أنه ليس بصاحب حرب، فأعفي، وأمر بالانصراف ولزوم البيت، وقلد أمر ذلك العسكر ومن فيه من الجند النائبة والأثبات بالفردل، وضم إليه أثبات المظفر وأفرد بالناحية.
    وفي شهر رمضان من هذه السنة التقى هشام بن أبي دلف والعلوي الخارج بنينوى، ومعه رجل من بني أسد، فاقتتلوا فقتل من أصحاب العلوي- فيما ذكر- نحو من أربعين رجلا، ثم افترقا، فدخل العلوي الكوفة فبايع أهلها المعتز، ودخل هشام بن أبي دلف بغداد وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت بين أبي الساج والأتراك وقعه بناحيه جرجرايا، هزمهم فيها أبو الساج، وقتل منهم جماعة كثيرة، واسر منهم جماعه اخر.
    ذكر خبر قتل بالفردل
    ولليلة بقيت من شهر رمضان منها قتل بالفردل، وكان سبب قتله أن أبا نصر بن بغا لما غلب على الأنبار وما قرب منها، وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية وأجلاهم عنها، بث خيله ورجاله في أطراف بغداد من الجانب الغربي، وصار الى قصر ابن هبيرة، وبها بحونه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال جرى بينه وبينه، ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر،
    (9/332)
    واتصل بابن طاهر خبره وخبر الوقعة التي كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه من الفروض إياه عند احمرار البأس فندب بالفردل إلى اللحاق بأبي الساج والمسير بمن معه إليه، فسار بالفردل فيمن معه غداة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فسار يومه وصبح المدائن، فوافاها مع موافاة الأتراك ومن هو مضموم إليهم من غيرهم، وبالمدائن رجال ابن طاهر وقواده، فقاتلهم الأتراك، فانهزموا ولحق من فيها من القواد بأبي الساج، وقاتل بالفردل قتالا شديدا، ولما راى انهزام من هنا لك من أصحاب ابن طاهر مضى متوجها نحو أبي الساج بمن معه فأدرك فقتل.
    وذكر عن ابن القواريري- وكان أحد القواد- قال: كنت وابو الحسين ابن هشام موكلين بباب بغداد ومنكجور منفرد بباب ساباط، وكان بقرب بابه ثلمة في سور المدائن، فسألت منكجور أن يسدها فأبى، فدخل الأتراك منها، وتفرق أصحابه قال: وبقيت في نحو من عشرة أنفس، ووافى بالفردل هو وأصحابه، فقال: أنا الأمير، أنا فارس ومعي فرسان، نمضي على الشط، وتكون الرجالة على السفن، فدافع ساعه ثم مضى لوجهه وعسكره في السفن على حالهم يريد أبا الساج، أو تلك الناحية، وأقمت بعده ساعة تامة، وتحتي أشقر عليه حلية، فصرت إلى نهر فعثر بي، فسقطت عنه، وقصدوني يقولون: صاحب الأشقر! فخرجت من النهر راجلا قد طرحت عني السلاح، فنجوت.
    وغضب ابن طاهر على ابن القواريري وأصحابه، وأمرهم بلزوم منازلهم، وغرق بالفردل.
    ولأربع خلون من شوال من هذه السنة، جمع- فِيمَا ذكر- مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طاهر جميع قواده الموكلين بأبواب بغداد وغيرهم، فشاورهم جميعا في الأمور، وأعلمهم ما ورد عليهم من الهزائم، فكل أجاب بما أحب من بذل النفس والدم والأموال، فجزاهم خيرا وأدخلهم إلى المستعين، وأعلمه ما ناظرهم
    (9/333)
    فيه وما ردوا عليه من الجواب، فقال لهم المستعين: والله يا معشر القواد، لئن قاتلت عن نفسي وسلطاني ما أقاتل إلا عن دولتكم وعامتكم، وأن يرد الله إليكم أموركم قبل مجيء الأتراك وأشباههم، فقد يجب عليكم المناصحة والجهد في قتال هؤلاء الفسقة، فردوا أحسن مرد، وجزاهم الخير، وأمرهم بالانصراف الى مراكزهم فانصرفوا.
    ذكر خبر هزيمه الاتراك ببغداد
    وفي يوم الاثنين لأيام خلت من ذي القعدة من هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد، هزموا فيها الأتراك، وانتهبوا عسكرهم، وكان سبب ذلك أن الأبواب كلها من الجانبين فتحت ونصبت المجانيق والعرادات في الأبواب كلها والشبارات في دجلة، وخرج منها الجند كلهم، وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف حين تزاحف الفريقان، واشتدت الحرب إلى باب القطيعة، ثم عبروا إلى باب الشماسية، وقعد ابن طاهر في قبة ضربت له، وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية في الزواريق، ربما انتظم السهم الواحد عدة منهم فقتلهم، فهزمت الأتراك، وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، وانتهبوا سوقهم هنالك، وضربوا زورقا لهم كان يقال له الحديدي، كان آفة على أهل بغداد بالنار، وغرق من فيه، وأخذوا لهم شبارتين، وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء، وجعل وصيف وبغا يقولان كلما جيء برأس: ذهب والله الموالي واتبعهم أهل بغداد إلى الروذبار، ووقف أبو أحمد بن المتوكل يرد الموالي، ويخبرهم أنهم إن لم يكروا لم يبق لهم بقية، وأن القوم يتبعونهم إلى سامرا فتراجعوا، وثاب بعضهم، وأقبلت العامة تحز رءوس من قتل، وجعل محمد بن عبد الله يطوق كل من جاء برأس ويصله، حتى كثر ذلك، وبدت الكراهة في وجوه من مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي، ثم ارتفعت غبرة من ريح جنوب، وارتفع الدخان مما احترق،
    (9/334)
    وأقبلت أعلام الحسن بن الأفشين مع أعلام الأتراك يقدمها علم أحمر، قد استلبه غلام لشاهك، فنسي أن ينكسه، فلما رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه، توهموا أن الأتراك قد رجعوا عليهم وانهزموا، وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه، فنكس العلم، والناس قد ازدحموا منهزمين، وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فتحملوا عليهم، فانصرف الفريقان بعضهم عن بعض
    . خبر وقعه ابى السلاسل مع المغاربه
    وفيها كانت وقعة لأبي السلاسل وكيل وصيف بناحية الجبل مع المغاربة، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن رجلا من المغاربة يقال له نصر سلهب، صار بجماعة من المغاربة إلى عمل بعض ما إلى أبي الساج من الأرض، وانتهب هو وأصحابه ما هنالك من القوى، فكتب أبو السلاسل إلى أبي الساج يعلمه ذلك، فوجه أبو الساج إليه- فيما ذكر- بنحو من مائة نفس بين فارس وراجل، فلما صاروا إليه كبس أولئك المغاربة، فقتل منهم تسعة، وأسر عشرين، وأفلت نصر سهلب ساريا
    . ذكر خبر وقوع الصلح بين الموالي وابن طاهر
    ووضعت الحرب أوزارها بعد هذه الوقعة بين الموالي وابن طاهر، فلم يعودوا لها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن ابن الطاهر قد كان كاتب المعتز قبل ذلك في الصلح، فلما كانت هذه الوقعة أنكرت عليه، فكتب إليه، فذكر أنه لا يعود بعدها لشيء يكرهه، ثم أغلقت بعد ذلك على أهل بغداد أبوابها، فاشتد عليهم الحصار، فصاحوا في أول ذي القعدة من هذه السنة في يوم الجمعة: الجوع! ومضوا إلى الجزيرة التي هي تلقاء دار ابن طاهر، فأرسل إليهم ابن طاهر: وجهوا إلي منكم خمسة مشايخ، فوجهوا بهم، فأدخلوا عليه، فقال لهم: إن من الأمور أمورا لا يعلم بها العامة، وأنا عليل، ولعلي
    (9/335)
    أعطي الجند أرزاقهم ثم أخرج بهم إلى عدوكم فطابت أنفسهم، وخرجوا عن غير شيء، وعادت العامة والتجار بعد إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا وشكوا ما هم فيه من غلاء السعر، فبعث إليهم فسكنهم، ووعدهم ومناهم وأرسل ابن طاهر إلى المعتز في الصلح واضطرب أمر أهل بغداد، فوافى بغداد للنصف من ذي القعدة من هذه السنه حماد بن إسحاق ابن حماد بن زيد، ووجه مكانه أبو سعيد الأنصاري إلى عسكر أبي أحمد رهينة، فلقي حماد بن إسحاق ابن طاهر، فخلا به فلم يذكر ما جرى بينهما.
    ثم انصرف حماد إلى عسكر أبي أحمد، ورجع أبو سعيد الأنصاري، ثم رجع حماد إلى ابن طاهر، فجرت بين ابن طاهر وبين أبي أحمد رسائل مع حماد.
    ولتسع بقين من ذي القعدة خرج أحمد بن إسرائيل إلى عسكر أبي أحمد مع حماد وأحمد بن إسحاق وكيل عبيد الله بن يحيى بإذن ابن طاهر لمناظرة أبي أحمد في الصلح.
    ولسبع بقين من ذي القعدة أمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إياه عليه فأطلقه ومن غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجالة الجند وكثير من العامة، فطلب الجند أرزاقهم، وشكت العامة سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار، وقالوا: إما خرجت فقاتلت، وإما تركتنا، فوعدهم أيضا الخروج أو فتح الباب للصلح، ومناهم فانصرفوا.
    فلما كان بعد ذلك، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة شحن السجون والجسر وباب داره والجزيرة بالجند والرجال، فحضر الجزيرة بشر كثير، فطردوا من كان ابن طاهر صيرهم فيها، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي، ففتحوا سجن النساء، وأخرجوا من فيه، ومنعهم علي بن جهشيار ومن معه من الطبرية من سجن الرجال، ومانعهم أبو مالك الموكل بالجسر الشرقي، فشجوه وجرحوا دابتين لأصحابه، فدخل داره وخلاهم، فانتهبوا ما في
    (9/336)
    مجلسه، وشد عليهم الطبرية فنحوهم حتى أخرجوهم من الأبواب، وأغلقوها دونهم، وخرج منهم جماعة، ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون، فضمن للجند رزق أربعة أشهر، فانصرفوا على ذلك، وأمر ابن طاهر بإعطاء أصحاب ابن جهشيار أرزاقهم لشهرين من يومهم فأعطوا.
    ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعه للمعتز
    ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في هذه الأيام، فوصلت إليه ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن طاهر قواده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وان المعتز ولى عهده.
    خروج العامه ونصره المستعين على ابن طاهر
    ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس- وكان موكلا بباب السلامة- مع قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه إلى الأتراك بأنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس، فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم، على ان الصلح قد وقع، فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه في أثره، فلما كان يوم الاثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس، وقال: ان امير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم، فشتمه العامة ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشئم في كل باب، ويشتم المعتز فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك، فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى الحظيرة
    (9/337)
    التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر غيرهم وهم زهاء ثلاثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوا من عليه وردوهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار، وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا نارا، وقد كانوا باتوا بالجزيرة الليل كله يشتمونه ويتناولنه بالقبيح.
    وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما يقذف به من كل إنسان، حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال:
    يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير، ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بد من ذلك فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا، فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم، فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه، فحلف لهم بالله ما اتهمه، وإني لفي عافية ما علي منه بأس، وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين، وانتهبوا دواب علي بن جهشيار- وكانت في الخراب، على باب الجسر الشرقي- وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب، وما زال الناس وقوفا على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين، فصار الناس جميعا إلى الباب، فدخل وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال، فأذن لهم.
    بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامه ما نحن عليه، ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون،
    (9/338)
    فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر اليه وادخاله الأتراك والمغاربة بغداد، فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك أهل بغداد.
    واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم، وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم، فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم، فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم- وقد كان عرف كثرة الناس- أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضي إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد برده النبي ص، ومعه القضيب، فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا، فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد، بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ماله في دار محمد بن عبد الله، فانصرف أكثر الناس، وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا
    (9/339)
    عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنها.
    وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ الحربية والأرباض جميعا، يعتذرون إليه، ويسألونه الصفح عما كان منهم، ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها والفاقة التي نالتهم، فرد عليهم- فيما ذكر- مردا جميلا، وقال لهم قولا حسنا، وأثنى عليهم، وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب المعاون بترك السخره.
    ذكر خبر انتقال المستعين الى دار رزق الخادم بالرصافة
    ولأيام خلون من ذي الحجة انتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله، وركب منها، فصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة، ومر بدار علي بن المعتصم، فخرج إليه علي، فسأله النزول عنده، فأمره بالركوب، فلما صار إلى دار رزق الخادم نزلها، فوصل إليها- فيما ذكر- مساء، فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكل فارس منهم، وبخمسة دنانير لكل راجل وركب بركوب المستعين ابن طاهر، وبيده الحربة يسير بها بين يديه، والقواد خلفه، وأقام- فيما ذكر- مع المستعين ليلة انتقل إلى دار رزق محمد بن عبد الله إلى ثلث الليل، ثم انصرف، وبات عنده وصيف وبغا حتى السحر، ثم انصرفا إلى منازلهما ولما كان صبيحة الليلة التي انتقل المستعين فيها من دار ابن طاهر اجتمع الناس في الرصافة، وأمر القواد وبنو هاشم بالمصير إلى ابن طاهر والسلام عليه، وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة فصاروا إليه، فلما كان الضحى الأكبر من ذلك اليوم، ركب ابن طاهر وجميع قواده في تعبئه
    (9/340)
    وحوله ناشبة رجالة، فلما خرج من داره وقف للناس، فعاتبهم وحلف أنه ما أضمر لأمير المؤمنين- أعزه الله- ولا لولي له ولا لأحد من الناس سوءا، وأنه ما يريد إلا إصلاح أحوالهم، وما تدوم به النعمة عليهم، وأنهم قد توهموا عليه ما لا يعرفه، حتى أبكى الناس فدعا له من حضر، وعبر الجسر، وصار إلى المستعين، وبعث فأحضر جيرانه ووجوه أهل الأرباض من الجانب الغربي، فخاطبهم بكلام عاتبهم فيه، واعتذر إليهم مما بلغهم، ووجه وصيف وبغا من طاف على أبواب بغداد، ووكلا صالح بن وصيف بباب الشماسية.
    وذكر أن المستعين كان كارها لنقله عن دار محمد، ولكنه انتقل عنها من أجل أن الناس ركبوا الزواريق بالنفاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليهم فتح بابه يوم الجمعة.
    وذكر أن قوما منهم كنجور، وقفوا بباب الشماسية من قبل أبي أحمد، فطلبوا ابن طاهر ليكلموه، فكتب إلى وصيف يعلمه خبر القوم، ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فرد المستعين الأمر في ذلك إليه، وأن التدبير في جميع ذلك مردود إليه، فيتقدم في ذلك بما رأى وذكر أن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم كلم محمد بن عبد الله في ذلك بكلام غليظ، فوثب عليه محمد بن أبي عون فأسمعه وتناوله.
    وذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبيد الله بن يحيى خلوا بابن طاهر، فما زالوا يفتلونه في الذروة والغارب، ويشيرون عليه بالصلح، وأنه ربما كان عنده قوم فأجروا الكلام في خلاف الصلح، فيكشر في وجوههم، ويعرض عنهم، فإذا حضر هؤلاء الثلاثة أقبل عليهم وحادثهم وشاورهم.
    وذكر عن بعضهم أنه قال: قلت لسعيد بن حميد يوما: ما ينبغي إلا أن يكون قد كان انطوى على المداهنة في أول أمره، قال: وددت أنه كان كذلك، لا والله ما هو إلا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى
    (9/341)
    كاتب القوم، وأجابهم بعد أن كان قد جادهم.
    وحدثني أحمد بن يحيى النحوي- وكان يؤدب ولد ابن طاهر- أن محمد بن عبد الله لم يزل جادا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبيد الله بن يحيى ابن خاقان، فقال له: أطال الله بقاءك! إن هذا الذي تنصره وتجد في أمره من أشد الناس نفاقا، وأخبثهم دينا، والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه، وإن كنت شاكا فيما وصفت من أمره، فسل تخبره، وإن من ظاهر نفاقه أنه كان وهو بسامرا لا يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما صار إلى ما قبلك، جهر بها مراءاة لك، وتترك نصرة وليك وصهرك وتربيتك، ونحو ذلك من كلام كلمه به، فقال محمد بن عبد الله: أخزى الله هذا، لا يصلح لدين ولا دنيا، قال: وكان أول من تقدم على صرف محمد بن عبد الله عن الجد في أمر المستعين عبيد الله بن يحيى في هذا المجلس، ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد، فلم يزالوا به حتى صرفوه عما كان عليه من الرأي في نصرة المستعين.
    وفي يوم الأضحى من هذه السنة صلى بالناس المستعين صلاة الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وركب وبين يديه عبيد الله بن عبد الله، معه الحربة التي لسليمان، وبيد الحسين بن إسماعيل حربة السلطان، وبغا ووصيف يكنفانه، ولم يركب محمد بن عبد الله بن طاهر، وصلى عبد الله ابن إسحاق في الرصافه.
    ذكر بدء المفاوضه في امر خلع المستعين
    وفي يوم الخميس ركب محمد بن عبد الله إلى المستعين، وحضره عدة من الفقهاء والقضاة، فذكر أنه قال للمستعين: قد كنت فارقتني على ان
    (9/342)
    تنفذ في كل ما أعزم عليه، ولك عندي بخطك رقعة بذلك، فقال المستعين:
    أحضر الرقعة فأحضرها، فإذا فيها ذكر الصلح، وليس فيها ذكر الخلع، فقال: نعم، أنفذ الصلح، فقام الحلنجى فقال: يا أمير المؤمنين، أنه يسألك أن تخلع قميصا قمصك به الله وتكلم علي بن يحيى المنجم فاغلظ لمحمد ابن عبد الله.
    ثم ركب بعد ذلك محمد بن عبد الله- وذلك للنصف من ذي الحجة- إلى المستعين بالرصافة، ثم انصرف ومعه وصيف وبغا، فمضوا جميعا حتى صاروا إلى باب الشماسية، فوقف محمد بن عبد الله على دابته، ومضى وصيف وبغا إلى دار الحسن بن الأفشين، وانحدرت المبيضة والغوغاء من السور، ولم يطلق لأحد فتح الأبواب، وقد كان خرج قبل ذلك جماعة كثيرة إلى عسكر أبي أحمد، فاشتروا ما أرادوا، فلما خرج من ذكرنا إلى باب الشماسية نودي في أصحاب أبي أحمد ألا يباع من أحد من أهل بغداد شيء، فمنعوا من الشراء، وكان قد ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشماسية مضرب كبير أحمر، وكان مع ابن طاهر بندار الطبرى وأبو السنا ونحو من مائتي فارس ومائتي راجل، وجاء أبو أحمد في زلال حتى قرب من المضرب، ثم خرج ودخل المضرب مع محمد بن عبد الله، ووقف الذين مع كل واحد منهما من الجند ناحية، فتناظر ابن طاهر وأبو أحمد طويلا، ثم خرجا من المضرب، وانصرف ابن طاهر من مضربه إلى داره في زلال، فلما صار إليها خرج من الزلال، فركب ومضى إلى المستعين ليخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، وأقام عنده إلى العصر، ثم انصرف، فذكر أنه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار، ويقطع غلة ثلاثين ألف دينار في السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتى يجتمع لهم مال يعطون الجند، وعلى أن يولي بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما والاه، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان للموالي والاتراك
    (9/343)
    وذكر أن أحمد بن إسرائيل لما صار إلى المعتز ولاه ديوان البريد، وفارقه على ان يكون هو الوزير وعيسى بن فرخان شاه على ديوان الخراج وأبو نوح على الخاتم والتوقيع، فاقتسموا الأعمال، فوردت خريطة الموسم إلى بغداد بالسلامة، فبعث بها إلى أبي أحمد، ثم ركب ابن طاهر- فيما قيل- لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة إلى المستعين، لمناظرته في الخلع، فناظره فامتنع عليه المستعين، وظن المستعين أن بغا ووصيفا معه، فكاشفاه، فقال المستعين: هذا عنقي والسيف والنطع، فلما رأى امتناعه انصرف عنه، فبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلي بن يحيى المنجم وقوم من ثقاته، وقال: قولوا له:
    اتق الله، فإنما جئتك لتدفع عني، فإن لم تدفع عني فكف عني فرد عليه، أما أنا فأقعد في بيتي، ولكن لا بد لك من خلعها طائعا أو مكرها.
    وذكر عن علي بن يحيى أنه قال له: قل له: إن خلعتها فلا باس، فو الله لقد تمزقت تمزقا لا يرقع، وما تركت فيها فضلا فلما رأى المستعين ضعف أمره وخذلان ناصريه أجاب إلى الخلع، فلما كان يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وجه ابن طاهر ابن الكردية وهو محمد بن إبراهيم بن جعفر الأصغر بن المنصور والخلنجي وموسى بن صالح بن شيخ وأبا سعيد الأنصاري وأحمد بن إسرائيل ومحمد بن موسى المنجم الى عسكر ابى أحمد ليوصلوا كتاب محمد إليه بأشياء سألها المستعين من حين ندب إلى أن يخلع نفسه فأوصلوا الكتاب، فأجاب إلى ما سأل وكتب الجواب بأن يقطع وينزل مدينة الرسول ص، وأن يكون مضطربه من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة فأجابه إلى ذلك، فلم يقنع المستعين إلا بخروج ابن الكردية بما سأل إلى المعتز، حتى يكتب بإجابته بذلك بخطه بعد مشافهة ابن الكردية المعتز بذلك، فتوجه ابن الكردية بها.
    وكان سبب إجابة المستعين إلى الخلع- فيما ذكر- أن وصيفا وبغا وابن طاهر ناظروه في ذلك وأشاروا عليه، فأغلظ لهم، فقال له وصيف:
    (9/344)
    أنت أمرتنا بقتل باغر، فصرنا إلى ما نحن فيه، وأنت عرضتنا لقتل اوتامش، وقلت: إن محمدا ليس بناصح، وما زالوا يفزعونه ويحتالون له، فقال محمد ابن عبد الله: وقد قلت لي إن أمرنا لا يصطلح إلا باستراحتنا من هذين، فلما اجتمعت كلمتهم أذعن لهم بالخلع، وكتب بما اشترط لنفسه عليهم، وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.
    ولما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، وأدخلهم على المستعين فوجا فوجا، واشهدهم عليه انه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم أدخل عليه البوابين والخدم، وأخذ منه جوهر الخلافة، وأقام عنده حتى مضى هوي من الليل، وأصبح الناس يرجفون بألوان الأراجيف، وبعث ابن طاهر إلى قواده في موافاته، مع كل قائد منهم عشرة نفر من وجوه أصحابه، فوافوه، فأدخلهم ومناهم، وقال لهم: إنما أردت بما فعلت صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء وأعد للخروج إلى المعتز في الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه ولقواده قوما ليوقع المعتز في ذلك بخطه ثم أخرجهم إلى المعتز، فمضوا إليه حتى وقع في ذلك بخطه إمضاء كل ما سأل المستعين وابن طاهر لأنفسهما من الشروط، وشهدوا عليه بإقراره بذلك كله، وخلع المعتز على الرسل، وقلدهم سيوفا، وانصرفوا بغير جائزة ولا نظر في حاجة لهم، ووجه معهم لأخذ البيعة له على المستعين جماعة من عنده، ولم يأمر للجند بشيء.
    وحمل إلى المستعين أمه وابنته وعياله بعد ما فتش عياله، وأخذ منهم بعض ما كان معهم مع سعيد بن صالح، فكان دخول الرسل بغداد منصرفهم من عند المعتز يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
    وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من أهل بغداد، فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو إلى دار محمد بن عبد الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبرده
    (9/345)
    وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر، واسم الكوكبي الحسين بن احمد ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن أبي طالب رضي الله عنه.
    وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من اهل مكة نحو من ثلاثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل:
    عليك ثوبان وأمي عاريه ... فالق لي ثوبك يا بن الزانية
    فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على القرى.
    ذكر خبر خروج اسماعيل بن يوسف بمكة
    وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى العاملي على مكة، فانتهب إسماعيل بن يوسف منزل جعفر ومنزل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين من المال وما كان في الكعبة من الذهب، وما في خزائنها من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار، وأنهب مكة، وأحرق بعضها في شهر ربيع الأول منها ثم خرج منها بعد خمسين يوما، ثم صار إلى المدينة، فتوارى علي بن الحسين بن إسماعيل العامل عليها، ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعا وعطشا، وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء ثلاثة دراهم، ولقي أهل مكة منه كل بلاء ثم رحل بعد مقام سبعة وخمسين يوما إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار
    (9/346)
    وأصحاب المراكب، فحمل إلى مكة الحنطة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم، ثم وافى إسماعيل بن يوسف الموقف، وذلك يوم عرفة، وبه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة- وكان المعتز وجههما إليها- فقاتلهم، فقتل نحو من ألف ومائة من الحاج، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلا ولا نهارا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها
    (9/347)
    ثم دخلت
    سنة اثنتين وخمسين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر خلع المستعين وبيعه المعتز
    فمن ذلك ما كان من خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة، وبيعته للمعتز محمد بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم، والدعاء للمعتز على منبري بغداد ومسجدي جانبيها الشرقي منها والغربي، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم من هذه السنة، وأخذ البيعة له بها على من كان يومئذ بها من الجند.
    وذكر أن ابن طاهر دخل على المستعين ومعه سعيد بن حميد حين كتب له بشروط الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كتب سعيد كتب الشروط وأكد غاية التأكيد، فنقرؤه عليك فتسمعه؟ فقال له المستعين: لا عليك! ألا تركتها يا أبا العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، قد أكدت على نفسك قبلهم فكان ما قد علمت، فما رد عليه محمد شيئا.
    ولما بايع المستعين المعتز، وأخذ عليه البيعة ببغداد، وأشهد عليه الشهود من بني هاشم والقضاة والفقهاء والقواد نقل من الموضع الذي كان به من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمخرم هو وعياله وولده وجواريه، فأنزلوهم فيه جميعا، ووكل بهم سعيد بن رجاء الحضاري في أصحابه، وأخذ المستعين البردة والقضيب والخاتم، ووجه مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه:
    أما بعد، فالحمد لله متمم النعم برحمته، والهادي إلى شكره بفضله، وصلى
    (9/348)
    الله على محمد عبده ورسوله، الذي جمع له ما فرق من الفضل في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصه بخلافته، وسلم تسليما كتابي إلى أمير المؤمنين وقد تمم الله له أمره، وتسلمت تراث رسول الله ص ممن كان عنده، وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده.
    ومنع المستعين الخروج إلى مكة، واختار أن ينزل البصرة فذكر عن سعيد ابن حميد أن محمد بن موسى بن شاكر قال: البصرة وبية، فكيف اخترت أن تنزلها! فقال المستعين: هي أوبى، أو ترك الخلافة! وذكر أن قرب جارية قبيحة جاءت برسالة إلى المستعين من المعتز، يسأله أن ينزل عن ثلاث جوار كان المستعين تزوجهن من جواري المتوكل، فنزل عنهن، وجعل أمرهن إليهن، وكان احتبس عنده من الجوهر خاتمين يقال لأحدهما البرج وللآخر الجبل، فوجه إليه محمد بن عبد الله بقرب خاصية المعتز وجماعة، فدفعهما إليهم، وانصرفوا بذلك إلى محمد بن عبد الله، فوجه به إلى المعتز.
    ولست خلون من المحرم دخل- فيما قيل- بغداد أكثر من مائتي سفينة، فيها من صنوف التجارات وغنم كثير، وأشخص المستعين مع محمد بن مظفر ابن سيسل وابن أبي حفصة إلى واسط في نحو من أربعمائة فرسان ورجالة.
    وقدم بعد ذلك على ابن طاهر عيسى بن فرخان شاه وقرب، فأخبراه أن ياقوتة من جوهر الخلافة قد حبسها أحمد بن محمد عنده، فوجه ابن طاهر الحسين ابن إسماعيل فأخرجها، فإذا ياقوتة بهية، أربع أصابع طولا في عرض مثل ذلك، وإذا هو قد كتب عليها اسمه، فدفعت إلى قرب، فبعثت بها إلى المعتز.
    واستوزر المعتز أحمد بن إسرائيل، وخلع عليه، ووضع تاجا على رأسه، وشخص أبو أحمد إلى سامرا يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من المحرم منها، وشيعه محمد بن عبد الله والحسن بن مخلد، فخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا، ورجع من الروذبار
    (9/349)
    وقال بعض الشعراء في خلع المستعين:
    خلع الخلافة أحمد بن محمد ... وسيقتل التالي له أو يخلع
    ويزول ملك بني أبيه ولا يرى ... أحد تملك منهم يستمتع
    إيها بني العباس إن سبيلكم ... في قتل أعبدكم طريق مهيع
    رقعتم دنياكم فتمزقت ... بكم الحياة تمزقا لا يرقع
    وقال بعض البغداديين:
    إني أراك من الفراق جزوعا ... أضحى الإمام مسيرا مخلوعا
    كانت به الآفاق تضحك بهجة ... وهو الربيع لمن أراد ربيعا
    لا تنكري حدث الزمان وريبه ... إن الزمان يفرق المجموعا
    لبس الخلافة واستجد محبة ... يقضي أمور المسلمين جميعا
    فجنت عليه يد الزمان بصرفه ... حربا وكان عن الحروب شسوعا
    وتجانف الأتراك عنه تمردا ... أضحى، وكان ولا يراع مروعا
    فنزا بهم، فنزوا به وتعاورت ... أيدي الكماة من الرءوس نجيعا
    فأزاله المقدار عن رتب العلا ... فثوى بواسط لا يحس رجوعا
    غدروا به، مكروا به، خانوا به ... لزم الفراش، وحالف التضجيعا
    وتكنفوا بغداد من أقطارها ... قد ذللوا ما كان قبل منيعا
    ولو أنه سعر الحروب بنفسه ... متلببا للقائهن دروعا
    حتى يصادم بالكماة كماته ... فيكون من قصد الحروب صريعا
    لغدا على ريب الزمان محرما ... ولكان إذ غدر اللئام منيعا
    لكن عصى رأي الشفيق وعذله ... وغدا لأمر الناكثين مطيعا
    (9/350)
    والملك ليس بمالك سلطانه ... من كان للرأي السديد مضيعا
    ما زال يخدع نفسه عن نفسه ... حتى غدا عن ملكه مخدوعا
    باع ابن طاهر دينه عن بيعة ... أمسى بها ملك الإمام منيعا
    خلع الخلافة والرعية فاغتدي ... من دين رب محمد مخلوعا
    فليجرعن بذاك كأسا مرة ... وليلفين لتابعيه تبيعا
    وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان حين خلع المستعين، وصار إلى واسط:
    إن الأمور إلى المعتز قد رجعت ... والمستعان إلى حالاته رجعا
    وكان يعلم أن الملك ليس له ... وأنه لك لكن نفسه خدعا
    ومالك الملك مؤتيه ونازعه ... آتاك ملكا ومنه الملك قد نزعا
    إن الخلافة كانت لا تلائمه ... كانت كذات حليل زوجت متعا
    ما كان أقبح عند الناس بيعته ... وكان أحسن قول الناس قد خلعا
    ليت السفين إلى قاف دفعن به ... نفسي الفداء لملاح به دفعا
    كم ساس قبلك أمر الناس من ملك ... لو كان حمل ما حملته ظلعا
    أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة ... والله يجعل بعد الضيق متسعا
    والله يدفع عنك السوء من ملك ... فإنه بك عنا السوء قد دفعا
    ما ضاع مدحي ولا ضاع اصطناعك لي ... وقد وجدت بحمد الله مصطنعا
    فاردد علي بنجد ضيعة قبضت ... فإن مثلك مثلي يقطع الضيعا
    فإن رددت إمام العدل غلتها ... فالله آنف حسادي به جدعا
    وقال يمدح المعتز بعد خلع المستعين:
    قد عادت الدنيا إلى حالها ... وسرنا الله بإقبالها
    دنيا بك الله كفى أهلها ... ما كان من شده أهوالها
    (9/351)
    وكان قد ملكها جاهل ... لا تصلح الدنيا لجهالها
    قد كانت الدنيا به قفلت ... فكنت مفتاحا لأقفالها
    إن التي فزت بها دونه ... عادت إلى أحسن أحوالها
    خلافة كنت حقيقا بها ... فضلك الله بسربالها
    فرده الله إلى حاله ... وردها الله إلى حالها
    ولم تكن أول عارية ... ردت على رغم إلى آلها
    والله لو كان على قرية ... ما كان يجزي بعض أعمالها
    أدخل في الملك يدا رعدة ... أخرجها من بعد إدخالها
    بدلنا الله به سيدا ... أسكن دنيا بعد زلزالها
    بدلت الأمة هذا بذا ... كأنها في وقت دجالها
    وقام بالملك وأثقاله ... وقام بالحرب وأثقالها
    أبطل ما كان العدا أملوا ... رميك بالخيل وأبطالها
    تعمل خيلا طالما نجحت ... ما عملت خيل كأعمالها
    وقال الوليد بن عبيد البحتري في خلع المستعين ومدح المعتز:
    ألا هل أتاها أن مظلمة الدجى ... تجلت وأن العيش سهل جانبه
    وأنا رددنا المستعار مذمما ... على أهله واستأنف الحق صاحبه
    عجبت لهذا الدهر أعيت صروفه ... وما الدهر إلا صرفه وعجائبه
    متى امل الدياك أن يصطفى له ... عرى التاج أو يثنى عليه عصائبه
    وكيف ادعى حق الخلافة غاصب ... حوى دونه إرث النبي أقاربه
    بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ... على الناس ثور قد تدلت غباغبه
    ثقيل على جنب الثريد مراقب ... لشخص الخوان يبتدي فيواثبه
    (9/352)
    إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ... أضاء شهاب الملك أم كل ثاقبه
    إذا بكر الفراش ينثو حديثه ... تضاءل مطريه وأطنب عائبه
    تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ... فطورا يناغيه وطورا يشاغبه
    فكيف رأيت الحق قر قراره ... وكيف رأيت الظلم زالت عواقبه
    ولم يكن المعتز بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه
    رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعري من برد النبي مناكبه
    وقد سرني أن قيل وجه مسرعا ... الى الشرق تحدى سفنه وركائبه
    إلى كسكر خلف الدجاج ولم يكن ... لتنشب إلا في الدجاج مخالبه
    وما لحية القصار حيث تنفشت ... بجالبة خيرا على من يناسبه
    يحوز ابن خلاد على الشعر عنده ... ويضحي شجاع وهو للجهل كاتبه
    فأقسمت بالوادي الحرام وما حوت ... أباطحه من محرم وأخاشبه
    لقد حمل المعتز أمة أحمد ... على سنن يسري إلى الحق لاحبه
    تدارك دين الله من بعد ما عفت ... معالمه فينا وغارت كواكبه
    وضم شعاع الملك حتى تجمعت ... مشارقه موفورة ومغاربه
    وانصرف أبو الساج ديوداد بن ديودست إلى بغداد لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، فقلده محمد بن عبد الله معاون ما سقى الفرات من السواد، فوجه أبو الساج خليفة له يقال له كربه إلى الأنبار، ووجه قوما من أصحابه إلى قصر ابن هبيرة مع خليفة له، ووجه الحارث بن اسد في خمسمائة فارس وراجل، يستقرئ أعماله، ويطرد الأتراك والمغاربة عنها، وقد كانوا عاثوا في النواحي وتلصصوا ثم شخص أبو الساج من بغداد لثلاث خلون من ربيع الأول، ففرق أصحابه في طساسيج الفرات، ونزل قصر ابن هبيرة، ثم صار إلى الكوفة، ووافى أبو أحمد سامرا منصرفا من معسكره إليها لإحدى
    (9/353)
    عشرة بقيت من المحرم، فخلع المعتز عليه ستة أثواب وسيفا، وتوج تاج ذهب بقلنسوة مجوهرة، ووشح وشاحي ذهب بجوهر، وقلد سيفا آخر مرصعا بالجوهر، وأجلس على كرسي، وخلع على الوجوه من القواد.
    ذكر خبر قتل شريح الحبشي
    وفيها قتل شريح الحبشي، وكان سبب ذلك أنه حين وقع الصلح، هرب في عدة من الحبشة، فقطع الطريق فيما بين واسط وناحية الجبل والأهواز، ونزل قرية من قرى أم المتوكل يقال لها ديري، فنزل في خانها في خمسه عشر رجلا، فشربوا وسكروا، فوثب عليهم أهل القرية فكتفوهم، وحملوهم إلى واسط، إلى منصور بن نصر، فحملهم منصور إلى بغداد، فأنفذهم محمد ابن عبد الله إلى العسكر، فلما وصلوا قام بايكباك إلى شريح فوسطه بالسيف وصلب على خشبة بابك، وضرب أصحابه بالسياط ما بين الخمسمائة إلى الألف.
    وفي شهر ربيع الآخر منها توفي عبيد الله بن يحيى بن خاقان في مدينه ابى جعفر.
    ذكر حال بغا ووصيف
    وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله في إسقاط اسم بغا ووصيف ومن كان في رسمهما من الدواوين.
    وذكر أن محمد بن أبي عون أحد قواد محمد بن عبد الله ناظره لما صار أبو أحمد إلى سامرا في قتل بغا ووصيف، فوعده أن يقتلهما، فبعث المعتز إلى محمد ابن عبد الله بلواء، وعقد لمحمد بن أبي عون لواء على البصرة واليمامة والبحرين،
    (9/354)
    فكتب قوم من أصحاب بغا ووصيف إليهما بذلك، وحذروهما محمد بن عبد الله، فركب وصيف وبغا إليه يوم الثلاثاء لخمس بقين من ربيع الأول، فقال له بغا: بلغنا أيها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا، والقوم قد غدروا وخالفوا ما فارقونا عليه، والله لو أرادوا أن يقتلونا ما قدروا عليه فحلف لهما أنه ما علم بشيء من ذلك، وتكلم بغا بكلام شديد، ووصيف يكفه، وقال وصيف: أيها الأمير، قد غدر القوم ونحن نمسك ونقعد في منازلنا حتى يجيء من يقتلنا! وكانا دخلا مع جماعة، ثم رجعا إلى منازلهما، فجمعا جندهما ومواليهما، وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفريق الأموال في جيرانهما إلى سلخ ربيع وكان وصيف وبغا عند قدوم قرب، وجه إليهما محمد ابن عبد الله كاتبه محمد بن عيسى، فأقبلا معه حتى صارا عند دار محمد بن عبد الله بقرب الجسر، فلقيهما جعفر الكردي وابن خالد البرمكي، فتعلق كل واحد منهما بلجام واحد منهما، وقال لهما: إنما دعيتما لتحملا إلى العسكر، وقد أعد لكما لذلك قوم أو لتقتلا، فرجعا وجمعا جمعا، وأجريا على كل رجل كل يوم درهمين، فأقاما في منازلهما.
    وكان وصيف وجه أخته سعاد إلى المؤيد، وكان المؤيد في حجرها، فأخرجت من قصر وصيف الف الف دينار كانت مدفونة فيه، فدفعتها إلى المؤيد، فكلم المؤيد المعتز في الرضا عن وصيف، فكتب إليه بالرضا عنه، فضرب مضاربه بباب الشماسية على ان يخرج، وتكلم ابو احمد ابن المتوكل في الرضا عن بغا، فكتب إليه بالرضا، واضطرب أمرهما وهما مقيمان ببغداد.
    ثم اجتمع على المعتز الأتراك فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا: هما كبيرانا ورئيسانا، فكتب إليهما بذلك، فجاء بالكتاب بايكباك في نحو من ثلاثمائة رجل، فأقام بالبردان، ووجه إليهما الكتاب لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة، فكتب إلى محمد بن عبد الله بمنعهما، فوجها بكاتبيهما احمد
    (9/355)
    ابن صالح ودليل بن يعقوب إلى محمد بن عبد الله ليستأذناه، فأتاهما جيش من الأتراك، فنزلوا بالمصلى، وخرج وصيف وبغا وأولادهما وفرسانهما في نحو من أربعمائة إنسان، وخلفا في دورهما الثقل والعيال، ودعا أهل بغداد لهما ودعوا لهم.
    وقد كان ابن طاهر وجه محمد بن يحيى الواثقي وبندار الطبرى الى باب الشماسيه وباب البرد ان ليمنعوهما، ومضيا من باب خراسان، ونفذا ولم يعلم كاتباهما حتى قال محمد بن عبد الله لأحمد ودليل: ما صنع صاحبا كما؟ فقال احمد ابن صالح: خلفت وصيفا في منزله قال: فإنه قد شخص الساعة، قال:
    ما علمت، فلما صار إلى سامرا بكر أحمد بن إسرائيل يوم الأحد لتسع بقين من شوال من هذه السنة في السحر إلى وصيف، وأقام عنده مليا، ثم انصرف إلى بغا، فأقام عنده مليا، ثم صار إلى الدار، فاجتمع الموالي وسألوا ردهما إلى مراتبهما، فأجيبوا إلى ذلك، وبعث إليهما، فحضرا ورتبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد، وأمر برد ضياعهما، وخلع عليهما خلع المرتبة ثم ركب المعتز إلى دار العامة، وعقد لبغا ووصيف على أعمالهما ورد ديوان البريد كما كان قبل إلى موسى بن بغا الكبير، فقبل موسى ذلك.
    ذكر الفتنة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر
    وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت وقعة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ورئيس الجند يومئذ ابن الخيل وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن المعتز كتب إلى محمد بن عبد الله في بيع غله طساسيج ضياع بادوريا وقطربل ومسكن وغيرها، كل كرين بالمعدل بخمسة وثلاثين دينارا من غلة سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان المعتز ولى بريد بغداد رجلا يقال له صالح بن الهيثم، وكان أخوه منقطعا إلى أتامش أيام
    (9/356)
    المتوكل، فارتفع أمر صالح هذا أيام المستعين، وكان ممن أقام بسامرا، وهو من أهل المخرم، وكان أبوه حائكا ثم صار يبيع الغزل، ثم انتقل أخوه إليه لما ارتفع فلما اقام ببغداد كتب اليه يؤمر أن يقرأ الكتاب على قواد أهل بغداد كعتاب بن عتاب ومحمد بن يحيى الواثقي ومحمد بن هرثمة ومحمد بن رجاء وشعيب ابن عجيف ونظرائهم، فقرأه عليهم، فصاروا إلى محمد بن عبد الله، فأخبروه، فأمر محمد بن عبد الله فأحضر صالح بن الهيثم، وقال: ما حملك على هذا بغير علمي! وتهدده وأسمعه وقال للقواد: انتظروا حتى أرى رأيي، وآمركم بما أعزم عليه، فانصرفوا من عنده على ذلك، وشخص بعد ذلك، واجتمع الفروض والشاكرية والنائبة إلى باب محمد بن عبد الله يطلبون أرزاقهم لعشر خلون من شهر رمضان، فأخبرهم أن كتاب الخليفة ورد عليه، جواب كتاب له كان كتب بمسألة أرزاق جند بغداد، إن كنت فرضت الفروض لنفسك، فأعطهم أرزاقهم، وإن كنت فرضت لنا فلا حاجة لنا فيهم فلما ورد الكتاب عليه أخرج لهم بعد شغبهم بيوم ألفي دينار، فوضعت لهم ثم سكنوا.
    ثم اجتمعوا لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان، ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا المضارب والخيم على باب حرب وباب الشماسية وغيرهما، وبنوا بيوتا من بواري وقصب، وباتوا ليلتهم فلما أصبحوا كثر جمعهم، وبيت ابن طاهر قوما من خاصته في داره، وأعطاهم درهما درهما، فلما أصبحوا مضوا من داره إلى المشغبة، فصاروا معهم فجمع ابن طاهر جنده القادمين معه من خراسان، وأعطاهم لشهرين، وأعطى جند بغداد القدماء، الفارس دينارين والراجل دينارا، وشحن داره بالرجال، فلما كان يوم الجمعة اجتمع من المشغبة خلق كثير بباب حرب بالسلاح والأعلام والطبول، ورئيسهم رجل يقال له عبدان بن الموفق، ويكنى أبا القاسم، وكان من أثبات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان ديوان عبدان في ديوان وصيف، فقدم بغداد، فباع دارا له بمائة ألف دينار، فشخص إلى سامرا، فلما وثبت الشاكرية بباب العامة كان معهم، فضربه سعيد الحاجب خمسمائة سوط، وحبسه حبسا طويلا،
    (9/357)
    ثم أطلق فلما كان فتنة المستعين صار إلى بغداد، وانضم إليه هؤلاء المشغبة، فحضهم على الطلب بأرزاقهم وفائتهم، وضمن لهم أن يكون لهم رأسا يدبر أمرهم فأجابوه إلى ذلك، فأنفق عليهم يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة نحوا من ثلاثين دينارا فيما أقام لهم من الطعام، ومن كانت لهم كفاية لم يحتج إلى نفقته، فكان ينصرف إلى منزله، فلما كان يوم الجمعة اجتمعت منهم جماعة كثيرة، وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى الأمام فيمنعوه من الصلاة والدعاء للمعتز، فساروا على تعبئة في شارع باب حرب، حتى انتهوا إلى باب المدينة في شارع باب الشام، وجعل أبو القاسم هذا على كل درب يمر به قوما من المشغبة، من بين رامح وصاحب سيف ليحفظوا الدروب، كيلا يخرج منها أحد لقتالهم.
    ولما انتهى إلى باب المدينة دخل معهم المدينة جماعة كثيرة، فصاروا بين البابين وبين الطاقات، فأقاموا هناك ساعة، ثم وجهوا جماعه منهم يكونون نحوا من ثلاثمائة رجل بالسلاح إلى رحبة الجامع بالمدينة، ودخل معهم من العامة خلق كثير، فأقاموا في الرحبة، وصاروا إلى جعفر بن العباس الإمام، فأعلموه أنهم لا يمنعونه من الصلاة، وأنهم يمنعونه من الدعاء للمعتز فأعلمهم جعفر أنه مريض لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه، وصاروا إلى درب أسد بن مرزبان، فشحنوا الشارع النافذ إلى درب الرقيق، ووكلوا بباب درب سليمان بن أبي جعفر جماعة، ثم مضوا يريدون الجسر في شارع الحدادين، فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده فيهم الحسين بن اسماعيل والعباس ابن قارن وعلي بن جهشيار وعبد الله بن الأفشين في جماعة من الفرسان، فناظروهم ودفعوهم دفعا رفيقا، وحمل عليهم الجند والشاكرية حملة جرحوا فيها جماعة من قواد ابن طاهر، وأخذوا دابة ابن قارن وابن جهشيار ورجل من فرض عبيد الله بن يحيى من الشاميين يقال له سعد الضبابي، وجرحوا المعروف بأبي السنا، ودفعوهم عن الجسر حتى صيروهم إلى باب عمرو بن مسعدة
    (9/358)
    فلما رأى الذين بالجانب الشرقي منهم أن أصحابهم قد أزالوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر كبروا، وحملوا يريدون العبور إلى أصحابهم، وكان ابن طاهر قد أعد سفينة فيها شوك وقصب ليضرم فيها النار، ويرسلها على الجسر الأعلى، ففعل ذلك، فأحرقت عامة سفنه وقطعته، وصارت إلى الآخر، فأدركها أهل الجانب الغربي، ففرقوها وأطفئوا النار التي تعلقت بسفن الجسر وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي خلق كثير، ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن ساباط عمرو بن مسعدة، وصاروا إلى باب ابن طاهر، وصار الشاكرية والجند إلى ساباط عمرو بن مسعدة، وقتل من الفريقين إلى الظهر نحو من عشرة نفر، وصار جماعة من الغوغاء والعامة إلى المجلس الذي يعرف بمجلس الشرطة في الجسر.
    من الجانب الغربي إلى بيت يقال له بيت الرفوع، فكسروا الباب، وانتهبوا ما فيه، وكان فيه أصناف من المتاع، فاقتتلوا عليه فلم يتركوا فيه شيئا، وكان كثيرا جليلا وأحرق ابن طاهر الجسرين لما رأى الجند قد ظهروا على أصحابه، وأمر بالحوانيت التي على باب الجسر التي تتصل بدرب سليمان أن تحرق يمنة ويسرة، ففعل فاحترق فيها للتجار متاع كثير، وتهدم حيطان مجلس صاحب الشرطة، فلما ضربت الحوانيت بالنار حالت النار بين الفريقين، وكبرت الجند عند ذلك تكبيرة شديدة، ثم انصرفوا إلى معسكرهم بباب حرب، وصار الحسين بن إسماعيل مع جماعة من القواد والشاكرية إلى باب الشام، فوقف على التجار والعامة فوبخهم على معونتهم الجند، وقال:
    هؤلاء قاتلوا على خبزهم وهم معذورون، وأنتم جيران الأمير ومن يجب عليه نصرته، فلم فعلتم ما فعلتم، وأعنتم الشاكرية عليه ورميتم بالحجارة، والأمير متحول عنكم! ثم صار محمد بن أبي عون إليهم، فقال لهم مثل ذلك، وانصرف إلى ابن طاهر، فمكث الجند المشتغبون في مواضعهم ومعسكرهم، وانضم إلى ابن طاهر جماعة من الأثبات وجمع جميع أصحابه، فجعل بعضهم في داره، وبعضهم في الشارع النافذ من الجسر إلى داره، قد عباهم تعبئة الحرب، حذارا من كرة الجند عليه أياما، فلم يكن لهم عودة، فصار في بعض الأيام
    (9/359)
    التي كان من عودتهم ابن طاهر على وجل- فيما ذكر- رجلان من المشغبة استأمنا إليه، فأخبراه بعورة أصحابهما، فأمر لهما بمائتي دينار، ثم أمر الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل بعد العشاء الآخرة بالمصير في جماعة من أصحابهما إلى باب حرب، فتلطفا لأبي القاسم رئيس القوم وابن الخليل- وكان من أصحاب محمد بن أبي عون- فصاروا إلى ما هناك، وكان أبو القاسم وابن الخليل قد صار كل واحد منهما عند مفارقة الرجلين اللذين صارا إلى ابن طاهر ورجل آخر يقال له القمي، وتفرق الشاكرية عنهما الى ناحيه خوفا على انفسهم، فمضى الشاه والحسين في طلبهما حتى خرجا من باب الأنبار، وتوجها نحو جسر بطاطيا، فذكر أن ابن الخليل استقبلهما قبل أن يصيرا إلى جسر بطاطيا، فصاح بهما ابن الخليل وبمن معهما من هؤلاء، وصاحوا به، فلما عرفهم حمل عليهم، فجرح منهم عدة، فأحدقوا به، وصار في وسط القوم، فطعنه رجل من أصحاب الشاه، فرمى به إلى الأرض، فبعجه علي بن جهشيار بالسيف وهو في الأرض، ثم حمل على بغل وبه رمق، فلم يصلوا به إلى ابن طاهر حتى قضى وأمر الشاه بطرحه في كنيف في دهليز الدار إلى أن حمل إلى الجانب الشرقي، وأما عبدان بن الموفق فإنه كان قد صار إلى منزله وإلى موضع اختفى فيه، فدل عليه، وأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الشاكرية الذين كانوا بباب حرب، وصاروا إلى منازلهم، وقيد عبدان بن الموفق بقيدين فيهما ثلاثون رطلا ثم صار الحسين بن إسماعيل إلى الحبس الذي هو فيه في دار العامة، وقعد على كرسي، ودعا به، فسأله:
    هل هو دسيس لأحد، أو فعل ما فعل من قبل نفسه؟ فأخبره أنه لم يدسه أحد، وإنما هو رجل من الشاكرية طلب بخبزه فرجع الحسين إلى ابن طاهر فأعلمه ذلك، فخرج طاهر بن محمد وأخوه إلى دار العامة الداخلة، فقعدا وأحضرا من بات في الدار من القواد والحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال، وأحضرا عبدان، فحمله رجلان، فكان المخاطب له الحسين، فقال:
    أنت رئيس القوم؟ فقال: لا، إنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فشتمه
    (9/360)
    الحسين، وقال حرب بن محمد بن عبد الله بن حرب: كذبت، بل أنت رئيس القوم، وقد رأيناك تعبيهم بباب حرب وفي المدينة وباب الشام، فقال:
    ما كنت لهم برأس، وإنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا، فأعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل، ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم، ولا يحل لك أن تصنع به هذا، فأمر به فصلب حيا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذا، فسقوه، فترك مصلوبا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر، وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل الى اوليائه فدفن.
    ذكر الخبر عن خلع المؤيد ثم موته
    وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز المؤيد أخاه من ولاية العهد بعده.
    ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه: كان السبب في ذلك- فيما بلغنا- أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى إبراهيم المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث ابن فرخان شاه إليه، فأخذها، فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى بن فرخان شاه، وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى أخويه: المؤيد وأبي أحمد، فحبسهما في الجوسق، وقيد المؤيد وصيره في حجرة ضيقة، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة، وحبس كنجور حاجب المؤيد، وضربه خمسين مقرعه، وضرب خليفته أبا الهول خمسمائة
    (9/361)
    سوط وطوف به على جمل، ثم رضي عنه وعن كنجور، فصرف إلى منزله.
    وقد ذكر أنه ضرب أخاه المؤيد أربعين مقرعة، ثم خلع بسامرا يوم الجمعة لسبع خلون من رجب، وخلع ببغداد يوم الأحد لإحدى عشرة خلت من رجب، وأخذت رقعة بخطه بخلع نفسه.
    ولست بقين من رجب من هذه السنة- وقيل لثمان بقين منه- كانت وفاة إبراهيم بن جعفر المعروف بالمؤيد ذكر الخبر عن سبب وفاته:
    ذكر أن امرأة من نساء الأتراك جاءت محمد بن راشد المغربي، فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس، وركب محمد بن راشد إلى المعتز، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا، فسأله فأنكر، وقال:
    يا أمير المؤمنين، إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به كان في الحرب التي كانت، وأما المؤيد فلا فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا بالقضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتا لا أثر به ولا جرح، وحمل الى أمه إسحاق- وهي أم أبي أحمد- على حمار، وحمل معه كفن وحنوط وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد.
    وذكر أن المؤيد أدرج في لحاف سمور، ثم أمسك طرفاه حتى مات.
    وقيل: أنه أقعد في حجر من ثلج، ونضدت عليه حجارة الثلج فمات بردا.
    ذكر الخبر عن مقتل المستعين
    وفي شوال منها قتل أحمد بن محمد المستعين.
    ذكر الخبر عن قتله:
    ذكر أن المعتز لما هم بقتل المستعين، ورد كتابه على محمد بن عبد الله
    (9/362)
    ابن طاهر بنكبته، وأمره بتوجيه أصحاب معاونه في الطساسيج، ثم ورد عليه منه بعد ذلك كتاب مع خادم يدعى سيما، يؤمر فيه بالكتاب الى منصور ابن نصر بن حمزة- وهو على واسط- بتسليم المستعين إليه، وكان المستعين بها مقيما، وكان الموكل به ابن أبي خميصة وابن المظفر بن سيسل ومنصور ابن نصر بن حمزة وصاحب البريد، فكتب محمد في تسليم المستعين إليه، ثم وجه- فيما قيل- أحمد بن طولون التركي في جيش، فأخرج المستعين لست بقين من شهر رمضان، فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال.
    وقيل أن أحمد بن طولون كان موكلا بالمستعين، فوجه سعيد بن صالح إلى المستعين في حمله، فصار إليه سعيد فحمله.
    وقيل أن سعيدا إنما تسلم المستعين من ابن طولون في القاطول بعد ما صار به ابن طولون إليها، ثم اختلف في أمرهما، فقال بعضهم: قتله سعيد بالقاطول، فلما كان غد اليوم الذي قتله فيه أحضر جواريه وقال: انظرن إلى مولاكن قد مات، وقد قال بعضهم: بل أدخله سعيد وابن طولون سامرا، ثم صار به سعيد إلى منزل له فعذبه حتى مات.
    وقيل: بل ركب معه في زورق ومعه عدة حتى حاذى به فم دجيل، وشد في رجله حجرا، وألقاه في الماء.
    وذكر عن متطبب كان مع المستعين نصراني يقال له فضلان، أنه قال:
    كنت معه حين حمل، وأنه أخذ به على طريق سامرا، فلما انتهى إلى نهر نظر إلى موكب وأعلام وجماعة، فقال لفضلان: تقدم فانظر من هذا، فإن كان سعيدا فقد ذهبت نفسي، قال فضلان فتقدمت إلى أول الجيش، فسألتهم فقالوا: سعيد الحاجب، فرجعت إليه فأعلمته- وكان في قبة تعادله امرأة- فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ذهبت نفسي والله! وتأخرت عنه قليلا.
    (9/363)
    قال: فلقيه أول الجيش، فأقاموا عليه وأنزلوه ودابته، فضربوه ضربه بالسيف، فصاح وصاحت دايته، ثم قتل، فلما قتل انصرف الجيش.
    قال: فصرت إلى الموضع، فإذا هو مقتول في سراويل بلا رأس، وإذا المرأة مقتولة، وبها عدة ضربات، فطرحنا عليهما نحن تراب النهر حتى واريناهما، ثم انصرفنا.
    قال: وأتي المعتز برأسه وهو يلعب بالشطرنج، فقيل: هذا رأس المخلوع فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه، ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولي معونة البصرة.
    وذكر عن بعض غلمان المستعين ان سعيدا لما استقبله أنزله، ووكل به رجلا من الأتراك يقتله، فسأله، أن يمهله حتى يصلي ركعتين، وكانت عليه جبة، فسأل سعيد التركي الموكل بقتله أن يطلبها منه قبل قتله، ففعل ذلك، فلما سجد في الركعة الثانية قتله واحتز رأسه، وأمر بدفنه، وخفي مكانه.
    وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة في أمر المؤيد، ويمدح المعتز:
    أنت الذي يمسك الدنيا إذا اضطربت ... يا ممسك الدين والدنيا إذا اضطربا
    إن الرعية- أبقاك الإله لها ... - ترجو بعدلك أن تبقى لها حقبا
    لقد عنيت بحرب غير هينة ... وكان عودك نبعا لم يكن غربا
    ما كنت أول رأس خانه ذنب ... والرأس كنت وكان الناكث الذنبا
    لو كان تم له ما كان دبره ... لأصبح الملك والإسلام قد ذهبا
    أراد يهلك دنيانا ويعطبها ... وقد أراد هلاك الدين والعطبا
    (9/364)
    لما أراد وثوبا من سفاهته ... أمسى عليه إمام العدل قد وثبا
    لقد رماك بسهم لم يصبك به ... ومن رماك عليه سهمه انقلبا
    لقد رعيت له ما كان من سبب ... فما رعى لك إحسانا ولا سببا
    كحسن فعلك لم يفعل أخ بأخ ... كنا لذاك شهودا لم نكن غيبا
    قد كنت مشتغلا بالحرب ذا تعب ... وكان يلعب ما كلفته تعبا
    قد كان يا ذا الندى يعطى بلا طلب ... وكنت يا ذا الندى تعطيه ما طلبا
    وكنت أكثر برا من أبيه به ... ولم تكن بأخ في البر، كنت أبا
    وكان قرب سرير الملك مجلسه ... فقد تباعد منه بعد ما اقتربا
    وكان في نعم زالت وكان له ... باب يزار فأمسى اليوم محتجبا
    أمسى وحيدا وقد كانت مواكبه ... عشرين ألفا تراهم خلفه عصبا
    أين الصفوف التي كانت تقوم له ... كما يقوم إذا ما جاء أو ذهبا
    وذل بعد تماديه ونخوته ... كالحوت أصبح عنه الماء قد نضبا
    وقد فسخت عن الأعناق بيعته ... فلا خطيب له يدعو إذا اختطبا
    لقبته نقبا من بعد إمرته ... والله بدله بالإمرة اللقبا
    كسوته ثوب عز فاستهان به ... ولم يصنه فأمسى عنه مغتصبا
    كم نعمة لك فيها كنت تشركه ... والله أخرجه منها بما اكتسبا
    شبهته بسراج كان ذا لهب ... فما تركت له نورا ولا لهبا
    أمست قطيعة إبراهيم قد قطعت ... حبل الصفاء وحبل الود فانقضبا
    وما تؤاخذ يا حلف الندى أحدا ... حتى تبين فيه النكث والريبا
    إني بمدح بني العباس ذو حسب ... وكان مدح بني العباس لي حسبا
    (9/365)
    إن التقى يا بني العباس أدبكم ... حتى استفادت قريش منكم الأدبا
    من كان مقتضبا في حول مدحكم ... فلست فيه بحمد الله مقتضبا.
    امر المعتز مع اهل بغداد
    ذكر عن أبي عبد الرحمن الفاني أن فتى من اهل سامرا املى عليه مما عمله بعض أهلها عن ألسن الأتراك أن المعتز لما أفضت إليه الخلافة، وقلده الله القيام بأمر عباده في المشارق والمغارب، والبر والبحر، والبدو والحضر، والسهل والجبل، تألم بسوء اختيار أهل بغداد وفتنتهم، فأمر المعتز بالله بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طبائعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، فقال أمير المؤمنين:
    أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقهم، وغار شأوهم، الهمج الطغام، والأوغاد الذين لا مسكة بهم، ولا اختيار لهم، ولا تمييز معهم، قد زين لهم تقحم الخطا سوء أعمالهم، فهم الأقلون وإن كثروا والمذمومون إن ذكروا، وقد علمت أنه لا يصلح لقود الجيوش وسد الثغور وإبرام الأمور وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خلال أربع: حزم يقف به عند موارد الأمور حقائق مصادرها، وعلم يحجزه عن التهور والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها، وشجاعة لا ينقصها الملمات مع تواتر حوائجها، وجود يهون به تبذير جلائل الأموال عند سؤالها وأما الثلاث: فسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان، والاستعداد للحوادث، إذ لا تؤمن من نوائب الزمان وأما الاثنتان، فإسقاط الحاجب عن الرعية، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية وأما الواحدة فالتيقظ في الأمور مع عدم تأخير عمل اليوم لغد، فما ترون، وقد اخترت رجالا لهم من موالي، أحدهم شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، لا يهاب ما وراءه، ولا يهوله ما تلقاءه، وهو كالحريش في أصل السلام، إن
    (9/366)
    حرك حمل، وإن نهش قتل، عدته عتيدة، ونقمته شديدة، يلقى الجيش في النفر القليل العدد بقلب أشد من الحديد طالب للثأر، لا يفله العساكر، باسل البأس، مقتضب الأنفاس لا يعوزه ما طلب، ولا يفوته من هرب، واري الزناد، مطلع العماد، لا تشرهه الرغائب، ولا تعجزه النوائب، إن ولي كفى، وإن وعد وفى، وإن نازل فبطل، وإن قال فعل، ظله لوليه ظليل، وبأسه في الهياج عليه دليل، يفوق من ساماه، ويعجز من ناواه، ويتعب من جاراه، وينعش من والاه.
    فقام إليه رجل من القوم، فقال: قد جمع الله لك يا أمير المؤمنين فضائل الأدب، وخصك بإرث النبوة، وألقى إليك أزمة الحكمة، ووفر نصيبك من حباء الكرامة، وفسح لك في الفهم، ونور قلبك بأنفس العلوم وصفاء الذهن، فأفصح عن القلب البيان، وأدرك فهمك يا أمير المؤمنين ما والله خبىء على من لم يحب بما حبيت من المنن العظام، والأيادي الجسام، والفضائل المحمودة، وشرف الطباع فنطقت الحكمة على لسانك، فما ظننته فهو صواب، وما فهمته فهو الحق الذي لا يعاب، وأنت والله يا أمير المؤمنين نسيج وحده، وقريع دهره، لا يبلغ كلية فضله الوصف، ولا يحصر أجزاء شرف فضله النعت.
    ثم أمر أمير المؤمنين بالعقد لأنصاره على النواحي، وأطلقهم في أشعار أعدائهم وأبشارهم ودمائهم، فلما بلغ محمد بن عبد الله ما أمر به في النواحي أنشأ كتابا نسخته:
    أما بعد فإن زيغ الهوى صدف بكم عن حزم الرأي، فأقحمكم حبائل الخطا، ولو ملكتم الحق عليكم، وحكمتم به فيكم لاوردكم البصيره، ونفى عنكم غيايه الحيرة، والآن فإن تجنحوا للسلم تحقنوا دماءكم، وترغدوا عيشكم، ويصفح أمير المؤمنين عن جريرة جارمكم، وأخلى لكم ذروة سبوغ النعمة عليكم، وإن مضيتم على غلوائكم، وسول لكم الأمل أسوأ أعمالكم، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بعد نبذ المعذرة إليكم، وإقامة الحجة عليكم،
    (9/367)
    ولئن شنت الغارات، وشب ضرام الحرب، ودارت رحاها على قطبها، وحسمت الصوارم أوصال حماتها، واستجرت العوالي من نهمها، ودعيت نزال، والتحم الأبطال، وكلحت الحرب عن أنيابها أشداقها، وألقت للتجرد عنها قناعها، واختلفت أعناق الخيل، وزحف أهل النجدة إلى أهل البغي، لتعلمن أي الفريقين أسمح بالموت نفسا، وأشد عند اللقاء بطشا، ولات حين معذرة، ولا قبول فدية! وقد أعذر من أنذر، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ! فبلغ كتاب محمد بن عبد الله الأتراك، فكتبوا جواب كتابه:
    إن شخص الباطل تصور لك في صورة الحق، فتخيل لك الغي رشدا كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، ولو راجعت عزوب عقلك أنار لك برهان البصيرة، وحسم عنك مواد الشبهة، لكن حصت عن سنه الحقيقة، ونكصت على عقبيك لما ملك طباعك من دواعي الحيرة، فكنت في الإصغاء لهتافه والتجرد إلى وروده كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ولعمرك يا محمد، لقد ورد وعدك لنا ووعيدك إيانا، فلم يدننا منك، ولم ينئنا عنك، إذ كان فحص اليقين قد كشف عن مكنون ضميرك، وألفاك كالمكتفي بالبرق نهجا، إذا أضاء له مشى فيه، وإذا أظلم عليه قام ولعمرك لئن اشتد في البغى شاوك، ومتعت بصبابه من الأمل ليكونن أمرك عليك غمة، ولنأتينك بجنود لا قبل لك بها، ولنخرجنك منها ذليلا، وأنت من الصاغرين ولولا انتظارنا كتاب أمير المؤمنين بأعلامنا ما نعمل في شاكلته، بلغنا بالسياط النياط، وغمدنا السيوف وهي كالة، وجعلنا عاليها سافلها، وجعلناها مأوى الظلمان والحيات والبوم، وقد ناديناك من كثب، وأسمعناك إن كنت حيا، فإن تجب تفلح، وإن تأب إلا غيا نخزك به، وعما قليل لتصبحن نادمين.
    (9/368)
    وقوع الفتنة بين الاتراك والمغاربه
    وفي أول يوم من رجب من هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة، وذلك أن المغاربة اجتمعت فيه مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد، فغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: في كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر، وتقتلون وزيرا! وكانوا قد وثبوا على عيسى بن فرخان شاه، فتناولوه بالضرب، وأخذوا دوابه ولما أخرجت المغاربة الأتراك من الجوسق، وغلبوهم على بيت المال، أخذوا خمسين دابة مما كان الأتراك يركبونها، فاجتمع الأتراك، وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فتلاقوا هم والمغاربة، فقتل من المغاربة رجل، فأخذت المغاربة قاتله، وأعانت المغاربة الغوغاء والشاكريه، فضعف الأتراك، وانقادوا للمغاربة فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين، فاصطلحوا على ألا يحدثوا شيئا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من قبل أحد الفريقين يكون فيه آخر من الفريق الآخر، فمكثوا على ذلك مديده.
    وبلغ الأتراك اجتماع المغاربة إلى محمد بن راشد ونصر بن سعيد، واجتمع الأتراك إلى بايكباك، فقالوا: نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فلا أحد ينطق، وكان محمد بن راشد ونصر بن سعيد قد اجتمعا في صدر اليوم الذي عزم الأتراك فيه على الوثوب بهما، ثم انصرفا إلى منازلهما، فبلغهما أن بايكباك قد صار إلى منزل ابن راشد، فعدل محمد بن راشد ونصر بن سعيد إلى منزل محمد بن عزون ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز الى بايكباك رجل، ودله عليهما وقيل إن ابن عزون هو الذي دس من دل بايكباك والأتراك عليهما، فأخذهما الأتراك فقتلوهما، فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون، فكلم فيه فنفاه الى بغداد.
    ذكر خبر حمل الطالبيين من بغداد الى سامرا
    وفيها حمل محمد بن علي بن خلف العطار وجماعة من الطالبيين من بغداد إلى سامرا، فيهم أبو أحمد محمد بن جعفر بن حسن بن جعفر بْن حسن بْن
    (9/369)
    حسن بن علي بن أبي طالب، وحمل معهم أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري وذلك لثمان خلون من شعبان منها ذكر السبب في حملهم:
    وكان السبب- فيما ذكر- أن رجلا من الطالبيين شخص من بغداد في جماعة من الجيشية والشاكرية إلى ناحية الكوفة، وكانت الكوفة وسوادها من عمل أبي الساج في تلك الأيام، وكان مقيما ببغداد لمناظرة ابن طاهر إياه في الخروج إلى الري، فلما بلغ ابن طاهر خبر الطالبي الشاخص من بغداد إلى ناحية الكوفة، أمر أبا الساج بالشخوص إلى عمله بالكوفة، فقدم أبو الساج خليفته عبد الرحمن إلى الكوفة، فلقي أبا الساج أبو هاشم الجعفري مع جماعة معه من الطالبيين ببغداد، فكلموه في أمر الطالبي الشاخص إلى الكوفة، فقال لهم أبو الساج: قولوا له يتنحى عني، ولا أراه فلما صار عبد الرحمن خليفة أبي الساج إلى الكوفة ودخلها رمي بالحجارة حتى صار إلى المسجد، فظنوا أنه جاء لحرب العلوي، فقال لهم: إني لست بعامل، إنما أنا رجل وجهت لحرب الأعراب، فكفوا عنه، وأقام بالكوفة وكان أبو أحمد محمد بن جعفر الطالبي الذى ذكرت انه حمل من الطالبيين إلى سامرا كان المعتز ولاه الكوفة بعد ما هزم مزاحم بن خاقان العلوي الذي كان وجه لقتاله بها الذي قد مضى ذكره قبل في موضعه، فعاث- فيما ذكر- أبو أحمد هذا في نواحي الكوفة وآذى الناس، وأخذ أموالهم وضياعهم فلما أقام خليفة أبي الساج بالكوفة لطف لأبي أحمد العلوي هذا وآنسه حتى خالطه في المؤاكلة والمشاربة، وداخله ثم خرج متنزها معه إلى بستان من بساتين الكوفة، فأمسى وقد عبى له عبد الرحمن اصحابه، فقيده وحمله مقيدا بالليل على بغال الدخول، حتى ورد به بغداد في أول شهر ربيع الآخر، فلما أتي به محمد بن عبد الله حبسه عنده، ثم أخذ منه كفيلا وأطلقه، ووجدت مع ابن أخ لمحمد بن علي بن خلف العطار كتب من الحسن بن زيد، فكتب بخبره إلى المعتز، فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب، وحمل هؤلاء الطالبيين، فحملوا جميعا
    (9/370)
    مع خمسين فارسا، وحمل أبو أحمد هذا وأبو هاشم الجعفري وعلي بن عبيد الله ابن عبد الله بن حسن بن جعفر بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب، وتحدث الناس في علي بن عبيد الله أنه إنما استأذن في المصير إلى منزله بسامرا، فأذن له ووصله- فيما قيل- محمد بن عبد الله بألف درهم، لأنه شكا إليه ضيقه، وودع أبو هاشم أهله.
    وقيل إن سبب حمل أبي هاشم، إنما كان ابن الكردية وعبد الله بن داود بن عيسى بن موسى قالا للمعتز: إنك إن كتبت إلى محمد بن عبد الله في حمل داود بن القاسم لم يحمله، فاكتب إليه، وأعلمه أنك تريد توجيهه إلى طبرستان لإصلاح أمرها، فإذا صار إليك رأيت فيه رأيك، فحمل على هذا السبيل ولم يعرض له بمكروه.
    وفيها ولي الحسن بن أبي الشوارب قضاء القضاة، وكان محمد بن عمران الضبي مؤدب المعتز قد سمى رجالا للمعتز للقضاء نحو ثمانية رجال، فيهم الخلنجي والخصاف، وكتب كتبهم، فوقع فيه شفيع الخادم ومحمد بن إبراهيم بن الكردية وعبد السميع بن هارون بن سليمان بن أبي جعفر، وقالوا:
    انهم من اصحاب ابن ابى داود، وهم رافضة وقدرية وزيدية وجهمية.
    فأمر المعتز بطردهم وإخراجهم إلى بغداد، ووثب العامة بالخصاف، وخرج الآخرون إلى بغداد، وعزل الضبي إلا عن المظالم.
    وذكر أن أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة كلها لسنتين.
    وفيها توجه أبو الساج إلى طريق مكة، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- إن وصيفا لما صلح أمره، ودفع المعتز اليه خاتمه كتب إلى أبي الساج يأمره
    (9/371)
    بالخروج إلى طريق مكة ليصلحه، ووجه إليه من المال ما يحتاج إليه، فأخذ في الجهاز، فكتب محمد بن عبد الله يسأل أن يصير طريق مكة إليه، فأجيب إلى ذلك، فوجه أبا الساج من قبله.
    وفي أول ذي الحجة عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل على الرملة، فأنفذ خليفته أبا المغراء إليها، فقيل: أنه أعطى بغا أربعين ألف دينار على ذلك، أو ضمنها إليه.
    وفيها كتب وصيف إلى عبد العزيز بن أبي دلف بتوليته الجبل، وبعث إليه بخلع، فتولى ذلك من قبله.
    وفيها قتل محمد بن عمرو الشاري بديار ربيعة، قتله خليفة لأيوب بن أحمد في ذي القعدة.
    وفيها سخط على كنجور، وأمر بحبسه في الجوسق، ثم حمل إلى بغداد مقيدا، ثم وجه به إلى اليمامة فحبس هنالك وفيها أغار ابن جستان صاحب الديلم مع أحمد بن عيسى العلوي والحسين ابن احمد الكوكبى على الري فقتلوا وسبوا، وكان ما بها حين قصدوها عبد الله ابن عزيز، فهرب منها، فصالحهم أهل الري على الفى درهم، فأدوها، وارتحل عنها ابن جستان، وعاد إليها ابن عزيز، فأسر أحمد بن عيسى وبعث به إلى نيسابور.
    وفيها مات إسماعيل بن يوسف الطالبي الذي كان فعل بمكة ما فعل.
    وحج فيها بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور من قبل المعتز.
    (9/372)
    ثم دخلت
    سنه ثلاث وخمسين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من عقد المعتز في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل، ومعه من الجيش يومئذ من الأتراك ومن يجري مجراهم الفان وأربعمائة وثلاثة وأربعون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائه وثلاثون رجلا.
    ذكر خبر أخذ الكرج من ابن ابى دلف
    وفيها أوقع مفلح وهو على مقدمة موسى بن بغا بعبد العزيز بن أبي دلف لثمان ليال بقين من رجب من هذه السنة وعبد العزيز في زهاء عشرين ألفا من الصعاليك وغيرهم، وكانت الوقعة بينهما- فيما قيل- خارج همذان على نحو من ميل، فهزمه مفلح ثلاثة فراسخ يقتلون ويأسرون، ثم رجع مفلح ومن معه سالمين، وكتب بالفتح في ذلك اليوم فلما كان في شهر رمضان عبا مفلح خيله نحو الكرج، وجعل لهم كمنين، ووجه عبد العزيز عسكرا فيه أربعة آلاف فقاتلهم مفلح، وخرج كمين مفلح على أصحاب عبد العزيز فانهزموا، ووضع أصحاب مفلح فيهم السيف، فقتلوا وأسروا، وأقبل عبد العزيز معينا لأصحابه، فانهزم بانهزام أصحابه، وترك الكرج، ومضى إلى قلعة له في الكرج يقال له زز، متحصنا بها، ودخل مفلح الكرج، فأخذ جماعة من آل أبي دلف أسرا، وأخذ نساء من نسائهم، يقال أنه كان فيهم أم عبد العزيز، فأوثقهم.
    وذكر أنه وجه سبعين حملا من الرءوس إلى سامرا وأعلاما كثيرة.
    وشخص فيها موسى بن بغا من سامرا إلى همذان فنزلها.
    وفيها خلع المعتز على بغا الشرابي في شهر رمضان، وألبسه التاج والوشاحين، فخرج فيهما الى منزله.
    (9/373)
    ذكر الخبر عن قتل وصيف
    وفيها قتل وصيف التركي، وذلك لثلاث بقين من شوال منها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الأتراك والفراغنة والأشروسنية شغبوا وطلبوا أرزاقهم لاربعه اشهر، فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشرابي في نحو من مائة إنسان من أصحابهم، فكلمهم وصيف، وقال: ما تريدون؟ قالوا:
    أرزاقنا، فقال: خذوا ترابا، وهل عندنا مال! وقال بغا: نعم، نسأل أمير المؤمنين في ذلك، ونتناظر في دار أشناس، وينصرف عنكم من ليس منكم، فدخلوا دار أشناس، ومضى سيما الشرابي منصرفا الى سامرا، ثم تبعه بغا لاستمار الخليفة في إعطائهم، وكان وصيف في أيديهم، فوثب عليه بعضهم، فضربه بالسيف ضربتين، ووجأه آخر بسكين، فاحتمله نوشري بن طاجبك- وهو أحد قواده- إلى منزله، فلما أبطأ عليهم بغا ظنوا انهم في التعبئة عليهم، فاستخرجوه من منزل نوشري، فضربوه بالطبرزينات حتى كسروا عضديه، ثم ضربوا عنقه، ونصبوا رأسه على محراك تنور، وقصدت العامة بسامرا الانتهاب لمنازل وصيف وولده، فرجع بنو وصيف، فمنعوا منازلهم، ثم جعل المعتز ما كان إلى وصيف من الأمور إلى بغا الشرابي.
    ذكر الخبر عن قتل بندار الطبرى
    وفي يوم الفطر من هذه السنة قتل بندار الطبري.
    ذكر سبب قتله:
    فكان سبب ذلك أنه حكم بالبوازيج محكم يدعى مساور بن عبد الحميد، في رجب من هذه السنة، فوجه المعتز إليه في شهر رمضان ساتكين، فمال إلى ناحية طريق خراسان، فوجه محمد بن عبد الله إليه، وذلك أن طريق خراسان كان إليه بندار ومظفر بن سيسل مسلحة، فلما صارا بدسكرة الملك أقاما، فذكر أن بندار خرج في آخر يوم من شهر رمضان متصيدا، فبعد في
    (9/374)
    طلب الصيد حتى جاوز دور الدسكرة بنحو فرسخ، فبينا هو كذلك، إذ نظر إلى علمين مقبلين معهما جماعة مقبلة نحو الدسكرة، فوجه بعض أصحابه لينظر ما الأعلام، فأخبره صاحب الجماعة أنه عامل كرخ جدان، وأنه انتهى إليه أن رجلا يقال له مساور بن عبد الحميد من الدهاقين من أهل البوازيج شرى، وأنه بلغه أنه يصير إلى كرخ جدان، فلما بلغه ذلك خرج هاربا إلى الدسكرة ليأنس بقرب بندار ومظفر، فانصرف بندار من ساعته إلى المظفر فقال له: إن الشاري يقصد كرخ جدان، ويريدنا، فامض بنا نلقاه، فقال له المظفر: قد أمسينا ونريد أن نصلي الجمعة، وغدا العيد، فإذا انقضى العيد قصدناه فأبى بندار، ومضى من ساعته طمعا بالمظفر الشاري وحده دون مظفر، فأقام مظفر ولم يبرح من الدسكرة- وبين الدسكرة وتل عكبراء ثمانية فراسخ، وبين تل عكبراء وموضع الوقعة أربعة فراسخ- فصار بندار إلى تل عكبراء، فوافاها عند العتمة ليلة الفطر فعلف دوابه شيئا، ثم ركب، فسار حتى أشرف على عسكر الشاري ليلا وهم يصلون ويقرءون القرآن، فأشار عليه بعض أصحابه وخاصته أن يبيتهم وهم غارون، فأبى وقال: لا، حتى أنظر إليهم وينظروا إلي فوجه فارسين أو ثلاثة ليأتوه بخبرهم، فلما قربوا من عسكرهم نذروا بهم، فصاحوا: السلاح! وركبوا فتواقفوا إلى أن أصبحوا، ثم اقتتلوا، فلم يمكن أصحاب بندار أن يرموا بسهم واحد، وكانوا زهاء ثلاثمائة فارس وراجل فعباهم ميمنة وميسرة وساقة، وأقام هو في القلب، فحمل عليهم مساور وأصحابه، فثبت لهم بندار وأصحابه، ثم انحدر لهم الشراة عن موضع عسكرهم ومبيتهم، ليطمع بندار وأصحابه في النهب، فلم يعرض بندار وأصحابه لعسكرهم ثم كر الشراة عليهم بالسيوف والرماح، وهم زهاء سبعمائة، فصبر الفريقان، فصار الشراة إلى السيوف دون الرماح، فقتل من الشراة نحو من خمسين رجلا، ومن أصحاب بندار مثلهم، ثم حمل الشراة حملة، فاقتطعوا من أصحاب بندار نحوا من
    (9/375)
    مائة رجل، فصبر لهم المائة ساعة، ثم قتلوا جميعا، وانهزم بندار وأصحابه، فجعلوا يقتطعونهم قطعة بعد قطعة فيقتلونهم وأمعن بندار في الهرب، فطلبوه فلحقوه بقرب تل عكبراء على قدر أربعة فراسخ من موضع الوقعة، فقتلوه ونصبوا رأسه، ونجا من أصحاب بندار نحو من خمسين رجلا- وقيل مائة رجل- انحازوا عن الوقعة عند اشتغال الخوارج بمن كانوا يقتطعون منهم، وانتهى خبره إلى مظفر وهو مقيم بالدسكرة، فتنحى من الدسكرة إلى ما قرب من بغداد، ووصل خبر مقتله إلى محمد بن عبد الله بغد الفطر، فذكر أنه لم يشرب ولم يله كما كان يفعل، غما بما ورد عليه من مقتله.
    ثم مضى مساور من فوره إلى حلوان، فخرج اليه أهلها فقاتلوه، فقتل منهم أربعمائة إنسان، وقتلوا جماعة من أصحاب الشاري، وقتل عدة من حجاج خراسان كانوا بحلوان، فأعانوا اهل حلوان، ثم انصرفوا عنهم
    . ذكر خبر موت محمد بن عبد الله بن طاهر
    وليلة أربع عشرة من ذي القعدة منها، انخسف القمر، فغرق كله أو غاب أكثره، ومات محمد بن عبد الله بن طاهر مع انتهاء خسوفه- فيما ذكر- وكانت علته التي مات فيها قروحا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته وذكر أن القروح التي كانت في حلقه ورأسه كانت تدخل فيها الفتائل، فلما مات تنازع الصلاة عليه أخوه عبيد الله وابنه طاهر، فصلى عليه ابنه وكان أوصى بذلك- فيما قيل ثم وقع بين عبيد الله بن عبد الله أخي محمد بن عبد الله وبين حشم محمد بن عبد الله تنازع حتى سلوا السيوف عليه، ورمي بالحجارة، ومالت الغوغاء والعامة وموالي إسحاق بن إبراهيم مع طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر، ثم صاحوا: طاهر يا منصور، فعبر عبيد الله إلى ناحية الشرقية إلى داره،
    (9/376)
    ومال معه القواد لاستخلاف محمد بن عبد الله كان إياه على أعماله ووصيته بذلك، وكتابه بذلك إلى عماله، ثم وجه المعتز الخلع وولاية بغداد إلى عبيد الله، وأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع من قبل المعتز فيما قيل بخمسين ألف درهم.
    نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بن عبد الله إلى عماله باستخلافه أخاه عبيد الله بعده:
    أما بعد فإن الله عز وجل جعل الموت حتما مقضيا جاريا على الباقين من خلقه، حسبما جرى على الماضين، وحقيق على من أعطي حظا من توفيق الله، أن يكون على استعداد لحلول ما لا بد منه ولا محيص عنه في كل الأحوال.
    وكتابي هذا وأنا في علة قد اشتد الإشفاق منها، وكاد الإياس يغلب على الرجاء فيها، فإن يبل الله ويدفع فبقدرته وكريم عادته، وإن يحدث بي الحدث الذي هو سبيل الأولين والآخرين، فقد استخلفت عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين أخي الموثوق باقتفائه أثري، وأخذه بسد ما أنا بسبيله من سلطان أمير المؤمنين إلى أن يأتيه من أمره ما يعمل بحسبه، فاعلم ذلك وائتمر فيما تتولاه بما يرد به كتب عبيد الله وأمره إن شاء الله.
    وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي القعده سنه ثلاث وخمسين ومائتين.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها نفى المعتز أبا أحمد بن المتوكل إلى واسط، ثم إلى البصرة، ثم رد إلى بغداد، وأنزل إلى الجانب الشرقي في قصر دينار بن عبد الله.
    وفيها نفي أيضا علي بن المعتصم إلى واسط ثم رد إلى بغداد فيها.
    وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر في ذي الحجة.
    وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن محمد بن سليمان الزينبي.
    وفيها غزا محمد بن معاذ بالمسلمين في ذي القعدة من ناحية ملطية، فهزموا وأسر محمد بن معاذ
    (9/377)
    وفيها التقى موسى بن بغا والكوكبي الطالبي على فرسخ من قزوين يوم الاثنين سلخ ذي القعد منها، فهزم موسى الكوكبي، فلحق بالديلم، ودخل موسى بن بغا قزوين.
    وذكر لي بعض من شهد الوقعة، أن أصحاب الكوكبي من الديلم لما التقوا بموسى وأصحابه صفوا صفوفا، وأقاموا ترستهم في وجوههم يتقون بذلك سهام أصحاب موسى، فلما رأى موسى أن سهام أصحابه لا تصل إليهم مع ما قد فعلوا، أمر بما معه من النفط أن يصب في الأرض التي التقى هو وهم فيها، ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم، وإظهار هزيمة منهم، ففعل ذلك أصحابه، فلما فعلوا ذلك ظن الكوكبي وأصحابه أنهم انهزموا، فتبعوهم فلما علم موسى أن أصحاب الكوكبي قد توسطوا النفط امر بالنار فاشعلت فيه، فأخذت فيه النار، وخرجت من تحت أصحاب الكوكبي، فجعلت تحرقهم، وهرب الآخرون وكان هزيمة القوم عند ذلك ودخول موسى قزوين وفيها لقي خطارمش مساور الشاري بناحية جلولاء في ذي الحجة، فهزمه مساور.
    (9/378)
    ثم دخلت
    سنة أربع وخمسين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من مقتل بغا الشرابي.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله:
    ذكر خبر مقتل بغا الشرابي
    ذكر أن السبب في ذلك كان أنه كان يحض المعتز على المصير إلى بغداد، والمعتز يأبى ذلك عليه ثم إن بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصته بعرس جمعة بنت بغا، كان صالح بن وصيف تزوجها للنصف من ذي القعدة، فركب المعتز ليلا، ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرا يريد بايكباك ومن كان معه على مثل ما هو عليه من انحرافه عن بغا وكان سبب انحرافه عنه- فيما ذكر- أنهما كانا في شراب لهما يشربانه، فعربد أحدهما على صاحبه، فتهاجرا لذلك، وكان بايكباك بسبب ذلك هاربا من بغا مستخفيا منه، فلما وافى المعتز بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ وأهل الدور، ثم أقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا، وبلغ ذلك بغا، فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقواده، وصار إلى نهر نيزك، ثم انتقل إلى مواضع، ثم صار إلى السن، ومعه من العين تسع عشرة بدرة دنانير ومائة بدرة دراهم، أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها شيئا يسيرا حتى قتل.
    وذكر أنه لما بلغه أن المعتز قد صار إلى موضع الكرخ مع أحمد بن إسرائيل خرج في خاصة قواده حتى صار إلى تل عكبراء، ثم مضى فصار إلى السن، فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنهم
    (9/379)
    لم يخرجوا معهم بمضارب، ولا ما يتدفئون به من البرد، وأنهم في شتاء وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة، كان يكون فيه، فأتاه ساتكين، فقال: أصلح الله الأمير! قد تكلم أهل العسكر، وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك، فقال: كلهم يقول مثل قولك؟ قال: نعم، وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي، قال: دعني الليلة حتى أنظر، ويخرج إليكم أمري بالغداة، فلما جن عليه الليل دعا بزورق، فركبه مع خادمين معه، وحمل معه شيئا من المال، ولم يحمل معه سلاحا ولا سكينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتز في غيبة بغا لا ينام إلا في ثيابه، وعليه السلاح، ولا يشرب نبيذا، وجميع جواريه على رجل فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأول من الليل، فلما قارب الزورق الجسر بعث الموكلون به من في الزورق، فصاح بالغلام، فرجع إليهم وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدة منهم، فوقف لهم وقال: أنا بغا ولحقه وليد المغربي، فقال له: ما لك جعلت فداك! فقال: إما أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف، وإما أن تصيروا معي إلى منزلي، حتى أحسن إليكم فوكل به وليد المغربي، ومر يركض إلى الجوسق، فاستأذن على المعتز، فأذن له، فقال: يا سيدي هذا بغا قد أخذته ووكلت به، قال: ويلك! جئني برأسه، فرجع وليد، فقال للموكلين به: تنحوا عنه حتى أبلغه الرسالة، فتنحوا عنه، فضربه ضربة على جبهته ورأسه، ثم تناهى على يديه فقطعهما، ثم ضربه حتى صرعه وذبحه، وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتز، فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه خلعة، ونصب رأسه بسامرا، ثم ببغداد، ووثبت المغاربة على جثته، فأحرقوه بالنار، وبعث المعتز من ساعته إلى أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبي نوح، فأحضرهم وأخبرهم، وتتبع عبيد الله بن طاهر بنيه ببغداد، وكانوا صاروا إليها هرابا مع قوم يثقون بهم، فاستتر ما عندهم
    (9/380)
    فذكر أنه حبس في قصر الذهب من ولده وأصحابه، خمسة عشر إنسانا، وفي المطبق عشرة.
    وقيل: إن بغا لما انحدر إلى سامرا ليلة أخذ شاور أصحابه في الانحدار إليها مكتتما، فيصير إلى منزل صالح بن وصيف، وإذا قرب العيد دخل أهل العسكر، وخرج هو وصالح بن وصيف وأصحابه، فوثبوا بالمغاربه، فوثبوا بالمعتز.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها عقد صالح بن وصيف لديوداد على ديار مضر وقنسرين والعواصم فوثبوا بالمعتز في ربيع الأول منها.
    وفيها عقد بايكباك لأحمد بن طولون على مصر.
    وفيها أوقع مفلح وباجور بأهل قم، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وذلك في شهر ربيع الأول منها.
    وفيها مات علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد، ودفن في داره.
    وفيها في جمادى الآخرة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بتوجيه والده عبد العزيز إياه إليها وجندي سابور وتستر، فجباها مائتي ألف دينار ثم انصرف.
    وفي شهر رمضان منها شخص نوشري إلى مساور الشاري فلقيه وهزمه، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة.
    وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد.
    (9/381)
    ثم دخلت
    سنة خمس وخمسين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من دخول مفلح طبرستان ووقعة كانت بينه وبين الحسن بن زيد الطالبي، هزم فيها مفلح الحسن بن زيد، فلحق بالديلم، ثم دخل مفلح آمل، وأحرق منازل الحسن بن زيد، ثم توجه نحو الديلم في طلب الحسن بن زيد
    . ذكر خبر استيلاء يعقوب بن الليث على كرمان
    وفيها كانت وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن علي بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان- وكان قبل من عمال آل طاهر- وكتب يذكر ضعف آل طاهر وقلة ضبطهم، بما إليهم من البلاد، وأن يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس، فكتب السلطان إليه بولاية كرمان، وكتب إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤنة الهالك منهما عنه ويتفرد بمؤونه الآخر، إذ كان كل واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته، فلما فعل ذلك بهما زحف يعقوب بن الليث من سجستان يريد كرمان، ووجه علي بن الحسين طوق بن المغلس وقد بلغه خبر يعقوب وقصده كرمان في جيش عظيم من فارس، فصار طوق بكرمان، وسبق يعقوب إليها فدخلها، وأقبل يعقوب من سجستان، فصار من كرمان على مرحلة.
    فحدثني من ذكر أنه كان شاهدا أمرهما، أن يعقوب بقي مقيما في
    (9/382)
    الموضع الذي أقام به من كرمان على مرحلة لا يرتحل عنه شهرا أو شهرين، يتجسس أخبار طوق، ويسأل عن أمره كل من مر به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز عسكره من ناحيته إلى كرمان، ولا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق فلما طال ذلك من أمرهما كذلك أظهر يعقوب الارتحال عن معسكره إلى ناحية سجستان، فارتحل عنه مرحلة.
    وبلغ طوقا ارتحاله، فظن أنه قد بدا له في حربه، وترك عليه كرمان وعلى علي بن الحسين، فوضع آلة الحرب، وقعد للشرب، ودعا بالملاهي، ويعقوب في كل ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره فاتصل به ووضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشراب واللهو بارتحاله، فكر راجعا، فطوى المرحلتين إليه في يوم واحد، فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر نهاره إلا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان، فقال لأهل القرية:
    ما هذه الغبرة؟ فقيل له: غبرة مواشي أهل القرية منصرفة إلى أهلها، ثم لم يكن الا كلا ولا، حتى وفاه يعقوب في أصحابه، فأحاط به وبأصحابه، فذهب أصحاب طوق لما أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا للقوم، فأفرجوا لهم، فمروا هاربين على وجوههم، وخلوا كل شيء لهم مما كان معهم في معسكرهم، وأسر يعقوب طوقا.
    فحدثني ابن حماد البربري أن علي بن الحسين لما وجه طوقا حمله صناديق في بعضها اطواقه وأسورة ليطوق ويسور من أبلى معه من أصحابه، وفي بعضها أموال ليجيز من استحق الجائزة منهم، وفي بعضها قيود وأغلال ليقيد بها من أخذ من أصحاب يعقوب، فلما أسر يعقوب طوقا ورؤساء الجيش الذين كانوا معه أمر بحيازة كل ما كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كله، وجمع إليه، فلما أتي بالصناديق أتي بها مقفله،
    (9/383)
    فأمر ببعضها أن يفتح، ففتح فإذا فيه القيود والأغلال، فقال لطوق: يا طوق، ما هذه القيود والأغلال؟ قال: حملنيها علي بن الحسين لأقيد بها الأسرى وأغلهم بها، فقال: يا فلان، انظر أكبرها وأثقلها فاجعله في رجلي طوق وغله بغل ثم جعل يفعل مثل ذلك بمن أسر من أصحاب طوق قال:
    ثم أمر بصناديق أخر ففتحت، فإذا فيها أطوقة وأسورة، فقال: يا طوق.
    ما هذه؟ قال: حملنيها علي لأطوق بها وأسور أهل البلاء من أصحابي، قال: يا فلان، خذ من ذلك طوق كذا وسوار كذا، فطوق فلانا وسوره، ثم جعل يفعل ذلك بأصحاب نفسه حتى طوقهم وسورهم، ثم جعل يفعل كذلك بالصناديق قال: ولما أمر يعقوب بمديد طوق ليضعها في الغل، إذا على ذراعه عصابة، فقال له: ما هذا يا طوق؟ قال: أصلح الله الأمير! إني وجدت حرارة ففضدتها، فدعا بعض من معه فامر بمد خفه من رجله ففعل ذلك، فلما نزعه من رجله تناثر من خفه كسر خبز يابسة فقال: يا طوق هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي في خفي منه آكل لا أطأ فراشا، وأنت جالس في الشرب والملاهي! بهذا التدبير أردت حربي وقتالي! فلما فرغ يعقوب بن الليث من أمر طوق دخل كرمان وحازها وصارت مع سجستان من عمله.
    ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث فارس
    وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس وأسر علي بن الحسين بن قريش.
    ذكر الخبر عن سبب أسره إياه وكيف وصل إليه:
    حدثني ابن حماد البربري، قال: كنت يومئذ بفارس عند علي بن الحسين بن قريش، فورد عليه خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق ابن المغلس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها، ورجع إليه الفل، فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس، وعلي يومئذ بشيراز من أرض فارس، فضم اليه
    (9/384)
    جيشه ورجالة الفل من عند طوق وغيرهم، وأعطاهم السلاح، ثم برز من شيراز، فصار إلى كر خارج شيراز بين آخر طرفه عرضا مما يلي أرض شيراز، وبين عرض جبل بها من الفضاء قدر ممر رجل أو دابة، لا يمكن من ضيقه أن يمر فيه أكثر من رجل واحد فأقام في ذلك الموضع، وضرب عسكره على شط ذلك الكز مما يلي شيراز، وأخرج معه المتسوقة والتجار من مدينة شيراز إلى معسكره، وقال: إن جاء يعقوب لم يجد موضعا يجوز الفلاة إلينا، لأنه لا طريق له إلا الفضاء الذي بين الجبل والكر، وإنما هو قدر ممر رجل، إذا أقام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه، وإن لم يقدر أن يجوز إلينا بقي في البر بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابهم.
    قال ابن حماد: فأقبل يعقوب حتى قرب من الكر، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو من ميل من الكر مما يلي كرمان، ثم أقبل هو وحده وبيده رمح عشاري، يقول ابن حماد: كأني أنظر إليه حين أقبل وحده على دابته، ما معه إلا رجل واحد، فنظر إلى الكر والجبل والطريق، وقرب من الكر، وتأمل عسكر علي بن الحسين، فجعل أصحاب علي يشتمونه، ويقولون: لنردنك إلى شعب المراجل والقماقم، يا صفار- وهو ساكت لا يرد عليهم شيئا- قال: فلما تأمل ما أراد من ذلك ورآه، انصرف راجعا إلى أصحابه قال: فلما كان من الغد عند الظهر أقبل بأصحابه ورجاله حتى صار على شط كر مما يلي بر كرمان، فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابهم، وحطوا أثقالهم قال: ثم فتح صندوقا كان معه.
    قال ابن حماد: كأني أنظر إليهم وقد أخرجوا كلبا ذئبيا، ثم ركبوا دوابهم أعراء، وأخذوا رماحهم بأيديهم قال: وقبل ذلك كان قد عبأ علي ابن الحسين أصحابه، فأقامهم صفوفا على الممر الذي بين الجبل والكر، وهم يرون أنه لا سبيل ليعقوب، ولا طريق له يمكنه أن يجوزه غيره قال: ثم
    (9/385)
    جاءوا بالكلب، فرموا به في الكر، ونحن وأصحاب علي ينظرون إليهم يضحكون منهم ومنه قال: فلما رموا بالكلب فيه، جعل الكلب يسبح في الماء إلى جانب عسكر علي بن الحسين، وأقحم أصحاب يعقوب دوابهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم، يسيرون في أثر الكلب فلما راى على ابن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة الكر إليه وإلى أصحابه، انتقض عليه تدبيره، وتحير في أمره، ولم يلبث أصحاب يعقوب إلا أيسر ذلك حتى خرجوا من الكر من وراء أصحاب علي بن الحسين، فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتى هرب أصحاب علي يطلبون مدينة شيراز، لأنهم كانوا يصيرون إذا خرج أصحاب يعقوب من الكر بين جيش يعقوب وبين الكر، ولا يجدون ملجأ إن هزموا وانهزم علي بن الحسين بانهزام أصحابه، وقد خرج أصحاب يعقوب من الكر، فكبت به دابته، فسقط إلى الأرض ولحقه بعض السجزية فهم عليه بسيفه ليضربه، فبلغ إليه خادم له، فقال: الأمير.
    فنزل إليه السجزي، فوضع في عنقه عمامته، ثم جره إلى يعقوب، فلما أتي به أمر بتقييده، وأمر بما كان في عسكره من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه، ثم أقام بموضعه حتى أمسى، وهجم عليه الليل، ثم رحل من موضعه ودخل مدينة شيراز ليلا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرك في المدينة أحد، فلما أصبح أنهب أصحابه دار علي بن الحسين ودور أصحابه، ثم نظر إلى ما اجتمع في بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج، فجباه، ثم شخص منها متوجها إلى سجستان، وحمل معه ابن قريش ومن أسر معه.
    وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى المعتز بدواب وبزاة ومسك هدية.
    وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد والسواد، وذلك لست خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت موافاته سامرا من خراسان- فيما ذكر-
    (9/386)
    يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وصار إلى الإيتاخية، ثم دخل على المعتز يوم السبت، فخلع عليه وانصرف.
    وفيها كانت وقعة بين مساور الشاري ويارجوخ، فهزمه الشاري وانصرف إلى سامرا مفلولا.
    ومات المعلى بن أيوب في شهر ربيع الآخر منها.
    ذكر فعل صالح بن وصيف مع احمد بن إسرائيل ورفيقيه
    وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم فقيدهم، وطالبهم بأموال، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن هؤلاء الكتاب الذين ذكرت كانوا اجتمعوا يوم الأربعاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة من هذه السنة على شراب لهم يشربونه، فلما كان يوم الخميس غد ذلك اليوم، ركب ابن إسرائيل في جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة أم المعتز- وهو كاتبها- وحضر أبو نوح الدار، والمعتز نائم، فانتبه قريبا من انتصاف النهار، فأذن لهم، فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل، وقال للمعتز: يا امير المؤمنين، ليس للأتراك عطاء ولا في بيت المال مال، وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا، فقال له احمد: يا عاصي يا بن العاصي! ثم لم يزالا يتراجعان الكلام حتى سقط صالح مغشيا عليه، فرش على وجهه الماء وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب، فصاحوا صيحة واحدة، واخترطوا سيوفهم، ودخلوا على المعتز مصلتين، فلما رأى ذلك المعتز دخل وتركهم، وأخذ صالح بن وصيف ابن إسرائيل وابن مخلد وعيسى بن إبراهيم فقيدهم، وأثقلهم بالحديد، وحملهم إلى داره، فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم: هب لي أحمد، فإنه كاتبي، وقد رباني، فلم يفعل ذلك صالح، ثم ضرب ابن إسرائيل، حتى كسرت أسنانه، وبطح ابن مخلد فضرب مائة سوط، وكان عيسى بن إبراهيم محتجما فلم يزل يصفع حتى جرت الدماء من محاجمه، ثم لم يتركوا حتى أخذت رقاعهم بمال جليل قسط عليهم
    (9/387)
    وتوجه قوم من الأتراك إلى إسكاف ليأتوا بجعفر بن محمود، فقال المعتز:
    أما جعفر فلا أرب لي فيه ولا يعمل لي فمضوا، فبعث المعتز إلى أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد المروزي، فحمل ليصيره وزيرا، وبعث الى إسحاق ابن منصور، فأشخص وبعثت قبيحة إلى صالح بن وصيف في ابن إسرائيل:
    إما حملته إلى المعتز وإما ركبت إليك فيه.
    وقد ذكر أن السبب في ذلك كان أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، وأنهم جعلوا ذلك سببا لما كان من أمرهم، وأن الرسل لم تزل تختلف بينهم وبين هؤلاء الكتاب، إلى أن قال أبو نوح لصالح بن وصيف: هذا تدبيرك على الخليفة، فغشي على صالح حينئذ مما داخله من الحرد والغيظ حتى رشوا على وجهه الماء، فلما أفاق جرى بين يدي المعتز كلام كثير، ثم خرجوا إلى الصلاة، وخلا صالح بالمعتز، ثم دعي بالقوم فلم يلبثوا إلا قليلا، حتى أخرجوا إلى قبة في الصحن، ثم دعي بأبي نوح وابن مخلد فأخذت سيوفهما وقلانسهما ومزقت ثيابهما، وحلقهما ابن إسرائيل فألقى نفسه عليهما، فثلث به، ثم أخرجوا إلى الدهليز وحملوا على الدواب والبغال، وارتدف خلف كل واحد منهم تركي، وبعث بهم إلى دار صالح على طريق الحير، وانصرف صالح بعد ساعة، وتفرق الأتراك، فانصرفوا فلما كان بعد ذلك بأيام جعل في رجل كل واحد منهم ثلاثون رطلا، وفي عنق كل واحد منهم عشرون رطلا من حديد، وطولبوا بالأموال، فلم يجب واحد منهم إلى شيء، ولم ينقطع أمرهم إلى أن دخل رجب، فوجهوا في قبض ضياعهم ودورهم وضياع أسبابهم وأموالهم، وسموا الكتاب الخونة، فقدم جعفر بن محمود يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة فولي الأمر والنهي.
    ولليلتين خلتا من رجب ظهر بالكوفة عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان، فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى
    (9/388)
    ذكر الخبر عن خلع المعتز ثم موته
    ولثلاث بقين من رجب منها خلع المعتز ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته، وكان سبب خلعه- فيما ذكر- ان الكتاب الذى ذكرنا أمرهم، لما فعل بهم الأتراك ما فعلوا، ولم يقروا لهم بشيء، صاروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم، وقالوا له: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف، فأرسل المعتز الى أمه يسألها ان تعطيه ما لا ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي شيء، فلما رأى الأتراك ومن بسامرا من الجند أن قد امتنع الكتاب من أن يعطوهم شيئا، ولم يجدوا في بيت المال شيئا، والمعتز وأمه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمة الأتراك والفراغنة والمغاربة واحدة، فاجتمعوا على خلع المعتز، فصاروا إليه لثلاث بقين من رجب، فذكر بعض أسباب السلطان أنه كان في اليوم الذي صاروا إليه عند نحرير الخادم في دار المعتز، فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتز، ثم بعثوا إليه: اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان أمرا لا بد منه، فليدخل إلي بعضكم فليعلمني وهو يرى أن أمره واقف على حاله فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع، وآثار الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شديد الحر قال: فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه قال: فرأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وجعلوا يقولون: اخلعها، فأدخلوه حجرة على باب حجرة المعتز كان موسى بن بغا يسكنها حين كان حاضرا، ثم بعثوا
    (9/389)
    إلى ابن أبي الشوارب، فأحضروه مع جماعة من أصحابه، فقال له صالح وأصحابه: أكتب عليه كتاب خلع، فقال: لا أحسنه، وكان معه رجل أصبهاني، فقال: أنا أكتب، فكتب وشهدوا عليه وخرجوا وقال ابن أبي الشوارب لصالح: قد شهدوا أن له ولأخته وابنه وأمه الأمان، فقال صالح بكفه: أي نعم، ووكلوا بذلك المجلس وبامه نساء يحفظنها.
    فذكر أن قبيحة كانت اتخذت في الدار التي كانت فيها سربا، وأنها احتالت هي وقرب وأخت المعتز، فخرجوا من السرب، وكانوا أخذوا عليها الطرق، ومنعوا الناس أن يجوزوا من يوم فعلوا بالمعتز ما فعلوا، وذلك يوم الاثنين الى يوم الأربعاء ليله بقيت من رجب.
    فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر، فمنعوه ثم جصصوا سردابا بالجص الثخين، ثم أدخلوه فيه، وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميتا.
    وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة فلما مات أشهد على موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه، فدفن مع المنتصر في ناحية قصر الصوامع، فكانت خلافته من يوم بويع له بسامرا إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما وكان عمره كله أربعا وعشرين سنة.
    وكان أبيض أسود الشعر كثيفه، حسن العينين والوجه، ضيق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم، طويلا.
    وكان مولده بسامرا
    (9/390)
    خلافة ابن الواثق المهتدي بالله
    وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بويع محمد بن الواثق، فسمي بالمهتدي بالله، وكان يكنى أبا عبد الله، وأمه رومية، وكانت تسمى قرب.
    وذكر عن بعض من كان شاهدا أمرهم، أن محمد بن الواثق لم يقبل بيعة أحد، حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه، وأخبر عن عجزه عن القيام بما أسند إليه، ورغبته في تسليمها إلى محمد بن الواثق، وأن المعتز مد يده فبايع الواثق، فسموه بالمهتدي، ثم تنحى وبايع خاصة الموالي.
    وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتز نفسه:
    بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أشهد عليه الشهود المسمون في هذا الكتاب، شهدوا ان أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أقر عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره، أنه نظر فيما كان تقلده من أمر الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنه لا يصلح لذلك، ولا يكمل له، وأنه عاجز عن القيام بما يجب عليه منها، ضعيف عن ذلك، فأخرج نفسه، وتبرأ منها، وخلعها من رقبته، وخلع نفسه منها، وبرأ كل من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس مما كان له في رقابهم من البيعة والعهود والمواثيق والإيمان بالطلاق والعتاق والصدقة والحج وسائر الأيمان، وحللهم من جميع ذلك وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة، بعد أن تبين له أن الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرؤ منها، وأشهد على نفسه بجميع ما سمي، ووصف في هذا الكتاب جميع الشهود المسمين فيه، وجميع من حضر، بعد أن قرئ عليه حرفا حرفا، فأقر بفهمه ومعرفته جميع ما فيه طائعا غير مكره، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة
    (9/391)
    خمس وخمسين ومائتين.
    فوقع المعتز في ذلك: أقر أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب، وكتب بخطه.
    وكتب الشهود شهاداتهم: شهد الحسن بن محمد ومحمد بن يحيى واحمد ابن جناب ويحيى بن زكرياء بن أبي يعقوب الأصبهاني وعبد الله بن محمد العامري وأحمد بن الفضل بن يحيى وحماد بن إسحاق وعبد الله بن محمد وابراهيم ابن محمد، وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنه خمس وخمسين ومائتين.
    قيام الشغب ببغداد ووثوب العامه بسليمان بن عبد الله
    وفي سلخ رجب من هذه السنة، كان ببغداد شغب ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله بن طاهر.
    ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل الأمر إليه:
    وكان السبب في ذلك، أن الكتاب من محمد بن الواثق ورد يوم الخميس سلخ رجب على سليمان ببغداد ببيعة الناس له، وبها أبو أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتز سيره إلى البصرة حين سخط على أخيه من أمه المؤيد، فلما وقعت العصبية بالبصرة نقله إلى بغداد، فكان مقيما بها، فبعث سليمان بن عبد الله بن طاهر وإليه الشرطة يومئذ ببغداد، فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بأمر المعتز وابن الواثق، فاجتمعوا إلى باب سليمان، وضجوا هنالك، ثم انصرفوا على أنه قيل لهم: لم يرد علينا من الخبر ما نعلم به ما عمل به القوم، فغدوا يوم الجمعة على ذلك من الصياح والقول الذي كان قيل لهم يوم الخميس، وصلى الناس في المسجدين، ودعي فيهما للمعتز، فلما كان يوم السبت غدا القوم، فهجموا على دار سليمان، وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، وخلصوا إلى سليمان في داره، وسألوه أن يريهم أبا احمد
    (9/392)
    ابن المتوكل، فأظهره لهم، ووعدهم المصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا عنه بعد أن أكدوا عليه في حفظه.
    وقدم يارجوخ فنزل البردان ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند ممن بمدينة السلام، ثم صار إلى الشماسية، ثم غدا ليدخل بغداد، فبلغ الناس الخبر، فضجوا وتبادروا بالخروج إليه، وبلغ يارجوخ الخبر، فرجع إلى البردان، فأقام بها، وكتب إلى السلطان، واختلفت الكتب حتى وجه إلى أهل بغداد بمال رضوا به، ووقعت بيعة الخاصة ببغداد للمهتدي يوم الخميس لسبع ليال خلون من شعبان، ودعي له يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان بعد أن كانت ببغداد فتنة، قتل فيها وغرق في دجلة قوم، وجرح آخرون لأن سليمان كان يحفظ داره قوم من الطبرية بالسلاح، فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، ثم استقام الأمر بعد ذلك وسكنوا.
    ذكر خبر ظهور قبيحه أم المعتز
    وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة للأتراك، ودلتهم على الأموال التي عندها والذخائر والجوهر، وذلك أنها- فيما ذكر- قد قدرت الفتك بصالح، وواطأت على ذلك النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح، فلما أوقع بهم صالح، وعلمت أنهم لم يطووا عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم من العذاب، أيقنت بالهلاك، فعملت في التخلص، فأخرجت ما في الخزائن داخل الجوسق من الأموال والجواهر وفاخر المتاع، فأودعت ذلك كله مع ما كانت أودعت قبل ذلك مما هو في هذا المعنى، ثم لم تأمن المعاجلة إلى ما نزل بها وبابنها، فاحتالت للهرب وجها، فحفرت سربا من داخل القصر من حجرة لها خاصة ينفذ إلى موضع يفوت التفتيش، فلما علمت
    (9/393)
    بالحادثة بادرت من غير تلبث ولا تلوم، حتى صارت في ذلك السرب، ثم خرجت من القصر، فلما فرغ الذين شغبوا في أمر ابنها مما أرادوا إحكامه، فصاروا إلى طلبها غير شاكين في القدرة عليها، وجدوا القصر منها خاليا، وأمرها عنهم مستترا، لا يقفون منه على شيء، ولا ما يؤديهم إلى معرفته، حتى وقفوا على السرب، فعلموا حينئذ أنهم منه أوتوا فسلكوه، وانتهوا إلى موضع لا يوقف منه على خبر ولا أثر، فأيقنوا بالفوت، ثم رجموا الظنون، فلم يجدوا لها معقلا أعز ولا أمنع إن هي لجأت إليه من حبيب حرة موسى بن بغا التي تزوجها من جواري المتوكل، فأحالوا على تلك الناحية، وكرهوا التعرض لشيء من أسبابها، ووضعوا العيون والأرصاد عليها، وأظهروا التوعد لمن وقفوا على معرفته بأمرها، ثم لم يظهرهم عليها، فلم يزل الأمر منطويا عنهم، حتى ظهرت في شهر رمضان، وصارت إلى صالح بن وصيف، ووسطت بينها وبين صالح العطارة، وكانت تثق بها، وكانت لها أموال ببغداد، فكتبت في حملها، فاستخرج وحمل منها إلى سامرا فذكر أنه وافى سامرا يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من هذه السنه قدر خمسمائة ألف دينار، ووقعوا لها على خزائن ببغداد فوجه في حملها، فاستخرج وحمل منها، فحمل إلى السلطان من ذلك متاع كثير، وأحيل من ببغداد من الجند والشاكرية المرتزقة بمال عظيم عليه ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلا ببغداد وسامرا عده شهور، حتى نفدت.
    ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة، فسيرت إليها مع رجاء الربابى ووحش مولى المهتدي، فذكر عمن سمعها في طريقها وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عال وتقول: اللهم اخز صالح ابن وصيف، كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني! فانصرف الناس عن الموسم واحتبست بمكة.
    وذكر أن الأتراك لما تحركوا، وثاروا بالمعتز أرسلوا إليه يطلبون منه خمسين
    (9/394)
    ألف دينار، على أن يقتلوا صالحا، ويستوي لهم الأمر فأرسل إلى أمه يعلمها اضطرابهم عليه، وأنه خائف على نفسه منهم، فقالت: ما عندي مال، وقد وردت لنا سفاتج، فلينتظروا حتى نقبض ونعطيهم، فلما قتل المعتز، أرسل صالح إلى رجل جوهري قال الرجل: فدخلت إليه وعنده احمد ابن خاقان، فقال: ويحك! هو ذا ترى ما أنا فيه! وكان صالح قد أخافوه وطالبوه بالمال، ولم يكن عنده شيء، فقال لي: قد بلغني أن لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليه هذا الرجل- وإذا رجل بين يديه- فامض ومعك احمد ابن خاقان، فإن أصبتم شيئا فاثبته عندك، وسلمه إلى أحمد بن خاقان، وصر إلي معه قال: فمضيت إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع، فجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة، فدخلنا ففتشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئا، وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان، وهو يتهدد الرجل ويتوعده، ويغلظ له، وأخذ الرجل فاسا ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد ستر فيه المال، فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على مكان في الحائط استدل بصوته على أن فيه شيئا، فهدمه وإذا من ورائه باب، ففتحناه ودخلنا إليه، فأدانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها، فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط زهاء ألف ألف دينار، فأخذ أحمد منها ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار، ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكوك زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله ولا لغيره، وسفطا دونه فيه نصف مكوك حب كبار، لم أر والله للمتوكل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوت أحمر لم أر مثله، ولا ظننت أن مثله يكون في الدنيا، فقومت الجميع على البيع، فكانت قيمته ألفي ألف دينار، فحملناه كله إلى صالح، فلما رآه جعل لا يصدق ولا يوقن حتى أحضر بحضرته ووقف عليه، فقال عند ذلك:
    فعل الله بها وفعل، عرضت ابنها للقتل في مقدار خمسين ألف دينار، وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها!
    (9/395)
    وكانت أم محمد بن الواثق توفيت قبل أن يبايع، وكانت تحت المستعين، فلما قتل المستعين صيرها المعتز في قصر الرصافة الذي فيه الحرم، فلما ولي الخلافة المهتدي قال يوما لجماعة من الموالي: أما أنا فليس لي أم أحتاج لها إلى غلة عشرة آلاف ألف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها، وما أريد لنفسي وولدي إلا القوت، وما أريد فضلا إلا لإخوتي فإن الضيقه قد مستهم
    . ذكر الخبر عن قتل احمد بن إسرائيل وابى نوح
    ولثلاث بقين من رمضان من هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.
    ذكر الخبر عن صفة القتلة التي قتلا بها:
    فأما السبب الذي أداهما إلى القتل، فقد ذكرناه قبل، وأما القتلة التي قتلا بها، فإنه ذكر أن صالح بن وصيف لما استصفى أموالهما ومال الحسن ابن مخلد، وعذبهم بالضرب والقيد وقرب كوانين الفحم في شدة الحر منهم، ومنعهم كل راحة، وهم في يده على حالهم، ونسبهم إلى أمور عظام من الخيانة والقصد لذل السلطان والحرص على دوام الفتن والسعي في شق عصا المسلمين، فلم يعارضه المهتدي في شيء من أمورهم، ولم يوافقه على شيء أنكره من فعله بهم ثم وجه إليهم الحسن بن سليمان الدوشابي في شهر رمضان، ليتولى استخراج شيء إن كان زوي عنه من أموالهم.
    قال: فأخرج إلي أحمد بن إسرائيل، فقلت له: يا فاجر، تظن أن الله يمهلك، وأن أمير المؤمنين لا يستحل قتلك، وأنت السبب في الفتن، والشريك في الدماء، مع عظيم الخيانة وفساد النية والطوية! إن في أقل من هذا ما تستوجب به المثلة كما استوجب من كان قبلك، والقتل في العاجلة والعذاب
    (9/396)
    والخزي في الآجلة، إن لم تسعد من الله بعفو وإمهال، ومن إمامك بصفح واحتمال، فاستر نفسك من نزول ما تستحق بالصدق عما عندك من المال، فإنك إن تفعل ويوقف على صدقك تسلم بنفسك قال: فذكر أنه لا شيء عنده، ولا ترك له إلى هذا الوقت مال ولا عقدة قال: فدعوت بالمقارع وأمرت أن يقام في الشمس، وأرعدت وأبرقت، وإن كان ليفوتني الظفر منه بشيء من صرامة ورجلة حتى أومى إلى قدر تسعة عشر ألف دينار، فأخذت رقعته بها قال: ثم أحضرت أبا نوح عيسى بن إبراهيم فقلت له مثل الذي قلت لأحمد أو نحوه، وزدت في ذلك بأن قلت: وأنت مع هذا مقيم على دينك النصرانية، مرتكب فروج المسلمات تشفيا من الإسلام وأهله! ولا دلالة أدل على ذلك ممن لم يزل في منزلك على حال النصرانية من أهل وولد، ومن كان ذا عقدة فقد أباح الله دمه.
    قال: فلم يجب إلى شيء، وأظهر ضعفا وفقرا.
    قال: وأما الحسن بن مخلد فأخرجته، فلما خاطبته خاطبت رجلا موضعا رخوا، قال: فبكته بما ظهر منه، وقلت: من كان له الراضة بين يديه إذا سار على الشهاري وقدر ما قدرت، وأراد ما أردت، لم يكن موضعا رطبا ولا مخنثا رخوا قال: ولم أزل به حتى كتب رقعة بجوهر قيمته نيف وثلاثون ألف دينار، قال: وردوا جميعا إلى موضعهم، وانصرفت.
    فكانت مناظرة الحسن بن سليمان الدوشابي لهم آخر مناظرة كانت معهم، ولم يناظروا أيام المهتدي فيما بلغني مناظرة غيرها.
    فلما كان يوم الخميس لثلاث بقين من شهر رمضان أخرج أحمد بن إسرائيل وأبو نوح عيسى بن إبراهيم إلى باب العامة، فقعد صالح بن وصيف
    (9/397)
    في الدار، ووكل بضربهما حماد بن محمد بن حماد بن دنقش، فأقام أحمد بن إسرائيل وابن دنقش يقول: أوجع، وكان كل جلاد يضربه سوطين، وينتحى حتى وفوه خمسمائة سوط ثم أقاموا أبا نوح أيضا فضرب خمسمائة سوط ضرب التلف، ثم حملا على بغلين من بغال السقائين على بطونهما، منكسة رءوسهما، ظاهرة ظهورهما للناس فأما أحمد فحين بلغ خشبة بابك مات، وحين وصلوا بأبي نوح مات، فدفن أحمد بين الحائطين ويقال إن أبا نوح مات من يومه في حبس السرخسي خليفة طلمجور على شرط الخاصة، وبقي الحسن بن مخلد في الحبس.
    وذكر عن بعض من حضر أنه قال: لقد رأيت حماد بن محمد بن حماد بن دنقش وهو يقول للجلادين: أنفسكم يا بني الفاعلة- لا يكني- ويقول: أوجعوا وغيروا السياط، وبدلوا الرجال، وأحمد بن إسرائيل وعيسى يستغيثان، فذكر أن المهتدي لما بلغه ذلك قال: أما عقوبة إلا السوط أو القتل! أما يقوم مقام هذا شيء! أما يكفي! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، يقول ذلك ويسترجع مرارا.
    وذكر عن الحسن بن مخلد أنه قال: لم يكن الأمر فينا عند صالح إذا لم يحضره عبد الله بن محمد بن يزداد على ما كان يكون عليه من الغلظة إذا حضر قال: وكان يقول لصالح: اضرب وعذب فإن الأصلح من وراء ذلك القتل، فإنهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب، فضلا عن الواترين، ويذكره قبيح ما بلغه عنهم وكان يسر بذلك.
    قال: وكان داود بن ابى العباس الطوسي يحضرنا عند صالح فيقول:
    وما هؤلاء، أعزك الله، فبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ! فظنه يرققه علينا حتى يقول: على أني والله أعلم انهم ان تخلصوا انتشر منهم شر كبير وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف وقد أفتاه بقتلنا، وأشار عليه بإهلاكنا،
    (9/398)
    فيزداد برأيه وما قال له علينا غيظا، وإلى الإساءة بنا أنسا، فسئل بعض من كان يخبر أمرهم: كيف نجا الحسن بن مخلد مما صلي به صاحباه؟ فقال:
    بخصلتين، إحداهما أنه صدقه عن الخبر في أول وهله واوجد الدلائل على ما قاله له أنه حق، وقد كان وعده العفو إن صدقه، وحلف له على ذلك، والأخرى أن أمير المؤمنين كلمه فيه وأعلمه حرمة أهله به، وأوما إلى محبته لإصلاح شأنه، فرده عن عظيم المكروه فيه، وقد كنت أرى أنه لو طالت لصالح مدة وهو في يده، أطلقه واصطنعه، ولم يكن صالح بن وصيف اقتصر في أمر الكتاب على أخذ أموالهم وأموال أولادهم، حتى أخاف أسبابهم وقراباتهم بأخذ أموالهم، وتخطى الى المتصلين بهم
    . شغب الجند والعامه ببغداد وولايه سليمان بن عبد الله بن طاهر عليها
    ولثلاث عشرة خلت من شهر رمضان منها فتح السجن ببغداد، ووثبت الشاكرية والنائبة ببغداد من جندها بمحمد بن أوس البلخي: ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل الأمر إليه فيه:
    ذكر أن السبب في ذلك كان أن محمد بن أوس، قدم بغداد مع سليمان ابن عبد الله بن طاهر وهو على الجيش القادمين من خراسان مع سليمان والصعاليك الذين تألفهم سليمان بالري، ولم تكن أسماؤهم في ديوان السلطان بالعراق، ولا أمر سليمان فيهم بشيء، وكانت السنة فيهم أن يقام لمن قدم معه من خراسان بالعراق حسب ما يقام بخراسان لنظرائهم من مال ضياع ورثة ذي اليمينين، ويكتب بذلك إلى خراسان ليعارض الورثه هناك من مال العامة، بدل ما كان دفع من مالهم بالعراق فلما قدم سليمان بن عبد الله العراق، وجد بيت مال الورثة فارغا وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد تقدم عند ما صح عنده من الخبر بتصيير الأمر فيما كان يتولاه إلى أخيه سليمان بن عبد الله،
    (9/399)
    فأخذ ما كان حاصلا لورثة أبيه وجده في بيت ما لهم، واستسلف على ما لم يرتفع، وتعجل من المتقبلين اموال نجوم لم تحل حتى استنظفت ذلك أجمع، وشخص فأقام بالجويث في شرقي دجلة، ثم عبر حتى صار في غربيها، فضاقت بسليمان الدنيا، وتحرك الشاكرية والجند في طلب الأرزاق، وكتب سليمان إلى أبي عبد الله المعتز بذلك وقدر أموالهم، وأدخل في المال تقدير القادمين معه، ووجه محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب الخراساني كاتبه في ذلك فأجيب بعد مناظرات إلى أن سبب له على عمال السواد مال صودر عليه لطمع من بمدينة السلام وشحن السواد لا يقوم بما يجب للنائبة فضلا عن القادمين مع النائبة، فلم يتهيأ لسليمان الوصول إلى شيء من المال، وقدم ابن أوس والصعاليك وأصحابه، فقصر المال عنه وعمن كان يقدر وصوله إليه من النائبة، فوقفوا على ذلك وعلى السبب المضر بهم فيه وكان القادمون مع سليمان من الصعاليك وغيرهم لما قدموا بغداد أساءوا المجاورة لأهلها، وجاهروا بالفاحشة، وتعرضوا للحرم والعبيد والغلمان، وعادوهم لمكانهم من السلطان، حتى امتلئوا عليهم غيظا وحنقا وقد كان سليمان بن عبد الله وحر على الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب بن رزيق، لمكانه كان من عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ونصرته له وكفايته، وانصرافه عن سليمان وأسبابه فلما انصرف الحسين ابن إسماعيل إلى بغداد بعقب ما كان يتولاه لعبيد الله من أمر الجند والشاكرية، فحبس كاتبه في المطبق وحاجبه في سجن باب الشام، ووكل بباب الحسين ابن إسماعيل جندا من قبل إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، لأن سليمان ولى إبراهيم ما كان الحسين بن إسماعيل يتولاه لعبيد الله من أمر جسري بغداد وطساسيج قطربل ومسكن والأنبار، فلما حدث ما حدث من بيعة المهتدي وشغب الجند والشاكرية بمدينة السلام، ووقعت الحرب في تلك الأيام، شد محمد ابن أوس على رجل من المراوزة، كان من الشيعة، فضربه في دار سليمان ثلاثمائة
    -----------------
    ج18. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري
    المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
    (صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)
    سوط ضربا مبرحا، وحبسه بباب الشام، وكان هذا الرجل من خاصة الحسين بن إسماعيل، فلما حدث هذا الحادث احتيج إلى الحسين بن إسماعيل، لفضل جلده وإقدامه فنحي من كان ببابه موكلا فظهر، فتراجع أصحابه من غير أمر، وقد كانوا فرقوا على القواد، وضم منهم جمع كبير إلى محمد بن أبي عون القائد، فذكر أن المضمومين إلى ابن أبي عون لما صاروا إلى بابه، فرق فيهم من ماله، للراجل عشرة دراهم، وللفارس دينارا، فلما رجعوا إلى الحسين رفع ابن أبي عون بذكر ذلك، فلم يخرج في ذلك تعيين ولا أمر، فلم يزل الحال على هذا والجند والشاكرية يصيحون في طلب مال البيعة وما بقي لهم من مال الطمع المتقدم، وقد رد أمرهم في تقسيط مالهم، وقبضهم إلى الحسين على ما كان الأمر عليه أيام عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكان الحسين لا يزال يلقي إليهم ما عليه محمد بن أوس ومن قدم مع سليمان من القصد لاخذ أموالهم والفوز بها دونهم، حتى امتلأت قلوبهم فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، اجتمع جماعة من الجند والشاكرية، ومعهم جماعة من العامة حتى صاروا إلى سجن باب الشام ليلا، فكسروا بابه، وأطلقوا في تلك الليلة أكثر من كان فيه، ولم يبق فيه من أصحاب الجرائم أحد إلا الضعيف والمريض والمثقل، فكان ممن خرج في تلك الليلة نفر من أهل بيت مساور بن عبد الحميد الشاري، وخرج معهم المروزي مضروب محمد بن أوس وجماعة ممن قد لزم السلطان إلى أن صاروا إلى قبضته زهاء خمسين ألفا، وأصبح الناس في يوم الجمعة وباب الحبس مفتوح، فمن قدر أن يمشي مشى، ومن لم يقدر اكترى له ما يركبه، وما يمنع من ذلك مانع، ولا يدفع دافع، فكان ذلك من أقوى الأمور التي بعثت الخاصة والعامة على دفع الهيبة بينهم وبين سليمان بن عبد الله وسد باب السجن بباب الشام بآجر وطين، ولم يعلم أنه كان لإبراهيم ابن إسحاق في هذه الليلة ولا لأحد من أصحابه حركة أصلا، فتحدث الناس أن الذي جني على سجن باب الشام بمكان المروزي الذي ضربه ابن أوس فيه
    (9/401)
    حتى يخلص ثم لم يمض بعد ذلك خمسة أيام، حتى نافر ابن أوس الحسين ابن إسماعيل في أمر مال النائبة أراده محمد بن أوس لأصحابه ومنعه الحسين، وتجاريا في ذلك كلاما غلظ بينهما، فخرج محمد متنكرا، فلما كان الغد من ذلك اليوم غدا محمد بن أوس إلى دار سليمان، وغدا الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال مولى طاهر، وحضر الناس باب سليمان، وكان بين من حضر من أصحاب ابن أوس وبين النائبة محادثة، علت فيها الأصوات، فتبادر أصحاب ابن أوس والقادمون إلى الجزيرة، وعبر إليهم ابن أوس وولده، وتصايح الناس بالسلاح، وخرج الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال والمظفر ابن سيسل في أصحابهم، وصاح الناس بالعامة: من أراد النهب فليلحق بنا، فقيل: أنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت مائة ألف إنسان في الزواريق، وتوافى الجند والشاكرية بالسلاح، فوافى أوائل الناس الجزيرة، فلم يكن إلا قدر اللحظة حتى حمل رجل من أهل سرخس على الكبير من ولد محمد بن أوس، وطعنه، فاراده عن شهري كان تحته، ثم أخذته السيوف فانهزم عنه أصحابه، فلم يعمل أحد منهم شيئا، وسلب الجريح وحمل في زورق، حتى عبر به إلى دار سليمان بن عبد الله بن طاهر، فألقي هناك فذكر بعض من حضر سليمان، أنه لما رآه اغرورقت عيناه من الدمع، ومهد له، وأحضر له الأطباء، ومضى ابن أوس من وجهه إلى منزله، وكان ينزل في دار لآل أحمد بن صالح بن شيرزاد بالدور، مما يلي قصر جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك وجد أهل بغداد في آثارهم والقواد معهم حتى تلقوهم، فكانت بينهم وقعة بالدور، أولها في آخر الساعة الثانية وآخرها في أول الساعة السابعة، فلم يزالوا يتراشقون بالنشاب، ويتطاعنون بالرماح، ويتخابطون بالسيوف وأعان ابن أوس جيرانه من أهل سويقة قطوطا وأصحاب الزواريق من ملاحي الدور واشتدت الحرب، ووجه أهل بغداد يطلبون نفاطين
    (9/402)
    من دار سليمان فذكروا أن حاجبه دخل، فأعلمه ذلك، فأمر بمنعهم منه، وقاتل ابن أوس قتالا شديدا، فناله جراح من سهام وطعن، فانهزم وأصحابه، وقد كان أخرج حرمه من داره، فلم يزل أهل بغداد يتبعونهم حتى أخرجوهم من باب الشماسية، ووصل الناس إلى منزل ابن أوس، فانتهبوا جميع ما كان فيه، فذكر أنه انتهب له بقيمة ألفي ألف درهم، والمقلل يقول:
    ألف ألف وخمسين ألفا، وأنه انتهب له زهاء مائة سراويل مبطن بسمور، سوى ما كان مبطنا بغيره من الوبر مما يشاكل ذلك، وانتهب له من الفرش الطبري الخام والمقصور والمدرج والمقطوع ما يكون قيمته ألف ألف درهم، وانصرف الناس، فجعل الجند يدخلون دار سليمان، وهم يكثرون، ومعهم النهب وهم يصيحون، وما لهم مانع ولا زاجر وأقام ابن أوس ليلته تلك بالشماسية مع من لحق به من أصحابه وقد كان أهل بغداد وثبوا بمنازل الصعاليك التي كانوا فيها سكانا، فنهبوها، وتعرضوا لمن كان تخلف منهم، فتلاحق القوم هرابا، ولم يبق منهم في اليوم الثاني ببغداد أحد ظاهرا.
    فذكر أن سليمان وجه تلك الليلة إلى ابن أوس ثيابا وفرشا وطعاما، فيقال:
    إن محمدا قبله، وقيل: أنه رده وأصبح الناس في اليوم الثاني وغدا الحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل إلى دار الشاه بن ميكال، ولحق به وجوه الشاكرية والنائبة وغيرهم، فأقاموا هناك مراغمين سليمان بن عبد الله بن طاهر وخلت دار سليمان فلم يحضرها إلا جميعه فبعث إليهم سليمان مع محمد بن نصر بن حمزة بن مالك الخزاعي، وهو لا يعلم ما عليه عقد القوم، يعلمهم قبح ما ركبوا من محمد بن أوس، وما يجب لمحمد بحرمته وقديمه، وأنهم لو أنهوا إليه ما أنكروا منه لتقدم في ذلك بما يكفيهم معه الحال التي ركبوها، فضج الشاكرية الذين حضروا دار الشاه جميعا وقالوا: لا نرضى بمجاورة ابن أوس ولا بمجاورة أحد من أصحابه ولا من الصعاليك المنضمين إليه، وإنهم ان
    (9/403)
    أكرهوا على ذلك تعاقدوا مباينته، وخلع من يسومهم إياه، وأحال الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل على كراهة القوم، فرجع الرسول بذلك إلى سليمان، فرده إليهم بكلام دون ذلك، ووعدهم وقال: أنا أثق بقولكم وضمانكم دون أيمانكم وعهودكم ثم استوى جالسا.
    وذكر أنه لم يزل مستثقلا محمد بن أوس ومن لحق به من الصعاليك وغيرهم، عارفا بسوء رغبتهم ورداءة مذاهبهم، وبسوم محمد بن أوس في نفسه خاصة ومحبته وشروعه في كل ما دعا إلى خلاف وفرقة، وأسبغ هذا المعنى، وكثر فيه حتى خرج به إلى الإغراق فيه، إلى أن قال: لقد كنت أدخل في قنوتي في الصلاة طلب الراحة من ابن أوس ثم التفت إلى محمد بن علي بن طاهر، فأمره بالمصير إلى ابن أوس، والتقدم إليه في العزم على الانصراف إلى خراسان، وأن يعلمه أنه لا سبيل له إلى الرجوع إلى مدينة السلام، ولا إلى تولي شيء من الأمور التي يتولاها لسليمان.
    فلما تناهى الخبر إلى ابن أوس رحل من الشماسيه، فصار في رقه البردان على دجلة، فأقام بها أياما حتى اجتمع اليه من تفرق من اصحابه، رحل فنزل النهروان، فلم يزل بها مقيما وقد كان كتب الى بايكباك وصالح ابن وصيف يعرض عليهما نفسه، ويشكو إليهما ما نزل به، فلم يجد عنده شيئا مما قصد، وقد كان محمد بن عيسى بن عبد الرحمن مقيما بسامرا لينجز أمور سليمان، وكان كارها لابن أوس، منحرفا عنه وكان ابن أوس مضطرب الأمر لسوء محضر محمد بن عيسى الكاتب، فلما انقطعت عن ابن أوس وأصحابه المادة، تعبثوا بأهل القرى والسابلة، وأكثروا الغارات والنهب، ورحل حتى نزل النهروان.
    فذكر عن بعض من قصدوه لينتهبوه، فذكرهم المعاد، وخوفهم الله أنهم ردوا عليه أن قالوا له: إن كان النهب والقتل جائزا في مدينة السلام، وهي قبة الإسلام، ودار عز السلطان، فما استنكار ذلك في الصحاري والبراري!
    (9/404)
    ثم رحل ابن أوس عن النهروان بعد أن أثر في تلك الناحية آثارا قبيحة، وأخذ أهل البلاد بأداء الأموال، وحمل منها الطعام في السفن في بطن النهروان إلى إسكاف بني جنيد لبيعه هناك.
    وكان محمد بن المظفر بن سيسل بالمدائن، فلما بلغه مصير ابن أوس الى نهروان صير إقامته بالنعمانية من عمل الزوابي خوفا على نفسه منه لحضور أبيه كان في يوم الوقعة.
    فذكر عن محمد بن نصر بن منصور بن بسام- وعبرتا ضيعته- أن وكيله انصرف عنها هاربا بعد أن أدى إلى ابن أوس تحت العذاب وخوف الموت قريبا من الف وخمسمائة دينار، ولم يزل ابن أوس مقيما هناك، يقرب ويباعد، ويقبض ويبسط، ويشتد ويلين، ويرهب، حتى أتاه كتاب بايكباك بولاية طريق خراسان من قبله، فكان من وقت خروجه من مدينة السلام إلى وقت ورود الكتاب عليه بالولاية شهران وخمسة عشر يوما.
    وذكر عن بعض ولد عاصم بن يونس العجلي أن أباه كان يتولى ضياعا للنوشري بناحية طريق خراسان، وأنه كتب إلى النوشري يذكر ما عاين من قوة عسكر ابن أوس وظاهر عدتهم، ويشير بأن يذكر ذلك لبايكباك، ويصف خلاء طريق خراسان من سلطان يتولاه ويحوط أهله، وأن هذا عسكر مشحن بالرجال والعدة والعتاد، مقيم في العمل، وأن النوشري ذكر ذلك لبايكباك، وأشار عليه بتوليته طريق خراسان، وتخفيف المؤنة عن السلطان، فقبل ما أشار به عليه، وأمر بكتبه فكتبت، وولي طريق خراسان في ذي القعدة من هذه السنة- وهي سنة خمس وخمسين ومائتين- وكان موسى خليفه مساور ابن عبد الحميد الشاري مقيما بالدسكرة ونواحيها في زهاء ثلاثمائة رجل، قد ولاه مساور ما بين حلوان إلى السوس على طريق خراسان وبطن جوخى وما قرب ذلك من طساسيج السواد
    (9/405)
    وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفيهم منها إلى بغداد، بعد أمر كان قد تقدم من قبيحة في ذلك قبل أن ينزل بابنها ما نزل، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وإبطال الملاهي ورد المظالم، وجلس لذلك للعامة، وكانت ولايته والدنيا كلها من ارض الاسلام مفتونه.
    ذكر خبر استيلاء مفلح على طبرستان ثم انصرافه عنها
    وفيها شخص موسى بن بغا ومن معه من الموالي وجند السلطان من الري وانصرف مفلح عن طبرستان بعد أن دخلها، وهزم الحسن بن زيد، وأخرجه عنها إلى أرض الديلم.
    ذكر الخبر عن شخوصه عنها:
    ذكر أن السبب في ذلك أن قبيحة أم المعتز، لما رأت من الأتراك اضطرابا، وأنكرت أمرهم، كتبت إلى موسى بن بغا تسأله القدوم إلى ما قبلها، وأملت وروده عليها قبل حدوث ما حدث عليها وعلى ابنها المعتز، فعزم موسى على الانصراف إليها، وكان ورود كتابها عليه ومفلح بطبرستان.
    فكتب موسى الى مفلح يأمره بالانصراف إليها وهو بالري، فحدثني بعض أصحابنا من أهل طبرستان، أن كتاب موسى ورد على مفلح بذلك، وقد توجه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد الطالبي فلما ورد عليه الكتاب انصرف راجعا إلى حيث توجه منه، فعظم ذلك على قوم كانوا معه من رؤساء أهل طبرستان ممن كان هاربا قبل مقدم مفلح عليهم من الحسن ابن زيد، لما كانوا قد رجوا من مقدمه عليهم وكفايتهم أمر الحسن بن زيد والرجوع إلى منازلهم وأوطانهم، وذلك أن مفلحا كان يعدهم اتباع الحسن ابن زيد حيث توجه حتى يظفر به أو يخترم دونه، ويقول لهم- فيما ذكر لي-
    (9/406)
    لو رميت قلنسوتي في أرض الديلم ما اجترأ أحد منهم أن يدنو منها فلما رأى القوم انصرافه عن الوجه الذي توجه له من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم صده، سألوه- فيما ذكر لي- عن السبب الذي صرفه عما كان يعدهم به من اتباع ابن زيد، وجعلوا يكلمونه- فيما أخبرت- وهو كالمسبوت لا يجيبهم بشيء، فلما أكثروا عليه قال لهم: ورد على كتاب الأمير موسى بعزمة منه الا أضع كتابه من يدي بعد ما يصل إلي حتى أقبل إليه.
    وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير فلم يتهيأ لموسى الشخوص من الري إلى سامرا حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتز وقيام المهتدي بعده بالأمر، ففثأه ذلك عما كان عزم عليه من الشخوص، لفوته ما قدر إدراكه من أمر المعتز.
    ولما وردت عليه بيعة المهتدي، امتنع أصحابه عليه من بيعته، ثم بايعوا.
    فورد خبر بيعتهم سامرا لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان من هذه السنة.
    ثم إن الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسباب المعتز والمتوكل، فشحوا بذلك على المقيمين بسامرا، فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سامرا.
    وقدم مفلح على موسى بالري تاركا طبرستان على الحسن بن زيد، فذكر عن القاشاني أنه قال: كتب إلي ابن أخي من الري يذكر أنه لقي مفلحا بالري، فسأله عن سبب انصرافه فذكر أن الموالي قد أبوا أن يقيموا، وأنهم إذا انصرفوا لم يغن مقامه شيئا.
    ثم أن موسى افتتح خراج سنة ست وخمسين ومائتين يوم الأحد مستهل شهر رمضان سنه ست وخمسين ومائتين، فاجتنى- فيما ذكر- في يوم الأحد قدر خمسمائة ألف درهم، فاجتمع أهل الري، فقالوا، أعز الله الأمير! إنك تزعم أن الموالي يرجعون إلى سامرا لما يقدرونه من كثرة العطاء هناك، وأنت وأصحابك في أكثر وأوسع مما القوم هناك فيه، فإن رأيت أن تسد هذا الثغر، وتحتسب في أهله الأجر والثواب، وتلزمنا من خراجنا في خاص أموالنا لمن معك ما ترى أن نحتمله فعلت فلم يجبهم إلى ما سألوا، فقالوا:
    (9/407)
    أصلح الله الأمير! فإذا كان الأمير عزم على تركنا، والانصراف عنا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبتدئ بعمارتها، وأكثر غلة سنة خمس وخمسين ومائتين، التي قد أخذ الأمير خراجها في الصحاري لا يمكننا الوصول إليها إن رحل الأمير عنا! فلم يلتفت إلى شيء مما وصفوه له، وسألوه إياه.
    واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبا كثيرة، لم تؤثر أثرا فلما انتهى إليه قفول موسى من الري، ولم تغن الكتب شيئا وجه رجلين من بني هاشم، يقال لأحدهما عبد الصمد بن موسى، ويعرف الآخر بأبي عيسى يحيى بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، وحملا رسالة إلى موسى وإلى من ضم عسكرة من الموالى، يصدقهم فيها عن الحال بالحضرة وضيق الأموال بها، وما يحاذر من ذهاب ما يخلفونه وراء ظهورهم، وغلبه الطالبيين عليه واتساع آثارهم إلى ناحية الجبل فشخص بذلك الهاشميان في جماعه من الموالي واتباعهم من الديلم، وأقبل موسى ومن معه، وصالح بن وصيف في ذلك يعظم على المهتدي انصرافه، وينسبه إلى المعصية والخلاف، ويبتهل عليه في أكثر ذلك، ويبرأ إلى الله من فعله.
    فذكر أن كتاب صاحب البريد بهمذان لما ورد على المهتدي بفصول موسى عنها، رفع المهتدي يديه إلى السماء، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
    اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدو، فإني قد أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تول كيد من كايد المسلمين، اللهم انصر جيوش المسلمين حيث كانوا، اللهم إني شاخص بنيتي واختياري إلى حيث نكب المسلمون فيه، ناصرا لهم ودافعا عنهم اللهم فآجرني بنيتي إذ عدمت صالح الأعوان! ثم انحدرت دموعه يبكى.
    وذكر عن بعض من حضر المهتدي في بعض مجالسه التي يقول فيها هذا القول، وحضره سليمان بن وهب، فقال: أيأمرني أمير المؤمنين أن اكتب الى موسى بما اسمع منه، فقال له: نعم، اكتب بما تسمع مني، وان امكنك ان تنقشه في الصخر فافعل فلقيه الهاشميان في الطريق ولم يغنيا شيئا،
    (9/408)
    وضج الموالي، وكادوا يثبون بالرسل، ورد موسى في جواب الرسالة يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، وأنه إن رام التخلف عنهم لم يأمنهم على نفسه، ويحتج بما عاين الرسل الموجهون إليه.
    فورد الرسل بذلك، وأوفد مع الرسل موسى وفدا من عسكره، فوافوا سامرا لأربع خلون من المحرم سنه ست وخمسين ومائتين.
    ذكر الخبر عن مفارقه كنجور على بن الحسين بن قريش
    وفي هذه السنة فارق كنجور علي بن الحسين بن قريش، وكان قد نفي أيام المعتز إلى فارس، فوكل به علي بن الحسين، وحبسه، فلما اراد على ابن الحسين محاربة يعقوب بن الليث أخرجه من الحبس، وضم إليه خيلا ورجالا، فلما انهزم الناس عن علي بن الحسين لحق كنجور بناحية الأهواز، فأثر في ناحية رامهرمز أثرا، ثم لحق بابن أبي دلف، فوافاه بهمذان، وأساء السيرة في أسباب وصيف وضياعه ووكلائه في تلك الناحية، ثم لحق بعد ذلك بعسكر موسى فلما أقبل موسى فيمن ضمه العسكر، بلغ ذلك صالحا، فكتب عن المهتدي في حمل كنجور إلى الباب مقيدا، فأبى ذلك الموالي، ثم لم تزل الكتب تختلف فيه إلى أن نزل العسكر القاطول ثم ظهر أن صالحا قعد لمراغمته، وأن موسى ترحل إلى سامرا على المباينة لصالح ومن مال إليه، ولحق بايكباك بعسكر موسى، وأقام موسى هناك يومين ووجه المهتدي إليه أخاه إبراهيم لأمه في أمر كنجور يعلمه أن الموالي بسامرا قد أبوا أن يقاروا على دخول كنجور، ويأمره بتقييده وحمله إلى مدينة السلام، فلم يتهيأ في ذلك ما قدره صالح، وكان جوابهم أن قالوا: إذا دخلنا سامرا امتثلنا ما أمر به أمير المؤمنين في كنجور وغيره.
    (9/409)
    خروج أول علوي بالبصرة
    وللنصف من شوال من هذه السنة، ظهر في فرات البصرة رجل زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، وجمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، ثم عبر دجلة، فنزل الديناري.
    ذكر الخبر عن أمره والسبب الذي بعثه على الخروج هنالك:
    وكان اسمه ونسبه- فيما ذكر- علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد القيس، وأمه قرة ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم، من بنى اسد ابن خزيمة، من ساكني قرية من قرى الري، يقال لها ورزنين، بها مولده ومنشؤه، فذكر عنه أنه كان يقول: جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن على بن الحسين فلما قل زيد هرب فلحق بالري، فلجأ إلى ورزنين، فأقام بها وإن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان، وأنه قدم العراق فأقام بها، واشترى جارية سندية، فأولدها محمدا أباه، فهو علي بن محمد هذا، وأنه كان متصلا قبل بجماعة من آل المنتصر، منهم غانم الشطرنجي وسعيد الصغير ويسر الخادم، وكان منهم معاشه ومن قوم من أصحاب السلطان وكتابه يمدحهم ويستميحهم بشعره.
    ثم أنه شخص- فيما ذكر- من سامرا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، واتبعه جماعة كثيرة من أهلها، وأبته جماعة أخر، فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية قتلت بينهم جماعة، فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء، وضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد، يقال لهم بنو الشماس، فكان بينهم مقامه وقد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي- فيما ذكر- حتى جبي له الخراج هنالك ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه ووتر منهم جماعة كثيرة، فتنكروا له، فتحول عنهم إلى البادية
    (9/410)
    ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين، منهم رجل كيال من أهل الأحساء، يقال له يحيى بن محمد الأزرق المعروف بالبحراني، مولى لبني دارم ويحيى بن أبي ثعلب، وكان تاجرا من أهل هجر، وبعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع، وهو قائد جيشه، ثم كان ينتقل في البادية من حي.
    إلى حي فذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس، منها- فيما ذكر عنه- أنه قال: إني لقيت سورا من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها سبحان والكهف وص.
    قال: ومن ذلك انى لقيت نفسي على فراشي، فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له، وأجعل مقامي به، إذ نبت بي البادية، وضقت بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها بسمعي، فخوطبت فيه، فقيل: اقصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكنفونني:
    إني أمرت بصوت هذا الرعد بالمصير إلى البصرة.
    وذكر أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، فاختدع بذلك قوما منهم، حتى اجتمع بها منهم جماعة كثيرة، فزحف بهم إلى موضع بالبحرين يقال له الردم، فكانت بينهم وقعة عظيمة، كانت الدائرة فيها عليه وعلى أصحابه، قتلوا فيها قتلا ذريعا، فنفرت عنه العرب وكرهته، وتجنبت صحبته فلما تفرقت عنه العرب، ونبت به البادية، شخص عنها إلى البصرة، فنزل بها في بني ضبيعة، فاتبعه بها جماعة، منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي وأخواه محمد والخليل وغيرهم.
    وكان قدومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، ومحمد بن رجاء الحضاري عامل السلطان بها، ووافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية، فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأمر أربعة نفر من أصحابه، فخرجوا بمسجد عباد، أحدهم يسمى محمد بن سلم القصاب الهجري، والآخر بريش القريعي، والثالث علي الضراب، والرابع الحسين الصيدناني، وهم الذين كانوا صحبوه
    (9/411)
    بالبحرين، فدعوا إليه، فلم يجبه من أهل البلد أحد، وثاب إليهم الجند، فتفرقوا ولم يظفر بأحد منهم فخرج من البصرة هاربا، فطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه، وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه، فأخذهم فحبسهم، فكان فيمن حبس يحيى بن أبي ثعلب ومحمد بن الحسن الإيادي وابن صاحب الزنج علي بن محمد الأكبر وزوجته أم ابنه ومعها ابنة له وجارية حامل، فحبسهم ومضى هو لوجهه يريد بغداد، ومعه من اصحابه محمد بن سلم ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع وبريش القريعي فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، يقال له عمير بن عمار، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون، وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده، ثم صار إلى مدينة السلام، فأقام بها حولا، وانتسب فيها إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه بها آيات، وعرف ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم، وأنه سأل ربه بها آيه أن يعلم حقيقة أمره، فرأى كتابا يكتب له، وهو ينظر إليه على حائط، ولا يرى شخص كاتبه.
    وذكر عن بعض تباعه أنه بمقامه بمدينة السلام استمال جماعة، منهم جعفر بن محمد الصوحاني- كان ينتسب إلى زيد بن صوحان- ومحمد بن القاسم وغلاما يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان: مشرق ورفيق، فسمى مشرقا حمزة وكناه أبا أحمد، وسمى رفيقا جعفرا وكناه أبا الفضل ثم لم يزل عامه ذلك بمدينة السلام حتى عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فخرج عنها، فوثب رؤساء الفتنة من البلالية والسعدية، ففتحوا المحابس، وأطلقوا من كان فيها، فتخلصوا فيمن تخلص فلما بلغه خلاص أهله، شخص إلى البصرة، فكان رجوعه إليها في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه علي بن أبان- وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام- ويحيى بن محمد، ومحمد بن سلم، وسليمان بن جامع، وغلاما يحيى بن عبد الرحمن: مشرق ورفيق، وكان يحضر
    (9/412)
    هؤلاء الستة رجل من الجند يكنى أبا يعقوب، ولقب نفسه بعد ذلك بجربان، فساروا جميعا حتى وافوا برنخل، فنزلوا قصرا هنالك يعرف بقصر القرشي، على نهر يعرف بعمود ابن المنجم، كان بنو موسى بن المنجم احتفروه، وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ، وأمر أصحابه أن ينحلوه ذلك، فأقام هنالك.
    فذكر عن ريحان بن صالح أحد غلمان الشورجيين- وهو أول من صحبه منهم- أنه قال: كنت موكلا بغِلْمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة، وأفرقه فيهم، فحملت ذلك إليهم كما كنت أفعل، فمررت به وهو مقيم ببرنخل في قصر القرشي، فأخذني أصحابه، فصاروا بي إليه، وأمروني بالتسليم عليه بالإمرة، ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته أني أقبلت من البصرة، فقال: هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟ قلت:
    لا، قال: فما خبر الزينبي؟ قلت: لا علم لي به، قال: فخبر البلالية والسعدية؟ قلت: ولا أعرف أخبارهم أيضا، فسألني عن أخبار غلمان الشورجيين وما يجري لكل غلام منهم من الدقيق والسويق والتمر وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني إلى ما هو عليه، فأجبته، فقال لي: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، فأقبل بهم إلي ووعدني أن يقودني على من آتيه به منهم، وأن يحسن إلي، واستحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه، وأن أرجع إليه فخلى سبيلي، فأتيت بالدقيق الذي معي الموضع الذي كنت قصدته به، وأقمت عنده يومي، ثم رجعت إليه من غد، فوافيته وقد قدم عليه رفيق غلام يحيى بن عبد الرحمن، وكان وجه إلى البصرة في حوائج من حوائجه، ووافاه بشبل بن سالم- وكان من غلمان الدباسين- وبحريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء، فكتب فيها بحمرة وخضرة: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، إلى آخر الآية، وكتب اسمه واسم أبيه، وعلقها في رأس مردي، وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان
    (9/413)
    فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار، متوجهين إلى أعمالهم، فأمر بأخذهم فأخذوا، وكتف وكيلهم، وأخذ معهم، وكانوا خمسين غلاما، ثم صار إلى الموضع الذي يعمل فيه السنائى، فاخذ منه خمسمائة غلام، فيهم المعروف بأبي حديد، وأمر بوكيلهم فأخذ معهم مكتوفا، وكانوا في نهر يعرف بنهر المكاثر، ثم مضى إلى موضع السيرافي، فأخذ منه خمسين ومائة غلام، فيهم زريق وأبو الخنجر.
    ثم صار إلى موضع ابن عطاء، فأخذ طريقا وصبيحا الأعسر وراشدا المغربي وراشدا القرماطي، وأخذ معهم ثمانين غلاما ثم أتى موضع إسماعيل المعروف بغلام سهل الطحان، ثم لم يزل يفعل ذلك كذلك في يومه، حتى اجتمع إليه بشر كثير من غلمان الشورجيين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيبا، فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم، ويملكهم الأموال، وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدر بهم، ولا يخذلهم، ولا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم ثم دعا مواليهم، فقال: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم، وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم، وجعلتم عليهم ما لا يطيقون، فكلمني أصحابي فيكم، فرأيت إطلاقكم، فقالوا: إن هؤلاء الغلمان أباق، وهم يهربون منك فلا يبقون عليك ولا علينا، فخذ منا مالا وأطلقهم لنا فأمر غلمانهم فأحضروا شطبا ثم بطح كل قوم مولاهم ووكيلهم، فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه، ولا بعدد أصحابه، وأطلقهم فمضوا نحو البصرة.
    ومضى رجل منهم يقال له عبد الله، ويعرف بكريخا، حتى عبر دجيلا، فأنذر الشورجيين ليحرزوا غلمانهم، وكان هناك خمسة عشر الف غلام.
    ثم سار بعد ما صلى العصر حتى وافى دجيلا، فوجد سفن سماد تدخل في المد، فقدمها، فركب فيها، وركب أصحابه حتى عبروا دجيلا،
    (9/414)
    وصاروا إلى نهر ميمون، فنزل المسجد الذي في وسط السوق الشارع على نهر ميمون، وأقام هناك ولم يزل ذلك دأبه، يجتمع إليه السودان إلى يوم الفطر.
    فلما أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا، وركز المردي الذي عليه لواؤه، وصلى بهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأن الله قد استنقذهم به من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم، ويملكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك فلما فرغ من صلاته وخطبته، أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك، ودخل القصر فلما كان بعد يوم قصد نهر بور، فوافى جماعة من أصحابه هناك الحميري في جماعة، فدفعوهم حتى أخرجوهم إلى الصحراء، فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه، فأوقع بالحميري وأصحابه، فانهزموا حتى صاروا إلى بطن دجلة واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنى بأبي صالح، يعرف بالقصير، في ثلاثمائة من الزنج، فمناهم ووعدهم فلما كثر من اجتمع اليه من الزنج قود قواده، وقال لهم: كل من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه وقيل أنه لم يقود قواده إلا بعد مواقعة الخول ببيان ومصيره إلى سبخة القندل.
    وكان ابن أبي عون نقل عن ولاية واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، فذكر أنه انتهى إليه في اليوم الذي قود فيه قواده أن الحميري وعقيلا مع خليفة ابن أبي عون المقيم كان بالأبلة، قد أقبلوا نحوه، ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الرزيقية وهي في مؤخر الباذاورد، فصار إليها في وقت صلاة الظهر، فصلوا بها، واستعدوا للقتال، وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف: سيفه، وسيف علي بن أبان، وسيف محمد بن سلم ونهض بأصحابه فيما بين الظهر والعصر راجعا نحو المحمدية، وجعل علي بن أبان في آخر أصحابه، وأمره أن يعرف خبر من يأتيه من ورائه، وتقدم في أوائل الناس حتى وافى المحمدية، فقعد على النهر، وأمر الناس فشربوا منه، وتوافى إليه أصحابه، فقال له علي بن أبان: قد كنا نرى من ورائنا بارقة ونسمع
    (9/415)
    حس قوم يتبعوننا، فلسنا ندري: أرجعوا عنا أم هم قاصدون إلينا؟ فلم يستتم كلامه حتى لحق القوم، وتنادى الزنج السلاح، فبدر مفرج النوبى المكنى بابى صالح، وريحان ابن صالح، وفتح الحجام- وكان فتح يأكل- فلما نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدم أصحابه، فلقيه رجل من الشورجيين، يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، فرمى بلبل بسلاحه، وولى هاربا، وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف رجل، فذهبوا على وجوههم، وقتل من قتل منهم، ومات بعضهم عطشا، وأسر منهم قوم، فأتي بهم صاحب الزنج، فأمر بضرب أعناقهم فضربت، وحملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين، كانت تنقل الشورج، ومضى حتى وافى القادسية، وذلك وقت المغرب، فخرج من القرية رجل من موالي بعض الهاشميين على أصحابه، فقتل رجلا من السودان، فأتاه الخبر، فقال له أصحابه: ائذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا، فقال: لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلا ساغ لنا قتالهم وأعجلهم المسير، فصاروا إلى نهر ميمون راجعين، فأقام في المسجد الذي كان أقام فيه في بدأته وأمر بالرءوس المحمولة معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبي فأذن، وسلم عليه بالإمرة، فقام فصلى بأصحابه العشاء الآخرة، وبات ليلته بها، ثم مضى من الغد حتى مر بالكرخ فطواها، وأتى قرية تعرف بجبى في وقت صلاة الظهر، فعبر دجيلا من مخاضة دل عليها، ولم يدخل القرية، وأقام خارجا منها، وأرسل إلى من فيها، فأتاه كبراؤهم وكبراء أهل الكرخ، فأمرهم بإقامة الأنزال له ولأصحابه فأقيم له ما أراد، وبات عندهم ليلته تلك، فلما أصبح أهدى له رجل من أهل جبى فرسا كميتا، فلم يجد سرجا
    (9/416)
    ولا لجاما، فركبه بحبل وسنفه بليف، وسار حتى انتهى إلى المعروف بالعباسي العتيق، فأخذ منه دليلا إلى السيب، وهو نهر القرية المعروفة بالجعفرية، ونذر به أهل القرية، فهربوا عنها، ودخلها فنزل دار جعفر بن سليمان وهي في السوق، وتفرق أصحابه في القرية، فأتوه برجل وجدوه، فسأله عن وكلاء الهاشميين، فأخبره أنهم في الأجمة، فوجه الملقب بجربان، فأتاه برئيسهم وهو يحيى بن يحيى المعروف بالزبيري أحد موالي الزياديين، فسأله عن المال، فقال:
    لا مال عندي، فأمر بضرب عنقه، فلما خاف القتل أقر بشيء قد كان أخفاه، فوجه معه، فأتاه بمائتي دينار وخمسين دينارا وألف درهم، فكان هذا أول ما صار إليه، ثم سأله عن دواب وكلاء الهاشميين فدله على ثلاثة براذين:
    كميت، وأشقر، وأشهب، فدفع أحدها إلى ابن سلم، والآخر الى يحيى ابن محمد، وأعطى مشرقا غلام يحيى بن عبد الرحمن الثالث.
    وكان رفيق يركب بغلا كان يحمل عليه الثقل، ووجد بعض السودان دارا لبعض بني هاشم فيها سلاح، فانتهبوه، فجاء النوبي الصغير بسيف، فأخذه صاحب الزنج، فدفعه إلى يحيى بن محمد، فصار في أيدي الزنج سيوف وبالات وزقايات وتراس، وبات ليلته تلك بالسيب، فلما أصبح أتاه الخبر أن رميسا والحميري وعقيلا الابلى قد وافوا السيب، فوجه يحيى ابن محمد في خمسمائة رجل، فيهم سليمان وريحان بن صالح وأبو صالح النوبي الصغير، فلقوا القوم فهزموهم، وأخذوا سميرية وسلاحا، وهرب من كان هنالك، ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر، فأقام يومه، وسار من غد يريد المذار، بعد أن اتخذ على أهل الجعفرية ألا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدا، ولا يستروا عنه فلما عبر السيب صار إلى قرية تعرف بقرية اليهود شارعة على دجلة، فوافق هنالك رميسا في جمع، فلم يزل يقاتلهم
    (9/417)
    يومه ذلك، وأسر من أصحابه عدة، وعقر منهم جماعة بالنشاب وقتل غلام لمحمد بن أبي عون كان مع رميس، وغرقت سميرية كان فيها ملاحها، فأخذ وضربت عنقه، وسار من ذلك الموضع يريد المذار فلما صار الى النهر المعروف بباب مداد جاوزه حتى أصحر، فرأى بستانا، وتلا يعرف بجبل الشياطين، فقصد للتل فقعد عليه، وأثبت أصحابه في الصحراء، وجعل لنفسه طليعة.
    فذكر عن شبل أنه قال: أنا كنت طليعته على دجلة، فأرسلت إليه أخبره أن رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدي عنه رسالة، فوجه إليه علي بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلما أتوه قال لهم: اقرءوا على صاحبكم السلام، وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض، لا يعرض لك احد، واردد هؤلاء العبيد على مواليهم، وآخذ لك عن كل رأس خمسة دنانير فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس، فغضب من ذلك وآلى ليرجعن فليبقرن بطن امرأة رميس، وليحرقن داره، وليخوضن الدماء هنالك فانصرفوا إليه، فأجابوه بما أمروا به، فانصرف إلى مقابل الموضع الذي هو به من دجلة، فأقام به، فوافاه في ذلك اليوم إبراهيم بن جعفر المعروف بالهمداني، ولم يكن لحق به إلا في ذلك الوقت، وأتاه بكتب فقرأها، فلما صلى العشاء الآخرة، أتاه إبراهيم، فقال له: ليس الرأي لك إتيان المذار، قال: فما الرأي؟
    قال: ترجع، فقد بايع لك أهل عبادان وميان روذان وسليمانان، وخلفت جمعا من البلالية بفوهة القندل وأبرسان ينتظرونك فلما سمع السودان ذلك من قول إبراهيم مع ما كان رميس عرض عليه في ذلك اليوم خافوا إن يكون احتال عليهم ليردهم إلى مواليهم، فهرب بعضهم، واضطرب الباقون فجاءه محمد بن سلم فأعلمه اضطرابهم، وهرب من هرب منهم، فأمر بجمعهم في ليلته تلك، ودعا مصلحا، وميز الزنج من الفراتية ثم أمر مصلحا أن يعلمهم أنه لا يردهم ولا أحدا منهم إلى مواليهم، وحلف لهم على ذلك بالأيمان الغلاظ، وقال: ليحط بي منكم جماعة، فإن أحسوا مني غدرا فتكوا بي ثم جمع
    (9/418)
    الباقين، وهم الفراتية والقرماطيون والنوبة وغيرهم ممن يفصح بلسان العرب، فحلف لهم على مثل ذلك، وضمن ووثق من نفسه، وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض من أعراض الدنيا، وما خرج إلا غضبا لله، ولما رأى ما عليه الناس من الفساد في الدين، وقال: ها أنا ذا معكم في كل حرب، أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي فرضوا ودعوا له بخير فلما أسحر أمر غلاما من الشورجيين يكنى أبا منارة، فنفخ في بوق لهم كانوا يجتمعون بصوته، وسار حتى اتى السيب راجعا، فالفى هناك الحميري ورميسا وصاحب ابن أبي عون، فوجه إليهم مشرقا برسالة أخفاها، فرجع إليه بجوابها، فصار صاحب الزنج إلى النهر، فتقدم صاحب محمد بن أبي عون، فسلم عليه، وقال له: لم يكن جزاء صاحبنا منك أن تفسد عليه عمله، وقد كان منه إليك ما قد علمت بواسط، فقال: لم آت لقتالكم، فقل لأصحابك يوسعون لي في الطريق، حتى أجاوزكم.
    فخرج من النهر إلى دجلة، ولم يلبث أن جاء الجند ومعهم أهل الجعفرية في السلاح الشاك، فتقدم المكتنى بأبي يعقوب المعروف بجربان، فقال لهم: يا أهل الجعفرية، أما علمتم ما أعطيتمونا من الأيمان المغلظة ألا تقاتلونا، ولا تعينوا علينا أحدا، وأن تعينونا متى اجتاز بكم أحد منا! فارتفعت أصواتهم بالنعير والضجيج، ورموه بالحجارة والنشاب وكان هناك موضع فيه زهاء ثلاثمائة زرنوق، فأمر بأخذها فأخذت، وقرن بعضها ببعض حتى صارت كالشاشات، وطرحت إلى الماء، وركبها المقاتلة فلحقوا القوم، فقال بعضهم: عبر علي بن أبان يومئذ قبل أخذ الزرانيق سباحة، ثم جمعت الزرانيق، وعبر الزنج، وقد زالوا عن شاطئ النهر فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وأتى منهم بأسرى، فوبخهم وخلى سبيلهم، ووجه غلاما من غلمان الشورجيين يقال له سالم يعرف بالزغاوي، إلى من كان دخل الجعفرية من أصحابه، فردهم، ونادى: ألا برئت الذمة ممن انتهب شيئا
    (9/419)
    من هذه القرية، أو سبى منها أحدا، فمن فعل ذلك فقد حلت به العقوبة الموجعة.
    ثم عبر من غربي السيب إلى شرقيه، واجتمع أصحابه الرؤساء حتى إذا جاوز القرية بمقدار غلوة سمع النعير من ورائه في بطن النهر، فتراجع الزنج، فإذا رميس والحميري وصاحب ابن أبي عون قد وافوه لما بلغهم حال أهل الجعفرية فألقى السودان أنفسهم عليهم، فأخذوا منهم أربع سميريات بملاحيها ومقاتليها، فأخرجوا السميريات بمن فيها، ودعا بالمقاتلة فسألهم، فأخبروه أن رميسا وصاحب ابن أبي عون لم يدعاهم حتى حملاهم على المصير إليه، وأن أهل القرى حرضوا رميسا وضمنوا له ولصاحب ابن أبي عون مالا جليلا، وضمن له الشورجيون على رد غلمانهم، لكل غلام خمسة دنانير، فسألهم عن الغلام المعروف بالنميري المأسور والمعروف بالحجام، فقالوا: أما النميري فأسير في أيديهم، وأما الحجام فإن أهل الناحية ذكروا أنه كان يتلصص في ناحيتهم، ويسفك الدماء، فضربت عنقه، وصلب على نهر أبي الأسد.
    فلما عرف خبرهم أمر بضرب أعناقهم، فضربت إلا رجلا يقال له محمد بن الحسن البغدادي، فإنه حلف له أنه جاء في الأمان، لم يشهر عليه سيفا، ولا نصب له حربا، فأطلقه وحمل الرءوس والأعلام على البغال، وأمر بإحراق سفنهم فأحرقت.
    وسار حتى أتى نهر فريد، فانتهى إلى نهر يعرف بالحسن بن محمد القاضي وعليه مسناة تعترض بين الجعفرية ورستاق القفص، فجاءه قوم من أهل القرية من بني عجل، فعرضوا عليه أنفسهم، وبذلوا له ما لديهم، فجزاهم خيرا، وأمر بترك العرض لهم.
    وسار حتى أتى نهرا يعرف بباقثا، فنزل خارجا من القرية التي على النهر وهي قرية تشرع على دجيل، فأتاه أهل الكرخ، فسلموا عليه، ودعوا له بخير، وأمدوه من الأنزال بما أراد وجاءه رجل يهودي خيبري يقال له ماندويه فقبل يده، وسجد له- زعم- شكرا لرؤيته إياه، ثم سأله عن مسائل كثيرة، فأجابه عنها، فزعم أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى القتال معه، وسأله
    (9/420)
    عن علامات في بدنه ذكر أنه عرفها فيه، فأقام معه ليلته تلك يحادثه.
    وكان إذا نزل اعتزل عسكره بأصحابه الستة، ولم يكن يومئذ ينكر النبيذ على أحد من أصحابه، وكان يتقدم إلى محمد بن سلم في حفظ عسكره، فلما كان في تلك الليلة أتاه في آخر الليل رجل من أهل الكرخ، فأعلمه أن رميسا وأهل المفتح والقرى التي تتصل بها وعقيلا واهل الأيلة قد أتوه ومعهم الدبيلا بالسلاح الشاك، وأن الحميري في جمع من أهل الفرات وقد صاروا في تلك الليلة إلى قنطرة نهر ميمون، فقطعوها ليمنعوه العبور فلما أصبح أمر، فصيح بالزنج، فعبروا دجيلا، وأخذ في مؤخر الكرخ حتى وافى نهر ميمون، فوجد القنطرة مقطوعة، والناس في شرقي النهر والسميريات في بطنه، والدبيلا في السميريات، وأهل القرى في الجريبيات والمجونحات، فأمر أصحابه بالإمساك عنهم، وأن يرحلوا عن النهر توقيا للنشاب، ورجع فقعد على مائة ذراع من القرية، فلما لم يروا أحدا يقاتلهم خرج منهم قوم ليعرفوا الخبر، وقد كان أمر جماعة من أصحابه، فأتوا القرية، فكمنوا فيها مخفين لأشخاصهم، فلما أحسوا خروج من خرج منهم، شدوا عليهم، فأسروا اثنين وعشرين رجلا، وسعوا نحو الباقين، فقتلوا منهم جماعة على شاطئ النهر، ورجعوا إليه بالرءوس والأسرى، فأمر بضرب أعناقهم بعد مناظرة جرت بينه وبينهم، وأمر بالاحتفاظ بالرءوس، وأقام إلى نصف النهار، وهو يسمع أصواتهم، فأتاه رجل من أهل البادية مستأمنا، فسأله عن غور النهر، فأعلمه أنه يعرف موضعا منه يخاض، وأعلمه أن القوم على معاودته بجمعهم يقاتلونه، فنهض مع الرجل حتى أتى به موضعا على مقدار ميل من المحمدية، فخاض النهر بين يديه، وخاض الناس خلفه، وحمله ناصح المعروف بالرملي، وعبر بالدواب، فلما صار في شرقي النهر كر راجعا نحو نهر ميمون، حتى أتى المسجد فنزل فيه، وأمر بالرءوس فنصبت، وأقام يومه، وانحدر جيش رميس بجمعه في بطن دجيل، فأقاموا بموضع يعرف بأقشى بإزاء النهر المعروف
    (9/421)
    ببرد الخيار، ووجه طليعة فرجع إليه، فأخبره بمقام القوم هناك، فوجه من ساعته ألف رجل، فأقاموا بسبخة هناك على فوهة هذا النهر، وقال لهم: إن أتوكم إلى المغرب، وإلا فأعلموني وكتب كتابا إلى عقيل، يذكره فيه انه قد بايعه في جماعة من أهل الأبلة، وكتب إلى رميس يذكره حلفه له بالسيب أنه لا يقاتله، وأنه ينهي أخبار السلطان إليه، ووجه بالكتابين إليهما مع بعض الأكرة بعد أن أحلفه أن يوصلهما.
    وسار من نهر ميمون يريد السبخة التي كان هيأ فيها طليعة، فلما صار إلى القادسية والشيفيا، سمع هناك نعيرا، ورأى رميا، وكان إذا سار يتنكب القرى، فلم يدخلها، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى الشيفيا في جماعة، فيسأل أهلها أن يسلموا إليه قاتل الرجل من أصحابه في ممره كان بهم، فرجع إليه، فأخبره أنهم زعموا أنه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميين ومنعهم له، فصاح بالغلمان، وأمرهم بانتهاب القريتين، فانتهب منهما مالا عظيما، عينا وورقا وجوهرا وحليا وأواني ذهب وفضة، وسبى منهما يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أول سبي سبي، ووقفوا على دار فيها أربعة عشر غلاما من غلمان الشورج، قد سد عليهم باب، فأخذهم وأتي بمولى الهاشميين القاتل صاحبه فأمر محمد بن سلم بضرب عنقه، ففعل ذلك، وخرج من القريتين في وقت العصر، فنزل السبخة المعروفة ببرد الخيار.
    فلما كان في وقت المغرب أتاه أحد أصحابه الستة، فأعلمه أن أصحابه، قد شغلوا بخمور وأنبذة وجدوها في القادسية، فصار ومعه محمد بن سلم ويحيى ابن محمد إليهم، فأعلمهم أن ذلك مما لا يجوز لهم، وحرم النبيذ في ذلك اليوم عليهم، وقال لهم: إنكم تلاقون جيوشا تقاتلونهم، فدعوا شرب النبيذ والتشاغل به، فأجابوه إلى ذلك، فلما أصبح جاءه غلام من السودان، يقال له قاقويه، فأخبره أن أصحاب رميس قد صاروا إلى شرقي دجيل، وخرجوا إلى الشط، فدعا علي بن أبان، فتقدم إليه أن يمضي بالزنج، فيوقع بهم،
    (9/422)
    ودعا مشرقا، فأخذ منه اصطرلابا، فقاس به الشمس، ونظر في الوقت، ثم عبر وعبر الناس خلفه القنطرة التي على النهر المعروف ببرد الخيار، فلما صاروا في شرقيه، تلاحق الناس بعلي بن أبان، فوجدوا أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشط، والدبيلا في السفن يرمون بالنشاب، فحملوا عليهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهبت ريح من غربي دجيل، فحملت السفن، فأدنتها من الشط، فنزل السودان إليها، فقتلوا من وجدوا فيها، وانحاز رميس ومن كان معه إلى نهر الدير على طريق أقشى، وترك سفنه لم يحركها ليظن أنه مقيم، وخرج عقيل وصاحب ابن أبي عون إلى دجلة مبادرين، لا يلويان على شيء وأمر صاحب الزنج بإخراج ما في السفن التي فيها الدبيلا، وكانت مقرونا بعضها ببعض، فنزل فيها قاقويه ليفتشها، فوجد رجلا من الدبيلا، فحاول اخراجه فامتنع عليه، واهوى اليه بسرتى كان معه، فضربه ضربة على ساعده، فقطع بها عرقا من عروقه، وضربه ضربة على رجله، فقطعت عصبة من عصبه، وأهوى له قاقويه، فضربه ضربة على هامته فسقط، فأخذ بشعره، واحتز رأسه، فأتى به صاحب الزنج، فأمر له بدينار خفيف، وأمر يحيى بن محمد أن يقوده على مائة من السودان ثم سار صاحب الزنج إلى قرية تعرف بالمهلبي تقابل قياران، ورجع السودان الذين كانوا اتبعوا عقيلا وخليفة ابن أبي عون، وقد أخذ سميرية فيها ملاحان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: اتبعناهم فطرحوا أنفسهم إلى الشط، وتركوا هذه السميرية، فجئنا بها.
    فسأل الملاحين، فأخبراه أن عقيلا حملهما على إتباعه قهرا، وحبس نساءهما حتى اتبعاه، وفعل ذلك بجميع من تبعه من الملاحين، فسألهما عن سبب مجيء الدبيلا، فقالا: إن عقيلا وعدهم مالا، فتبعوه، فسألهما عن السفن الواقعة بأقشى، فقالا: هذه سفن رميس وقد تركها، وهرب في أول النهار، فرجع حتى إذا حاذاها أمر السودان فعبروا، فأتوه بها، فأنهبهم ما كان فيها، وأمر بها فأحرقت، ثم صار إلى القرية المعروفة بالمهلبية واسمها تنغت، فنزل
    (9/423)
    قريبا منها، وأمر بانتهابها وإحراقها، فانتهبت وأحرقت، وسار على نهر الماديان، فوجد فيها تمورا، فأمر بإحراقها.
    وكان لصاحب الزنج بعد ذلك أمور من عيثه هو وأصحابه في تلك الناحية تركنا ذكرها، إذ لم تكن عظيمة.
    وإن كان كل أموره كانت عظيمة ثم كان من عظيم ما كان له من الوقائع مع أصحاب السلطان وقعة كانت مع رجل من الأتراك يكنى أبا هلال في سوق الريان، ذكر عن قائد من قواده يقال له ريحان، أن هذا التركي وافاهم في هذا السوق، ومعه زهاء أربعة آلاف رجل أو يزيدون، وفي مقدمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول، وأن السودان حملوا عليه حملة صادقة، وأن بعض السودان ألقى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا معه في يده فصرعه، وانهزم القوم، وتلاحق السودان، فقتلوا من أصحاب أبي هلال زهاء ألف وخمسمائة وإن بعضهم اتبع أبا هلال ففاته بنفسه على دابة عري، وحال بينهم وبين من أفلت ظلمة الليل، وأنه لما أصبح أمر بتتبعهم، ففعلوا ذلك فجاءوا بأسرى ورءوس، فقتل الأسرى كلهم.
    ثم كانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة مع أصحاب السلطان، هزمهم فيها، وظفر بهم، وكان مبتدأ الأمر في ذلك- فيما ذكر عن قائد لصاحب الزنج من السودان يقال له ريحان- أنه قال: لما كان في بعض الليل من ليالي هذه السنة التي ذكرنا أنه ظهر فيها، سمع نباح كلب في أبواب تعرف بعمرو بن مسعدة، فأمر بتعرف الموضع الذي يأتي منه النباح، فوجه لذلك رجلا من أصحابه، ثم رجع فأخبره أنه لم ير شيئا، وعاد النباح قال ريحان: فدعاني، فقال لي: صر إلى موضع هذا الكلب النابح، فإنه إنما نبح شخصا يراه، فصرت فإذا أنا بالكلب على المسناة، ولم أر شيئا، فأشرفت فإذا أنا برجل قاعد في درجات هنا لك، فكلمته، فلما سمعني أفصح بالعربية كلمني، فقال: أنا سيران بن عفو الله، أتيت صاحبكم بكتب من شيعته بالبصرة، وكان سيران هذا أحد من صحب صاحب الزنج أيام مقامه بالبصرة، فأخذته فأتيته به، فقرأ الكتب التي كانت معه، وسأله عن الزينبي
    (9/424)
    وعن عدة من كان معه، فقال: إن الزينبي قد أعد لك الخول والمطوعة والبلالية والسعدية، وهم خلق كثير، وهو على لقائك بهم ببيان، فقال له: اخفض صوتك، لئلا يرتاع الغلمان بخبرك وسأله عن الذي يقود هذا الجيش، فقال: قد ندب لذلك المعروف بأبي منصور، وهو أحد موالي الهاشميين: قال له: أفرأيت جمعهم؟ قال: نعم، وقد أعدوا الشرط لكتف من ظفروا به من السودان، فأمره بالانصراف إلى الموضع الذي يكون فيه مقامه، فانصرف سيران إلى علي بن أبان ومحمد بن سلم ويحيى بن محمد، فجعل يحدثهم إلى أن أسفر الصبح، ثم سار صاحب الزنج إلى أن أشرف عليهم فلما انتهى إلى مؤخر ترسى وبرسونا وسندادان بيان، عرض له قوم يريدون قتاله، فأمر علي بن أبان فأتاهم فهزمهم، وكان معهم مائة أسود، فظفر بهم قال ريحان: فسمعته يقول لأصحابه: من أمارات تمام أمركم ما ترون من إتيان هؤلاء القوم بعبيدهم فيسلمونهم إليكم، فيزيد الله في عددكم.
    ثم سار حتى صار إلى بيان.
    قال ريحان: فوجهني وجماعة من أصحابه إلى الحجر لطلب الكاروان وعسكرهم في طرف النخل في الجانب الغربي من بيان، فوجهنا إلى الموضع الذي امرنا بالمصير اليه، فالفينا هناك ألفا وتسعمائة سفينة، ومعها قوم من المطوعة قد احتبسوها، فلما رأونا خلوا عن السفن، وعبروا سلبان عرايا ماضين نحو جوبك وسقنا السفن حتى وافيناه بها، فلما أتيناه بها أمر فبسط له على نشز من الأرض وقعد، وكان في السفن قوم حجاج أرادوا سلوك طريق البصرة، فناظرهم بقية يومه إلى وقت غروب الشمس، فجعلوا يصدقونه في جميع قوله، وقالوا: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك، فردهم إلى سفنهم، فلما أصبحوا أخرجهم، فأحلفهم ألا يخبروا أحدا بعدة أصحابه، وأن يقللوا أمره عند من سألهم عنه وعرضوا عليه بساطا كان معهم، فأبدله ببساط كان معه، واستحلفهم أنه لا مال
    (9/425)
    للسلطان معهم ولا تجارة، فقالوا: معنا رجل من أصحاب السلطان، فأمر بإحضاره، فأحضر، فحلف الرجل أنه ليس من أصحاب السلطان، وأنه رجل معه نقل أراد به البصرة، فأحضر صاحب السفينة التي وجد فيها، فحلف له أنه إنما اتجر فيه، فحمله فخلى سبيله، واطلق الحجاج فذهبوا، وشرع اهل سليمانان على بيان بإزائه في شرقي النهر، فكلمهم أصحابه وكان فيهم حسين الصيدناني الذي كان صحبه بالبصرة، وهو أحد الأربعة الذين ظهروا بمسجد عباد، فلحق به يومئذ، فقال له: لم أبطأت عني إلى هذه الغاية؟ قال: كنت مختفيا، فلما خرج هذا الجيش دخلت في سواده قال:
    فأخبرني عن هذا الجيش، ما هم؟ وما عدة أصحابه؟ قال: خرج من الخول بحضرتي ألف ومائتا مقاتل، ومن أصحاب الزينبي ألف، ومن البلالية والسعدية زهاء ألفين، والفرسان مائتا فارس ولما صاروا بالأبلة وقع بينهم وبين أهلها اختلاف، حتى تلاعنوا، وشتم الخول محمد بن أبي عون، وخلفتهم بشاطئ عثمان وأحسبهم مصبحيك في غد قال: فكيف يريدون أن يفعلوا إذا أتونا؟ قال: هم على إدخال الخيل من سندادان بيان، ويأتيك رجالهم من جنبي النهر.
    فلما أصبح وجه طليعة ليعرف الخبر، واختاره شيخا ضعيفا زمنا لئلا يعرض له، فلم يرجع إليه طليعته فلما أبطأ عنه وجه فتحا الحجام ومعه ثلاثمائة رجل، ووجه يحيى بن محمد إلى سندادان، وأمره أن يخرج في سوق بيان، فجاءه فتح فأخبره أن القوم مقبلون إليه في جمع كثير، وأنهم قد أخذوا جنبتي النهر، فسأل عن المد، فقيل: لم يأت بعد، فقال: لم تدخل خيلهم بعد، وأمر محمد بن سلم وعلي بن أبان أن يقعدا لهم في النخل، وقعد هو على جبل مشرف عليهم، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال حتى صاروا إلى الأرض المعروفة بأبي العلاء البلخي، وهي عطفة على دبيران، فأمر الزنج فكبروا ثم حملوا عليهم فوافوا بهم دبيران، ثم حمل الحول يقدمهم أبو العباس بن أيمن المعروف بأبي الكباش وبشير القيسي، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هو عليه، ثم رجعوا عليهم، فثبتوا لهم، وحمل أبو الكباش على فتح الحجام فقتله، وأدرك غلاما يقال له دينار من السودان فضربه
    (9/426)
    ضربات، ثم حمل السودان عليهم، فوافوا بهم شاطئ بيان، وأخذتهم السيوف.
    قال ريحان: فعهدي بمحمد بن سلم وقد ضرب أبا الكباش، فألقى نفسه في الطين، فلحقه بعض الزنج، فاحتز رأسه وأما علي بن أبان، فإنه كان ينتحل قتل أبي الكباش وبشير القيسي، وكان يتحدث عن ذلك اليوم فيقول: كان أول من لقيني بشير القيسي، فضربني وضربته، فوقعت ضربته في ترسي، ووقعت ضربتي في صدره وبطنه، فانتظمت جوانح صدره، وفريت بطنه، وسقط فأتيته، فاحتززت راسه ولقبني أبو الكباش، فشغل بي، وأتاه بعض السودان من ورائه فضربه بعصا كانت في يده على ساقيه، فكسرهما فسقط، فأتيته ولا امتناع به، فقتلته واحتززت رأسه، فأتيت بالرأسين صاحب الزنج.
    قال محمد بن الحسن بن سهل: سمعت صاحب الزنج يخبر أن عليا أتاه برأس أبي الكباش ورأس بشير القيسي- قال: ولا اعرفهما- فقال: كان هذان يقدمان القوم، فقتلتهما فانهزم أصحابهما لما رأوا مصرعهما.
    قال ريحان- فيما ذكر عنه: وانهزم الناس فذهبوا كل مذهب، واتبعهم السودان إلى نهر بيان، وقد جزر النهر، فلما وافوه انغمسوا في الوحل، فقتل أكثرهم قال: وجعل السودان يمرون بصاحبهم دينار الأسود الذي كان أبو الكباش ضربه، وهو جريح ملقى، فيحسبونه من الخول فيضربونه بالمناجل حتى أثخن، ومر به من عرفه، فحمل إلى صاحب الزنج، فأمر بمداواة كلومه.
    قال ريحان: فلما صار القوم إلى فوهة نهر بيان، وغرق من غرق، وأخذت السفن التي كانت فيها الدواب، إذا ملوح يلوح من سفينة، فأتيناه فقال: ادخلوا النهر المعروف بشريكان، فإن لهم كمينا هناك، فدخل يحيى ابن محمد وعلي بن أبان، فأخذ يحيى في غربي النهر، وسلك علي بن أبان في شرقيه، فإذا كمين في زهاء ألف من المغاربة، ومعهم حسين الصيداني
    (9/427)
    أسيرا قال: فلما رأونا شدوا على الحسين، فقطعوه قطعا، ثم أقبلوا إلينا، ومدوا رماحهم، فقاتلوا إلى صلاة الظهر، ثم أكب السودان عليهم فقتلوهم أجمعين، وحووا سلاحهم، ورجع السودان إلى عسكرهم، فوجدوا صاحبهم قاعدا على شاطئ بيان، وقد أتي بنيف وثلاثين علما وزهاء ألف رأس، فيها رءوس أنجاد الخول وأبطالهم، ولم يلبث أن أتوه بزهير يومئذ.
    قال ريحان: فلم أعرفه، فأتى يحيى وهو بين يديه، فعرفه فقال لي: هذا زهير الخول، فما استبقاؤك إياه! فأمر به فضربت عنقه وأقام صاحب الزنج يومه وليلته فلما أصبح وجه طليعة إلى شاطئ دجلة، فأتاه طليعته، فأعلمه أن بدجلة شذاتين لاصقتين بالجزيرة، والجزيرة يومئذ على فوهة القندل، فرد الطليعة بعد العصر إلى دجلة ليعرف الخبر، فلما كان وقت المغرب أتاه المعروف بأبي العباس خال ابنه الأكبر، ومعه رجل من الجند يقال له عمران، وهو زوج أم أبي العباس هذا، فصف لهما أصحابه، ودعا بهما، فأدى إليه عمران رسالة ابن أبي عون، وسأله أن يعبر بيانا ليفارق عمله، وأعلمه أنه قد نحى الشذا عن طريقه، فأمر بأخذ السفن التي تخترق بيانا من جبى، فصار أصحابه إلى الحجر، فوجدوا في سلبان مائتي سفينة، فيها أعدال دقيق، فأخذت، ووجد فيها أكسية وبركانات، وفيها عشرة من الزنج، وأمر الناس بركوب السفن، فلما جاء المد- وذلك في وقت المغرب- عبر وعبر أصحابه حيال فوهة القندل، واشتدت الريح، فانقطع عنه من اصحابه المكنى بابى دلف، وكان معه السفن التي فيها الدقيق، فلما أصبح وافاه أبو دلف فأخبره أن الريح حملته إلى حسك عمران، وأن أهل القرية هموا به، وبما كان معه، فدفعهم عن ذلك وأتاه من السودان خمسون رجلا، فسار عند موافاة السفن والسودان إياه حتى دخل القندل، فصار إلى قرية للمعلى بن أيوب، فنزلها، وانبث اصحابه الى دبا، فوجدوا هناك ثلاثمائة رجل من الزنج، فأتوه بهم، ووجدوا وكيلا للمعلى بن أيوب، فطالبه بمال، فقال: أعبر الى برسان،
    (9/428)
    فآتيك بالمال، فأطلقه، فذهب ولم يعد إليه، فلما أبطأ عليه أمر بانتهاب القرية فانتهبت.
    قال ريحان- فيما ذكر عنه: فلقد رأيت صاحب الزنج يومئذ ينتهب معنا، ولقد وقعت يدي ويده على جبة صوف مضربة، فصار بعضها في يده وبعضها في يدي، وجعل يجاذبني عليها حتى تركتها له ثم سار حتى صار إلى مسلحة الزينبي على شاطئ القندل في غربي النهر، فثبت له القوم الذين كانوا في المسلحة، وهم يرون أنهم يطيقونه، فعجزوا عنه، فقتلوا أجمعين، وكانوا زهاء مائتين، وبات ليلته في القصر، ثم غدا في وقت المد قاصدا إلى سبخة القندل، واكتنف أصحابه حافتي النهر، حتى وافوا منذران، فدخل أصحابه القرية فانتهبوها، ووجدوا فيها جمعا من الزنج، فأتوه بهم، ففرقهم على قواده، ثم صار إلى مؤخر القندل، فأدخل السفن النهر المعروف بالحسني النافذ إلى النهر المعروف بالصالحى، وهو نهر يؤدى الى دبا، فأقام بسبخة هناك.
    فذكر عن بعض أصحابه انه قال: هاهنا قود القواد، وأنكر أن يكون قود قبل ذلك وتفرق أصحابه في الأنهار حتى صاروا إلى مربعة دبا، فوجدوا رجلا من التمارين من أهل كلاء البصرة، يقال له محمد بن جعفر المريدي، فأتوه به، فسلم عليه وعرفه، وسأله عن البلالية، فقال: إنما أتيتك برسالتهم، فلقيني السودان، فأتوك بي، وهم يسألونك شروطا إذا أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا، فأعطاه ما سأل لهم، وضمن القيام له بأمرهم، حتى يصيروا في حيزه، ثم خلى سبيله، ووجه معه من صيره إلى الفياض، ورجع عنه، فأقام أربعة أيام ينتظره، فلم يأته، فسار في اليوم الخامس وقد سرح السفن التي كانت معه في النهر، وأخذ هو على الظهر فيما بين نهر يقال له الداورداني والنهر المعروف بالحسني والنهر المعروف بالصالحي، فلم يتعد حتى رأى خيلا مقبلة من نحو نهر الأمير زهاء ستمائه فارس، فأسرع أصحابه
    (9/429)
    إلى النهر الداورداني، وكان الخيل في غربيه، فكلموهم طويلا، وإذا هم قوم من الأعراب فيهم عنترة بن حجنا وثمال، فوجه إليهم محمد بن سلم، فكلم ثمالا وعنترة، وسألا عن صاحب الزنج، فقال: ها هو ذا، فقال: نريد كلامه، فأتاه فأخبره بقولهما، وقال له: لو كلمتهما! فزجره، وقال: إن هذا مكيدة، وأمر السودان بقتالهم، فعبروا النهر، فعدلت الخيل عن السودان، ورفعوا علما أسود، وظهر سليمان أخو الزينبي- وكان معهم- ورجع أصحاب صاحب الزنج، وانصرف القوم، فقال لمحمد بن سلم: ألم أعلمك أنهم إنما أرادوا كيدنا! وسار حتى صار إلى دبا، وانبث أصحابه في النخل، فجاءوا بالغنم والبقر، فجعلوا يذبحون ويأكلون، وأقام ليلته هناك، فلما أصبح سار حتى دخل الأرخنج المعروف بالمطهري، وهو أرخنج ينفذ إلى نهر الأمير المقابل للفياض من جانبيه، فوجدوا هناك شهاب بن العلاء العنبري، ومعه قوم من الخول، فأوقعوا به، وأفلت شهاب في نفير ممن كان معه، وقتل من أصحابه جماعة، ولحق شهاب بالمنصف من الفياض، ووجد اصحاب صاحب الزنج ستمائه غلام من غلمان الشورجيين هناك، فاخذوهم، وقتلوا وكلاءهم، وأتوه بهم، ومضى حتى انتهى إلى قصر يعرف بالجوهري على السبخة المعروفة بالبرامكة، فأقام فيه ليلته تلك، ثم سار حيث أصبح حتى وافى السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالديناري، ومؤخرها يفضي إلى النهر المعروف بالمحدث، فأقام بها، وجمع أصحابه، وأمرهم ألا يعجلوا بالذهاب إلى البصرة حتى يأمرهم وتفرق أصحابه في انتهاب كل ما وجدوا، وبات هناك ليلته تلك.
    (9/430)
    ذكر الخبر عن مسير صاحب الزنج بزنوجه وجيوشه فيها إلى البصرة
    ذكر أنه سار من السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالدينارى، ومؤخرها يفضى الى النهر المعروف بالحدث، بعد ما جمع بها أصحابه يريد البصرة، حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحي أتاه قوم من السودان، فأعلموه أنهم رأوا في الرياحي بارقة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى تنادى الزنج السلاح، فامر على بن ابان بالعبور إليهم، وكان القوم في شرقي النهر المعروف بالديناري، فعبر في زهاء ثلاثة آلاف، وحبش صاحب الزنج عنده أصحابه، وقال لعلي: إن احتجت إلى مزيد في الرجال فاستمدني فلما مضى، صاح الزنج: السلاح! لحركة رأوها من غير الجهة التي صار إليها علي، فسأل عن الخبر، فأخبر أنه قد أتاه قوم من ناحية القرية الشارعة على نهر حرب المعروفة بالجعفرية، فوجه محمد بن سلم إلى تلك الناحية.
    فذكر عن صاحبه المعروف بريحان، أنه قال: كنت فيمن توجه مع محمد، وذلك في وقت صلاة الظهر، فوافينا القوم بالجعفرية، فنشب القتال بيننا وبينهم إلى آخر وقت العصر، ثم حمل السودان عليهم حملة صادقة، فولوا منهزمين وقتل من الجند والأعراب واهل البصره البلاليه والسعديه خمسمائة رجل، وكان فتح المعروف بغلام أبي شيث معهم يومئذ، فولى هاربا، فاتبعه فيروز الكبير، فلما رآه جادا في طلبه رماه ببيضة كانت على رأسه، فلم يرجع عنه، فرماه بترسه فلم يرجع عنه، فرماه بتنور حديد كان عليه فلم يرجع عنه، ووافى به نهر حرب، فألقى فتح نفسه فيه، فأفلت ورجع فيروز، ومعه ما كان فتح القاه من سلاحه، حتى أتى به صاحب الزنج.
    قال محمد بن الحسن: قال شبل: حكي لنا ان فتحا ظفر يومئذ نهر حرب، قال: فحدثت هذا الحديث الفضل بن عدي الدارمي،
    (9/431)
    فقال: أنا يومئذ مع السعدية، ولم يكن على فتح تنور حديد، وما كان عليه إلا صدرة حرير صفراء، ولقد قاتل يومئذ حتى لم يبق أحد يقاتل، وأتى نهر حرب، فوثبه حتى صار إلى الجانب الغربي منه ولم يعرف ما حكى ريحان من خبر فيروز.
    قال: وقال ريحان: لقيت فيروز قبل انتهائه إلى صاحب الزنج، فاقتص علي قصته وقصه فتح، وأراني السلاح وأقبل الزنج على أخذ الأسلاب، وأخذت على النهر المعروف بالديناري، فإذا أنا برجل تحت نخلة عليه قلنسوة خز، وخف أحمر ودراعة، فأخذته فأراني كتبا معه، وقال لي: هذه كتب لقوم من أهل البصرة، وجهوني بها، فألقيت في عنقه عمامة، وقدته إليه، وأعلمته خبره، فسأله عن اسمه فقال: أنا محمد بن عبد الله، وأكنى بأبي الليث، من أهل أصبهان، وإنما أتيتك راغبا في صحبتك، فقبله، ولم يلبث أن سمع تكبيرا، فإذا علي بن أبان قد وافاه ومعه رأس البلالي المعروف بأبي الليث القواريري.
    قال: وقال شبل: الذي قتل أبا الليث القواريري وصيف المعروف بالزهري وهو من مذكوري البلالية، ورأس المعروف بعبدان الكسبي، وكان له في البلالية صوت في رءوس جماعة منهم، فسأله عن الخبر فأخبره أنه لم يكن فيمن قاتله أشد قتالا من هذين- يعني أبا الليث وعبدان- وأنه هزمهم حتى ألقاهم في نهر نافذ، وكانت معهم شذاة فغرقها، ثم جاءه محمد بن سلم ومعه رجل من البلالية أسيرا، أسره شبل يقال له محمد الأزرق القواريري، ومعه رءوس كثيرة، فدعا الأسير فسأله عن أصحاب هذين الجيشين، فقال له: أما الذين كانوا في الرياحي فإن قائدهم كان أبا منصور الزينبي، وأما الذين كانوا مما يلي نهر حرب، فإن قائدهم كان سليمان أخا الزينبي من ورائهم مصحرا، فسأله عن عددهم فقال له: لا أحصيهم، إلا أني أعلم أنهم كثير عددهم فأطلق محمد القواريري، وضمه إلى شبل، وسار حتى وافى سبخة
    (9/432)
    الجعفرية، فأقام ليلته بين القتلى، فلما أصبح جمع أصحابه فحذرهم أن يدخل أحد منهم البصرة، وسار فتسرع منهم أنكلويه وزريق وأبو الخنجر- ولم يكن قود يومئذ- وسليم ووصيف الكوفي فوافوا النهر المعروف بالشاذاني، وأتاهم أهل البصرة، وكثروا عليهم، وانتهى الخبر إليه، فوجه محمد بن سلم وعلي بن أبان ومشرقا غلام يحيى في خلق كثير، وجاء هو يسايرهم، ومعه السفن التي فيها الدواب المحمولة ونساء الغلمان حتى أقام بقنطرة نهر كثير قال ريحان: فأتيته وقد رميت بحجر، فأصاب ساقي، فسألني عن الخبر فأخبرته أن الحرب قائمة، فأمرني بالرجوع، وأقبل معي حتى أشرف على نهر السيابجه ثم قال لي: امض إلى أصحابنا، فقل لهم يستأخروا عنهم، فقلت له: ابعد عن هذا الموضع فإني لست آمن عليك الخول فتنحى، ومضيت فأخبرت القواد بما أمر به، فتراجعوا، وأكب أهل البصرة عليهم، وكانت هزيمة وذلك عند العصر، ووقع الناس في النهرين: نهر كثير ونهر شيطان، فجعل يهتف بهم ويردهم فلا يرجعون، وغرق جماعة من أصحابه في نهر كثير، وقتل منهم جماعة على شط النهر وفي الشاذاني، فكان ممن غرق يومئذ من قواده أبو الجون ومبارك البحراني وعطاء البربري وسلام الشامي، ولحقه غلام أبي شيث وحارث القيسي وسحيل، فعلوا القنطرة، فرجع إليهم وانهزموا عنه حتى صاروا إلى الأرض، وهو يومئذ في دراعة وعمامة ونعل وسيف، وترسه في يده، ونزل عن القنطرة وصعدها البصريون يطلبونه، فرجع فقتل منهم بيده رجلا على خمس مراق من القنطرة، وجعل يهتف بأصحابه ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق غلام يحيى قال ريحان: فكنت معه فرجع، حتى صار إلى المعلى، فنزل في غربي نهر شيطان قال محمد بن الحسن: فسمعت صاحب الزنج يحدث، قال: لقد
    (9/433)
    رأيتني في بعض نهار هذا اليوم، وقد ضللت عن أصحابي، وضلوا عني، فلم يبق معي إلا مصلح ورفيق، وفي رجلي نعل سندي، وعلي عمامة قد انحل كور منها فأنا أسحبها من ورائي، ويعجلني المشي عن رفعها، ومعي سيفي وترسي وأسرع مصلح ورفيق في المشي وقصرت، فغابا عني، ورأيت في أثري رجلين من أهل البصرة، في يد أحدهما سيف، وفي يد الآخر حجارة، فلما رأياني عرفاني، فجدا في طلبي، فرجعت إليهما، فانصرفا عني، ومضيت حتى خرجت إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابي، وكانوا قد تحيروا لفقدي، فلما رأوني سكنوا إلى رؤيتي قال ريحان: فرجع بأصحابه إلى موضع يعرف بالمعلى في غربي نهر شيطان، فنزل به، وسأل عن الرجال، فإذا قد هرب كثير منهم، ونظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته، فلم يرجع إليه أحد، وبات ليلته، فلما كان في بعض الليل جاء الملقب بجربان، وقد كان هرب فيمن هرب، ومعه ثلاثون غلاما فسأله: أين كانت غيبته؟ فقال: ذهبت إلى الزوارقة طليعة قال ريحان: ووجهني لا تعرف له من في قنطرة نهر حرب، فلم أجد هناك أحدا، وقد كان أهل البصرة انتهبوا السفن التي كانت معه، وأخذوا الدواب التي كانت فيها في هذا اليوم، وظفروا بمتاع من متاعه، وكتب من كتبه، واصطرلابات كانت معه، فلما أصبح من غد هذا اليوم نظر في عدة أصحابه، فإذا هم ألف رجل قد كانوا ثابوا إليه في ليلتهم تلك قال ريحان: فكان فيمن هرب شبل، وكان ناصح الرملي ينكر هرب شبل قال ريحان: فرجع شبل من غد، ومعه عشرة غلمان، فلامه وعنفه، وسأل عن غلام كان يقال له نادر يكنى بأبي نعجة، وعن عنبر البربري، فأخبر أنهما هربا فيمن هرب، فأقام في موضعه، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى قنطرة نهر كثير، فيعظ الناس ويعلمهم ما الذي دعاه إلى الخروج، فصار محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد، فوقف سليمان ويحيى، وعبر
    (9/434)
    محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة، وجعل يكلمهم، ورأوا منه غرة فانطووا عليه، فقتلوه قال الفضل بن عدي: عبر محمد بن سلم إلى أهل البصرة ليعظهم وهم مجتمعون في أرض تعرف بالفضل بن ميمون، فكان أول من بدر إليه وضربه بالسيف فتح غلام أبي شيث، وأتاه ابن التومني السعدي، فاحتز رأسه، فرجع سليمان ويحيى إليه، فأخبراه الخبر، فأمرهما بطي ذلك عن الناس حتى يكون هو الذي يقوله لهم، فلما صلى العصر نعى محمد بن سلم لأصحابه، وعرف خبره من لم يكن عرفه، فقال لهم: إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة ووجه زريقا وغلاما له يقال له سقلبتويا، وأمرهما بمنع الناس من العبور، وذلك في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن سمعان الكاتب، قال: لما كان في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة جمع له أهل البصرة، وحشدوا له لما رأوا من ظهورهم عليه في يوم الأحد، وانتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي- وكان من غزاة البحر- في الشذا، وله علم بركوبها والحرب فيها، فجمع المطوعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبي البلالية والسعدية، ومن أحب النظر من غير هذه الأصناف من الهاشميين والقرشيين وسائر أصناف الناس، فشحن ثلاثة مراكب من الشذا من الرماة، وجعلوا يزدحمون في الشذا حرصا على حضور ذلك المشهد، ومضى جمهور الناس رجالة، منهم من معه السلاح، ومنهم نظارة لا سلاح معهم، فدخلت الشذا والسفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ النهر، قد سدوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة، وكان صاحب الزنج مقيما بموضعه من النهر المعروف بشيطان قال محمد بن الحسن: فأخبرنا صاحب الزنج أنه لما أحس بمصير الجمع إليه، وأتته طلائعه بذلك وجه زريقا وأبا الليث الأصبهاني في جماعه
    (9/435)
    معهما في الجانب الشرقي من النهر كمينا وشبلا وحسينا الحمامي في جماعة من أصحابه في الجانب الغربي بمثل ذلك، وأمر علي بن أبان ومن بقي معه من جمعه بتلقى القوم، وان يجثوا لهم فيمن معه، ويستتروا بتراسهم فلا يثور إليهم منهم ثائر حتى يوافيهم القوم ويوموا إليهم بأسيافهم، فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم وتقدم إلى الكمينين: إذا جاوزهما الجمع وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبتي النهر، ويصيحا بالناس وأمر نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به قال: وكان يقول لأصحابه بعد ذلك: لما أقبل إلي الجمع يومئذ وعاينته رأيت أمرا هائلا راعني، وملأ صدري رهبة وجزعا، وفزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير، منهم مصلح، وليس منا أحد إلا وقد خيل له مصرعه في ذلك فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع، وجعلت أومي إليه أن يمسك فلما قرب القوم مني قلت: اللهم إن هذه ساعة العسرة، فأعني، فرأيت طيورا بيضا تلقت ذلك الجمع، فلم أستتم كلامي حتى بصرت بسميرية قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا ثم تلتها الشذا، وثار أصحابي إلى القوم الذين قصدوا لهم فصاحوا بهم وخرج الكمينان عن جنبتي النهر من وراء السفن والرجالة، وخبطوا من ولى من الرجالة والنظارة الذين كانوا على شاطئ النهر المعروف، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو الشط طمعا في النجاة، فأدركها السيف، فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق، ولجأ من كان على شاطئ النهر من الرجاله الى النهر فغرقوا وقتلوا، حتى ابير أكثر ذلك الجمع، ولم ينج منهم إلا الشريد، وكثر المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من نسائهم وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس، وأعظموا ما كان فيه من القتل وكان فيمن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر ابن سليمان وأربعون رجلا من الرماة المشهورين، في خلق كثير لا يحصى عددهم.
    (9/436)
    وانصرف الخبيث وجمعت له الرءوس، فذهب إليه جماعة من أولياء القتلى، فعرضها عليهم، فأخذوا ما عرفوا منها، وعبأ ما بقي عنده من الرءوس التي لم يأت لها طالب في جريبية ملأها منها، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر، وأطلقها فوافت البصرة، فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار، فجعل الناس يأتون تلك الرءوس، فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه، وقوي عدو الله بعد هذا اليوم، وتمكن الرعب في قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه وكتب إلى السلطان بخبر ما كان منه، فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة، وأمر أبا الأحوص الباهلي بالمصير إلى الأبلة واليا، وأمده برجل من الأتراك يقال له جريح.
    فزعم الخبيث أن أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة: إنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة، ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ومن لا حراك به، فأذن لنا في تقحمها.
    فزبرهم وهجن آراءهم، وقال لهم: لا بل ابعدوا عنها، فقد أرعبناهم وأخفناهم وأمنتم جانبهم، فالرأي الآن أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم.
    ثم انصرف باصحابه الى سبخه بماخير أنهارهم، إردب يقارب النهر المعروف بالحاجر قال شبل: هي سبخة أبي قرة وقعها بين النهرين: نهر أبي قرة والنهر المعروف بالحاجر.
    فأقام هناك، وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ، وهذه السبخة متوسطة النخل والقرى والعمارات، وبث أصحابه يمينا وشمالا يغير بهم على القرى، ويقتل بهم الأكرة وينهب أموالهم، ويسوق مواشيهم.
    فهذا ما كان من خبره وخبر الناس الذين قربوا من موضع مخرجه في هذه السنة.
    ولليلتين بقيتا من ذي القعدة منها حبس الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وولي عبد الرحمن بن نائل البصري قضاء سامرا في ذي الحجة منها.
    وحج بالناس فيها علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي.
    (9/437)
    ثم دخلت
    سنة ست وخمسين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة)
    ذكر الخبر عن وصول موسى بن بغا الى سامرا واختفاء صالح
    فمن ذلك ما كان من موافاة موسى بن بغا سامرا واختفاء صالح بن وصيف لمقدمه، وحمل من كان مع موسى من قواد المهتدي من الجوسق إلى دار ياجور.
    ذكر أن دخول موسى بن بغا سامرا بمن معه كان يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من هذه السنة، فلما دخلها أخذ في الحير، وعبأ أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا في السلاح، حتى صار إلى باب الحير مما يلي الجوسق والقصر الأحمر، وكان ذلك يوما جلس فيه المهتدي للناس للمظالم، فكان ممن أحضره في ذلك اليوم بسبب المظالم أحمد بن المتوكل بن فتيان، فكان في الدار إلى أن دخل الموالي، فحملوا المهتدي إلى دار ياجور، واتبعه أحمد بن المتوكل إلى ما هناك، فلم يزل موكلا به في مضرب مفلح إلى أن انقطع الأمر، ورد المهتدي إلى الجوسق، ثم أطلق وكان القيم بأمر دار الخلافة بايكباك، فصيرها إلى ساتكين قبل ذلك بأيام، فظن الناس أنه إنما فعل ذلك لثقته بساتكين، وأنه على أن يغلب على الدار والخليفة وقت قدوم موسى فلما كان في ذلك اليوم لزم منزله، وترك الدار خالية، وصار موسى في جيشه إلى الدار، والمهتدي جالس للمظالم، فأعلم بمكانه، فأمسك ساعة عن الإذن، ثم أذن لهم، فدخلوا فجرى من الكلام نحو ما جرى يوم قدم الوفد والرسل، فلما طال الكلام تواطنوا فيما بينهم بالتركية، وأقاموه من مجلسه، وحملوه على دابة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان في الجوسق من دواب الخاصة، ومضوا يريدون الكرخ، فلما صاروا عند باب الحير في القطائع عند دار ياجور أدخلوه دار ياجور.
    فذكر عن بعض الموالي ممن حضرهم ذلك اليوم، أن سبب أخذهم المهتدي
    (9/438)
    ذلك اليوم كان أن بعضهم قال لبعض: إن هذه المطاولة إنما هي حيلة عليكم حتى يكبسكم صالح بن وصيف بجيشه فخافوا ذلك، فحملوه وذهبوا به إلى الموضع الآخر، فذكر عمن سمع المهتدي يقول لموسى: ما تريد ويحك! اتق الله وخفه، فإنك تركب أمرا عظيما قال: فرد عليه موسى: إنا ما نريد إلا خيرا، ولا وتربة المتوكل لا نالك منا شر البتة.
    قال الذي ذكر ذلك: فقلت في نفسي: لو أراد خيرا لحلف بتربة المعتصم أو الواثق.
    ولما صاروا به إلى دار ياجور أخذوا عليه العهود والمواثيق ألا يمايل صالحا عليهم، ولا يضمر لهم إلا مثل ما يظهر، ففعل ذلك، فجددوا له البيعة ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وأصبحوا يوم الثلاثاء، فوجهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة، فوعدهم أن يصير إليهم.
    فذكر عن بعض رؤساء الفراغنة، أنه قيل له: ما الذي تطالبون به صالح ابن وصيف؟ فقال: دماء الكتاب وأموالهم ودم المعتز وأمواله وأسبابه ثم أقبل القوم على إبرام الأمور وعسكرهم خارج باب الحير عند باب ياجور، فلما كانت ليلة الأربعاء استتر صالح، فذكر عن طلمجور أنه قال: لما كانت ليلة الأربعاء اجتمعنا عند صالح، وقد أمر أن يفرق أرزاق أصحاب النوبة عليهم، فقال لبعض من حضره: اخرج فاعرض من حضر من الناس، فكانوا بالغداه زهاء خمسة آلاف قال: فعاد إليه، وقال: يكونون ثمانمائه رجل، أكثرهم غلمانك ومواليك فأطرق مليا، ثم قام وتركنا، ولم يأمر بشيء وكان آخر العهد.
    وذكر عمن سمع بختيشوع يقول وهو يعرض بصالح قبل قدوم موسى.
    حركنا هذا الجيش الخشن، وأرغمناه، حتى إذا أقبل إلينا تشاغلنا بالنرد والشرب، كانا بنا وقد اختفينا إذا ورد القاطول! فكان الأمر كذلك.
    وغدا طغتا إلى باب ياجور سحر يوم الأربعاء فلقيه مفلح، فضربه بطبرزين، فشجه في جانب جبينه الأيمن، فكان الذين أقاموا مع صالح الليلة
    (9/439)
    التي استتر فيها من القواد الكبار طغتا بن الصيغون وطلمجور صاحب المؤيد ومحمد بن تركش وخموش والنوشري، ومن الكتاب الكبار أبو صالح عبد الله ابن محمد بن يزداد وعبد الله بن منصور وأبو الفرج وأصبح الناس يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من المحرم وقد استتر صالح، وغدا أبو صالح إلى دار ياجور، وجاء عبد الله بن منصور، فدخل الدار مع سليمان بن وهب، وتنصح إليهم أن عنده سفاتج بخمسة آلاف دينار.
    وذكر أن صالحا أراده على حملها، فأبى أن يقر الأمر قراره.
    وخلع في هذا اليوم على كنجور ليتولى أمر دار صالح وتفتيشها، ومضى ياجور صاحب موسى فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسا من دار صالح.
    وفي هذا اليوم من هذا الشهر ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام والسواد، ووجه إليه بخلع، وزيد على ما كان يخلع على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر.
    وفيه رد المهتدي إلى الجوسق، ودفع عبد الله بن محمد بن يزداد الى الحسن ابن مخلد.
    وفيه اظهر النداء على صالح
    . ذكر الخبر عن قتل صالح بن وصيف
    ولثمان بقين من صفر من هذه السنة قتل صالح بن وصيف.
    ذكر الخبر عن سبب قتله وسبب الوصول إليه بعد اختفائه:
    ذكر أن سبب ذلك كان أن المهتدي لما كان يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين أظهر كتابا، ذكر أن سيما الشرابي زعم أن امرأة جاءت به مما يلي القصر الأحمر، ودفعته الى كافور الخادم الموكل
    (9/440)
    بالحرم، وقالت له: إن فيه نصيحة، وإن منزلي في موضع كذا فإن أردتموني فاطلبوني هناك، فأوصل الكتاب إلى المهتدي، فلما طلبت في الموضع الذي وصفت حين احتيج إلى بحثها عن الكتاب لم توجد، ولم يعرف لها خبر.
    وقد ذكر أن المهتدي أصاب ذلك الكتاب، ولم يدر من رمى به، فذكر أن المهتدي دعا سليمان بن وهب بحضرة جماعه من الموالي فيهم موسى ابن بغا ومفلح وبايكباك وياجور وبكالبا وغيرهم، فدفع الكتاب إلى سليمان، وقال له: تعرف هذا الخط؟ قال: نعم، هذا خط صالح بن وصيف، فأمره أن يقرأه عليهم، فإذا صالح يذكر فيه أنه مستخف بسامرا، وأنه إنما استتر متخيرا للسلامة وإبقاء على الموالي، وخوفا من إيصال الفتن بحرب إن حدثت بينهم، وقصدا لأن يبيت القوم، ويكون ما يأتونه بعد بصيرة مما ذكر في هذا الباب.
    ثم ذكر ما صار إليه من أموال الكتاب، وقال: إن علم ذلك عند الحسن ابن مخلد، وهو أحدهم، وهو في أيديكم ثم ذكر من وصل إليه ذلك المال وتولى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أمر قبيحة، وأشار إلى أن علم ذلك عند أبي صالح بن يزداد وصالح العطار، ثم ذكر أشياء في هذا المعنى، بعضها يعتذر به وبعضها يحتج به، ومخرج القول في ذلك يدل على قوة في نفسه.
    فلما فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول منه يحث على الصلح والهدنة والألفة والاتفاق، ويكره إليهم الفرقة والتفاني والتباغض، فدعا ذلك القوم إلى تهمته، وأنه يعلم بمكان صالح، وأنه يتقدمهم عنده، فكان بينهم في ذلك كلام كثير ومناظرات طويلة، ثم أصبحوا يوم الخميس لليلتين بقيتا من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين، فصاروا جميعا إلى دار موسى بن بغا في داخل الجوسق يتراطنون ويتكلمون واتصل الخبر بالمهتدي.
    فذكر عن أحمد بن خاقان الواثقى أنه قال: من ناحيتي انتهى الخبر إلى
    (9/441)
    المهتدي، وذلك أني سمعت بعض من كان حاضر المجلس وهو يقول: أجمع القوم على خلع الرجل.
    قال: فصرت إلى أخيه إبراهيم، فأعلمته بذلك، فدخل عليه فأعلمه ذلك، وحكاه عني، فلم أزل خائفا أن يعجل أمير المؤمنين فيخبرهم عني بالخبر، فرزق الله السلامة وذكر أن أخا بايكباك قال لهم في هذا المجلس لما أطلعوه على ما كانوا عزموا عليه: إنكم قتلتم ابن المتوكل، وهو حسن الوجه، سخي الكف، فاضل النفس، وتريدون أن تقتلوا هذا وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بخراسان، ولأشيعن أمركم هناك.
    فلما اتصل الخبر بالمهتدي خرج إلى مجلسه متقلدا سيفا، وقد لبس ثيابا نظافا، وتطيب، ثم أمر بإدخالهم إليه، فأبوا ذلك مليا، ثم دخلوا عليه، فقال لهم: أنه قد بلغني ما أنتم عليه من أمري، ولست كمن تقدمني مثل أحمد بن محمد المستعين، ولا مثل ابن قبيحة، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن أو ليذهبن بها أكثركم إما دين! إما حياء! إما رعة! كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بارطال الشراب فشربها مسرورا بمكروهكم وحبا لبواركم! خبروني عنكم، هل تعلمون أنه وصل إلي من دنياكم هذه شيء! أما إنك تعلم يا بايكباك أن بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتي وولدي، وإن أحببت أن تعرف ذلك فانظر: هل ترى في منازلهم فرشا أو وصائف أو خدما أو جواري! أو لهم ضياع أو غلات! سوءة لكم! ثم تقولون: إني أعلم على صالح، وهل صالح إلا رجل من الموالي، وكواحد منكم! فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه! فإن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجمعكم،
    (9/442)
    وإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه فشأنكم، فاطلبوا صالحا، ثم ابلغوا شفاء أنفسكم، وأما أنا فما أعلم علمه قالوا: فاحلف لنا على ذلك قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكني أؤخرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غدا إذا صليت الجمعة فكأنهم لانوا قليلا، ووجه في إحضار الهاشميين فحضروا في عشيتهم، فأذن لهم، فسلموا ولم يذكر لهم شيئا، وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة، فانصرفوا، وغدا الناس يوم الجمعة ولم يحدثوا شيئا، وصلى المهتدي، وسكن الناس وانصرفوا هادنين.
    وذكر عن بعض من سمع الكلام في يوم الأربعاء يقول: إن المهتدي لما خون صالح قال: إن بايكباك قد كان حاضرا ما عمل به صالح في أمر الكتاب ومال ابن قبيحة، فإن كان صالح قد أخذ من ذلك شيئا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك، فكان ذلك الذي أحفظ بايكباك.
    وقال آخر: أنه سمع هذا القول، وإنه ذكر محمد بن بغا، وقال: قد كان حاضرا وعالما بما أجروا عليه الأمر، والشريك في ذلك أجمع فأحفظ ذلك أبا نصر.
    وقد قيل: إن القوم من لدن قدم موسى كانوا مضمرين هذا المعنى، منطوين على الغل، وإنما كان يمنعهم منه خوف الاضطراب وقلة الأموال، فلما ورد عليهم مال فارس والأهواز تحركوا، وكان ورود ذلك عليهم يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم، ومبلغه سبعة عشر ألف الف درهم وخمسمائة الف درهم
    ذكر الخبر عن خروج العامه على المهتدى
    فلما كان يوم السبت انتشر الخبر في العامة أن القوم على أن يخلعوا المهتدي، ويفتكوا به، وأنهم أرادوه على ذلك، وأرهقوه، وكتبوا الرقاع وألقوها في المسجد الجامع والطرقات، فذكر بعض من زعم أنه قرأ رقعة منها فيها:
    (9/443)
    بسم الله الرحمن الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضى المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره على عدوه، ويكفيه مؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مخلد، رحم الله من أخلص النية ودعا وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم! فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر من هذه السنة، تحرك الموالي بالكرخ والدور، ووجهوا إلى المهتدي على لسان رجل منهم يقال له عيسى: إنا نحتاج أن نلقي إلى أمير المؤمنين شيئا، وسألوا أن يوجه أمير المؤمنين إليهم أحد إخوته، فوجه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم، وهو أكبر إخوته، ووجه معه محمد بن مباشر المعروف بالكرخي، فمضيا إليهم، فسألاهم عن شأنهم، فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وانه بلغهم ان موسى ابن بغا وبايكباك وجماعة من قوادهم يريدونه على الخلع، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنهم قد قرءوا بذلك رقاعا ألقيت في المسجد والطرقات، وشكوا مع ذلك سوء حالهم، وتأخر أرزاقهم، وما صار من الإقطاعات إلى قوادهم التي قد أجحفت بالضياع والخراج، وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات من الرسوم القديمة مع أرزاق النساء والدخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج وكثر كلامهم في ذلك، فقال لهم ابو القاسم عبد الله ابن الواثق: اكتبوا هذا في كتاب إلى أمير المؤمنين، أتولى إيصاله لكم، فكتبوا ذلك، وكاتبهم في الذي يكتبون محمد بن ثقيف الأسود، وكان يكتب لعيسى صاحب الكرخ أحيانا وانصرف أبو القاسم ومحمد بن مباشر، فأوصلا الكتاب إلى المهتدي، فكتب جوابه بخطه، وختمه بخاتمه، وغدا أبو القاسم إلى الكرخ، فوافاهم فصاروا به إلى دار أشناس وقد صيروها مسجدا جامعا لهم، فوقف ووقفوا له في الرحبة، واجتمع منهم زهاء مائة وخمسين فارسا ونحو من خمسمائة راجل، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقال: يقول
    (9/444)
    لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطي وخاتمي، فاسمعوه وتدبروه، ثم دفع الكتاب إلى كاتبهم فقرأه، فإذا فِيهِ:
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم وليا وحافظا فهمت كتابكم، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم، وتولى حياطتكم، فأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم، فعزيز علي ذلك فيكم، ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بألا آكل ولا أطعم ولدي وأهلي إلا القوت الذي لا شبع دونه، ولا ألبس أحدا من ولدي إلا ما ستر العورة، ولا والله- حاطكم الله- ما صار إلي منذ تقلدت أمركم لنفسي وأهلي وولدي ومتقدمي غلماني وحشمي إلا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد، كل ذلك مصروف إليكم، غير مدخر عنكم وأما ما ذكرتم مما بلغكم، وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق، وما بذلتم من أنفسكم، فأنتم أهل ذلك وأين تعتذرون مما ذكرتم ونحن وأنتم نفس واحدة! فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأمانتكم خيرا وليس الأمر كما بلغكم، فعلى ذلك فليكن عملكم إن شاء الله وأما ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبتكم إن شاء الله والسلام عليكم أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم حافظا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.
    فلما بلغ القارئ من الكتاب إلى الموضع الذي قال: ولم يصل إلي إلا قدر خمسة عشر ألف دينار، أشار أبو القاسم إلى القارئ، فسكت ثم قال:
    وهذا ما قدر، هذا قد كان أمير المؤمنين في أيام إمارته يستحق في أقل من هذه المدة ما هو أكثر منه بأرزاقه وإنزاله ومعونته، وقد تعلمون ما كان من تقدمه يصرفه في صلات المخنثين والمغنين وأصحاب الملاهي وبناء القصور وغير ذلك، فادعوا الله لأمير المؤمنين ثم قرأ الكتاب حتى أتى على الكتاب
    (9/445)
    فلما فرغ كثر الكلام وقالوا قولا، فقال لهم أبو القاسم: اكتبوا بذلك كتابا صدروه على مجاري الكتب إلى الخلفاء، واكتبوه عن القواد وخلفائهم والعرفاء بالكرخ والدور وسامرا فكتبوا- بعد أن دعوا الله فيه لأمير المؤمنين:
    إن الذي يسألون، أن ترد الأمور إلى أمير المؤمنين في الخاص والعام، ولا يعترض عليه معترض، وأن ترد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين بالله، وهو أن يكون على كل تسعة منهم عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون، ولا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها، وأن يوضع لهم العطاء في كل شهرين على ما لم يزل، وأن تبطل الإقطاعات، وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من شاء ويرفع من شاء وذكروا أنهم صائرون في أثر كتابهم إلى باب أمير المؤمنين، ومقيمون هناك إلى أن تقضى حوائجهم وأنه إن بلغهم أن أحدا اعترض أمير المؤمنين في شيء من الأمور أخذوا رأسه، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا به موسى بن بغا وبايكباك ومفلحا وياجور وبكالبا وغيرهم.
    ودعوا الله لأمير المؤمنين ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم فانصرف به حتى أوصله، وتحرك الموالي بسامرا، واضطرب القواد جدا، وقد كان المهتدي قعد للمظالم وأدخل الفقهاء والقضاة، وأخذوا مجالسهم، وقام القواد في مراتبهم، وسبق دخول أبي القاسم دخول المتظلمين.
    فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة، وخلا بموسى بن بغا، ثم أمر سليمان بن وهب أن يوقع في رقعتهم بإجابتهم إلى ما سألوا، فلما فعل ذلك في فصل من الكتاب أو فصلين، قال أبو القاسم: يا أمير المؤمنين، لا يقنعهم إلا خط أمير المؤمنين وتوقيعه، فأخذ المهتدي كتابهم فضرب على ما كان سليمان وقع في ذلك، ووقع في كل باب بإجابتهم إلى ما سألوا، وبأن يفعل ذلك ثم كتب كتابا مفردا بخطه وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أبي القاسم، فقال أبو القاسم لموسى وبايكباك ومحمد بن بغا: وجهوا إليهم معي رسلا يعتذرون إليهم مما بلغهم عنكم فوجه كل واحد منهم رجلا، وصار أبو القاسم إليهم وهم في مواضعهم،
    (9/446)
    وقد صاروا زهاء ألف فارس وثلاثة آلاف راجل، وذلك.
    في وقت الظهر من يوم الخميس لخمس ليال خلون من صفر من هذه السنة، فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام، وقال لهم: إن أمير المؤمنين، قد أجابكم إلى كل ما سألتم، فادعوا الله لأمير المؤمنين ثم دفع كتابهم الى كاتبهم، فقراه عليهم بما فيه من التوقيعات، ثم قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فإذا فيه:
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم، أرشدكم الله وحاطكم، وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم فهمت كتابكم، وقرأته على رؤسائكم، فذكروا مثل الذي ذكرتم، وسألوا مثل الذي سألتم، وقد أجبتكم إلى جميع ما سألتم محبة لصلاحكم وألفتكم واجتماع كلمتكم، وقد أمرت بتقرير أرزاقكم، وأن تصير دارة عليكم، فليست لكم حاجة إلى حركة، فطيبوا نفسا، والسلام أرشدكم الله وحاطكم وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم! فلما فرغ القارئ من الكتاب، قال لهم ابو القاسم: وهؤلاء رسل رؤسائكم يعتذرون إليكم من شيء إن كان بلغكم عنهم، وهم يقولون: إنما أنتم إخوة، وأنتم منا وإلينا.
    وتكلم الرسل بمثل ذلك، فتكلموا أيضا كلاما كثيرا، ثم كتبوا كتابا يعتذرون فيه بمثل العذر الأول إلى أمير المؤمنين، وذكروا فيه خصالا مما ذكروه في الكتاب الذي قبله، ووصفوا أنه لا يقنعهم إلا أن ينفذ إليهم خمس توقيعات، توقيعا بحط الزيادات، وتوقيعا برد الإقطاعات، وتوقيعا بإخراج الموالي البوابين من الخاصة إلى عداد البرانيين، وتوقيعا برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين، وتوقيعا برد التلاجئ حتى يدفعوها إلى رجل يضمون إليه خمسين رجلا من أهل الدور، وخمسين رجلا من أهل سامرا ينتجزون من الدواوين، ثم يصير أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته أو غيرهم ممن يرى ليسفر بينه وبينهم بأمورهم، ولا يكون رجلا من الموالي، وأن يؤمر صالح بن وصيف فيحاسب هو وموسى بن بغا على ما عندهم من الأموال، وأنه لا يرضيهم دون ما سألوا في كتبهم كلها مع تعجيل العطاء، وإدرار أرزاقهم عليهم في كل شهرين،
    (9/447)
    وأنهم قد كتبوا إلى أهل سامرا والمغاربة في موافاتهم، وأنهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين لينجز ذلك لهم، ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم أخي أمير المؤمنين، وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا وبايكباك ومحمد بن بغا ومفلح وياجور وبكالبا وغيرهم من القواد الذين ذكروا أنهم كتبوا كتابا، ذكروا فيه أنهم قد كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا، وأن أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إلا أن يعترضوا عليه، وأنهم إن فعلوا ذلك وخالفوهم لم يوافقوهم على شيء، وأن أمير المؤمنين إن شاكته شوكة أو أخذ من رأسه شعرة، أخذوا رءوسهم جميعا، وأنه ليس يقنعهم إلا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى ابن بغا، حتى ينظر أين موضع الأموال، فإن صالحا قد كان وعدهم قبل استتاره أن يعطيهم أرزاق ستة أشهر.
    ثم دفعوا هذا الكتاب إلى رسول موسى، ووجهوا مع أبي القاسم عدة نفر منهم، ليوصلوا إلى أمير المؤمنين كتابهم، وليستمعوا كلامه.
    فلما رجع أبو القاسم وجه موسى زهاء خمسمائة فارس، فوقفوا على باب الحير بين الجوسق والكرخ، فمال إليهم أبو القاسم ورسل القوم ورسل أنفسهم، فدفع رسول موسى إلى موسى كتاب القوم إليه وإلى أصحابه- وفي الجماعة سليمان بن وهب وولده وأحمد بن محمد بن ثوابة وغيرهم من الكتاب- فلما قرأ الكتاب عليهم أعلمهم أبو القاسم أن معه كتابا من القوم إلى أمير المؤمنين، ولم يدفعه إليهم فركبوا جميعا وانصرفوا إلى المهتدي، فوجدوه في الشمس قاعدا على لبد، قد صلى المكتوبة، وكسر جميع ما كان في القصر من الملاهي وآلاتها وآلات اللعب والهزل، فدخلوا فأوصلوا إليه الكتب، وخلوا مليا ثم أمر المهتدي سليمان بن وهب بإنشاء الكتب على ما سألوا في خمس رقاع، فأنفذها المهتدي في درج كتاب منه بخطه، ودفعه إلى أخيه، وكتب القواد إليهم جواب كتابهم، ودفعوه إلى صاحب موسى، فصار إليهم أبو القاسم في وقت المغرب، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقرأ عليهم كتابه، فإذا فِيهِ:
    (9/448)
    بسم الله الرحمن الرحيم وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه فهمت كتابكم حاطكم الله، وقد أنفذت إليكم التوقيعات الخمس على ما سألتم، فوكلوا من يتنجزها من الدواوين إن شاء الله وأما ما سألتم من تصيير أمركم إلى أحد إخوتي ليوصل الى أخباركم، ويؤدى الى حوائجكم، فو الله إني لأحب أن أتفقد ذلك بنفسي، وأن أطلع على كل أمركم وما فيه مصلحتكم، وأنا مختار لكم الرجل الذي سألتم، من إخوتي أو غيرهم إن شاء الله، فاكتبوا إلي بحوائجكم وما تعلمون أن فيه صلاحكم، فإني صائر من ذلك إلى ما تحبون إن شاء الله، وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه وأوصل إليهم رسول موسى كتاب موسى وأصحابه، فإذا فيه:
    بسم الله الرحمن الرحيم أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم، فهمنا كتابكم، وإنما أنتم إخواننا وبنو عمنا، ونحن صائرون إلى ما تحبون، وقد أمر أمير المؤمنين أعزه الله في كل ما سألتم بما تحبون وأنفذ التوقيعات به إليكم.
    واما ذكرتم من أمر صالح مولى أمير المؤمنين وتغيرنا له فهو الأخ وابن العم، وما أردنا من ذلك ما تكرهون، فإن وعدكم أن يعطيكم أرزاق ستة أشهر فقد رفعنا إلى أمير المؤمنين رقاعا، نسأله مثل الذي سألتم وأما ما قلتم من ترك الاعتراض على أمير المؤمنين وتفويض الأمر إليه، فنحن سامعون مطيعون لأمير المؤمنون، والأمور مفوضة إلى الله وهو مولانا ونحن عبيده، وما نعترض عليه في شيء من الأمور أصلا وأما ما ذكرتم أنا نريد بامير المؤمنين سوءا، فمن أراد ذلك فجعل الله دائرة السوء عليه، وأخزاه في دنياه وآخرته أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم! فلما قرأ الكتابات عليهم، قالوا لأبي القاسم: هذا المساء قد أقبل، ننظر في أمرنا الليلة، ونعود بالغداة لنعرفك رأينا فافترقوا، وانصرف أبو القاسم إلى امير المؤمنين
    (9/449)
    ثم أصبح القوم من غداة يوم الجمعة، فلما كان في آخر الساعة الأولى، ركب موسى بن بغا من دار أمير المؤمنين، وركب الناس معه وهم قدر الف وخمسمائة رجل، حتى خرج من باب الحير الذي يلي القطائع من الجوسق والكرخ، فعسكر هناك، وخرج أبو القاسم أخو المهتدي، ومعه الكرخي، حتى صار الى القوم، وهم زهاء خمسمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وقد كان أبو القاسم انصرف في الليل ومعه التوقيعات، فلما صار بينهم أخرج كتابا من المهتدي نسخته شبيه بالكتاب الذي في درجه التوقيعات فلما قرأ الكتاب ضجوا، واختلفت أقاويلهم، وكثر من يلحق بهم من رجالة الموالي من ناحية سامرا في الحير، فلم يزل أبو القاسم ينتظر أن ينصرف من عندهم بجواب يحصله يؤديه إلى أمير المؤمنين، فلم يتهيأ ذلك إلى الساعة الرابعة، وانصرفوا، فطائفة يقولون: نريد أن يعز الله أمير المؤمنين، ويوفر علينا أرزاقنا، فإنا قد هلكنا بتأخيرها عنا وطائفة يقولون: لا نرضى حتى يولي علينا أمير المؤمنين إخوته، فيكون واحد بالكرخ، وآخر بالدور، وآخر بسامرا، ولا نريد أحدا من الموالي يكون علينا رأسا وطائفة تقول:
    نريد أن يظهر صالح بن وصيف- وهي الأقل.
    فلما طال الكلام بهذا منهم، انصرف أبو القاسم إلى المهتدي بجملة من الخبر، وبدأ بموسى في الموضع الذي هو معسكر فيه، فانصرف بانصرافه، فلما صلى المهتدي الجمعة صير الجيش إلى محمد بن بغا، وأمره بالمصير إلى القوم مع أخيه أبي القاسم، فركب معه محمد بن بغا في زهاء خمسمائة فارس، ورجع موسى إلى الموضع الذي كان فيه بالغداة، ومضى ابو القاسم ومحمد ابن بغا حتى خالطا القوم، وأحاط الجميع به، فقال أبو القاسم لهم: إن أمير المؤمنين يقول: قد أخرجت التوقيعات لكم بجميع ما سألتم، ولم يبق لكم مما تحبون شيء إلا وأمير المؤمنين يبلغ فيه الغاية، وهذا أمان لصالح بن وصيف بالظهور وقرأ عليهم أمانا لصالح، بأن موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأجابهما إليه، وأكده بغاية التأكيد، ثم قال: فعلام
    (9/450)
    اجتماعكم! فأكثروا الكلام، فكان الذي حصله عند انصرافه أن قالوا: نريد أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير، وصالح في مرتبة وصيف أيام بغا، وبايكباك في مرتبته الأولى، ويكون الجيش في يد من هو في يده، الى ان يظهر صالح ابن وصيف، فيوضع لهم العطاء، وتتنجز لهم الأرزاق بما في التوقيعات.
    فقال: نعم فانصرف القوم، فلما صاروا على قدر خمسمائة ذراع اختلفوا، فقال قوم: قد رضينا، وقال قوم: لم نرض، وانصرف رسل المهتدي إليه: إن القوم قد تفرقوا، وهم على أن ينصرفوا، فانصرف موسى عند ذلك، وتفرق الناس إلى مواضعهم من الكرخ والدور وسامرا فلما كان غداة يوم السبت، ركب ولد وصيف وجماعة من مواليهم وغلمانهم، وتنادى الناس: السلاح! وانتهب دواب العامة الرجالة، رجالة أصحاب صالح بن وصيف، ومضوا فعسكروا بسامرا في طرف وادي إسحاق بن إبراهيم، عند مسجد لجين أم ولد المتوكل وركب أبو القاسم عند ذلك يريد دار المهتدي، فمر بهم في طريقه، فتعلقوا به وبمن كان معه من حشمه وغلمانه، فقالوا له: تؤدي إلى أمير المؤمنين عنا رسالة؟
    فقال لهم: قولوا، فخلطوا ولم يتحصل من قولهم شيئا إلا: إنا نريد صالحا، فمضى حتى أدى إلى أمير المؤمنين ذلك وإلى موسى، وجماعة القواد حضور.
    فذكر عمن حضر المجلس أن موسى بن بغا، قال: يطلبون صالحا مني، كأني أنا أخفيته وهو عندي! فإن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه.
    وتأكد عندهم الخبر باجتماع القوم، وتحلب الناس إليهم، وتهايجوا من دار أمير المؤمنين، فركبوا في السلاح، وأخذوا في الحير حتى اجتمعوا ما بين الدكة وظهر المسجد الجامع، فاتصل الخبر بالأتراك ومن كان ضوى إليهم، فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوي فارس على راجل، ولا كبير على صغير حتى دخلوا الدروب والأزقة، ولحقوا بمنازلهم، وزحف موسى وأصحابه جميعا، فلم يبق بسامرا قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلا ركب معه، ولزموا الحير
    (9/451)
    حتى خرجوا مما يلي الحائطين ثم خرجوا، فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم، ثم عطفوا إلى شارع أبي أحمد، حتى لحقوا بجيش موسى وأما موسى وجماعة القواد الذين كانوا معه مثل ياجور وساتكين ويارجوخ وعيسى الكرخي، فإنهم سلكوا على سمت شارع أبي أحمد، حتى صاروا إلى الوادي، وانصرفوا إلى الجوسق، فكان تقدير الجيش الذين كانوا مع موسى في هذا اليوم- وهو يوم السبت- أربعة آلاف فارس في السلاح والقسي الموترة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات.
    وكان أكثر القواد الذين كانوا بالكرخ يطلبون صالحا مع موسى في هذا الجيش يريدون محاربة من يطلب صالحا.
    وقد ذكر عن بعض من تخير أمرهم، أن أكثر من كان راكبا مع موسى كان هواه مع صالح، ولم يكن للكرخيين والدوريين في هذا اليوم حركة، فلما وصل القوم إلى الجوسق كان أول ما ظهر منهم النداء بأن من لم يحضر دار أمير المؤمنين في غداة يوم الأحد من قواد صالح وأهله وغلمانه وأصحابه أسقط اسمه، وخرب منزله، وضرب وقيد وحذر إلى المطبق، ومن وجد بعد ثالثة من هذه الطبقة ظاهرا بعد استتار، فقد حل به مثل ذلك، ومن أخذ دابة لعامي أو تعرض له في طريق، فقد حلت به العقوبة الموجعة.
    وبات الناس ليلة الأحد لثمان خلون من صفر على ذلك، فلما كان غداة يوم الاثنين انتهى إلى المهتدي أن مساورا الشاري صار إلى بلد، فقتل بها وحرق، فنادى في مجلسه بالنفير، وأمر موسى ومفلحا وبايكباك بالخروج، وأخرج موسى مضاربه، فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر بطل أمر موسى ومحمد بن بغا ومفلح في الخروج، وقالوا: لا يبرح
    (9/452)
    أحد منا حتى ينقطع أمرنا وأمر صالح، وهم مجمعون على ذلك، يخافون من صالح أن يخلفهم بمكروه.
    وذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت بعض بني وصيف- وهو الذي كان جمع تلك الجموع- يلعب مع موسى وبايكباك بالصوالجة في ميدان بغا الصغير يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر ثم جد هؤلاء في طلب صالح بن وصيف، فهجم بسببه على جماعة ممن كان متصلا به قبل ذلك وممن اتهموه أنه آواه، منهم إبراهيم بن سعدان النحوي وإبراهيم الطالبي وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر الشيعي وأبو الأحوص بن أحمد بن سعيد ابن سلم بن قتيبة وأبو بكر ختن أبي حرملة الحجام وشارية المغنية والسرخسي صاحب شرطة الخاصة وجماعة غيرهم.
    فذكر عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، قال:
    حدثني صاحب ربع القبة- وهو ربع تلقاء دار صالح بن وصيف- قال:
    بينا نحن قعود يوم الأحد، إذا غلام قد خرج من زقاق، وأراه مذعورا، فأنكرناه، فأردنا مسألته عن شأنه، ففاتنا، فلم نلبث أن أقبل عيار من موالي صالح بن وصيف يعرف بروزبه، ومعه ثلاثة نفر أو أربعة، فدخلوا الزقاق، فأنكرناهم، فلم يلبثوا أن خرجوا، وأخرجوا صالح بن وصيف، فسألنا عن الخبر، فإذا الغلام قد دخل دارا في الزقاق يطلب ماء ليشربه قال: فسمع قائلا يقول بالفارسية: أيها الأمير تنح، فإن غلاما قد جاء يطلب ماء، فسمع الغلام ذلك، وكان بينه وبين هذا العيار معرفة، فجاء فأخبره، فجمع العيار ثلاثة أناسي، وهجم عليه فأخرجه.
    وذكر عن العيار الذي هجم عليه، أنه قال: قال لي الغلام ما قال، فأقبلت ومعي ثلاثة نفر، فإذا بصالح بن وصيف بيده مرآة ومشط، وهو يسرح لحيته، فلما رآني بادر فدخل بيتا، فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح، فتلومت ثم نظرت إليه، فإذا هو قد لجأ إلى زاوية، فدخلت
    (9/453)
    إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا قال: فلما تضرع إلي قلت:
    ليس إلى تركك سبيل، ولكني أمر بك على أبواب إخوتك وأصحابك وقوادك وصنائعك، فإن اعترض لي منهم اثنان أطلقتك في أيديهم قال: فأخرجته فما لقيت إلا من هو عوني على مكروهه.
    فذكر أنه لما أخذ مضى به نحو ميلين، ليس معه إلا أقل من خمسة نفر من أصحاب السلطان وذكر أنه أخذ حين أخذ، وعليه قميص ومبطنة ملحم وسراويل، وليس على رأسه شيء وهو حاف.
    وقيل أنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه، حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا، فلما صاروا به إلى دار موسى بن بغا أتاه بايكباك ومفلح وياجور وساتكين وغيرهم من القواد، ثم أخرجوه من باب الحير الذي يلي قبلة المسجد الجامع، ليذهبوا به إلى الجوسق، وهو على بغل بإكاف، فلما صاروا به إلى حد المنارة، ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذه منها، ثم احتزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى المهتدي، فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما، فوصلوا به إليه، وقد قام لصلاة المغرب، فلم يره، فأخرجوه ليصلح، فلما قضى المهتدى صلاته، وخبروه انهم قتلوا صالحا، وجاءوا برأسه لم يزدهم على أن قال: واروه، وأخذ في تسبيحه.
    ووصل الخبر إلى منزله، فارتفعت الواعية وباتوا ليلتهم.
    فلما كان يوم الاثنين لسبع بقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة، وطيف به، ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ونصب بباب العامة ساعة ثم نحي، وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعا، وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح يوم الاثنين، فدفع إلى أهله ليدفنوه.
    فذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت مفلحا وقد نظر إلى رأس بغا،
    (9/454)
    فبكى وقال: قتلني الله إن لم أقتل قاتلك، فلما كان يوم الخميس لأربع بقين من صفر، وجه موسى بالرأس إلى أم الفضل ابنة وصيف، وهي امرأة النوشري، وكانت قبله عند سلمة بن خاقان.
    فذكر عن بعض بني هاشم أنه قال: هنأت موسى بن بغا بقتل صالح فقال: كان عدو أمير المؤمنين استحق القتل قال: وهنأت بايكباك بذلك، فقال: ما لي أنا وهذا! إنما كان صالح أخي، فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف:
    ونلت وترك من فرعون حين طغى ... وجئت إذ جئت يا موسى على قدر
    ثلاثة كلهم باغ أخو حسد ... يرميك بالظلم والعدوان عن وتر
    وصيف بالكرخ ممثول به وبغا ... بالجسر محترق بالجمر والشرر
    وصالح بن وصيف بعد منعفر ... في الحير جيفته، والروح في سقر
    وفي مستهل جمادى الأولى من هذه السنة رحل موسى بن بغا وبايكباك إلى مساور، وشيعهم محمد بن الواثق.
    وفي جمادى الأولى أيضا منها التقى مساور بن عبد الحميد وعبيدة العمروسي الشاري بالكحيل، وكانا مختلفي الآراء، فظفر مساور بعبيدة فقتله.
    وفي هذا الشهر من هذه السنة التقى مساور الشاري ومفلح، فحدثت عن مساور، أنه انصرف من الكحيل بعد قتله العمروسي، وقد كلم كثير من أصحابه فلم تندمل كلومهم، ولغبوا من الحرب التي كانت جرت بين الفريقين إلى عسكر موسى ومن ضمه ذلك العسكر وهم حامون، فأوقع بهم، فلما لم يصل إلى ما أراد منهم من الظفر بهم، وكان التقاؤهم بجبل زيني تعلق هو وأصحابه بالجبل فصاروا إلى ذروته، ثم أوقدوا النيران، وركزوا رماحهم،
    (9/455)
    وعسكر موسى بسفح الجبل ثم هبط مساور وأصحابه من الجبل، من غير الوجه الذي عسكر به موسى، فمضى وموسى وأصحابه يحسبون انهم فوق الجبل ففاتوهم.
    ذكر الخبر عن خلع المهتدى ثم موته
    وفي رجب من هذه السنة لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.
    ذكر الخبر عن سبب خلعه ووفاته:
    ذكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة، يطلبون أرزاقهم، فوجه إليهم المهتدي طبايغو الرئيس عليهم وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا: نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين مشافهة وخرج أبو نصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه، وهو بالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم، وذلك يوم الأربعاء، فكلمهم المهتدي بكلام كثير، وقطع العطاء عن الناس يوم الأربعاء والخميس والناس متوقفون حتى يعرفوا ما يصنع موسى بن بغا، وكان موسى وضع العطاء في عسكره لشهر، وكان على مناجزة الشاري إذ استوى أصحابه، فوقع الاختلاف، ومضى موسى يريد طريق خراسان.
    واختلف في سبب الاختلاف الذي جرى، فصار من أجله موسى إلى طريق خراسان، والسبب الذي من أجله خرج المهتدي لحرب من حاربه من الأتراك، فقال بعضهم: كان السبب الذي من أجله تنحى موسى عن وجه الشاري وترك حربه وصار إلى طريق خراسان، أن المهتدي استمال بايكباك، وهو مع موسى مقيم في وجه الشاري مساور، وكتب إليه يأمره أن يضم العسكر الذي مع موسى إلى نفسه، وأن يكون هو الأمير عليهم، وأن يقتل موسى بن بغا ومفلحا، أو يحملهما إليه مقيدين فلما وصل الكتاب إلى بايكباك، أخذه ومضى به إلى موسى بن بغا، فقال: إني لست أفرح بهذا، وإنما هذا
    (9/456)
    تدبير علينا جميعا، وإذا فعل بك اليوم شيء فعل بي غدا مثله، فما ترى؟
    قال: أرى أن تصير إلى سامرا، فتخبره أنك في طاعته، وناصره على موسى ومفلح، فإنه يطمئن إليك، ثم ندبر في قتله.
    فقدم بايكباك فدخل على المهتدي، وقد مضوا إلى منازلهم كما قدموا من عند الشاري، فأظهر له المهتدي الغضب، وقال: تركت العسكر، وقد أمرتك أن تقتل موسى ومفلحا، وداهنت في أمرهما! قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لي بهما؟ وكيف يتهيأ لي قتلهما؟ وهما أعظم جيشا مني، وأعز مني! ولقد جرى بيني وبين مفلح شيء في بعض الأمر، فما انتصفت منه، ولكني قد قدمت بجيشي وأصحابي ومن أطاعني لأنصرك عليهما، وأقوي أمرك، وقد بقي موسى في أقل العدد قال: ضع سلاحك، وأمر بإدخاله دارا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا سبيل مثلي إذا قدم من مثل هذا الوجه، حتى أصير إلى منزلي، وآمر أصحابي وأهلي بأمري قال: ليس إلى ذلك سبيل، أحتاج إلى مناظرتك فأخذ سلاحه، فلما أبطأ خبره على أصحابه سعى فيهم أحمد بن خاقان حاجب بايكباك، فقال: اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث، فجاشت الترك، وأحاطوا بالجوسق فلما رأى ذلك المهتدي وعنده صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور شاوره، وقال:
    ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنه لم يبلغ أحد من آبائك ما بلغته من الشجاعة والإقدام، وقد كان أبو مسلم أعظم شأنا عند أهل خراسان من هذا التركي عند أصحابه، فما كان إلا أن طرح رأسه إليهم حتى سكنوا، وقد كان فيهم من يعبده ويتخذه ربا، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا، فأنت أشد من المنصور إقداما، وأشجع قلبا فأمر المهتدي الكرخي- واسمه محمد ابن المباشر، وكان حدادا بالكرخ يطرق المسامير، فانقطع الى المهدى ببغداد فوثق به ولزمه- فأمره بضرب عنق بايكباك، فضرب عنقه، والأتراك مصطفون في الجوسق في السلاح، يطلبون بايكباك، فأمر المهتدي عتاب بن عتاب القائد
    (9/457)
    أن يرميهم برأسه فأخذ عتاب الرأس، فرمى به إليهم، فتأخروا وجاشوا، ثم شد رجل منهم على عتاب، فقتله، فوجه المهتدي إلى الفراغنه والمغاربه والاوكشبيه والأشروسنية والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين والسويق، فجاءوا، فكانت بينهم قتلى كثيرة، كثر فيها الناس، فقيل: قتل من الأتراك الذين قاتلوا نحو من أربعة آلاف، وقيل ألفان وقيل ألف، وذلك يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب من هذه السنة ثم تتام القوم يوم الأحد، فاجتمع جميع الأتراك، فصار أمرهم واحدا، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغيتا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمسمائة، مع من جاء مع طوغيتا من الأتراك والعجم، وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي، والمصحف في عنقه، يدعو الناس إلى أن ينصروا خليفتهم فلما التحم الشر مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفراغنة والمغاربة ومن خف معه من العامة، فحمل عليهم طوغيتا أخو بايكباك حملة ثائر حران موتور، فنقض تعبيتهم، وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزما، والسيف في يده مشهور، وهو ينادي: يا معشر الناس، انصروا خليفتكم، حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهي بعد خشبة بابك، وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه، ولبس البياض ليعلو دارا وينزل أخرى ويهرب فطلب فلم يوجد، وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارسا يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد، فرمي بسهم وبعج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائسا حتى صار به إلى داره، فدخلوا عليه، فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثى، فاقر لهم بستمائة ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خسف الواضحه مغنيه، فأخذوا رقعته بستمائة ألف دينار، ودفعوه إلى رجل، فوطئ على خصييه حتى قتله
    (9/458)
    وقال بعضهم: كان السبب وأول الخلاف، أن اللاحقين من أولاد الأتراك اجتمعوا، وقالوا: لا نرضى أن يكون علينا رئيس غير أمير المؤمنين، وكتبوا إلى موسى بن بغا وبايكباك، وهما في وجه الشاري، فوافى موسى في رجاله حتى صار إلى قنطرة في ناحية الوزيرية يوم الجمعة، وعسكر المهتدي في الحير، وقرب منهم، ثم خرج إلى الجوسق، وعليه السلاح، فلما كان يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب، دخل بايكباك طائعا، ومضى موسى إلى ناحية طريق خراسان في نحو من ألفي رجل، وجاء المهتدي رجل من الموالي، فقال له: إن بايكباك قد وعد موسى أن يفتك بك في الجوسق، فأخذ المهتدى بايكباك، وأمر بنزع سلاحه وحبسه، فحبس يوم السبت إلى وقت العصر، ثم خرج أهل الكرخ وأهل الدور يطلبونه، وانصرفوا وبكروا يوم الأحد، فلم يتخلف منهم أحد إلا حضر راكبا وراجلا في السلاح، فلما صاروا إلى الجوسق، صلى المهتدي الظهر، وخرج إليهم في الفراغنة والمغاربة، فتطارد لهم الأتراك، فحملوا عليهم فلما تبعوهم خرج كمين لهم، فقتل من الفراغنة والمغاربة جماعة كبيرة، وهرب المهتدي، ومر على باب أبي الوزير وغلام له يصيح: يا معشر الناس، هذا خليفتكم، وتراكض الأتراك خلفه، فدخل دار أحمد بن جميل، وتسلق المهتدي من دار إلى دار، وأحدق الأتراك بتلك الناحية كلها، فأخرجوه من دار غلام لعبد الله بن عمر البازيار، وحملوه وبه طعنة في خاصرته على برذون أعجف، في قميص وسراويل، وانتهبوا دار الكرخي ودور بني ثوابة وجماعة من الناس، فلما كان يوم الاثنين حمل أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان إلى دار يارجوخ، والأتراك يدورون في الشوارع، ويحمدون العامة إذ لم يتعرضوا لهم.
    وقال آخرون: بل كان السبب في ذلك، أن أهل دور سامرا والكرخ تحركوا في يوم الاثنين لليلة خلت من رجب من هذه السنة، واجتمعوا بالكرخ وفوقها، فوجه المهتدي إليهم كيغلغ وطبايغو بن صول أرتكين وعبد الله أخا نفسه، فلم يزالوا بهم حتى سكنوا ورجعوا إلى الدار، وبلغ أبا نصر محمد بن
    (9/459)
    بغا الكبير أن المهتدي قد تكلم فيه وفي أخيه موسى، وقال للموالي: إن الأموال عندهم، فتخوفه وإياهم، فهرب في ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب، فكتب اليه المهتدي أربعة كتب يعطيه فيها الأمان على نفسه ومن معه، ووصل كتابان إليه وهو بالمحمدية مع أبرتكين بن برنمكاتكين، ووصل الآخران إليه مع فرج الصغير، فوثق بذلك، فرجع حتى دخل الدار هو وأخوه حبشون وبكالبا، فحبسوا وحبس معهم كيغلع، فأفرد أبو نصر عنهم، فطلب منه المال، فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب، ورمي به في بئر من آبار القناة، وأخرج من البئر يوم الاثنين للنصف من رجب، ومضي به إلى منزله وقد أراح، فاشترى له ثلاثمائة مثقال مسك وستمائه مثقال كافور، وصير عليه فلم تنقطع الرائحة، وصلى عليه الحسن بن المأمون، وكتب المهتدي إلى موسى بن بغا عند حبسه أبا نصر يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والإقبال إلى سامرا في مواليه، وكتب إلى بايكباك في تسلم العسكر والقيام بقتال الشاري، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه، فاجتمعوا على الانصراف إلى سامرا، وبلغ المهتدي ذلك، وأنهم على خلافه، فجمع الموالي، فحضهم على الطاعة، وأمرهم بلزومه في الدار وترك الإخلال به، وأجرى على كل رجل من الأتراك ومن يجري مجراهم في كل يوم درهمين، وعلى كل رجل من المغاربة درهما فاجتمع له من الفريقين وأخدانهم زهاء خمسة عشر ألف إنسان، منهم من الأتراك المعروف بالكاملي في الجوسق وغيره من المقاصير وكان القيم بأمر الدار بعد حبس كيغلغ مسرور البلخي والرئيس من القواد طبايغو، والقيم بحبس من حبس من هؤلاء عبد الله بن تكين.
    وبلغ موسى ومفلحا وبايكباك حبس أبي نصر وحبشون ومن حبس، فأخذوا حذرهم.
    وجرت الرسل والكتب بينهم وبين المهتدي يوم الخميس، وخرج المهتدي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب بجمعة متوقعا ورود القوم عليه، فلم يأت أحد فلما كان يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب صح الخبر بأن موسى قد عرج عن طريق سامرا إلى ناحية الجبل مع مفلح،
    (9/460)
    ودخل يوم السبت بايكباك ويارجوخ وأساتكين وعلي بن بارس وسيما الطويل وخطارمش إلى الدار، فحبس بايكباك وأحمد بن خاقان خليفته، وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيره من الأتراك، وقالوا: لم يحبس قائدنا؟
    ولم قتل أبو نصر؟ فخرج إليهم المهتدي يوم السبت- ولم يكن بينهم حرب- فرجع، وخرج يوم الأحد وقد اجتمعوا له، وجمع هو المغاربه والاتراك البرانيين والفراغنة فصير على الميمنة مسرورا البلخي، وعلى الميسرة يارجوخ، والمهتدي في القلب مع أساتكين وطبايغوا وغيرهما من القواد.
    فلما حميت الشمس، قرب القوم بعضهم من بعض، وهاجت الحرب، وطلبوا بايكباك، فرمى إليهم المهتدي برأسه- وكان عتاب بن عتاب أخرجه من بركة قبائه- فلما رأوه شد أخوه طغوتيا في جماعة من خاصته على جمع المهتدي، وعطفت الميمنة والميسرة من عسكر المهتدي، فصاروا معهم، وانهزم الباقون عن المهتدي، وقتل جماعة من الفريقين.
    فذكر عن حبشون بن بغا، أنه قال: قتل سبعمائة وثمانون إنسانا، وتفرق الناس، ودخل المهتدي الدار، فأغلق الباب الذي دخل منه، وخرج من باب المصاف حتى خرج من الباب المعروف بإيتاخ، ثم إلى سويقة مسرور، ثم درب الواثق، حتى خرج الى الباب العامة، وهو ينادي: يا معشر الناس، أنا أمير المؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم فلم تجبه العامة إلى ذلك، وهو يمر في الشارع وينادي، فلم يرهم ينصرونه، فصار إلى باب السجن، فاطلق من فيه، وهو يظن انهم يعينونه، فلم يكن منهم إلا الهرب، ولم يجبه احد فلما لم يجيبوه، صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وفيها أحمد بن جميل صاحب الشرطة نازل، فدخل عليه، فأخرج من ناحية ديوان الضياع، ثم صير به إلى الجوسق، فحبس فيه عند احمد بن خاقان، وانتهب دار احمد ابن جميل.
    وكان ممن قتل في المعركة من قواد المغاربة نصر بن أحمد الزبيري، ومن
    (9/461)
    قواد الشاكرية عتاب بن عتاب حين جاء برأس بايكباك إليهم، وقتل المهتدي- فيما قيل- في الوقعة عدة كثيرة بيده، ثم جرى بينهم وبينه بعد أن حبس كلام شديد، وأرادوه على الخلع فأبى، واستسلم للقتل، فقالوا: أنه كان كتب رقعة بيده لموسى بن بغا وبايكباك وجماعة من القواد، أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم، ولا يفتك بهم، ولا يهم بذلك، وأنه متى فعل ذلك بهم أو بأحد منهم ووقفوا عليه فهم في حل من بيعته، والأمر إليهم يقعدون من شاءوا.
    فاستحلوا بذلك نقض أمره.
    وقد كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة، فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من رجب، وسمي المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدي محمد بن الواثق، وأنه سليم ليس به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة، إحداهما من سهم والأخرى من ضربة، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد وعدة من إخوة أمير المؤمنين، ودفن في مقبرة المنتصر، ودخل موسى بن بغا ومفلح سامرا يوم السبت لعشر بقين من رجب، فسلم على المعتمد فخلع عليه، وصار إلى منزله وسكن الناس.
    وقال بعضهم- وذكر أنه كان شاهدا أمرهم: لما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من رجب ثار أهل الكرخ والدور جميعا، فاجتمعوا، وكان المهتدي يوجه إليهم إذا تحركوا أخاه عبد الله، فوجه إليهم في هذا اليوم عبد الله أخاه كما كان يوجهه، فصار إليهم، فوجدهم قد أقبلوا يريدون الجوسق، فكلمهم، وضمن لهم القيام بحوائجهم، فأبوا وقالوا: لا نرجع حتى نصير إلى أمير المؤمنين ونشكو إليه قصتنا فانصرف منهم عبد الله، وفي الدار في هذا الوقت أبو نصر محمد بن بغا وحبشون وكيغلغ ومسرور البلخي وجماعة، فلما أدى عبد الله إلى المهتدي ما دار بينه وبينهم، أمره بالرجوع إليهم، وأن يأتي بجماعة منهم فيوصلهم إليه، فخرج فتلقاهم قريبا من الجوسق، فأدارهم على أن يقفوا بموضعهم، ويوجهوا معه جماعة منهم فأبوا فلما تناهى ظهر
    (9/462)
    إلى أبي نصر ومن كان معه في الدار بأن جمعهم قد أقبل، خرجوا جميعا من الدار مما يلي باب النزالة، فلم يبق في الدار إلا مسرور البلخي وألطون خليفه كيغلغ، ومن الكتاب عيسى بن فرخان شاه، ودخل الموالي مما يلى باب القصر الأحمر، فملئوا الدار زهاء أربعة آلاف، فصاروا إلى المهتدي، فشكوا إليه حالهم.
    وكان اعتمادهم في مسألتهم أن يعزل عنهم أمراءهم، ويضم أمورهم إلى إخوة أمير المؤمنين، وأن يؤخذ الأمراء والكتاب بالخروج مما اختانوه من أموال السلطان، وذكروا أن قدره خمسون ومائة ألف ألف فوعدهم النظر في أمرهم وإجابتهم إلى ما سألوا، فأقاموا يومهم ذلك في الدار، فوجه المهتدى محمد ابن مباشر الكرخي، فاشترى لهم الأسوقة، ومضى أبو نصر بن بغا من فوره ذلك، حتى عسكر في الحير بالقرب من موضع الحلبة، فلحق به زهاء خمسمائة رجل، ثم تفرقوا عنه في ليلتهم، فلم يبق إلا في أقل من مائة، ومضى فصار إلى المحمدية، وأصبح الموالي في غداة يوم الأربعاء يطالبون بما كانوا يطالبون به أولا، فقيل لهم: إن هذا الأمر الذي تريدونه أمر صعب، وإخراج الأمر عن أيدي هؤلاء الأمراء ليس بسهل عليكم، فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذهم بالأموال! فانظروا في أموركم، فإن كنتم تظنون أنكم تصبرون على هذا الأمر حتى يبلغ منه غايته أجابكم إليه أمير المؤمنين، وإن تكن الأخرى فإن أمير المؤمنين يحسن لكم النظر فأبوا إلا ما سألوه أولا، فدعوا إلى إيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول، ولا يرجعوا عنه، وأن يقاتلوا من قاتلهم فيه، وينصحوا لأمير المؤمنين ويوالوه فأجابوه إلى ذلك، فأخذت عليهم أيمان البيعة، فبايع في ذلك اليوم زهاء الف رجل وعيسى بن فرخان شاه الذى تجرى على يده الأمور، ومقامه مقام الوزير ثم كتبوا إلى أبي نصر كتابا عن أنفسهم، كتبه لهم عيسى بن فرخان شاه، يذكرون فيه إنكارهم خروجه من الدار عن غير سبب، وأنهم إنما قصدوا أمير المؤمنين ليشكوا إليه حاجتهم، وأنهم لما وجدوا الدار فارغة أقاموا فيها، وأنهم إذا عاد ردوه إلى حاله، ولم يهيجوه وكتب عيسى عن الخليفة بمثل ذلك إليه، فأقبل من المحمدية بين العصر والعشاء، فدخل
    (9/463)
    الدار، ومعه أخوه حبشون وكيغلغ وبكالبا وجماعة منهم، فقام الموالي في وجوههم معهم السلاح، وقعد المهتدي، فوصل إليه أبو نصر ومن معه، فسلم عليه، ودنا فقبل يد المهتدي ورجله والبساط، وتأخر فخاطبه المهتدي بأن قال له: يا محمد، ما عندك فيما يقول الموالي؟ قال: وما يقولون؟ قال:
    يذكرون أنكم احتجنتم الأموال، واستبددتم بالأعمال، فما تنظرون في شيء من أمورهم، ولا فيما عاد لمصلحتهم فقال محمد: يا أمير المؤمنين، وما أنا والأموال! ما كنت كاتب ديوان، ولا جرت علي يدي أعمال فقال له:
    فأين هي الأموال؟ وهل هي إلا عندك وعند أخيك، وكتابكم وأصحابكم! ودنا الموالي، فتقدم عبد الله بن تكين وجماعة منهم، فأخذوا بيد أبي نصر وقالوا: هذا عدو أمير المؤمنين، يقوم بين يديه بسيف، فأخذوا سيفه، ودخل غلام لأبي نصر كان حاضرا يقال له ثيتل، فسل سيفه، وخطا ليمنعهم من أبي نصر، وكانت خطوته تلي الخليفة، فسبقه عبد الله بن تكين، فضرب رأسه بالسيف، فما بقي في الدار أحد إلا سل سيفه، وقام المهتدي، فدخل بيتا كان بقربه، وأخذ محمد بن بغا، فأدخل حجرة في الدار، وحبس أصحابه الباقون، وأراد القوم قتل الغلام، فمنعهم المهتدي، وقال: إن لي في هذا نظرا ثم أمر فأعطي قميصا من الخزانة، وأمر بغسل رأسه من الدم، وحبس.
    فأصبح الناس يوم الأربعاء وقد كثروا، والبيعة تؤخذ، ثم امر عبد الله ابن الواثق بالخروج إلى الرفيف في ألف رجل من الشاكرية والفراغنة وغيرهم، وكان ممن أمر بالخروج من قواد خراسان محمد بن يحيى الواثقي وعتاب بن عتاب وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر وإبراهيم أخو أبي عون ويحيى بن محمد بن داود وولد نصر بن شيث وعبد الرحمن بن دينار وأحمد بن فريدون وغيرهم.
    ثم إن عبد الله بن الواثق بلغه عن هؤلاء القواد أنهم يقولون: أنه ليس بصواب شخوصهم إلى تلك الناحية، فترك الخروج إليها
    (9/464)
    ثم إنهم أرادوا أن يكتبوا إلى موسى ومفلح بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القواد، فأجمعوا على أن يكتبوا إليهما بذلك كتابا، وكتبا إلى بعض القواد في تسلم العسكر منهما، وكتبا إلى الصغار بما سأل أصحابهم بسامرا وما أجيبوا إليه، وأمر بنسخ الكتب التي كتبت إلى القواد، وأن ينظروا، فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمرا بتسليمه إليه، وإلا شدوهما وثاقا، وحملوهما إلى الباب، ووجهوا هذه الكتب مع ثلاثين رجلا منهم، فشخصوا عن سامرا ليلة الجمعة لخمس خلون من رجب من هذه السنة، وأجرى على من أخذت عليه البيعة في الدار على كل رجل منهم في اليوم درهمان، فكان المتولي لتفرقة ذلك عليهم عبد الله بن تكين، وهو خال ولد كنجور.
    ولما تناهى الخبر إلى موسى وأصحابه اتهم كنجور، وأمر بحبسه بعد أن ناله بالضرب، وموسى حينئذ بالسن ولما انتهى الخبر إلى بايكباك وهو بالحديثة أقبل إلى السن، فاستخرج كنجور من الحبس، واجتمع العسكر بالسن، ووصل إليهم الرسل، وأوصلوا الكتب، وقرءوا بعضها على أهل العسكر، وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم، فارتحلوا حتى نزلوا قنطرة الرفيف يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، وخرج المهتدي في هذا اليوم إلى الحير، وعرض الناس، وسار قليلا، ثم عاد وأمر أن تخرج الخيام والمضارب فتضرب في الحير، وأصبح الناس يوم الجمعة، وقد انصرف من عسكر موسى زهاء ألف رجل، منهم كوتكين وخشنج.
    ثم خرج المهتدي إلى الحير، ثم صير ميمنته عليها كوتكين، وميسرته عليها حشنج، وصار هو في القلب، ثم رجع الرسل تختلف بين العسكرين.
    والذي يريد موسى بن بغا أن يولى ناحية ينصرف إليها، والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم، فلم يتهيأ بينهم في ذلك اليوم شيء فلما كان ليلة السبت، انصرف من أراد الانصراف عن موسى، ورجع موسى ومفلح يريدان طريق خراسان في زهاء ألف رجل، ومضى بايكباك
    (9/465)
    وجماعة من قواده في ليلتهم مع عيسى الكرخي، فباتوا معه، ثم أصبحوا يوم السبت، وأقبل بايكباك ومن معه حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم بايكباك ويارجوخ وأساتكين وأحمد بن خاقان وخطارمش وغيرهم فوصلوا جميعا إلى المهتدي، فسلموا، فأمروا بالانصراف إلا بايكباك، فإن المهتدي أمر أن يوقف بين يديه، ثم أقبل يعدد عليه ذنوبه، وما ركب من أمر المسلمين والإسلام.
    ثم إن الموالي اعترضوه، فأدخلوه حجرة في الدار، وأغلقوا عليه الباب، ثم لم يلبث إلا قدر خمس ساعات حتى قتل يوم السبت من الزوال واستوى الأمر، فلم تكن حركة، ولا تكلم أحد إلا نفر يسير أنكروا أمر بايكباك، ولم يظهروا كل الجزع فلما كان يوم الأحد، أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار ودخولهم معهم، ووضح عندهم أن التدبير إنما جرى في قتل رؤسائهم حتى يقدم عليهم الفراغنة والمغاربة، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة والمغاربة، وأنكر الأتراك بناحية الكرخ ذلك، وأضافوا إليه طلب بايكباك لاجتماع أصحاب بايكباك معهم، فأدخل المهتدي إليه جماعة من الفراغنة، وأخبرهم بما أنكره الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تعلمون أنكم تقومون بهم، فما يكره أمير المؤمنين قربكم، وإن كنتم بأنفسكم تظنون عجزا عنهم أرضيناهم بالمصير إلى محبتهم من قبل تفاقم الأمر فذكر الفراغنة أنهم يقومون بهم ويقهرونهم، إذا اجتمعت كلمتهم وكلمة المغاربة، وعددوا أشياء كثيرة من تقديمهم عليهم وأرادوا المهتدي على الخروج إليهم، فلم يزل كذلك إلى الظهر، ثم ركب وأكثر الفرسان الفراغنة وأكثر الرجالة المغاربة، ووجه إليهم وهم بين الكرخ والقطائع والأتراك زهاء عشرة آلاف، وهم في ستة آلاف لم يكن معهم من الأتراك إلا اقل من الف، وهم اصحاب صالح ابن وصيف وجماعة مع يارجوخ فلما التقى الزحفان، انحاز يارجوخ بمن معه من الأتراك، وانهزم أصحاب صالح بن وصيف، فرجعوا إلى منازلهم وخرج طاشتمر من خلف الدكة، وكانوا جعلوا كمينا، وتصادم القوم، فكانت الحرب بينهم ساعة من النهار، ضربا وطعنا ورميا.
    ثم وقعت الهزيمة على أصحاب المهتدي، فثبت وأقبل يدعوهم الى نفسه،
    (9/466)
    ويقاتل حتى يئس من رجوعهم، ثم انهزم وبيده سيف مشطب، وعليه درع وقباء، ظاهر به حرير أبيض معين، فمضى حتى صار إلى موضع خشبة بابك، وهو يحث الناس على مجاهدة القوم ونصرته، فلم يتبعه أحد إلا جماعة من العيارين، فلما صاروا إلى باب السجن تعلقوا بلجامه، وسألوه إطلاق من في السجن، فانصرف بوجهه عنهم، فلم يتركوه حتى أمر بإطلاقهم، فانصرفوا عنه، واشتغلوا بباب السجن، وبقي وحده، فمر حتى صار إلى موضع دار أبي صالح بن يزداد، وفيها أحمد بن جميل، فدخل الدار وأغلقت الأبواب، فنزع ثيابه وسلاحه، وكانت به طعنة في وركه، فطلب قميصا وسراويل، فأعطاه أحمد بن جميل، وغسل الدم عن نفسه، وشرب ماء وصلى، فأقبل جماعة من الأتراك مع يارجوخ نحو من ثلاثين رجلا، حتى صاروا إلى دار أبي صالح، فضربوا الباب حتى دخلوها، فلما أحس بهم أخذ السيف وسعى، فصعد على درجة في الدار، ودخل القوم، وقد علا السطح، فأراد بعضهم الصعود لأخذه، فضربه بالسيف فأخطأه، وسقط الرجل عن الدرجة، فرموه بالنشاب، فوقعت نشابة في صدره، فجرحته جراحة خفيفة، وعلم أنه الموت، فأعطى بيده، ونزل فرمى بسيفه فأخذوه، فجعلوه على دابة بين يدي أحدهم، وسلكوا الطريق الذي جاء منه، حتى صيروه إلى دار يارجوخ في القطائع، وأنهبوا الجوسق، فلم يبق فيه شيء، وأخرجوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان- وكان محبوسا في الجوسق- وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم، فأقام المهتدي عندهم لم يحدثوا في أمره شيئا، فلما كان يوم الثلاثاء بايعوا أحمد بن المتوكل في القطائع، وصاروا به يوم الأربعاء إلى الجوسق فبايعه الهاشميون والخاصة، وأرادوا المهتدي على الخلع في هذه الأيام، فأبى ولم يجبهم، ومات يوم الأربعاء، وأظهروه يوم الخميس لجماعة الهاشميين والخاصة، فكشفوا عن وجهه وغسلوه، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
    وقدم موسى بن بغا يوم السبت لعشر بقين من رجب وركب أحمد بن
    (9/467)
    فتيان إلى دار العامة يوم الاثنين لثمان بقين من رجب، فبايعوه بيعة العامة.
    فذكر عن محمد بن عيسى القرشي أنه قال: لما صار المهتدي في أيديهم أبى أن يخلع نفسه، فخلعوا أصابع يديه ورجليه من كفيه وقدميه، حتى ورمت كفاه وقدماه، وفعلوا به غير شيء حتى مات.
    وقد ذكر في سبب قتل أبي نصر محمد بن بغا أنه كان خرج من سامرا يريد أخاه موسى، فوجه إليه المهتدي أخاه عبد الله في جماعة من المغاربة والفراغنة، فلحقوه بالرفيف، فجيء به فحبس، وكان قد دخل على المهتدي مسلما قبل خلافهم، فقال له: يا محمد، إنما قدم أخوك موسى في جيشه وعبيده حتى يقتل صالح بن وصيف وينصرف، قال: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله! موسى عبدك وفي طاعتك، وهو مع هذا في وجه عدو كلب، قال: قد كان صالح أنفع لنا منه، وأحسن سياسة للملك، وهذا العلوي قد رجع إلى الري، قال: وما حيلته يا أمير المؤمنين؟ قد هزمه وقتل أصحابه وشرد به كل مشرد، فلما انصرف عاد، وهذا فعله أبدا، اللهم إلا أن تأمره بالمقام بالري دهره قال: دع هذا عنك، فإن أخاك ما صنع شيئا أكثر من أخذ الأموال واحتجانها لنفسه فأغلظ له أبو نصر، وقال: ينظر فيما صار إليه وإلى أهل بيته منذ وليت الخلافة فيرد، وينظر ما صار إليك وإلى إخوتك فيرد فأمر به فأخذ وضرب وحبس، وانتهبت داره ودار ابن ثوابة، ثم أباح دم الحسن بن مخلد وابن ثوابة وسليمان بن وهب القطان كاتب مفلح، فهربوا فانتهبت دورهم ثم جاء المهتدي بالفراغنة والأشروسنية والطبرية والديالمة والإشتاخنية ومن بقي من أتراك الكرخ وولد وصيف، فسألهم النصرة على موسى ومفلح، وضرب بينهم، وقال: قد أخذوا الأموال واستأثروا بالفيء، وأنا أخاف أن يقتلوني، وإن نصرتموني أعطيتكم جميع ما فاتكم، وزدتكم في أرزاقكم فأجابوه إلى نصره والخلاف على موسى وأصحابه، ولزموا
    (9/468)
    الجوسق، وبايعوه بيعة جديدة وأمر بالسويق والسكر فاشتري لهم، وأجرى على كل رجل منهم في كل يوم درهمين، وأطعموا في بعض أيامهم الخبز واللحم وتولى أمر جيشه أحمد بن وصيف وعبد الله بن بغا الشرابي والتفت، معهم بنو هاشم، وجعل يركب في بني هاشم، ويدور في الأسواق، ويسأل الناس النصرة، ويقول: هؤلاء الفساق يقتلون الخلفاء، ويثبون على مواليهم، وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه وتكلم صالح بن يعقوب ابن المنصور وغيره من بني هاشم، ثم كتب بعد إلى بايكباك يأمره أن يضم الجيش كله إليه، وأنه الأمير على الجيش أجمع، ويأمره بأخذ موسى ومفلح.
    ولما هلك المهتدي طلبوا أبا نصر بن بغا، وهم يظنون أنه حي، فدلوا على موضعه، فنبش فوجدوه مذبوحا، فحمل إلى أهله، وحملت جثة بايكباك فدفنت وكسرت الأتراك على قبر محمد بن بغا ألف سيف، وكذلك يفعلون بالسيد منهم إذا مات وقيل إن المهتدي لما أبى أن يخلعها، أمروا من عصر خصيته حتى مات، وقيل: إن المهتدي لما احتضر قال:
    أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
    وقيل إن محمد بن بغا لم يحدثوا في أمره يوم حبس شيئا، وطالبوه بالأموال، فدفع إليهم نيفا وعشرين ألف دينار، ثم قتلوه بعد، بعجوا بطنه، وعصروا حلقه، وألقي في بئر من القناة، فلم يزل هنالك حتى أخرجه الموالي بعد أسرهم المهتدي بيوم، فدفن.
    وكانت خلافة المهتدي كلها إلى أن انقضى أمره أحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، وعمره كله ثمان وثلاثون سنة وكان رحب الجبهه، اجلح، جهم الوجه، اشهل، عظيم البطن، عريض المنكبين، قصيرا، طويل اللحية.
    وكان ولد بالقاطول.
    (9/469)
    ذكر اخبار صاحب الزنج مع جعلان
    وفي هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج.
    ذكر الخبر عما كان من أمرهما هنالك:
    ذكر أن جعلان لما صار إلى البصرة زحف بعسكره منها، حتى صار بينه وبين عسكر صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه ومن معه، فأقام ستة أشهر في خندقه، فوجه الزينبي وبريه وبنو هاشم ومن خف لحرب الخبيث من أهل البصرة في اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه، فلما التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل عن مجال الخيل، وأصحابه أكثرهم فرسان.
    فذكر عن محمد بن الحسن أن صاحب الزنج قال: لما طال مقام جعلان في خندقه، رأيت أن أخفي له من أصحابي جماعة يأخذون عليه مسالك الخندق، ويبيتونه فيه، ففعل ذلك، وبيته في خندقه، فقتل جماعة من رجاله، وريع الباقون روعا شديدا فترك جعلان عسكره ذلك، وانصرف إلى البصرة، وقد كان الزينبي قبل بيات الخبيث جعلان جمع مقاتلة البلالية والسعدية، ثم وجه لهم من ناحية نهر نافذ وناحيه هزار در، فواقعوه من وجهين، ولقيهم الزنج، فلم يثبتوا لهم، وقهرهم الزنج، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانصرفوا مفلولين، وانحاز جعلان إلى البصرة، فأقام بها وظهر عجزه للسلطان.
    وفيها صرف جعلان عن حرب الخبيث، وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إليها لحربه.
    وفيها تحول صاحب الزنج من السبخة التي كان ينزلها إلى الجانب الغربي
    (9/470)
    من النهر المعروف بأبي الخصيب.
    وفيها أخذ صاحب الزنج- فيما ذكر- أربعة وعشرين مركبا من مراكب البحر، كانت اجتمعت تريد البصرة، فلما انتهى إلى أصحابها خبره وخبر من معه من الزنج وقطعهم السبيل، اجتمعت آراؤهم على أن يشدوا مراكبهم بعضها إلى بعض، حتى تصير كالجزيرة، يتصل أولها بآخرها، ثم يسيروا بها في دجلة فاتصل به خبرها، فندب إليها أصحابه، وحرضهم عليها، وقال لهم: هذه الغنيمة الباردة.
    قال أبو الحسن: فسمعت صاحب الزنج يقول: لما بلغني قرب المراكب مني نهضت للصلاة، وأخذت في الدعاء والتضرع، فخوطبت بان قيل لي:
    قد اطلك فتح عظيم، والتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب، فنهض أصحابي إليها في الجريبيات، فلم يلبثوا أن حووها وقتلوا مقاتلتها، وسبوا ما فيها من الرقيق، وغنموا منها أموالا عظاما لا تحصى ولا يعرف قدرها، فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيام، ثم أمر بما بقي فحيز له.
    ذكر الخبر عن دخول الزنج الأبله
    ولخمس بقين من رجب من هذه السنة، دخل الزنج الأبلة، فقتلوا بها خلقا كثيرا وأحرقوها.
    ذكر الخبر عنها وعن سبب الوصول إليها:
    ذكر أن صاحب الزنج لما تنحى جعلان عن خندقه بشاطئ عثمان الذي كان فيه، وانحاز إلى البصرة ألح بالسرايا على أهل الأبلة، فجعل يحاربهم من ناحية شاطئ عثمان بالرجالة، وبما خف له من السفن من ناحية دجلة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل.
    فذكر عن صاحب الزنج، أنه قال: ميلت بين عبادان والأبلة، فملت
    (9/471)
    إلى التوجه إلى عبادان، وندبت الرجالة لذلك، فقيل لي: إن أقرب العدو دارا، وأولاه بألا تتشاغل بغيره عنه أهل الأبلة، فرددت الجيش الذي كنت سيرت نحو عبادان إلى الأبلة فلم يزالوا يحاربون أهل الأبلة إلى ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب سنة ست وخمسين ومائتين فلما كان في هذه الليلة اقتحمها الزنج مما يلي دجلة ونهر الأبلة، فقتل بها أبو الأحوص وابنه، وأضرمت نارا، وكانت مبنية بالساج محفوفة بناء متكاثفا فأسرعت فيها النار، ونشأت ريح عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق حتى وصلت بشاطئ عثمان، فاحترق وقتل بالأبلة خلق كثير، وغرق خلق كثير، وحويت الأسلاب، فكان ما احترق من الأمتعة أكثر مما انتهب.
    وقتل في هذه الليلة عبد الله بن حميد الطوسي وابن له، كانا في شذاة بنهر معقل مع نصير المعروف بابى حمزه.
    ذكر خبر استيلاء صاحب الزنج على عبادان
    وفيها استسلم أهل عبادان لصاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم.
    ذكر الخبر عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك:
    ذكر أن السبب في ذلك أن الخبيث لما فعل أصحابه من الزنج بأهل الأبلة ما فعلوا، ضعفت قلوبهم، وخافوهم على أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم، فدخلها أصحابه، فأخذوا من كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح اليه، ففرقه عليهم
    . ذكر خبر دخول اصحاب صاحب الزنج الاهواز
    وفيها دخل أصحابه الأهواز وأسروا إبراهيم بن المدبر.
    ذكر الخبر عن سبب ذلك:
    وكان الخبيث لما أوقع أصحابه بالأبلة وفعلوا بها ما فعلوا، واستسلم له
    (9/472)
    أهل عبادان، فأخذ مماليكهم، فضمهم إلى أصحابه من الزنج، وفرق بينهم ما أخذ من السلاح الذي كان بها، طمع في الأهواز، فاستنهض أصحابه نحو جبي، فلم يثبت لهم أهلها، وهربوا منهم، فدخلوا، فقتلوا وأحرقوا، ونهبوا وأخربوا ما وراءها، حتى وافوا الأهواز، وبها يومئذ سعيد بن يكسين وال وإليه حربها، وإبراهيم بن محمد بن المدبر وإليه الخراج والضياع، فهرب الناس منهم أيضا فلم يقاتلهم كثير أحد، وانحاز سعيد ابن تكسين فيمن كان معه من الجند، وثبت إبراهيم بن المدبر فيمن كان معه من غلمانه وخدمه، فدخلوا المدينة، فاحتووها، وأسروا إبراهيم بن محمد بعد أن ضرب ضربة على وجهه، وحووا كل ما كان يملك من مال وأثاث ورقيق، وذلك يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين.
    ولما كان من أمره ما كان بالأهواز بعد الذي كان منه بالأبلة، رعب أهل البصرة رعبا شديدا، فانتقل كثير من أهلها عنها، وتفرقوا في بلدان شتى، وكثرت الأراجيف من عوامها.
    وفي ذي الحجة من هذه السنة وجه صاحب الزنج إلى شاهين بن بسطام جيشا عليهم يحيى بن محمد البحراني لحربه، فلم ينل يحيى من شاهين ما أمل وانصرف عنه.
    وفي رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح المعروف بالحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج.
    وفيها كانت بين موسى بن بغا الذين كان توجهوا معه إلى ناحية الجبل مخالفين لمحمد بن الواثق وبين مساور بن عبد الحميد الشاري وقعة بناحية خانقين ومساور في جمع كثير وموسى وأصحابه في مائتين، فهزموا مساورا وقتلوا من أصحابه جماعة كثيره.
    (9/473)
    خلافة المعتمد على الله
    وفيها بويع أحمد بن ابى جعفر المعروف بابن فتيان، وسمي المعتمد على الله، وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب.
    وفيها بعث إلى موسى بن بغا وهو بخانقين بموت محمد بن الواثق وبيعة المعتمد، فوافى سامرا لعشر بقين من رجب.
    ولليلتين خلتا من شعبان، ولى الوزارة عبيد الله بن يحيى بن خاقان وفيها ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فوجه إليه الشاه بن ميكال في عسكر كثيف، فلقيه علي بن زيد في أصحابه، فهزمه وقتل جماعة كثيرة من أصحابه، ونجا الشاه 4 وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي، وهو من أهل فارس، ورجل من أكرادها يقال له أحمد بن الليث بالحارث بن سيما الشرابي عامل فارس، فحارباه، فقتل الحارث، وغلب محمد بن واصل على فارس وفيها وجه مفلح لحرب مساور الشاري وكنجور لحرب علي بن زيد الطالبي بالكوفة وفيها غلب جيش الحسن بن زيد الطالبي على الري، في شهر رمضان منها.
    وفيها شخص موسى بن بغا- لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال منها- من سامرا إلى الري، وشيعه المعتمد.
    وفيها كانت بين أماجور وابن لعيسى بن الشيخ على باب دمشق وقعة، فسمعت من ذكر أنه حضر أماجور، وقد خرج في اليوم الذي كانت فيه هذه الوقعة من مدينة دمشق مرتادا لنفسه عسكرا وابن عيسى بن الشيخ وقائد لعيسى يقال له أبو الصهباء في عسكر لهما بالقرب من مدينة دمشق، فاتصل
    (9/474)
    بهما خبر خروج أماجور، وأنه خرج في نفر من أصحابه يسير، فطمعا فيه، فزحفا بمن معهما إليه، ولا يعلم أماجور بزحوفهما إليه حتى لقياه، والتحمت الحرب بين الفريقين، فقتل أبو الصهباء، وهزم الجمع الذي كان معه ومع ابن عيسى، ولقد سمعت من يذكر أن عيسى وأبا الصهباء كانا يومئذ في زهاء عشرين ألفا من رجالهما، وأن اماجور في مقدار مائتين الى أربعمائة.
    وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي الحجه منها قدم ابو احمد ابن المتوكل من مكة إلى سامرا.
    وفيها وجه إلى عيسى بن الشيخ إسماعيل بن عبد الله المروزي المعروف بأبي النصر ومحمد بن عبيد الله الكريزي القاضي والحسين الخادم المعروف بعرق الموت، بولاية أرمينية، على أن ينصرف عن الشام آمنا، فقبل ذلك وشخص عن الشام إليها.
    وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن أحمد بن عيسى بن أبي جعفر المنصور.
    (9/475)
    ثم دخلت
    سنة سبع وخمسين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة)
    ذكر خبر مسير يعقوب بن الليث الى فارس وانصرافه عنها
    فمن ذلك ما كان من مصير يعقوب بن الليث إلى فارس، وبعثة المعتمد إليه طغتا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصاري في شعبان منها، وكتاب أبي أحمد بن المتوكل إليه بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها، وما جعل له من المال في كل سنة، وقبوله ذلك وانصرافه.
    وفي ربيع الآخر منها قدم رسول يعقوب بن الليث بأصنام ذكر أنه أخذها من كابل.
    ولاثنتي عشرة خلت من صفر عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له أيضا بعد ذلك لسبع خلون من شهر رمضان على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأمر أن يولى صاحب بغداد أعماله، وأن يعقد ليارجوخ على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح، فولى يارجوخ منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة الى ما يلى الاهواز.
    ذكر خبر انهزام الزنج امام سعيد بن الحاجب
    وفيها أمر بغراج باستحثاث سعيد الحاجب في المصير إلى دجلة والإناخة بإزاء عسكر صاحب الزنج، ففعل ذلك بغراج- فيما قيل- ومضى سعيد الحاجب لما أمر به من ذلك في رجب من هذه السنة
    (9/476)
    فذكر أن سعيدا لما صار إلى نهر معقل وجد هنالك جيشا لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب- وهو أحد الأنهار المعترضة في نهر معقل- فأوقع بهم فهزمهم، واستنقذ ما في أيديهم من النساء والنهب، وأصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات، منها جراحة في فيه ثم سار سعيد حتى صار إلى الموضع المعروف بعسكر أبي جعفر المنصور، فأقام به ليلة، ثم سار حتى أناخ بموضع يقال له هطمة من أرض الفرات، فأقام هنالك أياما يعبي أصحابه، ويستعد للقاء صاحب الزنج وبلغه في أيام مقامه هنالك، أن جيشا لصاحب الزنج بالفرات، فقصد لهم بجماعة من أصحابه، فهزمهم، وكان فيهم عمران زوج جدة ابن صاحب الزنج المعروف بأنكلاي، فاستأمن عمران هذا إلى بغراج، وتفرق ذلك الجمع قال محمد بن الحسن: فلقد رأيت المرأة من سكان الفرات تجد الزنجي مستترا بتلك الأدغال، فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به منها امتناع ثم قصد سعيد حرب الخبيث فعبر إلى غربي دجلة، فأوقع به وقعات في أيام متوالية، ثم انصرف سعيد إلى معسكره بهطمة، فأقام به يحاربه باقى رجب وعامه شعبان.
    خلاص ابن المدبر من صاحب الزنج
    وفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الخبيث، وكان سبب تخلصه منه- فيما ذكر- أنه كان محبوسا في غرفة في منزل يحيى بن محمد البحراني، فضاق مكانه على البحراني، فأنزله إلى بيت من أبيات داره، فحبسه فيه، وكان موكلا به رجلان، ملاصق مسكنهما المنزل الذي فيه إبراهيم، فبذل لهما، ورغبهما، فسربا له سربا إلى الموضع الذي فيه إبراهيم من ناحيتهما، فخرج هو وابن أخ له يعرف بأبي غالب ورجل من بني هاشم كان محبوسا معهما.
    (9/477)
    ذكر خبر إيقاع صاحب الزنج بسعيد واصحابه
    وفيها أوقع أصحاب الخبيث بسعيد وأصحابه فقتلوه ومن معه.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة: ذكر أن الخبيث وجه إلى يحيى بن محمد البحراني وهو مقيم بنهر معقل في جيش كثيف يأمره بالتوجه بألف رجل من اصحابه، يرئس عليهم سليمان ابن جامع وأبا الليث، ويأمرهما بالقصد لعسكر سعيد ليلا حتى يوقعا به في وقت طلوع الفجر ففعل ذلك، فصارا إلى عسكر سعيد، فصادفا منهم غرة وغفلة، فأوقعا بهم وقعة، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وأحرق الزنج يومئذ عسكر سعيد، فضعف سعيد ومن معه، ودخل أمرهم خلل للبيات الذي تهيأ عليهم، ولاحتباس الأرزاق عنهم، وكانت سببت لهم من مال الأهواز، فأبطأ بها عليهم منصور بن جعفر الخياط، وكان إليه يومئذ حرب الأهواز، وله من ذلك يد في الخراج.
    ولما كان من أمر سعيد بن صالح ما كان، أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش الذى معه وما اليه من العمل هنا لك الى منصور بن جعفر، وذلك ان سعيدا ترك بعد ما كان من بيات الزنج أصحابه وإحراقهم عسكره، فلم يكن له حركة إلى أن صرف عما كان اليه من العمل هنالك.
    خبر الوقعه بين منصور بن جعفر وصاحب الزنج
    وفيها كانت وقعة بين منصور بن جعفر الخياط وبين صاحب الزنج، قتل فيها من أصحاب منصور جماعة كثيرة.
    ذكر الخبر عن صفه هذه الوقعه:
    ذكر ان سعيدا الحاجب لما صرف عن البصرة، أقام بغراج بها يحمي أهلها، وجعل منصور يجمع السفن التي تأتي بالميرة، ثم يبذرقها في الشذا إلى البصرة، فضاق بالزنج الميرة ثم عبأ منصور أصحابه، وجمع إلى الشذا
    (9/478)
    التي كانت معه الشذا الجنابيات والسفن، وقصد صاحب الزنج في عسكره، فصعد قصرا على دجلة، فأحرقه وما حوله، ودخل عسكر الخبيث من ذلك الوجه، ووافاه الزنج، وكمنوا له كمينا، فقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة.
    وألجئ الباقون إلى الماء، فغرق منهم خلق كثير، وحمل من الرءوس يومئذ- فيما ذكر- زهاء خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل، وأمر بنصبها هنالك.
    4 وفيها ظهر من بغداد بموضع يقال له بركة زلزل، على خناق، وقد قتل خلقا كثيرا من النساء ودفنهن في دار كان فيها ساكنا، فحمل إلى المعتمد، فبلغني أنه أمر بضربه، فضرب الفى سوط وأربعمائة أرزن فلم يمت حتى ضرب الجلادون أنثييه بخشب العقابين، فمات، فرد إلى بغداد فصلب بها ثم احرقت جثته 4.
    خبر مقتل شاهين بن بسطام وهزيمه ابراهيم بن سيما
    وفيها قتل شاهين بن بسطام وهزم إبراهيم بن سيما.
    ذكر الخبر عن سبب مقتل شاهين وانهزام إبراهيم: ذكر أن البحراني كان كتب إلى الخبيث يشير عليه بتوجيه جيش إلى الأهواز للمقام بها، ويرغبه في ذلك، وأن يبدأ بقطع قنطرة أربك، لئلا يصل الخيل إلى الجيش وإن الخبيث وجه علي بن ابان لقطع القنطرة، فلقيه ابراهيم ابن سيما منصرفا من فارس، وكان بها مع الحارث بن سيما في الصحراء المعروفة بدست اربك، وهي صحراء بين الأهواز والقنطرة فلما انتهى علي بن أبان إلى القنطرة، أقام مخفيا نفسه ومن معه، فلما أصحرت الخيل، خرجت عليه من جهات، فقتلت من الزنج خلقا كثيرا، وانهزم علي، وتبعته الخيل إلى الفندم، وأصابته طعنة في أخمصه، فأمسك عن التوجه إلى الأهواز، وانصرف على وجهه إلى جبى، وصرف سعيد بن يكسين وولي إبراهيم بن
    (9/479)
    سيما، وكاتبه شاهين، فأقبلا جميعا، إبراهيم بن سيما على طريق الفرات قاصدا لذنابه نهر جبى، وعلي بن أبان بالخيزرانية، فأقبل شاهين بن بسطام على طريق نهر موسى، يقدر لقاء إبراهيم في الموضع الذي قصد إليه، وقد اتعدا لمواقعة علي بن أبان، فسبق شاهين، وأتى علي بن أبان رجل من نهر موسى فأخبره بإقبال شاهين إليه، فوجه علي نحوه، فالتقيا في وقت العصر على نهر يعرف بأبي العباس- وهو نهر بين نهر موسى ونهر جبى- ونشبت الحرب بينهما، وثبت أصحاب شاهين، وقاتلوا قتالا شديدا، ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة، فولوا منهزمين، فكان أول من قتل يومئذ شاهين وابن عم له يقال له حيان، وذلك أنه كان في مقدمة القوم، وقتل معه من أصحابه بشر كثير وأتى علي بن أبان مخبر فأخبره بورود إبراهيم بن سيما، وذلك بعد فراغه من أمر شاهين، فسار من فوره إلى نهر جبى، وإبراهيم بن سيما معسكر هنالك لا يعلم خبر شاهين، فوافاه علي في وقت العشاء الآخرة، فأوقع بهم وقعة غليظة قتل فيها جمعا كثيرا، وكان قتل شاهين والإيقاع بإبراهيم فيما بين العصر والعشاء الآخرة.
    قال محمد بن الحسن: فسمعت علي بن أبان يحدث عن ذلك، قال:
    لقد رأيتني يومئذ، وقد ركبني حمى نافض كانت تعتادنى، وقد كان اصحابى حين نالوا ما نالوا من شاهين تفرقوا عني، فلم يصر إلى عسكر إبراهيم بن سيما معي إلا نحو من خمسين رجلا، فوصلت إلى العسكر، فألقيت نفسي قريبا منه، وجعلت أسمع ضجيج أهل العسكر وكلامهم، فلما سكنت حركتهم، نهضت فأوقعت بهم.
    ثم انصرف علي بن أبان عن جبى لما قتل شاهين، وهزم إبراهيم بن سيما، لورود كتاب الخبيث عليه بالمصير الى البصره لحرب أهلها.
    (9/480)
    ذكر خبر دخول الزنج البصره هذا العام
    وفيها دخل أصحاب الخبيث البصرة.
    ذكر الخبر عن سبب وصولهم إلى ذلك وما عملوا بها حين دخلوها:
    ذكر أن سعيد بن صالح لما شخص من البصرة ضم السلطان عمله إلى منصور بن جعفر الخياط، وكان من أمر منصور وأمر أصحاب الخبيث ما قد ذكرناه قبل، وضعف أمر منصور، ولم يعد لقتال الخبيث في عسكره، واقتصر على بذرقه القيروانات، واتسع اهل البصره لوصول المير إليهم، وكان انقطاع ذلك عنهم قد أضر بهم، وانتهى إلى الخبيث الخبر بذلك، واتساع أهل البصرة، فعظم ذلك على الخبيث، فوجه علي بن أبان إلى نواحي جبى، فعسكر بالخيزرانية، وشغل منصور بن جعفر عن بذرقة القيروانات إلى البصرة، فعاد حال أهل البصرة إلى ما كانت عليه من الضيق وألح أصحاب الخبيث على أهل البصرة بالحرب صباحا ومساء.
    فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة، والجد في خرابها، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم، وإضرار الحصار بهم، وخراب ما حولها من القرى، وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة تخلو من الشهر.
    فذكر عن محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول: اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبت، فقيل لي: إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة، فأولت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقع في هذه الأيام، وما أخلق أمر البصرة أن يكون بعده.
    قال: فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإحالته إياه بينهم
    (9/481)
    ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي، وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى الأعراب، وأنفذه فأتاه منهم خلق كثير، فأناخوا بالقندل، ووجه إليهم الخبيث سليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بتطرق البصرة، والإيقاع بها، وتقدم إلى سليمان بن موسى في تمرين الأعراب على ذلك، فلما وقع الكسوف أنهض علي بن أبان، وضم إليه طائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد، وكتب إلى يحيى بن محمد البحراني- وهو يومئذ محاصر أهل البصرة- في إتيانها مما يلي نهر عدي، وضم سائر الأعراب إليه قال محمد بن الحسن: قال شبل: فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان، وبغراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، ومال الناس نحوه.
    وأقبل يحيى بمن معه مما يلي قصر انس قاصدا نحو الجسر، فدخل على ابن أبان المهلبي وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت وغادى يحيى البصرة يوم الأحد، فتلقاه بغراج وبريه في جمع فرداه، فرجع فأقام يومه ذلك، ثم غاداهم يوم الاثنين، فدخل وقد تفرق الجند، وهرب بريه، وانحاز بغراج بمن معه، فلم يكن في وجهه أحد يدافعه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم، ونادى منادي إبراهيم بن يحيى: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبة حتى ملئوا الرحاب.
    فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة في ذلك منهم، فأمر بأخذ السكك والطرق والدروب لئلا يتفرقوا، وغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد إلا الشاذ ثم انصرف يومه ذلك، فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخريبة قال محمد: وحدثني الفضل بن عدي الدارمي، قال: أنا حين وجه الخائن لحرب أهل البصرة في حيز أهل البصرة مقيم في بني سعد قال:
    فأتانا آت في الليل، فذكر أنه رأى خيلا مجتازة تؤم قصر عيسى بالخريبة،
    (9/482)
    فقال لي أصحابي: اخرج فتعرف لنا خبر هذه الخيل، فخرجت فإذا جماعة من بني تميم وبني أسد، فسألتهم عن حالهم، فزعموا انهم اصحاب العلوي المضمومون إلى علي بن أبان، وأن عليا يوافي البصرة في غد تلك الليلة، وأن قصده لناحية بني سعد، وأن يحيى بن محمد بجمعه قاصد لناحية آل المهلب، فقالوا: قل لأصحابك من بني سعد: إن كنتم تريدون تحصين حرمكم، فبادروا إخراجهم قبل إحاطة الجيش بكم.
    قال الفضل: فرجعت إلى أصحابي، فأعلمتهم خبر الأعراب فاستعدوا، فوجهوا إلى بريه يعلمونه الخبر، فوافاهم فيمن كان بقي من الخول وجماعة من الجند وقت طلوع الفجر، فساروا حتى انتهوا إلى خندق يعرف ببني حمان، ووافاهم بنو تميم ومقاتلة السعدية، فلم يلبثوا ان طلع عليهم على ابن أبان في جماعة الزنج والأعراب على متون الخيل، فذهل بريه قبل لقاء القوم، فرجع إلى منزله، فكانت هزيمة، وتفرق من كان اجتمع من بني تميم، ووافى علي فلم يدافعه أحد، ومر قاصدا إلى المربد، ووجه بريه إلى بني تميم يستصرخهم، فنهض إليه منهم جماعة، فكان القتال بالمربد بحضرة دار بريه، ثم انهزم بريه عن داره، وتفرق الناس لانهزامه، فأحرقت الزنج داره، وانتهبوا ما كان فيها، فأقام الناس يقتلون هنالك، وقد ضعف أهل البصرة، وقوي عليهم الزنج، واتصلت الحرب بينهم إلى آخر ذلك اليوم، ودخل علي المسجد الجامع فأحرقه، وأدركه فتح غلام أبي شيث في جماعة من البصريين، فأنكشف علي وأصحابه عنهم، وقتل من الزنج قوم، ورجع علي فعسكر في الموضع المعروف بمقبرة بني شيبان، فطلب الناس سلطانا يقاتلون معه فلم يجدوه، وطلبوا بريها، فوجدوه قد هرب، وأصبح أهل البصرة يوم السبت، فلم يأتهم علي بن أبان، وغاداهم يوم الأحد، فلم يقف له أحد، وظفر بالبصرة.
    قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن سمعان، قال: كنت مقيما بالبصرة في الوقت الذي دخلها الزنج، وكنت أحضر مجلس إبراهيم بن محمد
    (9/483)
    ابن إسماعيل المعروف ببريه، فحضرته وحضر يوم الجمعة لعشر ليال خلون من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين وعنده شهاب بن العلاء العنبري، فسمعت شهابا يحدثه أن الخائن قد وجه بالأموال إلى البادية ليعرض بها رجال العرب، وأنه قد جمع جمعا كثيرا من الخيل، وهو يريد تورد البصرة بهم وبرجالته من الزنج، وليس بالبصرة يومئذ من جند السلطان إلا نيف وخمسون فارسا مع بغراج، فقال بريه لشهاب: إن العرب لا تقدم علي بمساءة، وكان بريه مطاعا في العرب، محببا إليهم.
    قال ابن سمعان: فانصرفت من مجلس بريه، فلقيت أحمد بن أيوب الكاتب، فسمعته يحكي عن هارون بن عبد الرحيم الشيعي، وهو يومئذ يلي بريد البصرة، أنه صح عنده أن الخائن جمع لثلاث خلون من شوال في تسعة أنفس، فكان وجوه أهل البصرة وسلطانها المقيم بها من الغبا عن حقيقة خبر الخائن على ما وصفت وقد كان الحصار عض أهل البصرة، وكثر الوباء بها، واستعرت الحرب فيها بين الحزبين المعروفين بالبلالية والسعدية.
    فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، أغارت خيل الخائن على البصرة صبحا في هذا اليوم، من ثلاثة أوجه من ناحية بني سعد والمربد والخريبة، فكان يقود الجيش الذي سار إلى المربد علي بن أبان، وقد جعل أصحابه فرقتين، فرقة ولي عليها رفيقا غلام يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، وأمرهم بالمصير إلى بني سعد، والفرقة الأخرى سار هو فيها إلى المربد، وكان يقود الخيل التي أتت من ناحية الخريبة يحيى بن محمد الأزرق البحراني، وقد جمع أصحابه من جهة واحدة، وهو فيهم، فخرج إلى كل فرقة من هؤلاء من خف من ضعفاء أهل البصرة، وقد جهدهم الجوع والخصار، وتفرقت الخيل التي كانت مع بغراج فرقتين: فرقة صارت إلى ناحية المربد وفرقة صارت إلى ناحية الخريبة، وقاتل من ورد ناحية بني سعد جماعة من مقاتلة السعدية فتح غلام أبي شيث وصحبه، فلم يغن قليل من أهل البصرة إلى جموع الخبيث شيئا، وهجم القوم بخيلهم ورجلهم
    (9/484)
    قال ابن سمعان: فإني يومئذ لفي المسجد الجامع، إذ ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبني حمان في وقت واحد، كأن موقديها كانوا على ميعاد، وذلك صدر يوم الجمعة، وجل الخطب، وأيقن أهل البصرة بالهلاك، وسعى من كان في المسجد الجامع إلى منازلهم، ومضيت مبادرا إلى منزلي، وهو يومئذ في سكة المربد، فلقيني منهزمو أهل البصرة في السكة راجعين نحو المسجد الجامع، وفي أخراهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي، وهو على بغل متقلد سيفا يصيح بالناس: ويحكم! أتسلمون بلدكم وحرمكم! هذا عدوكم قد دخل البلد، فلم يلووا عليه، ولم يسمعوا منه، فمضى وانكشفت سكة المربد، فصار بين المنهزمين والزنج فيها فضاء يسافر فيه البصر.
    قال محمد: فلما رأيت ذلك دخلت منزلي، وأغلقت بابي، وأشرفت فإذا خيل من الأعراب ورجالة الزنج، تقدمهم رجل على حصان كميت، بيده رمح، عليه عذبة صفراء، فسألت بعد أن صير بي إلى مدينة الخائن عن ذلك الرجل، فادعى علي بن أبان أنه ذلك الرجل، وأن الراية الصفراء رايته، ودخل القوم، فغابوا في سكة المربد إلى أن بلغوا باب عثمان، وذلك بعد الزوال ثم انصرفوا، فظن الناس من رعاع أهل البصرة وجهالهم أن القوم قد مضوا لصلاة الجمعة، وكان الذي صرفهم أنهم خشوا أن يخرج عليهم جمع السعدية والبلالية من المربعة، وخافوا الكمناء هناك، فانصرفوا وانصرف من كان بناحية زهران وبني حصن، وذلك بعد أن أحرقوا وأنهبوا واقتدروا على البلد، وعلموا أنه لا مانع لهم منه، فأغبوا السبت والأحد، ثم غادوا البصرة يوم الاثنين، فلم يجدوا عنها مدافعا، وجمع الناس إلى باب إبراهيم بن يحيى المهلبي وأعطوا الأمان.
    قال محمد بن سمعان: فحدثني الحسن بن عثمان المهلبي الملقب بمندلقة- وكان من أصحاب يحيى بن محمد- قال: أمرني يحيى في تلك الغداة بالمصير
    (9/485)
    إلى مقبره بني يشكر، وحمل ما كان هناك من التنانير، فصرت إليها، فحملت نيفا وعشرين تنورا على رءوس الرجال، حتى أتيت بها دار ابراهيم ابن يحيى، والناس يظنون أنها تعد لاتخاذ طعام لهم، وهم من الجوع وشدة الحصار والجهد على أمر عظيم، وكثر الجمع بباب إبراهيم بن يحيى، وجعلوا ينوبون ويزدادون، حتى أصبحوا وارتفعت الشمس.
    قال ابن سمعان: وأنا يومئذ قد انتقلت من سكة المربد من منزلي إلى دار جد أمي هشام المعروف بالداف، وكانت في بني تميم، وذلك للذي استفاض في الناس من دخول بني تميم في سلم الخائن، فإني لهناك إذ أتى المخبرون بخبر الوقعة بحضرة دار إبراهيم بن يحيى، فذكروا أن يحيى بن محمد البحراني أمر الزنج، فأحاطوا بذلك الجمع، ثم قال: من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى، فدخلت جماعة قليلة، وأغلقوا الباب دونهم ثم قيل للزنج:
    دونكم الناس فاقتلوهم، ولا تبقوا منهم أحدا فخرج إليهم محمد بن عبد الله المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فقال للزنج: كيلوا- وهي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله- فأخذ الناس السيف.
    قال الحسن بن عثمان: فإني لأسمع تشهدهم وضجيجهم، وهم يقتلون، ولقد ارتفعت أصواتهم بالتشهد، حتى لقد سمعت بالطفاوة، وهم على بعد من الموضع الذي كانوا به قال: ولما أتي على الجمع الذي ذكرنا أقبل الزنج على قتل من أصابوا، ودخل علي بن أبان يومئذ، فأحرق المسجد الجامع، وراح إلى الكلا، فأحرقه من الجبل إلى الجسر، والنار في كل ذلك تأخذ في كل شيء مرت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع، ثم ألحوا بالغدو والرواح على من وجدوا يسوقونهم إلى يحيى بن محمد، وهو يومئذ نازل بسيحان، فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله، ويقتله.
    ومن كان مملقا قتله وذكر عن شبل أنه قال: باكر يحيى البصرة يوم الثلاثاء بعد قتل من قتل بباب إبراهيم بن يحيى، فجعل ينادي بالأمان في الناس ليظهروا، فلم يظهر له أحد، وانتهى الخبر إلى الخبيث، فصرف علي بن أبان عن البصرة، وأفرد
    (9/486)
    يحيى بها لموافقة ما كان أتى يحيى من القتل إياه ووقوعه لمحبته، وأنه استقصر ما كان من علي بن أبان المهلبي من الإمساك عن العيث بناحية بني سعد.
    وقد كان علي بن أبان أوفد إلى الخبيث من بني سعد وفدا، فصاروا إليه، فلم يجدوا عنده خيرا، فخرجوا إلى عبادان، وأقام يحيى بالبصرة، فكتب إليه الخبيث يأمره بإظهار استخلاف شبل على البصرة ليسكن الناس، ويظهر المستخفي ومن قد عرف بكثرة المال، فإذا ظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم ففعل ذلك يحيى، فكان لا يخلو في يوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم، فمن عرف منهم باليسار استنظف ما عنده وقتله، ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل، حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا أتى عليه، وهرب الناس على وجوههم، وصرف الخبيث جيشه عن البصرة.
    قال محمد بن الحسن: ولما أخرب الخائن البصرة، وانتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه فيها، سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها أصحابي، واجتهدت في الدعاء، وسجدت، وجعلت ادعو في سجودي، فرفعت الى البصره، فرأيتها ورأيت أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلا واقفا في الهواء في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامرا، وهو قائم قد خفض يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة بأهلها، فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها وإن الملائكة لتنصرني وتؤيدني في حربي، وتثبت من ضعف قلبه من أصحابي.
    قال محمد بن الحسن: وانتسب الخبيث إلى يحيى بن زيد بن على بعد اخرابه بالبصرة، وذلك لمصير جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة إليه، وأنه كان فيمن أتاه منهم علي بن أحمد بن عيسى بن زيد، وعبد الله بن علي في
    (9/487)
    جماعة من نسائهم وحرمهم، فلما جاءوه ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى، وانتسب إلى يحيى بن زيد.
    قال محمد بن الحسن: سمعت الخبيث وقد حضره جماعة من النوفليين، فقال القاسم بن الحسن النوفلي: أنه قد كان انتهى إلينا أنك من ولد أحمد بن عيسى بن زيد، فقال: لست من ولد عيسى، أنا من ولد يحيى بن زيد.
    وهو في ذلك كاذب، لأن الإجماع في يحيى أنه لم يعقب إلا بنتا ماتت وهي ترضع.
    ذكر الخبر عن الحرب بين محمد المولد والزنج
    وفيها أشخص السلطان محمدا المولد إلى البصرة لحرب صاحب الزنج، فشخص من سامرا يوم الجمعة لليلة خلت من ذي القعدة.
    ذكر الخبر عما كان من أمر المولد هناك:
    ذكر ان محمدا المعروف بالمولد لما صار إلى ما هنالك نزل الأبلة، وجاء بريه، فنزل البصرة، واجتمع إلى بريه من أهل البصرة خلق كثير ممن كان هرب، وكان يحيى حين انصرف عن البصرة أقام بالنهر المعروف بالغوثي قال محمد: قال شبل: فلما قدم محمد المولد كتب الخبيث إلى يحيى يأمره بالمصير إلى نهراوا، فصار إليه بالجيش، وأقام يحارب المولد عشرة أيام، ثم أوطن المولد المقام، واستقر وفتر عن الحرب، فكتب الخبيث إلى يحيى يأمره بتبييته، ووجه إليه الشذا مع المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فبيته ونهض المولد بأصحابه، فقاتلهم بقية ليلته ومن غد إلى العصر، ثم ولى منصرفا، ودخل الزنج عسكره، فغنموا ما فيه فكتب يحيى إلى الخبيث بخبره، فكتب إليه يأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، وانصرف، فمر بالجامدة، فأوقع بأهلها، وانتهب كل ما كان في تلك القرى، وسفك ما قدر على سفكه من الدماء، ثم عسكر بالجالة، فأقام هناك مدة، ثم عاد إلى نهر معقل
    (9/488)
    وفيها أخذ محمد المولد سعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، وكان قد تغلب على البطائح، هو وأصحابه من باهلة وأفسدوا الطريق.
    وفيها خالف محمد بن واصل السلطان بفارس، وغلب عليها.
    وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس.
    بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بن العباس وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلى- وقيل له الصقلبي وهو من أهل بيت المملكة، لأن أمه صقلبية- على ميخائيل بن توفيل ملك الروم فقتله، وكان ميخائيل منفردا بالمملكة أربعا وعشرين سنة، وتملك الصقلبي بعده على الروم.
    (9/489)
    ثم دخلت
    سنة ثمان وخمسين ومائتين
    ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة
    فمن ذلك ما كان من الموافاة بسعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي باب السلطان، وأمر السلطان بضربه بالسياط، فضرب سبعمائة سوط- فيما قيل- في شهر ربيع الآخر منها، فمات فصلب.
    وفيها ضرب عنق قاض لصاحب الزنج، كان يقضي له بعبادان، وأعناق أربعة عشر رجلا من الزنج بباب العامة بسامرا، كانوا أسروا من ناحية البصرة.
    وفيها أوقع مفلح بأعراب بتكريت، ذكر أنهم كانوا مايلوا الشاري مساورا وفيها أوقع مسرور البلخي بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأصاب فيهم.
    وفيها دخل محمد بن واصل في طاعة السلطان، وسلم الخراج والضياع بفارس إلى محمد بن الحسين بن الفياض.
    وعقد المعتمد يوم الاثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول لأبي أحمد أخيه على ديار مضر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس مستهل شهر ربيع الآخر، فخلع عليه وعلى مفلح، فشخصا نحو البصرة وركب ركوبا عاما، وشيع أبا أحمد إلى بركوار، وانصرف.
    (9/490)
    ذكر الخبر عن قتل منصور بن جعفر الخياط
    وفيها قتل منصور بن جعفر بن دينار الخياط.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان أمره: ذكر أن الخبيث لما فرغ أصحابه من أمر البصرة، أمر علي بن أبان المهلبي بالمصير إلى جبى لحرب منصور بن جعفر، وهو يومئذ بالأهواز، فخرج إليه، فأقام بإزائه شهرا، وجعل منصور يأتي عسكر علي وهو مقيم بالخيزرانية، ومنصور إذ ذاك في خف من الرجال، فوجه الخبيث إلى على ابن أبان باثنتي عشرة شذاة مشحونة بجلد أصحابه، وولى أمرها المعروف بأبي الليث الأصبهاني، وأمره بالسمع والطاعة لعلي بن أبان، فصار المعروف بأبي الليث إلى علي، فأقام مخالفا له، مستبدا بالرأي عليه، وجاء منصور كما كان يجيء للحرب، ومعه شذوات، فبدر إليه أبو الليث عن غير مؤامرة منه لعلي بن أبان، فظفر منصور بالشذوات التي كانت معه، وقتل فيها من البيضان والزنج خلقا كثيرا، وأفلت أبو الليث، فانصرف إلى الخبيث، فانصرف علي بن أبان وجميع من كان معه، فأقاموا شهرا، ثم رجع علي لمحاربة منصور في رجاله، فلما استقر علي وجه طلائع يأتونه بأخبار منصور وعساكره، وكان لمنصور وال مقيم بكرنبا، فبيت علي بن أبان ذلك القائد، فقتله وقتل عامة من كان معه، وغنم ما كان في عسكره، وأصاب أفراسا، وأحرق العسكر، وانصرف من ليلته حتى صار في ذنابة نهر جبى وبلغ الخبر منصورا، فسار حتى انتهى إلى الخيزرانية، فخرج إليه علي في نفير من أصحابه، وكانت الحرب بينهما منذ ضحى ذلك اليوم إلى وقت الظهر، ثم انهزم منصور، وتفرق عنه أصحابه، وانقطع عنهم، وأدركته طائفة من الزنج اتبعوا أثره إلى نهر يعرف بعمر بن مهران، فلم يزل يكر عليهم حتى تقصفت رماحه، ونفدت سهامه، ولم يبق معه سلاح، ثم حمل نفسه على
    (9/491)
    النهر ليعبر، فصاح بحصان كان تحته، فوثب وقصرت رجلاه، فانغمس في الماء.
    قال شبل: كان سبب تقصير الفرس عن عبور النهر بمنصور، أن رجلا من الزنج كان ألقى نفسه لما راى منصورا قاصدا نحو النهر يريد عبوره فسبقه سباحة، فلما وثب الفرس تلقاه الأسود، فنكص به، فغاضا معا، ثم أطلع منصور رأسه، فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح يقال له أبرون، فاحتز رأسه، وأخذ سلبه، وقتل ممن كان معه جماعة كثيرة، وقتل مع منصور أخوه خلف بن جعفر، فولى يارجوخ ما كان إلى منصور من العمل اصغجون
    . ذكر الخبر عن قتل مفلح
    ولاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى منها، قتل مفلح بسهم أصابه بغير نصل في صدغه يوم الثلاثاء، فأصبح ميتا يوم الأربعاء في غد ذلك اليوم، وحملت جثته إلى سامرا، فدفن بها.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان الوصول إليه:
    قد مضى ذكري شخوص أبي أحمد بن المتوكل من سامرا إلى البصرة لحرب اللعين لما تناهى إليه وإلى المعتمد ما كان من فظيع ما ركب من المسلمين بالبصرة، وما قرب منها من سائر أرض الإسلام، فعاينت أنا الجيش الذي شخص فيه أبو أحمد ومفلح ببغداد، وقد اجتازوا بباب الطاق، وأنا يومئذ نازل هنالك، فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون: قد رأينا جيوشا كثيرة من الخلفاء، فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة، وأكمل سلاحا وعتادا، وأكثر عددا وجمعا، وأتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير
    (9/492)
    وذكر عن محمد بن الحسن أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل قبل موافاة أبي أحمد موضع الخبيث، فاستأذنه في المصير إلى نهر العباس، فكره ذلك، وخاف أن يوافيه جيش السلطان، وأصحابه متفرقون، فألح عليه يحيى حتى أذن له، فخرج واتبعه أكثر أهل عسكر الخبيث.
    وكان علي بن أبان مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج، والبصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر الخبيث، فهم يغادونها ويراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها، فليس بعسكر الخبيث يومئذ من أصحابه إلا القليل، فهو على ذلك من حاله حتى وافى أبو أحمد في الجيش الذي كان معه فيه مفلح، فوافى جيش عظيم هائل لم يرد على الخبيث مثله، فلما انتهى إلى نهر معقل هرب من كان هناك من جيش الخبيث، فلحقوا به مرعوبين، فراع ذلك الخبيث، فدعا برئيسين من رؤساء جيشه الذي كان هناك، فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما، فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد، وكثرة عدد أهله وإحكام عدتهم، وأن الذي عاينا من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها، فسألهما: هل علما من يقود الجيش، فقالا: لا قد اجتهدنا في علم ذلك، فلم نجد من يصدقنا عنه فوجه الخبيث طلائعه في سميريات لتعرف الخبر، فرجعت رسله إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه، ولم يقف أحد منهم على من يقوده ويرأسه، فزاد ذلك في جزعه وارتياعه، فبادر بالإرسال إلى علي بن أبان، يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن معه، ووافى الجيش، فأناخ بإزائه، فلما كان اليوم الذي كانت فيه الوقعة وهو يوم الأربعاء، خرج الخبيث ليطوف في عسكره ماشيا، ويتأمل الحال فيمن هو مقيم معه من حزبه ومن هو مقيم بإزائه من أهل حربه، وقد كانت السماء مطرت في ذلك اليوم مطرا خفيفا والأرض ثرية تزل عنها الأقدام، فطوف ساعة من أول النهار، ثم رجع فدعا بدواة وقرطاس لينفذ كتابا إلى علي بن أبان، يعلمه ما قد أطله من الجيش
    (9/493)
    ويأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال، فإنه لفي ذلك إذ أتاه المكتنى أبا دلف- وهو أحد قواد السودان- فقال له: إن القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج، وليس في وجوههم من يردهم حتى انتهوا إلى الحبل الرابع.
    فصاح به وانتهره، وقال: اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت، وإنما ذلك جزع دخلك لكثرة ما رأيت من الجمع، فانخلع قلبك، ولست تدري ما تقول.
    فخرج أبو دلف من بين يديه، وأقبل على كاتبه، وقد كان أمر جعفر بن إبراهيم السجان بالنداء في الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب، فأتاه السجان، فأخبره أنه قد ندب الزنج، فخرجوا وإن أصحابه قد ظفروا بسميريتين، فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة، فرجع ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا، حتى أصيب مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي به، ووقعت الهزيمة، وقوي الزنج على أهل حربهم، فنالوهم بما نالوهم به من القتل ووافى الخبيث زنجه بالرءوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه، فكثرت الرءوس يومئذ حتى ملأت كل شيء، وجعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادونها بينهم.
    وأتي الخائن بأسير من أبناء الفراغنة، فسأله عن رأس الجيش، فأعلمه بمكان أبي أحمد ومفلح، فارتاع لذكر أبي أحمد- وكان إذا راعه أمر كذب به- فقال: ليس في الجيش غير مفلح! لأني لست أسمع الذكر إلا له، ولو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد، ولما كان مفلح إلا تابعا له، ومضافا إلى صحبته.
    وقد كان أهل عسكر الخبيث لما خرج عليهم أصحاب أبي أحمد، جزعوا جزعا شديدا، وهربوا من منازلهم، ولجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب ولا جسر يومئذ عليه، فغرق فيه يومئذ خلق كثير من النساء والصبيان، ولم يلبث الخبيث بعد الوقعة إلا يسيرا، حتى وافاه علي بن أبان في جمع من أصحابه، فوافاه وقد استغنى عنه، ولم يلبث مفلح أن مات، وتحيز أبو أحمد
    (9/494)
    إلى الأبلة، ليجمع ما فرقت الهزيمة منه، ويجدد الاستعداد، ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به.
    قال محمد بن الحسن: فكان الخبيث لا يدري كيف قتل مفلح، فلما بلغه أنه أصيب بسهم، ولم ير أحدا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له.
    قال: فسمعته يقول: سقط بين يدي سهم، فأتاني به واح خادمي، فدفعه إلي، فرميت به فأصبت مفلحا.
    قال محمد: وكذب في ذلك، لأني كنت حاضرا ذلك المشهد، وما زال عن فرسه حتى أتاه المخبر بخبر الهزيمة، وأتي بالرءوس وانقضت الحرب.
    وفي هذه السنة وقع الوباء في الناس في كور دجلة، فهلك فيها خلق كثير في مدينة السلام وسامرا وواسط وغيرها.
    وفيها قتل خرسخارس ببلاد الروم في جماعة من أصحابه.
    ذكر خبر اسر يحيى بن محمد البحرانى ثم قتله
    وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني صاحب قائد الزنج، وفيها قتل.
    ذكر الخبر عن أسره وقتله وكيف كان ذلك: ذكر عن محمد بن سمعان الكاتب أنه قال: لما وافى يحيى بن محمد نهر العباس، لقيه بفوهه النهر ثلاثمائة وسبعون فارسا من أصحاب أصغجون العامل- كان عامل الأهواز في ذلك الوقت، كانوا مرتبين في تلك الناحية- فلما بصر بهم يحيى استقلهم، ورأى كثرة من معه من الجمع مما لا خوف عليه معهم، فلقيتهم أصحابه غير مستجنين بشيء يرد عنهم عاديتهم، ورشقتهم أصحاب أصغجون بالسهام، فأكثروا الجراح فيهم فلما راى ذلك
    (9/495)
    يحيى عبر إليهم عشرين ومائة فارس كانت معه، وضم إليهم من الرجال جمعا كثيرا، وانحاز أصحاب أصغجون عنهم، وولج البحراني ومن معه نهر العباس، وذلك وقت قلة الماء في النهر، وسفن القيروانات جانحة على الطين.
    فلما أبصر أصحاب تلك السفن بالزنج تركوا سفنهم، وحازها الزنج، وغنموا ما كان فيها غنائم عظيمة جليلة، ومضوا بها متوجهين نحو البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة، وتركوا الطريق النهج، وذلك للتحاسد الذي كان بين البحراني وعلي بن أبان المهلبي وإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق الذي يمر فيها بعسكر علي، فأصغى إلى مشورتهم، فشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة التي ذكرنا، فسلكها حتى ولج البطيحة، وسرح الخيل التي كانت معه، وجعل معها أبا الليث الأصبهاني، وأمره بالمصير بها إلى عسكر قائد الزنج.
    وكان الخبيث وجه إلى يحيى البحراني يعلمه ورود الجيش الذي ورد عليه، ويأمره بالتحرز في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم، فوجه البحراني الطلائع إلى دجلة، فانصرفت طلائعه وجيش أبي أحمد منصرف من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، وكان السبب في رجوع الجيش إلى نهر أبي الأسد، أن رافع بن بسطام وغيره من مجاوري نهر العباس وبطيحة الصحناة كتبوا إلى أبي أحمد يعرفونه خبر البحراني وكثرة جمعه، وأنه يقدر أن يخرج من نهر العباس إلى دجلة، فيسبق إلى نهر أبي الأسد ويعسكر به، ويمنعه الميرة، ويحول بينه وبين من يأتيه أو يصدر عنه، فرجعت إليه طلائعه بخبره، وعظم أمر الجيش عنده، وهيبته منه، فرجع في الطريق الذي كان سلكه بمشقة شديدة نالته ونالت أصحابه، وأصابهم وباء من ترددهم في تلك البطيحة، فكثر المرض فيهم فلما قربوا من نهر العباس جعل يحيى بن محمد سليمان بن جامع على مقدمته، فمضى يقود أوائل الزنج، وهم يجرون سفنهم، يريدون الخروج من نهر العباس، وفي النهر للسلطان شذوات وسميريات تحمي فوهته من قبل أصغجون، ومعها جمع من الفرسان والرجالة، فراعه وأصحابه ذلك،
    (9/496)
    فخلوا سفنهم، وألقوا أنفسهم في غربي نهر العباس، وأخذوا على طريق الزيدان ماضين نحو عسكر الخبيث، ويحيى غار بما أصابهم، لم يأته علم شيء من خبرهم، وهو متوسط عسكره، قد وقف على قنطرة قورج العباس في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء، فهو مشرف على أصحابه الزنج، وهم في جر تلك السفن التي كانت معهم، فمنها ما يغرق، ومنها ما يسلم.
    قال محمد بن سمعان: وأنا في تلك الحال معه واقف، فأقبل علي متعجبا من شدة جرية الماء وشدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن، فقال لي:
    أرأيت لو هجم علينا غدونا في هذه الحال، من كان أسوأ حالا منا! فما انقضى كلامه حتى وافاه طاشتمر التركي في الجيش الذي أنفذه إليهم أبو أحمد عند رجوعه من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، ووقعت الضجة في عسكره.
    قال محمد: فنهضت متشوقا للنظر، فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس ويحيى به، فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم في الماء جملة، فعبروا إلى الجانب الشرقي، وعري الموضع الذي كان فيه يحيى، فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا، فنهض يحيى عند ذلك، فأخذ درقته وسيفه، واحتزم بمنديل، وتلقى القوم الذين أتوه في النفر الذين معه، فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام، وأسرع فيهم الجراح، وجرح البحراني بأسهم ثلاثة في عضديه وساقه اليسرى فلما رآه أصحابه جريحا تفرقوا عنه، فلم يعرف فيقصد له فرجع حتى دخل بعض تلك السفن، وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر، وذلك وقت الضحى من ذلك اليوم، وأثقلت يحيى الجراحات التي أصابته فلما رأى الزنج ما نزل به اشتد جزعهم، وضعفت قلوبهم، فتركوا القتال وكانت همتهم النجاة بأنفسهم، وحاز أصحاب السلطان الغنائم التي كانت في السفن بالجانب الغربي من النهر، فلما حووها أقعدوا في بعض تلك السفن النفاطين، وعبروهم إلى شرقي النهر، فأحرقوا ما كان هناك من السفن
    (9/497)
    التي كانت في أيدي الزنج، وانفض الزنج عن يحيى، فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل فيهم ذريع، وأسر كثير، فلما أمسوا وأسدف الليل طاروا على وجوههم، فلما رأى يحيى تفرق أصحابه، ركب سميرية كانت لرجل من المقاتلة البيضان، وأقعد معه فيها متطببا يقال له عباد يعرف بأبي جيش، وذلك لما كان به من الجراح، وطمع في التخلص إلى عسكر الخبيث، فسار حتى قرب من فوهه النهر، فبصر ملاحو السميرية بالشذا والسميريات واعتراضها في النهر، فجزعوا من المرور بهم، وأيقنوا أنهم مدركون، فعبروا إلى الجانب الغربي، فألقوه ومن معه على الأرض في زرع كان هناك، فخرج يمشي وهو مثقل، حتى ألقى نفسه، فأقام بموضعه ليلته تلك، فلما أصبح بموضعه ذلك نهض عباد المتطبب الذي كان معه، فجعل يمشي متشوقا لأن يرى إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان، فأشار إليهم فأخبرهم بمكان يحيى، وأتاه بهم حتى سلمه إليهم.
    وقد زعم قوم أن قوما مروا به، فرأوه فدلوا عليه، فأخذ فانتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج، فاشتد لذلك جزعه، وعظم عليه توجعه.
    ثم حمل يحيى بن محمد الأزرق البحراني إلى أبي أحمد، فحمله أبو أحمد إلى المعتمد بسامرا، فأمر ببناء دكة بالحير، بحضرة مجرى الحلبة فبنيت، ثم رفع للناس حتى أبصروه، فضرب بالسياط.
    وذكر أنه دخل سامرا يوم الأربعاء لتسع خلون من رجب على جمل، وجلس المعتمد من غد ذلك اليوم- وذلك يوم الخميس- فضرب بين يديه مائتي سوط بثمارها، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم خبط بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق.
    قال محمد بن الحسن: لما قتل يحيى البحراني وانتهى خبره إلى صاحب الزنج، قال: عظم علي قتله، واشتد اهتمامي به، فخوطبت فقيل لي: قتله خير لك، أنه كان شرها ثم أقبل على جماعة كنت أنا فيهم، قال: ومن شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نصيبه، فكان فيه عقدان، فوقعا في
    (9/498)
    يد يحيى، فأخفى عني أعظمهما خطرا، وعرض علي أخسهما، واستوهبنيه فوهبته له، فرفع لي العقد الذي أخفاه، فدعوته فقلت: أحضرني العقد الذي أخفيته، فأتاني بالعقد الذي وهبته له، وجحد ان يكون اخذه غيره، فرفع لي العقد، فجعلت أصفه وأنا أراه، فبهت، وذهب فأتاني به، واستوهبنيه فوهبته له، وأمرته بالاستغفار.
    وذكر عن محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن قائد الزنج قال لي في بعض أيامه: لقد عرضت علي النبوة فأبيتها، فقلت: ولم ذاك؟
    قال: لأن لها أعباء خفت ألا اطيق حملها!
    ذكر خبر انحياز ابى احمد بن المتوكل الى واسط
    وفي هذه السنة انحاز أبو أحمد بن المتوكل من الموضع الذي كان به من قرب موضع قائد الزنج إلى واسط.
    ذكر الخبر عن سبب الحيازة ذلك إليها: ذكر أن السبب في ذلك كان أن أبا أحمد لما صار إلى نهر أبي الأسد، فأقام به، كثر العلل فيمن معه من جنده وغيرهم، وفشا فيهم الموت، فلم يزل مقيما هنالك حتى أبل من نجا منهم من الموت من علته، ثم انصرف راجعا إلى باذاورد، فعسكر به، وأمر بتجديد الآلات وإعطاء من معه من الجند أرزاقهم وإصلاح الشذوات والسميريات والمعابر، وشحنها بالقواد من مواليه وغلمانه، ونهض نحو عسكر الخبيث، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبي الخصيب وغيره، وأمر جماعة منهم بلزومه والمحاربة معه في الموضع الذي يكون فيه، فمال أكثر القوم حين وقعت الحرب، والتقى الفريقان إلى نهر أبي الخصيب، وبقي أبو أحمد في قلة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه إشفاقا من أن يطمع فيه الزنج، وفيمن بإزائهم من أصحابه وهم بسبخة
    (9/499)
    نهر منكى، وتأمل الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه، وعرفوا موضعه، فكثروا عليه، واستعرت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وأحرق أصحاب أبي أحمد قصورا ومنازل من منازل الزنج، واستنقذوا من النساء جمعا كثيرا، وصرف الزنج جمعهم إلى الموضع الذي كان به أبو أحمد فظهر الموفق على الشذا، وتوسط الحرب محرضا أصحابه حتى أتاه من جمع الزنج ما علم أنه لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى أن الحزم في محاجزتهم، فأمر أصحابه عند ذلك بالرجوع إلي سفنهم على تؤدة ومهل، فصار أبو أحمد إلى الشذا التي كان فيها بعد أن استقر أكثر الناس في سفنهم، وبقيت طائفة من الناس، ولجئوا إلى تلك الأدغال والمضايق، فانقطعوا عن أصحابهم، فخرج عليهم كمناء الزنج، فاقتطعوهم ووقعوا بهم، فحاموا عن أنفسهم، وقاتلوا قتالا شديدا، وقتلوا عددا كثيرا من الزنج، وأدركتهم المنايا فقتلوا، وحملوا إلى قائد الزنج مائة رأس وعشرة أرؤس، فزاد ذلك في عتوه ثم انصرف أبو أحمد إلى الباذاورد في الجيش، وأقام يعبي أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره، وذلك في أيام عصوف الريح، فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد منصرفا، وذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط، فلما صار إلى واسط تفرق عنه عامه من كان معه من اصحابه.
    [أخبار متفرقة]
    ولعشر خلون من شعبان كانت هدة صعبة هائلة بالصيمرة ثم سمع من غد ذلك اليوم وذلك يوم الأحد، هدة هي أعظم من التي كانت في اليوم الأول، فتهدم من ذلك أكثر المدينة، وتساقطت الحيطان وهلك من أهلها- فيما قيل- زهاء عشرين ألفا وضرب بباب العامة بسامرا رجل يعرف بأبي فقعس، قامت عليه البينة- فيما قيل- بشتم السلف ألف سوط وعشرين سوطا، فمات وذلك يوم الخميس
    (9/500)
    لسبع خلون من شهر رمضان ومات يارجوخ يوم الجمعة لثمان خلون من شهر رمضان، فصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل، وحضر جعفر بن المعتمد وفيها كانت وقعة بين موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد، فهزم موسى أصحاب الحسن وفيها انصرف مسرور البلخي عن مساور الشاري إلى سامرا، ومعه أسراء من الشراة، واستخلف على عسكره بالحديثة جعلان ثم شخص أيضا مسرور البلخي إلى ناحية البوازيج، فلقي مساورا بها، فكانت بينهما وقعة بها أسر مسرور من أصحابه جماعة، ثم انصرف لليال بقيت من ذي الحجة وفي هذه السنة حدث في الناس ببغداد داء كان أهلها يسمونه القفاع.
    وفيها رجع أكثر الحاج من القرعاء خوف العطش، وسلم من سار منهم إلى مكة.
    وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن.
    (9/501)
    ثم دخلت
    سنة تسع وخمسين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك منصرف أبي أحمد بن المتوكل من واسط، وقدومه سامرا يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الأول، واستخلافه على واسط وحرب الخبيث بتلك الناحية محمدا المولد
    . ذكر الخبر عن مقتل كنجور
    ومن ذلك مقتل كنجور.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله:
    وكان سبب ذلك أنه كان والي الكوفة، فانصرف عنها يريد سامرا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى، فحمل إليه- فيما ذكر- مال ليفرق في أصحابه أرزاقهم منه، فلم يقنع بذلك، ومضى حتى ورد عكبراء في ربيع الأول، فتوجه إليه من سامرا عدة من القواد، فيهم: ساتكين وتكين وعبد الرحمن ابن مفلح وموسى بن أتامش وغيرهم، فذبحوه ذبحا، وحمل رأسه إلى سامرا، لليلة بقيت من شهر ربيع الأول، وأصيب معه نيف وأربعون ألف دينار، وألزم كاتب له نصراني مالا، ثم ضرب هذا الكاتب في شهر ربيع الآخر بباب العامة ألف سوط، فمات.
    وفيها غلب شركب الجمال على مرو وناحيتها وأنهبها.
    وفيها انصرف يعقوب بن الليث عن بلخ، فأقام بقهستان، وولى عماله هراة وبوشنج وباذغيس، وانصرف إلى سجستان
    (9/502)
    وفيها فارق عبد الله السجزي يعقوب بن الليث مخالفا له، وحاصر نيسابور، فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء، فاختلفوا بينهما، ثم ولاه الطبسين وقهستان
    . ذكر خبر دخول المهلبى ويحيى بن خلف سوق الاهواز
    ولست خلون من ارجب منها، دخل المهلبى ويحيى بن خلف النهر بطى سوق الأهواز، فقتلوا بها خلقا كثيرا، وقتلوا صاحب المعونة بها.
    ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وكيف كان هلاك صاحب الحرب من قبل السلطان فيها:
    ذكر أن قائد الزنج خفي عليه أمر الحريق الذي كان في عسكر أبي أحمد بالباذاورد، فلم يعلم خبره إلا بعد ثلاثة أيام، ورد به عليه رجلان من أهل عبادان فأخبراه، فعاد للعيث، وانقطعت عنه الميرة، فانهض على ابن أبان المهلبي، وضم إليه أكثر الجيش، وسار معه سليمان بن جامع، وقد ضم إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني، وقد ضمت إليه الخيل وسائر الناس مع علي بن أبان المهلبي والمتولي للأهواز يومئذ رجل يقال له أصغجون، ومعه نيزك في جماعة من القواد، فسار إليهم علي بن أبان في جمعه من الزنج، ونذر به أصغجون، فنهض نحوه في أصحابه، فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدستماران، فكانت الدبرة يومئذ على أصغجون، فقتل نيزك في جمع كثير من أصحابه، وغرق أصغجون، وأسر الحسن بن هرثمة المعروف بالشار يومئذ، والحسن بن جعفر المعروف براوشار.
    قال محمد بن الحسن: فحدثني الحسن بن الشار، قال: خرجنا يومئذ مع أصغجون للقاء الزنج، فلم يثبت أصحابنا، وانهزموا، وقتل نيزك، وفقد أصغجون، فلما رأيت ذلك نزلت عن فرس محذوف كان تحتي، وقدرت
    (9/503)
    أن أتناول بذنب جنيبة كانت معي، وأقحمها النهر، فأنجو بها فسبقني إلى ذلك غلامي، فنجا وتركني، فأتيت موسى بن جعفر لأتخلص معه، فركب سفينة، ومضى فيها، ولم يقم علي، وبصرت بزورق فأتيته فركبته، فكثر الناس علي وجعلوا يطلبون الركوب معي فيتعلقون بالزورق حتى غرقوه، فانقلب، وعلوت ظهره، وذهب الناس عني، وأدركني الزنج، فجعلوا يرمونني بالنشاب، فلما خفت التلف قلت: أمسكوا عن رميي، وألقوا إلي شيئا أتعلق به، وأصير إليكم، فمدوا إلي رمحا، فتناولته بيدي وصرت إليهم.
    وأما الحسن بن جعفر، فإن أخاه حمله على فرس، واعده ليسفر بينه بين أمير الجيش، فلما وقعت الهزيمة بادر في طلب النجاة، فعثر به فرسه فأخذ.
    فكتب علي بن أبان إلى الخبيث بأمر الوقعة، وحمل إليه رءوسا وأعلاما كثيرة، ووجه الحسن بن الشار والحسن بن جعفر وأحمد بن روح، فأمر بالأسرى إلى السجن، ودخل علي بن أبان الأهواز، فأقام يعيث بها إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث.
    شخوص موسى بن بغا لحرب صاحب الزنج
    وفيها شخص موسى بن بغا عن سامرا لحربه، وذلك لثلاث عشر بقيت من ذي القعدة، وشيعه المعتمد إلى خلف الحائطين، وخلع عليه هناك.
    وفيها وافى عبد الرحمن بن مفلح الأهواز وإسحاق بن كنداج البصرة وإبراهيم بن سيما باذاورد لحرب قائد الزنج من قبل موسى بن بغا.
    ذكر الخبر عما كان من أمر هؤلاء في النواحي التي ضمت إليهم مع أصحاب قائد الزنج في هذه السنة:
    ذكر أن ابن مفلح لما وافى الأهواز، أقام بقنطرة أربك عشرة أيام، ثم
    (9/504)
    مضى إلى المهلبي، فواقعه، فهزمه المهلبي وانصرف، واستعد ثم عاد لمحاربته، فأوقع به وقعة غليظة، وقتل من الزنج قتلا ذريعا، وأسر أسرى كثيرة، وانهزم علي بن أبان، وأفلت ومن معه من الزنج، حتى وافوا بيانا، فأراد الخبيث ردهم، فلم يرجعوا للذعر الذي خالط قلوبهم فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره، فدخلوا جميعا، فأقاموا بمدينته ووافى عبد الرحمن حصن المهدي ليعسكر به، فوجه إليه الخبيث علي بن أبان، فواقعه فلم يقدر عليه، ومضى علي يريد الموضع المعروف بالدكر، وإبراهيم بن سيما يومئذ بالباذاورد، فواقعه إبراهيم، فهزم علي بن أبان، وعاوده فهزمه أيضا إبراهيم، فمضى في الليل، وأخذ معه أدلاء، فسلكوا به الآجام والأدغال، حتى وافى نهر يحيى، وانتهى خبره إلى عبد الرحمن، فوجه إليه طاشتمر في جمع من الموالي، فلم يصل إلى علي ومن معه لوعورة الموضع الذي كانوا فيه، وامتناعه بالقصب والحلافي، فأضرمه عليهم نارا، فخرجوا منه هاربين، فأسر منهم أسرى، وانصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى والظفر، ومضى على ابن أبان حتى وافى نسوخا، فأقام هناك فيمن معه من أصحابه، وانتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح، فصرف وجهه نحو العمود، فوافاه وأقام به.
    وصار علي بن أبان إلى نهر السدرة، وكتب إلى الخبيث يستمده ويسأله التوجيه اليه بالشذاءات، فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة، فيها جمع كثير من أصحابه فسار علي ومعه الشذا حتى وافى عبد الرحمن، وخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فلم يكن بينهما قتال، وتواقف الجيشان يومهما ذلك، فلما كان الليل، انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم وصبرهم، ومضى فيهم ومعه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني، وترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره، فصار من وراء عبد الرحمن، ثم بيته في عسكره، فنال منه ومن أصحابه نيلا، وانحاز عبد الرحمن عنه، وخلى عن أربع شذوات من شذواته،
    (9/505)
    فأخذها علي وانصرف، ومضى عبد الرحمن لوجهة حتى وافى الدولاب فأقام به، وأعد رجالا من رجاله، وولى عليهم طاشتمر، وأنفذهم إلى على ابن ابان فوافوه بنواحي بياب آزر، فأوقعوا به وقعة، انهزم منها إلى نهر السدرة، وكتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزام علي عنه، فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود، فأقام به، واستعد أصحابه للحرب، وهيأ شذواته، وولى عليها طاشتمر، فسار إلى فوهة نهر السدرة، فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة، انهزم منها علي، وأخذ منه عشر شذوات، ورجع علي إلى الخبيث مفلولا مهزوما، وسار عبد الرحمن من فوره، فعسكر ببيان، فكان عبد الرحمن ابن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى عسكر الخبيث، فيوقعان به، ويخفيان من فيه، وإسحاق بن كنداج يومئذ مقيم بالبصرة، قد قطع الميرة عن عسكر الخبيث، فكان الخبيث يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما حتى ينقضي الحرب، ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة، فيواقع بهم إسحاق بن كنداج، فأقاموا في ذلك بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث، ووليها مسرور البلخي، وانتهى الخبر بذلك إلى الخبيث.
    وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس، ودخلها أصحابه وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن سنان القزويني ووهسوذان بن جستان الديلمي، فهزم محمد بن الفضل وهسوذان.
    وفيها ولي موسى بن بغا الصلابي الري حين وثب كيغلغ على تكين، فقتله فسار إليها.
    وفيها غلب صاحب الروم على سميساط، ثم نزل على ملطية، وحاصر أهلها، فحاربه أهل ملطية فهزموه، وقتل أحمد بن محمد القابوس نصرا الإقريطشي بطريق البطارقة.
    وفيها وجه من الأهواز جماعة من الزنج أسروا إلى سامرا، فوثبت العامة بهم بسامرا، فقتلوا أكثرهم وسلبوهم.
    (9/506)
    ذكر الخبر عن دخول يعقوب بن الليث نيسابور
    وفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور.
    ذكر الخبر عن الكائن الذي كان منه هناك:
    ذكر أن يعقوب بن الليث صار إلى هراة، ثم قصد نيسابور، فلما قرب منها وأراد دخولها، وجه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقيه، فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته، فتلقوه، ثم دخل نيسابور لأربع خلون من شوال بالعشي، فنزل طرفا من أطرافها يعرف بداوداباذ، فركب إليه محمد بن طاهر، فدخل عليه في مضربه، فساءله، ثم أقبل على تأنيبه وتوبيخه على تفريطه في عمله، ثم انصرف وأمر عزيز بن السري بالتوكيل به، وصرف محمد بن طاهر وولى عزيزا نيسابور، ثم حبس محمد بن طاهر وأهل بيته وورد الخبر بذلك على السلطان، فوجه إليه حاتم بن زيرك بن سلام، ووردت كتب يعقوب على السلطان لعشر بقين من ذي القعده، فقعد- فيما ذكر- جعفر ابن المعتمد وأبو أحمد بن المتوكل في إيوان الجوسق، وحضر القواد، وأذن لرسل يعقوب فذكر رسله ما تناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان، وأن الشراة والمخالفين قد غلبوا عليها، وضعف محمد بن طاهر، وذكروا مكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إياه قدومه عليهم واستعانتهم، وأنه صار إليها، فلما كان على عشرة فراسخ من نيسابور، سار إليه أهلها، فدفعوها إليه فدخلها فتكلم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى، وقالا للرسل: أن أمير المؤمنين لا يقار يعقوب على ما فعل، وأنه يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولاه إياه، وأنه لم يكن له أن يفعل ذلك بغير أمره فليرجع، فإنه إن فعل كان من الأولياء، وإلا لم يكن له إلا ما للمخالفين وصرف إليه رسله بذلك ووصلوا، وخلع على كل واحد منهم خلعة فيها ثلاثة أثواب، وكانوا أحضروا رأسا على قناة فيه رقعة فيها: هذا رأس عدو الله عبد الرحمن الخارجي بهراة، ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، قتله يعقوب بن الليث
    [أخبار متفرقة]
    وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس المعروف ببريه
    (9/507)
    ثم دخلت
    سنة ستين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمما كان فيها من ذلك قتل رجل من أكراد مساور الشاري محمد بن هارون بن المعمر، وجده في زورق يريد سامرا، فقتله وحمل رأسه إلى مساور، فطلبت ربيعة بدمه في جمادى الآخرة، فندب مسرور البلخي وجماعة من القواد إلى أخذ الطريق على مساور.
    وفيها قتل قائد الزنج علي بن زيد العلوي صاحب الكوفه.
    خبر الوقعه بين يعقوب بن الليث والحسن بن زيد الطائي
    وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد الطالبي، فهزمه ودخل طبرستان.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة وعن سبب مصير يعقوب إلى طبرستان:
    أخبرني جماعة من أهل الخبرة بيعقوب أن عبد الله السجزي كان يتنافس الرياسة بسجستان، فقهره يعقوب، فتخلص منه عبد الله، فلحق بمحمد بن طاهر بنيسابور، فلما صار يعقوب الى نيسابور وهرب عبد الله، فلحق بالحسن بن زيد، فشخص يعقوب في اثره بعد ما كان من أمره وأمر محمد بن طاهر ما قد ذكرت قبل، فمر في طريقه إلى طبرستان بأسفرائيم ونواحيها، وبها رجل كنت أعرفه يطلب الحديث، يقال له بديل الكشي، يظهر التطوع والأمر بالمعروف، وقد استجاب له عامة أهل تلك الناحية، فلما نزلها يعقوب راسله، وأخبره أنه مثله في التطوع وأنه معه، فلم يزل يرفق به حتى صار إليه بديل، فلما تمكن منه قيده، ومضى به معه إلى طبرستان، فلما صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد.
    فقيل لي: إن يعقوب بعث إلى الحسن بن زيد يسأله أن يبعث إليه بعبد الله
    (9/508)
    السجزي حتى ينصرف عنه، فإنه إنما قصد طبرستان من أجله لا لحربه، فأبى الحسن بن زيد تسليمه إليه، فآذنه يعقوب بالحرب، فالتقى عسكراهما، فلم تكن إلا كلا ولا، حتى هزم الحسن بن زيد، ومضى نحو الشرز وأرض الديلم، ودخل يعقوب سارية، ثم تقدم منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثم شخص من آمل نحو الشرز في طلب الحسن بن زيد حتى صار إلى بعض جبال طبرستان، فأدركته فيه الأمطار، وتتابعت عليه- فيما ذكر لي- نحوا من أربعين يوما، فلم يتخلص من موضعه ذلك إلا بمشقة شديدة.
    وكان- فيما قيل لي- قد صعد جبلا، لما رام النزول عنه لم يمكنه ذلك إلا محمولا على ظهور الرجال، وهلك عامة ما كان معه من الظهر.
    ثم رام الدخول خلف الحسن بن زيد إلى الشرز، فحدثني بعض أهل تلك الناحية أنه انتهى إلى الطريق الذي أراد سلوكه إليه، فوقف عليه، وأمر أصحابه بالوقوف، ثم تقدم أمامهم يتأمل الطريق، ثم رجع إلى أصحابه، فأمرهم بالانصراف، وقال لهم: إن لم يكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه فأخبرني الذي ذكر لي ذلك، أن نساء أهل تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل هذا الطريق، فإنه إن دخل كفيناكم أمره، وعلينا أخذه وأسره لكم فلما انصرف راجعا، وشخص عن حدود طبرستان، عرض رجاله، ففقد منهم- فيما قيل لي- أربعين ألفا، وانصرف عنها، وقد ذهب عظم ما كان معه من الخيل والإبل والأثقال وذكر أنه كتب إلى السلطان كتابا يذكر فيه مسيره إلى الحسن بن زيد، وأنه سار من جرجان إلى طميس فافتتحها ثم سار إلى سارية، وقد أخرب الحسن بن زيد القناطر، ورفع المعابر، وعور الطريق، وعسكر الحسن بن زيد على باب سارية متحصنا بأودية عظام، وقد مالاه خرشاد بن جيلاو، صاحب الديلم، فزحف باقتدار فيمن جمع إليه من الطبرية والديالمة والخراسانيه والقمية والجبلية والشامية والجزرية، فهزمته وقتلت عدة لم يبلغها بعهدي عدة،
    (9/509)
    وأسرت سبعين من الطالبيين، وذلك في رجب، وسار الحسن بن زيد إلى الشرز ومعه الديلم وفي هذه السنة اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى- فيما ذكر- عن مكة من شدة الغلاء من كان بها مجاورا إلى المدينة وغيرها من البلدان، ورحل عنها العامل الذي كان بها مقيما وهو بريه، وارتفع السعر ببغداد، فبلغ الكر الشعير عشرين ومائه دينار، والحنطة خمسين ومائه، ودام ذلك شهورا 4 وفيها قتلت الأعراب منجور والي حمص، فاستعمل عليها بكتمر وفيها صار يعقوب بن الليث حين انصرف عن طبرستان إلى ناحية الري، وكان السبب في مصيره إليها- فيما ذكر لي- مصير عبد الله السجزي إلى الصلابي مستجيرا به من يعقوب، لما هزم يعقوب الحسن بن زيد، فلما صار يعقوب الى خوار الري كتب إلى الصلابي يخيره بين تسليم عبد الله السجزي إليه.
    حتى ينصرف عنه، ويرتحل عن عمله، وبين أن يأذن بحربه فاختار الصلابي- فيما قيل لي- تسليم عبد الله، فسلمه إليه، فقتله يعقوب، وانصرف عن عمل الصلابى
    . ذكر خبر مقتل العلاء بن احمد الأزدي
    وفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله: ذكر أن العلاء بن أحمد فلج وتعطل، فكتب السلطان إلى أبي الرديني عمر بن علي بن مر بولاية أذربيجان، وكانت قبل إلى العلاء، فصار أبو الرديني إليها ليتسلمها من العلاء، فخرج العلاء في قبة في شهر رمضان
    (9/510)
    لحرب أبي الرديني، ومع أبي الرديني جماعة من الشراة وغيرهم، فقتل العلاء.
    فذكر أنه وجه عدة من الرجال في حمل ما خلف العلاء، فحمل من قلعته ما بلغت قيمته الفى وسبعمائة ألف درهم.
    وفيها أخذت الروم لؤلؤة من المسلمين.
    وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي المعروف ببريه.
    (9/511)
    ثم دخلت
    سنة إحدى وستين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من انصراف الحسن بن زيد من أرض الديلم إلى طبرستان وإحراقه شالوس لما كان من ممالأتهم يعقوب وإقطاعه ضياعهم الديالمة.
    ومن ذلك ما كان من أمر السلطان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بجمع من كان ببغداد من حاج خراسان والري وطبرستان وجرجان، فجمعهم في صفر منها، ثم قرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أن السلطان لم يول يعقوب بن الليث خراسان، ويأمرهم بالبراءة منه لإنكاره دخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر وفي هذه السنة توفي عبد الله بن الواثق في عسكر الصفار يعقوب.
    وفيها قتل مساور الشاري يحيى بن حفص الذي كان يلي خراسان بكرخ جدان في جمادى الآخرة، فشخص مسرور البلخي في طلبه، ثم تبعه ابو احمد ابن المتوكل، وتنحى مساور فلم يلحق.
    وفي جمادى الأولى منها هلك أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري.
    ذكر خبر وقعه كانت برامهرمز في هذا العام
    وفيها كانت بين محمد بن واصل وعبد الله بن مفلح وطاشتمر وقعة برامهرمز، فقتل ابن واصل طاشتمر، وأسر ابن مفلح.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة والسبب فيها:
    كان السبب في ذلك- فيما ذكر لي- أن ابن واصل قتل الحارث بن سيما وهو عامل السلطان بفارس وتغلب عليها، فضمت إلى موسى بن بغا فارس
    (9/512)
    والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة، مع ما كان اليه من عمل المشرق، فوجه موسى بن بغا عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز، وولاه إياها وفارس، وضم إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل ذلك من فعل موسى، وإن ابن مفلح قد توجه إلي فارس يريده، وكان قبل مقيما بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة فزحف إليه ابن واصل، فالتقيا برامهرمز، وانضم أبو داود الصعلوك إلى ابن واصل معينا له على ابن مفلح، فظفر ابن واصل بابن مفلح، فأسره وقتل طاشتمر، واصطلم عسكر ابن مفلح، ثم لم يزل ابن مفلح في يده حتى قتله، وقد كان السلطان وجه إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل في إطلاق ابن مفلح، فلم يجبه إلى ذلك ابن واصل ولما فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهرا أنه يريد واسطا لحرب موسى بن بغا حتى انتهى إلى الأهواز، وبها إبراهيم بن سيما في جمع كثير فلما رأى موسى بن بغا شدة الأمر وكثرة المتغلبين على نواحي المشرق، وأنه لا قوام له بهم، سأل أن يعفى من أعمال المشرق، فأعفي منها، وضم ذلك إلى أبي أحمد، ووليه أبو أحمد بن المتوكل، فانصرف موسى بن بغا من واسط إلى باب السلطان مع عماله عن أعمال المشرق.
    وفيها ولي أبو الساج الأهواز وحرب قائد الزنج، فصار إليها أبو الساج بعد شخوص عبد الرحمن بن مفلح إلى ناحية فارس.
    وفيها كانت بين عبد الرحمن صهر أبي الساج وعلي بن أبان المهلبي وقعة بناحية الدولاب، قتل فيها عبد الرحمن، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلها، وسبوا وانتهبوا، وأحرقوا دورها.
    ثم صرف أبو الساج عما كان اليه من عمل الاهواز وجرب الزنج، وولي ذلك إبراهيم بن سيما، فلم يزل مقيما في عمله ذلك حتى انصرف عنه بانصراف موسى ابن بغا، عما كان إليه من عمل المشرق
    (9/513)
    وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان.
    ولما ضم عمل المشرق إلى أبي أحمد ولي مسرورا البلخي الأهواز والبصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين في شعبان من هذه السنة، وحرب قائد الزنج وفيها ولي نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ، وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إليه بولايته ذلك.
    وفي شوال منها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس، وابن واصل مقيم بالأهواز، فانصرف منها إلى فارس، فالتقى هو ويعقوب بن الليث في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وفل عسكره، وبعث إلى خرمة إلى قلعة ابن واصل، فأخذ ما كان فيها، فذكر أنه بلغت قيمة ما أخذ يعقوب منها أربعين ألف ألف درهم، وأسر مرداسا خال ابن واصل وفيها أوقع أصحاب يعقوب بن الليث بأهل زم موسى بن مهران الكردي، لما كان من ممالأتهم محمد بن واصل، فقتلوهم، وانهزم موسى بن مهران وفيها لاثنتي عشرة مضت من شوال منها، جلس المعتمد في دار العامة، فولى ابنه جعفرا العهد، وسماه المفوض إلى الله، وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا، وولاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان ومهرجانقذق وحلوان، وولى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر، وولاه المشرق، وضم إليه مسرورا البلخي، وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان وقم والكرج والدينور والري وزنجان وقزوين وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند، وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض، وشرط إن حدث به حدث الموت وجعفر لم يكمل للأمر، أن يكون الأمر لأبي أحمد ثم لجعفر وأخذت البيعة على الناس بذلك، وفرقت نسخ الكتاب، وبعث بنسخة مع الحسن بن محمد بن أبي الشوارب ليعلقها في الكعبة، فعقد جعفر المفوض لموسى بن بغا على المغرب في شوال وبعث إليه بالعقد مع محمد المولد
    (9/514)
    وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث، فاعتزل عسكره في آلاف من أصحابه، فصار إلى أبي الساج فقبله، وأقام معه بالأهواز، وبعث إليه من سامرا بخلعة، ثم سأل ابن زيدويه السلطان توجيه الحسين بن طاهر بن عبد الله معه إلى خراسان.
    وسار مسرور البلخي مقدمة لأبي أحمد من سامرا، لسبع خلون من ذي الحجة، وخلع عليه وعلى أربعة وثلاثين من قواده- فيما ذكر- وشيعه وليا العهد، واتبعه الموفق شاخصا من سامرا لتسع بقين من ذي الحجة.
    وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.
    ومات الحسن بن محمد بن أبي الشوارب فيها بمكة بعد ما حج.
    (9/515)
    ثم دخلت
    سنة اثنتين وستين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث رامهرمز
    فمما كان فيها من ذلك موافاة يعقوب بن الليث رامهرمز في المحرم وتوجيه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج، وإخراج السلطان من كان محبوسا من أسباب يعقوب بن الليث من السجن، لأنه لما كان من أمره ما كان في أمر محمد بن طاهر، حبس السلطان غلامه وصيفا ومن كان قبله من أسبابه، فاطلق عنهم بعد ما وافى يعقوب رامهرمز، وذلك لخمس خلون من شهر ربيع الأول ثم قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب، وخرج إلى سامرا برسالة من عنده، فجلس أبو أحمد ببغداد، ودعا بجماعة من التجار، وأعلمهم أن أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والري وفارس والشرطة بمدينة السلام، وذلك بمحضر من درهم بن نصر صاحب يعقوب وكان المعتمد قد صرف درهما هذا من سامرا إلى يعقوب بجواب ما كان يعقوب أرسله، يسأله لنفسه، فأرسل معه إليه عمر بن سيما ومحمد بن تركشة، ووافى فيها رسل ابن زيدويه بغداد في شهر ربيع الأول منها برسالة من عنده، فخلع عليه أبو أحمد، ثم انصرف في هذه السنة الذين توجهوا إلى يعقوب بن الليث إلى السلطان، فأعلموه أنه يقول: أنه لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى باب السلطان، وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار أبو الساج إليه، فقبله وأكرمه ووصله.
    ولما رجعت الرسل بما كان من جواب يعقوب عسكر المعتمد يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة بالقائم بسامرا، واستخلف على سامرا ابنه جعفرا، وضم إليه محمدا المولد، ثم سار منها يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى
    (9/516)
    الآخرة، ووافى بغداد يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، فاشتقها حتى جازها، وصار إلى الزعفرانية فنزلها، وقدم أخاه أبا أحمد من الزعفرانية فسار يعقوب بجيشه من عسكر مكرم، حتى صار من واسط على فرسخ، فصادف هنالك بثقا قد بثقه مسرور البلخي من دجلة لئلا يقدر على جوازه، فأقام عليه حتى سده وعبره، وذلك لست بقين من جمادى الآخرة، وصار إلى باذبين، ثم وافى محمد بن كثير من قبل يعقوب عسكر مسرور البلخي، فصار بإزائه، فصار مسرور بعسكره إلى النعمانية، ووافى يعقوب واسطا، فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة.
    وارتحل المعتمد من الزعفرانية يوم الخميس لليلة بقيت من جمادى الآخرة، حتى صار إلى سيب بني كوما، فوافاه هنالك مسرور البلخي، وكان مسير مسرور البلخي إليه في الجانب الغربي من دجلة، فعبر إلى الجانب الذي فيه العسكر، فأقام المعتمد بسيب بني كوما أياما، حتى اجتمعت إليه عساكره، وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول، ثم زحف من دير العاقول نحو عسكر السلطان، فأقام المعتمد بالسيب، ومعه عبيد الله بن يحيى، وأنهض أخاه أبا أحمد لحرب يعقوب، فجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته، ومسرورا البلخي على ميسرته، وصار هو في خاصته، ونخبة رجاله في القلب.
    والتقى العسكران يوم الأحد لليال خلون من رجب بموضع يقال له اضطربد بين سيب بني كوما ودير العاقول فشدت ميسرة يعقوب على ميمنة أبي احمد فهزمتها، وقتلت منها جماعه كثيره منهم من قوادهم ابراهيم بن سيما التركى وطباغوا التركي ومحمد طغتا التركي والمعرف بالمبرقع المغربي وغيرهم ثم ثاب المنهزمون وسائر عسكر أبي أحمد ثابت، فحملوا على يعقوب وأصحابه، فثبتوا وحاربوا حربا شديدا، وقتل من أصحاب يعقوب جماعة من أهل البأس، منهم الحسن الدرهمي ومحمد بن كثير وكان على مقدمة يعقوب- والمعروف بلبادة- فأصابت يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه، ولم تزل الحرب بين الفريقين- فيما قيل- إلى آخر وقت صلاة العصر
    (9/517)
    ثم وافى أبا أحمد الديراني ومحمد بن أوس، واجتمع جميع من في عسكر أبي أحمد، وقد ظهر من كثير ممن مع يعقوب كراهة القتال معه إذ رأوا السلطان قد حضر لقتاله، فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت يعقوب في خاصة أصحابه، حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب.
    فذكر أنه أخذ من عسكره من الدواب والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس، ومن الدنانير والدراهم ما يكل عن حمله، ومن جرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر بن عبد الله، وكان مثقلا بالحديد، خلصه الذي كان موكلا به.
    ثم أحضر محمد بن طاهر، فخلع عليه على مرتبته، وقرئ على الناس كتاب فيه:
    ولم يزل الملعون المارق المسمى يعقوب بن الليث الصفار ينتحل الطاعة، حتى أحدث الأحداث المنكرة، من مصيره إلى صاحب خراسان، وغلبته إياه عليها، وتقلده الصلاة والإحداث بها، ومصيره إلى فارس مرة بعد مرة، واستيلائه على أموالها، وإقباله إلى باب أمير المؤمنين مظهر المسألة في امور اجابه امير المؤمنين منها ما لم يكن يستحقه، استصلاحا له، ودفعا بالتي هي أحسن، فولاه خراسان والري وفارس وقزوين وزنجان والشرطة بمدينة السلام، وأمر بتكنيته في كتبه، وأقطعه الضياع النفيسة، فما زاده ذلك إلا طغيانا وبغيا، فأمره بالرجوع فأبى، فنهض أمير المؤمنين لدفع الملعون حين توسط الطريق بين مدينة السلام وواسط، وأظهر يعقوب أعلاما على بعضها الصلبان، فقدم أمير المؤمنين أخاه أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين في القلب، ومعه أبو عمران موسى بن بغا في الميمنة وفي جناح الميمنة ابراهيم ابن سيما، وفي الميسرة أبو هاشم مسرور البلخي، وفي جناح الميسرة الديراني، فتسرع وأشياعه في المحاربة، فحاربه حتى أثخن بالجراح، وحتى انتزع
    (9/518)
    أبو عبد الله محمد بن طاهر سالما من أيديهم، وولوا منهزمين مجروحين مسلوبين، وسلم الملعون كل ما حواه ملكه.
    كتابا مؤرخا بيوم الثلاثاء لإحدى عشرة خلت من رجب.
    ثم رجع المعتمد إلى معسكره وكتب إلى ابن واصل بتولية فارس، وقد كان صار إليها وجمع جماعة.
    ثم رجع المعتمد إلى المدائن، ومضى أبو أحمد ومعه مسرور وساتكين وجماعه من القواد، وقبض على ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وأقطعها مسرورا البلخي وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد يوم الاثنين لأربع عشرة بقيت من رجب، وقد رد إليه العمل، فخلع عليه في الرصافة، فنزل دار عبد الله بن طاهر، فلم يعزل أحدا، ولم يول وامر له بخمسمائة ألف درهم.
    وكانت الوقعة التي كانت بين السلطان والصفار يوم الشعانين.
    وقال محمد بن علي بن فيد الطائي يمدح أبا أحمد ويذكر أمر الصفار:
    نعب الغراب عدمته من ناعب ... وصبا فؤادى لادكار حبائبى
    نادى ببينهم فجادت مقلتي ... لزيال أرحلهم بدمع ساكب
    بانوا بأتراب أوانس كالدمى ... مثل المهاقب البطون كواعب
    فأولئكن غرائر تيمننى ... بسوالف وقوائم وحواجب
    لولي عهد المسلمين مناسب ... شرفت وأشرق نورها بمناصب
    ومراتب في ذروة لا ترتقي ... أكرم بها من ذروة ومراتب
    ولقد أتى الصفار في عدد لها ... حسن فوافتهن نكبة ناكب
    جلب القضاء إليه حتفا عاجلا ... سقيا ورعيا للقضاء الجالب
    أغواه إبليس اللعين بكيده ... واغتره منه بوعد كاذب
    (9/519)
    حتى إذا اختلفوا وظن بأنه ... قد عز بين عساكر وكتائب
    دلفت إليه عساكر ميمونة ... يلقون زحفا باللواء الغالب
    في جحفل لجب ترى أبطاله ... من دارع أو رامح أو ناشب
    وبدا الإمام براية منصورة ... لمحمد سيف الإله القاضب
    وولي عهد المسلمين موفق ... بالله أمضى من شهاب ثاقب
    وكأنه في الناس بدر طالع ... متهلل بالنور بين كواكب
    لما التقوا بالمشرفية والقنا ... ضربا وطعن محارب لمحارب
    ثار العجاج وفوق ذاك غمامة ... غراء تسكب وبل صوب صائب
    فل الجموع بحزم رأي ثاقب ... منه وأفرد صاحبا عن صاحب
    لله در موفق ذي بهجة ... ثبت المقام لدى الهياج مواثب
    يا فارس العرب الذي ما مثله ... في الناس يعرف آخر لنوائب
    من فادح الزمن العضوض ومن لقا ... جيش لذى غدر خئون غاصب.
    ذكر خبر توجه رجال الزنج الى البطيحة ودست ميسان
    وفيها وجه قائد الزنج جيوشه إلى ناحية البطيحة ودست ميسان.
    ذكر الخبر عن سبب توجيهه إياهم إليها:
    ذكر أن سبب ذلك كان أن المعتمد لما صرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وما كان متصلا بها، وضمها إلى أخيه أبي أحمد، وضم أبو أحمد عمل كور دجلة إلى مسرور البلخي، وأقبل يعقوب بن الليث مريدا أبا أحمد، وصار إلى واسط، خلت كور دجلة من أسباب السلطان، خلا المدائن وما فوق ذلك وكان مسرور قد وجه قبل ذلك إلى الباذاورد مكان موسى بن أتامش جعلان التركي، وكان بإزاء موسى بن أتامش، من قبل قائد الزنج سليمان ابن جامع، وقد كان سليمان قبل أن يصرف ابن أتامش عن الباذاورد، قد نال
    (9/520)
    من عسكره، فلما صرف ابن أتامش وجعل موضعه جعلان، وجه سليمان من قبله رجلا من البحرانيين يقال له ثعلب بن حفص، فأوقع به، وأخذ منه خيلا ورجلا، ووجه قائد الزنج من قبله رجلا من أهل جبى يقال له احمد ابن مهدي في سميريات، فيها رماة من أصحابه، فأنفذه إلى نهر المرأة، فجعل الجبائي يوقع بالقرى التي بنواحي المذار- فيما ذكر- فيعيث فيها، ويعود إلى نهر المرأة فيقيم به.
    فكتب هذا الجبائي إلى قائد الزنج يخبر بأن البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وعساكره عند ورود يعقوب بن الليث واسطا فأمر قائد الزنج سليمان بن جامع وجماعة من قواده بالمصير إلى الحوانيت، وأمر رجلا من الباهليين يقال له عمير بن عمار، كان عالما بطرق البطيحة ومسالكها، أن يسير مع الجبائي حتى يستقر بالحوانيت.
    فذكر محمد بن الحسن أن محمد بن عثمان العباداني قال: لما عزم صاحب الزنج على توجيه الجيوش إلى ناحية البطيحة ودستميسان أمر سليمان بن جامع أن يعسكر بالمطوعة وسليمان بن موسى أن يعسكر على فوهة النهر المعروف باليهودي، ففعلا ذلك، وأقاما إلى أن أتاهما إذنه، فنهضا، فكان مسير سليمان بن موسى إلى القرية المعروفة بالقادسية، ومسير سليمان بن جامع إلى الحوانيت والجبائي في السميريات أمام جيش سليمان بن جامع، ووافى أبا التركي دجلة في ثلاثين شذاة، فانحدر يريد عسكر قائد الزنج، فمر بالقرية التي كانت داخلة في سلم الخبيث فنال منها، وأحرق، فكتب الخبيث إلى سليمان بن موسى في منعه الرجوع، وأخذ عليه سليمان الطريق، فأقام شهرا يقاتل حتى تخلص فصار إلى البطيحة.
    وذكر محمد بن عثمان أن جباشا الخادم زعم أن أبا التركي لم يكن صار إلى دجلة في هذا الوقت، وأن المقيم كان هناك نصير المعروف بأبي حمزة.
    وذكر أن سليمان بن جامع لما فصل متوجها إلى الحوانيت، انتهى إلى موضع
    (9/521)
    يعرف بنهر العتيق وقد كان الجبائي سار في طريق الماديان، فتلقاه رميس، فواقعه الجبائي، فهزمه، وأخذ منه أربعا وعشرين سميرية ونيفا وثلاثين صلغة، وأفلت رميس، فاعتصم بأجمة لجأ إليها، فأتاه قوم من الجوخانيين، فأخرجوه منها فنجا ووافق المنهزمين من أصحاب رميس خروج سليمان من النهر العتيق، فتلقاهم فأوقع بهم، ونال منهم نيلا، ومضى رميس حتى لحق بالموضع المعروف ببر مساور، وانحاز إلى سليمان جماعة من مذكوري البلاليين وأنجادهم في خمسين ومائة سميرية، فاستخبرهم عما أمامه، فقالوا: ليس بينك وبين واسط أحد من عمال السلطان وولاته فاغتر سليمان بذلك، وركن إليه، فسار حتى انتهى إلى الموضع الذي يعرف بالجازرة، فتلقاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه، فانهزم سليمان عنه، وقتل أبو معاذ جماعة من أصحابه، وأسر قائدا من قواد الزنج، يقال له رياح القندلي فانصرف سليمان إلى الموضع الذي كان معسكرا به، فأتاه رجلان من البلالية، فقالا له: ليس بواسط أحد يدفع عنها غير أبي معاذ في الشذوات الخمس التي لقيك بها فاستعد سليمان وجمع أصحابه وكتب إلى الخبيث كتابا مع البلالية الذين كانوا استأمنوا إليه وأنقذهم إلا جميعة يسيرة في عشر سميريات، انتخبهم للمقام معه، واحتبس الاثنين معه اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه به، وصار قاصدا لنهر أبان، فاعترض له أبو معاذ في طريقه، وشبت الحرب بينهما، وعصفت الريح، فاضطربت شذا أبي معاذ، وقوي عليه سليمان وأصحابه، فأدبر عنهم معردا، ومضى سليمان حتى انتهى إلى نهر أبان، فاقتحمه، وأحرق وأنهب، وسبى النساء والصبيان، فانتهى الخبر بذلك إلى وكلاء كانوا لأبي أحمد في ضياع من ضياعه مقيمين بنهر سنداد، فساروا إلى سليمان في جماعة، فأوقعوا به وقعة، قتلوا فيها جمعا كثيرا من الزنج، وانهزم سليمان وأحمد بن مهدي ومن معهما إلى معسكرهما قال محمد بن الحسن: قال محمد بن عثمان: لما استقر سليمان بن جامع بالحوانيت، ونزل بنهر يعرف بيعقوب بن النضر، وجه رجلا ليعرف خبر واسط
    (9/522)
    ومن فيها من أصحاب السلطان، وذلك بعد خروج مسرور البلخي وأصحابه عنها، لورود يعقوب إياها فرجع إليه، فأخبره بمسير يعقوب نحو السلطان، وقد كان مسرور قبل شخوصه عن واسط إلى السيب وجه إلى سليمان رجلا يقال له وصيف الرحال في شذوات، فواقعه سليمان فقتله، وأخذ منه سبع شذوات، وقتل من ظفر به، وألقى القتلى بالحوانيت ليدخل الرهبة في قلوب المجتازين بهم من أصحاب السلطان.
    فلما ورد على سليمان خبر مسير مسرور عن واسط، دعا سليمان عمير ابن عمار خليفته ورجلا من رؤساء الباهليين يقال له أحمد بن شريك، فشاورهما في التنحي عن الموضع الذي تصل إليه الخيل والشذوات، وأن يلتمس موضعا يتصل بطريق متى أراد الهرب منه إلى عسكر الخبيث سلكه، فأشارا عليه بالمصير إلى عقر ماور، والتحصن بطهيثا والأدغال التي فيها وكره الباهليون خروج سليمان بن جامع من بين أظهرهم لغمسهم أيديهم معه، وما خافوا من تعقب السلطان إياهم، فحمل سليمان بأصحابه ماضيا في نهر البرور الى طهيثا، وأنفذ الجبائي إلى النهر المعروف بالعتيق في السميريات، وأمره بالبدار إليه بما يعرف من خبر الشذا، ومن ياتى فيها ومن أصحاب السلطان، وخلف جماعة من السودان لإشخاص من تخلف من أصحابه، وسار حتى وافى عقر ماور، فنزل القرية المعروفة بقرية مروان بالجانب الشرقي من نهر طهيثا في جزيرة هناك.
    وجمع إليه رؤساء الباهليين وأهل الطفوف، وكتب إلى الخبيث يعلمه ما صنع، فكتب إليه يصوب رأيه، ويأمره بإنفاذ ما قبله من ميرة ونعم وغنم، فأنفذ ذلك إليه، وسار مسرور إلى موضع معسكر سليمان الأول، فلم يجد هناك كثير شيء، ووجد القوم قد سبقوه إلى نقل ما كان في معسكرهم، وانحدر أبا التركي إلى البطائح في طلب سليمان، وهو يظن أنه قد ترك الناحية، وتوجه نحو مدينة الخبيث فمضى فلم يقف لسليمان على أثر، وكر راجعا، فوجد سليمان قد أنفذ جيشا إلى الحوانيت ليطرق من شذ من عسكر مسرور، فخالف الطريق الذي خاف أن يؤديه اليهم، ومضى في طريق آخر
    (9/523)
    انتهى إلى مسرور، فأخبره أنه لم يعرف لسليمان خبرا.
    وانصرف جيش سليمان إليه بما امتاروا، واقام سليمان، فوجه الجبائي في الشميريات للوقوف على مواضع الطعام والمير والاحتيال في حملها.
    فكان الجبائي لا ينتهي إلى ناحية فيجد فيها شيئا من الميرة إلا أحرقه، فساء ذلك سليمان، فنهاه عنه فلم ينته، وكان يقول: إن هذه الميرة مادة لعدونا، فليس الرأي ترك شيء منها.
    فكتب سليمان إلى الخبيث يشكو ما كان من الجبائي في ذلك، فورد كتاب الخبيث على الجبائي يأمره بالسمع والطاعة لسليمان، والائتمار له فيما يأمره به.
    وورد على سليمان أن أغرتمش وخشيشا قد أقبلا قاصدين إليه في الخيل والرجال والشذا والسميريات، يريدان مواقعته فجزع جزعا شديدا، وأنفذ الجبائي ليعرف أخبارهما، وأخذ في الاستعداد للقائهما، فلم يلبث أن عاد إليه الجبائي مهزوما، فأخبره أنهما قد وافيا باب طنج، وذلك على نصف فرسخ من عسكر سليمان حينئذ، فأمره بالرجوع والوقوف في وجه الجيش، وشغله عن المصير إلى العسكر إلى أن يلحق به، فلما أنفذ الجبائي لما وجه له صعد سليمان سطحا، فأشرف منه، فرأى الجيش مقبلا، فنزل مسرعا، فعبر نهر طهيثا، ومضى راجلا، وتبعه جمع من قواد السودان حتى وافوا باب طنج، فاستدبر أغرتمش، وتركهم حتى وجدوا في المسير إلى عسكره وقد كان أمر الذى استخلفه على جيشه الا يدع أحدا من السودان يظهر لأحد من أهل جيش أغرتمش، وأن يخفوا أشخاصهم ما قدروا، ويدعوا القوم حتى يتوغلوا النهر إلى أن يسمعوا أصوات طبوله، فإذا سمعوها خرجوا عليهم، وقصدوا أغرتمش.
    فجاء أغرتمش بجيشه حتى لم يكن بينه وبين العسكر إلا نهر يأخذ من طهيثا يقال له جارورة بني مروان فانهزم الجبائي في السميريات حتى وافى
    (9/524)
    طهيثا، فخلف سميرياته بها، وعاد راجلا إلى جيش سليمان، واشتد جزع أهل عسكر سليمان منه، فتفرقوا أيادي سبا، ونهضت منهم شرذمة فيها قائد من قواد السودان يقال له أبو النداء، فتلقوهم فواقعوهم، وشغلوهم عن دخول العسكر، وشد سليمان من وراء القوم، وضرب الزنج بطبولهم، وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم، فانهزم أصحاب أغرتمش وشد عليهم من كان بطهيثا من السودان، ووضعوا السيوف فيهم، وأقبل خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره، فتلقاه السودان، فصرعوه وأخذته سيوفهم، فقتل وحمل رأسه إلى سليمان، وقد كان خشيش حين انتزعوا إليه، قال لهم: أنا خشيش، فلا تقتلوني، وأمضوا بي إلى صاحبكم فلم يسمعوا لقوله وانهزم أغرتمش، وكان في آخر أصحابه، ومضى حتى ألقى نفسه إلى الأرض، فركب دابة ومضى، وتبعهم الزنج حتى وصلوا إلى عسكرهم، فنالوا حاجتهم منه، وظفروا بشذوات كانت مع خشيش، وظفر الذين اتبعوا الجيش المولي بشذوات كانت مع أغرتمش فيها مال فلما انتهى الخبر إلى أغرتمش، كر راجعا حتى انتزعها من أيديهم، ورجع سليمان إلى عسكره، وقد ظفر بأسلاب ودواب، وكتب بخبر الوقعة إلى قائد الزنج، وما كان منه فيها وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، وأقر الشذوات التي أخذها في عسكره.
    فلما وافى كتاب سليمان وراس خشيش، امر فطيف به في عسكره، ونصب يوما، ثم حمله إلى علي بن أبان، وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك، وخرج سليمان والجبائي معه وجماعة من قواد السودان الى ناحيه الحوانيت متطرفين، فتوافقوا هناك ثلاث عشرة شذاة مع المعروف بأبي تميم أخي المعروف بأبي عون صاحب وصيف التركي، فأوقعوا به، فقتل وغرق، وظفروا من شذواته بإحدى عشرة شذاة.
    قال محمد بن الحسن: هذا خبر محمد بن عثمان العباداني، فأما جباش، فزعم أن الشذا التي كانت مع أبي تميم كانت ثمانية، فافلت منها شذاتان كانتا
    (9/525)
    متأخرتين، فمضتا بمن فيهما وأصاب سلاحا ونهبا، وأتى على أكثر من كان في تلك الشذوات من الجيش، ورجع سليمان إلى عسكره، وكتب إلى الخبيث بما كان منه من قتل المعروف بأبي تميم، ومن كان معه، واحتبس الشذوات في عسكره.
    وفيها كبس ابن زيدويه الطيب، فأنهبها.
    وفيها ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب.
    وفيها خرج الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر من بغداد لليال بقين منه، فصار إلى الجبل.
    وفيها مات الصلابي، وولي الري كيغلغ.
    ومات صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها.
    وولي إسماعيل بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد، فجمع له قضاء الجانبين.
    وفيها قتل محمد بن عتاب بن عتاب، وكان ولي السيبين فصار إليها، فقتلته الأعراب.
    وللنصف من شهر رمضان صار موسى بن بغا إلى الأنبار متوجها إلى الرقة.
    وفيها قتل أيضا القطان صاحب مفلح، وكان عاملا بالموصل على الخراج، فانصرف منها، فقتل في الطريق.
    وعقد فيها لكفتمر علي بن الحسين بن داود كاتب أحمد بن سهل اللطفي على طريق مكة في شهر رمضان.
    وفيها وقع بين الحناطين والجزارين بمكة قتال قبل يوم التروية بيوم، حتى خاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن يحج الناس، وقد قتل
    (9/526)
    منهم سبعة عشر رجلا.
    وفيها غلب يعقوب بن الليث على فارس وهرب ابن واصل.
    ذكر خبر الوقعه بين الزنج واحمد بن ليثويه
    وفيها كانت وقعة بين الزنج وأحمد بن ليثويه، فقتل منهم خلقا كثيرا، وأسر أبا داود الصعلوك وقد كان صار معهم.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسبب أسر الصعلوك:
    ذكر ان مسروا البلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى ناحية كور الأهواز، فلما وصل إليها نزل السوس، وكان الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن ازاذ مرد الكردي كور الأهواز، فكتب محمد بن عبيد الله إلى قائد الزنج يطمعه في الميل إليه، وقد كانت العادة جرت بمكاتبة محمد إياه من أول مخرجه، وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز ويداري الصفار حتى يستوي له الأمر فيها، فأجابه الخبيث إلى ذلك على أن يكون علي بن أبان المتولي لها، ويكون محمد بن عبيد الله يخلفه عليها، فقبل محمد بن عبيد الله ذلك، فوجه علي بن أبان أخاه الخليل بن أبان، في جمع كثير من السودان وغيرهم، وأيدهم محمد بن عبيد الله بأبي داود الصعلوك، فمضوا نحو السوس، فلم يصلوا إليها، ودفعهم ابن ليثويه ومن كان معه من أصحاب السلطان عنها، فانصرفوا مفلولين، وقد قتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم جماعة، وسار أحمد بن ليثويه حتى نزل جندي سابور.
    وسار علي بن أبان من الأهواز منجدا محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فتلقاه محمد بن عبيد الله في جمع من الأكراد والصعاليك، فلما قرب منه محمد بن عبيد الله سارا جميعا، وجعلا بينهما المسرقان، فكانا يسيران
    (9/527)
    عن جانبيه، ووجه محمد بن عبيد الله رجلا من اصحابه في ثلاثمائة فارس، فانضم إلى علي بن أبان، فسار علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله إلى أن وافيا عسكر مكرم، فصار محمد بن عبيد الله إلى علي بن أبان وحده، فالتقيا وتحادثا، وانصرف محمد إلى عسكره، ووجه إلى علي بن أبان القاسم بن علي ورجلا من رؤساء الأكراد، يقال له حازم، وشيخا من أصحاب الصفار يعرف بالطالقاني، وأتوا عليا، فسلموا عليه، ولم يزل محمد وعلي على ألفة، إلى أن وافى علي قنطرة فارس، ودخل محمد بن عبيد الله تستر، وانتهى إلى أحمد بن ليثويه تضافر علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله على قتاله، فخرج عن جندي سابور، وصار إلى السوس وكانت موافاة علي قنطرة فارس في يوم الجمعة، وقد وعده محمد بن عبيد الله أن يخطب الخاطب يومئذ، فيدعو لقائد الزنج، وله على منبر تستر، فأقام علي منتظرا ذلك، ووجه بهبوذ بن عبد الوهاب لحضور الجمعة وإتيانه بالخبر، فلما حضرت الصلاة قام الخطيب، فدعا للمعتمد والصفار ومحمد بن عبيد الله، فرجع بهبوذ إلى علي بالخبر، فنهض علي من ساعته، فركب دوابه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى الأهواز، وقدمهم أمامه، وقدم معهم ابن أخيه محمد بن صالح ومحمد بن يحيى الكرماني خليفته، وكاتبه وأقام حتى إذا جاوزوا كسر قنطرة كانت هناك لئلا يتبعه الخيل.
    قال محمد بن الحسن: وكنت فيمن انصرف مع المتقدمين من أصحاب علي، ومر الجيش في ليلتهم تلك مسرعين، فانتهوا إلى عسكر مكرم في وقت طلوع الفجر، وكانت داخلة في سلم الخبيث، فنكث أصحابه، وأوقعوا بعسكر مكرم، ونالوا نهبا ووافى علي بن أبان في أثر أصحابه، فوقف على ما أحدثوا فلم يقدر على تغييره، فمضى حتى صار إلى الأهواز ولما انتهى إلى أحمد بن ليثويه انصراف علي، كر راجعا حتى وافى تستر، فأوقع بمحمد بن عبيد الله ومن معه، فأفلت محمد، ووقع في يده المعروف بأبي داود الصعلوك، فحمله إلى باب السلطان المعتمد، وأقام أحمد بن ليثويه بتستر
    (9/528)
    قال محمد بن الحسن: فحدثني الفضل بن عدي الدارمي- وهو أحد من كان من أصحاب قائد الزنج انضم إلى محمد بن أبان أخي علي بن أبان قال: لما استقر أحمد بن ليثويه بتستر، خرج إليه علي بن أبان بجيشه، فنزل قرية يقال لها برنجان، ووجه طلائع يأتونه بأخباره، فرجعوا إليه، فأخبروه أن ابن ليثويه قد أقبل نحوه، وأن أوائل خيله قد وافت قرية تعرف بالباهليين، فزحف علي بن أبان إليه، وهو يبشر أصحابه، ويعدهم الظفر، ويحكى لهم ذلك عن الخبيث فلما وافى الباهليين تلقاه ابن ليثويه في خيله، وهي زهاء أربعمائة فارس، فلم يلبثوا أن أتاهم مدد خيل، فكثرت خيل أصحاب السلطان واستأمن جماعة من الأعراب الذين كانوا مع علي بن أبان إلى ابن ليثويه، وانهزم باقي خيل علي بن أبان، وثبت جميّعة من الرجالة، وتفرق عنه أكثرهم، واشتد القتال بين الفريقين، وترجل علي بن أبان، وباشر القتال بنفسه راجلا، وبين يديه غلام من أصحابه يقال له فتح، يعرف بغلام أبي الحديد، فجعل يقاتل معه وبصر بعلي أبو نصر سلهب وبدر الرومي المعروف بالشعراني فعرفاه، فانذر الناس به، فانصرف هاربا حتى لجأ إلى المسرقان، فألقى بنفسه فيه، وتلاه فتح، فألقى نفسه معه، فغرق فتح، ولحق علي بن أبان نصر المعروف بالرومي، فتخلصه من الماء، فألقاه في سميرية ورمي علي بسهم، وأصيب به في ساقه، وانصرف مفلولا، وقتل من أنجاد السودان وأبطالهم جماعة كثيرة.
    وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن العباس بن محمد.
    (9/529)
    ثم دخلت
    سنة ثلاث وستين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من ظفر عزيز بن السرى صاحب يعقوب بن الليث بمحمد ابن واصل وأخذه أسيرا.
    وفيها كانت بين موسى دالجويه والأعراب بناحية الأنبار وقعة، فهزموه وفلوه، فوجه أبو أحمد ابنه أحمد في جماعة من قواده في طلب الأعراب الذين فلوا موسى دالجويه وفيها وثب الديراني بابن أوس فبيته ليلا، وفرق جمعه، ونهب عسكره، وأفلت ابن أوس، ومضى نحو واسط.
    وفيها خرج في طريق الموصل رجل من الفراغنة، فقطع الطريق، فظفر به فقتل
    . ذكر الوقعه بين ابن ليثويه مع أخي على بن ابان
    وفيها أقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر، وصار فيها يعقوب إلى الأهواز، وقد كان لابن ليثويه قبل ارتحاله عن تستر وقعة مع أخي علي بن أبان، ظفر فيها بجماعة كثيرة من زنوجه.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة:
    ذكر عن علي بن أبان، أن ابن ليثويه لما هزمه في الوقعة التي كانت بينهما في الباهليين، فأصابه ما أصابه فيها، ووافى الأهواز، لم يقم بها، ومضى
    (9/530)
    إلى عسكر صاحبه قائد الزنج، فعالج ما قد أصابه من الجراح حتى برأ، ثم كر راجعا إلى الأهواز، ووجه أخاه الخليل بن أبان وابن أخيه محمد بن صالح المعروف بأبي سهل، في جيش كثيف إلى ابن ليثويه، وهو يومئذ مقيم بعسكر مكرم، فسارا فيمن معهما، فلقيهما ابن ليثويه على فرسخ من عسكر مكرم، قاصدا إليهما، فالتقى الجمعان، وقد كمن ابن ليثويه كمينا فلما استحر القتال تطارد ابن ليثويه، فطمع الزنج فيه، فتبعوه حتى جاوزوا الكمين، فخرج من ورائهم، فانهزموا وتفرقوا، وكر عليهم ابن ليثويه، فنال حاجته منهم، ورجعوا مفلولين فانصرف ابن ليثويه بما أصاب من الرءوس إلى تستر، ووجه علي بن أبان أنكلويه مسلحة إلى المسرقان إلى أحمد بن ليثويه، فوجه إليه ثلاثين فارسا من جلد أصحابه، وانتهى إلى الخليل بن أبان مسير أصحاب ابن ليثويه إلى المسلحة، فكمن لهم فيمن معه، فلما وافوه خرج إليهم، فلم يفلت منهم أحد، وقتلوا عن آخرهم، وحملت رءوسهم إلى علي بن أبان، وهو بالأهواز، فوجهها إلى الخبيث، وحينئذ أتى الصفار الأهواز، وهرب عنها ابن ليثويه.
    ذكر الخبر عما كان من أمر الصفار هنالك في هذه السنة:
    ذكر أن يعقوب بن الليث لما صار إلى جندي سابور، نزلها وارتحل عن تلك الناحية كل من كان بها من قبل السلطان، ووجه إلى الأهواز رجلا من قبله يقال له الحصن بن العنبر، فلما قاربها خرج عنها علي بن أبان صاحب قائد الزنج، فنزل نهر السدرة، ودخل حصن الأهواز، فأقام بها، وجعل أصحابه وأصحاب علي بن أبان يغير بعضهم على بعض، فيصيب كل فريق منهم من صاحبه، إلى أن استعد علي بن أبان، وسار إلى الأهواز، فأوقع بالحصن ومن معه وقعة غليظة، قتل فيها من أصحاب يعقوب خلقا كثيرا، وأصاب خيلا، وغنم غنائم كثيرة، وهرب الحصن ومن معه إلى عسكر مكرم، وأقام علي بالأهواز حتى استباح ما كان فيها، ثم رجع عنها إلى
    (9/531)
    نهر السدرة، وكتب إلى بهبوذ يأمره بالإيقاع برجل من الأكراد من أصحاب الصفار كان مقيما بدورق، فأوقع به بهبوذ، فقتل رجاله وأسره، فمن عليه وأطلقه، فكان علي بعد ذلك يتوقع مسير يعقوب إليه فلم يسر، وأمد الحصن ابن العنبر بأخيه الفضل بن العنبر، وأمرهما بالكف عن قتال أصحاب الخبيث، والاقتصار على المقام بالأهواز وكتب إلى علي بن أبان يسأله المهادنة، وأن يقر أصحابه بالأهواز، فأبى ذلك على دون نقل طعام كان هناك، فتجافى له الصفار عن نقل ذلك الطعام، وتجافى علي للصفار عن علف كان بالأهواز، فنقل علي الطعام، وترك العلف، وتكاف الفريقان، أصحاب علي وأصحاب الصفار.
    وفيها توفي مساور بن عبد الحميد الشاري وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، سقط عن دابته في الميدان من صدمة خادم له، يقال له رشيق، يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة، فسال من منخره وأذنه دم، فمات بعد أن سقط بثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل، ومشى في جنازته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد ثم قدم موسى بن بغا سامرا لثلاث بقين من ذي القعدة، فهرب الحسن بن مخلد إلى بغداد، واستوزر مكانه سليمان بن وهب، لست ليال خلون من ذي الحجة، ثم ولي عبيد الله بن سليمان كتبة المفوض والموفق إلى ما كان يلي من كتبة موسى بن بغا، ودفعت دار عبيد الله بن يحيى إلى كيغلغ.
    وفيها أخرج أخو شركب الحسين بن طاهر عن نيسابور، وغلب عليها، وأخذ أهلها بإعطائه ثلث أموالهم، وصار الحسين إلى مرو، وبها أخو خوارزم شاه يدعو لمحمد بن طاهر
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنة سلمت الصقالبة لؤلؤة إلى الطاغية.
    وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل.
    (9/532)
    ثم دخلت
    سنة أربع وستين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك توجيه يعقوب الصفار جيشا إلى الصيمرة، فتقدمه إليها، وأخذوا صيغون ومضي به إليه أسيرا، فمات عنده.
    ولإحدى عشرة خلت من المحرم، عسكر أبو أحمد ومعه موسى بن بغا بالقائم، وشيعهما المعتمد، ثم شخصا من سامرا لليلتين خلتا من صفر، فلما صارا ببغداد، مات بها موسى بن بغا، وحمل إلى سامرا، فدفن بها.
    وفيها في شهر ربيع الأول ماتت قبيحة أم المعتز.
    وفيها صار ابن الديراني إلى الدينور، وتعاون ابن عياض ودلف بن عبد العزيز بن أبي دلف عليه، فهزماه وأخذا أمواله وضياعه، ورجع إلى حلوان مفلولا.
    خبر اسر الروم لعبد الله بن رشيد
    وفيها أسرت الروم عبد الله بن رشيد بن كاوس.
    ذكر الخبر عن سبب أسرهم إياه: ذكر أن سبب ذلك كان، أنه دخل أرض الروم في أربعة آلاف من أهل الثغور الشامية، فصار إلى حصنين والمسكنين، فغنم المسلمون، وقفل، فلما رحل عن البدندون، خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق قذيذية وبطريق قرة وكوكب وخرشنة، فأحدقوا بهم، فنزل المسلمون فعرقبوا دوابهم، وقاتلوا، فقتلوا، الا خمسمائة او ستمائه، وضعوا السياط في خواصر دوابهم، وخرجوا،
    (9/533)
    فقتل الروم من قتلوا، وأسر عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته، وحمل إلى لؤلؤة، ثم حمل إلى الطاغية على البريد.
    ذكر خبر الوقعه بين محمد المولد وقائد الزنج
    وفيها ولي محمد المولد واسطا، فحاربه سليمان بن جامع، وهو عامل على ما يلي تلك الناحية من قبل قائد الزنج، فهزمه وأخرجه عن واسط فدخلها.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها:
    ذكر أن السبب في ذلك كان أن سليمان بن جامع الموجه كان من قبل قائد الزنج إلى ناحية الحوانيت والبطائح، لما هزم جعلان التركي عامل السلطان، وأوقع بأغرتمش، ففل عسكره، وقتل خشيشا، ونهب ما كان معهم، كتب إلى صاحبه قائد الزنج يستأذنه في المصير إليه، ليحدث به عهدا، ويصلح أمورا من أمور منزله، فلما أنفذ الكتاب بذلك، أشار عليه أحمد بن مهدي الجبائي بتطرق عسكر البخاري، وهو يومئذ مقيم ببردودا، فقبل ذلك، وسار إلى بردودا، فوافى موضعا يقال له أكرمهر، وذلك على خمسة فراسخ من عسكر تكين فلما وافى ذلك الموضع، قال الجبائي لسليمان: إن الرأي ان تقيم أنت هاهنا، وأمضي أنا في السميريات، فأجر القوم إليك، وأتعبهم فيأتوك وقد لغبوا، فتنال حاجتك منهم ففعل سليمان ذلك، فعبى خيله ورجالته في موضعه ذلك، ومضى أحمد بن مهدي في السميريات مسحرا، فوافى عسكر تكين، فقاتله ساعة، وأعد تكين خيله ورجاله، وتطارد الجبائي له، وأنفذ غلاما إلى سليمان يعلمه أن أصحاب تكين واردون عليه بخيلهم فلقي الرسول سليمان، وقد أقبل يقفو أثر الجبائي لما أبطأ عليه خبره.
    فرده إلى معسكره، ووافى رسول آخر للجبائي بمثل الخبر الأول، فلما رجع سليمان إلى عسكره، أنفذ ثعلب بن حفص البحراني وقائدا من قواد الزنج، يقال
    (9/534)
    له منينا في جماعة من الزنج، فجعلهما كمينا في الصحراء مما يلي ميسرة خيل تكين، وأمرهما إذا جاوزهم خيل تكين أن يخرجوا من ورائهم فلما علم الجبائي أن سليمان قد أحكم لهم خيله وأمر الكمين، رفع صوته ليسمع أصحاب تكين، يقول لأصحابه: غررتموني وأهلكتموني، وقد كنت أمرتكم ألا تدخلوا هذا المدخل، فابيتم الا القائى وأنفسكم هذا الملقى الذي لا أرانا ننجو منه فطمع أصحاب تكين لما سمعوا قوله، ووجدوا في طلبه، وجعلوا ينادون: بلبل في قفص وسار الجبائي سيرا حثيثا، وأتبعوه يرشقونه بالسهام، حتى جاوزوا موضع الكمين، وقاربوا عسكر سليمان، وهو كامن من وراء الجدر في خيله وأصحابه، فزحف سليمان، فتلقى الجيش، وخرج الكمين من وراء الخيل، وثنى الجبائي صدور سميرياته إلى من في النهر، فاستحكمت الهزيمة عليهم من الوجوه كلها، وركبهم الزنج يقتلونهم ويسلبونهم، حتى قطعوا نحوا من ثلاثة فراسخ.
    ثم وقف سليمان وقال للجبائي: نرجع فقد غنمنا وسلمنا، والسلامة أفضل من كل شيء فقال الجبائي: كلا، قد نخبنا قلوبهم، ونفذت حيلتنا فيهم، والرأي أن نكسبهم في ليلتنا هذه، فلعلنا أن نزيلهم عن عسكرهم، ونفض جمعهم فاتبع سليمان رأي الجبائي، وصار إلى عسكر تكين، فوافاه في وقت المغرب، فأوقع به، ونهض تكين فيمن معه، فقاتل قتالا شديدا، فانكشف عنه سليمان وأصحابه ثم وقف سليمان وعبأ أصحابه، فوجه شبلا في خيل من خيله، وضم إليه جمعا من الرجالة إلى الصحراء، وأمر الجبائي، فسار في السميريات في بطن النهر، وسار هو فيمن معه من أصحابه الخيالة والرجالة، فتقدم أصحابه حتى وافى تكين، فلم يقف له أحد، وانكشفوا جميعا وتركوا عسكرهم، فغنم ما وجد فيه، وأحرق العسكر، وانصرف إلى معسكره بما أصاب من الغنيمة ووافى عسكره، فألفى كتاب الخبيث قد ورد بالإذن له في المصير إلى منزله، فاستخلف الجبائي، وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذوات التي أخذها من المعروف بأبي تميم ومن خشيش ومن
    (9/535)
    تكين، وأقبل حتى ورد عسكر الخبيث، وذلك في جمادى الأولى من سنة أربع وستين ومائتين.
    ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ تهيأ للزنج دخول واسط، وذكر الخبر عن الأحداث الجليلة في سنة أربع وستين ومائتين:
    ذكر أن الجبائي يحيى بن خلف لما شخص سليمان بن جامع من معسكره بعد الوقعة التي أوقعها بتكين إلى صاحب الزنج، خرج في السميريات بالعسكر الذي خلفه سليمان معه إلى مازروان لطلب الميرة، ومعه جماعة من السودان، فاعترضه أصحاب جعلان، فأخذوا سفنا كانت معه، وهزموه، فرجع مفلولا حتى وافى طهيثا، ووافته كتب أهل القرية، يخبرونه أن منجور مولى أمير المؤمنين ومحمد بن علي بن حبيب اليشكري لما اتصل بهما خبر غيبة سليمان بن جامع عن طهيثا، اجتمعا وجمعا أصحابهما، وقصدا القرية، فقتلا فيها وأحرقا وانصرفا، وجلا من أفلت ممن كان فيها، فصاروا إلى القرية المعروفة بالحجاجية، فأقاموا بها فكتب الجبائي إلى سليمان بخبر ما وردت به كتب أهل القرية، مع ما ناله من أصحاب جعلان، فأنهض قائد الزنج سليمان إلى طهيثا معجلا، فوافاها، فأظهر أنه يقصد لقتال جعلان، وعبأ جيشه، وقدم الجبائي أمامه في السميريات، وجعل معه خيلا ورجلا، وأمره بموافاة مازروان والوقوف بإزاء عسكر جعلان، وأن يظهر الخيل ويرعاها بحيث يراها أصحاب جعلان، ولا يوقع بهم، وركب هو في جيشه أجمع إلا نفرا يسيرا خلفهم في عسكره، ومضى في الأهواز حتى خرج على الهورين المعروفين بالربة والعمرقة ثم مضى نحو محمد بن علي بن حبيب، وهو يومئذ بموضع يقال له تلفخار، فوافاه فأوقع به وقعة غليظة، قتل فيها قتلى كثيرة، وأخذ خيلا كثيرة وحاز غنائم جزيلة، وقتل أخا لمحمد بن علي، وأفلت محمد، ورجع سليمان،
    (9/536)
    فلما صار في صحراء بين البزاق والقرية وافته خيل لبني شيبان، وقد كان فيمن أصاب سليمان بتلفخار سيد من سادات بني شيبان، فقتله وأسر ابنا له صغيرا، واخذ حجرا كانت تحته، فانتهى خبره إلى عشيرته، فعارضوا سليمان بهذه الصحراء في أربعمائة فارس وقد كان سليمان وجه إلى عمير بن عمار خليفته بالطف حين توجه إلى ابن حبيب، فصار إليه، فجعله دليلا لعلمه بتلك الطريق، فلما رأى سليمان خيل بني شيبان قدم أصحابه أجمعين إلا عمير بن عمار فإنه انفرد، فظفرت به بنو شيبان فقتلوه، وحملوا رأسه، وانصرفوا.
    وانتهى الخبر إلى الخبيث، فعظم عليه قتل عمير، وحمل سليمان إلى الخبيث ما كان أصاب من بلد محمد بن علي بن حبيب، وذلك في آخر رجب من هذه السنة فلما كان في شعبان نهض سليمان في جمع من أصحابه، حتى وافى قرية حسان، وبها يومئذ قائد من قواد السلطان يقال له جيش ابن حمرتكين، فأوقع به، فأجفل عنه، وظفر بالقرية فانتهبها، وأحرق فيها وأخذ خيلا، وعاد إلى عسكره ثم خرج لعشر خلون من شعبان إلى الحوانيت، وأصعد الجبائي في السميريات إلى برمساور، فوجد هنالك صلاغا فيها خيل من خيل جعلان، كان أراد أن يوافي بها نهر أبان وقد كان خرج إلى ما هناك متصيدا، فأوقع الجبائي بتلك الصلاغ، فقتل من فيها، وأخذ الخيل- وكانت اثني عشر فرسا- وعاد إلى طهيثا ثم نهض سليمان إلى تل رمانا، لثلاث بقين من شعبان فأوقع بها، وجلا عنها أهلها، وحاز ما مكان فيها ثم رجع إلى عسكره، ونهض لعشر ليال خلون من شهر رمضان إلى الموضع المعروف بالجازرة، وأبا يومئذ هناك، وجعلان بمازروان.
    وقد كان سليمان كتب إلى الخبيث في التوجيه إليه بالشذا، فوجه إليه عشر شذوات، مع رجل من أهل عبادان يقال له الصقر بن الحسين، فلما وافى سليمان الصقر بالشذا أظهر أنه يريد جعلان، وبادرت الأخبار الى جعلان
    (9/537)
    بأن سليمان يريد موافاته، فكانت همته ضبط عسكره فلما قرب سليمان من موضع أبّا مال إليه، فأوقع به، وألفاه غارا بمجيئه، فنال حاجته، وأصاب ست شذوات.
    قال محمد بن الحسن: قال جباش: كانت الشذوات ثمانية، وجدها في عسكره، وأحرق شذاتين كانتا على الشط، وأصاب خيلا وسلاحا وأسلابا، وانصرف إلى عسكره، ثم أظهر أنه يريد قصد تكين البخاري، وأعد مع الجبائي وجعفر بن أحمد خال ابن الخبيث الملعون المعروف بأنكلاي سفنا فلما وافت السفن عسكر جعلان، نهض إليها، فاوقع بها، وحازها واوقع سليمان من جهة البر، فهزمه إلى الرصافة، واسترجع سفنه، وحاز سبعة وعشرين فرسا ومهرين من خيل جعلان وثلاثة أبغل، وأصاب نهبا كثيرا وسلاحا، ورجع إلى طهيثا.
    قال محمد: أنكر جباش أن يكون لتكين في هذا الموضع ذكر، ولم يعرف خبر العباداني في تكين، وزعم أن القصد لم يكن إلا إلى جعلان، وقد كان خبره خفي على أهل عسكره حتى أرجفوا بأنه قد قتل وقتل الجبائي معه، فجزعوا أشد الجزع، ثم ظهر خبره وما كان منه من الإيقاع بجعلان، فسكنوا وقروا إلى أن وافى سليمان، وكتب بما كان منه إلى الخبيث، وحمل أعلاما وسلاحا، ثم صار سليمان إلى الرصافة في ذي القعدة، فأوقع بمطر بن جامع، وهو يومئذ مقيم بها، فغنم غنائم كثيرة، وأحرق الرصافة، واستباحها، وحمل أعلاما إلى الخبيث، وانحدر لخمس ليال خلون من ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين إلى مدينة الخبيث، فأقام ليعيد هناك ويقيم في منزله، ووافى مطر بن جامع القرية المعروفة بالحجاجية، فأوقع بها، وأسر جماعة من أهلها.
    وكان القاضي بها من قبل سليمان رجلا من أهلها يقال له سعيد بن السيد العدوي، فأسر وحمل إلى واسط هو وثعلب بن حفص وأربعة قواد كانوا معه، فصاروا إلى الحرجلية على فرسخين ونصف من طهيثا، ومضى الجبائي في الخيل والرجل
    (9/538)
    لمعارضة مطر، فوافى الناحية وقد نال مطر ما نال منها، فانصرف عنها، وكتب إلى سليمان بالخبر، فوافى سليمان يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة من هذه السنة، ثم صرف جعلان، ووافى أحمد بن ليثويه، فأقام بالشديدية، ومضى سليمان إلى موضع يقال له نهر أبان، فوجد هناك قائدا من قواد ابن ليثويه يقال له طرناج، فأوقع به وقتله.
    قال محمد: قال جباش: المقتول بهذا الموضع بينك، فأما طرناج فإنه قتل بمازروان ثم وافى الرصافة، وبها يومئذ عسكر مطر بن جامع، فأوقع به، فاستباح عسكره، وأخذ منه سبع شذوات، وأحرق شذاتين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين قال محمد: قال جباش: كانت هذه الوقعة بالشديدية، والذي أخذ يومئذ ست شذوات، ثم مضى سليمان في خمس شذوات، ورتب فيها صناديد قواده وأصحابه، فواقعه تكين البخاري بالشديدية، وقد كان ابن ليثويه حينئذ صار إلى ناحية الكوفة وجنبلاء، فظهر تكين على سليمان، وأخذ منه الشذوات التي كانت معه بآلتها وسلاحها ومقاتلتها، وقتل في هذه الوقعة جلة قواد سليمان.
    ثم زحف ابن ليثويه إلى الشديدية، وضبط تلك النواحي إلى أن ولى ابو احمد محمدا المولد واسطا.
    قال محمد: قال جباش: لما وافى ابن ليثويه الشديدية سار إليه سليمان، فأقام يومين يقاتله، ثم تطارد له سليمان في اليوم الثالث، وتبعه ابن ليثويه فيمن تسرع معه، فرجع إليه سليمان، فألقاه في فوهة بردودا، فتخلص بعد أن أشفى على الغرق وأصاب سليمان سبع عشرة دابة من دواب ابن ليثويه.
    قال: وكتب سليمان إلى الخبيث يستمده، فوجه إليه الخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس، ومعه المذوب، فقصد عند موافاة هذا المدد إياه لمحاربة محمد المولد، فأوقع به فهرب المولد، ودخل الزنج واسطا، فقتل بها
    (9/539)
    خلق كثير، وانتهبت وأحرقت، وكان بها إذ ذاك كنجور البخاري، فحامى يومه ذلك إلى وقت العصر، ثم قتل وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب وكان الجبائي في السميريات، وكان الزنجي بن مهربان في الشذوات، وكان سليمان بن جامع في قواده من السودان ورجالته منهم، وكان سليمان بن موسى الشعراني وأخواه في خيله ورجله مع سليمان بن جامع، فكان القوم جميعا يدا واحدة ثم انصرف سليمان بن جامع عن واسط، ومضى بجميع الجيش إلى جنبلاء ليعيث ويخرب، ووقع بينه وبين الخليل بن أبان اختلاف، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فاستعفى له قائد الزنج من المقام مع سليمان، وأذن للخليل بالرجوع إلى مدينة الخبيث مع أصحاب علي بن أبان وغلمانه، وتخلف المذوب في الأعراب مع سليمان، وأقام بمعسكره أياما، ثم مضى إلى نهر الأمير، فعسكر به، ووجه الجبائي والمذوب إلى جنبلاء، فأقاما هنالك تسعين ليلة، وسليمان معسكر بنهر الأمير.
    قال محمد: قال جباش: كان سليمان معسكرا بالشديديه.
    ذكر خبر خروج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا
    وفي هذه السنة خرج سليمان بن وهب من بغداد الى سامرا، ومعه الحسن ابن وهب، وشيعه أحمد بن الموفق ومسرور البلخي وعامة القواد، فلما صار بسامرا غضب عليه المعتمد وحبسه وقيده، وانتهب داره وداري ابنيه وهب وإبراهيم، واستوزر الحسن بن مخلد لثلاث بقين من ذي القعدة، فشخص الموفق من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان، فلما قرب أبو أحمد من سامرا تحول المعتمد إلى الجانب الغربي، فعسكر به، ونزل أبو أحمد ومن معه جزيرة المؤيد، واختلفت الرسل بينهما فلما كان بعد أيام خلون من ذي الحجة، صار المعتمد إلى حراقة في دجلة، وصار إليه أخوه أبو أحمد في زلال، فخلع على أبي أحمد وعلى مسرور البلخى وكيغلع واحمد بن موسى
    (9/540)
    ابن بغا فلما كان يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة يوم التروية عبر أهل عسكر أبي أحمد إلى عسكر المعتمد، وأطلق سليمان بن وهب، ورجع المعتمد إلى الجوسق، وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد، وكتب في قبض أموالهما وأموال أسبابهما، وحبس أحمد بن أبي الأصبغ، وهرب القواد المقيمون كانوا بسامرا إلى تكريت، وتغيب أبو موسى بن المتوكل، ثم ظهر ثم شخص القواد الذين كانوا صاروا إلى تكريت الى الموصل، ووضعوا ايديهم في الجبايه.
    [أخبار متفرقة]
    وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمى الكوفى.
    (9/541)
    ثم دخلت
    سنة خمس وستين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر الوقعه بين احمد بن ليثويه وسليمان قائد الزنج
    فمن ذلك ما كان من وقعة كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد صاحب الزنج بناحية جنبلاء.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها:
    ذكر أن سليمان بن جامع كتب إلى صاحب الزنج، يخبره بحال نهر يعرف بالزهيري، ويسأله الإذن له في النفقة على إنفاذ كريه إلى سواد الكوفه والبرار، ويعلمه أن المسافة في ذلك قريبة، وأنه متى أنفذه تهيأ له بذلك حمل كل ما بنواحي جنبلاء وسواد الكوفة من الميرة فوجه الخبيث بذلك رجلا يقال له محمد بن يزيد البصري، وكتب إلى سليمان بإزاحة علله في المال والإقامة معه في جيشه إلى وقت فراغه، مما وجه له، فمضى سليمان بجميع جيشه حتى أقام بالشريطية نحوا من شهر، وألقى الفعلة في النهر، وخلال ذلك ما كان سليمان يتطرق ما حوله من أهل خسرسابور، وكانت الميرة تتصل به من ناحية الصين وما والاها إلى أن واقعه ابن ليثويه عامل أبي أحمد على جنبلاء، فقتل له أربعة عشر قائدا.
    قال محمد بن الحسن: قتل سبعة وأربعين قائدا وخلقا من الخلق لا يحصى كثرة، واستبيح عسكره، وأحرقت سفنه، وكانت مقيمة في هذا النهر الذي كان مقيما على إنفاذه، فمضى مفلولا حتى وافى طهيثا، فأقام بها، ووافى الجبائي في عقب ذلك، ثم أصعد فأقام بالموضع المعروف ببرتمرتا واستخلف
    (9/542)
    على الشذوات الاشتيام الذي يقال له الزنجي بن مهربان، وقد كان السلطان وجه نصيرا لتقييد شامرج، وحمله إلى الباب، وتقلد ما كان يتقلده، فوافى نصير الزنجي بن مهربان بعد حمله شامرج مقيدا بنهر برتمرتا، وأخذ منه تسع شذوات، واسترد الزنجي منها ستا.
    قال محمد بن الحسن: أنكر جباش أن يكون الزنجي بن مهربان استرد من الشذوات شيئا، وزعم أن نصيرا ذهب بالشذوات أجمع، وانصرف إلى طهيثا، وبادر بالكتاب إلى سليمان، ووافاه فأقام سليمان بطهيثا إلى أن اتصل به خبر اقبال الموفق.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها أوقع أحمد بن طولون بسيما الطويل بأنطاكية، فحصره بها، وذلك في المحرم منها، فلم يزل ابن طولون مقيما عليها حتى افتتحها، وقتل سيما وفيها وثب القاسم بن مماه بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فقتله ثم وثب جماعة من أصحاب دلف على القاسم، فقتلوه ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.
    وفيها لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث، فصار إليه، وذلك في المحرم منها، فأمر السلطان بقبض أمواله وعقاراته.
    وفيها قتلت الأعراب جعلان المعروف بالعيار بدمما، وكان خرج لبذرقة قافلة، فقتلوه، وذلك في جمادى الأولى، فوجه السلطان في طلب الذين قتلوه جماعة من الموالي، فهرب الأعراب، وبلغ الذين شخصوا في طلبهم عين التمر، ثم رجعوا إلى بغداد، وقد مات منهم من البرد جماعة، وذلك أن البرد اشتد في تلك الأيام ودام أياما، وسقط الثلج ببغداد.
    وفيها أمر أبو أحمد بحبس سليمان بن وهب وابنه عبيد الله، فحبسا وعدة من أسبابهم في دار أبي أحمد، وانتهبت دور عدة من أسبابه، ووكل بحفظ دارى سليمان وابنه عبيد الله، وأمر بقبض ضياعهما وأموالهما وأموال
    (9/543)
    أسبابهما وضياعهم خلا أحمد بن سليمان ثم صولح سليمان وابنه عبيد الله على تسعمائة ألف دينار، وصيرا في موضع يصل إليهما من أحبا.
    وفيها عسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجيق وبنغجور بن أرخوز والفضل بن موسى بن بغا بباب الشماسية، ثم عبروا جسر بغداد، فصاروا إلى السفينتين، وتبعهم أحمد بن الموفق، فلم يرجعوا، ونزلوا صرصر.
    وفيها استكتب أبو أحمد صاعد بن مخلد، وذلك لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وخلع عليه، فمضى صاعد إلى القواد بصرصر، ثم بعث أبو أحمد ابنه أحمد إليهم، فناظرهم فانصرفوا معه فخلع عليهم.
    وفيها خرج- فيما ذكر- خمسة من بطارقة الروم في ثلاثين ألفا من الروم إلى أذنة، فصاروا إلى المصلى.
    وأسروا أرخوز- وكان والي الثغور- ثم عزل، فرابط هناك فأسر، وأسر معه نحو من أربعمائة رجل، وقتلوا ممن نفر إليهم نحوا من الف وأربعمائة رجل، وانصرفوا اليوم الرابع، وذلك في جمادى الأولى منها.
    وفي رجب منها عسكر موسى بن اتامش وإسحاق بن كنداجيق وبنغجور ابن أرخوز بنهر ديالى.
    وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني على نيسابور، وصار الحسين ابن طاهر عامل محمد بن طاهر إلى مرو، فأقام بها وأخو شركب الجمال بين الحسين والخجستاني أحمد بن عبد الله.
    وفيها أخربت طوس.
    وفيها استوزر إسماعيل بن بلبل.
    وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث، وكتب عمرو إلى السلطان بأنه سامع له ومطيع، فوجه إليه أحمد بن أبي الأصبغ في ذي القعدة منها
    (9/544)
    وفيها قتلت جماعة من أعراب بني أسد علي بن مسرور البلخي بطريق مكة قبل مصيره إلى المغيثة، وكان أبو أحمد ولى محمد بن مسرور البلخي طريق مكة، فولاه أخاه علي بن مسرور.
    وفيها بعث ملك الروم بعبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور فأسر، إلى أحمد بن طولون مع عدة من أسراء المسلمين وعدة مصاحف هدية منه له.
    وفيها صارت جماعة من الزنج في ثلاثين سميرية إلى جبل، فأخذوا أربع سفن فيها طعام، ثم انصرفوا.
    وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة، مخالفا لأبيه أحمد، وكان أبوه أحمد استخلفه- فيما ذكر- على عمله بمصر لما توجه إلى الشام، فلما انصرف أحمد عن الشام راجعا إلى مصر حمل العباس ما في بيت مال مصر من الأموال، وما كان لأبيه هناك من الأثاث وغير ذلك ثم مضى إلى برقة، فوجه إليه أحمد جيشا، فظفروا به وردوه إلى أبيه أحمد، فحبسه عنده، وقتل لسبب ما كان منه جماعة كانوا شايعوا ابنه على ذلك.
    وفيها دخل الزنج النعمانية، فأحرقوا سوقها، وأكثر منازل أهلها، وسبوا، وصاروا إلى جرجرايا، ودخل أهل السواد بغداد.
    وفيها ولي أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، واشهد له بذلك، ووجه بكتابه إليه بتوليته ذلك مع احمد ابن أبي الأصبغ، ووجه إليه مع ذلك العهد والعقد والخلع.
    وفي ذي الحجة منها صار مسرور البلخي إلى النيل، فتنحى عنها عبد الله ابن ليثويه في أصحاب أخيه، وقد أظهر الخلاف على السلطان، فصار ومن معه إلى أحمد أباذ، فتبعهم مسرور البلخي يريد محاربتهم، فبدر عبد الله ابن ليثويه ومن كان معه، فترجلوا لمسرور، وانقادوا له بالسمع والطاعة،
    (9/545)
    وعبد الله بن ليثويه نزع سيفه ومنطقته فعلقهما في عنقه، يعتذر إليه، ويحلف أنه حمل على ما فعل، فقبل منه، وأمر فخلع عليه وعلى عدة من القواد معه.
    ذكر خبر شخوص تكين البخارى الى الاهواز
    وفيها شخص تكين البخاري إلى الأهواز مقدمة لمسرور البلخي.
    ذكر الخبر عما كان من أمر تكين بالأهواز حين صار إليها: ذكر محمد بن الحسن أن تكين البخاري ولاه مسرور البلخي كور الأهواز حين ولاه أبو أحمد عليها، فتوجه تكين إليها، فوافاها، وقد صار إليها علي بن أبان المهلبي، فقصد تستر، فأحاط بها في جمع كثير من أصحابه الزنج وغيرهم، فراع ذلك أهلها، وكادوا أن يسلموها، فوافاها تكين في تلك الحال، فلم يضع عنه ثياب السفر، حتى واقع علي بن أبان وأصحابه، فكانت الدبرة على الزنج، فقتلوا وهزموا وتفرقوا، وانصرف علي فيمن بقي معه مفلولا مدحورا، وهذه وقعة باب كودك المشهورة.
    ورجع تكين البخاري، فنزل تستر، وانضم إليه جمع كثير من الصعاليك وغيرهم، ورحل إليه علي بن أبان في جمع كثير من أصحابه، فنزل شرقي المسرقان، وجعل أخاه في الجانب الغربي في جماعة من الخيل، وجعل رجالة الزنج معه، وقدم جماعة من قواد الزنج، منهم أنكلويه وحسين المعروف بالحمامي وجماعة غيرهما، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس.
    وانتهى الخبر بما دبره علي بن أبان إلى تكين، وكان الذي نقل إليه الخبر غلاما يقال له وصيف الرومي، وهرب إليه من عسكر علي بن أبان، فأخبره بمقام هؤلاء القوم بقنطرة فارس، وأعلمه تشاغلهم بشرب النبيذ وتفرق أصحابهم في جمع الطعام، فسار إليهم تكين في الليل في جمع من أصحابه، فأوقع بهم، فقتل من قواد الزنج أنكلويه والحسين المعروف بالحمامي ومفرج
    (9/546)
    المكنى أبا صالح وأندرون، وانهزم الباقون، فلحقوا بالخليل بن أبان، فأعلموه ما نزل بهم، وسار تكين على شرقي المسرقان حتى لقي علي بن أبان في جمعه، فلم يقف له علي وانهزم عنه، وأسر غلام لعلي من الخيالة يعرف بجعفرويه، ورجع علي والخليل في جمعهما إلى الأهواز، ورجع تكين إلى تستر، وكتب علي بن أبان إلى تكين يسأله الكف عن قتل جعفرويه فحبسه، وجرت بين تكين وعلي بن أبان مراسلات وملاطفات، وانتهى الخبر بها إلى مسرور، فأنكرها وانتهى إلى مسرور أن تكين قد ساءت طاعته، وركن إلى علي بن أبان ومايله.
    قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن دينار، قال: حدثنى محمد ابن عبد الله بن الحسن بن علي المأموني الباذغيسي- وكان من أصحاب تكين البخاري- قال: لما انتهى إلى مسرور الخبر بالتياث تكين عليه توقف حتى عرف صحة أمره، ثم سار يريد كور الأهواز وهو مظهر الرضا عن تكين والإحماد لأمره، فجعل طريقه على شابرزان، ثم سار منها حتى وافى السوس، وتكين قد عرف ما انتهى إلى مسرور من خبره، فهو مستوحش من ذلك ومن جماعة كانت تبعته عند مسرور من قواده، فجرت بين مسرور وتكين رسائل حتى أمن تكين، فصار مسرور إلى وادي تستر، وبعث إلى تكين، فعبر إليه مسلما، فأمر به فأخذ سيفه، ووكل به، فلما رأى ذلك جيش تكين انفضوا من ساعتهم، ففرقة منهم صارت إلى ناحية صاحب الزنج، وفرقة صارت إلى محمد بن عبيد الله الكردي وانتهى الخبر إلى مسرور، فبسط الأمان لمن بقي من جيش تكين، فلحقوا به.
    قال محمد بن عبد الله بن الحسن المأموني: فكنت أحد الصائرين إلى عسكر مسرور، ودفع مسرور تكين إلى إبراهيم بن جعلان، فأقام في يده محبوسا، حتى وافاه أجله فتوفي.
    وكان بعض أمر مسرور وتكين الذي ذكرناه في سنة خمس وستين، وبعضه في سنة ست وستين.
    (9/547)
    [أخبار متفرقة]
    وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن اسحق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
    وفيها كانت موافاة المعروف بأبي المغيرة بن عيسى بن محمد المخزومي متغلبا بزنج معه على مكة.
    (9/548)
    ثم دخلت
    سنة ست وستين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من تولية عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسامرا في صفر، وخلع أبي أحمد عليه، ثم مصير عبيد الله بن عبد الله إلى منزله، فخلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث، وبعث إليه عمرو بعمود من ذهب.
    وفي صفر منها غلب أساتكين على الري، وأخرج عنها طلمجور العامل كان عليها، ثم مضى هو وابنه اذكوتكين الى قزوين، وعليها أبرون أخو كيغلغ، فصالحاه ودخلا قزوين، وأخذا محمد بن الفضل بن سنان العجلي، فأخذا أمواله وضياعه، وقتله أساتكين ثم رجع إلى الري، فقاتله أهلها فغلبهم ودخلها.
    وفيها وردت سريه من سرايا الروم تل بسمى من ديار ربيعة، فقتلت من المسلمين، وأسرت نحوا من مائتين وخمسين إنسانا، فنفر أهل نصيبين وأهل الموصل، فرجعت الروم.
    وفيها مات ابو الساج بجنديسابور في شهر ربيع الآخر، منصرفا عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد، ومات قبله في المحرم منها سليمان بن عبد الله ابن طاهر.
    وولى عمرو بن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان وولي فيها محمد بن أبي الساج الحرمين وطريق مكة.
    وفيها ولي أغرتمش ما كان تكين البخاري يليه من عمال الأهواز، فسار أغرتمش إليها، ودخلها في شهر رمضان، فذكر محمد بن الحسن أن مسرورا وجه أغرتمش وأبا ومطر بن جامع لقتال علي بن أبان، فساروا حتى انتهوا إلى تستر، فأقاموا بها، واستخرجوا من كان في حبس تكين، وكان فيه جعفرويه في جماعة من أصحاب قائد الزنج، فقتلوا جميعا وكان مطر بن
    (9/549)
    جامع المتولي قتلهم، ثم ساروا حتى وافوا عسكر مكرم، ورحل اليهم على ابن أبان، وقدم أمامه إليهم الخليل أخاه، فصار إليهم الخليل، فواقفهم وتلاه علي، فلما كثر عليهم جمع الزنج، قطعوا الجسر وتحاجزوا، وجنهم الليل، فانصرف علي بن أبان في جميع أصحابه، فصار إلى الأهواز، وأقام الخليل فيمن معه بالمسرقان وأتاه الخبر بأن أغرتمش وأبا ومطر بن جامع قد أقبلوا نحوه، ونزلوا الجانب الشرقي من قنطرة أربك ليعبروا إليه، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فرحل علي إليهم حتى وافاهم بالقنطرة، ووجه إلى الخليل يأمره بالمصير إليه، فوافاه وارتاع من كان بالأهواز من أصحاب علي، فقلعوا عسكره، ومضوا إلى نهر السدرة، ونشبت الحرب بين علي بن أبان وقواد السلطان هناك، وكان ذلك يومهم، ثم تحاجزوا.
    وانصرف علي بن أبان إلى الأهواز، فلم يجد بها أحدا، ووجد أصحابه أجمعين قد لحقوا بنهر السدرة، فوجه إليهم من يردهم، فعسر ذلك عليه فتبعهم، فأقام بنهر السدرة، ورجع قواد السلطان حتى نزلوا عسكر مكرم، وأخذ على ابن أبان في الاستعداد لقتالهم وأرسل إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، فأتاه فيمن معه من أصحابه، وبلغ أغرتمش وأصحابه ما أجمع عليه من المسير إليهم علي، فساروا نحوه، وقد جعل علي بن أبان أخاه على مقدمته، وضم إليه بهبوذ وأحمد بن الزرنجي، فالتقى الفريقان بالدولاب فأمر علي الخليل بن أبان أن يجعل بهبوذ كمينا، فجعله وسار الخليل حتى لقي القوم، ونشب القتال بينهم، فكان أول نهار ذلك اليوم لأصحاب السلطان، ثم جالوا جولة وخرج عليهم الكمين، وأكب الزنج إكبابة، فهزموهم، وأسر مطر بن جامع، صرع عن فرس كان تحته، فأخذه بهبوذ، فأتى به عليا، وقتل سيما المعروف بصغراج في جماعة من القواد.
    ولما وافى بهبوذ عليا بمطر، سأله مطر استبقاءه، فأبى ذلك علي، وقال:
    لو كنت أبقيت على جعفرويه لأبقينا عليك وأمر به فأدني إليه، فضرب عنقه بيده
    (9/550)
    ودخل علي بن أبان الأهواز، وانصرف أغرتمش وأبا فيمن أفلت معهما، حتى وافيا تستر، ووجه علي بن أبان بالرءوس إلى الخبيث، فأمر بنصبها على سور مدينته.
    قال: وكان علي بن أبان بعد ذلك يأتي أغرتمش وأصحابه، فتكون الحرب بينهم سجالا عليه وله، وصرف الخبيث أكثر جنوده إلى ناحية علي بن أبان، فكثروا على أغرتمش، فركن إلى الموادعة، وأحب علي بن أبان مثل ذلك، فتهادنا وجعل علي بن أبان يغير على النواحي، فمن غاراته مصيره إلى القرية المعروفة ببيرود، فظهر عليها، ونال منها غنائم كثيرة، فكتب بما كان منه من ذلك إلى الخبيث، ووجه بالغنائم التي أصابها وأقام.
    وفيها فارق إسحاق بن كنداجيق عسكر أحمد بن موسى بن بغا، وذلك أن أحمد بن موسى بن بغا لما شخص إلى الجزيرة ولى موسى بن أتامش ديار ربيعة، فأنكر ذلك إسحاق، وفارق عسكره لسبب ذلك، وصار إلى بلد، فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأخذ أموالهم فقوي بذلك، ثم لقي ابن مساور الشاري فقتله.
    وفي شوال منها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي وفيها أسر لؤلؤ غلام أحمد بن طولون موسى بن أتامش، وذلك أن لؤلؤا كان مقيما برابية بني تميم، وكان موسى بن أتامش مقيما برأس العين، فخرج ليلا سكران ليكبسهم، فكمنوا له، فأخذوه أسيرا، وبعثوا به إلى الرقة.
    ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى وقواده ومن معهم من الأعراب في شوال، فهزم لؤلؤ، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، ورجع ابن صفوان العقيلي.
    والأعراب إلى ثقل عسكر أحمد بن موسى لينتهبوه، وأكب عليهم أصحاب لؤلؤ، فبلغت هزيمة المنفلت منهم قرقيسيا، ثم صاروا إلى بغداد وسامرا، فوافوها في ذي القعدة، وهرب ابن صفوان إلى البادية
    (9/551)
    وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وبكتمر وقعة، وذلك في شوال منها، فهزم أحمد بن عبد العزيز بكتمر فصار إلى بغداد.
    وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان على غرة من الحسن، فهرب منه الحسن، فلحق بآمل، وغلب الخجستاني على جرجان وبعض أطراف طبرستان، وذلك في جمادى الآخرة منها ورجب.
    وفيها دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسن الأصغر العقيقي أهل طبرستان إلى البيعة له، وذلك أن الحسن بن زيد عند شخوصه إلى جرجان كان استخلفه بسارية، فلما كان من أمر الخجستاني وأمر الحسن ما كان بجرجان، وهرب الحسن منها، أظهر العقيقي بسارية أن الحسن قد أسر، ودعا من قبله إلى بيعته، فبايعه قوم، ووافاه الحسن بن زيد فحاربه، ثم احتال له الحسن حتى ظفر به فقتله.
    وفيها نهب الخجستاني أموال تجار أهل جرجان، وأضرم النار في البلد.
    وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمرو بن الليث، علا فيها الخجستاني على عمرو وهزمه، ودخل نيسابور، فأخرج عامل عمرو بها عنها، وقتل جماعة مما كان يميل الى عمرو بها.
    ذكر الخبر عن الفتنة بين الجعفرية والعلوية
    وفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية.
    ذكر الخبر عن سبب ذلك:
    وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن القيم بأمر المدينة ووادي القرى ونواحيها كان في هذه السنة إسحاق بن محمد بن يوسف الجعفري، فولى وادي القرى عاملا من قبله، فوثب أهل وادي القرى على عامل إسحاق بن محمد، فقتلوه، وقتلوا أخوين لإسحاق، فخرج إسحاق إلى وادي القرى، فمرض به ومات فقام بأمر المدينة أخوه موسى بن محمد، فخرج عليه الحسن بن موسى بن
    (9/552)
    جعفر، فارضاه بثمانمائه دينار ثم خرج عليه أبو القاسم أحمد بن اسماعيل ابن الحسن بن زيد، ابن عم الحسن بن زيد صاحب طبرستان، فقتل موسى، وغلب على المدينة وقدمها أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد، فضبط المدينة، وقد كان غلا بها السعر، فوجه إلى الجار، وضمن للتجار أموالهم، ورفع الجباية، فرخص السعر، وسكنت المدينة، فولى السلطان الحسني المدينة إلى ان قدمها ابن ابى الساج.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها وثبت الأعراب على كسوة الكعبة، فانتهبوها، وصار بعضها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحاج فيها شدة شديدة.
    وفيها خرجت الروم إلى ديار ربيعة، فاستنفر الناس، فنفروا في برد ووقت لا يمكن الناس فيه دخول الدرب.
    وفيها غزا سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة رجل من أهل طرسوس، فخرج عليهم العدو في بلاد هرقلة، وهم نحو من أربعة آلاف، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل المسلمون من العدو خلقا كثيرا، وأصيب من المسلمين جماعة كثيرة وفيها كانت بين إسحاق بن كنداجيق وإسحاق بن أيوب وقعة، هزم فيها ابن كنداجيق إسحاق بن أيوب، فألحقه بنصيبين، وأخذ ما في عسكره، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وتبعه ابن كنداجيق، وصار إلى نصيبين، فدخلها، وهرب إسحاق بن أيوب منه، واستنجد عليه عيسى ابن الشيخ وهو بآمد وأبا المغراء بن موسى بن زرارة، وهو بأزرن، فتظاهروا على ابن كنداجيق، وبعث السلطان إلى ابن كنداجيق بخلع ولواء على الموصل وديار ربيعة وأرمينية مع يوسف بن يعقوب، فخلع عليه، فبعثوا يطلبون الصلح، ويبذلون له مالا على أن يقرهم على أعمالهم مائتي ألف دينار.
    وفيها وافى محمد بن أبي الساج مكة، فحاربه ابن المخزومي، فهزمه ابن
    (9/553)
    أبي الساج، واستباح ماله، وذلك يوم التروية من هذه السنة.
    وفيها شخص كيغلغ إلى الجبل، ورجع بكتمر الى الدينور.
    ذكر خبر دخول اصحاب قائد الزنج رامهرمز
    وفيها دخل أصحاب قائد الزنج رامهرمز.
    ذكر الخبر عن سبب مصيرهم إليها:
    قد ذكرنا قبل ما كان من أمر محمد بن عبيد الله الكردي وعلي بن أبان صاحب الخبيث، حين تلاقيا على صلح منهما، فذكر أن عليا كان قد احتجن على محمد ضغنا في نفسه، لما كان في سفره ذلك، وكان يرصده بشر، وقد عرف ذلك منه محمد بن عبيد الله، وكان يروم النجاة منه، فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، وسأله مسألة الخبيث ضم ناحيته إليه لتزول يد علي منه، وهاداه، فزاد ذلك علي بن أبان عليه غيظا وحنقا، فكتب إلى الخبيث يعرفه به، ويصحح عنده أنه مصر على غدره، ويستأذنه في الإيقاع به، وأن يجعل الذريعة إلى ذلك مسألته حمل خراج ناحيته إليه، فأذن له الخبيث في ذلك، فكتب علي إلى محمد بن عبيد الله في حمل المال، فلواه به، ودافعه عنه، فاستعد له علي، وسار إليه، فأوقع برامهرمز، ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيم بها، فلم يكن لمحمد منه امتناع، فهرب ودخل علي رامهرمز، فاستباحها، ولحق محمد بن عبيد الله بأقصى معاقله من أربق والبيلم، وانصرف على غانما، وراع ما كان من ذلك من على محمدا، فكتب يطلب المسألة، فأنهى ذلك علي إلى الخبيث، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك، وإرهاق محمد بحمل المال، فحمل محمد بن عبيد الله مائتي ألف درهم، فأنفذها علي إلى الخبيث، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وعن اعماله.
    ذكر الخبر عن وقعه اكراد داربان مع صاحب الزنج
    وفيها كانت وقعة لأكراد الداربان مع زنج الخبيث، هزموا فيها وفلوا.
    (9/554)
    ذكر الخبر عن سبب ذلك:
    ذكر عن محمد بن عبيد الله بن أزارمرد أنه كتب إلى علي بن أبان بعد حمله إليه المال الذي ذكرنا مبلغه قبل، وكف علي عنه وعن أعماله، يسأله المعونة على جماعة من الأكراد كانوا بموضع يقال له الداربان، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم فكتب علي إلى الخبيث يسأله الإذن له في النهوض لذلك، فكتب إليه أن وجه الخليل بن أبان وبهبوذ بن عبد الوهاب، وأقم أنت، ولا تنفذ جيشك حتى تتوثق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون في يدك منه، تأمن بها من غدره فقد وترته، وهو غير مأمون على الطلب بثأره.
    فكاتب علي محمد بن عبيد الله بما أمره به الخبيث، وسأله الرهائن، فأعطاه محمد ابن عبد الله الأيمان والعهود، ودافعه على الرهائن فدعا عليا الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد بن عبيد الله إلى أن أنفذ الجيش، فساروا ومعهم رجال محمد بن عبيد الله، حتى وافوا الموضع الذي قصدوا له، فخرج إليهم أهله، ونشبت الحرب، فظهر الزنج في ابتداء الأمر على الأكراد، ثم صدقهم الأكراد، وخذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله، فتصدعوا وانهزموا مفلولين مقهورين، وقد كان محمد بن عبيد الله أعد لهم قوما أمرهم بمعارضتهم إذا انهزموا، فعارضوهم وأوقعوا بهم، ونالوا منهم أسلابا، وأرجلوا طائفة منهم عن دوابهم فأخذوها، فرجعوا بأسوأ حال، فكتب المهلبي إلى الخبيث بما نال أصحابه فكتب إليه يعنفه، ويقول: قد كنت تقدمت إليك إلا تركن الى محمد ابن عبيد الله، وأن تجعل الوثيقة بينك وبينه الرهائن، فتركت أمري، واتبعت هواك، فذاك الذي أرداك وأردى جيشك.
    وكتب الخبيث إلى محمد بن عبيد الله، أنه لم يخف علي تدبيرك على جيش علي بن أبان، ولن تعدم الجزاء على ما كان منك.
    فارتاع محمد بن عبيد الله مما ورد به عليه كتاب الخبيث، وكتب إليه بالتضرع والخضوع، ووجه بما كان أصحابه أصابوا من خيل اصحاب على
    (9/555)
    حيث عورضوا وهم منهزمون، فقال: إني صرت بجميع من معي إلى هؤلاء القوم الذين أوقعوا بالخليل وبهبوذ، فتوعدتهم وأخفتهم، حتى ارتجعت هذه الخيل منهم، ووجهت بها فأظهر الخبيث غضبا، وكتب إليه يتهدده بجيش كثيف يرميه به، فأعاد محمد الكتاب بالتضرع والاستكانة، فأرسل إلى بهبوذ، فضمن له مالا، وضمن لمحمد بن يحيى الكرماني مثل ذلك، ومحمد بن يحيى يومئذ الغالب على علي بن أبان، والمصرف له برأيه، فصار بهبوذ إلى علي بن أبان، وظاهره محمد بن يحيى الكرماني على أمره حتى أصلحا رأي علي في محمد بن عبيد الله وسلاما في قلبه من الغيظ والحنق عليه، ثم مضيا إلى الخبيث ووافق ذلك ورود كتاب محمد بن عبيد الله عليه، فصوبا وصعدا حتى اظهر لهما الخبيث قبول قولهما، والرجوع لمحمد بن عبيد الله إلى ما أحب، وقال: لست قابلا منه بعد هذا إلا أن يخطب لي على منابر أعماله.
    فانصرف بهبوذ والكرماني بما فارقهما عليه الخبيث، وكتبا به إلى محمد ابن عبيد الله، فأصدر جوابه إلى كل ما أراده الخبيث، وجعل يراوغ عن الدعاء له على المنابر وأقام علي بعد هذا مدة، ثم استعد لمتوث، وسار إليها، فرامها فلم يطقها لحصانتها وكثرة من يدافع عنها من أهلها، فرجع خائبا، فاتخذ سلاليم وآلات ليرقى بها السور، وجمع أصحابه واستعد.
    وقد كان مسرور البلخي عرف قصد علي متوث، وهو يومئذ مقيم بكور الأهواز.
    فلما عاود المسير إليها، سار إليه مسرور، فوافاه قبيل غروب الشمس، وهو مقيم عليها، فلما عاين أصحاب علي أوائل خيل مسرور، انهزموا أقبح هزيمة، وتركوا جميع آلاتهم التي كانوا حملوها، وقتل منهم جمع كثير، وانصرف علي بن أبان مدحورا، ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا حتى تتابعت الأخبار بإقبال أبي أحمد، ثم لم يكن لعلي بعد رجوعه من متوث وقعة حتى فتحت سوق الخميس وطهيثا على أبي أحمد، فانصرف بكتاب ورد عليه من الخبيث يحفزه فيه حفزا شديدا بالمصير إلى عسكره.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمى الكوفى.
    (9/556)
    ثم دخلت
    سنة سبع وستين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمما كان فيها من ذلك حبس السلطان محمد بن طاهر بن عبد الله وعدة من أهل بيته بعقب هزيمة أحمد بن عبد الله الخجستاني عمرو بن الليث وتهمة عمرو بن الليث محمد بن طاهر بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر، ودعا الحسين والخجستاني لمحمد بن طاهر على منابر خراسان.
    ذكر خبر غلبه ابى العباس بن الموفق على سليمان بن جامع
    وفيها غلب أبو العباس بن الموفق على عامة ما كان سليمان بن جامع صاحب قائد الزنج غلب عليه من قرى كور دجلة كعبدسى ونحوها.
    ذكر الخبر عن سبب غلبة أبي العباس على ذلك، وما كان من أمره وأمر الزنج في تلك الناحية: ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن الزنج لما دخلوا واسطا وكان منهم بها ما قد ذكرناه قبل، واتصل الخبر بذلك إلى أبي أحمد بن المتوكل ندب ابنه أبا العباس للشخوص إلى ناحية واسط لحرب الزنج، فخف لذلك أبو العباس فلما حضر خروج أبي العباس ركب أبو أحمد إلى بستان موسى الهادي في شهر ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين، فعرض أصحاب أبي العباس، ووقف على عدتهم، فكان جميع الفرسان والرجالة عشرة آلاف رجل في أحسن زي وأجمل هيئة وأكمل عدة، ومعهم الشذا والسميريات والمعامر للرجالة، كل ذلك قد أحكمت صنعته فنهض أبو العباس من بستان الهادي وركب أبو أحمد مشيعا له حتى نزل الفرك، ثم انصرف.
    وأقام أبو العباس بالفرك أياما، حتى تكاملت عدده، وتلاحق أصحابه،
    (9/557)
    ثم رحل إلى المدائن، وأقام بها أيضا، ثم رحل إلى دير العاقول.
    قال محمد بن حماد: فحدثني أخي إسحاق بن حماد وابراهيم بن محمد ابن إسماعيل الهاشمي المعروف ببريه، ومحمد بن شعيب الاشتيام، في جماعة كثيرة ممن صحب أبا العباس في سفره- دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ- قَالُوا: لما نزل أبو العباس دير العاقول، ورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات، وقد كان أمضاه على مقدمته، يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى في خيل ورجالة وشذوات وسميريات، والجبائي يقدمه، حتى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان برجالة وفرسان وسميريات، فرحل أبو العباس حتى وافى جرجرايا، ثم فم الصلح، ثم ركب الظهر، فسار حتى وافى الصلح، ووجه طلائعه ليعرف الخبر، فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم وجمعهم وجيشهم، وأن أولهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا، أسفل واسط فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق، واعترض في مسيره، ولقي أصحابه أوائل القوم، فتطاردوا لهم حتى طمعوا واغتروا، فأمعنوا في اتباعهم، وجعلوا يقولون لهم:
    اطلبوا أميرا للحرب، فإن أميركم قد شغل نفسه بالصيد فلما قربوا من أبي العباس بالصلح، خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل، وأمر فصيح بنصير: إلى أين تتأخر عن هؤلاء الأكلب! ارجع إليهم، فرجع نصير إليهم.
    وركب أبو العباس سميرية، ومعه محمد بن شعيب الاشتيام، وحف بهم أصحابه من جميع جهاتهم، فانهزموا، ومنح الله أبا العباس وأصحابه أكتافهم، يقتلونهم ويطردونهم، حتى وافوا قرية عبد الله، وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم فيه، وأخذوا منهم خمس شذوات وعدة سميريات، واستأمن منهم قوم، وأسر منهم أسرى، وغرق ما أدرك من سفنهم، فكان ذلك أول الفتح على العباس بن ابى احمد
    (9/558)
    ولما انقضت الحرب في هذا اليوم، أشار على أبي العباس قواده وأولياؤه، أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه من الصلح، إشفاقا عليه من مقاربة القوم، فأبى إلا نزول واسط.
    ولما انهزم سليمان بن جامع ومن معه، وضرب الله وجوههم، انهزم سليمان بن موسى الشعراني عن نهر أبان، حتى وافى سوق الخميس، ولحق سليمان بن جامع بنهر الأمير، وقد كان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم، فقالوا: هذا فتى حدث، لم تطل ممارسته الحروب وتدربه بها، فالرأي لنا أن نرميه بحدنا كله، ونجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته، فلعل ذلك أن يروعه، فيكون سببا لانصرافه عنا ففعلوا ذلك، وحشدوا واجتهدوا، فأوقع الله بهم بأسه ونقمته وركب أبو العباس من غد يوم الوقعه، حتى دخل واسطا في أحسن زي، وكان يوم جمعة، فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة، واستأمن إليه خلق كثير، ثم انحدر إلى العمر- وهو على فرسخ من واسط- فقدم فيه عسكره، وقال: اجعل معسكري أسفل واسط، ليأمن من فوقه الزنج وقد كان نصير المعروف بأبي حمزة والشاه بن ميكال أشارا عليه أن يجعل مقامه فوق واسط فامتنع من ذلك، وقال لهما: لست نازلا إلا العمر، فانزلا أنتما في فوهة بردودا وأعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه واستماع شيء من آرائهم، فنزل العمر، وأخذ في بناء الشذوات، جعل يراوح القوم القتال ويغاديهم، وقد رتب خاصة غلمانه في سميريات فجعل في كل سميرية اثنين منهم ثم أن سليمان استعد وحشد وجمع وفرق أصحابه فجعلهم في ثلاثة أوجه: فرقة أتت من نهر أبان، وفرقة من برتمرتا، وفرقة من بردودا، فلقيهم أبو العباس، فلم يلبثوا أن انهزموا، فخلفت طائفة منهم بسوق الخميس وطائفة بمازروان، وأخذ قوم منهم في برتمرتا وآخرون أخذوا الماديان، وقوم منهم اعتصموا للقوم الذين سلكوا الماديان، فلم يرجع عنهم حتى وافى نهر برمساور، ثم انصرف، فجعل يقف على القرى والمسالك، ومعه الأدلاء، حتى وافى عسكره، فأقام به مريحا نفسه وأصحابه ثم أتاه مخبر فأخبره ان
    (9/559)
    الزنج قد جمعوا واستعدوا لكبس عسكره، وأنهم على إتيان عسكره من ثلاثة أوجه، وأنهم قالوا: أنه حدث غر يغر بنفسه، وأجمع رأيهم على تكمين الكمناء والمصير إليه من الجهات الثلاث التي ذكرنا، فحذر لذلك، واستعد له، وأقبلوا إليه وقد كمنوا زهاء عشرة آلاف في برتمرتا ونحوا من هذه العدة في قس هثا وقدموا عشرين سميرية إلى العسكر ليغتر بها أهله، ويجيزوا المواضع التي فيها كمناؤهم، فمنع أبو العباس الناس من اتباعهم، فلما علموا أن كيدهم لم ينفذ، خرج الجبائي وسليمان في الشذوات والسميريات، وقد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه، فأمر نصيرا المعروف بأبي حمزة أن يبرز للقوم في شذواته، ونزل أبو العباس عن فرس كان ركبه، ودعا بشذاة من شذواته قد كان سماها الغزال، وأمر اشتيامه محمد بن شعيب باختيار الجذافين لهذه الشذاة، وركبها، واختار من خاصة أصحابه وغلمانه جماعة دفع إليهم الرماح، وأمر أصحاب الخيل بالمسير بإزائه على شاطئ النهر، وقال لهم:
    لا تدعوا المسير ما أمكنكم إلى أن تقطعكم الأنهار، وأمر بتعبير بعض الدواب التي كانت ببردودا، ونشبت الحرب بين الفريقين، فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة، فكانت الهزيمة على الزنج، وحاز أصحاب أبي العباس أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين، وأخذت دوابهما بحلاها وآلتها، ومضى الجيش أجمع لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا، وأسلموا ما كان معهم من أثاث وآلة، ورجع أبو العباس، وأقام بمعسكره في العمر، وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذا والسميريات وترتيب الرجال فيها، وأقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما، لا يظهر منهم أحد وكان الجبائي يجيء في الطلائع في كل ثلاثة أيام وينصرف، وحفر آبارا فوق نهر سنداد، وصير فيها سفافيد حديد، وغشاها بالبواري، وأخفى مواضعها، وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها، وكان يوافي طرف العسكر متعرضا لأهله، فتخرج الخيل طالبة له، فجاء في بعض أيامه، وطلبته الخيل كما كانت تطلبه، فقطر فرس رجل من قواد الفراغنة في بعض تلك الآبار، فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من
    (9/560)
    ذلك على ما دبر الجبائي، فحذروا ذلك، وتنكبوا سلوك ذلك الطريق، وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم للحرب، وعسكروا بنهر الأمير في جمع كثير، فلما لم يجد ذلك عليهم أمسكوا عن الحرب قدر شهر.
    وكتب سليمان إلى صاحب الزنج يسأله امداده بسميريات، لكل واحده منهن اربعون مجدافا، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية، في كل سميرية مقاتلان، ومع ملاحيها السيوف والرماح والتراس، وجعل الجبائي موقفه حيال عسكر أبي العباس، وعاودوا التعرض للحرب في كل يوم، فإذا خرج إليهم أصحاب أبي العباس انهزموا عنهم، ولم يثبتوا لهم، وخلال ذلك ما تأتي طلائعهم، فتقطع القناطر، وترمي ما ظهر لها من الخيل بالنشاب، وتضرم ما وجدت في النوبة من المراكب التي مع نصير بالنار، فكانوا كذلك قدر شهرين.
    ثم رأى أبو العباس أن يكمن لهم كمينا في قرية الرمل، ففعل ذلك، وقدم لهم سميريات أمام الجيش ليطمعوا فيها، وأمر أبو العباس فأعدت له سميرية ولزيرك سميرية وحمل جماعة من غلمانه الذين اختارهم، وعرفهم بالنجدة في السميريات، فحمل بدرا ومؤنسا في سميرية ورشيقا الحجاجي ويمنا في سميرية وخفيفا ويسرا في سميرية، ونذيرا ووصيفا في سميرية، وأعد خمس عشرة سميرية، وجعل في كل سميرية مقاتلين، وجعلها أمام الجيش.
    قال محمد بن شعيب الاشتيام: وكنت فيمن تقدم يومئذ، فأخذ الزنج من السميريات المتقدمة عدة، وأسروا أسرى، فانطلقت مسرعا، فناديت بصوت عال: قد أخذ القوم سميرياتنا فسمع أبو العباس صوتي وهو يتغدى، فنهض إلى سميريته التي كانت أعدت له، وتقدم العسكر، ولم ينتظر لحاق أصحابه، فتبعه منهم من خف لذلك قال: فأدركنا الزنج، فلما رأونا قَذَفَ* الله الرعب فِي قُلُوبِهِمُ، * فألقوا
    (9/561)
    أنفسهم في الماء، وانهزموا فتخلصنا أصحابنا، وحوينا يومئذ إحدى وثلاثين سميرية من سميريات الزنج، وأفلت الجبائي في ثلاث سميريات، ورمى أبو العباس يومئذ عن قوس كانت في يده حتى دميت إبهامه، فانصرف، ولو أنا جددنا في طلب الجبائي في ذلك اليوم ظننت أنا أدركناه، فمنعنا من ذلك شدة اللغوب ورجع أبو العباس وأكثر أصحابه بمواضعهم من فوهة بردودا لم يرم أحد منهم، فلما وافى عسكره أمر لمن كان صحبه بالأطواق والخلع والأسورة، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج، وأمر أبا حمزة أن يجعل مقامه بما معه من الشذا في دجلة بحذاء خسرسابور.
    ثم إن أبا العباس رأى أن يتوغل في مازروان حتى يصير إلى القرية المعروفة بالحجاجية، وينتهي إلى نهر الأمير، ويقف على تلك المواضع، ويتعرف الطرق التي تجتاز فيها سميريات الزنج، وأمر نصيرا فقدمه بما معه من الشذا والسميريات، فسار نصير لذلك، فترك طريق مازروان، وقصد ناحية نهر الأمير، فدعا أبو العباس سميريته، فركبها ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازروان وهو يرى أن نصيرا أمامه، وقال لمحمد: قدمني في النهر لأعرف خبر نصير وأمر الشذا والسميريات بالمصير خلفه.
    قال محمد بن شعيب: فمضينا حتى قاربنا الحجاجية، فعرضت لنا في النهر صلغة فيها عشرة زنوج، فأسرعنا إليها، فألقى الزنوج أنفسهم في الماء، وصارت الصلغة في أيدينا، فإذا هي مملوءة شعيرا، وأدركنا فيها زنجيا فأخذناه، فسألناه عن خبر نصير وشذواته فقال: ما دخل هذا النهر شيء من الشذا والسميريات فأصابتنا حيرة، وذهب الزنج الذين أفلتوا من أيدينا فأعلموا أصحابهم بمكاننا، وعرض للملاحين الذين كانوا معنا غنم فخرجوا لانتهابها.
    قال محمد بن شعيب: وبقيت مع أبي العباس وحدي، فلم نلبث أن وافانا قائد من قواد الزنج، يقال له منتاب، في جماعة من الزنج من أحد جانبي
    (9/562)
    النهر، ووافانا من الجانب الآخر عشرة من الزنج، فلما رأينا ذلك خرج أبو العباس، ومعه قوسه وأسهمه، وخرجت برمح كان في يدي، وجعلت أحميه بالرمح وهو يرمي الزنج، فجرح منهم زنجيين، وجعلوا يثوبون ويكثرون، وأدركنا زيرك في الشذا ومعه الغلمان، وقد كان أحاط بنا زهاء ألفي زنجي من جانبي مازروان، وكفى الله امرهم، وردهم بذله وصغار، ورجع أبو العباس إلى عسكره، وقد غنم أصحابه من الغنم والبقر والجواميس شيئا كثيرا، وأمر أبو العباس بثلاثة من الملاحين الذين كانوا معه، فتركوه لانتهاب الغنم، فضربت أعناقهم، وأمر لمن بقي بالأرزاق لشهر، وأمر بالنداء في الملاحين الا يبرح احد من السمير يأت في وقت الحرب، فمن فعل ذلك فقد حل دمه.
    وانهزم الزنج أجمعون حتى لحقوا بطهيثا، وأقام أبو العباس بمعسكره في العمر، وقد بث طلائعه في جميع النواحي فمكث بذلك حينا، وجمع سليمان بن جامع عسكره وأصحابه، وتحصن بطهيثا، وفعل الشعراني مثل ذلك بسوق الخميس، وكان بالصينية لهم جيش كثيف أيضا، يقود أهله رجل منهم يقال له نصر السندي، وجعلوا يخربون كل ما وجدوا إلى إخرابه سبيلا، ويحملون ما قدروا على حمله من الغلات، ويعمرون مواضعهم التي هم مقيمون بها فوجه أبو العباس جماعة من قواده، منهم الشاه وكمشجور والفضل بن موسى بن بغا، وأخوه محمد على الخيل إلى ناحية الصينية، وركب أبو العباس ومعه نصير وزيرك في الشذا والسميريات، وأمر بخيل فعبر بها من برمساور إلى طريق الظهر.
    وسار الجيش حتى صار إلى الهرث، فأمر أبو العباس بتعبير الدواب إلى الهرث، فعبرت، فصارت إلى الجانب الغربي من دجلة، وأمر بأن يسلك بها طريق دير العمال فلما أبصر الزنج الخيل دخلتهم منها رهبة شديدة، فلجئوا إلى الماء والسفن، ولم يلبثوا أن وافتهم الشذا والسميريات، فلم يجدوا ملجأ واستسلموا، فقتل منهم فريق، وأسر فريق، وألقى بعضهم نفسه في الماء فأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم، وهي مملوءة أرزا، فصارت في
    (9/563)
    أيديهم، وأخذوا سميرية رئيسهم المعروف بنصر السندي، وانهزم الباقون، فصارت طائفة منهم إلى طهيثا وطائفة إلى سوق الخميس، ورجع أبو العباس غانما إلى عسكره، وقد فتح الصينية وأجلى الزنج عنها قال محمد بن شعيب: وبينا نحن في حرب الزنج بالصينية إذ عرض لأبي العباس كركي طائر، فرماه بسهم، فشكه فسقط بين أيدي الزنج، فأخذوه، فلما رأوا موضع السهم منه، وعلموا أنه سهم أبي العباس زاد ذلك في رعبهم، فكان سببا لانهزامهم يومئذ.
    وقد ذكر عمن لا يتهم أن خبر السهم الذي رمى به أبو العباس الكركي في غير هذا اليوم، وانتهى إلى أبي العباس أن بعبدسى جيشا عظيما يرأسهم ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيان، فصار أبو العباس إلى عبدسي قاصدا للإيقاع بهما ومن معهما في خيل جريدة، قد انتخبت من جلد غلمانه وحماه اصحابه، فوافى الموضع الذي فيه جمعهم في السحر، فأوقع بهم وقعة غليظة، قتل فيها من أبطالهم، وجلد من رجالهم خلق كثير، وانهزموا وظفر أبو العباس برئيسهم ثابت بن أبي دلف، فمن عليه واستبقاه، وضمه إلى بعض قواده، وأصاب لؤلؤا سهم فهلك منه، واستنقذ يومئذ من النساء اللواتي كن في أيدي الزنج خلق كثير، فأمر أبو العباس بإطلاقهن وردهن إلى أهلهن، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه.
    ثم رجع أبو العباس إلى معسكره، فأمر أصحابه أن يريحوا أنفسهم ليسير بهم إلى سوق الخميس، ودعا نصيرا فأمره بتعبئة أصحابه للمسير إليها، فقال له نصير: إن نهر سوق الخميس ضيق، فأقم أنت وائذن لي في المسير إليه حتى أعاينه، فأبى أن يدعه حتى يعاينه، ويقف على علم ما يحتاج إليه منه قبل موافاة أبيه أبي أحمد، وذلك عند ورود كتاب أبي أحمد عليه بعزمه على الانحدار
    (9/564)
    قال محمد بن شعيب: فدعاني أبو العباس، فقال لي: أنه لا بد لي من دخول سوق الخميس، فقلت: إن كنت لا بد فاعلا ما تذكر فلا تكثر عدد من تحمل معك في الشذا، ولا تزد على ثلاثة عشر غلاما عشرة رماة وثلاثة في أيديهم الرماح، فإني أكره الكثرة في الشذا مع ضيق النهر، فاستعد أبو العباس لذلك، وسار إليه ونصير بين يديه حتى وافى فم برمساور، فقال له نصير: قدمني أمامك، ففعل ذلك، فدخل نصير في خمس عشرة شذاة.
    واستأذنه رجل من قواد الموالي يقال له موسى دالجويه في التقدم بين يديه، فأذن له، فسار وسار أبو العباس حتى انتهى به مسيره إلى بسامي، ثم إلى فوهة براطق ونهر الرق والنهر الذي ينفذ إلى رواطا وعبدسي، وهذه الأنهار الثلاثة تؤدي إلى ثلاث طرق مفترقة، فأخذ نصير في طريق نهر براطق وهو النهر المؤدي إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني التي سماها المنيعة بسوق الخميس.
    وأقام أبو العباس على فوهة هذا النهر، وغاب عنه نصير حتى خفي عنه خبره.
    وخرج علينا في ذلك الموضع من الزنج خلق كثير، فمنعونا من دخول النهر، وحالوا بيننا وبين الانتهاء إلى السور- وبين هذا الموضع الذي انتهينا إليه والسور المحيط بمدينة الشعراني مقدار فرسخين- فأقاموا هناك يحاربوننا، واشتدت الحرب بيننا وبينهم وهم على الأرض، ونحن في السفن من أول النهار إلى وقت الظهر، وخفي علينا خبر نصير، وجعل الزنج يهتفون بنا: قد أخذنا نصيرا ماذا تصنعون؟ ونحن تابعوكم حيثما ذهبتم فاغتم أبو العباس لما سمع منهم هذا القول، فأستاذنه محمد بن شعيب في المسير ليتعرف خبر نصير، فأذن له، فمضى في سميرية بعشرين جذافا حتى وافى نصيرا أبا حمزة، وقد قرب من سكر كان الفسقة سكروه، ووجده قد أضرم النار فيه وفي مدينتهم، وحارب حربا شديدا ورزق الظفر بهم، وكان الزنج ظفروا ببعض شذوات أبي حمزة، فقاتل حتى انتزع ما كانوا أخذوا من أيديهم، فرجع محمد بن شعيب إلى أبي العباس، فبشره بسلامة نصير ومن معه، وأخبره خبره فسر بذلك وأسر نصير يومئذ من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العباس بالموضع الذي كان واقفا به فلما رجع نصير قال أبو العباس: لست زائلا عن موضعي
    (9/565)
    هذا حتى أراوحهم القتال في عشي هذا اليوم، ففعل ذلك، وأمر بإظهار شذاة واحدة من الشذوات التي كانت معه لهم، وأخفى باقيها عنهم، فطمعوا في الشذاة التي رأوها، فتبعوها، وجعل من كان فيها يسيرون سيرا ضعيفا حتى أدركوها، فعلقوا بسكانها، وجعل الملاحون يسيرون حتى وافوا المكان الذي كانت فيه الشذوات المكمنة.
    وقد كان أبو العباس ركب سميرية، وجعل الشذا خلفه، فسار نحو الشذاة التي علق بها الزنج لما أبصرها، فأدركها، والزنج ممسكون بسكانها يحيطون بها من جوانبها، يرمون بالنشاب والآجر، وعلى أبي العباس كيز تحته درع.
    قال محمد: فنزعنا يومئذ من كيز أبي العباس خمسا وعشرين نشابة، ونزعت من لعباده كانت علي أربعين نشابة، ومن لبابيد سائر الملاحين الخمس والعشرين والثلاثين وأظفر الله أبا العباس بست سميريات من سميريات الزنج، وتخلص الشذا من أيديهم، وانهزموا، ومال أبو العباس واصحابه نحو الشط، وخرج من الزنج المقاتلة بالسيوف والتراس، فانهزموا لا يلوون على شيء للرهبة التي وصلت إلى قلوبهم، ورجع أبو العباس سالما غانما، فخلع على الملاحين ووصلهم، ثم صار إلى معسكره بالعمر، فأقام به إلى أن وافى الموفق.
    ولإحدى عشرة ليلة خلت من صفر منها، عسكر أبو أحمد بن المتوكل بالفرك، وخرج من مدينة السلام يريد الشخوص إلى صاحب الزنج لحربه، وذلك أنه- فيما ذكر- كان اتصل به أن صاحب الزنج كتب إلى صاحبه على ابن أبان المهلبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع، ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد، وأقام أبو أحمد بالفرك أياما، حتى تلاحق به أصحابه ومن أراد النهوض به إليه، وقد أعد قبل ذلك الشذا والسميريات والمعابر والسفن، ثم رحل من الفرك- فيما ذكر- يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول في مواليه وغلمانه وفرسانه ورجالته فصار إلى رومية المدائن، ثم صار منها، فنزل السيب ثم دير العاقول ثم جرجرايا، ثم قنى، ثم نزل جبل، ثم نزل الصلح، ثم نزل على فرسخ من واسط، فأقام
    (9/566)
    هنالك يومه وليلته، فتلقاه ابنه أبو العباس به في جريدة خيل فيها وجوه قواده وجنده، فسأله أبو أحمد عن خبر أصحابه، فوصف له بلاءهم ونصحهم، فأمر أبو أحمد له ولهم بخلع فخلعت عليهم، وانصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر، فأقام يومه فلما كانت صبيحة الغد رحل أبو أحمد منحدرا في الماء، وتلقاه ابنه أبو العباس بجميع من معه من الجند في هيئة الحرب والزي الذي كانوا يلقون به أصحاب الخائن، فجعل يسير أمامه حتى وافى عسكره بالنهر المعروف بشيرزاد، فنزل به أبو أحمد، ثم رحل منه يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول، فنزل على النهر المعروف بسنداد بإزاء القرية المعروفة بعبد الله، وأمر ابنه أبا العباس، فنزل شرقي دجلة بإزاء فوهة بردودا، وولاه مقدمته، ووضع العطاء فأعطى الجيش، ثم أمر ابنه بالمسير أمامه بما معه من آله الحرب الى فوهه برمساور فرحل أبو العباس في المختارين من قواده ورجاله، منهم زيرك التركي صاحب مقدمته، ونصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات.
    ورحل أبو أحمد بعد ذلك في الفرسان والرجالة المنتخبين، وخلف سواد عسكره وكثيرا من الفرسان والرجالة بمعسكره، فتلقاه ابنه أبو العباس بأسرى ورءوس وقتلى قتلهم من أصحاب الشعراني، وذلك أنه وافى عسكره الشعراني في ذلك اليوم قبل مجيء أبيه أبي أحمد، فأوقع به وأصحابه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم جماعة، فأمر أبو أحمد بضرب أعناق الأسرى فضربت، ونزل ابو احمد فوهه برمساور، وأقام به يومين، ثم رحل يريد المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس في يوم الثلاثاء لثماني ليال خلون من شهر ربيع الآخر من هذه السنة بمن معه من الجيش وما معه من آلة الحرب، وسلك في السفن في برمساور، وجعلت الخيل تسير بازائه شرقى برمساور، حتى حاذى النهر المعروف ببراطق الذي يوصل إلى مدينة الشعراني.
    وإنما بدأ أبو أحمد بحرب سليمان بن موسى الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع من أجل أن الشعراني كان وراءه، فخاف إن بدأ بابن جامع ان يأتيه
    (9/567)
    الشعراني من ورائه، ويشغله عمن هو أمامه، فقصده من أجل ذلك، وأمر بتعبير الخيل وتصييرها على جانبي النهر المعروف ببراطق، وأمر ابنه أبا العباس بالتقدم في الشذا والسميريات، واتبعه أبو أحمد في الشذا بعامة الجيش.
    فلما بصر سليمان ومن معه من الزنج وغيرهم بقصد الخيل والرجالة سائرين على جنبتي النهر ومسير الشذا والسميريات في النهر، وقد لقيهم أبو العباس قبل ذلك، فحاربوه حربا ضعيفة، انهزموا وتفرقوا.
    وعلا أصحاب أبي العباس السور، ووضعوا السيوف فيمن لقيهم وتفرق الزنج وأتباعهم، ودخل أصحاب أبي العباس المدينة، فقتلوا فيها خلقا كثيرا، وأسروا بشرا كثيرا، وحووا ما كان في المدينة، وهرب الشعراني ومن أفلت منهم معه، وأتبعهم أصحاب أبي أحمد حتى وافوا بهم البطائح، فغرق منهم خلق كثير، ونجا الباقون إلى الآجام، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم قبل غروب الشمس من يوم الثلاثاء، وانصرف وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة، سوى من ظفر به من الزنجيات اللواتي كن في سوق الخميس فأمر أبو أحمد بحياطة النساء جميعا، وحملهن إلى واسط ليدفعن إلى أوليائهن وبات أبو أحمد بحيال النهر المعروف ببراطق، ثم باكر المدينة من غد، فأذن للناس في حياطة ما فيها من أمتعة الزنج، وأخذ ما كان فيها أجمع، وأمر بهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما كان بقي فيها من السفن، ورحل إلى معسكره ببرمساور بالظفر بما بالرساتيق والقرى التي كانت في يد الشعراني وأصحابه من غلات الحنطة والشعير والأرز، فأمر ببيع ذلك، وصرف ثمنه في أعطيات مواليه وغلمانه وجنده وأهل عسكره.
    وانهزم سليمان الشعراني وأخواه ومن أفلت، وسلب الشعراني ولده وما كان بيده من مال، ولحق بالمذار، فكتب إلى الخائن بخبره وما نزل به واعتصامه بالمذار.
    فذكر محمد بن الحسن، أن محمد بن هشام المعروف بأبي واثلة الكرماني
    (9/568)
    قال: كنت بين يدي الخائن وهو يتحدث، إذ ورد عليه كتاب سليمان الشعراني بخبر الوقعة وما نزل به، وانهزامه إلى المذار، فما كان إلا أن فض الكتاب، فوقعت عينه على موضع الهزيمة حتى انحل وكاء بطنه، ثم نهض لحاجته، ثم عاد فلما استوى به مجلسه أخذ الكتاب وعاد يقرؤه، فلما انتهى إلى الموضع الذي أنهضه، نهض حتى فعل ذلك مرارا قال: فلم أشك في عظم المصيبة، وكرهت أن أسأله، فلما طال الأمر تجاسرت، فقلت: أليس هذا كتاب سليمان بن موسى؟ قال: نعم، ورد بقاصمة الظهر، أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر، فكتب كتابه هذا وهو بالمذار، ولم يسلم بشيء غير نفسه قال: فأكبرت ذلك، والله يعلم مكروه ما أخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي، وأمسك مبشرا بدنو الفرج وصبر الخائن على ما وصل إليه، وجعل يظهر الجلد، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله.
    وذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد قال: أقام الموفق بعسكره ببرمساور يومين، لتعرف أخبار الشعراني وسليمان بن جامع والوقوف على مستقره، فأتاه بعض من كان وجهه لذلك، فأخبره أنه معسكر بالقرية المعروفة بالحوانيت.
    فأمر عند ذلك بتعبير الخيل إلى أرض كسكر في غربي دجلة، وسار على الظهر، وأمر بالشذا وسفن الرجالة فحدرت إلى الكثيثة، وخلف سواد عسكره وجمعا كثيرا من الرجال والكراع بفوهه برمساور، وأمر بغراج بالمقام هناك، فوافى أبو أحمد الصينية، وأمر أبا العباس بالمصير في الشذا والسميريات إلى الحوانيت مخفا لتعرف حقيقة خبر سليمان بن جامع في مقامه بها، وإن وجد منه غرة أوقع به فسار أبو العباس في عشي ذلك اليوم إلى الحوانيت، فلم يلف سليمان هنالك، وألفى من قواد السودان المشهورين بالبأس والنجدة شبلا وأبا النداء وهما من قدماء أصحاب الفاسق الذين كان استتبعهم في بدء مخرجه.
    وكان سليمان بن جامع خلف هذين القائدين في موضعهما لحفظ غلات كثيرة كانت هناك، فحاربهما أبو العباس، وأدخل الشذا موضعا ضيقا من النهر، فقتل من رجالهما، وجرح بالسهام خلقا كثيرا- وكانوا أجلد رجال سليمان بن
    (9/569)
    جامع ونخبتهم الذين يعتمد عليهم- ودامت الحرب بينهم إلى أن حجز الليل بين الفريقين.
    قال: وقال محمد بن حماد: في هذا اليوم كان من أمر أبي العباس في الكركي الذي ذكره محمد بن شعيب في يوم الصينية، وقد مر به سانحا، قال: واستامن في هذا اليوم رجل إلى أبي العباس، فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع، فأخبره أنه مقيم بطهيثا، فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان بمدينته التي سماها المنصورة، وهي في الموضع الذي يعرف بطهيثا، وأن معه هنالك جميع أصحابه غير شبل وأبي النداء، فإنهما بموضعهما من الحوانيت لما أمروا بحفظه فلما عرف ذلك أبو أحمد، أمر بالرحيل إلى بردودا، إذ كان المسلك إلى طهيثا منه، وتقدم أبو العباس في الشذا والسميريات، وامر من خلفه ببرمساور أن يصيروا جميعا إلى بردودا، ورحل أبو أحمد في غد ذلك اليوم الذي أمر أبا العباس فيه بما أمره به إلى بردودا، وسار إليها يومين، فوافاها يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، فأقام بها يصلح ما يحتاج إلى إصلاحه من أمر عسكره، وأمر بوضع العطاء وإصلاح سفن الجسور ليحدرها معه، واستكثر من العمال والآلات التي تسد بها الأنهار، وتصلح بها الطرق للخيل، وخلف ببردودا بغراج التركي، وقد كان لما عزم على الرجوع إلى بردودا أرسل إلى غلام له يقال له جعلان وكان مخلفا مع بغراج في عسكره، فأمر بقلع المضارب وتقديمها مع الدواب المخلفة قبله والسلاح إلى بردودا، فأظهر جعلان ما أمر به في وقت العشاء الآخرة، ونادى في العسكر والناس غارون، فألقي في قلوبهم أن ذلك لهزيمة كانت فخرجوا على وجوههم، وترك الناس أسواقهم وأمتعتهم، ظنا منهم أن العدو قد أظلهم، ولم يلو منهم أحد على أحد، وقصدوا قصد الرجوع إلى عسكرهم ببردودا، وساروا في سواد ليلتهم تلك، ثم ظهر لهم بعد ذلك حقيقة الخبر، فسكنوا واطمأنوا
    (9/570)
    وفي صفر من هذه السنة كان بين أصحاب كيغلغ التركي وأصحاب أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وقعة بناحية قرماسين، فهزمهم كيغلغ، وصار إلى همذان، فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن قد اجتمع من أصحابه في صفر، فحاربه فانهزم كيغلغ، وانحاز إلى الصيمرة.
    وفي هذه السنة لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر دخل أبو أحمد وأصحابه طهيثا، وأخرجوا منها سليمان بن جامع، وقتل بها أحمد بن مهدي الجبائي.
    ذكر الخبر عن سبب دخول أبي أحمد وأصحابه طهيثا ومقتل الجبائي
    ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن أبا أحمد لما أعطى أصحابه ببردودا، فأصلح ما أراد إصلاحه من عدة حرب من قصد لحربه في مخرجه، سار متوجها إلى طهيثا، وذلك يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله.
    وحدرت السفن بما فيها من الرجالة والسلاح والآلات، وحدرت المعابر والشذوات والسميريات، إلى أن وافى بها النهر المعروف بمهروذ بحضرة القرية المعروفة بقرية الجوزية، فنزل أبو أحمد هناك، وأمر بعقد الجسر على النهر المعروف بمهروذ، وأقام يومه وليلته ثم غدا فعبر الفرسان والأثقال بين يديه على الجسر، ثم عبر بعد ذلك، وأمر القواد والناس بالمسير إلى طهيثا، فصاروا إلى الموضع الذي ارتضاه أبو أحمد لنفسه منزلا على ميلين من مدينة سليمان بن جامع، فأقام هنالك بإزاء أصحاب الخائن يوم الاثنين والثلاثاء لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، ومطر السماء مطرا جودا، واشتد البرد أيام مقامه هنالك، فشغل بالمطر والبرد عن الحرب، فلم يحارب هذه الأيام وبقية الجمعة فلما كان عشية يوم الجمعة ركب أبو أحمد في نفر من قواده ومواليه لارتياد موضع لمجال الخيل، فانتهى إلى قريب من سور
    (9/571)
    سليمان بن جامع، فتلقاه منهم جمع كثير وخرج عليه كمناء من مواضع شتى، ونشبت الحرب واشتدت، فترجل جماعة من الفرسان، ودافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا وغلوها، وأسر من غلمان أبي أحمد وقواده غلام يقال له وصيف علمدار وعدة من قواد زيرك، ورمى أبو العباس أحمد بن مهدي الجبائي بسهم في إحدى منخريه، فخرق كل شيء وصل إليه حتى خالط دماغه، فخر صريعا، وحمل إلى عسكر الخائن وهو لمآبه، فعظمت المصيبة به عليه، إذ كان أعظم أصحابه غنى عنه، وأشدهم بصيرة في طاعته، فمكث الجبائي يعالج أياما، ثم هلك، فاشتد جزع الخائن عليه، فصار إليه، فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره إلى أن دفن، ثم أقبل على أصحابه فوعظهم، وذكر موت الجبائي وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق وقال فيما ذكر: علمت وقت قبض روحه قبل وصول الخبر إليه بما سمع من زجل الملائكة بالدعاء له والترحم عليه.
    قال محمد بن الحسن: فانصرف إلي أبو واثلة- وكان فيمن شهده- فجعل يعجبني مما سمع، وجاءني محمد بن سمعان فأخبرني بمثل خبر محمد ابن هشام، وانصرف الخائن من دفن الجبائي منكسرا عليه الكآبة.
    قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد أن أبا أحمد انصرف من الوقعة التي كانت عشية يوم الجمعة لأربع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، وكان خبره قد انتهى إلى عسكره، فنهض إليه عامة الجيش، فتلقوه منصرفا، فردهم إلى عسكره، وذلك في وقت المغرب، فلما اجتمع أهل العسكر أمروا بالتحارس ليلتهم والتأهب للحرب، فأصبحوا يوم السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر، فعبأ أبو أحمد أصحابه، وجعلهم كتائب يتلو بعضها بعضا، فرسانا ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة طهيثا المعروف بنهر المنذر، وسار نحو الزنج حتى انتهى إلى سور المدينة، فرتب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها، وقدم الرجالة أمام الفرسان، ووكل بالمواضع التي يخاف خروج الكمناء منها، ونزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله عز وجل في النصر
    (9/572)
    له وللمسلمين ثم دعا بسلاحه فلبسه، وأمر ابنه أبا العباس بالتقدم إلى السور وتحضيض الغلمان على الحرب، ففعل ذلك، وقد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور مدينته التي سماها المنصورة خندقا، فلما انتهى إليه الغلمان تهيبوا عبوره، وأحجموا عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم، فاقتحموه متجاسرين عليه، فعبروه، وانتهوا إلى الزنج وهم مشرفون من سور مدينتهم، فوضعوا السلاح فيهم، وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا.
    فلما رأى الزنج خبر هؤلاء القوم الذين لقوهم وكرهم عليهم ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي أحمد، ودخلوا المدينة من جوانبها وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق إذا انتهوا إليه، وجعل أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه، ودخلت الشذا والسميريات مدينتهم من النهر المشقق لها بعد انهزامهم، فجعلت تغرق كل ما مرت لهم به من شذاه وسميرية، واتبعوا من بحافتي النهر، يقتلون ويؤسرون، حتى أجلوا عن المدينة وعما اتصل بها، وكان زهاء ذلك فرسخا، فخوى أبو أحمد ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه، فاستحر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبو أحمد من نساء أهل واسط وصبيانهم ومما اتصل بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف فأمر أبو أحمد بحياطتهم والإنفاق عليهم، وحملوا إلى واسط، ودفعوا إلى أهليهم واحتوى أبو أحمد وأصحابه على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، وكان ذلك شيئا جليل القدر، فأمر أبو أحمد ببيع ما أصاب من الغلات وغير ذلك، وحمله إلى بيت ماله، وصرفه في أعطيات من في عسكره من مواليه وجنوده، فحملوا من ذلك ما تهيأ لهم حمله، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة، واستنقذ يومئذ وصيف علمدار ومن كان أسر معه عشية يوم الجمعة، فأخرجوا من الحبس، وكان الأمر أعجل الزنج عن قتلهم، ولجأ
    (9/573)
    جمع كثير ممن أفلت إلى الآجام المحيطة بالمدينة فأمر أبو أحمد فعقد جسر على هذا النهر المعروف بالمنذر، فعبر الناس إلى غربيه، وأقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما، وأمر بهدم سور المدينة وطم خنادقها، ففعل ذلك، وأمر بتتبع من لجأ إلى الآجام، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا، فتسارع الناس إلى طلبهم، فكان إذا أتي بالواحد منهم عفا عنه، وخلع عليه وضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم وصرفهم عن طاعة صاحبهم، وندب أبو أحمد نصيرا في الشذا والسميريات لطلب سليمان بن جامع والهرب معه من الزنج وغيرهم، وأمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح، وحتى يلج دجلة المعروفة بالعوراء، وتقدم في فتح الكور التي كان الفاسق أحدثها، ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه وبين النهر المعروف بأبي الخصيب، وتقدم إلى زيرك في المقام بطهيثا ليتراجع إليها الذين كان الفاسق أجلاهم عنها من أهلها، وأمره بتتبع من بقي في الآجام من الزنج حتى يظفر بهم.
    وفي شهر ربيع الآخر منها ماتت أم حبيب بنت الرشيد ورحل أبو أحمد بعد إحكامه ما أراد إحكامه إلى معسكره ببردودا، مزمعا على التوجه نحو الأهواز ليصلحها، وقد كان اضطرب أمر المهلبي وإيقاعه بمن أوقع عليه من الجيوش التي كانت بها وغلبته على أكثر كورها، وقد كان أبو العباس تقدمه في مسيره ذلك فلما وافى بردودا أقام أياما، وأمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى كور الأهواز، وقدم من يصلح الطريق والمنازل ويعد فيها المير للجيوش التي معه، ووافاه قبل أن ترحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا، بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها، وخلفهم آمنين فأمره أبو أحمد بالاستعداد والانحدار في الشذا والسميريات في نخبة أصحابه وأنجادهم، ليصير بهم إلى دجلة العوراء، فتجتمع يده
    (9/574)
    ويد أبي حمزة على نفض دجلة واتباع المنهزمين من الزنج والإيقاع بكل من لقوا من أصحاب الفاسق، إلى أن ينتهى بهم السير إلى مدينته بنهر أبي الخصيب، وإن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينته، وكتبوا بما كان منهم إلى أبي أحمد ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحبسه واستخلف أبو أحمد على من خلف في عسكره بواسط ابنه هارون، وأزمع على الشخوص فيمن خف من رجاله وأصحابه، ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة إذا وافى كتابه بذلك وفي يوم الجمعة لليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة- وهي سنة سبع وستين ومائتين ارتحل أبو أحمد من واسط شاخصا إلى الأهواز وكورها، فنزل باذبين ثم جوخي ثم الطيب ثم قرقوب ثم درستان ثم على وادي السوس، وقد كان عقد له عليه جسر، فأقام به من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، حتى عبر أهل عسكره أجمع، ثم سار حتى وافى السوس، فنزلها- وقد كان أمر مسرورا- وهو عامله على الأهواز- بالقدوم عليه، فوافاه في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس، فخلع عليه وعليهم، وأقام السوس ثلاثا.
    وكان ممن أسر بطهيثا من أصحاب الفاسق أحمد بن موسى بن سعيد المصرى المعروف بالقلوص، وكان أحد عدده وقدماء أصحابه، أسر بعد أن أثخن جراحا كانت منها منيته، فلما هلك امر ابو احمد باحتزاز رأسه ونصبه على جسر واسط.
    وكان ممن أسر يومئذ عبد الله بن محمد بن هشام الكرماني، وكان الخبيث اغتصبه أباه، فوجهه إلى طهيثا، وولاه القضاء والصلاة بها وأسر من السودان جماعة كان يعتمد عليهم، أهل نجدة وبأس وجلد، فلما اتصل به الخبر بما نال هؤلاء انتقض عليه تدبيره، وضلت حيله، فحمله فرط الهلع على أن كتب إلى المهلبي وهو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا مع رجل كان صحبه، يأمره بترك كل ما قبله من المير والأثاث، والإقبال إليه، فوصل
    (9/575)
    الكتاب إلى المهلبي وقد أتاه الخبر بإقبال أبي أحمد إلى الأهواز وكورها، فهو لذلك طائر العقل، فترك جميع ما كان قبله، واستخلف عليه محمد بن يحيى ابن سعيد الكرنبائي، فدخل قلب الكرنبائي من الوجل، فأخلى ما استخلف عليه، وتبع المهلبي، وبجبى والأهواز ونواحيها يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم، فخرجوا عن ذلك كله.
    وكتب أيضا الفاسق إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما اتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس، وهو مقيم بالفندم، يأمره بالقدوم عليه، فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام والتمر- وكان ذلك شيئا عظيما- فحوى جميع ذلك أبو أحمد، فكان ذلك قوة له على الفاسق، وضعفا للفاسق.
    ولما فصل المهلبي عن الأهواز تفرق أصحابه في القرى التي بينها وبين عسكر الخبيث فانتهبوها، وأجلوا عنها أهلها، وكانوا في سلمهم، وتخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من الفرسان والرجالة عن اللحاق به، فأقاموا بنواحي الأهواز وكتبوا يسألون أبا احمد الامان لما انتهى اليهم من عفوه عمن ظفر به من أصحاب الخبيث بطهيثا، ولحق المهلبي ومن اتبعه من أصحابه بنهر أبي الخصيب.
    وكان الذي دعا الفاسق إلى أمر المهلبي وبهبوذ بسرعة المصير إليه خوفه موافاة أبي أحمد وأصحابه إياه على الحال التي كانوا عليها من الوجل وشدة الرعب مع انقطاع المهلبي وبهبوذ فيمن كان معهما عنه، ولم يكن الأمر كما قدر.
    وأقام أبو أحمد حتى أحرز ما كان المهلبي وبهبوذ خلفاه، وفتحت السكور التي كان الخبيث أحدثها في دجلة، وأصلحت له طرقه ومسالكه ورحل أبو أحمد عن السوس الى جنديسابور، فأقام بها ثلاثا، وقد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر، فوجه في طلبها، وحملها ورحل عن
    (9/576)
    جنديسابور إلى تستر، وأمر بجباية الأموال من كور الأهواز، وأنفذ إلى كل كورة قائدا ليروج بذلك حمل الأموال ووجه أحمد بن أبي الأصبغ الى محمد ابن عبيد الله الكردي، وقد كان خائفا أن يأتيه صاحب الفاسق قبل موافاة أبي أحمد كور الأهواز، وأمره بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه من العفو عنه، والتغمد لزلته، وأن يتقدم إليه في تعجيل حمل الأموال والمسير إلى سوق الأهواز، وأمر مسرورا البلخي عامله بالأهواز بإحضار من معه من الموالي والغلمان والجند ليعرضهم، ويأمر بإعطائهم الأرزاق، وينهضهم معه لحرب الخبيث.
    فأحضرهم، وعرضوا رجلا رجلا، وأعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم، فجعله منزلا اجتازه ورحل منه فوافى الأهواز، وهو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره فغلظ الأمر في ذلك اليوم، واضطرب له الناس اضطرابا شديدا، وأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود المير، فلم ترد، فساءت أحوال الناس، وكاد ذلك يفرق جماعتهم، فبحث أبو أحمد عن السبب المؤخر ورودها، فوجد الجند قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية كانت بين سوق الأهواز ورام هرمز يقال لها قنطرة أربك، فامتنع التجار ومن يحمل الميرة من تطرقه لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها وهي على فرسخين من سوق الأهواز، فجمع من كان بقي في العسكر من السودان، وأمرهم بنقل الحجارة والصخر لإصلاح هذه القنطرة وبذل لهم الأموال الرغيبة، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك، وردت إلى ما كانت عليه فسلكها الناس، ووافت القوافل بالمير، فحيي أهل العسكر، وحسنت أحوالهم.
    وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل، فجمعت من كور الأهواز وأخذ في عقد الجسر، وأقام بالأهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم، وما احتاجوا من آلاتهم، وحسنت أحوال دوابهم، وذهب عنها ما كان نالها من الضر بتخلف الأعلاف، ووافت كتب القوم الذين كانوا تخلفوا عن المهلبي، وأقاموا بسوق الأهواز يسألونه الأمان، فآمنهم، فأتاه نحو
    (9/577)
    من ألف رجل، فأحسن إليهم، وضمهم إلى قواد غلمانه، وأجرى لهم الأرزاق، وعقد الجسر على دجيل، فرحل بعد أن قدم جيوشه، فعبر الجسر، وعسكر بالجانب الغربي من دجيل في الموضع المعروف بقصر المأمون، فأقام هنالك ثلاثا، وأصابت الناس في هذا الموضع من الليل زلزلة هائلة، وقى الله شرها، وصرف مكروهها وقد كان أبو أحمد قبل عبور الجسر المعقود على دجيل قدم أبا العباس ابنه إلى الموضع الذي كان عزم على نزوله من دجلة العوراء، وهو الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصره، وكتب الى ابنه هارون بالانحدار في جميع الجيش المتخلف معه إلى نهر المبارك أيضا لتجتمع العساكر هناك، فرحل ابو اجمد عن قصر المأمون، فنزل بقورج العباس، ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بما صالح عليه محمد بن عبيد الله وبهدايا أهداها إليه من دواب وضوار وغير ذلك ثم رحل عن القورج، فنزل بالجعفرية، ولم يكن بهذه القرية ماء إلا من آبار كان أبو أحمد تقدم بحفرها في عسكره، وأنفذ لذلك سعدا الأسود مولى عبيد الله بن محمد بن عمار من قورج العباس، فحفرت، فأقام بهذا الموضع يوما وليلة، وألفى هناك ميرا مجموعة، واتسع الناس بها، وتزودوا منها.
    ثم رحل إلى الموضع المعروف بالبشير، وألفى فيه غديرا من المطر، فأقام به يوما وليلة، ورحل في آخر الليل يريد نهر المبارك، فوافاه بعد صلاة الظهر، وكان منزلا بعيد المسافة، وتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه، فسلما عليه، وسارا بسيره حتى ورد نهر المبارك، وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين.
    وكان لزيرك ونصير في الذي كان أبو أحمد وجه فيه زيرك من تتبع فل الخبيث من طهيثا أثر فيما بين فصول أبي أحمد من واسط إلى حال مصيره إلى نهر المبارك، وذلك ما ذكره محمد بن الحسن عن محمد بن حماد، قال:
    (9/578)
    لما اجتمع زيرك ونصير بدجلة العوراء انحدرا حتى وافيا الأبلة، فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الخبيث، فأعلمهما أن الخبيث قد أنفذ عددا كثيرا من السميريات والزواريق والصلاغ مشحونة بالزنج، يرأسهم رجل من أصحابه، يقال له محمد بن إبراهيم، يكنى أبا عيسى، ومحمد بن إبراهيم هذا رجل من أهل البصرة، كان جاء به رجل من الزنج عند خراب البصرة يقال له يسار، كان على شرطة الفاسق، فكان يكتب ليسار على ما كان يلي حتى مات، وارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الخبيث، فولاه أكثر أعماله، وضم محمد بن إبراهيم هذا إليه، فكان كاتبه إلى أن هلك الجبائي- فطمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته، وأن يحله الخبيث محل الجبائي، فنبذ الدواة والقلم، ولبس آلة الحرب، وتجرد للقتال، فأنهضه الخبيث في هذا الجيش، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش، فكان في دجلة أحيانا، وأحيانا يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد، ومعه في ذلك الجيش شبل بن سالم وعمرو المعروف بغلام بوذى وأجلاد من السودان وغيرهم، فاستأمن رجل كان في ذلك الجيش إلى زيرك ونصير، وأخبرهما خبره، وأعلمهما أن محمد بن إبراهيم على القصد لسواد عسكر نصير، ونصير يومئذ معسكر بنهر المرأة، وأنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل وبثق شيرين، حتى يوافوا الموضع المعروف بالشرطة، ليخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على طرفيه، فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة مبادرا إلى معسكره، وسار زيرك قاصدا لبثق شيرين، حتى صار من مؤخرة في موضع يعرف بالميشان، وذلك أنه قدر أن محمد بن إبراهيم ومن معه يأتون عسكر نصير من ذلك الطريق، فكان ذلك كما ظن، ولقيهم في طريقهم فوهب الله له العلو عليهم بعد صبر منهم له ومجاهدة شديدة، فانهزموا ولجئوا إلى النهر الذي كانوا وضعوا الكمين فيه، وهو نهر يزيد، فدل زيرك عليهم، فتوغلت عليهم سميرياته وشذواته، فقتل منهم طائفة، وأسر طائفة، وكان ممن ظفر به منهم محمد بن إبراهيم المكنى أبا عيسى وعمرو المعروف بغلام بوذى، وأخذ
    (9/579)
    ما كان معهم من السميريات، وذلك نحو من ثلاثين سميرية، وأفلت شبل في الذين نجوا، فلحق بعسكر الخبيث، وخرج زيرك من بثق شيرين ظافرا ومعه الأسارى ورءوس من قتل مع ما حوى من السميريات والزواريق وسائر السفن، فانصرف زيرك من دجلة العوراء إلى واسط، وكتب إلى أبي أحمد بما كان من حربه والنصر والفتح.
    وكان فيما كان من زيرك في ذلك وصول الجزع إلى كل من كان بدجلة وكورها من اتباع الفاسق، فاستأمن إلى أبي حمزة وهو مقيم بنهر المرأة منهم زهاء ألفي رجل- فيما قيل- فكتب بخبرهم إلى أبي أحمد، فأمره بقبولهم وإقرارهم على الأمان وإجراء الأرزاق عليهم، وخلطهم بأصحابه ومناهضته العدو بهم.
    وكان زيرك مقيما بواسط إلى حين ورود كتاب أبي أحمد على ابنه هارون بالمصير بالجيش المتخلف معه إلى نهر المبارك، فانحدر زيرك مع هارون، وكتب أبو أحمد إلى نصير وهو بنهر المرأة يأمره بالإقبال إليه إلى نهر المبارك، فوافاه هنالك، وكان أبو العباس عند مصيره إلى نهر المبارك انحدر إلى عسكر الفاسق في الشذا والسميريات، فأوقع به في مدينته بنهر أبي الخصيب.
    وكانت الحرب بينه وبينهم من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، واستأمن إليه قائد من قواد الخبيث المضمومين كانوا إلى سليمان بن جامع، يقال له منتاب، ومعه جماعة من أصحابه، فكان ذلك مما كسر الخبيث وأصحابه، وانصرف أبو العباس بالظفر، وخلع على منتاب ووصله وحمله، ولما لقي أبو العباس أباه أعلمه خبر منتاب، وذكر له خروجه إليه بالأمان، فأمر أبو أحمد لمنتاب بخلعة وصلة وحملان، وكان منتاب أول من استأمن من قواد الزنج ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين، كان أول ما عمل به في أمر الخبيث- فيما ذكر محمد بن الحسن بن سهل، عن محمد بن حماد بن إسحاق بن حماد بن زيد- أن
    (9/580)
    كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وإخراب البلدان والأمصار، واستحلال الفروج والأموال، وانتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة والرسالة، ويعلمه أن التوبة له مبسوطة، والأمان له موجود، فإن هو نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله، ودخل في جماعة المسلمين، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه، وكان له به الحظ الجزيل في دنياه وأنفذ ذلك مع رسوله إلى الخبيث، والتمس الرسول إيصاله، فامتنع أصحاب الخبيث من إيصال الكتاب، فالقاه الرسول اليهم، فاخذوه وأتوا به الى الخبيث، فقراه فلم يزده ما كان فيه من الوعظ إلا نفورا وإصرارا، ولم يجب عن الكتاب بشيء، وأقام على اغتراره، ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره بما فعل، وترك الخبيث الإجابة عن الكتاب وأقام أبو أحمد يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء متشاغلا بعرض الشذا والسميريات وترتيب قواده ومواليه وغلمانه فيها، وتخير الرماة وترتيبهم في الشذا والسميريات، فلما كان يوم الخميس سار أبو أحمد في أصحابه، ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة من نهر أبي الخصيب، فأشرف عليها وتأملها، فرأى من منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها وما عور من الطرق المؤدية إليها واعد من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية وسائر الآلات على سورها ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان، ورأى من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره فلما عاين أصحابه أبا أحمد، ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض، فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة ورشق من عليه بالسهام، ففعل ذلك ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخائن، وانحازت الفسقة إلى الموضع الذي دنت منه الشذا، وتحاشدوا، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم وعراداتهم ومقاليعهم، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع طرف ناظر من الشذا على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا، وثبت أبو العباس، فرأى الخائن وأشياعه من جدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد حاربهم
    (9/581)
    فأمر أبو أحمد أبا العباس ومن معه بالرجوع إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم ويداووا جراحهم، ففعلوا ذلك.
    واستأمن إلى أبي أحمد في تلك الحال مقاتلان من مقاتلة السميريات، فأتوه بسميريتهما وما فيها من الآلات والملاحين، فأمر للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلاة، ووصلهما، وأمر للملاحين بخلع من خلع الحرير الأحمر والثياب البيض بما حسن موقعه منهم وعمهم جميعا بصلاته، وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم، فكان ذلك من أبخع المكايد التي كيد بها الفاسق فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم والإحسان إليهم، رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه، فابتدروه مسرعين نحوه، راغبين فيما شرع لهم منه فصار إلى أبي أحمد في ذلك اليوم عدد من أصحاب السميريات، فأمر فيهم بمثل ما أمر به في أصحابهم فلما رأى الخبيث ركون أصحاب السميريات إلى الأمان واغتنامهم له أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بإظهار شذواته، وندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب وهو من أشد حماته بأسا، وأكثرهم عددا وعدة، فانتدب بهبوذ لذلك في أصحابه، وكان ذلك في وقت إقبال المد وقوته، وقد تفرقت شذوات أبي أحمد، ولحق أبو حمزة فيما معه منها بشرقي دجلة، فأقام هنالك وهو يرى أن الحرب قد انقضت، واستغني عنه.
    فلما ظهر بهبوذ فيما معه من الشذوات أمر أبو أحمد بتقديم شذواته، وأمر أبا العباس بالحمل على بهبوذ بما معه من الشذا، وتقدم إلى قواده وغلمانه بالحمل معه، وكان الذي صلي بالحرب من الشذوات التي مع أبي العباس وزيرك من الشذوات التي رتب فيها قواد الغلمان اثنتي عشرة شذاة فنشبت الحرب، وطمع أصحاب الفاسق في أبي العباس وأصحابه لقلة عدد شذواتهم.
    فلما صدموا انهزموا ووجه أبو العباس ومن معه في طلب بهبوذ، فألجئوه إلى فناء قصر الخبيث، وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام جراحات، واوهنت
    (9/582)
    أعضاؤه بالحجارة، وخلى ما كان عليه مع أصحابه، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل يومئذ ممن كان مع بهبوذ قائد من قواده ذو بأس ونجدة وتقدم في الحرب، يقول له عميرة، وظفر أصحاب أبي العباس بشذاة من شذوات بهبوذ، فقتل أهلها، وغرقوا، وأخذت الشذاة، وصار أبو العباس ومن معه بشذواتهم بعد أن أتاهم أمر أبي أحمد بذلك، وبإلحاق الشذا بشرقي دجلة وصرف الجيش فلما رأى الفاسق جيش أبي أحمد منصرفا أمر من كان انهزم في شذواته إلى نهر أبي الخصيب بالظهور ليسكن بذلك روعة أصحابه، وليكون صرفه إياهم إذا صرفهم عن غير هزيمة فأمر أبو أحمد جماعة من غلمانه بأن يثبتوا صدور شذواتهم إليهم، ويقصدوهم فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين مذعورين، وتأخرت عنهم شذاة من شذواتهم، فاستأمن أهلها إلى أبي أحمد، ونكسوا علما أبيض كان معهم، فصاروا إليه في شذاتهم، فأومنوا وحبوا ووصلوا وكسوا فأمر الفاسق عند ذلك برد شذواتهم إلى النهر ومنعها من الخروج، وكان ذلك في آخر النهار، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم بنهر المبارك.
    واستأمن إلى أبي أحمد في هذا اليوم عند منصرفه خلق كثير من الزنج وغيرهم، فقبلهم، وحملهم في الشذا والسميريات، وأمر أن يخلع عليهم ويوصلوا ويحبوا، وتكتب أسماؤهم في المضمومين إلى أبي العباس.
    وسار أبو أحمد، فوافى عسكره بعد العشاء الأخيرة، فأقام به يوم الجمعة والسبت والأحد، ثم عزم على نقل عسكره إلى حيث يقرب منه عليه القصد لحرب الخبيث، فركب الشذا في يوم الاثنين لست ليال بقين من رجب سنة سبع وستين ومائتين، ومعه أبو العباس والقواد من مواليه وغلمانه، فيهم زيرك ولصير حتى وافى النهر المعروف بنهر جطى في شرقي دجلة، وهو حيال النهر المعروف باليهودي، فوقف عليه، وقدر فيه ما أراد وانصرف، وخلف به أبا العباس وزيرك ونصيرا، وعاد إلى معسكره فأمر فنودي في الناس
    (9/583)
    بالرحيل إلى الموضع الذي اختار من نهر جطى، وتقدم في قود الدواب بعد أن أصلحت لها الطرق، وعقدت القناطر على الأنهار، وغدا في يوم الثلاثاء لخمس بقين من رجب في جميع عساكره حتى نزل نهر جطى، فأقام به إلى يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وستين ومائتين، ولم يحارب في شيء من هذه الأيام، وركب في هذا اليوم في الخيل والرجالة، ومعه جميع الفرسان، وجعل الرجالة والمطوعة في السفن والسميريات، على كل رجل منهم لأمته وزيه، وسار حتى وافى الفرات، ووازى عسكر الفاسق وأبو أحمد من أصحابه وأتباعه في زهاء خمسين ألف رجل أو يزيدون، والفاسق يومئذ في زهاء ثلاثمائة ألف إنسان، كلهم يقاتل أو يدافع، فمن ضارب بسيف، وطاعن برمح، ورام بقوس، وقاذف بمقلاع، ورام بعراده او منجنيق، واضعفهم امر الرماة بالحجارة عن أيديهم وهم النظارة المكثرون السواد، والمعتنون بالنعير والصياح، والنساء يشركنهم في ذلك.
    فأقام أبو أحمد في هذا اليوم بإزاء عسكر الفاسق إلى أن أضحى، وأمر فنودي أن الأمان مبسوط للناس، أسودهم وأحمرهم إلا الخبيث، وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به، ووعد الناس فيها الإحسان، ورمى بها إلى عسكر الخبيث، فمالت إليه قلوب أصحاب المارق بالرهبة والطمع فيما وعدهم من إحسانه وعفوه، فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا إليه، فوصلهم وحباهم ثم انصرف إلى معسكره بنهر جطى، ولم يكن في هذا اليوم حرب.
    وقدم عليه قائدان من مواليه، أحدهما بكتمر والآخر جعفر بن بغلاغز، في جمع من أصحابهما فكان ورودهما زائدا في قوة من مع أبي أحمد.
    ورحل أبو أحمد عن نهر جطى إلى معسكر قد كان تقدم في إصلاحه، وعقد القناطر على أنهاره، وقطع النهر ليوسعه بفرات البصرة بإزاء مدينة الفاسق، فكان نزوله هذا المعسكر في يوم الأحد للنصف من شعبان سنة سبع وستين
    (9/584)
    ومائتين، وأوطن هذا المعسكر، وأقام به، ورتب قواده ورؤساء أصحابه مراتبهم فيه، فجعل نصيرا صاحب الشذا والسميريات في جيشه في أول العسكر وآخره بالموضع الموازي النهر المعروف بجوى كور، وجعل زيرك التركي صاحب مقدمة أبي العباس في أصحابه موازيا ما بين نهر أبي الخصيب وهو النهر الموسوم بنهر الأتراك والنهر المعروف بالمغيرة، ثم تلاه علي بن جهشيار حاجبه في جيشه وكانت مضارب أبي أحمد وابنيه حيال الموضع المعروف بدير جابيل، وأنزل راشدا مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك والخزر والروم والديالمة والطبرية والمغاربة والزنج على النهر المعروف بهطمة، وجعل صاعد بن مخلد وزيره في جيشه من الموالي والغلمان فويق عسكر راشد، وأنزل مسرورا البلخي في جيشه على النهر المعروف بسندادان، وأنزل الفضل ومحمدا، ابني موسى ابن بغا في جيشهما على النهر المعروف بهالة، وتلاهما موسى دالجويه في جيشه وأصحابه، وجعل بغراج التركي على ساقته نازلا على نهر جطى، وأوطنوه، وأقاموا به ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة جمعه ما علم أنه لا بد له من الصبر عليه ومحاصرته وتفريق أصحابه عنه، ببذل الأمان لهم، والإحسان إلى من أناب منهم، والغلظة على من أقام على غيه منهم، واحتاج إلى الاستكثار من الشذا وما يحارب به في الماء.
    فأمر بإنفاذ الرسل في حمل المير في البر والبحر وإدرارها إلى معسكره بالمدينة التي سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة وأنفذ رسولا إلى سيراف وجنابا في بناء الشذا والاستكثار منها لما احتاج اليه من ترتيبها في المواضع التي يقطع بها المير عن الخائن وأشياعه.
    وأمر بالكتاب إلى عماله في النواحي بإنفاذ كل من يصلح للإثبات في الديوان، ويرغب في ذلك، وأقام ينتظر شهرا أو نحوه، فوردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضا، وجهز التجار صنوف التجارات والأمتعة وحملوها إلى المدينة الموفقية، واتخذت بها الأسواق، وكثر بها التجار والمتجهزون من كل بلد، ووردتها
    (9/585)
    مراكب البحر، وقد كانت انقطعت لقطع الفاسق وأصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين، وبنى أبو أحمد مسجد الجامع، وأمر الناس بالصلاة فيه، واتخذ دور الضرب، فضرب فيها الدنانير والدراهم، فجمعت مدينة أبي أحمد جميع المرافق، وسيق إليها صنوف المنافع حتى كان ساكنوها لا يفقدون بها شيئا مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة، وحملت الأموال، وأدر للناس العطاء في أوقاته، فاتسعوا وحسنت أحوالهم، ورغب الناس جميعا في المصير إلى المدينة الموفقية والمقام فيها.
    وكان الخبيث بعد ليلتين من نزول أبي أحمد مدينته الموفقية أمر بهبوذ بن عبد الوهاب، فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبي حمزة، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر جماعة، وأحرق كوخات كانت لهم قبل أن يبني الناس هنالك فأمر أبو أحمد نصيرا عند ذلك بجمع أصحابه، وألا يطلق لأحد مفارقة عسكره، وأن يحرس أقطار عسكره بالشذا والسميريات والزواريق فيها الرجالة إلى آخر ميان روذان والقندل وأبرسان، للإيقاع بمن هنالك من أصحاب الفاسق.
    وكان بميان روذان من قواده أيضا إبراهيم بن جعفر الهمداني في أربعة آلاف من الزنج، ومحمد بن أبان المعروف بأبي الحسن أخو علي بن أبان بالقندل في ثلاثة آلاف، والمعروف بالدور في ابرسان في الف وخمسمائة من الزنج والجبائيين، فبدأ أبو العباس بالهمداني فأوقع به، وجرت بينهما حروب، قتل فيها خلق كثير من أصحاب الهمداني، وأسر منهم جماعة، وأفلت الهمداني في سميرية قد كان أعدها لنفسه، فلحق فيها بأخي المهلبي المكنى بأبي الحسن، واحتوى أصحاب أبي العباس على ما كان في أيدي الزنج وحملوه إلى عسكرهم.
    وقد كان أبو أحمد تقدم إلى ابنه أبي العباس في بذل الأمان لمن رغب فيه، وأن يضمن لمن صار إليه الإحسان، فصار إليه طائفة منهم في الأمان فآمنهم، فصار بهم إلى أبيه، فأمر لكل واحد منهم من الخلع والصلات على أقدارهم في أنفسهم، وأن يوقفوا بإزاء نهر أبي الخصيب ليعاينهم أصحابهم وأقام
    (9/586)
    أبو أحمد يكايد الخائن ببذل الأمان لمن صار إليه من الزنج وغيرهم، ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم، وقطع المير والمنافع عنهم، وكانت ميرة الأهواز وما يرد من صنوف التجارات منها ومن كورها ونواحي أعمالها يسلك به النهر المعروف ببيان، فسرى بهبوذ في جلد رجاله ليلة من الليالي، وقد نمي إليه خبر قيروان ورد بصنوف من التجارات والمير وكمن في النخل، فلما ورد القيروان خرج إلى أهله، وهم غارون، فقتل منهم وأسر، وأخذ ما أحب أن يأخذ من الأموال.
    وقد كان أبو أحمد أنفذ لبذرقة ذلك القيروان رجلا من أصحابه في جمع، فلم يكن للموجه لذلك ببهبوذ طاقة، لكثرة عدد من معه وضيق الموقع على الفرسان، وأنه لم يكن بهم فيه غناء فلما انتهى ذلك إلى أبي أحمد، غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم وأنفسهم وتجارتهم، وأمر بتعويضهم، وأخلف عليهم مثل الذي ذهب لهم، ورتب الشذا على فوهة بيان وغيره من الأنهار التي لا يتهيأ للفرسان سلوكها في بنائها والإقبال بها إليه، فورد عليه منها عدد صالح، فرتب فيها الرجال، وقلد أمرها أبا العباس ابنه، وأمره أن يوكل بكل موضع يرد إلى الفسقة منه ميرة، فانحدر أبو العباس لذلك إلى فوهه البحر في الشذوات، ورتب في جميع تلك المسالك القواد، وأحكم الأمر فيه غاية الإحكام.
    وفي شهر رمضان منها كانت وقعة بين اسحق بن كنداج وإسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبي المغراء وحمدان الشاري ومن تأشب إليهم من قبائل ربيعة وتغلب وبكر واليمن، فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين، وتبعهم إلى قريب من آمد، واحتوى على أموالهم، ونزلوا آمد، فكانت بينه وبينهم وقعات.
    (9/587)
    ذكر خبر مقتل صندل الزنجي
    وفي شهر رمضان منها قتل صندل الزنجي، وكان سبب قتله أن أصحاب الخبيث عبروا لليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكر- أعني سنة سبع وستين ومائتين- يريدون الإيقاع بعسكر نصير وعسكر زيرك، فنذر بهم الناس، فخرجوا إليهم، فردوهم خائبين، وظفروا بصندل هذا وكان- فيما ذكروا- يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورءوسهن ويقلبهن تقليب الإماء، فإن امتنعت منهن امرأة ضرب وجهها ودفعها إلى بعض علوج الزنج يبيعها بأوكس الثمن فلما أتي به أبو أحمد، أمر به فشد بين يديه، ثم رمى بالسهام، ثم امر به فقتل.
    ذكر خبر استئمان الزنج الى ابى احمد
    وفي شهر رمضان من هذه السنة استأمن إلى أبي أحمد خلق كثير من عند الزنج.
    ذكر سبب ذلك:
    وكان السبب في ذلك أنه كان- فيما ذكر- استأمن إلى أبي أحمد رجل من مذكوري أصحاب الخبيث ورؤسائهم وشجعانهم، يقال له مهذب، فحمل في الشذا إلى أبي أحمد، فأتي به في وقت إفطارة، فأعلمه أنه جاء متنصحا راغبا في الأمان، وأن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات، وأن الذين ندب الفاسق لذلك أنجادهم وأبطالهم، فأمر أبو أحمد بتوجيه من يحاربهم إليهم ومن يمنعهم من العبور وأن يعارضوا بالشذا فلما علم الزنج أن قد نذر بهم انصرفوا منهزمين، فكثر المستأمنة من الزنج وغيرهم وتتابعوا، فبلغ عدد من وافى عسكر أبي أحمد منهم إلى آخر شهر رمضان سنة سبع وستين ومائتين خمسة آلاف رجل من بين أبيض واسود
    (9/588)
    وفي شوال من هذه السنة ورد الخبر بدخول الخجستاني نيسابور وانهزام عمرو بن الليث وأصحابه، فأساء السيرة في أهلها، وهدم دور آل معاذ بن مسلم، وضرب من قدر عليه منهم واقتطع ضياعهم، وترك ذكر محمد بن طاهر، ودعا له على منابر ما غلب عليه من مدن خراسان وللمعتمد، وترك الدعاء لغيرهما.
    ذكر خبر الإيقاع بالزنج في هذا العام
    وفي شوال من هذه السنة كانت لأبي العباس وقعة بالزنج، قتل فيها منهم جمع كثير.
    ذكر سبب ذلك:
    وكان السبب في ذلك- فيما بلغني- أن الفاسق انتخب من كل قيادة من أصحابه أهل الجلد والبأس منهم، وأمر المهلبي بالعبور بهم ليبيت عسكر أبي أحمد، ففعل ذلك، وكانت عدة من عبر من الزنج وغيرهم زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم من الزنج، وفيهم نحو من مائتي قائد، فعبروا إلى شرقي دجلة، وعزموا على أن يصير القواد منهم إلى آخر النخل مما يلي السبخة، فيكونوا في ظهر عسكر أبي أحمد، ويعبر جماعة كثيرة منهم في الشذا والسميريات والمعابر قبالة عسكر أبي أحمد، فإذا نشبت الحرب بينهم انكب من كان عبر من قواد الخبيث، فصار إلى السبخة على عسكر أبي أحمد الموفق، وهم غارون مشاغيل بحرب من بإزائهم، وقدر أن يتهيأ له في ذلك ما أحبه فأقام الجيش في الفرات ليلتهم، ليغادوا الإيقاع بالعسكر.
    فاستأمن إلى أبي أحمد غلام كان معهم من الملاحين، فأنهى إليه خبرهم وما اجتمعت عليه آراؤهم، فأمر أبو أحمد أبا العباس والقواد والغلمان بالنهوض إليهم، وقصد الناحية التي فيها أصحاب الخبيث، وأنفذ جماعة من قواد غلمانه في الخيل إلى السبخة التي في مؤخر النخل بالفرات، لتقطعهم عن
    (9/589)
    الخروج إليها، وأمر أصحاب الشذا والسميريات، فاعترضوا في دجلة، وأمر الرجالة بالزحف إليهم من النخل فلما رأى الفجار ما أتاهم من التدبير الذي لم يحتسبوه كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا منه طالبين التخلص، فكان قصدهم لجويث بارويه، وانتهى خبر رجوعهم إلى الموفق، فأمر أبا العباس وزيرك بالانحدار في الشذوات يسبقونهم إلى النهر، ليمنعوهم من عبوره.
    وأمر غلاما من غلمانه، يقال له ثابت، له قيادة على جمع كثير من غلمانه السودان أن يحمل أصحابه في المعابر والزواريق وينحدر معهم إلى الموضع الذي فيه أعداء الله للإيقاع بهم حيث كانوا، فأدركهم ثابت في أصحابه بجويث بارويه، فخرج إليهم فحاربهم محاربة طويلة، وثبتوا له، واستقبلوا جمعه وهو من اصحابه في زهاء خمسمائة رجل، لأنهم لم يكونوا تكاملوا وطمعوا فيه، ثم صدقهم وأكب عليهم، فمنحه الله أكتافهم، فمن مقتول وأسير وغريق وملجج في الماء بقدر اقتداره على السباحة التقطته الشذا والسميريات في دجلة والنهر، فلم يفلت من ذلك الجيش إلا أقله وانصرف أبو العباس بالفتح، ومعه ثابت وقد علقت الرءوس في الشذوات وصلب الأسارى فيها، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا بهم أشياعهم، فلما رأوهم أبلسوا وأيقنوا بالبوار، وأدخل الأسارى والرءوس إلى الموفقية، وانتهى إلى أبي أحمد أن صاحب الزنج موه على أصحابه، وأوهمهم أن الرءوس المرفوعة مثل مثلت لهم ليراعوا، وأن الأسارى من المستأمنة فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بجمع الرءوس والمسير بها إلى إزاء قصر الفاسق والقذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره، ففعل أبو العباس ذلك، فلما سقطت الرءوس في مدينتهم، عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم، فظهر بكاؤهم، وتبين لهم كذب الفاجر وتمويهه.
    وفي شوال من هذه السنة كانت لأصحاب ابن أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي، قتلوا فيها مقدمته، وغلبوا على عسكره فاحتووه.
    (9/590)
    ذكر خبر الوقعه مع الزنج بنهر ابن عمر
    وفي ذي القعدة منها كانت لزيرك وقعة مع جيش لصاحب الزنج بنهر ابن عمر، قتل زيرك منهم فيها خلقا كثيرا.
    ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة: ذكر أن صاحب الزنج كان أمر باتخاذ شذوات، فعملت له، فضمها إلى ما كان يحارب به، وقسم شذواته ثلاثة اقسام بين بهبوذ ونصر الرومي واحمد ابن الزرنجي، وألزم كل واحد منهم غرم ما يصنع على يديه منها، وكانت زهاء خمسين شذاة، ورتب فيها الرماة وأصحاب الرماح، واجتهدوا في إكمال عدتهم وسلاحهم، وأمرهم بالمسير في دجلة والعبور إلى الجانب الشرقي والتعرض لحرب أصحاب الموفق، وعدة شذوات الموفق يومئذ قليلة، لأنه لم يكن وافاه كل ما كان أمر باتخاذه، وما كان عنده منها فمتفرق في فوهه الانهار التي يأتي الزنج منها المير فغلظ أمر أعوان الفاجر، وتهيأ له أخذ شذاة بعد شذاة من شذا الموفق، وأحجم نصير المعروف بأبي حمزة عن قتالهم والإقدام عليهم، كما كان يفعل لقلة ما معه من الشذا، وأكثر شذوات الموفق يومئذ مع نصير، وهو المتولي لأمرها فارتاع لذلك أهل عسكر الموفق، وخافوا أن يقدم على عسكرهم الزنج بما معهم من فضل الشذا، فورد عليهم في هذه الحال شذوات كان الموفق تقدم في بنائها بجنابا، فأمر أبا العباس بتلقيها فيما معه من الشذا حتى يوردها العسكر، إشفاقا من اعتراض الزنج عليها في دجلة، فسلمت، وأتي بها حتى إذا وافت عسكر نصير، فبصر بها الزنج طمعوا فيها، فأمر الخبيث بإخراج شذواته، وأمر أصحابه بمعارضتها والاجتهاد في اقتطاعها، فنهضوا لذلك فتسرع غلام من غلمان أبي العباس شجاع يقال له وصيف يعرف بالحجراي، في شذوات كن معه، فشد على الزنج فانكشفوا، وتبعهم حتى وافى بهم نهر أبي الخصيب، وانقطع عن أصحابه، فكروا عليه شذواتهم، وانتهى إلى مضيق، فعلقت مجاديف بعض شذواته
    (9/591)
    بمجاديف بعض شذواتهم، فجنحت وتقصفت بالشط، وأحاط به الآخرون واكتنفوه من جوانبه، وانحدر عليه الزنج من السور، فحاربهم بمن كان معه حربا شديدا حتى قتلوا وأخذ الزنج شذواتهم، فأدخلوها نهر أبي الخصيب ووافى أبو العباس بالشذوات الجنابية سالمة بما فيها من السلاح والرجال، فأمر أبو أحمد أبا العباس بتقلد أمر الشذوات كلها والمحاربة بها، وقطع مواد المير عنهم من كل جهة.
    ففعل ذلك، فأصلحت الشذوات، ورتب فيها المختارون من الناشبة والرامحة، حتى إذا أحكم أمرها أجمع، ورتبها في المواضع التي كانت تقصد إليها شذوات الخبيث، وتعيث فيها، أقبلت شذواته على عادتها التي كانت قد جرت عليها.
    فخرج إليهم أبو العباس في شذواته، وأمر سائر أصحاب الشذا أن يحملوا بحملته، ففعلوا ذلك وخالطوهم، وطفقوا يرشقونهم بالسهام، ويطعنونهم بالرماح، ويقذفونهم بالحجارة، وضرب الله وجوههم، فولوا منهزمين، وتبعهم أبو العباس وأصحابه حتى أولجوهم نهر أبي الخصيب، وغرق لهم ثلاث شذوات، وظفر بشذاتين من شذواتهم بما فيها من المقاتلة والملاحين.
    فأمر أبو العباس بضرب أعناق من ظفر به منهم.
    فلما رأى الخبيث ما نزل بأصحابه، امتنع من إخراج الشذا عن فناء قصره، ومنع اصحابه ان يجاوزوا بها الشط الا في الأوقات التي يخلو دجلة فيها من شذوات الموفق.
    فلما أوقع بهم أبو العباس هذه الوقعة اشتد جزعهم، وطلب وجوه أصحاب الخبيث الأمان فأومنوا، فكان ممن استأمن من وجوههم- فيما ذكر- محمد بن الحارث العمي، وكان إليه حفظ عسكر منكى والسور الذي يلي عسكر الموفق، وكان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه، فوصله الموفق بصلات كثيرة، وخلع عليه، وحمله على عده دواب بخليتها وآلتها، وأسنى له الرزق، وكان محمد بن الحارث حاول إخراج زوجته معه، وهي إحدى بنات عمه،
    (9/592)
    فعجزت المرأة عن اللحاق به، فأخذها الزنج فردوها إلى الخبيث، فحبسها مدة، ثم أمر بإخراجها والنداء عليها في السوق، فبيعت، ومنهم أحمد المعروف بالبرذعي.
    وكان- فيما قيل- من أشجع رجال الخبيث الذين كانوا في حيز المهلبى ومن قواده الزنج مدبد وابن أنكلويه ومنينة، فخلع عليهم جميعا، ووصلوا بصلات كثيرة، وحملوا على الخيل، وأحسن إلى جميع من جاءوا به معهم من أصحابهم، وانقطعت عن الخبيث مواد الميرة، وسدت عليه وعلى من أقام معه المذاهب وأمر شبلا وأبا النداء- وهما من رؤساء قواده وقدماء أصحابه الذين كان يعتمد عليهم ويثق بمناصحتهم- بالخروج في عشرة آلاف من الزنج وغيرهم، والقصد لنهر الدير ونهر المرأة ونهر ابى الأسد، والخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة للغارة على المسلمين، وأخذ ما وجدا من طعام وميرة ليقطع عن عسكر الموفق ما يرده من الميرة وغيرها من مدينة السلام وواسط ونواحيها.
    فندب الموفق لقصدهم حين انتهى إليه خبر مسيرهم مولاه زيرك صاحب مقدمة أبي العباس، وأمره بالنهوض في أصحابه إليهم، وضم إليه من اختار من الرجال، فمضى في الشذوات والسميريات، وحمل الرجالة في الزواريق والسفن الخفاف حثيثا، حتى صار إلى نهر الدير، فلم يعرف لهم هنالك خبرا، فصار منه إلى بثق شيرين ثم سلك في نهر عدي حتى خرج إلى نهر ابن عمر، فالتقى به جيش الزنج في جمع راعته كثرته، فاستخار الله في مجاهدتهم، وحمل عليهم في ذوي البصائر والثبات من أصحابه، فقذف الله الرعب في قلوبهم، فانفضوا، ووضع فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك، وأسر خلقا كثيرا، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق منها ما امكن تغريقه، فكان ما أخذ من سفنهم نحوا من أربعمائة سفينة، وأقبل بمن معه من الأسارى وبالرءوس الى عسكر الموفق.
    (9/593)
    خبر عبور الموفق الى مدينه صاحب الزنج لحربه
    وفي ذي الحجة لست بقين منه عبر الموفق بنفسه إلى مدينة الفاسق وجيشه لحربه.
    ذكر السبب الذي من أجله كان عبوره إليها:
    وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الرؤساء من أصحاب الفاسق، لما رأوا ما قد حل بهم من البلاء من قتل من يظهر منهم وشدة الحصار على من لزم المدينة، فلم يظهر منهم أحد، وحال من خرج منهم بالأمان من الإحسان إليه، والصفح عن جرمه، مالوا إلى الأمان، وجعلوا يهربون في كل وجه، ويخرجون إلى أبي أحمد في الأمان كلما وجدوا إليه السبيل.
    فملئ الخبيث من ذلك رعبا، وأيقن الهلاك، فوكل بكل ناحية كان يرى أن فيها طريقا للهرب من عسكره أحراسا وحفظة، وأمرهم بضبط تلك النواحي، ووكل بفوهة الأنهار من يمنع السفن من الخروج منها، واجتهد في سد كل ملك وطريق وثلمة، لئلا يطمع في الخروج عن مدينته.
    وأرسل جماعة من قواد الفاجر صاحب الزنج إلى الموفق يسألونه الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشا ليجدوا إلى المصير إليه سبيلا، فأمر الموفق أبا العباس بالمصير في جماعة من أصحابه إلى الموضع المعروف بنهر الغربي، وعلي بن أبان حينئذ يحوط ذلك النهر، فنهض أبو العباس في المختارين من اصحابه، ومعه الشذا والسميريات والمعابر، فقصد النهر الغربي، وانتدب المهلبي وأصحابه لحربه، فاستعرت الحرب بين الفريقين، وعلا أصحاب أبي العباس، وقهر الزنج، وأمد الفاسق المهلبي بسليمان بن جامع في جمع من الزنج كثير، واتصلت الحرب يومئذ من أول النهار إلى وقت العصر، وكان الظفر في ذلك اليوم لأبي العباس وأصحابه، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان من قواد الخبيث، ومعهم جمع كثير من الفرسان وغيرهم من الزنج، فأمر أبو العباس عند ذلك أصحابه بالرجوع إلى الشذا والسفن،
    (9/594)
    وانصرف فاجتاز في منصرفه بمدينة الخبيث، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بنهر الأتراك، فرأى أصحابه من قلة عدد الزنج في هذا الموضع من النهر ما طمعوا له فيمن كان هناك، فقصدوا نحوهم، وقد انصرف أكثر أصحابهم إلى المدينة الموفقية، فقربوا إلى الأرض، وصعدوا وأمعنوا في دخول تلك المسالك، وعلت جماعة منهم السور، وعليه فريق من الزنج وأشياعهم، فقتلوا من أصابوا منهم هنالك، ونذر الفاسق بهم، فاجتمعوا لحربهم، وأنجد بعضهم بعضا.
    فلما رأى أبو العباس اجتماع الخبثاء وتحاشدهم وكثرة من ثاب إلى ذلك الموضع منهم، مع قلة عدد من هنالك من أصحابه، كر راجعا إليهم فيمن كان معه في الشذا، وأرسل إلى الموفق يستمده، فوافاه لمعونته من خف لذلك من الغلمان في الشذا والسميريات، فظهروا على الزنج وهزموهم، وقد كان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أصحاب أبي العباس على الزنج، وغل في النهر مصاعدا في جمع كثير، فانتهى إلى النهر المعروف بعبد الله، واستدبر أصحاب أبي العباس وهم في حربهم، مقبلين على من بإزائهم ممن يحاربهم، فيمعنون في طلب من انهزم عنهم من الزنج فخرج عليهم من ورائهم، وخفقت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيبت جماعة من غلمان الموفق وغيرهم من جنده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى أبو العباس عن الباقين من أصحابه، فسلم أكثرهم، فانصرف بهم، فأطمعت هذه الوقعة الزنج وتباعهم، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور بجيشه أجمع لمحاربة الخبيث، وأمر أبا العباس وسائر القواد والغلمان بالتأهب للعبور، وأمر بجمع السفن والمعابر وتفريقها عليهم، ووقف على يوم بعينه أراد العبور فيه، فعصفت رياح منعت من ذلك، واتصل عصوفها أياما كثيرة، فأمهل الموفق حتى انقضى هبوب تلك الرياح، ثم أخذ في الاستعداد للعبور ومناجزة الفاجر
    (9/595)
    فلما تهيأ له ما أراد من ذلك عبر يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين في أكثف جمع وأكمل عدة، وأمر بحمل خيل كثيرة في السفن، وتقدم إلى أبي العباس في المسير في الخيل ومعه جميع قواده الفرسان ورجالتهم، ليأتي الفجرة من ورائهم من مؤخر النهر المعروف بمنكى، وأمر مسرورا البلخى مولاه بالقصد الى نهر الغربي ليضطر الخبيث بذلك إلى تفريق أصحابه، وتقدم إلى نصير المعروف بأبي حمزة ورشيق غلام أبي العباس وهو من أصحابه- وشذواته في مثل العدة التي فيها نصير- بالقصد لفوهة نهر أبي الخصيب والمحاربة لما يظهر من شذوات الخبيث، وقد كان استكثر منها، وأعد فيها المقاتلة وانتخبهم وقصد أبو أحمد بجميع من معه لركن من أركان مدينة الخبيث قد كان حصنه بابنه المعروف بأنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناكية، وأعد فيه الناشبة وجمع فيه أكثر جيشه.
    فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه: الناشبة والرامحة والسودان، بالدنو من الركن الذي فيه جمع الفسقة، وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك، وهو نهر عريض غزير الماء فلما انتهوا إليه أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور فعبروا سباحة، والفسقة يرمونهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، وبالسهام عن القسي الناوكية، وقسي الرجل وصنوف الآلات التي يرمى عنها، فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر، وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعد لهدمه فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من سلاحهم ويسر الله ذلك، وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت أعدت لذلك، فعلوا الركن، ونصبوا هنالك علما من أعلام الموفق، وأسلم الفسقة سورهم، وخلوا عنه بعد أن حوربوا عليه أشد حرب، وقتل من الفريقين خلق كثير، وأصيب غلام من غلمان الموفق يقال له ثابت بسهم في بطنه فمات، وكان من قواد الغلمان وجلتهم.
    ولما تمكن أصحاب الموفق من سور الفسقة، أحرقوا ما كان عليه من منجنيق
    (9/596)
    وعرادة وقوس ناوكية، وخلوا عن تلك الناحية وأسلموها وقد كان أبو العباس قصد بأصحابه في الخيل النهر المعروف بمنكى، فمضى علي بن أبان المهلبي في أصحابه، قاصدا لمعارضته ودفعه عما صمد له، والتقيا، فظهر أبو العباس عليه وهزمه، وقتل جمعا كثيرا من أصحابه، وأفلت المهلبي راجعا، وانتهى أبو العباس إلى الموضع الذي قدر أن يصل منه إلى مدينة الفاسق من مؤخر نهر منكى، وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل، فدخل إلى الخندق فوجده عريضا ممتنعا، فحمل أصحابه على أن يعبروه بخيولهم، وعبره الرجالة سباحة حتى وافوا السور، فثلموا فيه ثلما اتسع لهم منه الدخول فدخلوا، فلقي أوائلهم سليمان بن جامع، وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية لما انتهى إليه انهزام المهلبي عنها، فحاربوه، وكان أمام القوم عشرة من غلمان الموفق، فدافعوا سليمان وأصحابه، وهم خلق كثير، وكشفوهم مرارا كثيرة، وحاموا عن سائر أصحابهم حتى رجعوا إلى مواضعهم.
    وقال محمد بن حماد: لما غلب أصحاب الموفق على الموضع الذي كان الفاسق حرسه بابنه والمذكورين من أصحابه وقواده، وشعثوا من السور الذي أفضوا إليه ما أمكنهم تشعيثه، وافاهم الذين كانوا أعدوا للهدم بمعاولهم وآلاتهم، فثلموا في السور عدة ثلم، وقد كان الموفق اعد الخندق الفسقة جسرا يمد عليه، فمد عليه، وعبر جمهور الناس فلما عاين الخبثة ذلك، ارتاعوا فانهزموا عن سور لهم ثان قد كانوا اعتصموا به، ودخل أصحاب الموفق مدينة الخائن، فولى الفاجر وأشياعه منهزمين، وأصحاب الموفق يتبعونهم ويقتلون من انتهوا إليه منهم، حتى انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان، وصارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، وأحرقوا ما كان فيها وهدموها، ووقف الفجرة على نهر ابن سمعان وقوفا طويلا، ودافعوا مدافعة شديدة، وشد بعض غلمان الموفق على علي بن أبان المهلبي، فأدبر عنه هاربا، فقبض على مئزره، فخلى عن المئزر، ونبذه إلى الغلام، ونجا بعد أن أشفى على الهلكة، وحمل أصحاب الموفق على الزنج حملة صادقة، فكشفوهم عن النهر المعروف بابن سمعان،
    (9/597)
    حتى وافوا بهم طرف ميدان الفاسق، وانتهى إليه خبر هزيمة أصحابه ودخول أصحاب الموفق مدينته من أقطارها، فركب في جمع من أصحابه، فتلقاه أصحاب الموفق، وهم يعرفونه في طرف ميدانه، فحملوا عليه، فتفرق عنه أصحابه ومن كان معه وأفردوه، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه، وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق أصحابه بالرجوع إلى سفنهم، فرجعوا سالمين، قد حملوا من رءوس الخبثاء شيئا كثيرا، ونالوا كل الذي أحبوا منهم من قتل وجراح وتحريق منازل وأسواق، وقد كان استأمن إلى أبي العباس في أول النهار عدد من قواد الفاجر وفرسانه، فاحتاج إلى التوقف على حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح شمال عاصف، وقوي الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين.
    وحرض الخبيث أشياعه واستنجدهم، فبانت منهم جماعة، وشدوا على السفن المتخلفة، فنالوا منها نيلا، وقتلوا فيها نفرا، وقد كان بهبوذ بإزاء مسرور البلخي وأصحابه في هذا اليوم في نهر الغربي، فأوقع بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر أسارى، وصارت في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك نشاط أصحاب الموفق وقد كان الخبيث أخرج في هذا اليوم جميع شذواته إلى دجلة محاربين فيها رشيقا، وضرب منها رشيق على عدة شذوات، وغرق منها وحرق، وانهزم الباقون إلى نهر أبي الخصيب.
    وذكر أنه نزل في هذا اليوم بالفاسق وأصحابه ما دعاهم إلى التفرق والهرب على وجوههم نحو نهر الأمير والقندل وإبرسان وعبادان وسائر القرى، وهرب يومئذ أخوا سليمان بن موسى الشعراني: محمد وعيسى، فمضيا يؤمان البادية، حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق، فرجعا، وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الفاسق، وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد، فآمنهم، ووجه إليهم السفن، فحملهم إلى الموفقية، وأمر أن يخلع عليهم، ويوصلوا، ويجري عليهم الأرزاق والأنزال، ففعل ذلك بهم
    (9/598)
    وكان فيمن رغب في الأمان من جلة قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكانت له رياسة وقيادة، وكان يتولى حجبة ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع زيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس، فسلك النهر المعروف باليهودي، حتى وافى الموضع المعروف بالمطوعة، فألفى به ريحان ومن معه من أصحابه، وقد كان الموعد تقدم في موافاة ذلك الموضع زيرك ريحان ومن معه، فوافى بهم دار الموفق، فأمر لريحان بخلع، وحمل على عدة من أفراس بآلتها، وأجيز بجائزة سنية، وخلع على أصحابه، وأجيزوا على أقدارهم، وضم إلى أبي العباس، وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء دار الخبيث، فوقفوا هنالك في الشذا، فعرفوا خروج ريحان وأصحابه في الأمان، وما صاروا إليه من الإحسان، فاستأمن في ساعتهم تلك من اصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا وغيرهم جماعة، فألحقوا في البر والإحسان بأصحابهم، وكان خروج ريحان بعد الوقعة التي كانت يوم الأربعاء في يوم الأحد لليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وستين ومائتين.
    وفي هذه السنة أقبل أحمد بن عبد الله الخجستاني يريد العراق بزعمه، حتى صار إلى سمنان، وتحصن منه أهل الري وحصنوا مدينتهم، ثم انصرف من سمنان راجعا إلى خراسان.
    وفيها انصرف خلق كثير من طريق مكة في البدأة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات ممن مضى خلق كثير من شدة الحر، وكثير منهم من العطش، وذلك كله في البدأة، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذوا- فيما ذكر- منهم سبعمائة حمل بز.
    وفيها اجتمع بالموسم عامل لأحمد بن طولون في خيله وعامل لعمرو بن الليث في خيله، فنازع كل واحد منهما صاحبه في ركز علمه على يمين المنبر في مسجد إبراهيم خليل الرحمن، وادعى كل واحد منهما أن الولاية
    (9/599)
    لصاحبه، وسلا السيوف، فخرج معظم الناس من المسجد، واعان موالي هارون ابن محمد من الزنج صاحب عمرو بن الليث، فوقف حيث أراد، وقصر هارون- وكان عامل مكة- الخطبة وسلم الناس، وكان المعروف بأبي المغيرة المخزومي حينئذ يحرس في جميعة.
    وفيها نفي الطباع عن سامرا.
    وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم ووزن الدينار منها عشرة دوانيق، ووزن الدرهم ثمانية دوانيق، عليه: الملك والقدرة لله، والحول والقوة بالله، لا إله الا الله محمد رسول الله، وعلى جانب منه: المعتمد على الله باليمن والسعادة، وعلى الجانب الآخر: الوافي أحمد بن عبد الله.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمى.
    (9/600)
    ثم دخلت
    سنة ثمان وستين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    ذكر خبر استئمان جعفر بن ابراهيم الى ابى احمد الموفق
    فمن ذلك ما كان من استئمان جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان إلى أبي أحمد الموفق في يوم الثلاثاء في غرة المحرم منها وذكر أن السبب كان في ذلك الوقعة التي كانت لأبي أحمد في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين التي ذكرناها قبل، وهرب ريحان بن صالح المغربي من عسكر الفاجر وأصحابه ولحاقه بأبي أحمد، فنخب قلب الخبيث لذلك، وذلك أن السجان كان- فيما قيل- أحد ثقاته، فأمر أبو أحمد للسجان هذا بخلع وجوائز وصلات وحملان وأرزاق، وأقيمت له أنزال، وضم إلى أبي العباس، وأمره بحمله في الشذاة إلى إزاء قصر الفاسق، حتى رآه وأصحابه، وكلمهم السجان، وأخبرهم أنهم في غرور من الخبيث، وأعلمهم ما قد وقف عليه من كذبه وفجوره، فاستأمن في هذا اليوم الذي حمل فيه السجان من عسكر الخبيث خلق كثير من قواده الزنج وغيرهم، وأحسن إليهم، وتتابع الناس في طلب الأمان والخروج من عند الخبيث، ثم أقام أبو أحمد بعد الوقعة التي ذكرت أنها كانت لليلة بقيت من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين، لا يعبر إلى الخبيث لحرب، يجم بذلك أصحابه إلى شهر ربيع الآخر.
    وفي هذه السنة صار عمرو بن الليث إلى فارس لحرب عامله محمد بن الليث عليها، فهزمه عمرو، واستباح عسكره، وأفلت محمد بن الليث في نفر، ودخل عمرو إصطخر، فانتهبها أصحابه، ووجه عمرو في طلب محمد بن الليث فظفر به، وأتي به أسيرا، ثم صار عمرو إلى شيراز فأقام بها
    (9/601)
    وفي شهر ربيع الأول منها زلزلت بغداد لثمان خلون منه، وكان بعد ذلك ثلاثة أيام مطر شديد، ووقعت بها أربع صواعق وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه، فخرج إليه أبوه أحمد إلى الإسكندرية، فظفر به ورده إلى مصر فرجع معه إليها.
    ذكر خبر عبور الموفق الى مدينه الزنج
    ولأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر منها عبر أبو أحمد الموفق إلى مدينة الفاجر، بعد أن أوهى قوته في مقامه بمدينه الموفقيه، بالتضييق عليه والحصار، ومنعه وصول المير إليه، حتى استأمن إليه خلق كثير من أصحابه، فلما أراد العبور إليها أمر- فيما ذكر- ابنه أبا العباس بالقصد للموضع الذي كان قصده من ركن مدينة الخبيث الذي يحوطه بابنه وجلة أصحابه وقواده، وقصد أبو أحمد موضعا من السور فيما بين النهر المعروف بمنكى والنهر المعروف بابن سمعان، وأمر صاعدا وزيره بالقصد لفوهة النهر المعروف بجري كور، وتقدم إلى زيرك في مكانفته، وأمر مسرورا البلخي بالقصد النهر الغربي، وضم إلى كل واحد منهم من الفعلة جماعة لهدم ما يليهم من السور، وتقدم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور، وألا يدخلوا مدينة الخبيث.
    ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها القواد شذوات فيها الرماة، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، فثلم في السور ثلم كثيرة، ودخل أصحاب أبي أحمد مدينة الفاجر من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب أبي أحمد، وأتبعوهم حتى وغلوا في طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، وفرقت بينهم السكك والفجاج، فانتهوا إلى أبعد من الموضع الذي كانوا وصلوا إليه في المرة التي قبلها، وحرقوا وقتلوا.
    ثم تراجع أصحاب الخبيث، فشدوا على أصحاب أبي أحمد، وخرج كمناؤهم من نواح يهتدون لها ولا يعرفها الآخرون، فتحير من كان داخل
    (9/602)
    المدينة من أصحاب أبي أحمد، ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحو دجلة حتى وافاها أكثرهم، فمنهم من دخل السفينة، ومنهم من قذف نفسه في الماء، فأخذه أصحاب الشذا، ومنهم من قتل وأصاب أصحاب الخبيث أسلحة وأسلابا، وثبت جماعة من غلمان أبي أحمد بحضرة دار ابن سمعان، ومعهم راشد وموسى بن أخت مفلح، في جماعة من قواد الغلمان كانوا آخر من ثبت من الناس، ثم أحاط بهم الزنج وكثروهم، وحالوا بينهم وبين الشذا، فدافعوا عن أنفسهم وأصحابهم، حتى وصلوا إلى الشذا فركبوها.
    وأقام نحو من ثلاثين غلاما من الديالمة في وجوه الزنج وغيرهم، يحمون الناس، ويدفعون عنهم حتى سلموا، وقتل الثلاثون من الديالمة عن آخرهم، بعد ما نالوا من الفجار ما أحبوا، وعظم على الناس ما نالهم في هذه الوقعة، وانصرف ابو احمد بمن معه الى مدينته الموفقيه، وامر يجمعهم وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والافتيات عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك، وامر بإحصاء المفقودين من اصحابه فاحصوا له، فأتي بأسمائهم، وأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع ذلك منهم، وزاد في صحة نياتهم لما رأوا من حياطته خلف من أصيب في طاعته.
    ذكر وقعه ابى العباس بمن كان يمد الزنج من الاعراب
    وفيها كانت لأبي العباس وقعة بقوم من الأعراب الذين كانوا يميرون الفاسق اجتاحهم فيها.
    ذكر الخبر عن السبب الذي كانت من أجله هذه الوقعة:
    ذكر أن الفاسق لما خرب البصرة ولاها رجلا من قدماء أصحابه يقال له أحمد بن موسى بن سعيد المعروف بالقلوص، فكان يتولى أمرها، وصارت
    (9/603)
    فرصة للفاسق يردها الأعراب والتجار، ويأتونها بالمير وأنواع التجارات، ويحمل ما يردها إلى عسكر الخبيث، حتى فتح أبو أحمد طهيثا، وأسر القلوص فولى الخبيث ابن أخت القلوص- يقال له مالك بن بشران- البصرة وما يليها: فلما نزل أبو أحمد فرات البصرة خاف الفاجر إيقاع أبي أحمد بمالك هذا، وهو يومئذ نازل بسيحان على نهر يعرف بنهر ابن عتبة فكتب إلى مالك يأمره بنقل عسكره إلى النهر المعروف بالديناري، وأن ينفذ جماعة ممن معه لصيد السمك وإدرار حمله إلى عسكره، وإن يوجه قوما إلى الطريق التي يأتي منها الأعراب من البادية، ليعرف ورود من يرد منهم بالمير، فإذا وردت رفقة من الأعراب خرج إليها بأصحابه، حتى يحمل ما تأتي به إلى الخبيث، ففعل ذلك مالك ابن أخت القلوص، ووجه إلى البطيحة رجلين من أهل قرية بسمى، يعرف أحدهما بالريان والآخر الخليل، وكانا مقيمين بعسكر الخبيث، فنهض الخليل والريان وجمعا جماعة من أهل الطف، وأتيا قرية بسمى، فأقاما بها يحملان السمك من البطيحة أولا أولا إلى عسكر الخبيث في الزواريق الصغار التي تسلك بها الأنهار الضيقة والأرخنجان التي لا تسلكها الشذا والسميريات، فكانت مواد سمك البطيحة متصلة إلى عسكر الخبيث بمقام هذين الرجلين بحيث ذكرنا، واتصلت أيضا مير الأعراب وما كانوا يأتون به من البادية فاتسع أهل عسكره، ودام ذلك إلى أن استأمن إلى الموفق رجل من أصحاب الفاجر الذين كانوا مضمومين إلى القلوص، يقال له علي بن عمر، ويعرف بالنقاب، فأخبر بخبر مالك بن بشران ومقامه بالنهر المعروف بالديناري، وما يصل إلى عسكر الخبيث بمقامه هناك من سمك البطيحة وجلب الأعراب فوجه الموفق زيرك مولاه في الشذا والسميريات إلى الموضع الذي به ابن أخت القلوص، فأوقع به وبأهل عسكره، فقتل منهم فريقا وأسر فريقا، وتفرق أهل ذلك العسكر، وانصرف مالك إلى الخبيث مفلولا، فرده الخبيث في جمع إلى مؤخر النهر المعروف باليهودي، فعسكر هنالك بموضع قريب من النهر المعروف بالفياض، فكانت المير تتصل بعسكر الخبيث مما يلي سبخة
    (9/604)
    الفياض فانتهى خبر مالك ومقامه بمؤخر نهر اليهودي ووقع المير من تلك الناحية إلى عسكر الفاجر إلى الموفق، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى نهر الأمير، والنهر المعروف بالفياض لتعرف حقيقة ما انتهى إليه من ذلك، فنفذ الجيش، فوافق جماعة من الأعراب يرأسهم رجل قد أورد من البادية إبلا وغنما وطعاما، فأوقع بهم أبو العباس، فقتل منهم جماعة وأسر الباقين، ولم يفلت من القوم إلا رئيسهم، فإنه سبق على حجر كانت تحته، فأمعن هربا، وأخذ كل ما كان أولئك الأعراب أتوا به من الإبل والغنم والطعام، وقطع أبو العباس يد أحد الأسرى وأطلقه، فصار إلى معسكر الخبيث، فأخبرهم بما نزل به، فريع مالك ابن أخت القلوص بما كان من إيقاع أبي العباس بهؤلاء الأعراب فاستأمن إلى أبي أحمد، فأومن وحبي وكسي وضم إلى أبي العباس وأجريت له الأرزاق، وأقيمت له الأنزال وأقام الخبيث مقام مالك رجلا كان من أصحاب القلوص، ويقال له أحمد بن الجنيد، وأمره أن يعسكر بالموضع المعروف بالدهرشير ومؤخر نهر أبي الخصيب، وأن يصير في أصحابه إلى ما يقبل من سمك البطيحة، فيحمله إلى عسكر الخبيث، وتأدى إلى أبي أحمد خبر أحمد بن الجنيد، فوجه قائدا من قواد الموالي يقال له الترمدان في جيش، فعسكر بالجزيرة المعروفة بالروحية، فانقطع ما كان يأتي إلى عسكر الخبيث من سمك البطيحة، ووجه الموفق شهاب بن العلاء ومحمد بن الحسن العنبريين في خيل لمنع الأعراب من حمل المير إلى عسكر الخبيث، وأمر بإطلاق السوق لهم بالبصرة، وحمل ما يريدون امتياره من التمر، إذ كان ذلك سبب مصيرهم إلى عسكر الخبيث، فتقدم شهاب ومحمد لما أمرا به، فأقاما بالموضع المعروف بقصر عيسى، فكان الأعراب يوردون إليهما ما يجلبونه من البادية، ويمتارون التمر مما قبلهما.
    ثم صرف أبو أحمد الترمدان عن البصرة، ووجه مكانه قائدا من قواد الفراغنة، يقال له قيصر بن أرخوز إخشاذ فرغانة، ووجه نصيرا المعروف بأبي حمزة في الشذا والسميريات، وأمره بالمقام بفيض البصرة ونهر دبيس
    (9/605)
    وأن يخترق نهر الأبلة ونهر معقل ونهر غربي، ففعل ذلك.
    قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد، قال: لما انقطعت المير عن الخبيث وأشياعه بمقام نصير وقيصر بالبصرة، ومنعهم الميرة من البطيحة والبحر بالشذا، صرفوا الحيلة إلى سلوك نهر الأمير إلى القندل، ثم سلوك المسيحي إلى الطرق المؤدية إلى البر والبحر، فكانت ميرهم من البر والبحر، وامتيارهم سمك البحر من هذه الجهة، فانتهى ذلك إلى الموفق، فأمر رشيقا غلام أبي العباس باتخاذ عسكر بجويث بارويه في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء نهر الأمير، وأن يحفر له خندقا حصينا، وأمر أبا العباس أن يضم إلى رشيق من خيار أصحابه خمسة آلاف رجل وثلاثين شذاة، وتقدم إلى رشيق في ترتيب هذه الشذا على فوهة نهر الأمير، وأن يجعل على كل خمس عشرة شذاة منها نوبة يلج فيها نهر الأمير، حتى ينتهي إلى المعترض الذي كان الزنج يسلكونه إلى دبا والقندل والنهر المعروف بالمسيحي، فيكون هناك، فإن طلع عليهم من الخبثاء طالع أوقعوا به، فإذا انقضت نوبتهم انصرفوا وعاقبهم أصحابهم المقيمون على فوهة النهر ففعلوا مثل هذا الفعل فعسكر رشيق في الموضع الذي أمر بترتيبه به، فانقطعت طرق الفجرة التي كانوا يسلكونها إلى دبا والقندل والمسيحي، فلم يكن لهم سبيل إلى بر ولا بحر، فضاقت عليهم المذاهب، واشتد عليهم الحصار.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها أوقع أخو شركب بالخجستاني وأخذ أمه.
    وفيها وثب ابن شبث بن الحسن، فأخذ عمر بن سيما والي حلوان وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبغ من عند عمرو بن الليث، وكان عمرو قد وجهه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فوجه عمرو مما صودر عليه ثلاثمائة ألف دينار ونيفا وهدية فيها خمسون منا مسكا وخمسون منا عنبرا، ومائتا منّ عودا، وثلاثمائة ثوب وشي وغيره، وآنية ذهب وفضة ودواب وغلمان بقيمة مائتي ألف دينار، فكان ما حمل واهدى بقيمة خمسمائة الف دينار
    (9/606)
    وفيها ولى كيغلغ الخليل بن ريمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيما وأخذهم بجريرة ابن شبث، فضمنوا له خلاص ابن سيما وإصلاح أمر ابن شبث.
    سنه 268
    ذكر خبر إيقاع رشيق بمن اعان الزنج من تميم
    وفيها أوقع رشيق غلام أبي العباس بن الموفق بقوم من بني تميم، كانوا أعانوا الزنج على دخول البصرة وإحراقها، وكان السبب في ذلك انه كان انتهى إليه أن قوما من هؤلاء الأعراب قد جلبوا ميرة من البر إلى مدينة الخبيث، طعاما وإبلا وغنما، وأنهم في مؤخر نهر الأمير ينتظرون سفنا تأتيهم من مؤخر عسكر الفاجر تحملهم وما معهم فسرى إليهم رشيق في الشذا، فوافى الموضع الذي كانوا حلوا به، وهو النهر المعروف بالإسحاقي، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم وهم تجار كانوا خرجوا من عسكر الخبيث لجلب الميرة، وحوى ما كان معهم من أصناف المير والشاء والإبل والحمير التي كانوا حملوا عليها الميرة فحمل الأسرى والرءوس في الشذا وفي سفن كانت معه إلى الموفقية، فأمر الموفق فعلقت الرءوس في الشذا، وصلب الأسارى هنالك، وأظهر ما صار إلى رشيق وأصحابه، وطيف بذلك في أقطار العسكر، ثم أمر بالرءوس والأسارى، فاجتيز بهم على عسكر الخبيث حتى عرفوا ما كان من رشيق من الإيقاع بجالبي المير إليهم، ففعل ذلك وكان فيمن ظفر به رشيق رجل من الأعراب، كان يسفر بين صاحب الزنج والأعراب في جلب الميرة، فأمر به الموفق فقطعت يده ورجله، وألقي في عسكر الخبيث ثم أمر بضرب أعناق الأساري فضربت، وسوغ أصحاب رشيق ما أصابوا من أموالهم، وأمر لرشيق بخلع وصلة، ورده إلى عسكره، فكثر المستأمنون إلى رشيق فأمر أبو أحمد بضم من خرج منهم إلى رشيق إليه، فكثروا حتى كان كأكثر العساكر جمعا، وانقطعت عن
    (9/607)
    الخبيث وأصحابه المير من الوجوه كلها، وانسد عليهم كل مسلك كان لهم، فأضر بهم الحصار، وأضعف أبدانهم، فكان الأسير منهم يؤسر، والمستأمن يستأمن، فيسأل عن عهده بالخبز، فيعجب من ذلك، ويذكر أن عهده بالخبز مذ سنة وسنتين فلما صار أصحاب الخائن إلى هذه الحال، رأى الموفق أن يتابع الإيقاع بهم، ليزيدهم بذلك ضرا وجهدا، فخرج إلى أبي أحمد في هذا الوقت في الأمان خلق كثير، واحتاج من كان مقيما في حيز الفاسق إلى الحيلة لقوته، فتفرقوا في القرى والأنهار النائية عن معسكرهم في طلب القوت، فتأدى الخبر بذلك إلى أبي أحمد، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان وعرفائهم بأن يقصدوا المواضع التي يعتادها الزنج، وأن يستميلوهم ويستدعوا طاعتهم، فمن أبى الدخول منهم في ذلك قتلوه وحملوا رأسه، وجعل لهم جعلا، فحرصوا وواظبوا على الغدو والرواح، فكانوا لا يخلون في يوم من الأيام من جماعة يجلبونهم، ورءوس يأتون بها، وأسارى يأسرونهم.
    قال محمد بن الحسن: قال محمد بن حماد: ولما كثر أسارى الزنج عند الموفق، أمر باعتراضهم، فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح من عليه، وأحسن إليه، وخلطه بغلمانه السودان، وعرفهم ما لهم عنده من البر والإحسان، ومن كان منهم ضعيفا لا حراك به، أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح، أو مجروحا جراحة قد أزمنته، أمر بأن يكسى ثوبين، ويوصل بدراهم، ويزود ويحمل إلى عسكر الخبيث، فيلقى هناك بعد ما يؤمر بوصف ما عاين من إحسان الموفق إلى كل من يصير إليه، وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا ويأسره منهم، فتهيأ له من ذلك ما أراد من استمالة أصحاب صاحب الزنج، حتى استشعروا الميل إلى ناحيته والدخول في سلمه وطاعته، وجعل الموفق وابنه أبو العباس يغاديان حرب الخبيثة ومن معه، ويراوحانها بأنفسهما ومن معهما، فيقتلان ويأسران ويجرحان، وأصاب أبا العباس في بعض تلك الوقعات سهم جرحه فبرأ منه.
    (9/608)
    ذكر الخبر عن قتل بهبوذ بن عبد الوهاب
    وفي رجب من هذه السنة قتل بهبوذ صاحب الخبيث.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله:
    ذكر أن أكثر أصحاب الفاسق غارات، وأرشدهم تعرضا لقطع السبيل وأخذ الأموال، كان بهبوذ بن عبد الوهاب، وكان قد جمع من ذلك مالا جليلا، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف، فيخترق الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب الموفق أخذها فأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من النهر قوم من أصحابه قد أعدهم لذلك، فاقتطعوه وأوقعوا به، فلما كثر ذلك وتحرز منه ركب شذاة، وشبهها بشذوات الموفق، ونصب عليها مثل أعلامه، وسار بها في دجلة، فإذا ظفر بغرة من أهل العسكر أوقع بهم، فقتل وأسر، ويتجاوز إلى نهر الأبلة ونهر معقل وبثق شيرين ونهر الدير فيقطع السبل، ويعبث في أموال السابلة ودمائهم، فرأى الموفق عند ما انتهى إليه من أفعال بهبوذ أن يسكر جميع الانهار التي يخف سكرها، ويرتب الشذاه على فوهة الأنهار العظام، ليأمن عبث بهبوذ وأشياعه، ويأمن سبل الناس ومسالكهم فلما حرست هذه المسالك، وسكر ما أمكن سكره من الأنهار، وحيل بين بهبوذ وبين ما كان يفعل، أقام منتهزا فرصة في غفلة أصحاب الشذا الموكلين بفوهة نهر الأبلة، حتى إذا وجد ذلك اجتاز من مؤخر نهر أبي الخصيب في شذوات مثل أصحاب الموفق وسميرياتهم، ونصب عليها مثل أعلامهم، وشحنها بجلد أصحابه وأنجادهم وشجعانهم، واعترض بها في معترض يؤدي إلى النهر المعروف باليهودي، ثم سلك نهر نافذ حتى خرج منه إلى نهر الأبلة، وانتهى إلى الشذوات والسميريات المرتبة لحفظ النهر، وأهلها غارون غافلون، فأوقع بهم، وقتل جمعا، وأسر أسرى، وأخذ ست شذوات، وكر راجعا في نهر الأبله، وانتهى الخبر بما كان من بهبوذ
    (9/609)
    إلى الموفق، فأمر أبا العباس بمعارضته في الشذا من النهر المعروف باليهودي، ورجا أن يسبقه إلى المعترض فيقطعه عن الطريق المؤدي إلى مأمنه.
    فوافى أبو العباس الموضع المعروف بالمطوعة، وقد سبق بهبوذ، فولج النهر المعروف بالسعيدي، وهو نهر يؤدي إلى نهر أبي الخصيب وبصر أبو العباس بشذوات بهبوذ، وطمع في إدراكها، فجد في طلبها، فأدركها ونشبت الحرب، فقتل أبو العباس من أصحاب بهبوذ جمعا، وأسر جمعا، واستأمن إليه فريق منهم، وتلقى بهبوذ من أشياعه خلق كثير، فعاونوه ودافعوا عنه دفعا شديدا، وقد كان الماء جزر، فجرت شذواته في الطين في المواضع التي نضب الماء عنها من تلك الأنهار والمعترضات، فأفلت بهبوذ والباقون من أصحابه بجريعة الذقن.
    وأقام الموفق على حصار الخبيث ومن معه، وسد المسالك التي كانت المير تأتيهم منها، وكثر المستأمنون منهم، فأمر الموفق لهم بالخلع والجوائز، وحملوا على الخيل الجياد بسروجها ولجمها وآلتها، وأجريت لهم الأرزاق، وانتهى الخبر إلى الموفق بعد ذلك أن الضر والبؤس قد أحوج جماعة من أصحاب الخبيث إلى التفرق في القرى لطلب القوت من السمك والتمر، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى تلك القرى والنواحي والإسراع إليها في الشذا والسميريات، وما خف من الزواريق وأن يستصحب جلد أصحابه وشجعانهم وأبطالهم ليحول بين هؤلاء الرجال والرجوع إلى مدينة صاحب الزنج، فتوجه أبو العباس لذلك، وعلم الخبيث بمسير أبي العباس له، فأمر بهبوذ أن يسير في أصحابه في المعترضات والأنهار الغامضة ليخفي خبره، الى ان يوافى القندل وابراسان ونواحيها، فنهض بهبوذ لما أمره به الخبيث من ذلك فاعترضت له في طريقه سميرية من سميريات أبي العباس، فيها غلمان من غلمانه الناشبة في جماعة الزنج، فقصد بهبوذ لهذه السميرية طامعا فيها، فحاربه أهلها،
    (9/610)
    فأصابته طعنة في بطنه من يد غلام من مقاتلة السميرية أسود، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه، فحملوه، وولوا منهزمين إلى عسكر الخبيث، فلم يصلوا به إليه، حتى أراح الله منه، فعظمت الفجيعة به على الفاسق وأوليائه، واشتد عليه جزعهم، وكان قتله الخبيث من أعظم الفتوح، وخفي هلاكه على أبي أحمد، حتى استأمن رجل من الملاحين، فأنهى إليه الخبر، فسر بذلك، وأمر بإحضار الغلام الذي ولي قتله، فأحضر، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في أرزاقه، وأمر لجميع من كان في تلك السميريه بجوائز وخلع وصلات.
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنة كان أول شهر رمضان منها يوم الأحد، وكان الأحد الثانى من السعانين وفي الأحد الثالث الفصح، وفي الأحد الرابع النيروز، وفي الأحد الخامس انسلاخ الشهر.
    وفيها ظفر أبو أحمد بالذوائبي، وكان ممايلا لصاحب الزنج.
    وفيها كانت وقعة بين يدكوتكين بن أساتكين وأحمد بن عبد العزيز، فهزمه يدكوتكين وغلبه على قم وفيها وجه عمرو بن الليث قائدا بأمر أبي أحمد إلى محمد بن عبيد الله بن أزارمرد الكردي، فأسره القائد وحمله إليه.
    وفي ذي القعدة منها خرج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي بالشام يقال له بكار بين سلمية وحلب وحمص، فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائدا يقال له بودن في عسكر وجيش كثيف، فرجع وليس معه كثير أحد 4 وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على ابن طولون.
    وفيها قتل صاحب الزنج ابن ملك الزنج، وكان بلغه أنه يريد اللحاق بأبي أحمد
    (9/611)
    وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، قتله غلام له في ذي الحجة.
    وفيها قتل أصحاب ابن أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية ناحية واسط، ونصب رأسه ببغداد وفيها حارب محمد بن كمشجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ابن كمشجور كفتمر ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة.
    وفيها أسر العلوي الذي يعرف بالحرون، وذلك أنه اعترض الخريطة التي يوجه بها بخبر الموسم فأخذها، فوجه خليفة ابن أبي الساج على طريق مكة من أخذ الحرون، ووجهه إلى الموفق.
    وفيها كان مصير أبي المغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، فجمع هارون جمعا نحوا من ألفين، فامتنع بهم منه فصار المخزومي إلى عين مشاش فعورها، وإلى جدة، فنهب الطعام، وحرق بيوت أهلها، فصار الخبز بمكة أوقيتان بدرهم.
    وفيها خرج ابن الصقلبية طاغية الروم، فأناخ على ملطية، وأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم الطاغية، وتبعوه إلى السريع وغزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفا، وغنم الناس، فبلغ السهم أربعين دينارا.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.
    (9/612)
    ثم دخلت
    سنة تسع وستين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من إدخال العلوي المعروف بالحرون عسكر أبي أحمد في المحرم على جمل، وعليه قباء ديباج وقلنسوة طويلة، ثم حمل في شذاة، ومضي به حتى وقف به حيث يراه صاحب الزنج، ويسمع كلام الرسل.
    وفي المحرم منها قطع الأعراب على قافلة من الحاج بين توز وسميراء، فسلبوهم واستاقوا نحوا من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناسا كثيرين.
    وفي المحرم منها في ليلة أربع عشرة انخسف القمر وغاب منخسفا، وانكسفت الشمس يوم الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم وقت المغيب، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوف الشمس والقمر.
    وفي صفر منها كان ببغداد وثوب العامة بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره، وكان السبب في ذلك أن غلاما له رمى امرأة بسهم فقتلها، فاستعدى السلطان عليه، فبعث إليه في إخراج الغلام، فامتنع ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعه وجرحوا جماعه، فمنعهم من أعوان السلطان رجلان، فهرب وأخذ غلمانه، ونهب منزله ودوابه، فجمع مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن طاهر- وكان على الجسر من قبل أبيه- دواب إبراهيم، وما قدر عليه مما نهب له، وأمر عبيد الله بتسليم ذلك إليه، وأشهد عليه.
    برده عليه وفيها وجه ابن أبي الساج بعد ما صار إلى الطائف منصرفا من مكة إلى جدة جيشا، فأخذوا للمخزومي مركبين فيهما مال وسلاح.
    وفيها أخذ رومي بن حسنج ثلاثة نفر من قواد الفراغنة، يقال لأحدهم صديق، والآخر طخشى، وللثالث طغان، فقيدهم، وجرح صديق جراحات وأفلت.
    وفيها كان وثوب خلف صاحب أحمد بن طولون في شهر ربيع الاول
    (9/613)
    منها بالثغور الشامية، وهو عامله عليها، بيازمان الخادم مولى الفتح بن خاقان فحبسه، فوثبت جماعه من اهل الثغر بخلف، وتخلصوا يازمان، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، ولعنوه على المنابر، فبلغ ذلك ابن طولون، فخرج من مصر، حتى صار إلى دمشق، ثم صار إلى الثغور الشامية، فنزل أذنة، وسد يازمان وأهل طرسوس أبوابها، خلا باب الجهاد وباب البحر، وبثقوا الماء، فجرى إلى قرب أذنة وما حولها، فتحصنوا بها، فأقام ابن طولون بأذنة، ثم انصرف فرجع إلى أنطاكية، ثم مضى إلى حمص، ثم إلى دمشق فأقام بها.
    وفيها خالف لؤلؤ غلام ابن طولون مولاه، وفي يده حين خالفه حمص وحلب وقنسرين وديار مضر، وسار لؤلؤ إلى بالس فنهبها، وأسر سعيدا وأخاه ابني العباس الكلابي ثم كاتب لؤلؤ أبا أحمد في المصير إليه ومفارقة ابن طولون، ويشترط لنفسه شروطا، فأجابه أبو أحمد إلى ما ساله، وكان مقيما بالرقة، فشخص عنها، وحمل جماعة من أهل الرافقة وغيرهم معه، وصار إلى قرقيسيا، وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه فأخذ لؤلؤ قرقيسيا، وسلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق، وهرب ابن صفوان، واقبل لؤلؤ يريد بغداد.
    ذكر خبر اصابه الموفق
    وفيها رمي أبو أحمد الموفق بسهم- رماه غلام رومي، يقال له قرطاس- للخبيث بعد ما دخل أبو أحمد مدينته التي كان بناها لهدم سورها، وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن الخبيث بهبوذ لما هلك، طمع الزنج فيما كان بهبوذ قد جمع من الكنوز والأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار وجوهرا وذهبا وفضة لها قدر، فطلب ذلك بكل حيلة، وحرص عليه،
    (9/614)
    وحبس أولياءه وقرابته وأصحابه، وضربهم بالسياط، وأثار دورا من دوره، وهدم أبنية من أبنيته، طمعا في أن يجد في شيء منها دفينا، فلم يجد من ذلك شيئا، وكان فعله الذي فعله بأولياء بهبوذ في طلب المال أحد ما أفسد قلوب أصحابه، ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته، فأمر الموفق بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان، فنودي بذلك، فسارعوا إليه راغبين فيه، فألحقوا في الصلات والجوائز والخلع والأرزاق بنظرائهم ورأى أبو أحمد لما كان يتعذر عليه من العبور إلى عسكر الفاجر في الأوقات التي تهب فيها الرياح وتحرك فيها الأمواج في دجلة أن يوسع لنفسه وأصحابه موضعا في الجانب الغربي من دجلة ليعسكر به فيما بين دير جابيل ونهر المغيرة، وأمر بقطع النخل وإصلاح موضع الخندق، وأن يحف بالخنادق، ويحصن بالسور ليأمن بيات الفجار واغتيالهم إياه، وجعل على قواده نوائب، فكان لكل واحد منهم نوبة يغدو إليها برجاله، ومعه العمال في كل يوم لإحكام أمر العسكر الذي عزم على اتخاذه هنالك، فقابل الفاسق ذلك بأن جعل على علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا، فكان لكل واحد منهم يوم ينوب فيه.
    وكان ابن الخبيث المعروف بأنكلاي يحضر في كل يوم نوبة سليمان، وربما حضر في نوبة إبراهيم ثم أقامه الخبيث مقام إبراهيم بن جعفر، وكان سليمان بن جامع يحضر معه في نوبته، وضم إليه الخبيث سليمان بن موسى الشعراني وأخويه، وكانوا يحضرون بحضوره، ويغيبون بغيبته وعلم الخبيث أن الموفق إذا جاوره في محاربته، وقرب على من يريد اللحاق به المسافة فيما يحاول من الهرب إليه، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الرهبة بتقارب العسكرين أن في ذلك انتقاض تدبيره، وفساد جميع أموره، فأمر أصحابه بمحاربة من يعبر من القواد في كل يوم، ومنعهم من إصلاح ما يحاولون اصلاحه من امر عسكرهم الذى يريدون الانتقال إليه، وعصفت الرياح في بعض تلك
    (9/615)
    الأيام وبعض قواد الموفق في الجانب الغربي لما كان يعبر له فانتهز الفاسق الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاعه عن أصحابه، وامتناع دجلة بعصوف الريح من أن يرام عبورها، فرمى القائد المقيم في غربي دجلة بجميع جيشه، وكاثره برجاله، ولم تجد الشذوات التي كانت تكون مع القائد الموجه سبيلا إلى الوقوف بحيث كانت تقف لحمل الرياح إياها على الحجارة، وما خاف أصحابها عليها من التكسر، فقوي الزنج على ذلك القائد وأصحابه، فأزالوهم من موضعهم، وأدركوا طائفة منهم، فثبتوا فقتلوا عن آخرهم، ولجأت طائفة إلى الماء، فتبعهم الزنج، فأسروا منهم أسارى، وقتلوا منهم نفرا، وأفلت أكثرهم، وأدركوا سفنهم، فألقوا أنفسهم فيها، وعبروا إلى المدينة الموفقية، فاشتد جزع الناس لما تهيأ للفسقة، وعظم بذلك اهتمامهم وتأمل أبو أحمد فيما كان دبر من النزول في الجانب الغربي من دجلة أنه أكدى، وما لا يؤمن من حيلة الفاسق وأصحابه في انتهاز فرصة، فيوقع بالعسكر بياتا، أو يجد مساغا إلى شيء مما يكون له فيه متنفس، لكثرة الأدغال في ذلك الموضع وصعوبة المسالك، وأن الزنج على التوغل إلى المواضع الوحشة أقدر، وهو عليهم أسهل من أصحابه.
    فانصرف عن رأيه في نزول غربي دجلة، وجعل قصده لهدم سور الفاسق وتوسعه الطرق والمسالك منها لأصحابه، فأمر عند ذلك أن يبدأ بهدم السور مما يلي النهر المعروف بمنكى، فكان تدبير الخبيث في ذلك توجيه ابنه المعروف بأنكلاي وعلي بن أبان وسليمان بن جامع للمنع من ذلك، كل واحد منهم في نوبته في ذلك اليوم، فإذا كثر عليهم أصحاب الموفق اجتمعوا جميعا لمدافعة من يأتيهم.
    فلما رأى الموفق تحاشد الخبثاء وتعاونهم على المنع من الهدم للسور، أزمع على مباشرة ذلك وحضوره ليستدعي به جد أصحابه واجتهادهم،
    (9/616)
    ويزيد في عنايتهم ومجاهدتهم، ففعل ذلك، واتصلت الحرب، وغلظت على الفريقين، وكثر القتلى والجراح في الحزبين كليهما، فأقام الموفق أياما يغادي الفسقة ويراوحهم، فكانوا لا يفترون من الحرب في يوم من الأيام، وكان أصحاب أبي أحمد لا يستطيعون الولوج على الخبثة لقنطرتين كانتا على نهر منكى كان الزنج يسلكونهما في وقت استعار الحرب، فينتهون منهما إلى طريق يخرجهم في ظهور أصحاب أبي أحمد، فينالون منهم، ويحجزونهم عن استتمام ما يحاولون من هدم السور، فرأى الموفق إعمال الحيلة في هدم هاتين القنطرتين ليمنع الفسقة عن الطريق الذي كانوا يصيرون منه إلى استدبار أصحابه في وقت احتدام الحرب، فأمر قوادا من قواد غلمانه بقصد هاتين القنطرتين، وأن يختلوا الزنج، وينتهزوا الفرصة في غفلتهم عن حراستهما، وتقدم إليهم في ان يعدوا لهما من الفؤوس والمناشير والآلات التي يحتاج إليها لقطعهما ما يكون عونا لهم على الإسراع فيما يقصدون له من ذلك.
    فانتهى الغلمان إلى ما أمروا به، وصاروا إلى نهر منكى وقت نصف النهار، فبرز لهم الزنج، فبادروا وتسرعوا، فكان ممن تسرع إليهم أبو النداء في جماعه من اصحابه يزيدون على الخمسمائة، ونشبت الحرب بين أصحاب الموفق والزنج، فاقتتلوا صدر النهار، ثم ظهر غلمان أبي أحمد على الفسقة فكشفوهم عن القنطرتين، فأصاب المعروف بأبي النداء سهم في صدره وصل إلى قلبه فصرعه، وحامى اصابه على جيفته فاحتملوها، وولوا منهزمين، وتمكن قواد غلمان الموفق من قطع القنطرتين، فقطعوهما وأخرجوهما إلى دجلة، وحملوا خشبهما إلى أبي أحمد، وانصرفوا على حال سلامة، وأخبروا الموفق بقتل أبي النداء وقطع القنطرتين، فعظم سروره وسرور أهل العسكر بذلك، وأمر لرامي أبي النداء بصلة وافرة.
    وألح أبو أحمد على الخبيث وأشياعه بالحرب، وهدم من السور ما أمكنهم به الولوج عليهم، فشغلوهم بالحرب في مدينتهم عن المدافعة عن سورهم، فأسرع
    (9/617)
    الهدم فيه، وانتهى منه إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فصار ذلك أجمع في أيدي أصحاب الموفق، لا يستطيع الفسقة دفعهم عنه ولا منعهم من الوصول إليه، وهدمت هاتان الداران، وانتهب ما فيهما، وانتهى أصحاب الموفق إلى سوق لصاحب الزنج كان اتخذها مظلة على دجلة، سماها الميمونة، فأمر الموفق زيرك صاحب مقدمة أبي العباس بالقصد لهذه السوق، فقصد بأصحابه لذلك، وأكب عليها، فهدمت تلك السوق وأخربت، فقصد الموفق الدار التي كان صاحب الزنج اتخذها للجبائي فهدمها، وانتهب ما كان فيها وفي خزائن الفاسق كانت متصلة بها.
    وأمر أصحابه بالقصد إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذ فيه بناء سماه مسجد الجامع، فاشتدت محاماة الفسقة عن ذلك والذب عنه، بما كان الخبيث يحضهم عليه، ويوهمهم أنه يجب عليهم من نصرة المسجد وتعظيمه، فيصدقون قوله في ذلك، ويتبعون فيه رأيه وصعب على أصحاب الموفق ما كانوا يرومون من ذلك، وتطاولت الأيام بالحرب على ذلك الموضع والذي حصل مع الفاسق يومئذ نخبة أصحابه وأبطالهم والموطنون أنفسهم على الصبر معه، فحاموا جهدهم، حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم، فيدخل الخلل على سائر أصحابه.
    فلما رأى أبو أحمد صبر هذه العصابة ومحاماتها، وتطاول الأيام بمدافعتها، أمر أبا العباس بالقصد لركن البناء الذي سماها الخبيث مسجدا، وأن يندب لذلك أنجاد أصحابه وغلمانه، وأضاف إليهم الفعلة الذين كانوا أعدوا للهدم، فإذا تهيأ لهم هدم شيء أسرعوا فيه، وأمر بوضع السلاليم على السور فوضعوها، وصعد الرماة فجعلوا يرشقون بالسهام من وراء السور من الفسقة، ونظم الرجال من حد الدار المعروفة بالجبائي إلى الموضع الذي رتب فيه أبا العباس، وبذل الموفق الأموال والأطوقة والأسورة لمن سارع إلى هدم سور الفاسق وأسواقه
    (9/618)
    ودور أصحابه، فتسهل ما كان يصعب بعد محاربة طويلة وشدة، فهدم البناء الذي كان الخبيث سماه مسجدا، ووصل إلى منبره فاحتمل، فأتي به الموفق، وانصرف به إلى مدينته الموفقية جذلا مسرورا ثم عاد الموفق لهدم السور فهدمه من حد الدار المعروفة بأنكلاي إلى الدار المعروفة بالجبائي.
    وأفضى أصحاب الموفق إلى دواوين من دواوين الخبيث وخزائن من خزائنه، فانتهبت وأحرقت، وكان ذلك في يوم ذي ضباب شديد، قد ستر بعض الناس عن بعض، فما يكاد الرجل يبصره صاحبه فظهر في هذا اليوم للموفق تباشير الفتح، فإنهم لعلى ذلك، حتى وصل سهم من سهام الفسقة إلى الموفق، رماه به غلام رومي كان مع الفاسق يقال له قرطاس، فأصابه في صدره، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين، فستر الموفق ما ناله من ذلك السهم، وانصرف الى المدينة مع الموفقية، فعولج في ليلته تلك من جراحته، وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من الم الجراح، يشد بذلك قلوب أوليائه من أن يدخلها وهم أو ضعف، فزاد ما حمل نفسه عليه من الحركة في قوة علته، فغلظت وعظم امرها حتى خيف عليه، واحتاج إلى علاجه بأعظم ما يعالج به الجراح، واضطرب لذلك العسكر والجند والرعية، وخافوا قوة الفاسق عليهم، حتى خرج عن مدينته جماعة ممن كان مقيما بها، لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة، وحدثت في حال صعوبة العلة عليه حادثة في سلطانه، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى مدينة السلام، ويخلف من يقوم مقامه، فأبى ذلك، وخاف أن يكون فيه ائتلاف ما قد تفرق من شمل الخبيث فأقام على صعوبة علته عليه، وغلظ الأمر الحادث في سلطانه، فمن الله بعافيته، وظهر لقواده وخاصته، وقد كان أطال الاحتجاب عنهم، فقويت بذلك منتهم، وأقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة، فلما أبل وقوي على النهوض لحرب الفاسق، تيقظ لذلك، وعاود ما كان مواظبا عليه من الحرب، وجعل الخبيث لما صح عنده
    (9/619)
    الخبر عما أصاب أبا أحمد يعد أصحابة العدات، ويمنيهم الأماني الكاذبة، وجعل يحلف على منبره- بعد ما اتصل به الخبر بظهور أبي أحمد وركوبه الشذا- أن ذلك باطل لا أصل له، وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه لهم وشبه لهم.
    ذكر عزم المعتمد على اللحاق بمصر
    وفيها في يوم السبت للنصف من جمادى الأولى، شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيد بالكحيل، وقدم صاعد بن مخلد من عند أبي أحمد، ثم شخص إلى سامرا في جماعة من القواد في جمادى الآخرة، وقدم قائدان لابن طولون- يقال لأحدهما أحمد بن جبغويه وللآخر محمد بن عباس الكلابي- الرقة، فلما صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداج- وكان العامل على الموصل وعامة الجزيرة- وثب ابن كنداج بمن شخص مع المعتمد من سامرا يريد مصر، وهم تينك وأحمد بن خاقان وخطارمش، فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم ورقيقهم وكان قد كتب إليه بالقبض عليهم وعلى المعتمد، وأقطع إسحاق بن كنداج ضياعهم وضياع فارس بن بغا.
    وكان سبب وصوله إلى القبض على من ذكرت، ان ابن كنداج لما صار إلى عمله، وقد نفذت إليه الكتب من قبل صاعد بالقبض عليهم، أظهر أنه معهم، وعلى مثل رأيهم في طاعة المعتمد، إذ كان الخليفة، وأنه غير جائز له الخلاف عليه وقد كان من مع المعتمد من القواد حذروا المعتمد المرور به، وخوفوه وثوبه بهم، فأبى إلا المرور به- فيما ذكر- وقال لهم: إنما هو مولاي وغلامي، وأريد أن أتصيد، فإن في الطريق إليه صيدا كثيرا فلما صاروا في عمله، لقيهم وسار معهم كي يرد المعتمد- فيما ذكر- منزلا قبل وصوله إلى عمل ابن طولون، فلما أصبح ارتحل التباع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد ومن شخص معه من سامرا، وخلا ابن كنداج بالقواد الذين مع المعتمد، فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيم بالرقة من قواده، وأنتم
    (9/620)
    إذا صرتم إلى ابن طولون، فالأمر أمره، وأنتم من تحت يده ومن جنده، أفترضون بذلك، وقد علمتم أنه إنما هو كواحد منكم! وجرت بينه وبينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرتحل المعتمد بعد لاشتغال القواد بالمناظرة بينهم بين يديه، ولم يجتمع رأيهم بعد على شيء فقال لهم ابن كنداج:
    قوموا بنا حتى نتناظر في هذا في غير هذا الموضع، وأكرموا مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت فيه فأخذ بأيديهم، وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدخلهم مضرب نفسه، لأنه لم يكن بقي مضرب إلا قد مضي به غير مضربه، لما كان من تقدمه إلى فراشيه وغلمانه وحاشيته وأصحابه في ذلك اليوم ألا تبرحوا إلا ببراحه فلما صاروا إلى مضربه دخل عليه وعلى من معه من القواد جلة غلمانه وأصحابه، وأحضرت القيود، وشد غلمانه على كل من كان شخص مع المعتمد من سامرا من القواد، فقيدوهم، فلما قيدوا وفرغ من أمرهم مضى إلى المعتمد، فعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو بها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافى بهم سامرا.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها قام رافع بن هرثمة بما كان الخجستاني غلب عليه من كور خراسان وقراها، وكان رافع بن هرثمة قد اجتبى عدة من كور خراسان خراجها سلفا لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وخربها.
    وفيها كانت وقعة بين الحسينيين والحسنيين والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وعلا الجعفريون فتخلصوا الفضل بن العباس العباسي العامل على المدينة.
    وفي جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق، وولى أحمد بن محمد الطائي الكوفة وسوادها المعاون والخراج، فصير المعاون باسم علي بن الحسين المعروف بكفتمر، فلقي
    (9/621)
    أحمد بن محمد الهيصم العجلي فيها، فانهزم الهيصم واستباح الطائي أمواله وضياعه.
    ولأربع خلون من شعبان منها رد إسحاق بن كنداج المعتمد إلى سامرا فنزل الجوسق المطل على الحير.
    ولثمان خلون من شعبان خلع على ابن كنداج، وقلد سيفين بحمائل:
    أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وسمي ذا السيفين وخلع عليه بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان، وتوج بتاج، وقلد سيفا كل ذلك مفصص بالجوهر، وشيعه إلى منزله هارون بن الموفق وصاعد بن مخلد والقواد، وتغدوا عنده.
    ذكر الخبر عن احراق قصر صاحب الزنج
    وفي شعبان من هذه السنة أحرق أصحاب أبي أحمد قصر الفاسق، وانتهبوا ما فيه.
    ذكر الخبر عن سبب ذلك وسبب وصولهم إليه: ذكر محمد بن الحسن، أن أبا أحمد لما برأ الجرح الذي كان أصابه، عاد للذي كان عليه من مغاداة الفاسق الحرب ومراوحته، وكان الخبيث قد أعاد بناء بعض الثلم التي ثلمت في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به، وركب في عشية من العشايا في أول وقت العصر، وقد كانت الحرب متصلة في ذلك اليوم مما يلي نهر منكى، والفسقة مجتمعون في تلك الناحية قد شغلوا أنفسهم بها، وظنوا أنهم لا يحاربون إلا فيها، فوافى الموفق وقد أعد الفعلة، وقرب على نهر منكى وناوش الفسقة فيه، حتى إذا استعرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير حتى ينتهوا إلى النهر المعروف بجوى كور، وهو نهر يأخذ من دجلة أسفل من النهر المعروف بنهر أبي الخصيب، ففعلوا ذلك، فوافى جوى كور، وقد خلا من المقاتلة والرجال، فقرب وأخرج الفعلة،
    (9/622)
    فهدموا من السور ما كان يلي ذلك النهر، وصعد المقاتله وولجوا النهر، فقتلوا فيه مقتلة عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الفسقة، فانتهبوا ما كان فيها وأحرقوها، واستنقذوا عددا من النساء اللواتي كن فيها، وأخذوا خيلا من خيل الفجرة، فحملوها إلى غربي دجلة، فانصرف الموفق في وقت غروب الشمس بالظفر والسلامة، وغاداهم الحرب والقصد لهدم السور، فأسرع فيه حتى اتصل بدار المعروف بأنكلاي، وكانت متصلة بدار الخبيث، فلما أعيت الحيل الخبيث في المنع من هدم السور، ودفع أصحاب الموفق عن ولوج مدينته، أسقط في يديه، ولم يدر كيف يحتال لحسم ذلك، فأشار عليه علي بن أبان المهلبي بإجراء الماء على السباخ التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلا، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يعوقهم بها عن دخول المدينة، فإن حملوا أنفسهم على اقتحامها فوقعت عليهم هزيمة، لم يسهل عليهم الرجوع إلى سفنهم، ففعلوا ذلك في عدة مواضع من مدينتهم، وفي الميدان الذي كان الخبيث جعله طريقا حتى انتهت تلك الخنادق إلى قريب من داره فراى الموفق بعد ما هيأ الله له من هدم سور مدينة الفاسق ما هيأ أن جعل قصده لطم الخنادق والأنهار والمواضع المعورة كي تصلح فيها مسالك الخيل والرجالة فرام ذلك، فحامى عنه الفسقة ودامت الحرب وطالت ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، حتى لقد عد الجرحى في بعض تلك الأيام زهاء ألفي جريح، وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كل فريق منهم عن إزالة من بإزائه عن موضعهم.
    فلما رأى ذلك الموفق قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، وكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بالحجارة والنشاب والمقاليع والمجانيق والعرادات، وأذيب الرصاص، وأفرغ عليهم، فكان إحراق داره يتعذر عليهم لما وصفنا، فأمر الموفق بإعداد ظلال من خشب
    (9/623)
    للشذا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطلى بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطليت به عدة شذوات ورتب فيها جميعا شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعا من حذاق النفاطين وأعدهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزنج.
    فاستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، وكان سبب استمانه- فيما ذكر محمد بن الحسن- أنه كان ممن امتحن بصحبته، وهو لها كاره على علم منه بضلالته قال: وكنت له على ذلك مواصلا، وكنا جميعا ندبر الحيلة في التخلص، فيتعذر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرق عنه أصحابه، وضعف أمره، شمر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبت نفسا بالا استصحب ولدا ولا أهلا، وأن أنجو وحيدا، فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له: الرأي لك ما رأيت، إذ كنت انما تخلف ولدا صغيرا لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيه حدثا يلزمك عاره، فأما أنا فإن معي نساء يلزمني عارهن، ولا يسعني تعريضهن لسطوة الفاجر، فامض لشأنك، فأخبر عني بما علمت من نيتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته، وإن هيأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معا وصبرنا.
    فوجه محمد بن سمعان وكيلا له يعرف بالعراقي، فأتى عسكر الموفق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعد له الشذا، فوافته في السبخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق وأعاد الموفق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، في أحسن زي، وأكمل عدة، ومعه الشذوات المطليه بما وصفنا، وسائر شذواته وسميرياته فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرجالة فأمر الموفق ابنه أبا العباس بالقصد الى دار محمد ابن يحيى المعروف بالكرنبائي، وهي بإزاء دار الخائن في شرقي النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجلة، وتقدم إليها في إحراقها وما يليها
    (9/624)
    من منازل قواد الخائن، وشغلهم بذلك عن إنجاده ومعاونته، وأمر المرتبين في الشذا المظللة بالقصد، لما كان مطلا على دجلة من رواشين الخبيث وأبنيته، ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور القصر، وحاربوا الفجرة أشد حرب، ونضحوهم بالنيران، وصبر الفسقة وقاتلوا، فرزق الله النصر عليهم، فتزحزحوا عن تلك الرواشين والأبنية التي كانوا يحامون عليها، وأحرقها غلمان الموفق، وسلم من كان في الشذا مما كان الخبثاء يكيدونهم به من النشاب والحجارة وصب الرصاص المذاب وغير ذلك بالظلال التي كان اتخذها على الشذا، فكان ذلك سببا لتمكنها من دار الخبيث.
    وأمر الموفق من كان في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان، ورتب فيها آخرين، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما تهيأ ذلك عادت الشذوات المظللة إلى قصر الخبيث، فأمر الموفق من كان فيها بإحراق بيوت كانت تشرع على دجلة من قصر الفاسق، ففعلوا ذلك، فاضطرمت النار في هذه البيوت، واتصلت بما يليها من الستارات التي كان الخبيث ظلل بها داره، وستور كانت على أبوابه، فقويت النار عند ذلك على الإحراق، وأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شيء مما كان في منزله من أمواله وذخائره وأثاثه وسائر أمتعته، فخرج هاربا، وترك ذلك كله.
    وعلا غلمان الموفق قصر الخبيث مع أصحابهم، فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الأمتعة الفاخرة والذهب والفضة والجوهر والحلي وغير ذلك، واستنقذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه أنكلاي، فأضرموها نارا، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم فأقام جماعة يحاربون الفسقة في مدينتهم وعلى باب قصر الخبيث، مما يلي الميدان، فأثخنوا فيهم القتل والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار المعروف بالكرنبائي وما يتصل بها من الإحراق والهدم والنهب مثل ذلك.
    وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة حديد عظيمة وثيقة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، وحازها، فحملت في بعض شذواته
    (9/625)
    وانصرف الموفق بالناس صلاة المغرب بأجمل ظفر، وقد نال الفاسق في ذلك اليوم في نفسه وماله وولده وما كان غلب عليه من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتيت الشمل والمصيبة في الأهل والولد، وجرح ابنه المعروف بأنكلاي في هذا اليوم جراحة شديدة في بطنه اشفى منها على التلف.
    ذكر الخبر عن غرق نصير المعروف بابى حمزه
    وفي غد هذا اليوم وهو يوم الأحد لعشر بقين من شعبان من هذه السنة غرق نصير.
    ذكر سبب غرقه:
    ذكر محمد بن الحسن أنه لما كان غد هذا اليوم، باكر الموفق محاربة الخبيث، وأمر نصيرا المعروف بأبي حمزة بالقصد لقنطرة كان الخائن عملها بالسياج على النهر المعروف بأبي الخصيب، دون الجسرين اللذين اتخذهما عليه، وأمر زيرك بإخراج أصحابه مما يلي دار الجبائي لمحاربة من هناك من الفجرة، واخرج جمعا من قوادها مما يلي دار أنكلاي لمحاربتهم أيضا، فتسرع نصير، فدخل نهر أبي الخصيب في أول المد في عدة من شذواته، فحملها المد فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات موالي الموفق وغلمانه ممن لم يكن أمر بالدخول، فحملهم المد فألقاهم على شذوات نصير، فصكت الشذوات بعضها بعضا، حتى لم يكن للاشتيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل ورأى الزنج ذلك، فاجتمعوا على الشذوات، وأحاطوا بها من جانبي نهر أبي الخصيب، فألقى الجذافون أنفسهم في الماء ذعرا ووجلا،
    (9/626)
    ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وحاربهم نصير في شذواته حتى خاف الاسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق في يومه يحارب الفسقة، وينهب ويحرق منازلهم، ولم يزل باقي يومه مستعليا عليهم، وكان ممن حامى على قصر الخائن يومئذ وثبت في أصحابه سليمان بن جامع، فلم تزل الحرب بين أصحاب الموفق وبينه، وهو مقيم بموضعه لم يزل عنه إلى أن خرج في ظهره كمين من غلمان الموفق السودان، فانهزم لذلك، واتبعه الغلمان يقتلون أصحابه، ويأسرون منهم، وأصابت سليمان في هذا الوقت جراحة في ساقه، فهوى لفيه في موضع، قد كان الحريق ناله ببعض جمر فيه، فاحترق بعض جسده، وحامى عليه جماعة من أصحابه، فنجا بعد أن كاد الأسر يحيط به، وانصرف الموفق ظافرا سالما، وضعفت الفسقة، واشتد خوفهم لما رأوا من إدبار أمرهم، وعرضت لأبي أحمد علة من وجع المفاصل، فأقام فيها بقية شعبان وشهر رمضان وأياما من شوال ممسكا عن حرب الفاسق فلما استبل من علته وتماثل، أمر بإعداد ما يحتاج إليه للقاء الفسقه، فتأهب لذلك جميع اصحابه.
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذه السنة كانت وفاة عيسى بن الشيخ بن السليل.
    وفيها لعن ابن طولون المعتمد في دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وصار جعفر المفوض إلى مسجد الجامع يوم الجمعة، ولعن ابن طولون وعقد لإسحاق ابن كنداج على أعمال ابن طولون، وولي من باب الشماسية إلى إفريقية وولي شرطة الخاصة.
    وفي شهر رمضان منها كتب أحمد بن طولون إلى أهل الشام يدعوهم إلى نصر الخليفة، ووجد فيج يريد ابن طولون معه كتب من خليفته، جواب بأخبار، فأخذ جواب فحبس وأخذ له مال ورقيق ودواب.
    وفي شوال منها كانت وقعة بين أبي الساج والأعراب، فهزموه فيها، ثم بيتهم فقتل منهم وأسر، ووجه بالرءوس والأسارى إلى بغداد، فوصلت في شوال منها
    (9/627)
    ولإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها عقد جعفر المفوض لصاعد بن مخلد على شهرزور وداباذ والصامغان وحلوان وماسبذان ومهرجانقذق وأعمال الفرات، وضم إليه قواد موسى بن بغا خلا أحمد بن موسى وكيغلغ وإسحاق ابن كنداجيق وأساتكين، فعقد صاعد للؤلؤ على ما عهد له عليه من ذلك المفوض يوم السبت لثمان بقين من شوال، وبعث إلى ابن أبي الساج بعقد من قبله على العمل الذي كان يتولاه، وكان يتولى الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق بن مالك من قبل هارون بن الموفق، وكان شخص إليها في شهر رمضان، فلما ضم ذلك إلى صاعد أقره صاعد على ما كان إليه من ذلك.
    وفي آخر شوال منها دخل ابن أبي الساج رحبة طوق بن مالك بعد أن حاربه أهلها، فغلبهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم صار ابن أبي الساج إلى قرقيسياء، فدخلها وتنحى عنها ابن صفوان العقيلي
    . ذكر الخبر عن الوقعه التي كانت بين الموفق وبين الزنج
    وفي يوم الثلاثاء لعشر خلون من شوال من هذه السنة، كانت بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة في مدينة الفاسق أثر فيها آثارا، وصل بها إلى مراده منها.
    ذكر السبب في هذه الوقعة وما كان منها:
    ذكر محمد بن الحسن أن الخبيث عدو الله كان في مدة اشتغال الموفق بعلته أعاد القنطرة التي كانت شذوات نصير لججت فيها، وزاد فيها ما ظن أنه قد أحكمها، ونصب دونها ادقال ساج وصل بعضها ببعض، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكرا بالحجارة ليضيق المدخل على الشذا، وتحتد جرية الماء في النهر المعروف بابى الخضيب، فيهاب الناس دخوله، فندب الموفق قائدين من قواد غلمانه في أربعة آلاف من الغلمان، وأمرهما أن يأتيا نهر أبي الخصيب، فيكون أحدهما في شرقيه والآخر في
    (9/628)
    غربيه، حتى يوافيا القنطرة التي أصلحها الفاجر وما عمل في وجهها من السكر فيحاربا أصحاب الخبيث حتى يجلياهم عن القنطرة، وأعد معهما النجارين والفعلة لقطع القنطرة والبدود التي كانت جعلت أمامها، وأمر بإعداد سفن محشوة بالقصب المصبوب عليه النفط، لتدخل ذلك النهر المعروف بأبي الخصيب، وتضرم نارا لتحترق بها القنطرة في وقت المد فركب الموفق في هذا اليوم في الجيش حتى وافى فوهة نهر أبي الخصيب، وأمر بإخراج المقاتلة في عدة مواضع من أعلى عسكر الخبيث وأسفله، ليشغلهم بذلك عن التعاون على المنع عن القنطرة، وتقدم القائدان في أصحابهما، وتلقاهما أصحاب الخائن من الزنج وغيرهم، يقودهم ابنه أنكلاي وعلي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع، فاشتبكت الحرب بين الفريقين، ودامت، وقاتل الفسقة أشد قتال، محاماة عن القنطرة، وعلموا ما عليهم في قطعها من الضرر، وأن الوصول إلى ما بعدها من الجسرين العظيمين اللذين كان الخبيث اتخذهما على نهر أبي الخصيب سهل مرامه، فكثر القتل والجراح بين الفريقين، واتصلت الحرب إلى وقت صلاة العصر ثم إن غلمان الموفق أزالوا الفسقه عن القنطرة وجاوزوها، فقطعها التجارون والفعلة، ونقضوها وما كان اتخذ من البدود التي ذكرناها.
    وكان الفاسق أحكم أمر هذه القنطرة والبدود إحكاما تعذر على الفعلة والنجارين الإسراع في قطعها، فأمر الموفق عند ذلك بإدخال السفن التي فيها القصب والنفط، وضربها بالنار وإرسالها مع الماء، ففعل ذلك، فوافت السفن القنطرة فأحرقتها، ووصل النجارون إلى ما أرادوا من قطع البدود فقطعوها، وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر فدخلوه، وقوي نشاط الغلمان بدخول الشذا، فكشفوا أصحاب الفاجر عن مواقفهم حتى بلغوا بهم الجسر الأول الذي يتلو هذه القنطرة، وقتل من الفجرة خلق كثير، واستأمن فريق منهم، فأمر الموفق أن يخلع عليهم في ساعتهم تلك، وأن يوقفوا بحيث يراهم أصحابهم، ليرغبوا في مثل ما صاروا إليه، وانتهى الغلمان إلى الجسر الأول، وكان ذلك
    (9/629)
    قبيل المغرب، فكر الموفق أن يظلم الليل، والجيش موغل في نهر أبي الخصيب، فيتهيأ للفجرة بذلك انتهاز فرصة، فأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا سالمين إلى المدينة الموفقية، وأمر الموفق بالكتاب إلى النواحي بما هيأ الله له من الفتح والظفر، ليقرأ بذلك على المنابر، وأمر بإثابة المحسنين من غلمانه على قدر غنائهم وبلائهم وحسن طاعتهم، ليزدادوا بذلك جدا واجتهادا في حرب عدوهم.
    ففعل ذلك، وعبر الموفق في نفر من مواليه وغلمانه في الشذوات والسميريات وما خف من الزواريق إلى فوهة نهر أبي الخصيب، وقد كان الخبيث ضيقها ببرجين عملهما بالحجارة ليضيق المدخل وتحتد الجرية، فإذا دخلت الشذا النهر لججت فيه، ولم يسهل السبيل إلى إخراجها منه، فأمر الموفق بقطع ذينك البرجين، فعمل فيهما نهار ذلك اليوم، ثم انصرف العمال وعادوا من غد لاستتمام قلع ما بقي من ذلك، فوجدوا الفجرة قد أعادوا ما قلع منهما في ليلتهم تلك، فأمر بنصب عرادتين قد كانتا أعدتا في سفينتين، نصبتا حيال نهر أبي الخصيب، وطرحت لهما الأناجر حتى استقرتا، ووكل بهما من أصحاب الشذا، وأمر بقطع هذين البرجين، وتقدم إلى أصحاب العرادتين في رمي كل من دنا من أصحاب الفاسق، لإعادة شيء من ذلك في ليل أو نهار، فتحامى الفجرة الدنو من الموضع، وأحجموا عنه، وألح الموكلون بقلع هذه الحجارة بعد ذلك، حتى استتموا ما أرادوا، واتسع المسلك للشذا في دخول النهر والخروج منه.
    خبر انتقال صاحب الزنج الى شرقى نهر ابى الخصيب
    وفي هذه السنة تحول الفاسق من غربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه وانقطعت عنه الميرة من كل وجهة.
    (9/630)
    ذكر الخبر عن حاله وحال أصحابه وما آل إليه أمرهم عند انتقاله من الجانب الغربي
    ذكر أن الموفق لما أخرب منازل صاحب الزنج وحرقها، لجأ إلى التحصن في المنازل الواغلة في نهر أبي الخصيب، فنزل منزلا كان لأحمد بن موسى المعروف بالقلوص، وجمع عياله وولده حوله هناك، ونقل أسواقه إلى السوق القريبة من الموضع الذي اعتصم به، وهي سوق كانت تعرف بسوق الحسين، وضعف أمره ضعفا شديدا، وتبين للناس زوال أمره، فتهيبوا جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، فبلغ عنده الرطل من خبز البر عشرة دراهم، فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كانوا يتبعون الناس، فإذا خلا أحدهم بامرأة أو صبي أو رجل ذبحه وأكله، ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم، فكان إذا خلا به ذبحه وأكل لحمه، ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى، فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم، وكان لا يعاقب الخبيث أحدا ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس، فإذا تطاول حبسه أطلقه.
    وذكر أن الفاسق لما هدمت داره وأحرقت، وانتهب ما فيها، وأخرج طريدا سليبا من غربي نهر أبي الخصيب، تحول إلى شرقيه، فرأى أبو أحمد أن يخرب عليه الجانب الشرقي لتصير حال الخبيث فيه كحاله في الغربي في الجلاء عنه، فأمر ابنه أبا العباس بالوقوف في جمع من أصحابه في الشذا في نهر أبي الخصيب، وأن يختار من أصحابه وغلمانه جمعا يخرجهم في الموضع الذي كانت فيه دار الكرنبائي من شرقي نهر أبي الخصيب، ويخرج معهم الفعلة لهدم كل ما يلقاهم من دور أصحاب الفاجر ومنازلهم، ووقف الموفق على قصر المعروف بالهمداني- وكان الهمداني يتولى حياطة هذا الموضع، وهو أحد قادة جيوش الخبيث وقدماء أصحابه- وأمر الموفق جماعة من قواده ومواليه فقصدوا
    (9/631)
    لدار الهمداني، ومعهم الفعلة، وقد كان هذا الموضع محصنا بجمع كثير من أصحاب الخبيث من الزنج وغيرهم، وعليه عرادات ومجانيق منصوبة وقسي ناوكية، فاشتبكت الحرب وكثر القتلى والجراح إلى أن كشف أصحاب الموفق الخبثاء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفعل أصحاب أبي العباس مثل ذلك بمن مر بهم من الفسقة.
    والتقى أصحاب الموفق وأصحاب أبي العباس، فكانوا يدا واحدة على الخبثاء، فولوا منهزمين، وانتهوا إلى دار الهمداني، وقد حصنها ونصب عليها العرادات، وحفها بأعلام بيض من أعلام الفاجر، مكتوب عليها اسمه، فتعذر على أصحاب الموفق تسور هذه الدار لعلو سورها وحصانتها، فوضعوا عليها السلاليم الطوال، فلم تبلغ آخره، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانوا أعدوها، وجعلوا فيها الحبال لمثل هذا الموضع، فأثبتوها في أعلام الفاسق وجذبوها، فانقلبت الأعلام منكوسة من أعلى السور، حتى صارت في أيدي أصحاب الموفق، فلم يشك المحامون عن هذه الدار ان أصحاب أبي أحمد قد علوها، فوجلوا فانهزموا، وأسلموها وما حولها، وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من المجانيق والعرادات، وما كان فيها للهمداني من متاع وأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من دور الفجرة، واستنقذوا في هذا اليوم من نساء المسلمين المأسورات عددا كثيرا، فأمر الموفق بحملهن في الشذا والسميريات والمعابر إلى الموفقية والإحسان إليهن.
    ولم تزل الحرب في هذا اليوم قائمة من أول النهار إلى بعد صلاة العصر، واستأمن يومئذ جماعة من أصحاب الفاسق وجماعة من خاصة غلمانه الذين كانوا في داره يلون خدمته والوقوف على رأسه، فآمنهم الموفق وأمر بالإحسان إليهم، وأن يخلع عليهم، ويوصلوا وتجرى لهم الأرزاق، وانصرف الموفق، وأمر أن تنكس أعلام الفاسق في صدور الشذوات ليراها أصحابه، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث في ظهر دار
    (9/632)
    الهمداني متصلة بالجسر الأول المعقود على نهر أبي الخصيب، كان الخبيث سماها المباركة، وأعلموه أنه إن تهيأ له إحراقها لم يبق لهم سوق، وخرج عنهم تجارهم الذين بهم قوامهم، واستوحشوا لذلك واضطروا إلى الخروج في الأمان.
    فعزم الموفق عند ذلك على قصد هذه السوق وما يليها بالجيوش من ثلاثة أوجه، فأمر أبا العباس بقصد جانب من هذه السوق مما يلي الجسر الأول، وأمر راشدا مولاه بقصدها مما يلي دار الهمداني، وأمر قوادا من قواد غلمانه السودان بالقصد لها من نهر أبي شاكر، ففعل كل فريق ما أمر به، ونذر الزنج بمسير الجيوش إليهم، فنهضوا في وجوههم، واستعرت الحرب وغلظت، فأمد الفاجر أصحابه وكان المهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع في جميع أصحابهم بعد أن تكاملوا ووافتهم أمداد الخبيث بهذه السوق يحامون عنها، ويحاربون فيها أشد حرب. وقد كان أصحاب الموفق في أول خروجهم إلى هذا الموضع وصلوا إلى طرف من أطراف هذه السوق، فأضرموه نارا فاحترق، فاتصلت النار بأكثر السوق، فكان الفريقان يتحاربون والنار محيطة بهم، ولقد كان ما علا من ظلال يحترق فيقع على رءوس المقاتلة، فربما أحرق بعضهم، وكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس وإقبال الليل ثم تحاجزوا، وانصرف الموفق وأصحابه إلى سفنهم، ورجع الفسقة إلى طاغيتهم بعد أن احترق السوق، وجلا عنها أهلها ومن كان فيها من تجار عسكر الخائن وسوقتهم، فصاروا في أعلى مدينته بما تخلصوا به من أموالهم وأمتعتهم وقد كانوا تقدموا في نقل جل تجارتهم وبضائعهم من هذه السوق خوفا من مثل الذي نالهم في اليوم الذي أظفر الله فيه الموفق بدار الهمداني وهيأ له إحراق ما أحرق حولها.
    ثم أن الخبيث فعل في الجانب الشرقي من حفر الخنادق وتعوير الطرق ما كان فعل في الجانب الغربي بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقا عريضا من حد جوى كور إلى نهر الغربي، وكان أكثر عنايته بتحصين ما بين دار
    (9/633)
    الكرنبائي إلى النهر المعروف بجوى كور، لأنه كان في هذا الموضع جل منازل أصحابه ومساكنهم، وكان من حد جوى كور إلى نهر الغربي بساتين ومواضع قد أخلوها، والسور والخندق محيطان بها، وكانت الحرب إذا وقعت في هذا الموضع قصدوا من موضعهم إليه للمحاماة عنه والمنع منه، فرأى الموفق عند ذلك أن يخرب باقي السور إلى نهر الغربي، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة.
    وكان الفاسق في الجانب الشرقي من نهر الغربي في عسكر فيه جمع من الزنج وغيرهم متحصنين بسور منيع وخنادق، وهم أجلد أصحاب الخبيث وشجعانهم، فكانوا يحامون عما قرب من سور نهر الغربي، وكانوا يخرجون في ظهور أصحاب الموفق في وقت الحرب على جوى كور وما يليه، فأمر الموفق بقصد هذا الموضع ومحاربة من فيه وهدم سوره وإزالة المتحصنين به، فتقدم عند ذلك إلى أبي العباس وعدة من قواد غلمانه ومواليه في التأهب لذلك، ففعلوا ما أمروا به، وصار الموفق بمن أعده إلى نهر الغربي، وأمر بالشذا فنظمت من حد النهر المعروف بجوى كور إلى الموضع المعروف بالدباسين، وخرج المقاتلة على جنبتي نهر الغربي، ووضعت السلاليم على السور.
    وقد كانت لهم عليه عدة عرادات، ونشبت الحرب، ودامت مذ أول النهار إلى بعد الظهر، وهدم من السور مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وليس لأحدهما فضل على صاحبه إلا ما وصل إليه أصحاب الموفق من هذه المواضع التي هدموها وإحراق العرادات، ونال الفريقين من ألم الجراح أمر غليظ موجع.
    فانصرف الموفق وجميع اصحابه إلى الموفقية، فأمر بمداواة الجرحى، ووصل كل امرئ على قدر الجراح التي أصابته، وعلى ذلك كان أجرى التدبير في جميع وقائعه منذ أول محاربته الفاسق إلى أن قتله الله.
    وأقام الموفق بعد هذه الوقعة مدة، ثم رأى معاودة هذا الموضع والتشاغل به دون المواضع، لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه وصبرهم، وأنه لا يتهيأ
    (9/634)
    ما يقدر فيما بين نهر الغربي وجوى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد ما يحتاج إليه من آلات الهدم، واستكثر من الفعلة، وانتخب المقاتلة الناشبة والرامحة والسودان أصحاب السيوف، وقصد هذا الموضع على مثل قصده له المرة الأولى، فأخرج الرجالة في المواضع التي رأى إخراجهم فيها، وأدخل عددا من الشذا النهر، ونشبت الحرب ودامت، وصبر الفسقة أشد صبر، وصبر لهم أصحاب الموفق.
    واستمد الفسقة طاغيتهم، فوافاهم المهلبي وسليمان بن جامع في جيشهما، فقويت قلوبهم عند ذلك، وحملوا على أصحاب الموفق، وخرج سليمان كمينا مما يلي جوى كور، فأزالوا أصحاب الموفق حتى انتهوا إلى سفنهم، وقتلوا منهم جماعة وانصرف الموفق ولم يبلغ كل الذي أراد، وتبين أنه قد كان يجب أن يحارب الفسقة من عدة مواضع، ليفرق جمعهم، فيخف وطؤهم على من يقصد لهذا الموضع الصعب، وينال منه ما يحب، فعزم على معاودتهم، وتقدم إلى أبي العباس وغيره من قواده في العبور واختيار أنجاد رجالهم، ووكل مسرورا مولاه بالنهر المعروف بمنكى، وأمره أن يخرج رجاله في ذلك الموضع وما يتصل به من الجبال والنخل، لتشتغل قلوب الفجرة، وليروا أن عليهم تدبيرا من تلك الجهة وأمر أبا العباس بإخراج أصحابه على جوى كور، ونظم الشذا على هذه المواضع حتى انتهى إلى الموضع المعروف بالدباسين، وهو أسفل نهر الغربي، وصار الموفق الى نهر الغربي، وامر قواده وغلمانه أن يخرجوا في أصحابهم فيحاربوا الفسقة في حصنهم ومعقلهم، وألا ينصرفوا عنهم حتى يفتح الله لهم، أو يبلغ إرادته منهم ووكل بالسور من يهدمه، وتسرع الفسقة كعادتهم، وأطمعهم ما تقدم من الوقعتين اللتين ذكرناهما، فثبت لهم غلمان الموفق، وصدقوهم اللقاء، فأنزل الله عليهم نصره، فأزالوا الفسقة عن مواقفهم، وقوي أصحاب الموفق، فحملوا عليهم حملة كشفوهم بها، فانهزموا وخلوا عن حصنهم، وصار في أيدي غلمان الموفق فهدموه، وأحرقوا
    (9/635)
    منازلهم، وغنموا ما كان فيها، واتبعوا المنهزمين منهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا، واستنقذوا من هذا الحصن من النساء المأسورات خلقا كثيرا، فأمر الموفق بحملهن والإحسان إليهن، وأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم ففعلوا، وانصرف إلى عسكره بالموفقية، وقد بلغ ما حاول من هذا الموضع.
    ذكر خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج
    وفيها دخل الموفق مدينة الفاسق، وأحرق منازله من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب.
    ذكر الخبر عن سبب وصوله إلى ذلك:
    ذكر أن أبا أحمد لما أراد ذلك بعد هدمه سور داره ذلك، أقام يصلح المسالك في جنبتي نهر أبي الخصيب وفي قصر الفاسق، ليتسع على المقاتلة الطريق في الدخول والخروج للحرب، وأمر بقلع باب قصر الخبيث الذي كان انتزعه من حصن أروخ بالبصرة، فقلع وحمل إلى مدينة السلام ثم رأى القصد لقطع الجسر الأول الذي كان على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضا عند وقوع الحرب في نواحي عسكرهم، فأمر بإعداد سفينة كبيرة تملأ قصبا قد سقي النفط، وأن ينصب في وسط السفينة دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا لصقت به، وانتهز الفرصة في غفلة الفسقة وتفرقهم.
    فلما وجد ذلك في آخر النهار قدمت السفينة، فجرها الشذا حتى وردت النهر، وأشعل فيها النيران، وأرسلت وقد قوي المد، فوافت القنطرة، ونذر الزنج بها، وتجمعوا وكثروا حتى ستروا الجسر وما يليه، وجعلوا يقذفون السفينة بالحجارة والآجر، ويهيلون عليها التراب، ويصبون الماء، وغاص بعضهم فنقبها، وقد كانت أحرقت من الجسر شيئا يسيرا، فأطفأه الفسقة، وغرقوا السفينة وحازوها، فصارت في أيديهم.
    فلما رأى أبو أحمد فعلهم ذلك، عزم على مجاهدتهم على هذا الجسر
    (9/636)
    حتى يقطعه، فسمى لذلك قائدين من قواد غلمانه، وأمرهما بالعبور في جميع أصحابهما في السلاح الشاك واللأمة الحصينة والآلات المحكمة، وإعداد النفاطين والآلات التي تقطع بها الجسور، فأمر أحد القائدين أن يقصد غربي النهر، وجعل الآخر في شرقيه، وركب الموفق في مواليه وخدامه وغلمانه الشذوات والسميريات، وقصد فوهة نهر أبي الخصيب، وذلك في غداة يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة تسع وستين ومائتين، فسبق إلى الجسر القائد الذي كان أمر بالقصد له من غربي نهر أبي الخصيب، فأوقع بمن كان موكلا به من أصحاب الفاسق، وقتلت منهم جماعة، وضرب الجسر بالنار، وطرح عليه القصب وما كان أعد له من الأشياء المحرقة، فانكشف من كان هناك من أعوان الخبيث، ووافى بعد ذلك من كان أمر بالقصد للجسر من الجانب الشرقي، ففعلوا ما أمروا به من إحراقه وقد كان الخبيث أمر ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع بالمقام في جيشهما للمحاماة عن الجسر، والمنع من قطعه، ففعلا ذلك، فقصد إليهما من كان بإزائهما، وحاربوهم حربا غليظا حتى انكشفا، وتمكنوا من إحراق الجسر فأحرقوه، وتجاوزوه إلى الحظيرة التي كان يعمل فيها شذوات الفاسق وسميرياته وجميع الآلات التي كان يحارب بها، فأحرق ذلك عن آخره إلا شيئا يسيرا من الشذوات والسميريات كان في النهر، وانهزم أنكلاي وسليمان بن جامع، وانتهى غلمان الموفق إلى سجن كان للخبيث في غربي نهر أبي الخصيب، فحامى عنه الزنج ساعة من النهار حتى أخرجوا منه جماعة، وغلبهم عليه غلمان الموفق، فتخلصوا من كان فيه من الرجال والنساء، وتجاوز من كان في الجانب الشرقي من غلمان الموفق، بعد أن أحرقوا ما ولوا من الجسر إلى الموضع المعروف بدار مصلح، وهو من قدماء قواد الفاسق، فدخلوا داره وأنهبوها، وسبوا ولده ونساءه، وأحرقوا ما تهيأ لهم إحراقه في طريقهم، وبقيت من الجسر في وسط منه أدقال قد كان الخبيث أحكمها، فامر
    (9/637)
    الموفق أبا العباس بتقديم عدة من الشذا إلى ذلك الموضع، ففعل ذلك، فكان فيمن تقدم زيرك في عدد من أصحابه، فوافى هذه الادقال، وأخرجوا إليها قوما قد كانوا أعدوهم لها معهم الفئوس والمناشير، فقطعوها، وجذبت وأخرجت عن النهر، وسقط ما بقي من القنطرة، ودخلت شذوات الموفق النهر، وسار القائدان في جميع أصحابهما على حافتيه فهزم أصحاب الفاجر في الجانبين، وانصرف الموفق وجميع أصحابه سالمين، واستنقذ خلق كثير وأتي الموفق بعدد كثير من رءوس الفسقة، فأثاب من أتاه بها، وأحسن إليه ووصله.
    وكان انصرافه في هذا اليوم على ثلاث ساعات من النهار، بعد أن انحاز الفاسق وجميع أصحابه من الزنج وغيرهم إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وأخلوا غربيه، واحتوى عليه أصحاب الموفق، فهدموا ما كان يعوق عن محاربة الفجرة من قصور الفاسق وقصور أصحابه، ووسعوا مخترقات ضيقة كانت على نهر أبي الخصيب، فكان ذلك مما زاد في رعب أصحاب الخائن ومال جمع كثير من قواده وأصحابه الذين كان لا يرى أنهم يفارقونه إلى طلب الأمان، فبذل ذلك لهم، فخرجوا أرسالا، فقبلوا، وأحسن إليهم وألحقوا بنظرائهم في الأرزاق والصلات والخلع.
    ثم إن الموفق واظب على إدخال الشذا النهر، وتقحمه في غلمانه، وأمر بإحراق ما على حافتيه من منازل الفجرة وما في بطنه من السفن، وأحب تمرين أصحابه على دخول النهر وتسهيل سلوكه لهم لما كان يقدر من إحراق الجسر الثاني، والتوصل إلى أقصى مواضع الفجرة فبينا الموفق في بعض أيامه- التي ألح فيها على حرب الخبيث وولوج نهر أبي الخصيب- واقف في موضع من النهر، وذلك في يوم جمعه، إذ استأمن إليه رجل من أصحاب الفاجر، وأتاه بمنبر كان للخبيث في الجانب الغربي، فأمره بنقله إليه، ومعه قاض كان للخبيث في مدينته، فكان ذلك مما فت في أعضادهم، وكان الخبيث جمع ما كان بقي له من السفن البحرية وغيرها،
    (9/638)
    فجعلها عند الجسر الثاني، وجمع قواده وأصحابه وأنجاد رجاله هنالك، فأمر الموفق بعض غلمانه بالدنو من الجسر وإحراق ما تهيأ إحراقه من المراكب البحرية التي تليه، وأخذ ما أمكن أخذه منها ففعل ذلك المأمورون به من الغلمان، فزاد فعلهم في تحرز الفاجر ومحاماته عن الجسر الثاني، فألزم نفسه وجميع أصحابه حفظه وحراسته خوفا من أن تتهيأ حيله، فيخرج الجانب الغربي عن يده، ويوطئه أصحاب الموفق، فيكون ذلك سببا لاستئصاله، فأقام الموفق بعد إحراق الجسر الأول أياما يعبر بجمع بعد جمع من غلمانه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، فيحرقون ما بقي من منازل الفجرة.
    ويقربون من الجسر الثاني فيحاربهم عليه الزنج.
    وقد كان تخلف منهم جمع في منازلهم في الجانب الغربي المقاربة للجسر الثاني، وكان غلمان الموفق يأتون هذا الموضع ويقفون على الطرق والمسالك التي كانت تخفى عليهم من عسكر الخبيث، فلما وقف الموفق على معرفة غلمانه وأصحابه بهذه الطريق واهتدائهم لسلوكها، عزم على القصد لإحراق الجسر الثاني ليحوز الجانب الغربي من عسكر الخبيث، وليتهيأ لأصحابه مساواتهم على أرض واحدة، لا يكون بينهما فيها حائل غير نهر أبي الخصيب، فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بقصد الجانب الغربي في أصحابه وغلمانه، وذلك في يوم السبت لثمان بقين من شوال سنة تسع وستين ومائتين، وتقدم إليه أن يجعل خروجه بأصحابه في موضع البناء الذي كان الفاجر سماه مسجد الجامع، وأن يأخذ الشارع المؤدي إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذه مصلى بحضره في أعياده، فإذا انتهى إلى موضع المصلى عطف منه إلى الجبل المعروف بجبل المكتني بأبي عمرو أخي المهلبي، وضم إليه من قواد غلمانه الفرسان والرجالة زهاء عشرة آلاف، وأمره أن يرتب زيرك صاحب مقدمته في اصحابه في صحراء المصلى، ليأمن خروج كمين إن كان للفسقة من ذلك الموضع، وامر
    (9/639)
    جماعة من قواد الغلمان أن يتفرقوا في الجبال التي فيها بين الجبل المعروف بالمكتنى بأبي عمرو وبين الجبل المعروف بالمكتنى أبا مقاتل الزنجي، حتى توافوا جميعا من هذه الجبال موضع الجسر الثاني في نهر أبي الخصيب، وتقدم إلى جماعة من قواد الغلمان المضمومين إلى أبي العباس أن يخرجوا في أصحابهم بين دار الفاسق ودار ابنه أنكلاي، فيكون مسيرهم على شاطئ نهر أبي الخصيب وما قاربه، ليتصلوا بأوائل الغلمان الذين يأتون على الجبال، ويكون قصد الجميع إلى الجسر وامرهم بحمل الآلات من المعاول والفؤوس والمناشير مع جمع من النفاطين لقطع ما يتهيأ قطعه، وإحراق ما يتهيأ إحراقه، وأمر راشدا مولاه بقصد الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في مثل العدة التي كانت مع أبي العباس وقصد الجسر ومحاربة من يدافع عنه، ودخل أبو أحمد نهر أبي الخصيب في الشذا، وقد أعد منها شذوات رتب فيها من أنجاد غلمانه الناشبة والرامحة من ارتضاه، وأعد معهم من الآلات التي يقطع بها الجسر ما يحتاج إليه لذلك، وقدمهم أمامه في نهر أبي الخصيب، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا بين الفريقين، واشتد القتال وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه أنكلاي ابن الفاسق في جيشه، وسليمان بن جامع في جيشه، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد ومن معه الفاجر صاحب الزنج والمهلبي في باقي جيشهم، فكانت الحرب في ذلك اليوم إلى مقدار ثلاث ساعات من النهار ثم انهزمت الفسقة لا يلوون على شيء، وأخذت السيوف منهم مأخذها، وأخذ من رءوس الفسقة ما لم يقع عليه إحصاء لكثرته، فكان الموفق إذا أتي برأس من الرءوس أمر بإلقائه في نهر أبي الخصيب، ليدع المقاتلة الشغل بالرءوس، ويجدوا في اتباع عدوهم، وأمر أصحاب الشذا الذين رتبهم في نهر أبي الخصيب بالدنو من الجسر وإحراقه، ودفع من تحامى عنه من الزنج بالسهام، ففعلوا ذلك وأضرموا الجسر نارا، ووافى أنكلاي وسليمان في ذلك الوقت جريحين مهزومين، يريدان العبور إلى
    (9/640)
    شرقي نهر أبي الخصيب، فحالت النار بينهما وبين الجسر، فألقوا أنفسهما ومن كان معهما من حماتهم في نهر أبي الخصيب، فغرق منهم خلق كثير، وأفلت أنكلاي وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وأجتمع على الجسر من الجانبين خلق كثير، فقطع بعد أن ألقيت عليه سفينة مملوءة قصبا مضروما بالنار، فأعانت على قطعه وإحراقه، وتفرق الجيش في نواحي مدينة الخبيث من الجانبين جميعا، فأحرقوا من دورهم وقصورهم وأسواقهم شيئا كثيرا، واستنقذوا من النساء المأسورات والأطفال ما لا يحصى عدده، وأمر الموفق المقاتلة بحملهم في سفنهم والعبور بهم إلى الموفقية.
    وقد كان الفاجر سكن بعد إحراق قصره ومنازله الدار المعروفة بأحمد بن موسى القلوص والدار المعروفة بمحمد بن إبراهيم أبي عيسى، وأسكن ابنه أنكلاي الدار المعروفة بمالك ابن أخت القلوص، فقصد جماعة من غلمان الموفق المواضع التي كان الخبيث يسكنها فدخلوها، وأحرقوا منها مواضع، وانتهبوا منها ما كان سلم للفاسق من الحريق الأول، وهرب الخبيث ولم يوقف في ذلك اليوم على مواضع أمواله واستنقذ في هذا اليوم نسوة علويات كن محتبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأمر الموفق بحملهن إلى عسكره، وأحسن إليهن، ووصلهن، وقصد جماعة من غلمان الموفق من المستأمنة المضمومين إلى أبي العباس سجنا كان الفاسق اتخذه في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ففتحوه وأخرجوا منه خلقا كثيرا ممن كان أسر من العساكر التي كانت تحارب الفاسق وأصحابه، ومن سائر الناس غيرهم فأخرج جميعهم في قيودهم وأغلالهم حتى أتى بهم الموفق، فأمر بفك الحديد عنهم وحملهم إلى الموفقية، وأخرج في ذلك اليوم كل ما كان بقي في نهر أبي الخصيب من شذا ومراكب بحرية وسفن صغار وكبار وحراقات وزلالات وغير ذلك من أصناف السفن من النهر إلى دجلة، وأباحها الموفق أصحابه وغلمانه مع ما فيها من السلب والنهب الذي حازوا في ذلك اليوم من
    (9/641)
    عسكر الخبيث، وكان ذلك قدر جليل وخطر عظيم.
    وفيها كان إحدار المعتمد إلى واسط، فسار إليها في ذي القعدة وأنزل دار زيرك.
    وفيها سأل أنكلاي ابن الفاسق أبا أحمد الموفق الأمان، وأرسل إليه في ذلك رسولا، وسأل أشياء فأجابه الموفق إلى كل ما سأله، ورد إليه رسوله، وعرض للموفق بعقب ذلك ما شغله عن الحرب وعلم الفاسق أبو أنكلاي بما كان من ابنه فعذله- فيما ذكر- على ذلك، حتى ثناه عن رأيه في طلب الأمان، فعاد للجد في قتال أصحاب الموفق، ومباشرة الحرب بنفسه.
    ذكر طلب رؤساء صاحب الزنج الامان
    وفيها وجه أيضا سليمان بن موسى الشعراني- وهو أحد رؤساء أصحاب الفاسق- من يطلب الأمان له من أبي أحمد، فمنعه أبو أحمد ذلك، لما كان سلف منه من العبث وسفك الدماء، ثم اتصل به أن جماعة من أصحاب الخبيث قد استوحشوا لمنعه ذلك الشعراني، فأجابه أبو أحمد إلى إعطائه الأمان، استصلاحا بذلك غيره من أصحاب الفاسق، وأمر بتوجيه الشذا إلى الموضع الذي واعدهم الشعراني، ففعل ذلك، فخرج الشعراني وأخوه وجماعة من قواده، فحملهم في الشذا، وقد كان الخبيث حرس به مؤخر نهر أبي الخصيب، فحمله أبو العباس إلى الموفق، فمن عليه، ووفى له بأمانه، وأمر به فوصل ووصل أصحابه، وخلع عليهم، وحمل على عدة أفراس بسروجها وآلتها، ونزله وأصحابه أنزالا سنية، وضمه وإياهم إلى أبي العباس، وجعله في جملة أصحابه، وأمره بإظهاره في الشذا لأصحاب الخائن ليزدادوا ثقة بأمانه، فلم يبرح الشذا من موضعها من نهر أبي الخصيب، حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج وغيرهم، فحملوا إلى أبي أحمد، فوصلهم
    (9/642)
    وألحقهم في الخلع والجوائز بمن تقدمهم.
    ولما استأمن الشعراني اختل ما كان الخبيث يضبط به من مؤخر عسكره، ووهى أمره وضعف، فقلد الخبيث ما كان إلى الشعراني من حفظ ذلك شبل بن سالم، وأنزله مؤخر نهر أبي الخصيب، فلم يمس الموفق من اليوم الذي أظهر فيه الشعراني لأصحاب الخبيث حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان، ويسأل أن يوقف شذوات عند دار ابن سمعان، ليكون قصده فيمن يصحبه من قواده ورجاله في الليل إليها.
    فأعطي الأمان، ورد إليه رسوله، ووقفت له الشذا في الموضع الذي سأل أن توقف له، فوافاها في آخر الليل ومعه عياله وولده وجماعة من قواده ورجاله، وشهر أصحابه سلاحهم، وتلقاهم قوم من الزنج قد كان الخبيث وجههم لمنعه من المصير إلى الشذا وقد كان خبره انتهى إليه، فحاربهم شبل وأصحابه، وقتلوا منهم نفرا، فصاروا إلى الشذا سالمين، فصير بهم إلى قصر الموفق بالموفقية، فوافاه وقد ابتلج الصبح، فأمر الموفق أن يوصل شبل بصلة جزيلة، وخلع عليه خلعا كثيرة، وحمله على عدة أفراس بسروجها ولجمها.
    وكان شبل هذا من عدد الخبيث وقدماء أصحابه وذوي الغناء والبلاء في نصرته، ووصل أصحاب شبل، وخلع عليهم، وأسنيت له ولهم الأرزاق والأنزال، وضموا جميعا إلى قائد من قواد غلمان الموفق، ووجه به وبأصحابه في الشذا، فوقفوا بحيث يراهم الخبيث وأشياعه فعظم ذلك على الفاسق وأوليائه، لما رأوا من رغبة رؤسائهم في اغتنام الأمان، وتبين الموفق من مناصحة شبل وجودة فهمه ما دعاه إلى أن يستكفيه بعض الأمور التي يكيد بها الخبيث، فأمره بتبييت عسكر الخبيث في جمع أمر بضمهم إليه من أبطال الزنج المستأمنة، وأفرده وإياهم بما امرهم به من البيات، لعلمهم بالمسالك في عسكر الخبيث، فنفذ شبل لما أمر به، فقصد موضعا كان عرفه، فكبسه في السحر،
    (9/643)
    فوافى به جمعا كثيفا من الزنج في عدة من قوادهم وحماتهم، قد كان الخبيث رتبهم في الدفع عن الدار المعروفة بأبي عيسى، وهي منزل الخبيث حينئذ، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر جمعا من قواد الزنج، وأخذ لهم سلاحا كثيرا، وانصرف ومن كان معه سالمين، فأتي بهم الموفق، فأحسن جائزتهم، وخلع عليهم، وسور جماعة منهم.
    ولما أوقع أصحاب شبل بأصحاب الخائن هذه الوقعة ذعرهم ذلك ذعرا شديدا، وأخافهم ومنعهم النوم، فكانوا يتحارسون في كل ليلة، ولا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة، حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية.
    ثم أقام الموفق بعد ذلك ينفذ السرايا إلى الخبثة ليلا ونهارا من جانبي نهر أبي الخصيب، ويكدهم بالحرب، ويسهر ليلهم، ويحول بينهم وبين طلب أقواتهم، وأصحابه في ذلك يتعرفون المسالك، ويتدربون بالوغول في مدينة الخبيث وتقحمها، ويصرون من ذلك على ما كانت الهيبة تحول بينهم وبينه، حتى إذا ظن الموفق أن قد بلغ أصحابه ما كانوا يحتاجون إليه، صح عزمه على العبور إلى محاربة الفاسق في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلسا عاما، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان، فأدخلوا إليه، ووقفوا بحيث يسمعون كلامه ثم خاطبهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم، وما كان الفاسق دين لهم من معاصي الله، وأن ذلك قد كان أباح له دماءهم، وأنه قد غفر الزلة، وعفا عن الهفوة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بفضله، فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة، وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأنهم لن يأتوا شيئا يتعرضون به لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم، أولى بهم من الجد والاجتهاد في مجاهدة عدو الله الخائن وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك
    (9/644)
    عسكر الخبيث ومضايق طرق مدينته والمعاقل التي أعدها للهرب إليها على ما ليس عليه غيرهم، فهم أحرياء أن يمحضوه نصيحتهم، ويجتهدوا في الولوج على الخبيث، والتوغل إليه في حصونه، حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد وإن من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله وتصغير منزلته، ووضع مرتبته فارتفعت أصواتهم جميعا بالدعاء للموفق والإقرار بإحسانه، وبما هم عليه من صحة الضمائر في السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه، وبذل دمائهم ومهجهم في كل ما يقر بهم منه، وأن ما دعاهم إليه قد قوى نيتهم، ودلهم على ثقته بهم وإحلاله إياهم محل أوليائه، وسألوه أن يفردهم بناحية يحاربون فيها، فيظهر من حسن نياتهم ونكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم وتورعهم عما كانوا عليه من جهلهم فأجابهم الموفق إلى ما سألوا، وعرفهم حسن موقع ما ظهر له من طاعتهم، وخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد.
    خبر دخول الموفق مدينه صاحب الزنج وتخريب داره
    وفي ذي القعدة من هذه السنة دخل الموفق مدينة الفاسق بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فخرب داره، وانتهب ما كان فيها.
    ذكر الخبر عن هذه الوقعة:
    ذكر أن أبا أحمد لما عزم على الهجوم على الفاسق في مدينته بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، أمر بجمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره، إذ كان ما في عسكره مقصرا عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريات والرقيات التي كانت تعبر فيها الخيل، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح، ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد ومن يحضر من أصحابه من
    (9/645)
    السميريات والجريبيات والزواريق التي فيها الملاحون الراتبة فلما تكاملت له السفن والمعابر، ورضي عددها، تقدم إلى أبي العباس وإلى قواد مواليه وغلمانه في التأهب والاستعداد للقاء عدوهم، وأمر بتفرقة السفن والمعابر إلى حمل الخيل والرجالة، وتقدم إلى أبي العباس في أن يكون خروجه في جيشه في الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وضم إليه قوادا من قواد غلمانه في زهاء ثمانية آلاف من أصحابهم، وأمره أن يعمد مؤخر عسكر الفاسق حتى يتجاوز دار المعروف بالمهلبي، وقد كان الخبيث حصنها وأسكن بقربها خلقا كثيرا من أصحابه، ليأمن على مؤخر عسكره، وليصعب على من يقصده المسلك إلى هذا الموضع.
    فأمر أبو أحمد أبا العباس بالعبور بأصحابه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وأن يأتي هذه الناحية من ورائها، وأمر راشدا مولاه بالخروج في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في عدد كثير من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفا، وأمر بعضهم بالخروج في ركن دار المعروف بالكرنبائي كاتب المهلبي، وهي على قرنة نهر أبي الخصيب في الجانب الشرقي منه، وأمرهم أن يجعلوا مسيرهم على شاطئ النهر حتى يوافوا الدار التي نزلها الخبيث، وهي الدار المعروفة بأبي عيسى وأمر فريقا من غلمانه بالخروج على فوهة النهر المعروف بأبي شاكر، وهو أسفل من نهر أبي الخصيب، وأمر آخرين منهم بالخروج في أصحابهم على فوهة النهر المعروف بجوى كور، وأوعز إلى الجميع في تقديم الرجالة أمام الفرسان، وأن يزحفوا بجميعهم نحو دار الخائن، فإن أظفرهم الله به وبمن فيها من أهله وولده وإلا قصدوا دار المهلبي ليلقاهم هناك من أمر بالعبور مع أبي العباس، فتكون أيديهم يدا واحدة على الفسقة.
    فعمل أبو العباس وراشد وسائر قواد الموالي والغلمان بما أمروا به، فظهروا جميعا، وأبرزوا سفنهم في عشيه يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وسار الفرسان يتلو بعضهم بعضا، ومشت الرجالة
    (9/646)
    وسارت السفن في دجلة منذ صلاة الظهر من يوم الاثنين إلى آخر وقت عشاء الآخرة من ليلة الثلاثاء، فانتهوا إلى موضع من أسفل العسكر، وكان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقية ما فيه من خراب ودغل، وطم سواقيه وأنهاره حتى استوى واتسع، وبعدت أقطاره واتخذ فيه قصرا وميدانا لعرض الرجال والخيل بإزاء قصر الفاسق، وكان غرضه في ذلك إبطال ما كان الخبيث يعد به أصحابه من سرعة انتقاله عن موضعه، فأراد أن يعلم الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، فبات الجيش ليلة الثلاثاء في هذا الموضع بإزاء عسكر الفاسق، وكان الجميع زهاء خمسين ألف رجل من الفرسان والرجالة في أحسن زي وأكمل هيئة، وجعلوا يكبرون ويهللون، ويقرءون القرآن، ويصلون، ويوقدون النار فرأى الخبيث من كثرة الجمع والعدة والعدد ما بهر عقله وعقول أصحابه، وركب الموفق في عشية يوم الاثنين الشذا، وهي يومئذ مائة وخمسون شذاة قد شحنها بأنجاد غلمانه ومواليه الناشبة والرامحة، ونظمها من أول عسكر الخائن إلى آخره، لتكون حصنا للجيش من ورائه، وطرحت أناجرها بحيث تقرب من الشط، وأفرد منها شذوات اختارها لنفسه، ورتب فيها من خاصة قواد غلمانه ليكونوا معه عند تقحمه نهر أبي الخصيب، وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي نهر أبي الخصيب بمسيره، ويقفوا بوقوفه، ويتصرفوا فيما رأى أن يصرفهم فيه في وقت الحرب.
    وغدا الموفق يوم الثلاثاء لقتال الفاسق صاحب الزنج، وتوجه كل رئيس من رؤساء قواده نحو الموضع الذي أمر بقصده، وزحف الجيش نحو الفاسق وأصحابه، فتلقاهم الخبيث في جيشه، واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وحامى الفسقة عما كانوا اقتصروا عليه من مدينتهم أشد محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب الموفق، وصدقوا القتال، فمن الله عليهم بالنصر،
    (9/647)
    وهزم الفسقة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا من مقاتلتهم وأنجادهم جمعا كثيرا.
    وأتي الموفق بالأسارى، فأمر بهم فضربت أعناقهم في المعركة، وقصد بجمعه لدار الفاجر فوافاها، وقد لجأ الخبيث إليها، وجمع أنجاد أصحابه للمدافعة عنها، فلما لم يغنوا عنها شيئا أسلمها، وتفرق أصحابه عنها، ودخلها غلمان الموفق، وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وأثاثه، فانتهبوا ذلك كله، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث، وكانوا أكثر من مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هاربا نحو دار المهلبي، لا يلوي على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث، وأتي الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فأمر بحملهم إلى الموفقية والتوكيل بهم، والإحسان إليهم.
    وكان جماعة من قواد أبي العباس عبروا نهر أبي الخصيب، وقصدوا الموضع الذي أمروا بقصده من دار المهلبي، ولم ينتظروا إلحاق أصحابهم بهم، فوافوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها أكثر الزنج بعد انكشافهم عن دار الخبيث، فدخل أصحاب أبي العباس الدار، وتشاغلوا بالنهب وأخذ ما كان غلب عليه المهلبي من حرم المسلمين وأولاده منهن، وجعل كل من ظفر بشيء انصرف به إلى سفينته في نهر أبي الخصيب.
    وتبين الزنج قلة من بقي منهم وتشاغلهم بالنهب، فخرجوا عليهم من عدة مواضع قد كانوا كمنوا فيها، فأزالوهم عن مواضعهم، فانكشفوا، واتبعهم الزنج حتى وافوا نهر أبي الخصيب وقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعة يسيرة، وارتجعوا بعض ما كانوا أخذوا من النساء والمتاع.
    وكان فريق من غلمان الموفق وأصحابه الذين قصدوا دار الخبيث في شرقي نهر أبي الخصيب تشاغلوا بالنهب وحمل الغنائم إلى سفنهم، فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم، فكشفوهم واتبعوا آثارهم إلى الموضع المعروف بسوق الغنم من عسكر الزنج، فثبتت جماعة من قواد الغلمان في أنجاد
    (9/648)
    أصحابهم وشجعانهم، فردوا وجوه الزنج حتى ثاب الناس، وتراجعوا إلى مواقفهم، ودامت الحرب بينهم إلى وقت صلاة العصر فأمر أبو أحمد عند ذلك غلمانه أن يحملوا على الفسقة بأجمعهم حملة صادقة، ففعلوا ذلك، فانهزم الزنج وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى دار الخبيث، فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف غلمانه وأصحابه على إحسانهم، فأمرهم بالرجوع، فانصرفوا على هدو وسكون، فأقام الموفق في النهر ومن معه في الشذا يحميهم، حتى دخلوا سفنهم، وأدخلوها خيلهم، وأحجم الزنج عن اتباعهم لما نالهم في آخر الوقعة وانصرف الموفق ومعه أبو العباس وسائر قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق، واستنقذوا جمعا من النساء اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيرا، جعلن يخرجن في ذلك اليوم أرسالا إلى فوهة نهر أبي الخصيب، فيحملن في السفن إلى الموفقية إلى انقضاء الحرب.
    وكان الموفق تقدم إلى أبي العباس في هذا اليوم أن ينفذ قائدا من قواده في خمس شذوات إلى مؤخر عسكر الخبيث بنهر أبي الخصيب، لإحراق بيادر ثم جليل قدرها، كان الخبيث يقوت أصحابه منها من الزنج وغيرهم، ففعل ذلك وأحرق أكثره وكان إحراق ذلك من أقوى الأشياء على إدخال الضعف على الفاسق وأصحابه، إذ لم يكن لهم معول في قوتهم غيره، فأمر أبو أحمد بالكتاب بما تهيأ له على الخبيث وأصحابه في هذا اليوم إلى الآفاق ليقرأ على الناس، ففعل ذلك.
    وفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة من هذه السنة وافى عسكر أبي أحمد صاعد بن مخلد كاتبه منصرفا إليه من سامرا، ووافى معه بجيش كثيف قيل إن عدد الفرسان والرجالة الذين قدموا كان زهاء عشره آلاف، امر الموفق بإراحة أصحابه وتجديد أسلحتهم وإصلاح أمورهم، وأمرهم بالتأهب لمحاربة الخبيث فأقام أياما بعد قدومه لما أمر به
    (9/649)
    فهم في ذلك من أمرهم، إذ ورد كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون مع بعض قواده، يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه، ليشهد عليه حرب الفاسق فأجابه إلى ذلك، فأذن له في القدوم عليه، وأخر ما كان عزم عليه من مناجزة الفاجر انتظارا منه قدوم لؤلؤ، وكان لؤلؤ مقيما بالرقة في جيش عظيم من الفراغنة والأتراك والروم والبربر والسودان وغيرهم، من نخبة أصحاب ابن طولون، فلما ورد على لؤلؤ كتاب أبي أحمد بالإذن له في القدوم عليه، شخص من ديار مضر حتى ورد مدينة السلام في جميع أصحابه، وأقام بها مدة، ثم شخص إلى أبي أحمد فوافاه بعسكره يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجلس له أبو أحمد، وحضر ابنه أبو العباس وصاعد والقواد على مراتبهم، فأدخل عليه لؤلؤ في زي حسن، فأمر أبو العباس أن ينزل معسكرا كان أعد له بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في اصحابه، وتقدم اليه في مباكره المصير الى دار الموفق، ومعه قواده وأصحابه للسلام عليه فغدا لؤلؤ يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم، وأصحابه معه في السواد، فوصل إلى الموفق وسلم عليه فقربه وأدناه، ووعده وأصحابه خيرا، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قواده، وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة، وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال في البدور ما يحمله مائة غلام، وأمر لقواده من الصلات والحملان والكسى على قدر محل كل إنسان منهم عنده، وأقطعه ضياعا جليلة القدر، وصرفه إلى عسكره بإزاء نهر أبي الخصيب بأجمل حال، وأعدت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات، وأمره برفع جرائد لأصحابه بمبلغ أرزاقهم على مراتبهم، فرفع ذلك، فأمر لكل إنسان منهم بالضعف مما كان يجرى له وامر لهم بالعطاء عند رفع الجرائد، ووفوا ما رسم لهم.
    ثم تقدم إلى لؤلؤ في التأهب والاستعداد للعبور إلى غربي دجلة لمحاربة الفاسق وأصحابه، وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت
    (9/650)
    القناطر والجسور التي كانت عليه أحدث سكرا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط السكر بابا ضيقا ليحتد فيه جرية الماء، فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى أبو أحمد أن حربه لا تتهيأ له إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الفسقة عنه، وجعلوا يزيدون فيه في كل يوم وليلة، وهو متوسط دورهم، والمئونة لذلك تسهل عليهم وتغلظ على من حاول قلعه.
    فرأى أبو أحمد أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليضروا لمحاربة الزنج، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، وأمر بإحضار الفعلة لقلعه، ففعل فرأى الموفق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدة اليسيرة منهم، في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سره فأمر لؤلؤا بصرف أصحابه إشفاقا عليهم، وضنا بهم، فوصلهم الموفق، وأحسن إليهم، وردهم إلى معسكرهم، وألح الموفق على هذا السكر، فكان يحارب المحامين عنه من أصحاب الخبيث بأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعملون في قلعه، ويحارب الفاجر وأشياعه من عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتلتهم، ويستأمن إليه الجماعة من رؤسائهم.
    وكانت قد بقيت للخبيث وأصحابه أرضون من ناحية نهر الغربي، كان لهم فيها مزارع وخضر وقنطرتان على نهر الغربي، يعبرون عليها إلى هذه الأرضين، فوقف أبو العباس على ذلك فقصد لتلك الناحية، واستأذن الموفق في ذلك، فأذن له، وأمره باختيار الرجال، وأن يجعلهم شجعاء أصحابه وغلمانه، ففعل أبو العباس ذلك، وتوجه نحو نهر الغربي، وجعل زيرك كمينا في جمع من أصحابه في غربي النهر، وأمر رشيقا غلامه أن يقصد في جمع كثير من أنجاد رجاله ومختاريهم للنهر المعروف بنهر العميسيين، ليخرج في ظهور الزنج وهم غارون، فيوقع بهم في هذه الأرضين وأمر زيرك أن يخرج في
    (9/651)
    وجوههم إذا أحس بانهزامهم من رشيق.
    وأقام أبو العباس في عدة شذوات قد انتخب مقاتلتها واختارهم في فوهة نهر الغربي، ومعه من غلمانه البيضان والسودان عدد قد رضيه، فلما ظهر رشيق للفجرة في شرقي نهر الغربي، راعهم فأقبلوا يريدون العبور إلى غربيه ليهربوا إلى عسكرهم، فلما عاينهم أبو العباس اقتحم النهر بالشذوات، وبث الرجاله على جافتيه، فأدركوهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل منهم في النهر وعلى ضفتيه خلق كثير، وأسر منهم أسرى، وأفلت آخرون، فتلقاهم زيرك في أصحابه فقتلوهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأخذ أصحاب أبي العباس من أسلحتهم ما ثقل عليهم حمله، حتى ألقوا أكثره وقطع أبو العباس القنطرتين، وأمر بإخراج ما كان فيهما من البدود والخشب إلى دجلة وانصرف إلى الموفق بالأسارى والرءوس، فطيف بها في العسكر، وانقطع عن الفسقة ما كانوا يرتفقون به من المزارع التي كانت بنهر الغربي.
    [أخبار متفرقة]
    وفي ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة تسع وستين ومائتين- أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.
    وفيها سمي صاعد ذا الوزارتين وفي ذي الحجة منها كانت وقعة بين قائدين وجيش معهما لابن طولون كان أحدهما يسمى محمد بن السراج والآخر منهما يعرف بالغنوي، كان ابن طولون وجههما، فوافيا مكة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعده في أربعمائة وسبعين فارسا وألفي راجل، فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤساء سبعة سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة إذ ذاك ببستان ابن عامر، فوافى مكة جعفر بن الباغمردي لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو من مائتي فارس، وتلقاه هارون في مائة وعشرين فارسا ومائتي
    (9/652)
    أسود وثلاثين فارسا من أصحاب عمرو بن الليث ومائتي راجل ممن قدم من العراق، فقوي بهم جعفر، فالتقوا هم وأصحاب ابن طولون، وأعان جعفرا حاج أهل خراسان، فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو من مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال وسلبوا دوابهم وأموالهم، ورفع جعفر السيف.
    وحوى جعفر مضرب الغنوي وقيل: أنه كان فيه مائتا ألف دينار، وآمن المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام ولعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار.
    وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، ولم يبرح إسحاق بن كنداج- وقد ولي المغرب كله في هذه السنة- سامرا حتى انقضت السنة.
    (9/653)
    ثم دخلت
    سنة سبعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) ففي المحرم منها كانت وقعة بين أبي أحمد وصاحب الزنج اضعفت اركان صاحب الزنج.
    ذكر الخبر عن قتل صاحب الزنج واسر من معه
    وفي صفر منها قتل الفاجر، وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق.
    ذكر الخبر عن هاتين الوقعتين:
    قد ذكرنا قبل أمر السكر الذي كان الخبيث أحدثه، وما كان من أمر أبي أحمد وأصحابه في ذلك ذكر أن أبا أحمد لم يزل ملحا على الحرب على ذلك السكر حتى تهيأ له فيه ما أحب، وسهل المدخل للشذا في نهر أبي الخصيب في المد والجزر، وسهل لأبي أحمد في موضعه الذي كان مقيما فيه كل ما أراده من رخص الأسعار وتتابع المير وحمل الأموال إليه من البلدان ورغبة الناس في جهاد الخبيث ومن معه من أشياعه، فكان ممن صار إليه من المطوعة أحمد بن دينار عامل إيذج ونواحيها من كور الأهواز في جمع كثير من الفرسان والرجالة، فكان يباشر الحرب بنفسه وأصحابه إلى أن قتل الخبيث ثم قدم بعده من أهل البحرين- فيما ذكر- خلق كثير، زهاء ألفي رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، فجلس لهم أبو أحمد، ودخل إليه رئيسهم ووجوههم، فأمر أن يخلع عليهم، واعترض رجالهم أجمعين وأمر بإقامة الأنزال لهم، وورد بعدهم زهاء ألف رجل من كور فارس، يرأسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة، فجلس لهم الموفق، فوصل إليه هذا الشيخ ووجوه
    (9/654)
    أصحابه، فأمر لهم بالخلع، وأقر لهم الأنزال، ثم تتابعت المطوعة من البلدان، فلما تيسر له ما أراد من السكر الذي ذكرنا، عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإعداد السفن والمعابر وإصلاح آلة الحرب في الماء وعلى الظهر، واختار من يثق ببأسه ونجدته في الحرب فارسا وراجلا، لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة الخنادق والأنهار بها، فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس، ومن الرجالة خمسين ألفا أو يزيدون، سوى من عبر من المطوعة وأهل العسكر، ممن لا ديوان له، وخلف بالموفقية من لم يتسع السفن بحمله جما كثيرا أكثرهم من الفرسان.
    وتقدم الموفق إلى أبي العباس في القصد للموضع الذي كان صار إليه في يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين من الجانب الشرقي بإزاء دار المهلبي في أصحابه وغلمانه ومن ضمهم إليه من الخيل والرجالة والشذا وأمر صاعد بن مخلد بالخروج على النهر المعروف بأبي شاكر في الجانب الشرقي أيضا، ونظم القواد من مواليه وغلمانه من فوهة نهر أبي الخصيب إلى نهر الغربي وكان فيمن خرج من حد دار الكرنبائي إلى نهر أبي شاكر راشد ولؤلؤ، موليا الموفق، في جمع من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفا، يتلو بعضهم بعضا، ومن نهر أبي شاكر إلى النهر المعروف بجوى كور جماعة من قواد الموالي والغلمان، ثم من نهر جوى كور إلى نهر الغربي مثل ذلك وأمر شبلا أن يقصد في أصحابه ومن ضم إليه إلى نهر الغربي، فيأتي منه مؤازيا لظهر دار المهلبي، فيخرج من ورائها عند اشتباك الحرب، وأمر الناس أن يزحفوا بجميعهم إلى الفاسق، لا يتقدم بعضهم بعضا، وجعل لهم أمارة الزحف، تحريك علم أسود أمر بنصبه على دار الكرنبائي بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع منها مشيد عال، وأن ينفخ لهم ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجعل بعض من كان على النهر المعروف بجوى كور يزحف قبل ظهور العلامة، حتى قرب
    (9/655)
    من دار المهلبي، فلقيه وأصحابه الزنج فردوهم إلى مواضعهم، وقتلوا منهم جمعا، ولم يشعر سائر الناس بما حدث على هؤلاء المتسرعين للقتال لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض.
    فلما خرج القواد ورجالهم من المواضع التي أمروا بالخروج منها، واستوى الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم والنفخ في البوق، ودخل النهر في الشذا، وزحف الناس يتلو بعضهم بعضا، فلقيهم الزنج قد حشدوا وجموا واجترءوا بما تهيأ لهم على من كان تسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، فأزالوهم عن مواضعهم بعد كرات كانت بين الفريقين، صرع فيها منهم جمع كثير وصبر أصحاب أبي أحمد، فمن الله عليهم بالنصر، ومنحهم أكتاف الفسقة، فولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب الموفق، يقتلون ويأسرون وأحاط أصحاب أبي أحمد بالفجرة من كل موضع، فقتل الله منهم في ذلك اليوم ما لا يحيط به الإحصاء، وغرق منهم في النهر المعروف بجوى كور مثل ذلك، وحوى أصحاب الموفق مدينة الفاسق بأسرها، واستنقذوا من كان فيها من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وأخويه الخليل ومحمد ابني أبان وسليمان بن جامع وأولادهم، وعبر بهم إلى المدينة الموفقية.
    ومضى الفاسق في أصحابه ومعه المهلبي وابنه أنكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هرابا، عامدين لموضع قد كان الخبيث رآه لنفسه ومن معه ملجأ إذا غلبوا على مدينته، وذلك على النهر المعروف بالسفياني.
    وكان أصحاب أبي أحمد حين انهزم الخبيث، وظفروا بما ظفروا به، أقاموا عند دار المهلبي الواغلة في نهر أبي الخصيب، وتشاغلوا بانتهاب ما كان في الدار وإحراقها وما يليها، وتفرقوا في طلب النهب، وكل ما بقي للفاسق وأصحابه مجموعا في تلك الدار.
    وتقدم أبو أحمد في الشذا قاصدا للنهر المعروف بالسفياني، ومعه لؤلؤ في
    (9/656)
    أصحابه الفرسان والرجالة، فانقطع عن باقي الجيش، فظنوا أنه قد انصرف، فانصرفوا إلى سفنهم بما حووا، وانتهى الموفق فيمن معه إلى معسكر الفاسق وأصحابه وهم منهزمون، فاتبعهم لؤلؤ وأصحابه حتى عبروا النهر المعروف بالسفياني، فاقتحم لؤلؤ النهر بفرسه، وعبر أصحابه خلفه، ومضى الفاسق حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه، فكشفوهم، فولوا هاربين وهم يتبعونهم، حتى عبروا النهر المعروف بالقريري، وعبر لؤلؤ وأصحابه خلفهم والجئوهم إلى النهر المعروف بالمساوان، فعبروه واعتصموا بجبل وراءه.
    وكان لؤلؤ وأصحابه الذين انفردوا بهذا الفعل دون سائر الجيش، فانتهى بهم الجد في طلب الفاسق وأشياعه إلى هذا الموضع الذي وصفنا في آخر النهار، فأمره الموفق بالانصراف محمود الفعل، فحمله الموفق معه في الشذا، وجدد له من البر والكرامة ورفع المرتبة، لما كان منه في أمر الفسقة حسب ما كان مستحقا ورجع الموفق في الشذا في نهر أبي الخصيب وأصحاب لؤلؤ يسايرونه فلما حاذى دار المهلبي، لم ير بها أحدا من أصحابه، فعلم أنهم قد انصرفوا، فاشتد غيظه عليهم، وسار قاصدا لقصره، وأمر لؤلؤ بالمضي بأصحابه إلى عسكره، وأيقن بالفتح لما رأى من أمارته، واستبشر الناس جميعا بما هيأ الله من هزيمة الفاسق وأصحابه وإخراجهم عن مدينتهم، واستباحة كل ما كان لهم من مال وذخيرة وسلاح، واستنفاذ جميع من كان في أيديهم من الأسرى وكان في نفس أبي أحمد على أصحابه من الغيظ لمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث وقفهم، فأمر بجمع قواد مواليه وغلمانه ووجوههم، فجمعوا له، فوبخهم على ما كان منهم وعجزهم، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما توهموا من انصرافه، وأنهم لم يعلموا بمسيره إلى الفاسق وانتهائه إلى حيث انتهى من عسكره، وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ولم يبرحوا موضعهم حتى تحالفوا وتعاقدوا على ألا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحو
    (9/657)
    الخبيث حتى يظفرهم الله به، فإن أعياهم ذلك أقاموا بمواضعهم حتى يحكم الله بينهم وبينه وسألوا الموفق أن يأمر برد السفن التي يعبرون فيها الى الموفقيه عند خروجهم منها للحرب، لتنقطع أطماع الذين يريدون الرجوع عن حرب الفاسق من ذلك، فجزاهم أبو أحمد الخير على تنصلهم من خطئهم، ووعدهم الإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، وأن يعظوا أصحابهم بمثل الذي وعظوا به وأقام الموفق بعد ذلك يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لإصلاح ما يحتاج إليه، فلما كمل ذلك تقدم إلى من يثق إليه من خاصته وقواد غلمانه ومواليه، بما يكون عليه عملهم في وقت عبورهم.
    وفي عشي يوم الجمعة، تقدم إلى أبي العباس وقواد غلمانه ومواليه بالنهوض إلى مواضع سماها لهم، فأمر أبا العباس بالقصد في أصحابه إلى الموضع المعروف بعسكر ريحان، وهو بين النهر المعروف بالسفياني والموضع الذي لجأ إليه، وأن يكون سلوكه بجيشه في النهر المعروف بنهر المغيرة، حتى يخرج بهم في معترض نهر أبي الخصيب، فيوافي بهم عسكر ريحان من ذلك الوجه، وأنفذ قائدا من قواد غلمانه السودان، وأمره أن يصير إلى نهر الأمير فيعترض في المنصف منه، وأمر سائر قواده وغلمانه بالمبيت في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء عسكر الفاسق متأهبين للغدو على محاربته وجعل الموفق يطوف في الشذا على القواد ورجالهم في عشي يوم الجمعة وليلة السبت، ويفرقهم في مراكزهم والمواضع التي رتبهم فيها من عسكر الفاسق، ليباكروا المصير إليها على ما رسم لهم.
    وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فوافى نهر أبي الخصيب في الشذا، فأقام بها حتى تكامل عبور الناس وخروجهم عن سفنهم، وأخذ الفرسان والرجالة مراكزهم، وأمر بالسفن والمعابر فردت إلى الجانب الشرقي، وأذن للناس في الزحف إلى الفاسق، وسار يقدمهم حتى وافى الموضع الذي قدر أن يثبت الفسقة فيه لمدافعة الجيش عنهم.
    وقد كان الخائن وأصحابه لخبثهم رجعوا إلى المدينة يوم الاثنين بعد انصراف
    (9/658)
    الجيش عنها، وأقاموا بها، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام، وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه ورجالتهم قد سبقوا أعظم الجيش، فأوقعوا بالفاجر وأصحابه وقعة أزالوهم بها عن مواقفهم، فانهزموا وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، واتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الفاسق في جماعة من حماته من قواد الجيش ورجالهم، وفيهم المهلبي.
    وفارقه ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع، فقصد لكل فريق ممن سمينا جمع كثيف من موالي الموفق وغلمانه الفرسان والرجالة، ولقي من كان رتبه الموفق من أصحاب أبي العباس في الموضع المعروف بعسكر ريحان المنهزمين من أصحاب الفاجر، فوضعوا فيهم السلاح ووافى القائد المرتب في نهر الأمير، فاعترض الفجرة، فأوقع بهم وصادف سليمان بن جامع فحاربه، فقتل جماعة من حماته، فظفر بسليمان فأسره، فأتى به الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان، وكثر التكبير والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء عنه وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني- وكان أحد أمراء جيوشه- وأسر نادر الأسود المعروف بالحفار، وهو أحد قدماء أصحاب الفاجر- فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وتصييرهم في شذاة لأبي العباس.
    ففعل ذلك.
    ثم أن الزنج الذين انفردوا مع الفاسق عطفوا على الناس عطفة أزالوهم بها عن مواقفهم، ففتروا لذلك، وأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث، وأمعن في نهر أبي الخصيب، فشد ذلك من قلوب مواليه وغلمانه، ووجدوا في الطلب معه.
    وانتهى الموفق إلى نهر أبي الخصيب، فوافاه البشير بقتل الفاجر، ولم يلبث أن وافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه، فقوي الخبر عنده بعض القوة ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض على فرس، ومعه رأس الخبيث،
    (9/659)
    فأدناه منه، فعرضه على جماعة ممن كان بحضرته من قواد المستأمنة، فعرفوه.
    فخر لله ساجدا على ما أولاه وأبلاه، وسجد أبو العباس وقواد موالي الموفق وغلمانه شكرا لله، وأكثروا حمد الله والثناء عليه، وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه، فتأمله الناس وعرفوا صحة الخبر بقتله، فارتفعت أصواتهم بالحمد لله وذكر أن أصحاب الموفق لما أحاطوا بالخبيث، ولم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي، ولى عنه هاربا واسلمه وقصد النهر المعروف بنهر الأمير، فقذف نفسه فيه يريد النجاة، وقبل ذلك ما كان ابن الخبيث أنكلاي فارق أباه، ومضى يؤم النهر المعروف بالديناري، فأقام فيه متحصنا بالأدغال والآجام، وانصرف الموفق ورأس الخبيث منصوب بين يديه على قناة في شذاة، يخترق بها نهر أبي الخصيب، والناس في جنبتي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة، فخرج إليها فأمر برد السفن التي كان عبر بها في أول النهار إلى الجانب الشرقي من دجلة، فردت ليعبر الناس فيها.
    ثم سار ورأس الخبيث بين يديه على القناة، وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان في الشذا، حتى وافى قصره بالموفقية وأمر أبا العباس بركوب الشذا وإقرار الرأس وسليمان والهمداني على حالهم والسير بهم إلى نهر جطى، وهو أول عسكر الموفق، ليقع عليهم عيون الناس جميعا في العسكر، ففعل ذلك وانصرف إلى أبيه أبي أحمد فأمر بحبس سليمان والهمداني وإصلاح الرأس وتنقيته.
    وذكر أنه تتابع مجيء الزنج الذين كانوا أقاموا مع الخبيث وآثروا صحبته، فوافى ذلك اليوم زهاء ألف منهم، ورأى الموفق بذل الأمان، لما رأى من كثرتهم وشجاعتهم، لئلا تبقى منهم بقية تخاف معرتها على الإسلام وأهله، فكان من وافى من قواد الزنج ورجالهم في بقية يوم السبت وفي يوم الأحد
    (9/660)
    والاثنين زهاء خمسة آلاف زنجي، وكان قد قتل في الوقعة وغرق وأسر منهم خلق كثير لا يوقف على عددهم، وانقطعت منهم قطعه زهاء الف رنجى مالوا نحو البر، فمات أكثرهم عطشا، فظفر الأعراب بمن سلم منهم واسترقوهم.
    وانتهى إلى الموفق خبر المهلبي وأنكلاي ومقامهما بحيث أقاما مع من تبعهما من جلة قواد الزنج ورجالهم، فبث أنجاد غلمانه في طلبهم، وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا بأن لا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم، فظفر بهم الموفق وبمن معهم، حتى لم يشذ أحد وقد كانوا على نحو العدة التي خرجت إلى الموفق بعد قتل الفاجر في الأمان، فأمر الموفق بالاستيثاق من المهلبي وأنكلاي وحبسهما، ففعل.
    وكان فيمن هرب من عسكر الخبيث يوم السبت ولم يركن إلى الأمان قرطاس الذي كان رمى الموفق بالسهم، فانتهى به الهرب إلى رامهرمز، فعرفه رجل قد كان رآه في عسكر الخبيث فدل عليه عامل البلد، فأخذه وحمله في وثاق، فسأل أبو العباس أباه أن يوليه قتله فدفعه اليه فقتله.
    ذكر خبر استئمان درمويه الزنجي الى ابى احمد
    وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه هذا- فيما ذكر- من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الفاجر وجهه قبل هلاكه بمدة طويلة إلى أواخر نهر الفهرج، وهي من البصرة في غربي دجلة، فأقام هنالك بموضع وعر كثير النخل والدغل والآجام متصل بالبطيحة، وكان درمويه ومن معه هنالك يقطعون على السابلة في زواريق خفاف وسميريات اتخذوها لأنفسهم، فإذا طلبهم أصحاب الشذا ولجوا الأنهار الضيقة، واعتصموا بمواضع الأدغال منها، وإذا تعذر عليهم مسلك نهر منها لضيقها خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم، ولجئوا إلى هذه المواضع الممتنعة.
    وفي خلال ذلك يغيرون على قرى البطيحة وما يليها، فيقتلون ويسلبون
    (9/661)
    من ظفروا به، فمكث درمويه ومن معه يفعلون هذه الأفعال إلى أن قتل الفاجر وهم بموضعهم الذي وصفنا أمره، لا يعلمون بشيء مما حدث على صاحبهم فلما فتح بقتل الخبيث موضعه، وأمن الناس وانتشروا في طلب المكاسب وحمل التجارات، وسلكت السابلة دجلة، أوقع درمويه بهم، فقتل وسلب، فأوحش الناس ذلك، واشرأب لمثل ما فيه درمويه جماعة من شرار الناس وفساقهم، وحدثوا أنفسهم بالمصير إليه وبالمقام معه على مثل ما هو عليه، فعزم الموفق على تسريح جيش من غلمانه السودان ومن جرى مجراهم من أهل البصر بالحرب في الأدغال ومضايق الأنهار، وأعد لذلك صغار السفن وصنوف السلاح، فبينا هو في ذلك وافى رسول لدرمويه يسأل الأمان له على نفسه وأصحابه، فرأى الموفق أن يؤمنه ليقطع مادة الشر الذي كان فيه الناس من الفاجر وأشياعه.
    وذكر أن سبب طلب درمويه الأمان كان أنه كان فيمن أوقع به قوم ممن خرج من عسكر الموفق للقصد إلى منازلهم بمدينة السلام، فيهم نسوة، فقتلهم وسلبهم، وغلب على النسوة اللاتي كن معهم، فلما صرن في يده بحثهن عن الخبر، فأخبرنه بقتل الفاسق والظفر بالمهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع وغيرهم من رؤساء أصحاب الفاسق وقواده ومصير أكثرهم إلى الموفق في الأمان وقبوله إياهم وإحسانه إليهم، فأسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا التعوذ بالأمان ومسألة الموفق الصفح عن جرمه، فوجه في ذلك، فأجيب إليه.
    فلما ورد عليه الأمان خرج وجميع من معه حتى وافى عسكر الموفق، فوافت منهم قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبها بؤس الحصار وضره مثل ما أصاب سائر أصحاب الخبيث، لما كان يصل إليهم من أموال الناس وميرهم.
    فذكر أن درمويه لما أومن وأحسن إليه وإلى أصحابه، أظهر كل ما كان في يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم، ورد كل شيء منه إلى أهله ردا ظاهرا مكشوفا، فووفق بذلك على إنابته، فخلع عليه وعلى وجوه
    (9/662)
    أصحابه وقواده، ووصلوا فضمهم الموفق إلى قائد من قواد غلمانه، وأمر الموفق أن يكتب إلى أمصار الإسلام بالنداء في أهل البصرة والأبلة وكور دجلة وأهل الأهواز وكورها وأهل واسط وما حولها مما دخله الزنج بقتل الفاسق، وأن يؤمروا بالرجوع إلى أوطانهم ففعل ذلك، فسارع الناس إلى ما أمروا به، وقدموا المدينة الموفقية من جميع النواحي.
    وأقام الموفق بعد ذلك بالموفقية ليزداد الناس بمقامه أمنا وإيناسا، وولى البصرة والأبلة وكور دجلة رجلا من قواد مواليه قد كان حمد مذهبه، ووقف على حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس، فأمره بالانتقال إلى البصرة والمقام بها.
    وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة وواسط محمد بن حماد وقدم ابنه أبا العباس إلى مدينة السلام، ومعه رأس الخبيث صاحب الزنج ليراه الناس، فاستبشروا، فنفذ ابو العباس في جيشه حتى وافى مدينة السلام يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فدخلها في أحسن زي، وأمر برأس الخبيث فسير به بين يديه على قناة، واجتمع الناس لذلك.
    وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه من لدن خرج إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، وكان دخوله البصرة وقتله أهلها وإحراقه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين، فقال- فيما كان من أمر الموفق، وأمر المخذول- الشعراء أشعارا كثيرة، فمما قيل في ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:
    أقول وقد جاء البشير بوقعة ... أعزت من الإسلام ما كان واهيا
    جزى الله خير الناس للناس بعد ما ... أبيح حماهم خير ما كان جازيا
    (9/663)
    تفرد إذ لم ينصر الله ناصر ... بتجديد دين كان أصبح باليا
    وتشديد ملك قد وهى بعد عزه ... وإدراك ثارات تبير الأعاديا
    ورد عمارات أزيلت وأخربت ... ليرجع فيء قد تخرم وافيا
    ويرجع أمصار أبيحت وأحرقت ... مرارا فقد أمست قواء عوافيا
    ويشفى صدور المؤمنين بوقعه ... يقر بها منا العيون البواكيا
    ويتلى كتاب الله في كل مسجد ... ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا
    فأعرض عن أحبابه ونعيمه ... وعن لذة الدنيا وأقبل غازيا
    في قصيدة طويلة ومن ذلك أيضا قوله:
    أين نجوم الكاذب المارق ... ما كان بالطب ولا الحاذق
    صبحه بالنحس سعد بدا ... لسيد في قوله صادق
    فخر في مأزقه مسلما ... إلى أسود الغاب في المأزق
    وذاق من كأس الردى شربة ... كريهة الطعم على الذائق
    وقال فيه يحيى بن خالد:
    يا بن الخلائف من أرومة هاشم ... والغامرين الناس بالأفضال
    والذائدين عن الحريم عدوهم ... والمعلمين لكل يوم نزال
    ملك أعاد الدين بعد دروسه ... واستنقذ الأسرى من الأغلال
    أنت المجير من الزمان إذا سطا ... وإليك يقصد راغب بسؤال
    أطفأت نيران النفاق وقد علت ... يا واهب الآمال والآجال
    لله درك من سليل خلائف ... ماضي العزيمة طاهر السربال
    أفنيت جمع المارقين فأصبحوا ... متلددين قد أيقنوا بزوال
    أمطرتهم عزمات رأي حازم ... ملأت قلوبهم من الأهوال
    لما طغى الرجس اللعين قصدته ... بالمشرفي وبالقنا الجوال
    (9/664)
    وتركته والطير يحجل حوله ... متقطع الأوداج والأوصال
    يهوي إلى حر الجحيم وقعرها ... بسلاسل قد أوهنته ثقال
    هذا بما كسبت يداه وما جنى ... وبما أتى من سيئ الأعمال
    أقررت عين الدين ممن قاده ... وادلته من قاتل الأطفال
    صال الموفق بالعراق فافزعت ... من بالمغارب صولة الأبطال
    وفيه يقول أيضا يحيى بن خالد بن مروان:
    أبن لي جوابا أيها المنزل القفر ... فلا زال منهلا بساحاتك القطر
    أبن لي عن الجيران أين تحملوا ... وهل عادت الدنيا، وهل رجع السفر!
    وكيف تجيب الدار بعد دروسها ... ولم يبق من أعلام ساكنها سطر
    منازل أبكاني مغاني أهلها ... وضاقت بي الدنيا وأسلمني الصبر
    كأنهم قوم رغا البكر فيهم ... وكان على الأيام في هلكهم نذر
    وعاثت صروف الدهر فيهم فأسرعت ... وشر ذوي الأصعاد ما فعل الدهر
    فقد طابت الدنيا وأينع نبتها ... بيمن ولي العهد وانقلب الأمر
    وعاد إلى الأوطان من كان هاربا ... ولم يبق للملعون في موضع إثر
    بسيف ولي العهد طالت يد الهدى ... وأشرق وجه الدين واصطلم الكفر
    وجاهدهم في الله حق جهاده ... بنفس لها طول السلامة والنصر
    وهي طويلة وقال يحيى بن محمد:
    عني اشتغالك إني عنك في شغل ... لا تعذلي من به وقر عن العذل
    لا تعذلي في ارتحالي إنني رجل ... وقف على الشد والإسفار والرحل
    فيم المقام إذا ما ضاق بي بلد ... كأنني لحجال العين والكلل
    ما استيقظت همة لم تلف صاحبها ... يقظان قد جانبته لذة المقل
    ولم يبت أمنا من لم يبت وجلا ... من أن يبيت له جار على وجل
    (9/665)
    وهي أيضا طويلة.
    وفي هذه السنة في شهر ربيع الأول منها، ورد مدينة السلام الخبر أن الروم نزلت بناحية باب قلمية على ستة أميال من طرسوس، وهم زهاء مائة ألف، يرأسهم بطريق البطارقة أندرياس، ومعه أربعة أخر من البطارقة، فخرج إليهم يازمان الخادم ليلا، فبيتهم، فقتل بطريق البطارقة وبطريق القباذيق وبطريق الناطلق، وأفلت بطريق قرة وبه جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة، فيها صليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل، ومن السروج نحو من ذلك، وسيوف محلاة بذهب وفضة وآنية كثيرة، ونحو من عشرة آلاف علم ديباج، وديباج كثير وبزيون ولحف سمور، وكان النفير إلى أندرياس يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول، فكبس ليلا وقتل من الروم خلق كثير، فزعم بعضهم أنه قتل منهم سبعون ألفا وفيها توفي هارون بن أبي أحمد الموفق بمدينة السلام يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى.
    ولست خلون من شعبان منها، ورد الخبر بموت أحمد بن طولون مدينة السلام- فيما ذكر وقال بعضهم: كانت وفاته يوم الاثنين لثمان عشرة مضت من ذي القعدة منها.
    وفيها مات الحسن بن يزيد العلوي بطبرستان، إما في رجب، وإما في شعبان.
    وللنصف من شعبان دخل المعتمد بغداد، وخرج من المدينة حتى نزل بحذاء قطربل في تعبئة، ومحمد بن طاهر يسير بين يديه بالحربة، ثم مضى إلى سامرا.
    وفيها كان فداء أهل ساتيدما على يدي يازمان في سلخ رجب منها.
    وفي يوم الأحد لتسع بقين من شعبان من هذه السنة شغب أصحاب
    (9/666)
    أبي العباس بن الموفق ببغداد على صاعد بن مخلد وهو وزير الموفق، فطلبوا الأرزاق، فخرج إليهم أصحاب صاعد ليدفعوهم، فصارت رجالة أبي العباس إلى رحبة الجسر، وأصحاب صاعد داخل الأبواب بسوق يحيى، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى، وجرحت جماعة، ثم حجز بينهم الليل، وبكروا من الغد، فوضع لهم العطاء واصطلحوا.
    وفي شوال منها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداج وابن دعباش، وكان ابن دعباش على الرقة وأعمالها، وعلى الثغور والعواصم من قبل ابن طولون، وابن كنداج على الموصل من قبل السلطان.
    وفيها انبثق ببغداد في الجانب الغربي منها من نهر عيسى من الياسرية بثق، فغرق الدباغين وأصحاب الساج بالكرخ، ذكر أنه دق سبعة آلاف دار ونحوها وقتل في هذه السنة ملك الروم المعروف بابن الصقلبي وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي بن عيسى ابن موسى بْن محمد بْن علي بْن عبد الله بن العباس.
    (9/667)
    الجزء العاشر
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
    ثم دخلت
    سنة إحدى وسبعين ومائتين
    وأولها يوم الاثنين للتاسع والعشرين من حزيران، ولخمس وتسعين ومائة وألف من عهد ذي القرنين.
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة:
    فمن ذلك ما كان فيها من ورود الخبر في غرة صفر بدخول محمد وعلي ابني الحسين بن جعفر بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ المدينة وقتلهما جماعة من أهلها ومطالبتهما أهلها بمال، وأخذهما من قوم منهم مالا وأن أهل المدينة لم يصلوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أربع جمع، لا جمعة ولا جماعة، فقال أبو العباس بن الفضل العلوي:
    أخربت دار هجرة المصطفى البر ... فأبكى إخرابها المسلمينا
    عين فابكي مقام جبريل والقبر ... فبكي والمنبر الميمونا
    وعلى المسجد الذي أسه التقوى ... خلاء أضحى من العابدينا
    وعلى طيبة التي بارك الله ... عليها بخاتم المرسلينا
    قبح الله معشرا اخربوها ... وأطاعوا متبرئا ملعونا
    وفيها ادخل على المعتمد من كان حصر بغداد من حاج خراسان، فأعلمهم أنه قد عزل عمرو بن الليث عما كان قلده، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قد قلد خراسان محمد بن طاهر، وكان ذلك لأربع بقين من شوال.
    وأمر أيضا بلعن عمرو بن الليث على المنابر، فلعن.
    ولثمان بقين من شعبان من هذه السنة شخص صاعد بن مخلد من معسكر أبي أحمد بواسط إلى فارس لحرب عمرو بن الليث.
    ولعشر خلون من شهر رمضان منها عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة
    (10/7)
    وفيها كانت بين أبي العباس بن الموفق وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين، فهزم أبو العباس خمارويه، فركب خمارويه حمارا هاربا منه إلى مصر، ووقع أصحاب أبي العباس في النهب ونزل أبو العباس مضرب خمارويه، ولا يرى أنه بقي له طالب، فخرج عليه كمين لخمارويه كان كمنه لهم خمارويه، وفيهم سعد الأعسر وجماعة من قواده وأصحابه، وأصحاب أبي العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا فشد كمين خمارويه عليهم فانهزموا، وتفرق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس في نفر من أصحابه قليل، وذهب كل ما كان في العسكرين، عسكر أبي العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب ذلك كله، وكانت هذه الوقعة يوم السادس عشر من شوال من هذه السنة- فيما قيل.
    وفيها وثب يوسف بن أبي الساج- وكان والي مكة- على غلام للطائي يقال له بدر، وخرج واليا على الحاج فقيده، فحارب ابن أبي الساج جماعة من الجند، وأغاثهم الحاج، حتى استنقذوا غلام الطائي، وأسروا ابن أبي الساج، فقيد وحمل إلى مدينة السلام، وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام.
    وفيها خربت العامة الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى، وانتهبوا كل ما كان فيه من متاع، وقلعوا الأبواب والخشب وغير ذلك، وهدموا بعض حيطانه وسقوفه، فصار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر، فمنعهم من هدم ما بقي منه، وكان يتردد إليه أياما هو والعامة، حتى يكاد يكون بين أصحاب السلطان وبينهم قتال، ثم بنى ما كانت العامة هدمته بعد أيام، وكانت إعادة بنائه- فيما ذكر- بقوة عبدون بن مخلد، أخي صاعد بن مخلد.
    وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى العباسي.
    (10/8)
    ثم دخلت
    سنة اثنتين وسبعين ومائتين
    أولها يوم الجمعة للثامن عشر من حزيران، سنة ست وتسعين ومائة وألف لذي القرنين.
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث:) فمما كان فيها من ذلك إخراج أهل طرسوس أبا العباس بن الموفق من طرسوس، لخلاف كان وقع بينه وبين يازمان، فخرج عنها يريد بغداد للنصف من المحرم من هذه السنة وفيها توفي سليمان بن وهب في حبس الموفق يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة بقيت من صفر.
    وفيها تجمعت العامة، فهدموا ما كان بني من البيعة يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الآخر.
    4 وفيها حكم شار في طريق خراسان، وصار إلى دسكرة الملك، فقتل وانتهب.
    وفيها ورد الخبر مدينة السلام بدخول حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى الشاري بهم في مسجد الجامع.
    وفيها قدم أبو العباس بن الموفق بغداد منصرفا من وقعته مع ابن طولون بالطواحين لتسع بقين من جمادى الآخرة.
    وفيها نقب المطبق من داخله، وأخرج الذوائبي العلوي ونفسان معه، وكانوا قد أعدت لهم دواب توقف في كل ليلة ليخرجوا فيركبوها هاربين.
    فنذر بهم، وغلقت أبواب مدينة أبي جعفر المنصور، فأخذ الذوائبي ومن خرج معه، وركب محمد بن طاهر، وكتب بالخبر إلى الموفق وهو مقيم بواسط، فأمر أن تقطع يد الذوائبي ورجله من خلاف، فقطع في مجلس الجسر بالجانب الغربي، ومحمد بن طاهر واقف على دابته، وكوي يوم الاثنين لثلاث
    (10/9)
    خلون من جمادى الآخرة.
    وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس، ودخل واسط في رجب، فأمر الموفق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه، وترجلوا له، وقبلوا كفه.
    وفيها قبض الموفق على صاعد بن مخلد بواسط وعلى أسبابه، وانتهب منازلهم يوم الاثنين لتسع خلون من رجب، وقبض على ابنيه أبي عيسى وأبي صالح ببغداد، وعلى أخيه عبدون وأسبابه بسامرا، وذلك كله في يوم واحد، وهو اليوم الذي قبض فيه على صاعد، واستكتب الموفق إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة دون غيرها.
    ووردت الأخبار فيها أن مصر زلزلت في جمادى الآخرة زلازل أخربت الدور والمسجد الجامع، وإنه أحصى في يوم واحد بها ألف جنازة.
    وفيها غلا السعر ببغداد، وذلك أن أهل سامرا منعوا- فيما ذكر- سفن الدقيق من الانحدار إليها، ومنع الطائي أرباب الضياع من دياس الطعام وقسمه، يتربص بذلك غلاء الأسعار، فمنع أهل بغداد الزيت والصابون والتمر وغير ذلك من حمله إلى سامرا، وذلك في النصف من شهر رمضان.
    وفيها ضجت العامة بسبب غلاء السعر، واجتمعت للوثوب بالطائي، فانصرفوا من مسجد الجامع للنصف من شوال إلى داره بين باب البصرة وباب الكوفة، وجاءوه من ناحية الكرخ، فأصعد الطائي أصحابه على السطوح، فرموهم بالنشاب، وأقام رجاله على بابه وفي فناء داره بالسيوف والرماح، فقتل بعض العامة، وجرحت منهم جماعة، ولم يزالوا يقاتلونهم إلى الليل، فلما كان الليل انصرفوا، وباكروه من غد، فركب محمد بن طاهر، فسكن الناس وصرفهم عنه.
    وفيها توفي إسماعيل بن بريه الهاشمي، يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها.
    ولثمان بقين منها توفي عبيد الله بن عبد الله الهاشمي
    (10/10)
    وفيها كانت للزنج بواسط حركة، فصاحوا: أنكلاي، يا منصور! وكان أنكلاي والمهلبي وسليمان بن جامع والشعراني والهمداني وآخر معهم من قواد الزنج محتبسين في دار محمد بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام في دار البطيخ، في يد غلام من غلمان الموفق، يقال له: فتح السعيدي، فكتب الموفق الى فتح ان يوجه برءوس هؤلاء السته، فدخل اليهم، فجعل يخرج الاول فالأول منهم، فذبحهم غلام له، وقلع راس بالوعة في الدار، وطرحت اجسادهم فيها، وسد راسها، ووجه رءوسهم الى الموفق وفيها ورد كتاب الموفق على محمد بن طاهر في جثث هؤلاء السته المقتولين، فأمره بصلبها بحضره الجسر، فاخرجوا من البالوعة، وقد انتفخوا، وتغيرت روائحهم، وتقشر بعض جلودهم، فحملوا في المحامل: المحمل بين رجلين، وصلب ثلاثة منهم في الجانب الشرقى، وثلاثة في الجانب الغربي، وذلك لسبع بقين من شوال من هذه السنه، وركب محمد بن طاهر حتى صلبوا بحضرته.
    وفيها صلح امر مدينه رسول الله ص، وعمرت، وتراجع الناس إليها.
    وفيها غزا الصائفه يازمان.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى الهاشمى.
    (10/11)
    ثم دخلت
    سنه ثلاث وسبعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كانت وقعه بين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وعمرو بن الليث الصفار يوم السادس عشر من شهر ربيع الاول.
    وفيها كانت أيضا وقعه بين إسحاق بن كنداج ومحمد بن ابى الساج بالرقة، فانهزم إسحاق، وكان ذلك يوم الثلاثاء لتسع خلون من جمادى الاولى.
    وفيها قدمت رسل يازمان من طرسوس، فذكروا ان ثلاثة بنين لطاغيه الروم وثبوا عليه، فقتلوه وملكوا احدهم عليهم.
    وفيها قيد ابو احمد لؤلؤا القادم عليه بالأمان من عند ابن طولون، واستصفى ماله، لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنه وذكر ان الذى أخذ من ماله كان أربعمائة الف دينار.
    وذكروا عن لؤلؤ انه قال: ما عرفت لنفسي ذنبا استوجبت به ما فعل بي الا كثره مالي.
    وفيها كانت بين محمد بن ابى الساج وإسحاق بن كنداج وقعه اخرى لاربع عشره ليله خلت من ذي الحجه، وكانت الدبره فيها على بن كنداج.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس.
    (10/12)
    ثم دخلت
    سنه اربع وسبعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك شخوص ابى احمد الى كرمان لحرب عمرو بن الليث لاثنتى عشره بقيت من شهر ربيع الاول.
    وفيها غزا يازمان، فبلغ المسكنين، فاسر وغنم، وسلم والمسلمون، وذلك في شهر رمضان منها.
    وفيها دخل صديق الفرغاني دور سامرا، فاغار على اموال التجار، واكثر العيث في الناس، وكان صديق هذا يخفر أولا الطريق، ثم تحول لصا خاربا يقطع الطريق.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمى.
    (10/13)
    ثم دخلت
    سنه خمس وسبعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من توجيه الطائي جيشا الى سامرا بسبب ما احدث صديق بها واطلاقه أخاه من السجن، وكان أسيرا عنده، وذلك في المحرم من هذه السنه: ثم خرج الطائي الى سامرا، وارسل صديقا ووعده ومناه وامنه، فعزم على الدخول اليه في الامان، فحذره ذلك غلام له يقال له هاشم، وكان- فيما ذكر- شجاعا، فلم يقبل منه، ودخل سامرا مع اصحابه، وصار الى الطائي، فأخذه الطائي، ومن دخل معه منهم، فقطع يد صديق ورجله ويد هاشم ورجله وأيدي جماعه من اصحابه وارجلهم وحبسهم، ثم حملهم في محامل الى مدينه السلام، وقد ابرزت ايديهم وارجلهم المقطعه ليراها الناس، ثم حبسوا.
    وفيها غزا يازمان في البحر، فاخذ للروم اربعه مراكب.
    وفيها تصعلك فارس العبدى، فعاث بناحيه سامرا، وصار الى كوخها، فانتهب دور آل حسنج، فشخص الطائي اليه، فلحقه بالحديثه، فاقتتلا، فهزمه الطائي وأخذ سواده، وصار الطائي الى دجلة، فدخل طيارة ليعبرها، فادركه اصحاب العبدى فتعلقوا بكوثل الطيار، فرمى الطائي بنفسه في دجلة، فعبرها سباحه، فلما خرج منها نفض لحيته من الماء، وقال: ايش ظن العبدى؟ اليس انا اسبح من سمكه! ثم نزل الطائي الجانب الشرقى والعبدى بازائه في الجانب الغربي وفي انصراف الطائي قال على بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام:
    قد اقبل الطائي، لا اقبلا ... قبح في الافعال ما اجملا
    كأنه من لين ألفاظه ... صبيه تمضغ جهد البلا
    (10/14)
    وفيها امر ابو احمد بتقييد الطائي وحبسه، ففعل ذلك لاربع عشره خلت من شهر رمضان، وختم على كل شيء له، وكان يلى الكوفه وسوادها وطريق خراسان وسامرا والشرطه ببغداد، وخراج بادوريا وقطربل ومسكن وشيئا من ضياع الخاصة.
    وفيها حبس ابو احمد ابنه أبا العباس، فشغب اصحابه، وحملوا السلاح، وركب غلمانه، واضطربت بغداد لذلك، فركب ابو احمد لذلك حتى بلغ باب الرصافه، وقال لأصحاب ابى العباس وغلمانه فيما ذكر: ما شأنكم؟
    اترونكم اشفق على ابنى منى! هو ولدى، واحتجت الى تقويمه، فانصرف الناس، ووضعوا السلاح، وذلك يوم الثلاثاء لست خلون من شوال من هذه السنه.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد الهاشمى.
    (10/15)
    ثم دخلت
    سنه ست وسبعين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ضم الشرطه بمدينه السلام الى عمرو بن الليث، وكتب فيها على الاعلام والمطارد والترسه- التي تكون في مجلس الجسر- اسمه، وذلك في المحرم.
    ولاربع عشره خلت من شهر ربيع الاول من هذه السنه شخص ابو احمد من مدينه السلام الى الجبل، وكان سبب شخوصه إليها- فيما ذكر- ان الماذرائى كاتب اذكوتكين، اخبره ان له هنالك مالا عظيما، وانه ان شخص صار ذلك اليه، فشخص اليه فلم يجد من المال الذى اخبره به شيئا، فلما لم يجد ذلك شخص الى الكرج، ثم الى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فتنحى له احمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله، وترك داره بفرشها لينزلها ابو احمد إذا قدم.
    وقدم محمد بن ابى الساج على ابى احمد قبل شخوصه من مضربه بباب خراسان هاربا من ابن طولون، بعد وقعات كانت بينهما، ضعف في آخر ذلك ابن ابى الساج عن مقاومته، لقله من معه وكثره من مع ابن طولون من الرجال، فلحق بابى احمد، فانضم اليه، فخلع ابو احمد عليه، واخرجه معه الى الجبل.
    وفيها ولى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر شرطه بغداد، من قبل عمرو بن الليث في شهر ربيع الآخر.
    وفيها ورد الخبر بانفراج تل بنهر الصلة- ويعرف بتل بنى شقيق- عن سبعه اقبر فيها سبعه ابدان صحيحه، عليها اكفان جدد لينه، لها اهداب، تفوح منها رائحه المسك، احدهم شاب له جمه، وجبهته وأذناه وخداه وانفه وشفتاه وذقنه واشفار عينيه صحيحه، وعلى شفتيه بلل، كأنه قد شرب ماء، وكأنه قد كحل، وبه ضربه في خاصرته، فردت عليه أكفانه
    (10/16)
    وحدثنى بعض أصحابنا انه جذب من شعر بعضهم، فوجده قوى الأصل نحو قوه شعر الحى، وذكر ان التل انفرج عن هذه القبور عن شبه الحوض من حجر في لون المسن، عليه كتاب لا يدرى ما هو! وفيها امر بطرح المطارد والاعلام والترسه التي كانت في مجالس الشرطه التي عليها اسم عمرو بن الليث، واسقاط ذكره، وذلك لإحدى عشره خلت من شوال.
    وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمى، وكان واليا على مكة والمدينة والطائف.
    (10/17)
    ثم دخلت
    سنه سبع وسبعين ومائتين
    (ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذلك دعاء يازمان بطرسوس لخمارويه بن احمد بن طولون، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان خمارويه وجه اليه بثلاثين الف دينار وخمسمائة ثوب وخمسين ومائه دابه وخمسين ومائه ممطر وسلاح، فلما وصل ذلك اليه دعا له، ثم وجه اليه بخمسين الف دينار.
    وفي أول شهر ربيع الآخر كان بين وصيف خادم ابن ابى الساج والبرابره اصحاب ابى الصقر شر، فاقتتلوا، فقتل من غلمان الخادم اربعه غلمان ومن البرابره سبعه، فكانت الحرب بينهم بباب الشام الى شارع باب الكوفه، فركب اليهم ابو الصقر، فكلمهم فتفرقوا، ثم عادوا للشر بعد يومين، فركب اليهم ابو الصقر فسكنهم.
    وفيها ولى يوسف بن يعقوب المظالم، فامر ان ينادى: من كانت له مظلمه قبل الأمير الناصر لدين الله او احد من الناس فليحضر وتقدم الى صاحب الشرطه الا يطلق أحدا من المحبسين الا من راى اطلاقه يوسف، بعد ان يعرض عليه قصصهم.
    وفي أول يوم من شعبان قدم قائد من قواد ابن طولون في جيش عظيم من الفرسان والرجاله بغداد وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمى.
    (10/18)
    ثم دخلت
    سنه ثمان وسبعين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك الحرب التي كانت بين اصحاب وصيف الخادم والبربر واصحاب موسى، ابن اخت مفلح اربعه ايام تباعا، ثم اصطلحوا، وقد قتل بينهم بضعه عشر رجلا، وذلك في أول المحرم، ثم وقع في الجانب الشرقى حرب بين النصريين واصحاب يونس، قتل فيها رجل، ثم افترقوا.
    وفيها انحدر وصيف خادم ابن ابى الساج الى واسط بأمر ابى الصقر لتكون عده له- فيما ذكر- وذلك انه اصطنعه واصحابه، واجازه بجوائز كبيره، وادر على اصحابه أرزاقهم، وكان قد بلغه قدوم ابى احمد، فخافه على نفسه لما كان من اتلافه ما كان في بيوت اموال ابى احمد، حتى لم يبق فيها شيء بالهبه التي كان يهب، والجوائز التي كان يجيز، والخلع التي كان يخلع على القواد، وانفاقه على القواد، فلما نفد ما في بيت المال، طالب ارباب الضياع بخراج سنه مبهمه عن ارضيهم، وحبس منهم بذلك جماعه، وكان الذى يتولى له القيام بذلك الزغل، فعسف على الناس في ذلك وقدم ابو احمد قبل ان يستوظف أداء ذلك منهم، فشغل عن مطالبه الناس بما كان يطالبهم به وكان انحدار وصيف في يوم الجمعه لثلاث عشره بقيت من المحرم.
    ولليلتين بقيتا من المحرم منها، طلع كوكب ذو جمه، ثم صارت ألجمه ذؤابه.
    (10/19)
    ذكر الخبر عن مرض ابى احمد الموفق ثم موته
    وفيها انصرف ابو احمد من الجبل الى العراق، وقد اشتد به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب، فاتخذ له سرير عليه قبة، فكان يقعد عليه، ومعه خادم يبرد رجله بالأشياء البارده، حتى بلغ من امره انه كان يضع عليها الثلج، ثم صارت عله رجله داء الفيل، وكان يحمل سريره اربعون حمالا يتناوب عليه عشرون عشرون، وربما اشتد به أحيانا، فيأمرهم ان يضعوه.
    فذكر انه قال يوما للذين يحملونه: قد ضجرتم بحملي، بودى انى أكون كواحد منكم احمل على راسى واكل وانى في عافيه وانه قال في مرضه هذا: اطبق دفترى على مائه الف مرتزق، ما اصبح فيهم اسوا حالا منى.
    وفي يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم منها وافى ابو احمد النهروان، فتلقاه اكثر الناس، فركب الماء، فسار في النهروان، ثم في نهر ديالى، ثم في دجلة الى الزعفرانيه، وصار ليله الجمعه الى الفرك، ودخل داره يوم الجمعه لليلتين خلتا من صفر.
    ولما كان في يوم الخميس لثمان خلون من صفر، شاع موته بعد انصراف ابى الصقر من داره، وقد كان تقدم في حفظ ابى العباس، فغلقت عليه أبواب دون أبواب، وأخذ ابو الصقر ابن الفياض معه الى داره، وكان يبقى بناحيته واقام ابو الصقر في داره يومه ذلك، وازداد الارجاف بموت ابى احمد، وكانت اعترته غشيه، فوجه ابو الصقر يوم الجمعه الى المدائن، فحمل منها المعتمد وولده، فجيء بهم الى داره، واقام ابو الصقر في داره ولم يصر الى دار ابى احمد، فلما راى غلمان ابى احمد المائلون الى ابى العباس والرؤساء من غلمان ابى العباس الذين كانوا حضورا ما قد نزل بابى احمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على ابى العباس.
    فذكر عن الغلام الذى كان مع ابى العباس في الحجرة انه قال لما سمع
    (10/20)
    ابو العباس صوت الأقفال تكسر قال: ليس يريد هؤلاء الا نفسي.
    وأخذ سيفا كان عنده، فاستله، وقعد مستوفزا والسيف في حجره، وقال لي: تنح أنت، والله لا وصلوا الى وفي شيء من الروح قال: فلما فتح الباب كان أول من دخل عليه وصيف موشكير- وهو غلام ابى العباس- فلما رآه رمى السيف من يده، وعلم انهم لم يقصدوا الا الخير، فاخرجوه حتى أقعدوه عند ابيه، وهو بعقب غشيته فلما فتح ابو احمد عينيه، وافاق رآه، فأدناه وقربه ووافى المعتمد- ذلك اليوم الذى وجه اليه في حمله، وهو يوم الجمعه نصف النهار قبل صلاه الجمعه- مدينه السلام، لتسع خلون من صفر، ومعه ابنه جعفر المفوض الى الله ولى العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه، فنزل على ابى الصقر ثم بلغ أبا الصقر ان أبا احمد لم يمت، فوجه اسماعيل بن إسحاق يتعرف له الخبر، وذلك يوم السبت وجمع ابو الصقر القواد والجند، وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح، ومن داره الى الجسر كذلك، وقطع الجسرين، ووقف قوم على الجسر في الجانب الشرقى يحاربون اصحاب ابى الصقر، فقتل بينهم قتلى، وكانت بينهم جراحات.
    وكان ابو طلحه أخو شركب مع اصحابه مقيمين بباب البستان، فرجع اسماعيل، فاعلم أبا الصقر ان أبا احمد حي، فكان أول من مضى اليه من القواد محمد بن ابى الساج، عبر من نهر عيسى، ثم جعل الناس يتسللون، منهم من يعبر الى باب ابى احمد، ومنهم من يرجع الى منزله، ومنهم من يخرج من بغداد، فلما راى ابو الصقر ذلك، وصحت عنده حياه ابى احمد، انحدر هو وابناه الى دار ابى احمد، فما ذاكره ابو احمد شيئا مما جرى، ولا ساء له عنه واقام في دار ابى احمد.
    فلما راى المعتمد انه قد بقي في الدار وحده، نزل هو وبنوه وبكتمر، فركبوا زورقا، ثم لقيهم طيار ابى ليلى بن عبد العزيز بن ابى دلف، فحملهم في طيارة، ومضى بهم الى داره، وهي دار على بن جهشيار برأس
    (10/21)
    الجسر، فقال له المعتمد: اريد ان امضى الى أخي فاحدره ومن معه من بيته الى دار ابى احمد وانتهبت دار ابى الصقر وكل ما حوته حتى خرج حرمه حفاه بغير إزار، وانتهبت دار محمد بن سليمان كاتبه، ودار ابن الواثقى انتهبت واحرقت، وانتهبت دور أسبابه، وكسرت أبواب السجون، ونقبت الحيطان، وخرج كل من كان فيها، وخرج كل من كان في المطبق، وانتهب مجلسا الجسر، وأخذ كل ما كان فيهما، وانتهبت المنازل التي تقرب من دار ابى الصقر وخلع ابو احمد على ابنه ابى العباس وعلى ابى الصقر، فركبا جميعا، والخلع عليهما من سوق الثلاثاء الى باب الطاق، ومضى ابو الصقر مع ابى العباس الى داره، دار صاعد ثم انحدر ابو الصقر في الماء الى منزله وهو منتهب، فاتوه من دار الشاه بحصير فقعد عليه، فولى ابو العباس غلامه بدار الشرطه، واستخلف محمد بن غانم بن الشاه على الجانب الشرقى، وعيسى النوشرى على الجانب الغربي، وذلك لاربع عشره خلت من صفر منها.
    وفيها في يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر، كانت وفاه ابى احمد الموفق ودفن ليله الخميس في الرصافه عند قبر والدته، وجلس ابو العباس يوم الخميس للناس للتعزية
    . ذكر خبر البيعه للمعتضد بولاية العهد
    وفيها بايع القواد والغلمان لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوض، ولقب بالمعتضد بالله، في يوم الخميس، واخرج للجند العطاء، وخطب يوم الجمعه للمعتمد، ثم للمفوض، ثم لأبي العباس المعتضد، وذلك لسبع ليال بقين من صفر.
    وفيها في يوم الاثنين لاربع بقين من صفر قبض على ابى الصقر وأسبابه وانتهبت منازلهم، وطلب بنو الفرات- وكان اليهم ديوان السواد- فاختفوا، وخلع على عبيد الله بن سليمان بن وهب يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر منها، وولى الوزارة.
    وفيها بعث محمد بن ابى الساج الى واسط ليرد غلامه وصيفا الى مدينه
    (10/22)
    السلام، فمضى وصيف الى الاهواز، وابى الانصراف الى بغداد، وانهب الطيب، وعاث بالسوس.
    وفيها ظفر بابى احمد بن محمد بن الفرات، فحبس وطولب باموال، وظفر معه بالزغل، فحبس، وظفر معه بمال.
    وفيها وردت الاخبار بقتل على بن الليث، أخي الصفار، قتله رافع بن هرثمة، كان لحق به، وترك أخاه.
    ووردت الاخبار فيها عن مصر ان النيل غار ماؤه وغلت الأسعار عندهم
    . ذكر ابتداء امر القرامطة
    وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفه، فكان ابتداء امرهم قدوم رجل من ناحيه خوزستان الى سواد الكوفه ومقامه بموضع منه يقال له النهرين، يظهر الزهد والتقشف، ويسف الخوص، ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مده، فكان إذا قعد اليه انسان ذاكره امر الدين، وزهده في الدنيا، واعلمه ان الصلاة المفترضه على الناس خمسون صلاه في كل يوم وليله، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثم اعلمهم انه يدعو الى امام من اهل بيت الرسول، فلم يزل على ذلك يقعد اليه الجماعه فيخبرهم من ذلك بما تعلق قلوبهم، وكان يقعد الى بقال في القرية، وكان بالقرب من البقال نخل اشتراه قوم من التجار، واتخذوا حظيرة جمعوا فيها ما صرموا من حمل النخل، وجاءوا الى البقال فسألوه ان يطلب لهم رجلا يحفظ عليهم ما صرموا من النخل، فاومى لهم الى هذا الرجل، وقال: ان أجابكم الى حفظ ثمرتكم فانه بحيث تحبون، فناظروه على ذلك، فأجابهم الى حفظه بدراهم معلومه، فكان يحفظ لهم، ويصلى اكثر نهاره ويصوم، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر، فيفطر عليه، ويجمع نوى ذلك التمر.
    فلما حمل التجار ما لهم من التمر، صاروا الى البقال، فحاسبوا اجيرهم هذا على اجرته، فدفعوها اليه، فحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر، وحط من ذلك ثمن النوى الذى كان دفعه الى البقال، فسمع التجار
    (10/23)
    ما جرى بينه وبين البقال في حق النوى، فوثبوا عليه فضربوه، وقالوا: الم ترض ان اكلت تمرنا حتى بعت النوى! فقال لهم البقال: لا تفعلوا، فانه لم يمس تمركم، وقص عليهم قصته، فندموا على ضربهم اياه، وسألوه ان يجعلهم في حل، ففعل وازداد بذلك نبلا عند اهل القرية لما وقفوا عليه من زهده.
    ثم مرض، فمكث مطروحا على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على اثوار له، احمر العينين شديده حمرتهما، وكان اهل القرية يسمونه كرميته لحمره عينيه، وهو بالنبطية احمر العينين، فكلم البقال كرميته هذا، في ان يحمل هذا العليل الى منزله، ويوصى اهله بالإشراف عليه والعنايه به، ففعل واقام عنده حتى برا، ثم كان يأوي الى منزله، ودعا اهل القرية الى امره، ووصف لهم مذهبه، فأجابه اهل تلك الناحية، وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارا، ويزعم انه يأخذ ذلك للإمام، فمكث بذلك يدعو اهل تلك القرى فيجيبونه واتخذ منهم اثنى عشر نقيبا، امرهم ان يدعو الناس الى دينهم، وقال لهم: أنتم كحواريى عيسى بن مريم، فاشتغل اكره تلك الناحية عن اعمالهم بما رسم لهم من الخمسين الصلاة التي ذكر انها مفترضه عليهم.
    وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فوقف على تقصير اكرته في العمارة، فسال عن ذلك، فاخبر ان إنسانا طرا عليهم، فأظهر لهم مذهبا من الدين، واعلمهم ان الذى افترضه الله عليهم خمسون صلاه في اليوم والليلة، فقد شغلوا بها عن اعمالهم، فوجه في طلبه، فاخذ وجيء به اليه، فسأله عن امره، فاخبره بقصته، فحلف انه يقتله.
    فامر به فحبس في بيت، واقفل عليه الباب، ووضع المفتاح تحت وسادته، وتشاغل بالشرب، وسمع بعض من في داره من الجوارى بقصته، فرقت له.
    فلما نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته، وفتحت الباب واخرجته، واقفلت الباب، وردت المفتاح الى موضعه فلما اصبح الهيصم دعا بالمفتاح ففتح الباب فلم يجده، وشاع بذلك الخبر، ففتن به اهل تلك الناحية، وقالوا:
    رفع ثم ظهر في موضع آخر ولقى جماعه من اصحابه وغيرهم فسألوه عن قصته، فقال: ليس يمكن أحدا ان يبدأني بسوء، ولا يقدر على ذلك منى،
    (10/24)
    فعظم في اعينهم، ثم خاف على نفسه، فخرج الى ناحيه الشام، فلم يعرف له خبر، وسمى باسم الرجل الذى كان في منزله صاحب الاثوار كرميته، ثم خفف فقالوا: قرمط ذكر هذه القصة بعض أصحابنا عمن حدثه، انه حضر محمد بن داود بن الجراح، وقد دعا بقوم من القرامطة من الحبس، فسألهم عن زكرويه، وذلك بعد ما قتله، وعن قرمط وقصته، وانهم اوموا له الى شيخ منهم، وقالوا له:
    هذا سلف زكرويه، وهو اخبر الناس بقصته، فسله عما تريد، فسأله فاخبره بهذه القصة.
    وذكر عن محمد بن داود انه قال: قرمط رجل من سواد الكوفه، كان يحمل غلات السواد على اثوار له، يسمى حمدان ويلقب بقرمط ثم فشا امر القرامطة ومذهبهم، وكثروا بسواد الكوفه، ووقف الطائي احمد بن محمد على امرهم، فوظف على كل رجل منهم في كل سنه دينارا، وكان يجبى من ذلك مالا جليلا، فقدم قوم من الكوفه فرفعوا الى السلطان امر القرامطة، وانهم قد أحدثوا دينا غير الاسلام، وانهم يرون السيف على أمه محمد الا من بايعهم على دينهم، وان الطائي يخفى امرهم على السلطان فلم يلتفت اليهم، ولم يسمع منهم، فانصرفوا، واقام رجل منهم مده طويله بمدينه السلام، يرفع ويزعم انه لا يمكنه الرجوع الى بلده خوفا من الطائي وكان فيما حكوا عن هؤلاء القرامطة من مذهبهم ان جاءوا بكتاب فيه:
    بسم الله الرحمن الرحيم يقول الفرج بن عثمان، وهو من قريه يقال لها نصرانه، داعيه الى المسيح، وهو عيسى، وهو الكلمه، وهو المهدى، وهو احمد بن محمد بن الحنفيه، وهو جبريل وذكر ان المسيح تصور له في جسم انسان، وقال له: انك الداعيه، وانك الحجه، وانك الناقه، وانك الدابة، وانك روح القدس، وانك يحيى بن زكرياء وعرفه ان الصلاة اربع ركعات:
    (10/25)
    ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها، وان الاذان في كل صلاه ان يقول:
    الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، اشهد ان لا اله الا الله، مرتين اشهد ان آدم رسول الله، اشهد ان نوحا رسول الله، اشهد ان ابراهيم رسول الله، اشهد ان موسى رسول الله، واشهد ان عيسى رسول الله، واشهد ان محمدا رسول الله، واشهد ان احمد بن محمد بن الحنفيه رسول الله، وان يقرا في كل ركعة الاستفتاح، وهي من المنزل على احمد بن محمد بن الحنفيه.
    والقبله الى بيت المقدس، والحج الى بيت المقدس، ويوم الجمعه يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء، والسورة الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتخذ لأوليائه باوليائه قل ان الأهلة مواقيت للناس، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادى سبيلى اتقون يا اولى الألباب، وانا الذى لا اسال عما افعل، وانا العليم الحكيم، وانا الذى ابلوا عبادى، وامتحن خلقى، فمن صبر على بلائي ومحنتي واختبارى القيته في جنتي، واخلدته في نعمتي، ومن زال عن امرى، وكذب رسلي، اخلدته مهانا في عذابى، واتممت اجلى، واظهرت امرى، على السنه رسلي، وانا الذى لم يعل على جبار الا وضعته، ولا عزيز الا اذللته، وليس الذى أصر على امره ودوام على جهالته، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين، وبه مؤمنين:
    أولئك هم الكافرون.
    ثم يركع ويقول في ركوعه: سبحان ربى رب العزه وتعالى عما يصف الظالمون! يقولها مرتين، فإذا سجد قال: الله اعلى، الله اعلى، الله اعظم.
    الله اعظم ومن شرائعه ان الصوم يومان في السنه، وهما المهرجان والنوروز، وان النبيذ حرام والخمر حلال، ولا غسل من جنابه الا الوضوء كوضوء الصلاة، وان من حاربه وجب قتله، ومن لم يحاربه ممن خالفه أخذت منه الجزية ولا يؤكل كل ذي ناب، ولا كل ذي مخلب
    (10/26)
    وكان مصير قرمط الى سواد الكوفه قبل قتل صاحب الزنج، وذلك ان بعض أصحابنا ذكر عن سلف زكرويه انه قال: قال لي قرمط:
    صرت الى صاحب الزنج، ووصلت اليه، وقلت له: انى على مذهب، وورائي مائه الف سيف، فناظرنى، فان اتفقنا على المذهب ملت بمن معى إليك، وان تكن الاخرى انصرفت عنك وقلت له: تعطيني الامان؟ ففعل.
    قال: فناظرته الى الظهر، فتبين لي في آخر مناظرتي اياه انه على خلاف امرى، وقام الى الصلاة، فانسللت، فمضيت خارجا من مدينته، وصرت الى سواد الكوفه
    . ذكر خبر غزو الروم ووفاه يازمان في هذه الغزوة
    ولخمس بقين من جمادى الآخرة من هذه السنه، دخل احمد العجيفى مدينه طرسوس، وغزا مع يازمان غزاه الصائفه، فبلغ سلندو وفي هذه الغزاة مات يازمان، وكان سبب موته ان شظية من حجر منجنيق أصاب أضلاعه وهو مقيم على حصن سلندو، فارتحل العسكر، وقد كانوا أشرفوا على فتحه، فتوفى في الطريق من غده يوم الجمعه، لاربع عشره ليله خلت من رجب، وحمل الى طرسوس على اكتاف الرجال فدفن هناك.
    وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمى.
    (10/27)
    ثم دخلت
    سنه تسع وسبعين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من أمر السلطان بالنداء بمدينه السلام، الا يقعد على الطريق ولا في مسجد الجامع قاص ولا صاحب نجوم ولا زاجر، وحلف الوراقون الا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفه.
    وفيها خلع جعفر المفوض من العهد لثمان بقين من المحرم.
    وفي ذلك اليوم بويع للمعتضد بانه ولى العهد من بعد المعتمد، وانشئت الكتب بخلع جعفر وتوليه المعتضد، ونفذت الى البلدان، وخطب يوم الجمعه للمعتضد بولاية العهد، وانشئت عن المعتضد كتب الى العمال والولاه، بان امير المؤمنين قد ولاه العهد، وجعل اليه ما كان الموفق يليه من الأمر والنهى والولاية والعزل وفيها قبض على جراده، كاتب ابى الصقر لخمس خلون من شهر ربيع الاول، وكان الموفق وجهه الى رافع بن هرثمة، فقدم مدينه السلام قبل ان يقبض عليه بايام.
    وفيها انصرف ابو طلحه منصور بن مسلم من شهرزور لست بقين من جمادى الاولى- وكانت ضمت اليه- فقبض عليه وعلى كاتبه عقامه، وأودعا السجن، وذلك لاربع بقين من جمادى الاولى.
    ذكر خبر الفتنة بطرسوس
    وفيها كانت الملحمه بطرسوس بين محمد بن موسى ومكنون غلام راغب مولى الموفق، في يوم السبت لتسع بقين من جمادى الاولى، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان طغج بن جف، لقى راغبا بحلب، فاعلمه ان
    (10/28)
    خمارويه بن احمد يحب لقاءه، ووعده عنه بما يحب، فخرج راغب من حلب ماضيا الى مصر في خمسه غلمان له، وانفذ خادمه مكنونا مع الجيش الذى كان معه وأمواله وسلاحه الى طرسوس فكتب طغج الى محمد بن موسى الاعرج يعلمه انه قد انفذ راغبا، وان كل ما معه من مال وسلاح وغلمان مع غلامه مكنون، وقد صار الى طرسوس، وانه ينبغى له ان يقبض عليه ساعه يدخل وعلى ما معه فلما دخل مكنون طرسوس وثب به الاعرج، فقبض عليه ووكل بما معه، فوثب اهل طرسوس على الاعرج، فحالوا بينه وبين مكنون، وقبضوا على الاعرج فحبسوه في يد مكنون، وعلموا ان الحيله قد وقعت براغب، فكتبوا الى خمارويه بن احمد يعلمونه بما فعل الاعرج، وانهم قد وكلوا به، وقالوا: اطلق راغبا لينفذ إلينا حتى نطلق الاعرج، فاطلق خمارويه راغبا، وانفذه الى طرسوس، وانفذ معه احمد بن طغان واليا على الثغور، وعزل عنهم الاعرج، فلما وصل راغب الى طرسوس اطلق محمد بن موسى الاعرج، ودخل طرسوس احمد بن طغان واليا عليها وعلى الثغور ومعه راغب، يوم الثلاثاء لثلاث عشره خلت من شعبان.
    خبر وفاه المعتمد
    وفيها توفى المعتمد ليله الاثنين لإحدى عشره ليله بقيت من رجب، وكان شرب على الشط في الحسنى يوم الأحد شرابا كثيرا، وتعشى فاكثر، فمات ليلا، فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنه وسته ايام- فيما ذكر.
    (10/29)
    خلافه المعتضد
    وفي صبيحة هذه الليلة بويع لأبي العباس المعتضد بالله بالخلافة، فولى غلامه بدرا الشرطه وعبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة ومحمد بن الشاد بن ميكال الحرس، وحجبه الخاصة والعامه صالحا المعروف بالأمين، فاستخلف صالح خفيفا السمرقندي.
    ولليلتين خلتا من شعبان فيها قدم على المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفار بهدايا، وسال ولايه خراسان، فوجه المعتضد عيسى النوشرى مع الرسول، ومعه خلع ولواء عقده له على خراسان، فوصلوا اليه في شهر رمضان من هذه السنه، وخلع عليه، ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة ايام.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها ورد الخبر بموت نصر بن احمد، وقام بما كان اليه من العمل وراء نهر بلخ اخوه اسماعيل بن احمد.
    وفيها قدم الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص من مصر رسولا لخمارويه بن احمد بن طولون، ومعه هدايا من العين، عشرون حملا على بغال وعشره من الخدم وصندوقان فيهما طراز وعشرون رجلا على عشرين نجيبا، بسروج محلاه بحليه فضه كثيره، ومعهم حراب فضه، وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلاه وسبع عشره دابه، بسروج ولجم، منها خمسه بذهب والباقى بفضة، وسبع وثلاثون دابه بجلال مشهره، وخمسه ابغل بسروج ولجم وزرافه، يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال، فوصل الى المعتضد، فخلع عليه وعلى سبعه نفر معه وسفر ابن الجصاص في تزويج ابنه خمارويه من على بن المعتضد، فقال المعتضد: انا أتزوجها، فتزوجها
    (10/30)
    وفيها ورد الخبر بأخذ احمد بن عيسى بن الشيخ قلعه ماردين من محمد بن إسحاق بن كنداج.
    وفيها مات ابراهيم بن محمد بن المدبر، وكان يلى ديوان الضياع، فولى مكانه محمد بن عبد الحميد، وكان موته يوم الأربعاء لثلاث او اربع عشره بقيت من شوال.
    وفيها عقد لراشد مولى الموفق على الدينور، وخلع عليه يوم السبت لسبع بقين من شوال، ثم خرج راشد الى عمله يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعده.
    وفي يوم النحر منها ركب المعتضد الى المصلى الذى اتخذه بالقرب من الحسنى، وركب معه القواد والجيش فصلى بالناس، فذكر عنه انه كبر في الركعة الاولى ست تكبيرات، وفي الركعة الثانيه تكبيره واحده، ثم صعد المنبر، فلم تسمع خطبته، وعطل المصلى العتيق فلم يصل فيه.
    وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحاربه رافع بن هرثمة ورافع بالري، فزحف اليه احمد، فالتقوا يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعده، فانهزم رافع بن هرثمة، وخرج عن الري، ودخلها ابن عبد العزيز.
    وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمى، وهي آخر حجه حجها، وحج بالناس ست عشره سنه، من سنه اربع وستين الى هذه السنه.
    (10/31)
    ثم دخلت
    سنه ثمانين ومائتين
    ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا
    فمن ذلك ما كان من أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدى ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمه- وكان شيلمه هذا مع صاحب الزنج الى آخر ايامه، ثم لحق بالموفق في الامان فآمنه- وكان سبب اخذه إياهما ان بعض المستأمنة سعى به الى المعتضد، واعلمه انه يدعو الى رجل لم يوقف على اسمه، وانه قد استفسد جماعه من الجند وغيرهم، وأخذ معه رجل صيدنانى وابن أخ له من المدينة، فقرره المعتضد فلم يقر بشيء، وساله عن الرجل الذى يدعو اليه، فلم يقر بشيء، وقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، ولو عملتنى كردناك لما اخبرتك به، فامر بنار فاوقدت، ثم شد على خشبة من خشب الخيم، وادير على النار حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه، وصلب عند الجسر الأسفل في الجانب الغربي.
    وحبس ابن المهتدى الى ان وقف على براءته، فاطلق، وكان صلبه لسبع خلون من المحرم.
    فذكر ان المعتضد قال لشيلمه: قد بلغنى انك تدعو الى ابن المهتدى، فقال: الماثور عنى غير هذا، وانى اتولى آل ابن ابى طالب- وقد كان قرر ابن أخيه فاقر- فقال له: قد اقر ابن أخيك، فقال له: هذا غلام حدث تكلم بهذا خوفا من القتل، ولا يقبل قوله ثم اطلق ابن أخيه والصيدناني بعد مده طويله
    . ذكر خبر قصد المعتضد بنى شيبان وصلحه معهم
    ولليلة خلت من صفر يوم الأحد شخص المعتضد من بغداد يريد بنى شيبان، فنزل بستان بشر بن هارون، ثم سار يوم الأربعاء منه، واستخلف على داره
    (10/32)
    وبغداد صالحا الامين حاجبه، فقصد الموضع الذى كانت شيبان تتخذه معقلا من ارض الجزيرة، فلما بلغهم قصده إياهم، ضموا اليهم أموالهم وعيالاتهم.
    ثم ورد كتاب المعتضد انه اسرى الى الاعراب من السن، فاوقع بهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الزابين، وأخذ النساء والذراري، وغنم اهل العسكر من أموالهم ما اعجزهم حمله، وأخذ من غنمهم وابلهم ما كثر في أيدي الناس حتى بيعت الشاه بدرهم والجمل بخمسه دراهم، وامر بالنساء والذراري ان يحفظوا حتى يحدروا الى بغداد ثم مضى المعتضد الى الموصل، ثم الى بلد، ثم رجع الى بغداد، فلقيه بنو شيبان يسالونه الصفح عنهم، وبذلوا له الرهائن، فاخذ منهم خمسمائة رجل- فيما قيل ورجع المعتضد يريد مدينه السلام، فوافاه احمد بن ابى الأصبغ بما فارق عليه احمد ابن عيسى بن الشيخ من المال الذى اخذه من مال إسحاق بن كنداج، وبهدايا ودواب وبغال في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الاول.
    [أخبار متفرقة]
    وفي شهر ربيع الاول ورد الخبر بان محمد بن ابى الساج افتتح المراغه بعد حصار شديد وحرب غليظه كانت بينهم، وانه أخذ عبد الله بن الحسين بعد ان آمنه واصحابه، فقيده وحبسه، وقرره بجميع أمواله، ثم قتله بعد وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر بوفاه أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف.
    وكانت وفاته في آخر شهر ربيع الاول، فطلب الجند أرزاقهم، وانتهبوا منزل اسماعيل بن محمد المنشئ، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثم قام بالأمر عمر، ولم يكتب اليه المعتضد بالولاية.
    وفيها افتتح محمد بن ثور عمان، وبعث برءوس جماعه من أهلها.
    وذكر ان جعفر بن المعتمد توفى في يوم الأحد لاثنتى عشره خلت من شهر ربيع الآخر منها، وانه كان مقامه في دار المعتضد لا يخرج ولا يظهر، وقد كان المعتضد نادمه مرارا
    (10/33)
    وفيها انصرف المعتضد الى بغداد من خرجته الى الاعراب.
    وفيها، في جمادى الآخرة ورد الخبر بدخول عمرو بن الليث نيسابور، في جمادى الاولى منها.
    وفيها وجه يوسف بن ابى الساج اثنين وثلاثين نفسا من الخوارج، من طريق الموصل، فضربت اعناق خمسه وعشرين رجلا منهم، وصلبوا، وحبس سبعه منهم في الحبس الجديد.
    وفيها دخل احمد بن أبا طرسوس لغزاه الصائفه، لخمس خلون من رجب من قبل خمارويه، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعا مع العجيفى امير طرسوس حتى بلغوا البلقسور وفيها ورد الخبر بغزو اسماعيل بن احمد بلاد الترك وافتتاحه- فيما ذكر- مدينه ملكهم، واسره اياه وامراته خاتون ونحوا من عشره آلاف، وقتل منهم خلقا كثيرا، وغنم من الدواب دواب كثيره لا يوقف على عددها، وانه أصاب الفارس من المسلمين من الغنيمه في المقسم الف درهم ولليلتين بقيتا من شهر رمضان منها، توفى راشد مولى الموفق بالدينور، وحمل في تابوت الى بغداد.
    ولثلاث عشره خلت من شوال منها مات مسرور البلخى وفيها- فيما ذكر- في ذي الحجه ورد كتاب من دبيل بانكساف القمر في شوال لاربع عشره خلت منها، ثم تجلى في آخر الليل، فأصبحوا صبيحة تلك الليلة والدنيا مظلمه، ودامت الظلمه عليهم، فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء شديده، فدامت الى ثلث الليل، فلما كان ثلث الليل زلزلوا، فأصبحوا وقد ذهبت المدينة فلم ينج من منازلها الا اليسير، قدر مائه دار، وانهم دفنوا الى حين كتب الكتاب ثلاثين الف نفس يخرجون من تحت الهدم،
    (10/34)
    ويدفنون، وانهم زلزلوا بعد الهدم خمس مرات.
    وذكر عن بعضهم ان جمله من اخرج من تحت الهدم خمسون ومائه الف ميت.
    وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن هارون المعروف بابن ترنجه.
    (10/35)
    ثم دخلت
    سنه احدى وثمانين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من موافاه ترك بن العباس عامل السلطان على ديار مضر مدينه السلام لتسع خلون من المحرم بنيف واربعين نفسا من اصحاب ابى الأغر صاحب سميساط، على جمال، عليهم برانس ودراريع حرير.
    فمضى بهم الى دار المعتضد، ثم ردوا الى الحبس الجديد فحبسوا به، وخلع على ترك، وانصرف الى منزله.
    وفيها ورد الخبر بوقعه كانت لوصيف خادم ابن ابى الساج بعمر بن عبد العزيز بن ابى دلف وهزيمته اياه، ثم صار وصيف الى مولاه محمد ابن ابى الساج، في شهر ربيع الآخر منها.
    وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزاه الصائفه من قبل خمارويه يوم الخميس للنصف من جمادى الآخرة- فيما قيل- وغزا، فبلغ طرايون، وفتح ملوريه.
    ولخمس ليال بقين من جمادى الآخرة مات احمد بن محمد الطائي بالكوفه، ودفن بها في موضع يقال له مسجد السهله.
    وفيها غارت المياه بالري وطبرستان.
    ولليلتين خلتا من رجب منها شخص المعتضد الى الجبل، فقصد ناحيه الدينور، وقلد أبا محمد على بن المعتضد الري وقزوين وزنجان وابهر وقم وهمذان والدينور، وقلد كتبته احمد بن ابى الأصبغ، ونفقات عسكره والضياع بالري الحسين بن عمرو النصراني، وقلد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان ونهاوند والكرج، وتعجل للانصراف من اجل غلاء السعر
    (10/36)
    وقله الميرة، فوافى بغداد يوم الأربعاء لثلاث خلون من شهر رمضان.
    وفيها استامن الحسن بن على كوره عامل رافع على الري الى على بن المعتضد في زهاء الف رجل، فوجهه الى ابيه المعتضد.
    وفيها دخل الاعراب سامرا فأسروا ابن سيما انف في ذي القعده منها وانتهبوا.
    ذكر خبر الوقعه بين الأكراد والاعراب
    ولست ليال بقين من ذي القعده خرج المعتضد الخرجه الثانيه الى الموصل عامدا لحمدان بن حمدون، وذلك انه بلغه انه مايل هارون الشاري الوازقى، ودعا له فورد كتاب المعتضد من كرخ جدان على نجاح الحرمي الخادم بالوقعه بينه وبين الاعراب والأكراد، وكانت يوم الجمعه سلخ ذي القعده:
    بسم الله الرحمن الرحيم كتابي هذا وقت العتمه ليله الجمعه، وقد نصر الله- وله الحمد- على الأكراد والاعراب، واظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رايتنا ونحن نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عاما أولا، ولم تزل الأسنة والسيوف تأخذهم، وحال بيننا وبينهم الليل، واوقدت النيران على رءوس الجبال، ومن غد يومنا، فيقع الاستقصاء، وعسكرى يتبعني الى الكرخ وكان وقاعنا بهم وقتلنا إياهم خمسين ميلا، فلم يبق منهم مخبر والحمد لله كثيرا، فقد وجب الشكر لله علينا والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد نبيه وآله وسلم كثيرا.
    وكانت الاعراب والأكراد لما بلغهم خروج المعتضد، تحالفوا انهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا، وعبوا عسكرهم ثلاثة كراديس، كردوسا دون كردوس، وجعلوا عيالاتهم وأولادهم في آخر كردوس، وتقدم المعتضد عسكره في خيل جريدة، فاوقع بهم، وقتل منهم، وغرق في الزاب منهم
    (10/37)
    خلق كثير، ثم خرج الى الموصل عامدا لقلعه ماردين، وكانت في يد حمدان ابن حمدون، فلما بلغه مجيء المعتضد هرب وخلف ابنه بها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة، فحاربهم من كان فيها يومهم ذلك، فلما كان من الغد ركب المعتضد، فصعد القلعة حتى وصل الى الباب، ثم صاح: يا بن حمدون، فأجابه: لبيك! فقال له: افتح الباب، ويلك! ففتحه، فقعد المعتضد في الباب، وامر من دخل فنقل ما في القلعة من المال والأثاث، ثم امر بهدمها فهدمت، ثم وجه خلف حمدان بن حمدون، فطلب أشد الطلب، وأخذت اموال كانت له مودعه، وجيء بالمال الى المعتضد، ثم ظفر به ثم مضى المعتضد الى مدينه يقال لها الحسنيه، وفيها رجل يقال له شداد، في جيش كثيف، ذكر انهم عشره آلاف رجل، وكان له قلعه في المدينة فظفر به المعتضد، فأخذه فهدم قلعته.
    وفيها ورد الخبر من طريق مكة انه أصاب الناس في المصعد برد شديد ومطر جود وبرد اصيب فيه اكثر من خمسمائة انسان وفي شوال منها غزا المسلمون الروم، فكانت بينهم الحرب اثنى عشر يوما، فظفر المسلمون وغنموا غنيمه كثيره وانصرفوا.
    (10/38)
    ثم دخلت
    سنه اثنتين وثمانين ومائتين
    (ذكر الاحداث التي كانت فيها)
    ذكر امر النيروز المعتضدي
    فمن ذلك ما كان من امر المعتضد في المحرم منها بإنشاء الكتب الى جميع العمال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذى هو نيروز العجم، وتاخير ذلك الى اليوم الحادي عشر من حزيران، وسمى ذلك النيروز المعتضدي، فانشئت الكتب بذلك من الموصل والمعتضد بها، وورد كتابه بذلك على يوسف بن يعقوب يعلمه انه اراد بذلك الترفيه على الناس، والرفق بهم، وامر ان يقرا كتابه على الناس، ففعل.
    وفيها قدم ابن الجصاص من مصر بابنه ابى الجيش خمارويه بن احمد بن طولون التي تزوجها المعتضد، ومعها احد عمومتها، فكان دخولهم بغداد يوم الأحد لليلتين خلتا من المحرم، وادخلت للحرم ليله الأحد، ونزلت في دار صاعد ابن مخلد، وكان المعتضد غائبا بالموصل.
    وفيها منع الناس من عمل ما كانوا يعملون في نيروز العجم من صب الماء ورفع النيران وغير ذلك.
    ذكر امر المعتضد مع حمدان بن حمدون
    وفيها كتب المعتضد من الموصل الى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير اليه، فاما إسحاق بن أيوب فسارع الى ذلك، واما حمدان بن حمدون فتحصن في قلاعه، وغيب أمواله وحرمه فوجه اليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشورى وغيرهما، فصادفوا الحسن بن على كوره واصحابه منيخين على قلعه لحمدان، بموضع يعرف بدير الزعفران من ارض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان، فلما راى الحسين اوائل العسكر مقبلين طلب الامان فأومن وصار الحسين الى المعتضد، وسلم القلعة، فامر بهدمها،
    (10/39)
    واغذ وصيف موشكير السير في طلب حمدان، وكان قد صار بموضع يعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائدا، فعبر اصحاب وصيف اليه ونذر بهم، فركب واصحابه ودافعوا عن انفسهم، حتى قتل اكثرهم، فالقى حمدان نفسه في زورق كان معدا له في دجلة، ومعه كاتب له نصرانى يسمى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالا، وعبر الى الجانب الغربي من دجلة من ارض ديار ربيعه، وقدر اللحاق بالاعراب لما حيل بينه وبين اكراده الذين في الجانب الشرقى، وعبر في اثره نفر يسير من الجند فاقتصوا اثره، حتى أشرفوا على دير كان قد نزله، فلما بصر بهم خرج من الدير هاربا ومعه كاتبه، فألقيا أنفسهما في زورق، وخلفا المال في الدير، فحمل الى المعتضد، وانحدر اصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء، فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسرا الى ضيعه له بشرقى دجلة، فركب دابه لوكيله، وسار ليله اجمع الى ان وافى مضرب إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد، مستجيرا به، فاحضره إسحاق مضرب المعتضد، وامر بالاحتفاظ به، وبث الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعده من قراباته وغلمانه، وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الامان، وذلك في آخر المحرم من هذه السنه.
    [أخبار متفرقة]
    وفي شهر ربيع الاول منها قبض على بكتمر بن طاشتمر، وقيد وحبس، وقبض ماله وضياعه ودوره.
    وفيها نقلت ابنه خمارويه بن احمد الى المعتضد لاربع خلون من شهر ربيع الآخر، ونودى في جانبي بغداد الا يعبر احد في دجلة يوم الأحد، وغلقت أبواب الدروب التي تلى الشط، ومد على الشوارع النافذة الى دجلة شراع، ووكل بحافتى دجلة من يمنع ان يظهروا في دورهم على الشط.
    فلما صليت العتمه وافت الشذا من دار المعتضد، وفيها خدم معهم الشمع، فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت اعدت اربع حراقات شدت مع دار صاعد، فلما جاءت الشذا احدرت الحراقات، وصارت الشذا بين ايديهم، واقامت الحره يوم الاثنين في دار المعتضد، وجليت عليه يوم الثلاثاء لخمس خلون
    (10/40)
    من شهر ربيع الاول.
    وفيها شخص المعتضد الى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ اموالا لابن ابى دلف وكتب الى عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف يطلب منه جوهرا كان عنده، فوجه به اليه، وتنحى من بين يديه.
    وفيها اطلق لؤلؤ غلام ابن طولون بعد خروج المعتضد، وحمل على دواب وبغال.
    وفيها وجه يوسف بن ابى الساج الى الصيمرة مددا لفتح القلانسي، فهرب يوسف بن ابى الساج بمن أطاعه الى أخيه محمد بالمراغة، ولقى مالا للسلطان طريقه فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
    امام الهدى انصاركم آل طاهر ... بلا سبب يجفون والدهر يذهب
    وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ... وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب
    وفيها وجه المعتضد الوزير عبيد الله بن سليمان الى الري الى ابى محمد ابنه.
    وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان الى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين الف دينار، ليفرقها على اهله ببغداد والكوفه، ومكة والمدينة، فسعى به، فاحضر دار بدر، وسئل عن ذلك، فذكر ان يوجه اليه في كل بمثل هذا المال، فيفرقه على من يأمره بالتفرقه عليه من اهله فاعلم بدر المعتضد ذلك، واعلمه ان الرجل في يديه والمال، واستطلع رايه وما يأمر به.
    فذكر عن ابى عبد الله الحسنى ان المعتضد قال لبدر: يا بدر، اما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ فقال: لا يا امير المؤمنين، فقال: الا تذكر انى حدثتك ان الناصر دعانى، فقال لي: اعلم ان هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل على بن ابى طالب! ثم قال: رايت في النوم كأني خارج من بغداد اريد ناحيه النهروان في جيشي، وقد تشوف الناس الى، إذ مررت برجل واقف على تل يصلى، لا يلتفت الى، فعجبت منه ومن قله اكتراثه بعسكرى، مع تشوف الناس الى العسكر، فاقبلت اليه حتى
    (10/41)
    وقفت بين يديه، فلما فرغ من صلاته قال لي: اقبل، فاقبلت اليه، فقال:
    اتعرفنى؟ قلت: لا، قال: انا على بن ابى طالب، خذ هذه المسحاة، فاضرب بها الارض- لمسحاه بين يديه- فأخذتها فضربت بها ضربات، فقال لي: انه سيلي من ولدك هذا الأمر بقدر ما ضربت بها، فاوصهم بولدي خيرا قال بدر: فقلت: بلى يا امير المؤمنين، قد ذكرت قال: فاطلق المال، واطلق الرجل وتقدم اليه ان يكتب الى صاحبه بطبرستان ان يوجه ما يوجه به اليه ظاهرا، وان يفرق محمد بن ورد ما يفرقه ظاهرا، وتقدم بمعونة محمد على ما يريد من ذلك.
    وفي شعبان لإحدى عشره بقيت منها، توفى ابو طلحه منصور بن مسلم في حبس المعتضد وفيها لثمان خلون من شهر رمضان منها، وافى عبيد الله بن سليمان الوزير بغداد قادما من الري، فخلع عليه المعتضد.
    ولثمان بقين من شهر رمضان منها، ولدت ناعم جاريه أم القاسم بنت محمد ابن عبد الله للمعتضد ابنا سماه جعفرا، فسمى المعتضد هذه الجاريه شغب.
    وفيها قدم ابراهيم ابن احمد الماذرائى لاثنتى عشره بقيت من ذي الحجه من دمشق على طريق البر، فوافى بغداد في احد عشر يوما، فاخبر المعتضد ان خمارويه بن احمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه من لخاصة، وقيل:
    ان قتله كان لثلاث خلون من ذي الحجه وقيل ان ابراهيم وافى بغداد من دمشق في سبعه ايام، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيف وعشرون خادما.
    وكان المعتضد بعث مع ابن الجصاص الى خمارويه بهدايا، واودعه اليه رساله، فشخص ابن الجصاص لما وجه له، فلما بلغ سامرا بلغ المعتضد مهلك خمارويه، فكتب اليه يأمره بالرجوع اليه فرجع، ودخل بغداد لسبع بقين من ذي الحجه.
    (10/42)
    ثم دخلت
    سنه ثلاث وثمانين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
    خبر هارون الشاري والظفر به
    فمن ذلك ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشره بقيت من المحرم منها- بسبب الشاري هارون- الى ناحيه الموصل، فظفر به، وورد كتاب المعتضد بظفره به الى مدينه السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الاول وكان سبب ظفره به انه وجه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعه من الفرسان والرجاله من اهل بيته وغيرهم من اصحابه اليه، وذكر ان الحسين بن حمدان قال للمعتضد: ان انا جئت به الى امير المؤمنين فلي ثلاث حوائج الى امير المؤمنين، فقال: اذكرها، قال: أولها اطلاق ابى، وحاجتان اساله إياهما بعد مجيئي به اليه فقال له المعتضد: لك ذلك فامض، فقال الحسين: احتاج الى ثلاثمائه فارس انتخبهم، فوجه المعتضد معه ثلاثمائه فارس مع موشكير، فقال: اريد ان يأمره امير المؤمنين الا يخالفني فيما آمره به، فامر المعتضد موشكير بذلك.
    فمضى الحسين حتى انتهى الى مخاضه دجلة، فتقدم الى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة، وقال له: ليس لهارون طريق ان هرب غير هذا، فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بك هارون، فتمنعه العبور، وأجيئك انا، او يبلغك انى قد قتلت ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى، وانهزم الشاري هارون، واقام وصيف على المخاضة ثلاثة ايام، فقال له اصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضر ذلك بنا، ولسنا نامن ان يأخذ حسين الشاري فيكون الفتح له دوننا، والصواب ان نمضي في آثارهم، فاطاعهم ومضى وجاء هارون الشاري منهزما الى موضع المخاضة، فعبر، وجاء حسين في اثره، فلم ير وصيفا واصحابه بالموضع الذى تركهم فيه، ولا عرف لهارون خبرا، ولا راى له أثرا، وجعل يسال عن
    (10/43)
    خبر هارون حتى وقف على عبوره، فعبر في اثره، وجاء الى حي من احياء العرب، فسألهم عنه فكتموه امره، فاراد ان يوقع بهم، واعلمهم ان المعتضد في اثره، فاعلموه انه اجتاز بهم، فاخذ بعض دوابهم، وترك دوابه عندهم- وكانت قد كلت واعيت- واتبع اثره، فلحقه بعد ايام والشاري في نحو من مائه، فناشده الشاري، وتوعده، فأبى الا محاربته، فحاربه، فذكر ان حسين ابن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره اصحاب حسين فاخذوه، وجاء به الى المعتضد سلما بغير عقد ولا عهد، فامر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون، والتوسعه عليه والاحسان اليه ان يقدم فيطلقه ويخلع عليه، فلما اسر الشاري، وصار في يد المعتضد، انصرف راجعا الى مدينه السلام، فوافاها لثمان بقين من شهر ربيع الاول، فنزل باب الشماسيه، وعبا الجيش هنالك، وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعه من رؤساء اهله، وزين الفيل بثياب الديباج، واتخذ للشارى على الفيل كالمحفة، واقعد فيها، والبس دراعه ديباج، وجعل على راسه برنس حرير طويل.
    ولعشر بقين من جمادى الاولى منها، امر المعتضد بالكتاب الى جميع النواحي برد الفاضل من سهام المواريث على ذوى الارحام، وابطال ديوان المواريث، وصرف عمالها، فنفذت الكتب بذلك، وقرئت على المنابر وفيها خرج عمرو بن الليث الصفار من نيسابور، فخالفه رافع بن هرثمة إليها، فدخلها وخطب بها لمحمد بن زيد الطالبي وابيه، فقال: اللهم اصلح الداعي الى الحق، فرجع عمرو الى نيسابور، فعسكر خارج المدينة، وخندق على عسكره لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، فأقام محاصرا اهل نيسابور.
    وفي يوم الاثنين لاربع خلون من جمادى الآخرة منها، وافى بغداد محمد ابن إسحاق بن كنداجيق وخاقان المفلحى ومحمد بن كمشجور المعروف ببندقه وبدر بن جف أخو طغج وابن حسنج في جماعه من القواد من مصر في الامان.
    وذكر ان سبب مجيئهم الى المعتضد في الامان كان انهم أرادوا ان يفتكوا
    (10/44)
    بجيش بن خمارويه بن احمد بن طولون، فسعى بهم اليه، وكان راكبا، وكانوا في موكبه، وعلموا انه قد وقف على امرهم، فخرجوا من يومهم وسلكوا البريه، وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أياما، ومات منهم جماعه من العطش، وخرجوا على طريق مكة فوق الكوفه بمرحلتين او ثلاثة ووجه السلطان محمد بن سليمان صاحب الجيش الى الكوفه حتى كتب اسماءهم، وأقيمت لهم الوظائف من الكوفه، فلما قربوا من بغداد، خرجت اليهم الوظائف والخيم والطعام، ووصلوا الى المعتضد يوم دخلوا، فخلع عليهم، وحمل كل قائد منهم على دابه بسرجه ولجامه، وخلع على الباقين، وكان عددهم ستين رجلا.
    وفي يوم السبت لاربع عشره بقيت منها شخص الوزير عبيد الله بن سليمان الى الجبل لحرب ابن ابى دلف بأصبهان.
    خبر حصر الصقالبه القسطنطينية
    وفيها- فيما ذكر- ورد كتاب من طرسوس ان الصقالبه غزت الروم في خلق كثير، فقتلوا منهم وخربوا لهم قرى كثيره حتى وصلوا الى قسطنطينيه والجئوا الروم إليها، واغلقت أبواب مدينتهم، ثم وجه طاغيه الروم الى ملك الصقالبه ان ديننا ودينكم واحد، فعلام نقتل الرجال بيننا! فأجابه ملك الصقالبه ان هذا ملك آبائى، ولست منصرفا عنك الا بغلبه أحدنا صاحبه، فلما لم بحد ملك الروم خلاصا من صاحب الصقالبه، جمع من عنده من المسلمين، فأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبه، ففعلوا، وكشفوا الصقالبه، فلما راى ذلك ملك الروم خافهم على نفسه، فبعث اليهم فردهم، وأخذ منهم السلاح، وفرقهم في البلدان، حذرا من ان يجنوا عليه.
    خلاف جند جيش بن خمارويه عليه
    وللنصف من رجب من هذه السنه ورد الخبر من مصر ان الجند من المغاربه والبربر وثبوا على جيش بن خمارويه، وقالوا: لا نرضى بك أميرا علنيا فتنح عنا حتى نولي عمك، فكلمهم كاتبه على بن احمد الماذرائى، وسألهم ان ينصرفوا عنه يومهم ذلك، فانصرفوا وعادوا من غد، فعدا جيش على عمه الذى ذكروا انهم يؤمرونه، فضرب عنقه وعنق عم له آخر، ورمى بارؤسهما
    (10/45)
    اليهم، فهجم الجند على جيش بن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمه وانتهبوا داره، وانتهبوا مصر وأحرقوها، واقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
    وفي رجب منها امر المعتضد بكرى دجيل والاستقصاء عليه، وقلع صخر في فوهته كان يمنع الماء، فجبى لذلك من ارباب الضياع والاقطاعات اربعه آلاف دينار، وكسر- فيما ذكر- وانفق عليه، وولى ذلك كاتب زيرك وخادم من خدم المعتضد.
    ذكر الفداء بين المسلمين والروم
    وفي شعبان منها، كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي احمد بن طغان، وذكر ان الكتاب الوارد بذلك من طرسوس كان فيه:
    بسم الله الرحمن الرحيم:
    اعلمك ان احمد بن طغان نادى في الناس يحضرون الفداء يوم الخميس لاربع خلون من شعبان سنه ثلاث وثمانين ومائتين، وانه قد خرج الى لامس- وهو معسكر المسلمين- يوم الجمعه لخمس خلون من شعبان، وامر الناس بالخروج معه في هذا اليوم، فصلى الجمعه، وركب من مسجد الجامع ومعه راغب ومواليه، وخرج معه وجوه البلد والموالي والقواد والمطوعة باحسن زي، فلم يزل الناس خارجين الى لامس الى يوم الاثنين لثمان خلون من شعبان، فجرى الفداء بين الفريقين اثنى عشر يوما، وكانت جمله من فودى به من المسلمين من الرجال والنساء والصبيان الفين وخمسمائة واربعه انفس، واطلق المسلمون يوم الثلاثاء لسبع بقين من شعبان سميون رسول ملك الروم، واطلق الروم فيه يحيى بن عبد الباقى رسول المسلمين المتوجه في الفداء، وانصرف الأمير ومن معه.
    وخرج- فيما ذكر- احمد بن طغان بعد انصرافه من هذا الفداء في هذا الشهر في البحر، او خلف دميانه على عمله على طرسوس، ثم وجه بعده يوسف ابن الباغمردى على طرسوس ولم يرجع هو إليها
    . ذكر امر المعتضد مع عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف وأخيه بكر
    وفي يوم الجمعه لعشر خلون من شهر رمضان من هذه السنه قرئ كتاب
    (10/46)
    على المنبر بمدينه السلام في مسجد جامعها، بان عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف صار الى بدر وعبيد الله بن سليمان في الامان يوم السبت لثلاث بقين من شعبان سامعا مطيعا منقادا لأمير المؤمنين، مذعنا بالطاعة والمصير معهما الى بابه، وان عبيد الله بن سليمان خرج اليه فتلقاه، وصار به الى مضرب بدر، فاخذ عليه وعلى اهل بيته واصحابه البيعه لأمير المؤمنين، وخلع عليه بدر وعلى الرؤساء من اهل بيته، وانصرفوا الى مضرب قد اعد لهم، وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز في الامان على بدر وعبيد الله بن سليمان، فولياه عمل أخيه عمر، على ان يخرج اليه ويحاربه، فلما دخل عمر في الامان قالا لبكر: ان اخاك قد دخل في طاعه السلطان، وانما كنا وليناك عمله على انه عاص، والان فأمير المؤمنين اعلى عينا فيما يرى من أمركما، فامضيا الى بابه.
    وولى عيسى النوشرى أصبهان، واظهر انه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز في اصحابه، فكتب بذلك الى المعتضد، فكتب الى بدر يأمره بالمقام بموضعه الى ان يعرف خبر بكر وما اليه يصير امره، فأقام وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان الى ابى محمد على بن المعتضد بالري، ولحق بكر بن عبد العزيز بن ابى دلف بالاهواز، فوجه المعتضد في طلبه وصيفا موشكير، فخرج من بغداد في طلبه حتى بلغ حدود فارس، وقد كان لحقه- فيما ذكر- ولم يواقعه، وباتا، كل واحد منهما قريب من صاحبه، فارتحل بكر بالليل فلم يتبعه وصيف، ومضى بكر الى أصبهان، ورجع وصيف الى بغداد، فكتب المعتضد الى بدر يأمره بطلب بكر وعربه، فتقدم بدر الى عيسى النوشرى بذلك، فقال بكر بن عبد العزيز:
    عنى ملامك ليس حين ملام ... هيهات احدث زائدا للوام
    طارت غيايات الصبا عن مفرفى ... ومضى أوان شراستى وعرامى
    (10/47)
    القى الأحبة بالعراق عصيهم ... وبقيت نصب حوادث الأيام
    وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ... مرمى البعيد قطيعه الارحام
    وتشعب العرب الذين تصدعوا ... فذببت عن احسابهم بحسامى
    فيه تماسك ما وهى من امرهم ... والسمر عند تصادم الأقوام
    فلاقرعن صفاه دهر نابهم ... قرعا يهد رواسى الاعلام
    ولاضربن الهام دون حريمهم ... ضرب القدار نقيعه القدام
    ولاتركن الواردين حياضهم ... بقراره لمواطئ الاقدام
    يا بدر انك لو شهدت مواقفى ... والموت يلحظ والصفاح دوامي
    لذممت رأيك في اضاعه حرمتي ... ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
    حركتنى بعد السكون وانما ... حركت من حصني جبال تهام
    وعجمتنى فعجمت منى مرجما ... خشن المناكب كل يوم زحام
    قل للأمير ابى محمد الذى ... يجلو بغرته دجى الاظلام
    اسكنتنى ظل العلا فسكنته ... في عيشه رغد وعز نامى
    حتى إذا حلئت عنه نابني ... ما نابني وتنكرت ايامى
    فلأشكرن جميل ما أوليتني ... ما غردت في الأيك ورق حمام
    هذا ابو حفص يدي وذخيرتي ... للنائبات وعدتى وسنامى
    ناديته فأجابني، وهززته ... فهززت حد الصارم الصمصام
    من رام ان يغضى الجفون على القذى ... او يستكين يروم غير مرام
    ويخيم حين يرى الأسنة شرعا ... والبيض مصلته لضرب الهام
    وقال بكر بن عبد العزيز يذكر هرب النوشرى من بين يديه ويعير وصيفا
    (10/48)
    بالاحجام عنه ويتهدد بدرا:
    قالت البيض قد تغير بكر ... وبدا بعد وصله منه هجر
    ليس كالسيف مونس حين يعرو ... حادث معضل ويفدح امر
    أوقدوا الحرب بيننا فاصطلوها ... ثم حاصوا، فأين منها المفر!
    وبغوا شرنا فهذا أوان ... قد بدا شره ويتلوه شر
    قد راى النوشرى لما التقينا ... من إذا اشرع الرماح يفر
    جاء في قسطل لهام فصلنا ... صوله دونها الكماة تهر
    ولواء الموشجير افضى إلينا ... رويت عند ذاك بيض وسمر
    غر بدرا حلمي وفضل اناتى ... واحتمالي، وذاك مما يغر
    سوف يأتينه شواذب قب ... لاحقات البطون جون وشقر
    يتبارين كالسعالى عليها ... من بنى وائل اسود تكر
    لست بكرا ان لم ادعهم حديثا ... ما سرى كوكب وماكر دهر.
    [أخبار متفرقة]
    وفي يوم الجمعه لسبع خلون من شوال من هذه السنه مات على بن محمد ابن ابى الشوارب، فحمل الى سامرا من يومه في تابوت، وكانت ولايته للقضاء على مدينه ابى جعفر سته اشهر.
    وفي يوم الاثنين لاربع بقين من شوال منها دخل بغداد عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف قادما من أصبهان، فامر المعتضد- فيما ذكر- القواد باستقباله، فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقواد، وقعد له المعتضد، فوصل اليه، وخلع عليه، وحمله على دابه بسرج ولجام محلى بذهب، وخلع معه على ابنين له وعلى ابن أخيه احمد بن عبد العزيز وعلى نفسين من قواده، وانزل في الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله عند راس الجسر، وكانت قد فرشت له.
    وفي هذه السنه قرئ على القواد في دار المعتضد كتاب ورد من عمرو بن
    (10/49)
    الليث الصفار، بانه واقع رافع بن هرثمة وهزمه، وانه مر هاربا، وانه على ان يتبعه.
    وكانت الوقعه لخمس بقين من شهر رمضان، وقرئ الكتاب يوم الثلاثاء لاثنتى عشره خلت من ذي القعده.
    وفي يوم الأحد لثلاث عشره بقيت من ذي القعده، وردت خريطة- فيما ذكر- من عمرو بن الليث على المعتضد، وهو في الحلبه، فانصرف الى دار العامه، وقرئ الكتاب على القواد من عمرو بن الليث يخبر فيه انه وجه في اثر رافع بعد الهزيمة محمد بن عمرو البلخى مع قائد آخر من قواده، وقد كان رافع صار الى طوس فواقعوه، فانهزم واتبعوا اثره، فلحق بخوارزم، فقتل بخوارزم فأرسل بخاتمه مع الكتاب، وذكر انه قد حمل الرسول في امر الراس ما يخبر به السلطان.
    وفي يوم الجمعه لثمان بقين من ذي القعده منها قرئت الكتب على المنابر بقتل رافع بن هرثمة.
    (10/50)
    ثم دخلت
    سنه اربع وثمانين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة
    فمن ذلك ما كان من قدوم رسول عمرو بن الليث الصفار برأس رافع بن هرثمة في يوم الخميس لاربع خلون من المحرم على المعتضد، فامر بنصبه في المجلس بالجانب الشرقى الى الظهر، ثم تحويله الى الجانب الغربي، ونصبه هنالك الى الليل، ثم رده الى دار السلطان وخلع على الرسول وقت وصوله الى المعتضد بالراس.
    وفي يوم الخميس لسبع خلون من صفر كانت ملحمه بين راغب ودميانه بطرسوس، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان راغبا مولى الموفق ترك الدعاء لخمارويه بن احمد، ودعا لبدر مولى المعتضد، فوقع بينه وبين احمد بن طغان الخلاف، فلما انصرف ابن طغان من الفداء الذى كان في سنه ثلاث وثمانين ومائتين ركب البحر ولم يدخل طرسوس، ومضى وخلف دميانه للقيام بأمر طرسوس، فلما كان في صفر من هذه السنه، وجه يوسف بن الباغمردى ليخلفه على طرسوس، فلما دخلها وقوى به دميانه، كرهوا ما يفعله راغب من الدعاء لبدر، فوقعت بينهم الفتنة، وظفر بهم راغب، فحمل دميانه وابن الباغمردى وابن اليتيم مقيدين الى المعتضد.
    ولعشر بقين من صفر في يوم الاثنين من هذه السنه وردت خريطة من الجبل، بان عيسى النوشرى اوقع ببكر بن عبد العزيز بن ابى دلف في حدود أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، وافلت في نفر يسير.
    وفي يوم الخميس لاربع عشره خلت من شهر ربيع الاول منها، خلع على ابى عمر يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينه ابى جعفر المنصور مكان على ابن محمد بن ابى الشوارب، وقضاء قطر بل ومسكن وبزرجسابور
    (10/51)
    والرذانين وقعد للخصوم في هذا اليوم في المسجد الجامع، ومكثت مدينه ابى جعفر من لدن مات ابن ابى الشوارب الى ان وليها ابو عمر بغير قاض، وذلك خمسه اشهر واربعه ايام.
    وفي يوم الأربعاء لثلاث عشره خلت منه في هذه السنه، أخذ خادم نصرانى لغالب النصراني متطبب السلطان يقال له وصيف، فرفع الى الحبس، وشهد عليه انه شتم النبي ص فحبس، ثم اجتمع من غد هذا اليوم ناس من العامه بسبب هذا الخادم، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه باقامه الحد عليه بسبب ما شهد عليه، فلما كان يوم الأحد لثلاث عشره بقيت منه اجتمع اهل باب الطاق الى قنطره البردان وما يليها من الاسواق، وتداعوا، ومضوا الى باب السلطان، فلقيهم ابو الحسين ابن الوزير، فصاحوا به، فاعلمهم انه قد انهى خبره الى المعتضد، فكذبوه واسمعوه ما كره، ووثبوا باعوانه ورجاله حتى هربوا منهم، ومضوا الى دار المعتضد بالثريا، فدخلوا من الباب الاول والثانى فمنعوا من الدخول، فوثبوا على من منعهم، فخرج اليهم من سألهم عن خبرهم، فاخبروه فكتب به الى المعتضد، فادخل اليه منهم جماعه، وسألهم عن الخبر فذكروه له، فأرسل معهم خفيفا السمرقندي الى يوسف القاضى، وتقدم الى خفيف ان يأمر يوسف بالنظر في امر الخادم، وان ينهى اليه ما يقف عليه من امره، فمضى معهم خفيف الى يوسف، فكادوا يقتلونه ويقتلون يوسف لما دخلوا عليه مما ازدحموا، حتى افلت يوسف منهم، ودخل بابا واغلقه دونهم، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا كان للعامه في امره اجتماع.
    [أخبار متفرقة]
    وفي هذا الشهر من هذه السنه قدم- فيما ذكر- قوم من اهل طرسوس على السلطان يسالونه ان يولى عليهم وال، ويذكرون ان بلدهم بغير وال، وكانت طرسوس قبل في يدي ابن طولون، فأساء اليهم، فاخرجوا عامله عن البلد، وراسلهم في ذلك، ووعدهم الاحسان، فأبوا ان يتركوا له
    (10/52)
    غلاما يدخل بلدهم، وقالوا: من جاءنا من قبلك حاربناه، فكف عنهم.
    وفي يوم الخميس لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة- فيما ذكر- ظهرت ظلمه بمصر، وحمره في السماء شديده، حتى كان الرجل ينظر الى وجه الآخر، فيراه احمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك، ومكثوا كذلك من العصر الى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله ويتضرعون اليه.
    وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الاولى، ولإحدى عشره ليله خلت من حزيران، نودى في الارباع والاسواق ببغداد بالنهى عن وقود النيران ليله النيروز، وعن صب الماء في يومه، ونودى بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كان عشيه يوم الجمعه نودى على باب سعيد بن يكسين صاحب الشرطه بالجانب الشرقى من مدينه السلام، بان امير المؤمنين قد اطلق للناس في وقود النيران وصب الماء، ففعلت العامه من ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا الماء على اصحاب الشرطه في مجلس الجسر- فيما ذكر.
    وفيها اغريت العامه بالصياح بمن رأوا من الخدم السود: يا عقيق، فكانوا يغضبون من ذلك، فوجه المعتضد خادما اسود عشيه الجمعه برقعة الى ابن حمدون النديم، فلما بلغ الخادم راس الجسر من الجانب الشرقى صاح به صائح من العامه: يا عقيق! فشتم الخادم الصائح، وقنعه، فاجتمعت جماعه من العامه على الخادم فنكسوه وضربوه، وضاعت الرقعة التي كانت معه فرجع الى السلطان فاخبره بما صنع به، فامر المعتضد طريفا المخلدي الخادم بالركوب والقبض على كل من تولع بالخدم وضربه بالسياط فركب طريف يوم السبت لثلاث عشره خلت من جمادى الاولى في جماعه من الفرسان والرجاله، وقدم بين يديه خادما اسود، فصار الى باب الطاق لما امر به من القبض على من صاح بالخادم: يا عقيق، فقبض فيما ذكر بباب الطابق على سبعه انفس، ذكر ان بعضهم كان بزيا، فضربوا بالسياط في مجلس الشرطه
    (10/53)
    بالجانب الشرقى وعبر طريف فمضى الى الكرخ، ففعل مثل ذلك، وأخذ خمسه انفس فضربهم في مجلس الشرطه بالشرقيه، وحمل الجميع على جمال، ونودى عليهم: هذا جزاء من اولع بخدم السلطان، وصاح بهم: يا عقيق، وحبسوا يومهم، وأطلقوا بالليل.
    وفي هذه السنه عزم المعتضد بالله على لعن معاويه بن ابى سفيان على المنابر، وامر بإنشاء كتاب بذلك يقرا على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان بن وهب اضطراب العامه، وانه لا يامن ان تكون فتنه، فلم يلتفت الى ذلك من قوله.
    وذكر ان أول شيء بدا به المعتضد حين اراد ذلك الأمر بالتقدم الى العامه بلزوم اعمالهم، وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان، الا ان يسألوا عن شهاده ان كانت عندهم، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينه السلام في الارباع والمحال والاسواق، فقرئت يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الاولى من هذه السنه، ثم منع يوم الجمعه لاربع بقين منها القصاص من القعود في الجامعين، ومنع اهل الحلق في الفتيا او غيرهم من القعود في المسجدين، ومنع الباعه من القعود في رحابهما.
    وفي جمادى الآخرة نودى في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص او غيره، ومنع القصاص واهل الحلق من القعود.
    وفي يوم الحادي عشر- وذلك يوم الجمعه- نودى في الجامعين بان الذمة بريه ممن اجتمع من الناس على مناظره او جدل، وان من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم الى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين الا يترحموا على معاويه، ولا يذكروه بخير.
    ذكر كتاب المعتضد في شان بنى اميه
    وتحدث الناس ان الكتاب الذى امر المعتضد بانشائه بلعن معاويه يقرا بعد صلاه الجمعه على المنبر، فلما صلى الناس الجمعه بادروا الى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرا.
    فذكر ان المعتضد امر باخراج الكتاب الذى كان المأمون امر بانشائه بلعن
    (10/54)
    معاويه، فاخرج له من الديوان، فاخذ من جوامعه نسخه هذا الكتاب، وذكر انها نسخه الكتاب الذى أنشئ للمعتضد بالله:
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العلى العظيم، الحليم الحكيم، العزيز الرحيم، المنفرد بالوحدانية، الباهر بقدرته، الخالق بمشيئته وحكمته، الذى يعلم سوابق الصدور، وضمائر القلوب، لا يخفى عليه خافية، ولا يغرب عنه مثقال ذره في السموات العلا، ولا في الارضين السفلى، قد احاط بكل شيء علما، واحصى كل شيء عددا، وضرب لكل شيء أمدا، وهو العليم الخبير والحمد لله الذى برا خلقه لعبادته، وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه في طاعه مطيعهم، وماضى امره في عصيان عاصيهم، فبين لهم ما يأتون وما يتقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجه، وقدم اليهم المعذرة، واختار لهم دينه الذى ارتضى لهم، واكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه واهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له اعداءه واهل معصيته، ليهلك من هلك عن بينه، ويحيا من حي عن بينه، وان الله لسميع عليم والحمد لله الذى اصطفى محمدا رسوله من جميع بريته، واختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى الى عباده اجمعين، وانزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتاذن له بالنصر والتمكين، وايده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى، واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضل من ادبر وتولى، حتى اظهر الله امره، وأعز نصره، وقهر من خالفه، وانجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤديا لأمره، مبلغا لرسالته، ناصحا لامته، مرضيا مهتديا الى اكرم مآب المنقلبين، واعلى منازل انبيائه المرسلين، وعباده الفائزين، فصلى الله عليه افضل صلاه وأتمها، وأجلها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين.
    والحمد لله الذى جعل امير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثه
    (10/55)
    خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين، والمقومين لعباده المؤمنين، والمستحفظين ودائع الحكمه، ومواريث النبوه، والمستخلفين في الامه، والمنصورين بالعز والمنعه، والتأييد والغلبه، حتى «يظهر الله دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.» *
    وقد انتهى الى امير المؤمنين ما عليه جماعه من العامه من شبهه قد دخلتهم في اديانهم، وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها اهواؤهم، ونطقت بها السنتهم، على غير معرفه ولا رويه، وقلدوا فيها قاده الضلالة بلا بينه ولا بصيره، وخالفوا السنن المتبعه، الى الأهواء المبتدعه، قال قَالَ الله عز وجل: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ، خروجا عن الجماعه، ومسارعه الى الفتنة وإيثارا للفرقة، وتشتيتا للكلمة وإظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة، وبتر منه العصمة، واخرجه من الملة، واوجب عليه اللعنه، وتعظيما لمن صغر الله حقه، واوهن امره، واضعف ركنه، من بنى اميه الشجرة الملعونه، ومخالفه لمن استنقذهم الله به من الهلكة، واسبغ عليهم به النعمه، من اهل بيت البركه والرحمه، قال الله عز وجل: «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ*» فأعظم امير المؤمنين ما انتهى اليه من ذلك، وراى في ترك إنكاره حرجا عليه في الدين، وفسادا لمن قلده الله امره من المسلمين، وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، واقامه الحجه على الشاكين، وبسط اليد على العاندين.
    وامير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس بان الله عز وجل لما ابتعث محمدا بدينه، وامره ان يصدع بامره، بدا باهله وعشيرته، فدعاهم الى ربه، وانذرهم وبشرهم، ونصح لهم وارشدهم، فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع امره نفر يسير من بنى ابيه، من بين مؤمن بما اتى به من ربه، وبين ناصر له وان لم يتبع دينه، إعزازا له، وإشفاقا عليه، لماضى علم الله
    (10/56)
    فيمن اختار منهم، ونفذت مشيئته فيما يستودعه اياه من خلافته وارث نبيه، فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميته، يدفعون من نابذه، وينهرون من عاره وعانده، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده، ويبايعون له من سمح بنصرته، ويتجسسون له اخبار اعدائه، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له براى العين، حتى بلغ المدى، وحان وقت الاهتداء، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله، والايمان به، باثبت بصيره، واحسن هدى ورغبه، فجعلهم الله اهل بيت الرحمه، واهل بيت الدين- «اذهب عنهم الرجس وطهرهم تَطْهِيراً» - ومعدن الحكمه، وورثه النبوه وموضع الخلافه، واوجب لهم الفضيلة، والزم العباد لهم الطاعة.
    وكان ممن عانده ونابذه، وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم، يتلقونه بالتكذيب والتثريب، ويقصدونه بالأذية والتخويف، ويبادونه بالعداوة، وينصبون له المحاربة، ويصدون عنه من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه واشدهم في ذلك عداوة واعظمهم له مخالفه، واولهم في كل حرب ومناصبه، لا يرفع على الاسلام رايه الا كان صاحبها وقائدها ورئيسها، في كل مواطن الحرب، من بدر واحد والخندق والفتح ابو سفيان بن حرب واشياعه من بنى اميه، الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عده مواطن، وعده مواضع، لماضى علم الله فيهم وفي امرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم، فحارب مجاهدا، ودافع مكابدا، واقام منابذا حتى قهره السيف، وعلا امر الله وهم كارهون، فتقول بالإسلام غير منطو عليه، واسر الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون، وميز له المؤلفه قلوبهم، فقبله وولده على علم منه، فمما لعنهم الله به على لسان نبيه ص، وانزل به كتابا قوله:
    (10/57)
    «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» ولا اختلاف بين احد انه اراد بها بنى اميه.
    [ومنه قول الرسول ع وقد رآه مقبلا على حمار ومعاويه يقود به ويزيد ابنه يسوق به: لعن الله القائد والراكب والسائق] ومنه ما يرويه الرواه من قوله:
    يا بنى عبد مناف تلقفوها تلقف الكره، فما هناك جنه ولا نار وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنه من الله كما لحقت «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» ومنه ما يروون من وقوفه على ثنية احد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: هاهنا ذببنا محمدا واصحابه ومنه الرؤيا التي رآها النبي ص فوجم لها، فما رئى ضاحكا بعدها، فانزل الله: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ، فذكروا انه راى نفرا من بنى اميه ينزون على منبره ومنه طرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن ابى العاص لحكايته اياه، والحقه الله بدعوه رسوله آيه باقيه حين رآه يتخلج، فقال له: كن كما أنت، فبقى على ذلك سائر عمره، الى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنه كانت في الاسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها او أريق بعدها.
    ومنه ما انزل الله على نبيه في سوره القدر: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» ، من ملك بنى اميه [ومنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بمعاويه ليكتب بامره بين يديه، فدافع بامره، واعتل بطعامه، فقال النبي: لا اشبع الله بطنه، فبقى لا يشبع،] ويقول: والله ما اترك الطعام شبعا، ولكن اعياء [ومنه ان رسول الله ص قال: يطلع من هذا الفج رجل من امتى يحشر على غير ملتي، فطلع معاويه] [ومنه ان رسول الله ص، قال: إذا رايتم معاويه على منبري فاقتلوه] [ومنه الحديث المرفوع المشهور انه قال: ان معاويه في تابوت من نار في اسفل
    (10/58)
    درك منها ينادى: يا حنان يا منان، الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.
    ] ومنه انبراؤه بالمحاربة لافضل المسلمين في الاسلام مكانا، واقدمهم اليه سبقا، واحسنهم فيه أثرا وذكرا، على بن ابى طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد انصاره بضلاله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه، من إطفاء نور الله وجحود دينه، و «يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المشركون» .
    يستهوى اهل الغباوة، ويموه على اهل الجهاله بمكره وبغيه، [الذين قدم رسول الله ص الخبر عنهما، فقال لعمار: تقتلك الفئة الباغيه تدعوهم الى الجنه ويدعونك الى النار،] مؤثرا للعاجلة، كافرا بالآجلة، خارجا من ربقه الاسلام، مستحلا للدم الحرام، حتى سفك في فتنته، وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهدا لله، مجتهدا في ان يعصى الله فلا يطاع، وتبطل احكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يدان وان تعلو كلمه الضلالة، وترتفع دعوه الباطل، وكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، ودينه المنصور، وحكمه المتبع النافذ، وامره الغالب، وكيد من حاده المغلوب الداحض، حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما اتبعها، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها، وسن سنن الفساد التي عليه إثمها واثم من عمل بها الى يوم القيامه، وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها، واغتره الاملاء، واستدرجه الامهال، «والله له بالمرصاد» .
    ثم مما اوجب الله له به اللعنه، قتله من قتل صبرا من خيار الصحابه والتابعين واهل الفضل والديانه، مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عدى، فيمن قتل من أمثالهم، في ان تكون له العزه والملك والغلبه، ولله العزه والملك والقدره، والله عز وجل يقول: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً.»
    ومما استحق به اللعنه من الله ورسوله ادعاؤه زياد بن سميه، جراه على الله، والله يقول: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» [وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
    (10/59)
    عليه وسلم، يقول: ملعون من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه،] [ويقول: الولد للفراش وللعاهر الحجر،] فخالف حكم الله عز وجل وسنه نبيه ص جهارا، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فادخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في أم حبيبه زوجه النبي ص وفي غيرها من سفور وجوه ما قد حرمه الله، واثبت بها قربى قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله، مما لم يدخل على الاسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه.
    ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله الى ابنه يزيد المتكبر الخمير، صاحب الديوك والفهود والقرود، واخذه البيعه له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدد والرهبه، وهو يعلم سفهه ويطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأة له، وعصى الله ورسوله فيه، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فاوقع باهل الحره الوقيعه التي لم يكن في الاسلام اشنع منها ولا افحش، مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن ان قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهرا بكفره ومظهرا لشركه:
    ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
    قد قتلنا القوم من ساداتكم ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل
    فأهلوا واستهلوا فرحا ... ثم قالوا: يا يزيد لا تسل
    لست من خندف ان لم انتقم ... من بنى احمد ما كان فعل
    ولعت هاشم بالملك فلا ... خبر جاء، ولا وحى نزل
    هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع الى الله ولا الى دينه ولا الى كتابه ولا الى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله ثم من اغلظ ما انتهك، واعظم ما اخترم سفكه دم الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ
    (10/60)
    وابن فاطمه بنت رسول الله.
    ص مع موقعه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهاده رسول الله ص له ولأخيه بسيادة شباب اهل الجنه، اجتراء على الله، وكفرا بدينه، وعداوة لرسوله، ومجاهده لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وباهل بيته قوما من كفار اهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمه، ولا يرقب منه سطوه، فبتر الله عمره، واجتث اصله وفرعه، وسلبه ما تحت يده، واعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.
    هذا الى ما كان من بنى مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل احكامه، واتخاذ مال الله دولا بينهم، وهدم بيته، واستحلال حرامه، ونصبهم المجانيق عليه، ورميهم اياه بالنيران، لا يألون له إحراقا وإخرابا، ولما حرم الله منه استباحه وانتهاكا، ولمن لجأ اليه قتلا وتنكيلا، ولمن امنه الله به اخافه وتشريدا، حتى إذا حقت عليهم كلمه العذاب، واستحقوا من الله الانتقام، وملئوا الارض بالجور والعدوان، وعموا عباد الله بالظلم والاقتسار، وحلت عليهم السخطه، ونزلت بهم من الله السطوة، اتاح الله لهم من عتره نبيه، واهل وراثته من استخلصهم منهم بخلافته، مثل ما اتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لاوائلهم الكافرين، فسفك الله بهم دماءهم مرتدين، كما سفك بابائهم دماء آباء الكفره المشركين، وقطع الله دابر القوم الظالمين، والحمد لله رب العالمين ومكن الله المستضعفين، ورد الله الحق الى اهله المستحقين، كما قال جل شانه: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.
    » واعلموا ايها الناس، ان الله عز وجل انما امر ليطاع، ومثل ليتمثل، وحكم ليقبل، والزم الأخذ بسنه نبيه ص ليتبع، وان كثيرا ممن ضل فالتوى، وانتقل من اهل الجهاله والسفاه ممن اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وقد قال الله عز وجل: «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ»
    (10/61)
    فانتهوا معاشر الناس عما يسخط الله عليكم، وراجعوا ما يرضيه عنكم، وارضوا من الله بما اختار لكم، والزموا ما امركم به، وجانبوا ما نهاكم عنه، واتبعوا الصراط المستقيم، والحجه البينه، والسبل الواضحه، واهل بيت الرحمه، الذين هداكم الله بهم بديئا، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيرا، واصاركم الى الخفض والأمن والعز بدولتهم، وشملكم الصلاح في اديانكم ومعايشكم في ايامهم، والعنوا من لعنه الله ورسوله، وفارقوا من لا تنالون القربه من الله الا بمفارقته.
    اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاويه ابنه، ويزيد بن معاويه، ومروان بن الحكم وولده، اللهم العن ائمه الكفر، وقاده الضلالة، وأعداء الدين، ومجاهدى الرسول، ومغيرى الأحكام، ومبدلي الكتاب، وسفاكى الدم الحرام.
    اللهم انا نتبرأ إليك من موالاه اعدائك، ومن الاغماض لأهل معصيتك، كما قلت: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
    » يايها الناس، اعرفوا الحق تعرفوا اهله، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها، فانه انما يبين عن الناس اعمالهم، ويلحقهم بالضلال والصلاح آباؤهم، فلا يأخذكم في الله لومه لائم، ولا يميلن بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم، وطاعه من تخرجكم طاعته الى معصية ربكم.
    ايها الناس، بنا هداكم الله، ونحن المستحفظون فيكم، امر الله ونحن ورثه رسول الله والقائمون بدين الله، فقفوا عند ما نقفكم عليه، وانفذوا لما نأمركم به، فإنكم ما أطعتم خلفاء الله وائمه الهدى على سبيل الايمان والتقوى، وامير المؤمنين يستعصم الله لكم، ويسأله توفيقكم، ويرغب الى الله في هدايتكم لرشدكم، وفي حفظ دينه عليكم، حتى تلقوه به مستحقين طاعته، مستحقبين لرحمته، والله حسب امير المؤمنين فيكم، وعليه توكله، وبالله على ما قلده من أموركم استعانته، ولا حول لأمير المؤمنين ولا قوه الا بالله والسلام عليكم.
    وكتب ابو القاسم عبيد الله بن سليمان في سنه اربع وثمانين ومائتين
    (10/62)
    وذكر ان عبيد الله بن سليمان احضر يوسف بن يعقوب القاضى، وامره ان يعمل الحيله في ابطال ما عزم عليه المعتضد، فمضى يوسف بن يعقوب، فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: يا امير المؤمنين، انى اخاف ان تضطرب العامه، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركه فقال: ان تحركت العامه او نطقت وضعت سيفي فيها، فقال: يا امير المؤمنين، فما تصنع بالطالبين الذين هم في كل ناحيه يخرجون، ويميل اليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول وماثرهم، وفي هذا الكتاب اطراؤهم، او كما قال، وإذا سمع الناس هذا كانوا اليهم اميل، وكانوا هم ابسط السنه، واثبت حجه منهم اليوم فامسك المعتضد فلم يرد عليه جوابا، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء.
    [أخبار متفرقة]
    وفي يوم الجمعه لاربع عشره بقيت من رجب منها شخص جعفر بن بغلاغز الى عمرو بن الليث الصفار وهو بنيسابور بخلع ولواء لولايته على الري وهدايا من قبل المعتضد.
    وفي هذه السنه لحق بكر بن عبد العزيز بن ابى دلف بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان، فأقام بدر وعبيد الله بن سليمان ينتظران امر بكر الام يؤول وعلى اصلاح الجبل.
    وفيها- فيما ذكر- فتحت من بلاد الروم قره، على يد راغب مولى الموفق وابن كلوب، وذلك في يوم الجمعه من رجب.
    وفي ليله الأربعاء لاثنتى عشره خلت من شعبان- او ليله الخميس فيما ذكر- ظهر شخص انسان في يده سيف في دار المعتضد بالثريا، فمضى اليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه الشخص بالسيف ضربه قطع بها منطقته، ووصل السيف الى بدن الخادم، ورجع الخادم منصرفا عنه هاربا، ودخل الشخص في زرع في البستان، فتوارى فيه، فطلب باقى ليلته ومن غد، فلم يوقف له على اثر، فاستوحش المعتضد لذلك، وكثر الناس في امره رجما
    (10/63)
    بالظنون، حتى قالوا: انه من الجن، ثم عاد هذا الشخص للظهور بعد ذلك مرارا كثيره، حتى وكل المعتضد بسور داره، واحكم السور وراسه، وجعل عليه كالبرابخ، لئلا يقع عليه الكلاب ان رمى به، وجيء باللصوص من الحبس ونوظروا في ذلك، وهل يمكن احد الدخول اليه بنقب او تسلق.
    وفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان من هذه السنه، وجه كرامة بن مر من الكوفه بقوم مقيدين، ذكر انهم من القرامطة، فأقروا على ابى هاشم بن صدقه الكاتب انه كان يكاتبهم، وانه احد رؤسائهم، فقبض على ابى هاشم، وقيد وحبس في المطامير.
    وفي يوم السبت لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنه جمع المجانين والمعزمون، ومضى بهم الى دار المعتضد في الثريا بسبب الشخص الذى كان يظهر له، فادخلوا الدار، وصعد المعتضد عليه له، فأشرف عليهم، فلما رآهم صرعت امراه كانت معهم من المجانين واضطربت، وتكشفت، فضجر وانصرف عنهم، ووهب لكل واحد منهم خمسه دراهم- فيما ذكر- وصرفوا.
    وقد كان وجه الى المعزمين قبل ان يشرف عليهم من يسألهم عن خبر الشخص الذى ظهر له: هل يمكنهم ان يعلموا علمه؟ فذكر قوم منهم انهم يعزمون على بعض المجانين، فإذا سقط سال الجنى عن خبر ذلك الشخص وما هو، فلما راى المرأة التي صرعت امر بصرفهم وفي ذي القعده منها ورد الخبر من أصبهان، بوثوب الحارث بن عبد العزيز ابن ابى دلف المعروف بابى ليلى بشفيع الخادم الموكل كان به فقتله، وكان اخوه عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف اخذه فقيده، وحمله الى قلعه لال ابى دلف بالزز، فحبسه فيها، وكان كل ما لال ابى دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر في القلعة، وشفيع مولاهم موكل بحفظ ذلك وحفظ القلعة، ومعه جماعه من غلمان عمر وخاصته، فلما استامن عمر الى السلطان، وهرب بكر عاصيا للسلطان بقيت القلعة بما فيها في يد شفيع، فكلمه ابو ليلى في اطلاقه فأبى، وقال: لا افعل فيك وفيما في يدي الا بما يأمرني به عمر.
    فذكر عن جاريه لأبي ليلى انها قالت: كان مع ابى ليلى في الحبس غلام
    (10/64)
    صغير يخدمه، وآخر يخرج ويدخل في حوائجه ولا يبيت عنده، ويبيت عنده الغلام الصغير، فقال ابو ليلى لغلامه الذى يخرج في حوائجه: احتل لي في مبرد تدخله الى، ففعل وادخله في شيء من طعامه وكان شفيع الخادم يجيء في كل ليله إذا اراد ان ينام الى البيت الذى فيه ابو ليلى حتى يراه، ثم يقفل عليه باب البيت هو بيده ويمضى فينام، وتحت فراشه سيف مسلول وكان ابو ليلى قد سال ان تدخل اليه جاريه، فادخلت اليه جاريه حدثه السن، فذكر عن ذلفاء جاريه ابى ليلى عن هذه الجاريه انها قالت: برد ابو ليلى المسمار الذى في القيد، حتى كان يخرجه من رجله إذا شاء قالت: وجاء شفيع الخادم عشيه من العشايا الى ابى ليلى، فقعد معه يحدثه، فسأله ابو ليلى ان يشرب معه اقداحا، ففعل، ثم قام الخادم لحاجته قالت: فأمرني ابو ليلى، ففرشت فراشه، فجعل عليه ثيابا في موضع الإنسان من الفراش، وغطى على الثياب باللحاف، وأمرني ان اقعد عند رجل الفراش، وقال لي: إذا جاء شفيع لينظر الى ويقفل الباب، فسألك عنى فقولي: هو نائم وخرج ابو ليلى من البيت، فاختفى في جوف فرش ومتاع في صفه فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر الى الفراش، وسال الجاريه فاخبرته انه قد نام، فاقفل الباب، فلما نام الخادم ومن معه في الدار التي في القلعة خرج ابو ليلى، فاخذ السيف من تحت فراش شفيع، وشد عليه فقتله، فوثب الغلمان الذين كانوا ينامون حوله فزعين، فاعتزلهم ابو ليلى والسيف في يده، وقال لهم: انا ابو ليلى قد قتلت شفيعا، ولئن تقدم الى منكم احد لاقتلنه وأنتم آمنون، فاخرجوا من الدار حتى أكلمكم بما اريد، ففتحوا باب القلعة، وخرجوا، وجاء حتى قعد على باب القلعة، واجتمع الناس ممن كان في القلعة، فكلمهم ووعدهم الاحسان، وأخذ عليهم الايمان فلما اصبح نزل من القلعة، ووجه الى الأكراد واهل الزموم، فجمعهم واعطاهم، وخرج مخالفا على السلطان وقيل ان قتله الخادم كان في ليله السبت لاثنتى عشره بقيت من ذي القعده من هذه السنه، وقيل: انه ذبح الخادم ذبحا
    (10/65)
    بسكين كان أدخلها اليه غلامه، ثم أخذ السيف من تحت فراش الخادم وقام به الى الغلمان.
    وفي هذه السنه- وهي سنه اربع وثمانين ومائتين- كان المنجمون يوعدون الناس بغرق اكثر الأقاليم، وان إقليم بابل لا يسلم منه الا اليسير، وان ذلك يكون بكثرة الامطار وزياده المياه في الانهار والعيون والابار، فقحط الناس فيها فلم يروا فيها من المطر الا اليسير، وغارت المياه في الانهار، والعيون والابار، حتى احتاج الناس الى الاستسقاء فاستسقوا ببغداد مرات ولليلة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة كانت- فيما ذكر- وقعه بين عيسى النوشرى وبين ابى ليلى بن عبد العزيز بن ابى دلف، وذلك يوم الخميس دون أصبهان بفرسخين، فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه- فيما ذكر- فنحره، فسقط عن دابته، وانهزم اصحابه، وأخذ راسه فحمل الى أصبهان.
    وحج بالناس فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن داود الهاشمى المعروف باترجه.
    (10/66)
    ثم دخلت
    سنه خمس وثمانين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من قطع صالح بن مدرك الطائي في جماعه من طيّئ على الحاج بالأجفر يوم الأربعاء لاثنتى عشره بقيت من المحرم، فحاربه الجنى الكبير، وهو امير القافلة، فظفر الاعراب بالقافلة، فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات، وأخذوا جماعه من النساء الحرائر والممالك وقيل ان الذى أخذوا من الناس بقيمة الفى الف دينار.
    ولسبع بقين من المحرم منها قرئ على جماعه من حاج خراسان في دار المعتضد بتوليه عمرو بن الليث الصفار ما وراء نهر بلخ، وعزل اسماعيل بن احمد عنه.
    ولخمس خلون من صفر منها ورد مدينه السلام وصيف كامه مع جماعه من القواد من قبل بدر مولى المعتضد وعبيد الله بن سليمان من الجبل، معهم راس الحارث بن عبد العزيز بن ابى دلف المعروف بابى ليلى، فمضوا به الى دار المعتضد بالثريا، فاستوهبه اخوه فوهبه، واستاذنه في دفنه فاذن له، وخلع على عمر بن عبد العزيز في هذا اليوم وعلى جماعه من القواد القادمين.
    وفيها- فيما ذكر- كتب صاحب البريد من الكوفه، يذكر ان ريحا صفراء ارتفعت بنواحي الكوفه في ليله الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الاول، فلم تزل الى وقت صلاه المغرب، ثم استحالت سوداء، فلم يزل الناس في تضرع الى الله.
    وان السماء مطرت بعقب ذلك مطرا شديدا برعود هائله وبروق متصله، ثم سقط بعد ساعه بقرية تعرف بأحمداباذ ونواحيها حجارة بيض وسود مختلفه الألوان، في أوساطها ضغطه شبه افهار العطارين، فانفذ منها حجرا، فاخرج الى الدواوين والناس حتى راوه
    (10/67)
    ولتسع بقين منه شخص ابن الاخشاد أميرا على طرسوس من بغداد مع النفر الذين كانوا قدموا منها يسألون ان يولى عليهم وال.
    وخرج أيضا في هذا اليوم من بغداد فاتك مولى المعتضد للنظر في امور العمال بالموصل وديار ربيعه وديار مضر والثغور الشامية والجزرية واصلاح الأمور بها الى ما كان يتقلده من اعمال البريد بهذه النواحي.
    وفي هذه السنه ورد الخبر- فيما ذكر- من البصره ان ريحا ارتفعت بها بعد صلاه الجمعه لخمس بقين من شهر ربيع الاول صفراء، ثم استحالت خضراء ثم سوداء، ثم تتابعت الامطار بما لم يروا مثلها، ثم وقع برد كبار كان وزن البرده الواحدة مائه وخمسين درهما- فيما قيل- وان الريح اقلعت من نهر الحسين خمسمائة نخله واكثر، ومن نهر معقل مائه نخله عددا.
    [أخبار متفرقة]
    وفيها كانت وفاه الخليل بن ريمال بحلوان.
    ولخمس خلون من جمادى الآخرة ورد الخبر على السلطان ان بكر بن عبد العزيز بن ابى دلف توفى بطبرستان من عله اصابته، ودفن هنالك.
    فاعطى الذى جاء بالخبر- فيما ذكر- الف دينار وفيها ولى المعتضد محمد بن ابى الساج اعمال اذربيجان وأرمينية، وكان قد تغلب عليها وخالف، وبعث اليه بخلع وحملان.
    وفيها ورد الخبر لثلاث خلون من شعبان ان راغبا الخادم مولى الموفق غزا في البحر، فاظفره الله بمراكب كثيره، وبجميع من فيها من الروم، فضرب اعناق ثلاثة آلاف من الروم الذين كانوا في المراكب، واحرق المراكب، وفتح حصونا كثيره من حصون الروم، وانصرفوا سالمين.
    وفي ذي الحجه منها ورد الخبر بوفاه احمد بن عيسى بن شيخ وقيام ابنه محمد بن احمد بن عيسى بما كان في يد ابيه بأمد، وما يليها على سبيل التغلب.
    ولإحدى عشره بقيت من ذي الحجه منها خرج المعتضد من بغداد قاصدا الى آمد، وخرج معه ابنه ابو محمد والقواد والغلمان، واستخلف ببغداد صالحا
    (10/68)
    الامين الحاجب، وقلده النظر في المظالم وامر الجسرين وغير ذلك.
    وفيها وجه هارون بن خمارويه بن احمد بن طولون ومن معه من قواد المصريين الى المعتضد وصيف قاطرميز، يسالونه مقاطعتهم عما في ايديهم من مصر والشام، واجرى هارون على ما كان يجرى عليه أبوه، فقدم وصيف بغداد، فرده المعتضد، ووجه معه عبد الله بن الفتح ليشافههم برسائل، ويشترط عليهم شروطا، فخرجا لذلك في آخر هذه السنه.
    وفيها غزا ابن الاخشاد باهل طرسوس وغيرهم في ذي الحجه، وبلغ سلندو.
    وفتح عليه، وكان انصرافه الى طرسوس في سنه ست وثمانين ومائتين.
    وحج بالناس فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن داود الهاشمى.
    (10/69)
    ثم دخلت
    سنه ست وثمانين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة
    فمن ذلك ما كان من توجيه محمد بن ابى الساج ابنه المعروف بابى المسافر الى بغداد رهينه بما ضمن للسلطان من الطاعة والمناصحة، فقدم- فيما ذكر- يوم الثلاثاء، لسبع خلون من المحرم منها، معه هدايا من الدواب والمتاع وغير ذلك، والمعتضد يومئذ غائب عن بغداد.
    وفي شهر ربيع الآخر منها ورد الخبر ان المعتضد بالله وصل الى آمد، فأناخ بجنده عليها، واغلق محمد بن احمد بن عيسى بن شيخ عليه أبواب مدينه آمد، وعلى من فيها من اشياعه ففرق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم، وذلك لايام بقيت من شهر ربيع الاول، ثم جرت بينهم حروب، ونصب عليهم المجانيق، ونصب اهل آمد على سورهم المجانيق، وتراموا بها.
    وفي يوم السبت لإحدى عشره بقيت من جمادى الاولى وجه محمد بن احمد ابن عيسى الى المعتضد يطلب لنفسه ولأهله ولأهل آمد الامان، فأجابه الى ذلك، فخرج محمد بن احمد بن عيسى في هذا اليوم ومن معه من اصحابه واوليائه فوصلوا الى المعتضد، فخلع عليه وعلى رؤساء اصحابه، وانصرفوا الى مضرب قد اعد لهم، وتحول المعتضد من عسكره الى منازل ابن عيسى ابن شيخ ودوره، وكتب بذلك كتابا الى مدينه السلام مؤرخا بيوم الأحد لعشر بقين من جمادى الاولى ولخمس بقين من جمادى الاولى منها ورد الكتاب من المعتضد بفتحه آمد الى مدينه السلام، وقرئ على المنبر بالجامع وفيها انصرف عبد الله بن الفتح الى المعتضد وهو مقيم بأمد من مصر باجوبه كتبه الى هارون بن خمارويه، واعلمه ان هارون قد بذل ان يسلم اعمال قنسرين والعواصم، ويحمل الى بيت المال ببغداد في كل سنه أربعمائة الف
    (10/70)
    وخمسين الف دينار، وانه يسال ان يجدد له ولايه على مصر والشام، وان يوجه المعتضد بخادم من خدمه اليه بذلك، فأجابه الى ما سال، وانفذ اليه بدرا القدامى وعبد الله بن الفتح بالولاية والخلع، فخرجا من آمد الى مصر بذلك، وتسلم عمال المعتضد اعمال قنسرين والعواصم من اصحاب هارون في جمادى الاولى، واقام المعتضد بأمد بقية جمادى الاولى وثلاثة وعشرين يوما من جمادى الآخرة ثم ارتحل منها يوم السبت لسبع بقين منها نحو الرقة، وخلف ابنه عليا بأمد مع جيوش ضمهم اليه لضبط الناحية واعمال قنسرين والعواصم وديار ربيعه ديار مضر وكان كاتب على بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وقلد الحسين بن عمرو النظر في امور هذه النواحي ومكاتبه العمال بها، وامر المعتضد بهدم سور آمد فهدم.
    وفيها وافت هديه عمرو بن الليث الصفار من نيسابور الى بغداد، فكان مبلغ المال الذى وجهه اربعه آلاف الف درهم، وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاه مغرقه ومائه وخمسين دابه بجلال مشهره وكسوه وطيب وبزاه، وذلك في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة.
    وفي هذه السنه ظهر رجل من القرامطة يعرف بابى سعيد الجنابى بالبحرين، فاجتمع اليه جماعه من الاعراب والقرامطة، وكان خروجه- فيما ذكر- في أول هذه السنه، وكثر اصحابه في جمادى الآخرة، وقوى امره، فقتل من حوله من اهل القرى، ثم صار الى موضع يقال له القطيف، بينه وبين البصره مراحل، فقتل من بها وذكر انه يريد البصره، فكتب احمد بن محمد بن يحيى الواثقى- وكان يتقلد معاون البصره وكور دجلة في ذلك الوقت- الى السلطان بما اتصل به من عزم هؤلاء القرامطة، فكتب اليه والى محمد بن هشام المتولى اعمال الصدقات والخراج والضياع بها، في عمل سور على البصره، فقدرت النفقة على ذلك اربعه عشر الف دينار، فامر بالإنفاق عليه فبنى 4 وفي رجب من هذه السنه صار الى الأنبار جماعه من اعراب بنى شيبان،
    (10/71)
    فأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، واستاقوا المواشى فخرج اليهم احمد بن محمد بن كمشجور المتولى المعاون بها، فلم يطقهم فكتب الى السلطان يخبره بأمورهم فوجه من مدينه السلام نفيسا المولدى واحمد بن محمد الزرنجى والمظفر بن حاج مددا له في زهاء الف رجل، فصاروا الى موضع الاعراب، فواقعوهم بموضع يعرف بالمنقبه من الأنبار، فهزمهم الاعراب، وقتلوا اصحابهم وغرق اكثرهم في الفرات، وتفرقوا فورد كتاب ابن حاج يوم الاثنين لست بقين من رجب بخبر هذه الوقعه وهزيمه الاعراب إياهم، فأقام الاعراب يعيثون في الناحية، ويتخفرون القرى، فكتب الى المعتضد بخبرهم، فوجه اليهم لقتالهم من الرقة العباس بن عمرو الغنوي وخفيفا الاذكوتكينى وجماعه من القواد فصار هؤلاء القواد الى هيت في آخر شعبان من هذه السنه.
    وبلغ الاعراب خبرهم، فارتحلوا عن موضعهم من سواد الأنبار، وتوجهوا نحو عين التمر، فنزلوها، ودخل القواد الأنبار، فأقاموا بها، وعاث الاعراب بعين التمر ونواحي الكوفه، مثل عيثهم بنواحي الأنبار، وذلك بقية شعبان وشهر رمضان.
    وفيها وجه المعتضد الى راغب مولى ابى احمد وهو بطرسوس، يأمره بالمصير اليه بالرقة، فصار اليه وهو بها، فلما وصل اليه تركه في عسكره يوما ثم اخذه من الغد فحبسه، وأخذ جميع ما كان معه، وورد الخبر بذلك مدينه السلام يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان، ثم مات راغب بعد ايام، وقبض على مكنون غلام راغب وعلى اصحابه، وأخذ ماله بطرسوس يوم الثلاثاء لست بقين من رجب، وكان المتولى اخذهم ابن الاخشاد.
    ولعشر بقين من شهر رمضان منها وجه المعتضد مؤنسا الخازن الى الاعراب بنواحي الكوفه وعين التمر، وضم اليه العباس بن عمرو وخفيفا الاذكوتكينى وغيرهما من القواد، فسار مؤنس ومن معه حتى بلغ الموضع المعروف بنينوى، فوجد الاعراب قد ارتحلوا عن موضعهم، ودخل بعضهم الى بريه طريق مكة
    (10/72)
    وبعضهم الى بريه الشام، فأقام بموضعه أياما، ثم شخص الى مدينه السلام.
    وفي شوال منها قلد المعتضد وعبيد الله بن سليمان ديوان المشرق محمد بن داود ابن الجراح، وعزل عنه احمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب على بن عيسى بن داود بن الجراح، وعزل عنه ابن الفرات.
    (10/73)
    ثم دخلت
    سنه سبع وثمانين ومائتين
    ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
    فمن ذلك ما كان من قبض المعتضد على محمد بن احمد بن عيسى بن شيخ وعلى جماعه من اهله وتقييده إياهم، وحبسه لهم في دار ابن طاهر، وذلك انه صار بعض اقربائه- فيما ذكر- الى عبيد الله بن سليمان، فاعلمه ان محمدا على الهرب في جماعه من اصحابه واهله، فكتب بذلك عبيد الله الى المعتضد، فكتب اليه المعتضد يأمره بالقبض عليه، ففعل ذلك يوم الأربعاء لاربع خلون من المحرم منها.
    وفي هذا الشهر من هذه السنه ورد كتاب ابى الأغر على السلطان ان طيئا تجمعت له، وحشدوا واستعانوا بمن قدروا عليه من الاعراب، واعترضوا قافلة الحاج، فواقعوهم لما جاوزوا المعدن منصرفين الى مدينه السلام من مكة ببضعه عشر ميلا، واقبل اليهم فرسان الاعراب ورجالتهم ومعهم بيوتهم وحرمهم وابلهم، وكانت رجالتهم اكثر من ثلاثة آلاف، فالتحمت الحرب بينهم، ولم تزل الحرب بينهم يومهم اجمع، وهو يوم الخميس لثلاث بقين من ذي الحجه، فلما جنهم الليل باينوهم، فلما أصبحوا غادوهم الحرب غداه يوم الجمعه الى حين انتصاف النهار ثم انزل الله النصر على اوليائه وولى الاعراب منهزمين، فما اجتمعوا بعد تفرقهم، وانه سار هو وجميع الحاج سالمين، وانفذ كتابه مع سعيد بن الأصفر بن عبد الأعلى، وهو احد وجوه بنى عمه والمتولى كان للقبض على صالح بن مدرك.
    وفي يوم السبت لثلاث بقين من المحرم وافى ابو الأغر مدينه السلام، وبين يديه راس صالح بن مدرك، وراس جحنش، وراس غلام لصالح اسود، واربعه أسارى من بنى عم صالح، فمضى الى دار المعتضد، فخلع
    (10/74)
    عليه، وطوق بطوق من ذهب، ونصبت الرءوس على راس الجسر الأعلى 15.. 67
    بالجانب الشرقى، وادخل الأسرى المطامير.
    ولاربع ليال بقين من صفر منها، دخل المعتضد من متنزهه ببراز الروز الى بغداد، وامر ببناء قصر في موضع اختاره من براز الروز، فحمل اليه الآلات، وابتدأ في عمله وفي شهر ربيع الاول منها غلظ امر القرامطة بالبحرين، فأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصره، فكتب احمد بن محمد بن يحيى الواثقى يسال المدد، فوجه اليه في آخر هذا الشهر بثماني شذوات، فيها ثلاثمائة رجل، وامر المعتضد باختيار جيش لينفذه الى البصره.
    وفي يوم الأحد لعشر خلون من شهر ربيع الآخر، قعد بدر مولى المعتضد في داره، ونظر في امور الخاصة والعامه من الناس والخراج والضياع والمعاون.
    وفي يوم الاثنين لإحدى عشره خلت من شهر ربيع الآخر، مات محمد بن عبد الحميد الكاتب المتولى ديوان زمام المشرق والمغرب.
    وفي يوم الأربعاء لثلاث عشره خلت منه ولى جعفر بن محمد بن حفص هذا الديوان، فصار من يومه الى الديوان وقعد فيه.
    وفي شهر ربيع الآخر منها ولى المعتضد عباس بن عمرو الغنوي اليمامه والبحرين ومحاربه ابى سعيد الجنابى ومن معه من القرامطة، وضم اليه زهاء الفى رجل، فعسكر العباس بالفرك أياما حتى اجتمع اليه اصحابه، ثم مضى الى البصره، ثم شخص منها الى البحرين واليمامه.
    وفيها- فيما ذكر- وافى العدو باب قلميه من طرسوس، فنفر ابو ثابت وهو امير طرسوس بعد موت ابن الاخشاد- وكان استخلفه على البلد حين غزا- فمات وهو على ذلك، فبلغ في نفيره الى نهر الريحان في طلب العدو، فاسر ابو ثابت واصيب الناس، فكان ابن كلوب غازيا في درب السلامة، فلما
    (10/75)
    قفل من غزاته جمع المشايخ من اهل الثغر ليتراضوا بامير يلى أمورهم، فاتفق رأيهم على على بن الأعرابي، فولوه امرهم بعد اختلاف من ابن ابى ثابت.
    وذكر ان أباه استخلفه، وجمع جمعا لمحاربه اهل البلد حتى توسط الأمر ابن كلوب، فرضى ابن ثابت، وذلك في شهر ربيع الآخر، وكان النغيل حينئذ غازيا ببلاد الروم، فانصرف الى طرسوس، وجاء الخبر ان أبا ثابت حمل الى القسطنطينية من حصن قونيه، ومعه جماعه من المسلمين.
    وفي شهر ربيع الآخر مات إسحاق بن أيوب الذى كان اليه المعاون بديار ربيعه، فقلد ما كان اليه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمر.
    وفي يوم الأربعاء لخمس بقين من جمادى الاولى، ورد كتاب- فيما ذكر- على السلطان بان اسماعيل بن احمد اسر عمرا الصفار، واستباح عسكره، وكان من خبر عمرو واسماعيل، ان عمرا سال السلطان ان يوليه ما وراء النهر، فولاه ذلك، ووجه اليه وهو مقيم بنيسابور بالخلع، واللواء على ما وراء النهر، فخرج لمحاربه اسماعيل بن احمد، فكتب اليه اسماعيل بن احمد: انك قد وليت دنيا عريضه، وانما في يدي ما وراء النهر، وانا في ثغر، فاقنع بما في يدك، واتركني مقيما بهذا الثغر فأبى اجابته الى ذلك، فذكر له امر نهر بلخ وشده عبوره، فقال: لو أشاء ان اسكره ببدر الأموال واعبره لفعلت، فلما ايس اسماعيل من انصرافه عنه جمع من معه والتناء والدهاقين، وعبر النهر الى الجانب الغربي، وجاء عمرو فنزل بلخ، وأخذ اسماعيل عليه النواحي، فصار كالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة- فيما ذكر- فأبى اسماعيل عليه ذلك، فلم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم عمرو فولى هاربا، ومر باجمه في طريقه، قيل له انها اقرب، فقال لعامه من معه: امضوا في الطريق الواضح ومضى في نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت دابته، فوقعت، ولم يكن له في نفسه حيله، ومضى من معه، ولم يلووا عليه، وجاء اصحاب اسماعيل، فاخذوه أسيرا ولما وصل الخبر الى
    (10/76)
    المعتضد بما كان من امر عمرو واسماعيل، مدح اسماعيل- فيما ذكر- وذم عمرا.
    ولليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، ورد الخبر على السلطان ان وصيفا خادم ابن ابى الساج، هرب من برذعه، ومضى الى ملطيه مراغما لمحمد بن ابى الساج في اصحابه، وكتب الى المعتضد يسأله ان يوليه الثغور، ليقوم بها، فكتب اليه المعتضد يأمره بالمصير اليه، ووجه اليه رشيقا الحرمي ولسبع خلون من رجب من هذه السنه توفيت ابنه خمارويه بن احمد بن طولون، زوجه المعتضد، ودفنت داخل قصر الرصافه.
    ولعشر خلون من رجب وفد على السلطان ثلاثة انفس وجههم وصيف خادم ابن ابى الساج الى المعتضد، يسأله ان يوليه الثغور، ويوجه اليه الخلع، فذكر ان المعتضد امر بتقرير الرسل بالسبب الذى من اجله فارق وصيف صاحبه ابن ابى الساج، وقصد الثغور، فقرروا بالضرب، فذكروا انه فارقه على مواطاه بينه وبين صاحبه، على انه متى صار الى الموضع الذى هو به متى لحق به صاحبه، فصارا جميعا الى مضر وتغلبا عليها، وشاع ذلك في الناس وتحدثوا به.
    ولإحدى عشرة خلت من رجب من هذه السنة ولى حامد بن العباس الخراج والضياع بفارس، وكانت في يد عمرو بن الليث الصفار، ودفعت كتبه بالولاية الى أخيه احمد بن العباس، وكان حامد مقيما بواسط، لأنه كان يليها وكور دجلة، وكتب الى عيسى النوشرى وهو بأصبهان بالمصير الى فارس واليا على معونتها.
    خروج العباس بن عمرو الغنوي من البصره
    وفي هذه السنه كان خروج العباس بن عمرو الغنوي- فيما ذكر- من البصره بمن ضم اليه من الجند، مع من خف معه من مطوعه البصره نحو ابى سعيد الجنابى ومن انضوى اليه من القرامطة، فلقيهم طلائع لأبي سعيد، فخلف العباس سواده، وسار نحوهم، فلقى أبا سعيد ومن
    (10/77)
    معه مساء، فتناوشوا القتال، ثم حجز بينهم الليل، فانصرف كل فريق منهما الى موضعهم فلما كان الليل انصرف من كان مع العباس من اعراب بنى ضبة- وكانوا زهاء ثلاثمائة- الى البصره، ثم تبعهم مطوعه البصره، فلما اصبح العباس غادى القرامطة الحرب، فاقتتلوا قتالا شديدا.
    ثم ان صاحب ميسره العباس- وهو نجاح غلام احمد بن عيسى بن شيخ- حمل في جماعه من اصحابه زهاء مائه رجل على ميمنه ابى سعيد، فوغلوا فيهم، فقتل وجميع من معه، وحمل الجنابى واصحابه على اصحاب العباس، فانهزموا، فاستاسر العباس، واسر من اصحابه زهاء سبعمائة رجل، واحتوى الجنابى على ما كان في عسكر العباس، فلما كان من غد يوم الوقعه احضر الجنابى من كان اسر من اصحاب العباس، فقتلهم جميعا، ثم امر بحطب فطرح عليهم، واحرقهم.
    وكانت هذه الوقعه- فيما ذكر- في آخر رجب، وورد خبرها بغداد لاربع خلون من شعبان.
    وفيها- فيما ذكر- صار الجنابى الى هجر، فدخلها وآمن أهلها، وذلك بعد منصرفه من وقعه العباس، وانصرف فل اصحاب العباس بن عمرو يريدون البصره، ولم يكن افلت منهم الا القليل بغير ازواد ولا كسا، فخرج اليهم من البصره جماعه بنحو من أربعمائة راحله، عليها الاطعمه والكسا والماء، فخرج عليهم- فيما ذكر- بنو اسد، فأخذوا تلك الرواحل بما عليها، وقتلوا جماعه ممن كان مع تلك الرواحل ومن افلت من اصحاب العباس، وذلك في شهر رمضان، فاضطربت البصره لذلك اضطرابا شديدا وهموا بالانتقال عنها، فمنعهم احمد بن محمد الواثقى المتولى لمعاونها من ذلك، وتخوفوا هجوم القرامطة عليهم.
    ولثمان خلون من شهر رمضان منها- فيما ذكر- وردت خريطة على السلطان من الأبله بموافاه العباس بن عمرو في مركب من مراكب البحر، وان أبا سعيد الجنابى اطلقه وخادما له.
    ولإحدى عشره خلت من شهر رمضان، وافى العباس بن عمرو مدينه
    (10/78)
    السلام، وصار الى دار المعتضد بالثريا، فذكر انه بقي عند الجنابى أياما بعد الوقعه، ثم دعا به، فقال له: اتحب ان اطلقك؟، قال: نعم، قال:
    امض وعرف الذى وجه بك الى ما رايت وحمله على رواحل، وضم اليه رجالا من اصحابه، وحملهم ما يحتاجون اليه من الزاد والماء، وامر الرجال الذين وجههم معه ان يؤدوه الى مأمنه، فساروا به حتى وصل الى بعض السواحل، فصادف به مركبا، فحمله، فصار الى الأبله، فخلع عليه المعتضد وصرفه الى منزله.
    وفي يوم الخميس لإحدى عشره خلت من شوال ارتحل المعتضد من مضربه بباب الشماسيه في طلب وصيف خادم ابن ابى الساج، وكتم ذلك، واظهر انه يريد ناحيه ديار مضر وفي يوم الجمعه لاثنتى عشره خلت منه، ورد الخبر- فيما ذكر- على السلطان ان القرامطة بالسواد من اهل جنبلاء وثبوا بواليهم بدر غلام الطائي، فقتلوا من المسلمين جمعا فيهم النساء والصبيان، واحرقوا المنازل.
    ولاربع عشره خلت من ذي القعده نزل المعتضد كنيسه السوداء في طلب وصيف الخادم، فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، حتى تلاحق به الناس، واراد الرحيل في طريق المصيصة، فاتته العيون ان الخادم يريد عين زربه، فاحضر الركاضه الثغريين واهل الخبره، فسألهم عن اقصد الطريق الى عين زربه، فقطعوا به جيحان غداه الخميس لسبع عشره خلت من ذي القعده، فقدم ابنه عليا ومعه الحسن بن على كوره، واتبعه بجعفر بن سعر، ثم اتبع جعفرا محمد بن كمشجور، ثم اتبعه خاقان المفلحى، ثم مؤنس الخادم، ثم مؤنس الخازن، ثم مضى في آثارهم مع غلمان الحجر، ومر بعين زربه، وضرب له بها مضرب، وخلف بها خفيفا السمرقندي مع سواده، وسار هو قاصدا للخادم في اثر القواد، فلما كان بعد صلاه العصر جاءته البشارات بأخذ الخادم، ووافوا به المعتضد، فسلمه الى مؤنس الخادم
    (10/79)
    وهو يومئذ صاحب شرطه العسكر، وامر ببذل الامان لأصحاب الخادم والنداء في العسكر ببراءه الذمة ممن وجد في رحله شيء من نهب عسكر الخادم، ولم يرده على اصحابه، فرد الناس على كثير منهم ما انتهبوا من عسكرهم وكانت الوقعه واسر وصيف الخادم- فيما قيل- يوم الخميس لثلاث عشره بقيت من ذي القعده، وكان من اليوم الذى ارتحل المعتضد فيه من مضربه بباب الشماسيه الى ان قبض على الخادم سته وثلاثون يوما.
    ولما قبض المعتضد على الخادم انصرف- فيما ذكر- الى عين زربه، فأقام بها يومين، فلما كان في صبيحة الثالث، اجتمع اليه اهل عين زربه، وسألوه ان يرحل عنهم لضيق الميرة ببلدهم، فرحل عنها في اليوم الثالث، فنزل المصيصة بجميع عساكره الا أبا الأغر خليفه بن المبارك، فانه كان وجهه ليأخذ على الخادم الطريق لئلا يصير الى مرعش وناحيه ملطيه، وكان الخادم قد انفذ عياله وعيال اصحابه الى مرعش، وبلغ اصحاب الخادم الذين كانوا قد هربوا ما بذل لهم المعتضد من الامان، وما امر برده عليهم من امتعتهم، فلحقوا بعسكر المعتضد داخلين في امانه وكان نزول المعتضد بالمصيصة- فيما قيل- يوم الأحد لعشر بقين من ذي القعده، فأقام بها الى الأحد الآخر، وكتب الى وجوه اهل طرسوس في المصير اليه، فاقبلوا اليهم منهم النغيل- وكان من رؤساء الثغر- وابن له، ورجل يقال له ابن المهندس، وجماعه معهم، فحبس هؤلاء مع آخرين، واطلق اكثرهم فحمل الذين حبسهم معه الى بغداد، وكان قد وجد عليهم لانهم- فيما ذكر- كانوا كاتبوا وصيفا الخادم وامر المعتضد باحراق جميع المراكب البحرية التي كان المسلمون يغزون فيها وجميع آلاتها.
    وذكر ان دميانه غلام يازمان هو الذى اشار عليه لشيء كان في نفسه على اهل طرسوس، فاحرق ذلك كله، وكان في المراكب نحو من خمسين مركبا قديما قد انفق عليها اموال جليله لا يعمل مثلها في هذا الوقت فاحرقت، فأضر ذلك بالمسلمين، وكسر ذلك في اعضادهم، وقوى به الروم، وأمنوا ان يغزوا في البحر وقلد المعتضد الحسن بن على كوره الثغور الشامية بمسلم
    (10/80)
    من اهل الثغور واجتماع كلمتهم عليه، ورحل المعتضد- فيما قيل- من المصيصة فنزل فندق الحسين، ثم الإسكندرية، ثم بغراس ثم أنطاكية، لليلتين خلتا من ذي الحجه فأقام بها الى ان نحر، وبكر في ثانى النحر بالرحيل، فنزل ارتاح ثم الاثارب ثم حلب، فأقام بها يومين، ثم رحل الى الناعوره، ثم الى خساف وصفين هناك في الجانب الجزرى، وبيت مال أمير المؤمنين عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في الجانب الآخر، ثم الى يالس، ثم الى دوسر، ثم الى بطن دامان، ثم الى الرقة، فدخلها لثمان بقين من ذي الحجه، فأقام بها الى ان بقي ليلتان منه.
    ذكر الخبر عن مقتل محمد بن زيد العلوي
    ولخمس بقين من شوال ورد الخبر على السلطان بان محمد بن زيد العلوي قتل.
    ذكر الخبر عن سبب مقتله:
    ذكر أن محمد بن زيد خرج لما اتصل به الخبر عن اسر اسماعيل بن احمد عمرو بن الليث في جيش كثيف نحو خراسان، طامعا فيها، ظنا منه ان اسماعيل بن احمد لا يتجاوز عمله الذى كان يتولاه ايام ولايه عمرو بن الليث الصفار خراسان، وانه لا دافع له عن خراسان، إذ كان عمرو قد اسر، ولا عامل للسلطان به، فلما صار الى جرجان واستقر به، كتب اليه يسأله الرجوع الى طبرستان، وترك جرجان له، فأبى ذلك عليه ابن زيد، فندب اسماعيل- فيما ذكر لي- خليفه كان لرافع بن هرثمة ايام ولايه رافع خراسان يدعى محمد بن هارون، لحرب محمد بن زيد، فانتدب له، فضم اليه جمعا كثيرا من رجاله وجنده، ووجهه الى ابن زيد لحربه، فشخص محمد بن هارون نحو ابن زيد، فالتقيا على باب جرجان، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عسكر محمد بن هارون.
    ثم ان محمد بن هارون رجع، وقد انتقضت صفوف العلوي، فانهزم عسكر محمد بن زيد، وولوا هاربين، وقتل منهم- فيما ذكر- بشر كثير،
    (10/81)
    واصابت ابن زيد ضربات، واسر ابنه زيد، وحوى محمد بن هارون عسكره وما كان فيه ثم مات محمد بن زيد بعد هذه الوقعه بايام من الضربات التي كانت فيه، فدفن على باب جرجان، وحمل ابنه زيد الى اسماعيل بن احمد، وشخص محمد بن هارون الى طبرستان.
    وفي يوم السبت لاثنتى عشره خلت من ذي القعده اوقع بدر غلام الطائي بالقرامطة على غره منهم بنواحي روذميستان وغيرها، فقتل منهم- فيما ذكر- مقتله عظيمه، ثم تركهم خوفا على السواد ان يخرب، إذ كانوا فلاحيه وعماله، وطلب رؤساءهم في أماكنهم، فقتل من ظفر به منهم، وكان السلطان قد قوى بدرا بجماعه من جنده وغلمانه بسببهم للحدث الذى كان منهم.
    وحج بالناس فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن داود.
    (10/82)
    ثم دخلت
    سنه ثمان وثمانين ومائتين
    (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من ورود الخبر على السلطان- فيما ذكر- بوقوع الوباء باذربيجان، فمات منه خلق كثير الى ان فقد الناس ما يكفنون به الموتى، فكفنوا في الأكسية واللبود، ثم صاروا الى ان لم يجدوا من يدفن الموتى، فكانوا يتركونهم مطروحين في الطرق.
    وفيها دخل اصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث فارس، واخرجوا منها عمال السلطان، وذلك لاثنتى عشره بقيت من صفر منها.
    وفيها توفى محمد بن ابى الساج الملقب بافشين باذربيجان، فاجتمع غلمانه وجماعه من اصحابه، فأمروا عليهم ديوداد بن محمد، واعتزلهم يوسف بن ابى الساج على الخلاف لهم.
    ولليلتين بقيتا من شهر ربيع الآخر ورد كتاب صاحب البريد بالاهواز، يذكر فيه ان اصحاب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث صاروا الى سنبيل يريدون الاهواز.
    وفي أول جمادى الاولى ادخل عمرو بن الليث عبد الله بن الفتح- الموجه كان الى اسماعيل بن احمد- بغداد واشناس غلام اسماعيل بن احمد وذكر لي ان اسماعيل بن احمد خبيره بين المقام عنده أسيرا وبين توجيهه الى باب امير المؤمنين، فاختار توجيهه فوجهه.
    ولليلتين خلتا من جمادى الآخرة، ورد- فيما ذكر- كتاب صاحب بريد الاهواز منها، يذكر ان كتاب اسماعيل بن احمد ورد على طاهر بن محمد بن عمرو يعلمه ان السلطان ولاه سجستان، وامره بالخروج إليها، وانه خارج اليه الى فارس ليوقع به، ثم ينصرف الى سجستان، وان طاهرا خرج لذلك،
    (10/83)
    وكتب الى ابن عمه وكان مقيما بارجان في عسكره يأمره بالانصراف اليه الى فارس بمن معه.
    وفيها ولى المعتضد مولاه بدرا فارس، وامره بالشخوص إليها لما بلغه من تغلب طاهر بن محمد عليها، وخلع عليه لتسع خلون من جمادى الآخرة، وضم اليه جماعه من القواد، فشخص في جيش عظيم من الجند والغلمان.
    ولعشر خلون من جمادى الآخرة منها خرج عبد الله بن الفتح واشناس غلام اسماعيل الى اسماعيل بن احمد بن سامان بخلع من المعتضد حملها اليه وببدنه وتاج وسيف من ذهب، مركب على جميع ذلك جوهر وبهدايا وثلاثة آلاف الف درهم، يفرقها في جيش من جيوش خراسان، يوجه الى سجستان لحرب من بها من اصحاب طاهر بن محمد بن عمرو.
    وقد قيل: ان المال الذى وجهه اليه المعتضد كان عشره آلاف الف درهم، وجه ببعض ذلك من بغداد، وكتب بباقيه على عمال الجبل، وأمروا ان يدفعوه الى الرسل.
    وفي رجب منها وصل بدر مولى المعتضد الى ما قرب من ارض فارس، فتنحى عنها من كان بها من اسباب طاهر بن محمد بن عمرو، فدخلها اصحاب بدر، وجبى عماله الخراج بها ولليلتين خلتا من شهر رمضان منها، ذكر ان كتاب عج بن حاج عامل مكة ورد يذكر فيه ان بنى يعفر أوقعوا برجل كان تغلب على صنعاء، وذكر انه علوي وانهم هزموه، فلجا الى مدينه تحصن بها، فصاروا اليه فاوقعوا به، فهزموه أيضا، وأسروا ابنا له، وافلت هو في نحو من خمسين نفسا، ودخل بنو يعفر صنعاء وخطبوا بها للمعتضد وفيها اوقع يوسف بن ابى الساج وهو في نفر يسير بابن أخيه ديوداد بن محمد، ومعه جيش ابيه محمد بن ابى الساج، فهرب عسكره، فبقى ديوداد في جماعه قليله، فعرض عليه يوسف المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل فوافى
    (10/84)
    بغداد يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنه، فكانت الوقعه بينهما بناحيه اذربيجان وفيها غزا نزار بن محمد عامل الحسن بن على كوره الصائفه، ففتح حصونا كثيره للروم، وادخل طرسوس مائه علج ونيفا وستين علجا من القوامسه والشمامسه وصلبانا كثيرا واعلاما لهم، فوجهها كوره الى بغداد ولاثنتى عشره خلت من ذي الحجه وردت كتب التجار من الرقة ان الروم وافت في مراكب كثيره، وجاء قوم منهم على الظهر الى ناحيه كيسون، فاستاقوا من المسلمين اكثر من خمسه عشر الف انسان، ما بين رجل وامراه وصبى، فمضوا بهم، وأخذوا فيهم قوما من اهل الذمة.
    وفيها قرب اصحاب ابى سعيد الجنابى من البصره، واشتد جزع اهل البصره منهم حتى هموا بالهرب منها والنقله عنها، فمنعهم من ذلك واليهم.
    وفي آخر ذي الحجه منها قتل وصيف خادم ابن ابى الساج، فحملت جثته فصلبت بالجانب الشرقى وقيل انه مات ولم يقتل، فلما مات احتز راسه.
    وحج بالناس فيها هارون بن محمد المكنى أبا بكر.
    (10/85)
    ثم دخلت
    سنه تسع وثمانين ومائتين
    (ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأمور) فمن ذلك ما كان من انتشار القرامطة بسواد الكوفه، فوجه اليهم شبل غلام احمد بن محمد الطائي، وتقدم اليه في طلبهم، وأخذ من ظفر به منهم وحملهم الى باب السلطان وظفر برئيس لهم يعرف بابن ابى فوارس، فوجه به معهم، فدعا به المعتضد لثمان بقين من المحرم، فساءله، ثم امر به فقلعت أضراسه، ثم خلع بمد احدى يديه- فيما ذكر- ببكره، وعلق في الاخرى صخره، وترك على حاله تلك من نصف النهار الى المغرب، ثم قطعت يداه ورجلاه من غد ذلك اليوم، وضربت عنقه، وصلب بالجانب الشرقى، ثم حملت جثته بعد ايام الى الياسرية، فصلب مع من صلب هنالك من القرامطة.
    ولليلتين خلتا من شهر ربيع الاول، اخرج من كانت له دار وحانوت بباب الشماسيه عن داره وحانوته، وقيل لهم: خذوا اقفاصكم واخرجوا، وذلك ان المعتضد كان قد قدر ان يبنى لنفسه دارا يسكنها، فخط موضع السور، وحفر بعضه، وابتدأ في بناء دكه على دجلة، كان المعتضد امر ببنائها لينتقل فيقيم فيها الى ان يفرغ من بناء الدار والقصر.
    وفي ربيع الآخر منها في ليله الأمير توفى المعتضد، فلما كان في صبيحتها احضر دار السلطان يوسف بن يعقوب وابو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز وابو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله بن سليمان، وابو خازم وابو عمر والحرم والخاصة، وكان اوصى ان يدفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، فحفر له فيها، فحمل من قصره المعروف بالحسنى ليلا، فدفن في قبره هناك
    (10/86)
    ولسبع بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة- وهي سنه تسع وثمانين ومائتين- جلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان في دار السلطان في الحسنى، واذن للناس، فعزوه بالمعتضد، وهنئوه بما جدد له من امر المكتفي، وتقدم الى الكتاب والقواد في تجديد البيعه للمكتفى بالله، فقبلوا.
    (10/87)
    خلافه المكتفي بالله
    ولما توفى المعتضد كتب القاسم بن عبيد الله بالخبر الى المكتفي كتبا، وأنفذها من ساعته، وكان المكتفي مقيما بالرقة، فلما وصل الخبر اليه امر الحسين بن عمرو النصراني كاتبه يومئذ بأخذ البيعه على من في عسكره، ووضع العطاء لهم، ففعل ذلك الحسين، ثم خرج شاخصا من الرقة الى بغداد، ووجه الى النواحي بديار ربيعه وديار مضر ونواحي المغرب من يضبطها.
    وفي يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الاولى دخل المكتفي الى داره بالحسنى، فلما صار الى منزله، امر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.
    وفي هذا اليوم كنى المكتفي بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه.
    وفي هذا اليوم مات عمرو بن الليث الصفار، ودفن في غد هذا اليوم بالقرب من القصر الحسنى، وقد كان المعتضد- فيما ذكر- عند موته بعد ما امتنع من الكلام امر صافيا الحرمي بقتل عمرو بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه، اراد ذبح الأعور فلم يفعل ذلك صافى لعلمه بحال المعتضد وقرب وفاته، وكره قتل عمرو، فلما دخل المكتفي بغداد سال- فيما قيل- القاسم بن عبيد الله عن عمرو: احي هو؟ قال: نعم، فسر بحياته وذكر انه يريد ان يحسن اليه، وكان عمرو يهدى الى المكتفي ويبره برا كثيرا ايام مقامه بالري فاراد مكافاته، فذكروا ان القاسم بن عبيد الله كره ذلك، ودس الى عمرو من قتله.
    وفي رجب منها ورد الخبر لاربع بقين منه ان جماعه من اهل الري كاتبوا محمد بن هارون الذى كان اسماعيل بن احمد صاحب خراسان استعمله على طبرستان بعد قتله محمد بن زيد العلوي، فخلع محمد بن هارون وبيض، فسألوه المصير الى الري ليدخلوه إليها، وذلك ان اوكرتمش التركى المولى
    (10/88)
    عليهم كان- فيما ذكر- قد أساء السيرة فيهم، فحاربه، فهزمه محمد بن هارون وقتله، وقتل ابنين له وقائدا من قواد السلطان يقال له ابرون أخو كيغلغ، ودخل محمد بن هارون الري واستولى عليها.
    وفي رجب من هذه السنه زلزلت بغداد، ودامت الزلزلة فيها أياما وليالي كثيره.
    ذكر الخبر عن مقتل بدر غلام المعتضد
    وفي هذه السنه كان مقتل بدر غلام المعتضد.
    ذكر سبب قتله:
    ذكر ان سبب ذلك كان ان القاسم بن عبيد الله كان هم بتصيير الخلافه من بعد المعتضد في غير ولد المعتضد، وانه كان ناظر بدرا في ذلك، فامتنع بدر عليه وقال: ما كنت لاصرفها عن ولد مولاى الذى هو ولى نعمتي.
    فلما راى القاسم ذلك وعلم انه لا سبيل الى مخالفه بدر، إذ كان بدر صاحب جيش المعتضد، والمستولى على امره، والمطاع في خدمه وغلمانه، اضطغنها على بدر وحدث بالمعتضد حدث الموت وبدر بفارس، فعقد القاسم للمكتفى عقد الخلافه، وبايع له وهو بالرقة، لما كان بين المكتفي وبين بدر من التباعد في حياه والده وكتب القاسم الى المكتفي لما بايع غلمان ابيه له بالخلافة، وأخذ عليهم البيعه بما فعل من ذلك، فقدم بغداد المكتفي وبدر بعد بفارس، فلما قدمها عمل القاسم في هلاك بدر، حذرا على نفسه- فيما ذكر- من بدر ان يقدم على المكتفي، فيطلعه على ما كان القاسم هم به، وعزم عليه في حياه المعتضد من صرف الخلافه عن ولد المعتضد إذا مات فوجه المكتفي- فيما ذكر- محمد بن كمشجور وجماعه من القواد برسائل، وكتب الى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمصير الى ما قبله ومفارقه بدر وتركه، فاوصلت الكتب الى القواد في سر، ووجه اليه يانس خادم الموفق، ومعه عشره آلاف
    (10/89)
    الف درهم ليصرفها في عطاء اصحابه لبيعه المكتفي، فخرج بها يانس.
    فذكر انه لما صار بالاهواز، وجه اليه بدر من قبض المال منه فرجع يانس الى مدينه السلام، فلما وصلت كتب المكتفي الى القواد المضمومين الى بدر، فارق بدرا جماعه منهم، وانصرفوا عنه الى مدينه السلام، منهم العباس بن عمرو الغنوي وخاقان المفلحى ومحمد بن إسحاق بن كنداج وخفيف الاذكوتكينى وجماعه غيرهم فلما صاروا الى مدينه السلام دخلوا على المكتفي، فخلع- فيما ذكر- على نيف وثلاثين رجلا منهم، واجاز جماعه من رؤسائهم، كل رجل منهم بمائه الف درهم، واجاز آخرين بدون ذلك، وخلع على بعضهم، ولم يجزه بشيء وانصرف بدر في رجب، عامدا المصير الى واسط واتصل بالمكتفى اقبال بدر الى واسط، فوكل بدار بدر، وقبض على جماعه من غلمانه وقواده، فحبسوا، منهم نحرير الكبير، وعريب الجبلي، ومنصور، ابن اخت عيسى النوشرى وادخل المكتفي على نفسه القواد، وقال لهم: لست اؤمر عليكم أحدا، ومن كانت له منكم حاجه فليلق الوزير، فقد تقدمت اليه بقضاء حوائجكم وامر بمحو اسم بدر من التراس والاعلام، وكان عليها ابو النجم مولى المعتضد بالله، وكتب بدر الى المكتفي كتابا دفعه الى زيدان السعيدي، وحمله على الجمازات فلما وصل الكتاب الى المكتفي اخذه، ووكل بزيدان هذا، واشخص الحسن بن على كوره في جيش الى ناحيه واسط وذكر انه قدمه المكتفي على مقدمته.
    ثم احدر محمد بن يوسف مع المغرب لليلة بقيت من شعبان من هذه السنه برسالة الى بدر، وكان المكتفي ارسل الى بدر حين فصل من عمل فارس يعرض عليه ولايه اى النواحي شاء، ان شاء أصبهان وان شاء الري، وان شاء الجبال، ويأمره بالمصير الى حيث أحب من هذه النواحي مع من أحب من الفرسان والرجاله، يقيم بها معهم واليا عليها فأبى ذلك بدر، وقال: لا بد لي من المصير الى باب مولاى
    (10/90)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق