ج3.وج4. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
وفي
لفظ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا -أَوْ قَالَ:
فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّهُ أُتِيَ
بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، قالَ: فَأُخْبِرَ
بِمَا فِيهَا مِنَ البُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا» إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ
كَانَ مَعَهُ،
فَلَمَّا رَآهُ كَرِه أَكْلَهَا، قَالَ: «كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ
تُنَاجِي».
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: عَنِ ابنِ وَهْبٍ أُتِيَ بِبَدْرٍ -وَقَالَ ابنُ
وَهْبٍ: يَعْنِي بِالبَدْرِ الطَّبَقِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو
صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ القِدْرِ ولاَ أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ
الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الحَدِيثِ؟
وقال عبد العزيز: سُئِلَ أَنَسٌ: مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ فِي الثُّومِ؟ فَقَالَ: قَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبْنَا ولاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا».
(2/207)
وعند
أبي القاسم في «الأوسط»: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْخَضْرَوَاتِ البَصَلِ
وَالثُّوْمِ وَالكُرَّاثِ وَالفِجْلِ» وقال: لم يروه عن هشام بن حسان -يعني عن أبي
الزبير- إلا يحيى بن راشد البراء تفرد به سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنا أحمد
بن حماد بن رغبة، وذكر المسعودي في كتاب «العجائب»: عن أنس بن مالك قال: «دخلتُ
معَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حديقةً لعثمانَ بنِ عفان، فوقفَ على
الكراث فقال: نِعم البقلةُ، ألا مَن أكلها فلا يأكلْها حتى يأكلَ مثلَها من غيرها،
ثم وقف على الفجل فقال: نعم البقلةُ ألا من أكلها فلا يأكلها حتى يأكل مثلها من
غيرها، ثم تُفَتَّحُ السُّدَد وتطرد الريح، كلوا ما كبر من أوراقها وصغر من
أسفلها» الحديثَ. علقه البخاري عن أحمد بن صالح أخرجه مسندًا في كتاب «الاعتصام»،
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي الطاهر وحرملة عن ابن وهب بقدر ما قال ابن قُرْقُولٍ،
والصواب بِبَدْرٍ، وشُبِّهَ الطَّبَقُ بالبدر لاستدارته.
وقال القرطبي: استدل بعضهم به على كراهة ما له من ريح من البقول وإن طُبِخَ، وليس
ذلك بصحيح ولو قدرناه بِقَدر يكون معناه: أن الطبخ لم يُمِتْهُ طبخًا فبقيت رائحته
وهو المعنى المكروه منه.
وعند ابن التين: نَتْنَهُ ورويناه بفتح النون قال: وضبط في بعض الكتب بكسرها قال:
ولا أعلم له وجهًا و (الخَضِرَات) قال: ورويناه بفتح الخاء وكسر الضاد، قال: وضبطه
بعضهم بضم الخاء وفتح الضاد، قال ابن قُرْقُولٍ: كذا ضبطه الأَصِيلي والمعروف
الأول والتي بكسر النون والهمزة، قال القَزَّازُ: إذا لم ينضج بَيِّنُ النُّيُوءِ
- مثل البيوع - وقد أنأْتُه إناءة، وحكى عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلا يقربن مسجدنا وكأنه غفل عن قوله المساجد،
وعند أهل الظاهر هذه البقول محرمة الأكل، لأنها تمنع من حضور الجماعة وهي عندهم
فرض عين، والحجة للجمهور.
(2/208)
وقوله:
(كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي) قال عياض: ويلتحق به من أكل فجلًا
وتحشَّى. انتهى.
قد أسلفنا وروده في الحديث فلا حاجة إلى ذكره قياسًا، وقال ابن الْمُرَابِط في
كلامه: قال البخاري: ويلتحق به من به بَخْرٌ أو جراحةٌ لها رائحة، وعند القرطبي
استدلَّ بعض العلماء بهذا على أن من يتكلم في الناس ويؤذيهم بلسانه في المسجد أنه
يُخْرَجُ منه ويُبْعَدُ عنه، قال: وهذا الحديث أصلٌ لكلِّ من يتأذى به، وقد وردت
أحاديث يدل ظاهرها على المعارضة أو النسخ، منها ما أخبرنا به الأئمة المقرئ موسى
القطبي والْمُجِدَّانِ ابنُ غالي والصَّيْرفيُّ قراءة عليهم وأنا أسمع، قالوا:
أخبرنا عبد اللطيف الحراني قراءة عليه إلا ابن غالي فإنه قال: أجازه عن اللبَّان
والجَمَّال والكاغِدي، قالوا: أخبرنا أبو علي الحدَّاد، أخبرنا أبو نعيم الأصبهاني
الحافظ بجميع كتاب «حلية الأولياء» قال: حَدَّثَنا فاروق بن عبد الكبير، قال:
حَدَّثَنا الكجي، حَدَّثَنا عبد الله بن رجاء، حَدَّثَنا إسرائيل عن مسلم الأعور
عن حبَّة عن علي قَالَ لِيْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كُلِ
الثُّومَ فَلَوْلَا أَنِّي أُنَاجِي الْمَلِكَ لَأَكَلْتُهُ».
ورويناه في كتاب «الغيلانيات» عن يحيى بن عبد الباقي، حَدَّثَنا لُوين، حَدَّثَنا
زافر بن سليمان عن إسرائيل به وهو سندٌ صحيحٌ، وعند أبي داود: «نَهَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنِ الثُّومِ إلا مَطْبُوخًا».
(2/209)
وفي
«تهذيب الآثار» لمحمد بن جرير، حَدَّثَنا أبو عامرٍ السُّكري، حَدَّثَنا يحيى بن
صالح، حَدَّثَنا إسماعيل حَدَّثَنا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عن جابِرِ بْنِ
سَلَمَةَ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ الْبَصَلِ، فَقَالَتْ: «إِنَّ آخِرَ طَعَامٍ
أَكَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ طَعَامٌ فِيهِ بَصَلٌ» ولما رواه
أبو القاسم في «الأوسط» من حديث بَقِيَّةَ عن بَحِيرِ بْنِ سَعِيدٍ عن خَالِدِ
بْنِ مَعْدَانَ عن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عنها، قال: لَا يُرْوَى هَذَا
الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ بَحِيرُ.
انتهى.
وفيه نظر لما ذكرناه من عند الطبري.
وفي «صحيح ابن خزيمة» عن أبي سعيد ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ الثُّومُ وَالْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
وَأَشَدُّ ذَلِكَ الثُّومُ، أَفَتُحَرِّمُهُ؟ فَقَالَ: «كُلُوهُ، وَمَنْ أَكَلَهُ
مِنْكُمْ فَلَا يَقْرَبنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ مِنْهُ».
وأما جواز أكله للعذر فلا خلاف فيه لما في «صحيح ابن حبان» عن المغيرة بن شعبة:
انْتَهَيْتُ إِلِىَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَوَجَدَ مِنِّي
رِيحَ الثُّومِ، فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ قَالَ: فَأَخَذْتُ يَدَهُ
فَأَدْخَلْتُهَا فَوَجَدَ صَدْرِي مَعْصُوبًا، فَقَالَ: إِنَّ لَكَ عُذْرًا».
وعند أبي القاسم في «الأوسط»: اشْتَكَيْتُ صَدْرِي فَأَكَلْتُهُ، وفيه: «فَلَمْ
يُعَنِّفْهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
(بَابُ وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى يَجِبُ عَلَيْهِمُ الغُسْلُ وَالطُّهُورُ،
وَحُضُورِ الجَمَاعَةِ وَالعِيدَيْنِ وَالجَنَائِزَ وَصُفُوفِهِمْ)
وذكر حديث ابن عباس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى عَلَى
قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَفُّوا عَلَيْهِ».
(2/210)
ويأتي
إن شاء الله تعالى في الجنائز وحديث الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، ويأتي في
الجمعة
وبَيَاتِ ابن عباس عند ميمونة، وتقدم في الطهارة وصلاته في بيت مُلَيْكَةَ، وتقدم
أيضًا ومرور ابن عباس على الحمار تقدم أيضًا، وأعتم بالعشاء تقدم في فصل العشاء،
وقال هنا: وقال عياش: حَدَّثَنا عبد الأعلى، حَدَّثَنا معمر وهو يقتضي أن يكون
معلقًا رأى ذلك أبو نعيم فإنه لما رواه عن إبراهيم بن محمد بن حمزة عن الفريابي،
حَدَّثَنا نصر بن علي، حَدَّثَنا عبد الأعلى قال: رواه البخاري عن عياش عن عبد
الأعلى، ورواه الإسماعيلي عن الفريابي، حَدَّثَنا محمد بن المثنى، حَدَّثَنا عبد
الأعلى، وخروج ابن عباس في العيد يأتي في بابه. قَالَ ابنُ التِّيْنِ: زيادة قوله:
والطهور بعد ذكره الغسل إنما كرره لذكره متى يجب، وقد وردت أحاديث فيها متى يؤمر
الصبي بالصلاة منها حديث سَبْرَةَ بنِ مَعْبَدٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ،
وَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا» صححه أبو عيسى بعد تحسينه
وأبو محمد ابن حزم والإشبيلي، وقال ابن القطان: ليس بصحيح لكنه حسنٌ، وقال
العُقَيْلِيُّ: والرواية في هذا الباب فيها لين، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
مثله رواه أبو داود من رواية سَوَّار بن داود أبي حمزة الصيرفي وفيه كلام.
(2/211)
وفي
كتاب «العلل» للخَلَّال: كان وكيع يقلب اسمه، قال أبو عَبْدِ اللهِ: ولم يرو عنه
غير هذا الحديث، ولا بأس به شيخٌ بصريٌّ، وعن معاذ بنِ عبد الله بنِ خُبَيْبٍ
الْجُهَنِيُّ: أَنَّهُ قَالَ لامْرَأَةٍ: مَتَى يُصَلِّي الصَّبِيُّ، فَقَالَتْ:
كَانَ رَجُلٌ مِنَّا يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ،
فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ» رواه أبو داود.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: بهذا قال ابن عُمَرو ابن سيرين وبالأول قال: مكحول والأوزاعي
ومالك وابن القاسم وأحمد وإسحاق وجماعة، وفي «العُتْبِيَّة» عن مالك: يُضرَبُ على
الصلاة لسبع.
الأبواب بعده تقدم ذكرها والله أعلم.
(2/212)
[كتاب
الصوم]
[باب حق الضيف في الصوم]
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلَّ على سيِّدنا سيِّدِ المخلوقين محمد، وآله وصحبه وسلم.
1974 - «إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
[خ 1974]
الكلام على الزَّور والزَّوج تقدم في أول كتاب الصلاة، وحقُّها هنا يريد الوطء،
فإذا شدَّد الصوم، ووالى قيام اللَّيل ضعف عن حقها.
وفي رواية: «وإنَّ لأهلك» بدل «زوجتك»، والمراد بهم هنا: الأولاد والقرابة، ومن
حقهم الرفق بهم، والإنفاق عليهم وشبه ذلك.
وحقُّ الجسم قال المهلَّب: هو أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل؛ لأنه إذا
أجهد نفسَه قطعها عن العبادة وفترت، كما قال في الحديث المروي عند أبي داود: «إن
المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».
قال المبرد: «المنبتَّ» المسرع في السير، فكأنه إذا فعل ذلك رقَّت دابَّتُه ولم
يبلغ منزلَه.
وقوله: (هَجَمَتْ عَيْناكَ) أي غارتا ودخلتا.
وعن صاحب «العين»: هجَمَ هجومًا وهجمًا.
وعن أبي عمرو: والكثير إهجام.
وعن الأصمعي: انهجمت عينُه دَمَعَتْ، ذكره في «الموعب».
وقال القرطبي: هَجَمَتْ عليَّ الضررُ دفعةً واحدةً، والهجم: أخذ الشيء بسرعة، قال:
ويحتمل أن يكون هَجَمَتْ بغلبةِ النوم وكثرة السَّهر.
وقوله: (بِحَسبِكَ) أي يكفيك أن تصوم ثلاثة أيام.
وفي رواية: «صم من كلِّ عشرة يومًا».
وقد جاء في النسائي بسند صحيح عن جرير قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صيام ثلاثة
من كل شهر صيام الدهر، الأيامُ البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمسة عشرة».
قال القرطبي: كذا رويناه عن مُتقِني شيوخنا برفع «أيام وصبيحة» على إضمار المبتدأ،
كأنه قال: هي أيام البيض، عائدًا على ثلاثة أيام، و «صبيحة» برفع على البدل من
أيام، ومن خفض فيهما على البدل من «أيام» المذكورة.
وذكر الجواليقي في كتاب «ما تخطئ فيه العامَّة» من ذلك قولهم: الأيام البيض
(1/1)
يجعلون
البيضَ وصفًا للأيام، والأيام كلُّها بيض، وهو غلط، والصواب أن يقال: أيام البيض،
أي: أيام الليالي البيض؛ لأن البيض وصف لها دون الأيام.
قال القرطبي: وعلى التقديرين هذا الحديث مقيِّدٌ لمطلق الثلاثة أيام التي صومها
كصوم الدهر، ويحتمل أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عيَّن هذه الأيام؛
لأنها وسط الشهر وأعدلُه كما قال: «خير الأمور أوساطها».
واختلف في أي أيام الشهر أفضل للصوم؟
فقالت جماعة من الصحابة والتابعين؛ منهم عمر وابن مسعود وأبو ذر: صوم الأيام البيض
أفضل.
وقال النخعي: آخره أفضل.
وقالت فرقة منهم الحسن.
وقالت عائشة عند الترمذي محسنًا: أول يوم من السبت والأحد والاثنين في شهرٍ، ثم
الثلاثاء والأربعاء والخميس.
واختار بعضهم الاثنين والخميس.
وفي حديث ابن عمر: «كان سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصوم ثلاثة أيام
من كل شهر، أول اثنين، والخميس الذي بعده، والخميس الذي يليه».
وفي حديث عائشة عند مسلم: «كان لا يبالي من أي الشهر صام».
وحاصله: صيام ثلاثة أيام من كل شهر حيث صامها، في أي وقت أوقعها، كما قالت عائشة،
واختلاف الأحاديث تدل على أنه لم يرتب على زمن بعينه من الشهر.
وقال ابن التين: صيامها حسن ما لم يعينها.
وسئل مالك عن صومها فقال: ما هذا ببلدنا وكرهه، وقال: الأيام كلها لله تعالى.
انتهى.
ذكر علي بن الفضل المقدسي: أن في رسالة مالك إلى هارون أنه أمره بصيامها، وقال:
بلغني عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «ذلك صيام الدهر»، إلا أنه
تكلّمَ في إسنادها؛ يعني الرسالة، وهي مذكورة في «سنن الكَجِّي» وهو ثقة إمام.
وقال الباجي: روي في إباحة تعمدها أحاديث لا تثب.
وقال الطبري: الصواب عندي أن جميع الأخبار عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في
هذا صحاح.
قال ابن التين: واختلف القائلون بإباحة
تعمد صومها على أربعة أقوال في تعيينها:
(1/2)
فكان
أبو الدرداء يصوم أول يوم، واليوم العاشر، ويوم عشرين، قال ابن حبيب: وأخبرني حبيب
أن هذا كان صوم مالك، انتهى.
قال أبو الوليد الباجي: عندي في هذا نظر؛ لأن رواية حبيب عن مالك فيها ضعف، ولو
صحَّت لكان المعنى: أن هذا كان مقدار صوم مالك، فأما أن يتحرَّى صيامَ هذه الأيام
فإنَّ المشهور عن مالك منع ذلك.
وقال سُحنون: يصوم أوله، كأنه اعتمد ما رويناه في كتاب «الصيام» للقاضي يوسف بن
إسماعيل - بسند جيد - عن ابن مسعود: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصوم
من عشرة كل شهر ثلاثة أيام».
وقال الشيخ أبو إسحاق: أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر في العشر الأول، ويوم
أحد عشر في العشر الثاني، ويوم أحد وعشرين في العشر الثالث.
وقال المتولي وغيرُه: صوم داود صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضل من السرد.
قال النووي: وفي كلام غيره إشارة إلى تفضيل السرد، وتخصيص هذا الحديث بابن عمرو
ومن في معناه، تقديره: لا أفضل من هذا في حقك، يؤيِّدُ هذا أنه لم ينه حمزة بن
عمرو عن السرد، ولو كان ما قاله لابن عمرو أفضل في حق كل الناس لأرشد حمزةَ إليه
وبيَّنه له.
وأما صوم الدهر فقد اختلف العلماء فيه:
فذهب أهل الظاهر إلى منعه أخذًا بظاهر أحاديث النهي عن ذلك.
وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيام المنهي عنها كالعيدين والتشريق،
وهو مذهب الشافعي بغير كراهة؛ بل هو مستحب.
وورينا في «سنن الكَجِّي»: حدثنا أبو عمر الحَوْضِي، حدثنا الضحاك بن يسار، عن أبي
تميمة الُهجيمي، عن أبي موسى، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من صام
الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وضم أصابعه على تسعين».
وعند ابن ماجه عن ابن عمرو قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صام نوح صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم الدهر إلا يومين: الأضحى والفطر»، وفي سنده ابن لهيعة.
قال ابن التين: استدلَّ من منع صومَ الدهر من خمسة أوجه:
(1/3)
أحدها:
قوله في الحديث: «ولا تَزِدْ»، ولم يكن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهى عن فعل
الأفضل.
الثاني: قوله: «صم وأفطر» ولم يكن ليأمر بالأدنى بقوله: «وأفطر».
والثالث: قوله: «لا أفضل من ذلك».
الرابع: دعاؤه على من صام الأبد.
الخامس: أنه إن فعل ذلك كان في معنى من لم يؤجر بقوله: «لا صام ولا أفطر»، يريد
أنه ما أفضل لأنه أمسك، ولا صام لأنه لم يكتب له فيه أجر الصيام.
وأجاز مالك وابن القاسم وأشهب صيام الدهر، وهو مذهب سائر الفقهاء.
وكأن البخاري أراد بقوله:
بَابُ صِيَامِ أَيَّامِ البِيضِ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ
عَشْرَةَأحاديثَ ليست على شرطه. وذكر هنا حديث:1981 - أَبِي هُرَيْرَةَ:
«أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ». [خ 1981]
الحديث المذكور في كتاب الصلاة، وليس فيه ما بوَّب له.
قال ابن بطال: معنى ما ذكرناه، وكذا ابن المنير، وقال: الأحوط للمتطوِّع أن يختص
الثلاث التي في حديث أبي هريرة بهذه الأيام ليجمع بين ما صحَّ وما نقل في الجملة،
وإن لم يبلغ مرتبة هذه الصحة، انتهى.
الذي يشبه أن يكون مراد البخاري ما في بعض طرق حديث أبي هريرة، وهو ما ذكره الإمام
أبو محمد عبد الله بن عطاء الإبراهيمي، من حديث يونس بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي
صادق، عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: بالوتر قبل أن أنام، وأصلي الضحى
ركعتين، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وهي
البيض».
فكأن البخاريَّ على عادتِه أحالَ على هذا ونبَّه عليه، وعَرَّف أنه ليس من شرطه.
وقد رُوِّينا في «مسند أبي عبد الله الدارمي» الموسوم بـ «الصحيح» من حديث معاوية
بن قرة، عن أبيه، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «صيام البيض صيام
الدهر».
وسلف حديث جرير.
(1/4)
وعند
الترمذي عن أبي ذرٍّ مُحسّنًا: «أمرني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصيام
ثلاثة أيام؛ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة».
وفي لفظٍ من كتاب مسلم: «صائمًا فليصم الثلاثة البيض».
وفي كتاب «الصيام» له، حماد
وابن حبان عن أبي هريرة يرفعه: «صمْ أيام الغر».
وفي حديث عمر بن الخطاب: «فهلا البيض، فهلا البيض» ثلاثًا.
واستشهد بأبي الدرداء وأبي ذر وعمَّار: «أما سمعتم من النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم يقول» [الحديث] فقالوا: نعم.
وعند النسائي من حديث عبد الملك بن قتادة عن أبيه: «أمرنا النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أن نصوم الأيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. وقال: هي كهيئة
الدهر».
وعنده أيضًا عن ابن عباس: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يفطر في أيام
البيض في حضر ولا سفر».
وروينا في كتاب «الصيام» للقاضي يوسف من حديث الحارث، عن عليٍّ يرفعه: «صوم شهر
الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر صومُ الدهر، ويُذهب وَحَرَ الصُّدور».
وفي حديث الأعرابي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مثله.
وعن عمرو بن العاص عند النسائي يرفعه: «صيامُ حسن: ثلاثة أيام من الشهر».
وزعم الطحاوي أن الأيام البيض إنما أُمِرَ بصومها لأن الكسوف يكون فيها ولا يكون
في غيرها، وقد أُمِرنا بالتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والصيام وغير ذلك من فعل
البرِّ عند الكسوف، فأُمِرَ بصيامها لذلك، والله أعلم.
وروينا عن الخماري أنه قال: «أَمَرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصيام ثلاثة أيام
من كل شهر لما قدم المدينة، ثم نسخ برمضان».
بَابُ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ
(1/5)
1982 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حدَّثَنا خَالِدٌ وَهُوَ ابْنُ الحَارِثِ، حدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ: أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ المَكْتُوبَةِ، وَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللهِّ! إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَتْ: خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ، قَالَ: فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ. [خ 1982] قَالَ أَنَسٌ: فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالًا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ: أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ الحَجَّاجٍ البَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِئَةٌ».وَقَالَ: ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرنَا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، سَمِعَ أَنَسًا، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، انتهى. كذا في بعض النسخ، وكذا نص أصحاب الأطراف عليه، وفي أصل سماعنا وغيره: حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا يحيى به في رواية ابن عبد الله الأنصاري عن حُمَيدٍ: «ثلاثة وعشرون ومئة».ذكر ذلك الخطيب في كتابه «رواية الآباء عن الأبناء» لكون أنس روى عن بنته. قال ابن التين: كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يزور أم سُلَيم لأنها خالته من الرَّضاعة. وقال ابن عبد البر: إحدى خالاته من النسب؛ لأن أمَّ عبدِ المطلب: سلمى بنت عمرو بن زيد بن أسد بن خِداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام بنت مِلْحان بن زيد بن خالد بن حرام بن جندب بن عباس بن عثمان.
(1/6)
وأنكر شيخنا ابن محمد الدمياطي هذا القول، وذكر أن هذه خؤولة بعيدة لا تُثبِتُ حرمةً ولا تمنع نكاحًا. قال: وفي الصحيح: «أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا يدخل على أحدٍ من النساء إلا على أزواجه إلا على أم سُلَيمٍ، فقيل له في ذلك؟ قال: أرحمها، قتل أخوها حرام معي» وهي تخصيصها بذلك، فلو كان ثَمَّ علةٌ أخرى لذكرها؛ لأنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذه العلة مشتركة بينها وبين أختها أم حَرَام. قال: وليس في الحديث ما يدلُّ على الخلوة بها، فلعله كان ذلك مع ولدٍ أو خادمٍ أو زوج أو تابع. وأيضًا: كان قتل حَرَام كان يوم بئر معونة في صفر سنة أربع، ونزول الحجاب سنة خمس، فلعل دخولَه عليها كان قبل ذلك. وعن القرطبيِّ: يمكن أن يُقالَ: إنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا تستتر منه النساء لأنه كان معصومًا، بخلاف غيره. قال ابن التين: وفيه رجوع الطعام إلى أهله إذا لم يقبلْه من قُدِّمَ إليه، ولا يكون عودًا في الهبة. و (خُوَيْصَّة): بتشديد الصاد، تصغير خاصة، مثل دابة ودويبة. وعند ابن اللَّبَّاد: أن المجتمعِينَ من ولدِ أنسٍ وولدِ ولدِه بضعٌ وعشرون ومئة، وهو خلاف ما ذكره البخاري. واحتج بهذا الحديث أبو حنيفةَ ومالك على أن المتطوِّعَ بالصَّوم لا ينبغي له أن يفطر بغير عذر. بَابُ الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ
(1/7)
1983
- حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلاَنَ، ح،
وحدثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حدثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حدثَنَا
غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَنَّهُ سَأَلَهُ ـ أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَهو
يَسْمَعُ ـ فَقَالَ: يَا فُلاَنٍ! أَمَا صُمْتَ من سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ؟ قَالَ:
ـ أَظُنُّهُ قَالَ: رَمَضَانَ ـ قَالَ الرَّجُلُ: لاَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ:
فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ»، لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ: يَعْنِي
رَمَضَانَ. [خ 1983]
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ».
هذا التعليق رواه مسلم عن هدَّابِ بن خالد، حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن
مطرِّف به، وكأنه أصح من قول من قال: «رمضان»؛ لأن رمضان يتعيَّن صومُ جميعِه.
وذكر الحُميدي في «الجمع بين الصحيحين» أن البخاري قال: شعبان أصح.
وقال الخطابي وغيره: وذِكْرُ رمضان فيه وهم.
ووقع في مسلم في رواية محمد بن المثنى: «إذا أفطرت رمضان» حذف لفظة [من] في هذه
الرواية وهي مراده، كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوْسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي
من قومه، انتهى.
قد جاءت مثبتةً في سند الدارمي: «إذا أفطرتَ من رمضان».
وفي «سنن الليثي»: «إذا أفطرت رمضان فصم مكان ذلك اليوم يومين».
وقوله: (صُمْ يَوْمَيْنِ) قال القرطبي: هذا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حضٌّ على
ملازمةِ عادةِ الخير لكي لا تُقطَع، وأن لا يمضي على المكلف مثل شعبان ولم يصم منه
شيئًا، فلما فاته صومُه أمرَه أن يصوم من سواه يومين ليحصل له أجرٌ من الجنس الذي
فوَّته على نفسه.
(1/8)
قال:
ويظهر لي أنه إنما أمره بصوم يومين للمزيَّة التي يختصُّ بها شعبان، فلا بُعدَ في
أن يقال: إنَّ صومَ يوم منه كصومِ يومين منه في غيره، ويشهد لهذا كثرةُ صومِه فيه
أكثرَ من صيامه في غيره.
وقوله: (سَرَرَ) بفتح السين، قال ابن قُرْقُول: كذا للكافة، وعند العذري: سُرر بضم
السين.
قال أبو عبيد: سَرار الشهر آخره حيث يستتر الهلال، وسُرره أيضًا.
وأنكره غيره، وقال: لم يأت في صوم آخر الشهر حضٌّ، وسَرارُ كلِّ شيء وسطه وأفضله،
فكأنه يريد الأيام الغرَّ من وسط الشهر.
وقال يعقوب بن السِّكِّيت: سِرار الشهر وسَراره بالكسر والفتح.
وعن الفرَّاء: الفتح أجود.
وقال الأزهري: سَرر وسَرار ثلاث لغات.
وضبطه عياض وغيرُه: سرر بفتح السين وكسرها وضمها.
قال: وعن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: سُرَّة الشهر أوله.
وقال: الخطابي عن الأوزاعي: سَرره آخره.
ولما ذكر البيهقي عن الأوزاعي الروايتين قال: الصحيح آخره، ولم يعرف الأزهري
سُرَّة.
وفي «سنن أبي داود»: قيل: سِرُّه وسطه، وسرُّ كلِّ شيء جوفُه، وكذا هو في مسلم من
حديث عمران: «أصمت من سُرَّةِ هذا الشهر؟».
وقال عبد الملك بن حبيب: السَّرَرُ آخر الشهر حين يستتر الهلال لثمان وعشرين ولتسع
وعشرين، وإن كان تامًّا فليلة ثلاثين، وتبويب البخاري يدل أنه عنده آخر الشهر.
قال الخطابي: يُتَأوَّلُ أمرُه إياه بصوم السَّرَرِ على أنَّ الرجل كان أوجبه على
نفسه نذرًا فأمره بالوفاء، أو أنه كان اعتاده فأمره بالمحافظة عليه، وإنما
تأوَّلناه للنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.
وقال ابن التين: أراد توديعه، وفيه دليل على ابن سلمة في منعه صومه تطوعًا، وعلى
أصحاب داود حين منعوا صومه أصلًا.
قال: ويحتمل أن يكون جرى هذا جوابًا من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكلام
تقدَّمه لم يُنقَل إلينا.
(1/9)
بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِوَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَيَعْنِي: إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ، وَلاَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ.1984 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، سَأَلْتُ جَابِرًا: أَنَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». [خ 1984] زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ: «أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ».غيرُ أبي عاصم: هو يحيى بن سعيد القطان، قال النسائي: حدثنا عمرو بن علي، عن يحيى، عن ابن جُرَيج، أخبرني محمد بن عبَّاد بن جعفر، قال: قلت لجابر: «أسمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهى أن يُفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب الكعبة».وقال البيهقي: قول البخاري: «زاد غير أبي عاصم» وهذه الزيادة ذكرها يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج إلا أنه قصَّر بإسناده فلم يذكر فيه عبد الحميد بن جُبَير. ورواه الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا، عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، وأبي عاصم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد، الحديث. قال الإسماعيلي: ذكر البخاري حديث أبي عاصم عن ابن جريج عن عبد الحميد عن ابن عبَّاد، وقد رويناه من حديث أبي عاصم أيضًا كما قال يحيى، وتابعه فُضيل بن سليمان وحفص بن غياث أيضًا. وكذا رواه عن ابن جريج النضر بن شُميل عند النسائي، يعني كما ذكره البخاري. ورواه أبو سعد محمد بن مبشر، عن ابن جريج، عن عبد الحميد، سمع محمد بن عبَّاد، قال الإسماعيلي: وأبو سعد ليس كهؤلاء، انتهى كلامه.
(1/10)
وفيه حملٌ شديدٌ على البخاري وليس جيدًا؛ لأنَّ ابن جريج رواه عنه كما رواه البخاري الجمُّ الغفير، فمنهم: ما رواه أبو قرة في «سننه» عن ابن جريج، وهو من أثبت الناس فيه، فقال: ذكر ابن جريج، قال: أخبرني عبد الحميد بن جبير بن شيبة، أنه أخبره محمد بن عبَّاد بن جعفر، أنه سأل جابرًا وهو يطوف بالبيت، الحديث. وكذا رواه أبو محمد الدارمي في «مسنده» عن أبي عاصم. ورواه أيضًا عن أبي عاصم، كما رواه عنه البخاري أبو موسى محمد بن المثنى المزني، أخبرنا بذلك المسند الثقة عبد الله بن علي بن عمر المغربي قراءة عليه، أخبرنا المسند عبد اللطيف الحرَّاني قراءةً عليه، عن الشيخين أبي جعفرابن الطَّرَسُوسِي والصَّيْدَلاني، قالا: حدثنا محمود بن إسماعيل الصَّيرفي سماعًا عليه، أخبرنا أبو بكر بن شَاذَان، أخبرنا أبو بكر القَبَّاب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل بجميع كتاب «الصيام»، قال: أخبرنا أبو موسى، حَدَّثنا أبو عاصم، حَدَّثنا ابن جريج، حدثني عبد الحميد بن جبير، عن محمد بن عبَّاد، فذكره. وقال مسلم في «صحيحه»: حَدَّثنا ابن رافع، حَدَّثنا عبد الرزاق، حَدَّثنا ابن جُرَيج، أخبرني عبد الحميد بن محمد بن عبَّاد، أخبره، فذكره. ورواه علي بن المفضل المقدسي من حديث علي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مطر، قال: حَدَّثنا إبراهيم بن مرزوق، حَدَّثنا أبو عاصم. وذكر البخاري بعد حديث أبي هريرة المخرج عنده:1985 - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ». [خ 1985] وعند مسلم: «لا تختصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصُّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم».وعند الطحاوي وأحمد: «يومُ الجمعةِ يومُ عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده».
(1/11)
وعند ابن أبي شيبة قال لأبي هريرة رجلٌ: «أنت الذي تنهى عن صوم يوم الجمعة؟ قال: لا وربِّ هذه الحرمة، أو هذه البنية، ما أنا نهيت عنه، محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».وعند ابن سام من حديث جعفر بن علي الجَريري، حَدَّثنا أبو حماد الحنفي، عن الأعمش، عن أبي صالح عنه: «نهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صوم يوم الجمع مفردًا».وعند النسائي عن أبي الدرداء يرفعه: «يا أبا الدرداء! لا تختصَّ يومَ الجمعة بصيام دون الأيام» الحديث، وسنده جيد. وذكر البخاري أيضًا عن:1986 - مُحَمَّد، حَدَّثنا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: «أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لاَ، قَالَ: فَتُرِيدِينَأَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لاَ، قَالَ: فَأَفْطِرِي». [خ 1986] وَقَالَ حَمَّادُ بنُ الجَعْدِ: سَمِعَ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَتْهُ: «فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ».اختلف في محمد الراوي عن غُنَدر هنا: فذكر أبو نعيم الأصبهاني في «مستخرجه» والإسماعيلي أنه ابن بشار بُنْدار. وقال الجيَّاني: لم يثبته أحد من شيوخنا في شيء من المواضع، ولعله محمد بن بشار، وإن كان محمد بن المثنى يروي أيضًا عن غندر. زاد أبو نصر: ومحمد بن الوليد البَسَري أيضًا روى عن غندر في «الجامع الصحيح».وقال علي بن المفضل: الأقرب أنه بُنْدَار. وعند النسائي: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حَدَّثنا بشر، حَدَّثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على جويرية بنت الحارث»، حديث يدل ظاهره على إباحة صومه. وعن ابن عباس يرفعه: «لا تصوموا يوم الجمعة وحدَه» رواه أحمد.
(1/12)
وعن جُنادة: «دخلت على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم جمعة في سبعة من الأَزْد أنا ثامنهم وهو يتغدى، فقال: هلموا إلى الغداء. فقلنا: إنا صيام. فقال: أصمتم أمس؟ قلنا: لا، قال: فتصومون غدًا؟ قلنا: لا، قال: فأفطروا، فأكلنا معه، فلما خرج وجلس على المنبر دعا بماء، فشرب والناس ينظرون، يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة».وعند الترمذي حديث يدلُّ ظاهره على إباحة صومه، عن ابن مسعود: «قلَّ ما رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفطر يوم الجمعة» وقال: حديث حسن غريب. قال ابن عبد البر: هو حديث صحيح. قال: وروى ابن عمر أنه قال: «ما رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مفطرًا يوم الجمعة قط» رواه ابن أبي شيبة من حديث ليث، عن عمير بن أبي عمير، عنه. وعن ابن عباس: «أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه» انتهى. روى ابن عباسهذا، ولفظه: «أنه لم ير رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفطر يوم جمعة قط»، أخبرنا به الإمام أبو محمد البصري رحمه الله تعالى قراءة عليه، أخبرنا ابن الفرات، عن فاطمة بنت سعد الخير، أخبرنا أبي ومحمد بن ناصر الحافظ، أخبرنا أبو منصور المعمري، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر، أخبرنا أبو حفص البغدادي، حَدَّثنا محمد بن هارون الحضرمي، حَدَّثنا عمرو بن علي، حَدَّثنا ميمون بن زيد، حَدَّثنا ليث، عن عطاء، عنه. ومن حديث صفوان بن سُليم عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة يرفعه: «من صام يوم الجمعة أعطاه الله عزَّ وجلَّ عشرة أيام من أيام الآخرة لا يشاكلهنَّ أيام الدنيا غرًا».وفي «الموضوعات» للنقاش: «من صام يوم السبت حرم الله لحمه على النار، ومن صام يوم الجمعة غُفِرَ له ذنوب خمسين سنة» الحديث.
(1/13)
قال أبو حفص ابن شاهين: الأحاديث المصرِّحات بفضل صوم يوم الجمعة طريقها فيه اضطراب، ولا تدفع فضلَ صومه، وأما صومه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيجوز أن يكون أمر لغيره، ويجوز أن يكون هو له دون غيره، كما كان يأمر بالإفطار في النصف من شعبان ويصوم هو شعبان كله. قال: والحديث الأول خرج على وجه النهي عن التفرد بصيامه، فإذا انضاف إليه يوم قبله أو بعده خرج عن النهي، ولا يكون طريقه النسخ. اختلف العلماء في صيام يوم الجمعة: فنهت طائفة عن صومه إلا أن يصام قبله أو بعده، رُوِيَ هذا عن أبي هريرة وسلمان رضي الله عنهما. وروي عن أبي ذرٍّ وعليٍّ أنهما قالا: إنه يوم عيد وطعام وشراب فلا ينبغي صومه، وهو قول ابن سيرين وابن شهاب، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. ومنهم من قال: يفطر ليقوى على الدعاء والذكر بعد الصلاة، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوُا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوُا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوُا اللهَكَثِيْرًا} [الجمعة: 10] رُوي نحو هذا عن النخعي، وهو نظير فطر الحاج يوم عرفة. وقيل: الحكمة في النهي عن صومه مفردًا لئلا يعتقد وجوبه، انتهى. هذا ينتقض بصيام يوم الاثنين وعاشوراء وعرفة وغيرها. قال: أو لئلا يلتزم الناس من تعظيمه ما التزمته اليهود في السبت، انتهى. كأن هذا غير جيد؛ لأن في يوم الجمعة وظائف من صلاة وغيرها من تعظيم وشبهه، ولم يرد النهي عن شيء منها؛ بل حثَّ عليها الشارع صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفي «الموطأ»: قال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم ومن يُقتَدَى به يَنهى عنه، وصيامه حسن، ورأيت بعضَ أهل العلم يصومه، وأُرَاهُ كان يتحرَّاه. قال أبو عمر: قيل: إنه محمد بن المنكدر. وقال ابن بطال: أكثر الفقهاء على الأخذ بأحاديث الإباحة، على أن أحاديث النهي أصح؛ لأن الصوم عمل برٍّ، فوجب أن لا يمنع منه إلا بدليل لا معارض له. وعن ابن القاسم: كره مالك أن الرجل يجعل على نفسه صوم يوم مؤقت.
(1/14)
قال ابن التين: قال بعضهم: يحتمل أن تكون هذه رواية عن مالك في منع قصد يوم الجمعة بالصوم. وقال الداوودي: لم يبلغ مالكًا الحديث بالمنع، ولو بلغه لم يخالفه. قال: ولا يبالي صام الذي يليه قبل ذلك أو بعده؛ لأن من صام يومًا سواه فقد صام قبله أو بعده؛ لأنه يقبل اليوم الذي يليه. قال ابن التين: وفي حديث جويرية يدلُّ أنْ قبله يوم الخميس وبعده يوم السبت؛ لأنه قال لها: «أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أفتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا»، ولم يسألها: هل صامت قبل أمس؟ ولا: هل تصومين بعد غد؟ وفي الحديث النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي. واحتَجَّ به جماعة من العلماء على كراهة الرغائب التي هي ليلة الجمعة في رجب، وصلاة نصف شعبان. وأبو أيوب الراوي عن جويرية: اسمه يحيى بن مالك، ويقال: حبيب بن مالك، العَتَكي المَراغي. البابان الذي بعده تقدما. بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ 1990 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: «شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ». [خ 1990] ورواه في الأضاحي عن حسان بن موسى، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن الزهري، وقال في آخره: وعن معمر عن الزهري عن أبي عبيد نحوه. قال الحافظ أبو العباس الطَّرْقي: طريق معمر هذه معطوف على طريق يونس، فيكون على هذا القول متصلة غير معلقة، والله تعالى أعلم. ثم ذكر البخاري حديث أبي سعيدٍ: 1991 - 1992 - «نَهَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَعَنِ الصَّمَّاءِ».
(1/15)
[خ 1991 - 1992] «وَعَنْ صَلاَةٍ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْرِ».وعند مسلم عن عائشة: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صوم يومين؛ يوم الفطر، ويوم الأضحى».وعند الترمذي عن عقبة بن عامر قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيد أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب»، وقال: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وقال ابن عبد البر: تفرد بهذا الحديث موسى بن علي عن أبيه، ما تفرد به فليس بالقوي، وذِكْرُ يومِ عرفة في هذا الحديث غير محفوظ، وإنما المحفوظ من وجوه مرفوعة: «يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق أيام أكل وشرب».وقد أجمع العلماء على أن يوم عرفة جائز صيامه للمتمتع إذا لم يجد هديًا، وأنه جائز صومه بغير عرفة، وإنما كره من كره صومه بعرفة من أجل الضعفعن الدعاء والعمل في ذلك الموقف، فإن صامَه قادرًا على الإتيان بما كُلِّفَ من العمل بعرفةَ بغير حرج ولا إثم. وفي حديث موسى هذا ذِكْرُ يومِ النحر، وقد أجمعوا على أنه لا يحل لأحدٍ صومه، وقد اختلف العلماء في صيام أيام التشريق للمتمتع وغيره. روى البخاري عن عائشة ذكر عمر قالا: «لم يُرخَّصْ في أيام التشريق أن يُصمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي».وفي لفظ: «الصيام لمن تمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديًا ولم يصم صام أيام منى».وقال الطحاوي: فإن قال قائل: قد رأينا مَنْ صَامَ يوم عرفة بعرفة عن واجب عليه أجزأه صومه عنه، ولم يكن كمن صام يومًا من تلك الأيام الأخر عن واجب عليه أن ذلك لا يجزئه؟ فالجواب: أن الأشياء قد تجمع في شيء واحد وأحكامها في نفسها مختلفة، من ذلك قوله عزَّ وجلَّ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوْقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ} [البقرة: 197].
(1/16)
فجَمَعَ هذه الأشياء ونَهَى عنها وهي مختلفة في أحكامها؛ لأن الرفث ـ الجماع ـ يفسد الحج, وما سواه مما ذكر معه لا يفسده, ويوم عرفة عند الحجاج دون غيرهم فلم يصلح لهم صومه. يؤيِّدُه ما رواه أبو هريرة، رَوى نَهيَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صيام يوم عرفة بعرفة، وأما غيرهم فجائز لهم صومه منحولهم الثواب؛ لحديث أبي سعيد عند مسلم: «صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية».وعن قتادة بن النعمان يرفعه: «من صامَ يوم عرفة غُفِرَ له سنة أمامه وسنة بعده»، رواه ابن ماجه. وعن سهل بن سعد: «صومُ يومِ عرفة كفارة سنتين»، رواه ابن أبي عاصم في «كتاب الصيام».زاد الطبراني: «غفر له ذنب سنتين» انتهى. فهم النسائي يشعر بأن ذكر يوم عرفة محفوظ في هذا الحديث، وذلك أنه بوَّبَ له: «باب إفطار يوم عرفة بعرفة».وعندهأيضًا من حديث يوسف بن مسعود بن الحكم الزُّرَقي، عن جدَّتِه: «أنها رأت في حَجة الوداع عليَّ بن أبي طالب ينادي: أيها الناس! إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر».ولما خرَّجه الحاكم قال: صحيح على شرط مسلم. زاد البيهقي: «ونساءٍ وبعال».وعند الدارقطني عن أنس: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن صوم خمسة أيام في السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق».قال ابن الجوزي: أما النهي عن صوم عيد الفطر فلأنه إذا تطوَّع فيه بالصوم لم يبيِّن المفروض من غيره، ولهذا يستحب الأكل قبل الخروج إلى الصلاة، وليتحقق انقضاء زمان مشروعية الصوم، وأما يوم النحر ففيه دعوة اللهِ جلَّ وعزَّ التي دعا عباده إليها من تضييفه وإكرامه أهلَ منى وغيرهم بما شرع لهم من ذبح النسك والأكل منها، فمن صام هذا اليوم فقد ردَّ على الله تعالى كرامته. وأشار أبو حنيفة وغيره إلى أنه شرع غير معلَّل.
(1/17)
قال القرطبي: يحمل النهي عن صومها على التحريم عند كافة العلماء، فلا يجوز الإقدام على صومها، أي نوع من أنواع الصيام كان، لا يختلف في ذلك، ثم لا ينعقد صومها - إن وقع - عند عامتهم غير أبي حنيفة فإنه ينعقد عده إذا أوقع. واختُلِفَ فيمن نذرهما: هل يلزمه قضاؤهما أم لا يلزمه؟ وبالأول قال أبو حنيفة وصاحباه والشافعي والأوزاعي في أحد قوليهما، وبالثاني قال مالك وزفر وهو قول للشافعي. وعند أحمد: ينعقد نذره ولكنه يقضي يومًا مكانه، قال ابن الجوزي: ويكفر كفارة يمين، وعن أحمد: يكفر من غير قضاء، ونَقَلَ عنه مُهنَّا ما يدلُّ على أنه إن صامه صحَّ صومُه. وقال القاضي أبو يعلى: قياس المذهب أنه لا يصح صومه لأجل النهي. وعن أبي حنيفة: يصح نذره ويلزمه القضاء بلا كفارة، فإن صام أجزأه. وعن مالك والشافعي: لا ينعقد ولا يلزمه قضاء ولا كفارة. وفي «شرح الهداية» عن أبي يوسف: لا يصح صَوم يومي العيد ولا النذر بصومهما، وهو روايةُ ابن المبارك عن أبي حنيفة، وروى الحسن عنه: إن نذر صومَ يومِ النحر لا يصح، وإن نذر صومَ يوم غدٍ وهو يوم النحر صح. وللحنفي أن يقول محتجًا لصحة مذهبه: قال صاحب «المحصول»: أكثر الفقهاء على أن النهي لا يفيد الفساد، وقول بعض الشافعية أنه يفيده، وقال أبو الحسن البصري: يفيده في العبادات لا المعاملات. قال ابن الخطيب: ولا يدلُّ النهي على الفساد أصلا؛ أما أنه لا يدل عليه بلفظه فلأن اللفظ لا يفيد إلا الزجر، والفساد معناه عدم الإجزاء، وكل واحدٍ منهما مغاير للآخر. وأما أنه لا يدل عليه بمعناه فلأنَّ الدِّلالة المعنوية شرطها الملازمة، فاللفظ الدال على الشيء دال على لازمِ المسمى بواسطة دلالته على المسمى، والفساد غير لازم للنهي على ما نذكره. وقال في البزدوي: النهي نوعان: نوع يكون في الأفعال الحسية، كالقتل والزنا وشرب الخمر فيدل على كونها قبيحة في نفسها لمعنى في أعيانها، إلا أن يقوم دليل على خلافه.
(1/18)
ونوع يكون عن التصرفات الشرعية كالصوم والصلاة والبيع والإجارة ونحوها، فيقتضي قبحًا في غير المنهي عنه، لكن يتصل به حتى يبقى مشروعًا بأصله مع إطلاق النهي. واحتج محمد أن صيام يومي العيدين والتشريق منهي عنه، والنهي لا يقع على ما لا يكون. ذكر الصلاة بعد العصر، تقدم. وقول البخاري: 1993 - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «يُنْهَى عَنْ صِيَامَيْنِ وَبَيْعَتَيْنِ: الفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَالمُلاَمَسَةِ وَالمُنَابَذَةِ». [خ 1993] ذكره في مسلم بلفظ: «نَهَى أو نُهِيَ عن بيعتين: الملامسة والمنابذة»، لم يذكر صومًا، وقال الطِّرْقي: عند البخاري دون غيره عن عطاء في هذا الحديث زيادة: «وعن صيامين: الفطر والنحر»، انتهى. وفيه نظر، من حيث إن الإسماعيلي رواه عن القاسم بن زكريا، وابن خزيمة، وعبد الله بن ياسين قالوا: أخبرناعبد الله بن إسحاق الجوهري، أخبرنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا عمرو، عن عطاء بن مينا، عن أبي هريرة أنه قال: «نهى ـ يعني النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ـ عن صيام يومين، وعن لبستين، وعن بيعتين، فأما صيام يومين: فالفطر والأضحى، وأما البيعتان: فالملامسة» ولم يذكر المنابذة. وعند البيهقي من حديث مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن صيام يوم الأضحى ويوم الفطر».وعند ابن ماجه: «أيام منى أيام أكل وشرب».قال البخاري:
(1/19)
1994
- حَدَّثنا ابْنُ مثَنَّى، حَدَّثنا مُعَاذٌ، حَدَّثنا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ زِيَادِ
بْنِ جُبَيْرٍ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ
يَصُومَ يَوْمًا ـ قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: الِاثْنَيْنِ ـ فَوَافَقَ يَوْمَ
عِيدٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللهُّ جلَّ وعزَّ بِوَفَاءِ النَّذْرِ،
وَنَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صَوْمِ هَذَا اليَوْمِ». [خ
1994]
عن ابن أبي شيبة: حَدَّثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن نافع، عن ابن
عمر قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر».
وحديث أبي سعيد تقدم
بَابُ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
1996 - وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثنا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ
قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قال: «كَانَتْ عَائِشَةُ تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى،
وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا». [خ 1996] هذا موقوف. وقوله: (وَقَالَ لِي
مُحَمَّدُ) يعني أنه أخذه عنه مذاكرة، كما أسلفناه. وحديث عائشة وابن عمر تقدما.
وقوله
1999 - حَدَّثنا ابْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
سَالِمِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، الحديث. [خ 1999]
ثم قال:
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ.
ثم قال:
تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ.
يعني: أنَّ إبراهيم تابع مالكًا في روايته عن الزهري عن
سالم؛ لأنَّ خَلَفًا قال ذلك عَقيب قوله: (وعن سالم عن ابن عمر)، وعلى مقتضى ما في
البخاري يكون إبراهيم قد تابع مالكًا في روايته عن الزهري عن عروة عن عائشة؛ لأن
البخاري قالها عَقيب قوله: (وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ)، ذكر هذا المزني في ترجمة مالك عن ابن شهاب عن عروة.
(1/20)
وعند
البيهقي من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، ثم
قال: وإسناده عن الزهري عن سالم عن ابن عمر مثله، ثم قال: رواه البخاري في
«الصحيح» عن ابن يوسف عن مالك.
قال البخاري: وتابعه إبراهيم بن سعد، وساق سنده إلى الربيع بن سليمان قال: أخبرنا
الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: «في المتمتِّعِ
إذا لم يجدْ هَدْيًا ولم يَصُمْ»، ثم قال: وبإسناده عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه
مثل ذلك، وهو يدل أن إبراهيم بن سعد رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة، ورواه عن
الزهري عن سالم عن أبيه.
(أَيَّامِ التَّشْرِيقِ): يقال لها: الأيام المعدودات، وأيام منى، وهي الحادي عشر،
والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، وسميت أيام التشريق؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق
فيها؛ أي تُنشَرُ في الشمس، وإضافتها إلى منى؛ لأن الحاجَّ فيها في منى.
وقيل: لأنَّ الهديَ لا ينحر حتى تُشرِقَ الشمس.
وقيل: لأن صلاةَ العيد عند شروق الشمس أول يوم منها، فصارت هذه الأيام تبعًا ليوم
النحر، وهذا يعضد قول من يقول: يوم النحر منها.
وقال أبو حنيفة: التشريق التكبير دُبُرَ الصلاة.
قال القرطبي: قال بجواز صوم أيَّامِ التَّشريق مُطلقًا بعضُ السلف.
وفي «الإشراف»: قال جماعة من العلماء: يجوز صيامها لكل واحد تطوُّعًا وغيره، منهم
الزبير بن العوام، وابن عمر، وابن سيرين.
زاد ابن بطال: وعبد الله بن الزبير، والأسود بن يزيد.
وعن أنس: «كان أبو طلحة قلَّ ما رأيتُه يُفطِرُ إلا يومَ فطرٍ أو أضحى».
قال ابن قُدامة: كأنهم لم يبلغهم نهيُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صيامها،
ولو بلغهم لم يَعْدُوهُ إلى غيره.
قال ابن بطال: كان مالك والشافعي يكرهان صومها إلا للمتمتع، فإن صامها فرضًا
فعندنا روايتان، أحدها: لا يجوز، والثانية: يصح لحديث ابن عمر وعائشة المذكور.
(1/21)
قيل:
الذي لا يجد الهديَ فيصومُ هذه الثلاثة الأيام؛ لأنها في الحج إذا لم يصمها في
العشر مثل ما جاء عن عائشة وابن عمر، ورُوِيَ ذلك عن عبيد بن عمر، وعروة، وهو قول
الأوزاعي وإسحاق.
وذكر الطحاوي أنَّ هؤلاء أباحوا صيام أيامَ التشريق للمتمتِّع والقارن والمحْصَر
إذا لم يجد هديًا ولم يكونوا صاموا قبل ذلك، مستدلِّين بما رواه البخاري عن ابن
عمر وعائشة، وبما رواه الدارقطني عن عبيد الله بن حذافة: «أن رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم أمره في رَهْطٍ أن يُنَادُوا: هذه أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكر الله
تعالى، فلا تصوموا فيهنَّ إلا صومًا في هدي»، وأصله عند النسائي من غير هذه
الزيادة.
وفي كتاب علي بن المفضل: وقد نقل أن عثمان بن عفان قُتِلَ أوسطَ أيام التشريق وهو
صائم.
قال الطحاوي: وقال آخرون: ليس لهؤلاء ولا لغيرهم من الناس أن يصوموا هذه الأيام عن
شيء من ذلك، ولا عن كفارة, ولا عن تطوع؛ لعموم النهي، وعلى المتمتع والقارن الهدي
لتمتعها وقرانهما، وهدي آخر، وهذا قولنا، وأحد قولي الشافعي.
وعند ابن المنذر عن علي: أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة الأيام في
العشر يصومها بعد أيام التشريق، وهو قول الحسن وعطاء.
وأحاديث النهي كثيرة، منها:
حديث سعد بن أبي وقاص: «أمرني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أناديَ أيامَ
مِنًى أنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ، ولا صومَ فيها»، رواه أحمد من حديث محمد بن أبي
حميد المديني، وفيه كلام.
وعن أبي هريرة: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أيَّام مِنًى أيامُ أكلٍ
وشربٍ» رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وعند مسلم عن نُبيشة الهذلي وكعب بن مالك مثله.
وعن بِشرِ بن سُحيم عند النسائي وحمزة بن عمرو مثله.
وعن عمرو بن العاص عند أبي داود بسند جيد مثله.
(1/22)
وفي
الكتاب «المنتهى» للبَرْمَكي: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعثَ زيدَ بنَ
وَرْقَاءَ إلى أهل مِنًى فقال: إنَّها أيَّام أكلٍ وشربٍ وبِعَالٍ».
قال ابن القَصَّارِ: ومن حجةِ مالكٍ قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. ولا خلاف بين العلماء أن هذه الآية نزلت يوم
التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، فعُلِمَ أنه أباح لهم صومَها وأنهم صاموا فيها؛
لأنَّ الذي بقيَ من العشر الثامن والتاسع، والثامن الذي نزلت فيه الآية لا يصح
صومُه لأنه يحتاج إلى نية من الليل، والعاشر يوم النحر، والإجماع أن لا يُصامَ؛
فعُلِمَ أنهم صاموا بعد ذلك.
وقول ابن عمر وعائشة: «لم يُرخَّصْ في أيام التشريقِ أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد
الهديَ» يرفع الإشكال في ذلك.
بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
وإذا أصبح ولم ينو الصيام ثم صام.
2000 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنْ
شَاءَ صَامَ». [خ 2000]
كذا ذكره البخاري، وعند مسلم من حديثه عن أحمد بن عثمان النوفلي، عن أبي عاصم قال:
حَدَّثنا محمد بن عمر بن زيد العسقلاني، حَدَّثنا سالم بن عبد الله، حَدَّثنا عبيد
الله قال: «ذُكِرَ عند النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومُ عاشوراء فقال: ذاكَ
يومٌ كان يصومُه أهلُ الجاهلية، فمن شاءَ صامَه، ومن شاءَ تركَه».
وأما قول المزي في كتاب «الأطراف»: حديث: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يوم
عاشوراء إن شاء صام وإن شاء أفطر» رواه البخاري ومسلم، الحديث فغير جيد؛ لأنه ليس
لفظ واحد منهما فينظر، والله أعلم.
والذي وقع في مسلم: محمد بن عمر، شبه أن يكون غير جيد، والصواب ما قاله البخاري.
وحديث:
2001 - عَائِشَةَ: «كَانَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَمَرَ بِصِيَامِ
عَاشُورَاءَ»، تقدم. [خ 2001]
وحديث:
(1/23)
2003
- الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ، سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ
عَاشُورَاءَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هَذَا
يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ الله عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ،
فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ». [خ 2003]
ورواه النسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، والسائب بن يزيد، عن معاوية، وقال:
كلا الحديثين خطأ، والصواب حديث الزهري، عن حميد.
وحديث:
2004 - أَيُّوب، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدِينَةَ
فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا:
هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّا اللهُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ
عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ،
فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ». [خ 2004]
وفي لفظ:
2006 - «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَحَرَّى صِيَامَ
يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ،
وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي رَمَضَانَ». [خ 2006]
رواه ابن ماجه من حديث أيوب، عن سعيد بن جبير، والمحفوظ أيوب عن عبيد الله بن سعيد
عن أبيه.
وفي كتاب «الصيام» للقاضي يوسف: قال ابن عباس: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «ليس ليومٍ على يومٍ فضلٌ في الصيام إلا شهرُ رمضان أو يوم عاشوراء».
وعند النقاش: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إن عِشْتُ إلى قابل صمتُ
التاسعَ خوفًا أن يفوته».
وفي لفظ: «من صام عاشوراء فكأنما صام الدهر كلَّه وقام ليلَه».
وفي لفظ: «من صامه يحتسب له بألفِ سنةٍ من سنين الآخرة».
وفي لفظ: «يُكفِّر سنتين: سنة قبله وبعده، وإنَّ الله أمرني بصومه».
وحديث:
(1/24)
2005
- أَبِي مُوسَى: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يعُدُّهُ اليَهُودُ عِيدًا، فَقَالَ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَصُومُوهُ أَنْتُمْ». [خ 2005]
وحديث [2007] سلمة بن الأكوع تقدَّم.
وعند مسلم عن أبي قتادة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صيام يوم عاشوراء
إني أحتسِبُ على الله أن يكفِّرَ السنةَ التي قبله».
وقال الترمذي: «لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال في صيام يوم عاشوراء يكفر سنة
إلا في حديث أبي قتادة، وبه يقول أحمد وإسحاق» انتهى كلامه.
وفيه ذهول عما ذكره في كتابه أيضًا عن أبي هريرة يرفعه: «ما من أيَّامِ الدنيا أحب
إلى الله أن يتعبَّد له فيها من الأيام العشر، وإن صيامَ يومٍ منها ليعدل صيام
سنة، وليلة فيها بليلة القدر» وقال: حديث غريب.
وفي كتاب «عاشوراء» لأبي بكر محمد بن الحسن النقَّاش: أخبرنا أحمد بن طاهر بن
حرملة، حدثني جدِّي حرملةُ بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، حَدَّثنا عمر بن قيس، عن عطاء
بن أبي رَباح، عن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم وسئل عن صيام يوم عاشوراء: «يكفر السنة التي قبلها والسنة التي بعدها»،
وسيأتي حديثه إن شاء الله.
وعند النسائي عن محمد بن صَيفِي قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ
عاشوراء: «أمنكم أحدٌ أكل اليومَ؟ فقالوا: منَّا من صام، ومنَّا من لم يصم، قال:
فأتمُّوا بقيةَ يومكم، وابعثوا إلى أهل العروض، فليتموا بقية يومهم».
وعند أحمد عن هند بن أسماء قال: «بعثني رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى قومي من أسلم، فقال: مُرْ قومَك فليصوموا هذا اليوم
يوم عاشوراء»، وقيل: إن الذي بعثَه رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اسمه أسماء
بن حارثة.
وعند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن مسلمة عن عمِّه: «أن أسلم أتتِ النبيَّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم، قال: صمتم يومَكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأتمُّوا بقية يومكم»،
وقد تقدَّم.
(1/25)
وحديث
الرُّبيِّعِ بنت مُعوِّذ، وقد تقدم في باب صوم الصبيانِ.
وعند النسائي عن قيس بن سعد بن عبادة قال: «أمرنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا».
وحديث ابن مسعود بنحوه في «الصحيح».
وعند مسلم عن جابر بن سَمُرةَ: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمر
بصيامِ يومِ عاشوراء ويحثُّنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان، لم يأمرنا،
ولم ينهنا».
وعند أبي عيسى عن عليٍّ: «سأل رجلٌ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أي شهر
تأمرني أن أصوم بعد رمضان؟ قال: صم المحرم، فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب فيه على
قومٍ، ويتوبُ فيه على قوم آخرين»، وقال: حسن غريب.
وعن ابن الزبير: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حثَّ على صيام يوم
عاشوراء».
وعند النسائي عن حفصةَ: «أربعٌ لم يكن يدعهنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
صيامُ عاشوراء، والعشر» الحديث.
وعن بعضِ أزواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم يصوم تسعَ ذي الحجة، ويوم عاشوراء» الحديث.
وعند ابنِ أبي شيبة بسند جيد عن أبي هريرة يرفعُه: «يومُ عاشوراء كانت تصومه
الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، فصوموه أنتم».
وعند أبي بكر النَّقَّاش من حديث ابن لَهيعَة، عن أبي الزُّبير، عن جابر قال:
«أمرنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ عاشوراء أن نصومَه».
ومن حديث فاطمة بنت محمد عن أم يزيد بنت وَعْلَة عن أبيها: «أنه سمع رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمرُ بصوم عاشوراء».
ومن حديث عُلَيلة قالت: حدثتني أمي عن أمة الله بنت رزينة عن أمها قالت: «كان رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كانَ يوم عاشوراء أمرَ بصيامه وصوَّم الصبيان،
ويقول: لا تذوقوا اليوم شيئًا فإنه يعدلُ سنة».
(1/26)
ومن
حديث ابن عباس من كتاب «الموضوعات» لأبي سعيد محمد بن علي بن مهدي النقَّاش
مرفوعًا: «يوم عاشوراء مبارك، أمرني الله بصومه قبل أن ينزل رمضان» فذكر حديثًا
طويلًا.
اتَّفق العلماء على أن صوم عاشوراء اليومَ سُنَّةٌ وليس بواجب، واختلفوا في حكمه
أول الإسلام، فقال أبو حنيفة: كان واجبًا.
واختلف أصحاب الشافعي على وجهين مشهورين؛ أشهرهما: أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم
يكن واجبًا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكّد الاستحباب، فلما نزلَ صومُ رمضان
صار مستحبًّا دون ذلك الاستحباب، والثاني: كان واجبًا كقول أبي حنيفة.
قال عياض: وكان بعض السلف يقول: كان فرضًا وهو باقٍ على فرضيته لم ينسخ.
قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، إنما هو مستحب، وروي
عن ابن عمر كراهةُ قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه.
انتهى كلامه.
وفيه نظر! من حيث إن صاحب «المحيط» حكى عن أبي حنيفة كراهته.
وأما قوله: «لَئِنْ بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع» فلم يأت العام المقبل حتى
توفي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذكر ابن الجوزي أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين
قدمَ المدينة رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فصامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة
رمضان لم يأمرهم بغيره، ثم أراد مخالفتهم اليهودَ في آخر عمره فمات قبل العام،
وأراد بالتاسع أن يكون عوضًا عن العاشر ليخالف اليهود، أو يكون أراد صومَهما
للمخالفة أيضًا، أو يكون كره
صومَ يومٍ مفردٍ فأرادَ أن يفصله بيومٍ غيرِه، أو يكون أراد بالتاسع ما كان يذهب
إليه ابن عباس من أنه العاشر.
واختُلِفَ في عاشوراء متى هو؟
فعند الترمذي عن ابن عباس قال: «أمر رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصوم
عاشوراء اليوم العاشر» صحَّحه الترمذي.
(1/27)
وعند
مسلم عن الحكم بن الأعرج قال: «انتهيتُ إلى ابنِ عباس فقلت: أخبرني عن صوم
عاشوراء، فقال: إذا رأيتَ هلال المحرم فاعدد، وأصبحِ يومَ التاسعِ صائمًا. قلت:
هكذا كان سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصومه؟ قال: نعم».
وفي لفظ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لئن بقينا إلى قابل لنصومنَّ التاسع، فلم
يأت العام المقبل حتى توفي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
وفي رواية: أنه لم يكن قال يعني يوم عاشوراء.
قال أبو الخطاب: أفتى ابنُ عباس بعد موتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصومِ التاسع
كما كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عزم عليه أن يفعله لو عاش، وبقولِ ابن
عباس قال ابن سيرين وأبو رافع صاحب أبي هريرة.
وقال أبو عمر في «التمهيد»: وهو مذهب الشافعي وأحمد بن إسحاق.
وعند أحمد بن حنبل: «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا قبله يومًا وبعده
يومًا».
وفي «المصنف» عن الضَّحَّاك: عاشوراء يوم التاسع.
وعن الحسن ومحمد وعكرمة وابن المسيَّب: عاشوراء يوم العاشر.
قال ابن المفضل: وهو ظاهر مذهب مالك.
وفي «تفسير أبي الليث السمرقندي»: عاشوراء يوم الحادي عشر.
قال ابن المفضل: استحبَّ آخرون صيامَ اليومين جميعًا، روي ذلك عن أبي رافع صاحبِ
أبي هريرة وابن سيرين، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق.
وروي عن ابن عباس أنه كان يصوم اليومين خوفًا أن يفوته، وكان يصومه في السفر،
وفعلَه ابن شهاب.
وصامَ أبو إسحاق يوم عاشوراء ثلاثة أيام: يومًا قبله ويومًا بعده في طريق مكة،
وقال: إنما أصوم قبله وبعده كراهية أن يفوتني.
وكذا رويَ أيضًا عن ابن عباس أيضًا أنه قال: «صوموا قبله يومًا وبعده يومًا،
وخالفوا اليهود».
(1/28)
وعند
أبي الخطاب: اليهود تصوم اليوم العاشر من ... ، وكان مالك يستحبُّ صيامَ يوم
عاشوراء أو يفضله على غيره، وكذلك جميع المالكيين بالغرب، ويتصدَّقون فيه، ويرونه
من أجلِّ القرب اقتداء بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبإمام مذهبهم. انتهى.
كأن مالكًا نحا إلى حديثٍ رواه أبو موسى المقدسي في كتاب «فضائل الأعمال والشهور»
الذي يوقف ... في عدة أسفار أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «من وسع على
عياله في يوم عاشوراء وسَّع الله عليه سائر سَنَتِهِ» قال الأموي: هذا حديث حسن.
وفي «التهذيب» للأزهري: قال الليث: يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم.
وعن المزني: يحتمل أن يكون التاسع هو العاشر.
قال الأزهري: كأنه تأول عشر الورد أنها تسعة أيام، وهو الذي حكاه الليث عن الخليل،
وليس ببعيد من الصواب.
وفي «الموعب» عن صاحب «العين»: هو اليوم العاشر من المحرم.
وقيل: هو اليوم التاسع، ومن أنكر هذا القول احتج بأنه لو كان التاسع لكان يقال له:
التاسوعاء.
وعن سيبويه: هو على مثال فاعولاء.
وفي «المحكم»: عاشوراء وعشوراء اليوم العاشر من المحرم.
وفي «الجامع»: سُمِّيَ في الإسلام ولم يعرف في الجاهلية.
قال الخليل: بَنَوهُ على فاعولاء ممدودًا؛ لأنها كلمة عبرانية.
وفي «الجمهرة»: هو اسمٌ إسلامي لا يُعرَفُ في الجاهلية؛ لأنه لا يعرف في كلامهم
فاعولاء. انتهى.
ثبت في «الصحيحين» عن سيِّدِ العرب والعجم، وعن أصحابه أنَّ عاشوراء كان يُسمَّى
في الجاهلية الجهلاء، ولا يعرف إلا بهذا الاسم.
وقال ابن الأعرابي: سمعت العرب تقول: خابوراء.
وفي «تثقيف اللسان» للحِمْيَري عن أبي عمرو الشيباني: عاشورى، بالقصر.
وروي عن أبي عمر أنه قال: ذكر سيبويه فيه المد والهمز،
وأهل الحديث لم يضبطوه وإنما تركوه على القصر وترك الهمز.
كِتَابُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ
(1/29)
2008
- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ
ابنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ لِرَمَضَانَ: «مَنْ
قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [خ
2008]
وفي حديث:
2009 - 2010 - ابْن يُوسُفَ، عَنْ مَالِك، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «فَتُوُفِّيَ
رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ
الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْر مِنْ خِلاَفَةِ
عُمَرَ». [خ 2009 - 2010]
قال:
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ
القَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى
المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ
لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ
عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ
أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ لَيْلَةً
أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ
البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي
يَقُومُونَ. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ».
وعند أبي داود من حديث مسلم بن خالد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: «خرج رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذا أناس في رمضان يصلُّون في ناحية المسجد، فقال:
مَنْ هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء ناسٌ ليسَ معهم قرآن، وأُبيُّ بن كعب يصلِّي بهم، وهم
يصلون بصلاته، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصابوا، ونعم ما صنعوا»، قال أبو
داود: ليس هذا الحديث بالقوي.
(1/30)
وحديث
[2011] عائشة تقدم.
قال المهلب: في هذه الأحاديث جواز الاجتماع لصلاة النوافل.
وفيه: أن قيام رمضان سُنَّة؛ لأن عمر لم يَسُنَّ إلا ما كان رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم يحبه، وقد أخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعلة التي منعته من الخروج،
وهي خشية أن يفترض عليهم، فلما أمن عمر الفرض لانقطاع الوحي؛ أقام هذه السنة
وأحياها، وذلك في سنة أربع عشرة من الهجرة.
والأوزاع: الفِرَق، لا واحد له من لفظه.
وقوله: (مُتفرِّقُونَ) على معنى التأكيد؛ لأن الأوزاع الجماعات المتفرقون، وقال
ابن فارس: الأوزاع، الجماعات، فعلى هذا يكون المتفرقون تفسيرًا.
وقال الترمذي: اختلف أهل العلم في قيام رمضان:
فرأى بعضهم: أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على
هذا عندهم بها.
وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي وغيرهما من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم عشرين ركعة، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي، قال الشافعي: هكذا
أدركت ببلدنا مكة شرَّفها الله تعالى يصلون عشرين ركعة.
وقال إسحاق: نختار إحدى وأربعين ركعة، على ما روي عن أبي بن كعب.
وعن مالك: تسع وثلاثون ركعة، الوتر منها ثلاث والباقي ست وثلاثون ركعة.
وقال أحمد: روي في هذا ألوان، ولم يقض فيه بشيء.
واختار هو وابن المبارك وإسحاق: الصلاة مع الإمام في شهر رمضان.
واختار الشافعي: أن يصلي الرجل وحدَه إذا كان قارئًا.
وذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النَّقَّاشُ المقرئ في كتابه «فضل صلاة
التراويح» فيما رويناه عنه، قال الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بضعًا
وثلاثين ركعة، وأحب إليَّ غير ذلك، وكذلك يقومون بمكة.
وعن الحسن: أن أُبي بن كعب صلى بهم أربعين ركعة غير ركعة، أو أربعين وركعة.
وعن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها
بخمس.
(1/31)
وقال
الحسن بن عبيد الله: كان عبد الرحمن بن الأسود يصلي بنا في رمضان أربعين ركعة يوتر
بسبع».
فأما الصلاة بين التراويح:
فعن مالك بن أنس: لا بأس به، وكذلك قاله ابن أبي ذئب، وكان الليث بن سعد والأوزاعي
وسعيد بن عبد العزيز وابن جابر وبكر بن مضر يصلون بين التراويح في شهر رمضان، وقال
سفيان بن سعيد رحمه الله: لا بأس بذلك.
وزجر عن ذلك عبادة بن الصامت ? وضربهم على ذلك، ونهى عامر عن الصلاة بين التراويح
وقال: لا تشبهوها بالفريضة.
وكان أبو الدرداء إذا رأى الرجل يصلي بين الترويحتين قال: «تصلي وإمامك قاعد بين
يديك، أترغب عنَّا؟! فلست منَّا».
وكان عامر بن عبد الله بن الزبير وأبو بكر بن حزم ويحيى بن سعيد يصلون بين
الأشفاع، وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والحسن كانوا يصلون بين الركوع، وأحمد بن
حنبل يقول بالصلاة بين التراويح.
وقال قيس بن عباد: «صليت خلف أبي موسى الأشعري في رمضان فقام بين الركعتين».
وقال زيد بن وهب: «كان عمر بن الخطاب يروح بين التَّرويحتين قدرَ ما يذهب الرجل
إلى سَلْعٍ ويأتي».
وقال سفيان بن سعيد: «أطول ذلك قدر ما يصلي الركعات ويستريح».
وقال نصر بن سفيان: «كنا نُروِّحُ مع عمر قدرَ ما يقرأ الرجل مئة آية، وابن الزبير
قدرَ ما يصلي الرجل أربع ركعات يقرأ في كل ركعة عشر آيات».
وقال السائب بن يزيد: «كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العِصيِّ من طول
القيام».
وقال أبو عثمان النَّهْدي: «أمر عمر بن الخطاب ثلاث نفرٍ يؤمُّون: فأسرعهم أن يقرأ
ثلاثين آية، وأوسطها خمسة وعشرين آية، وأبطأهم عشرين آية».
وكان ابن أبي مُليكة يقرأ في رمضان في الركعة الواحدة بفاطر وعسق، وكان مسروق يقرأ
بالعنكبوت.
(1/32)
وقال
عروة بن الزبير: «جاء عمر بن الخطاب المسجد ذات ليلة في رمضان فقال: ما شأن الناس
قد اجتمعوا؟ فقالوا: اجتمعوا للصلاة، فقال: بدعة ونعمتِ البدعة، ونعمتِ البدعة
ثلاثًا، ثم قال لأُبي بن كعب: صلِّ بالرجال».
وقال لسهل بن أبي حَثْمة: «صلِّ بالنساء»، وفي لفظ: لتميمٍ الداري.
وأما حديث النضر بن شَيبان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «رمضان افترض الله جلَّ وعزَّ صيامه، وإني سننت
للمسلمين قيامه، فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيومَ ولدته
أمُّه» فسُئِلَ البخاري عنه فقال: الصحيح حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: ولا
يصح لأبي سلمة سماع من أبيه.
وقال إبراهيم الحربي: اجتمع يحيى ومحمد بن عمرو على هذا الحديث أنه عن أبي سلمة عن
أبي هريرة.
ووافقهم الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «كان يُرغِّبُ في قيام رمضان من غير عزيمة».
وفي «سنن» النسائي و «الأحاديث الجِياد» للشيخ الضياء المقدسي قال النضر بن
شَيبان: «قلت لأبي سلمة: حدثني بشيء سمعتَه من أبيك، سمعه أبوك من النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم، ليس بين أبيك وبين رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحد في
شهر رمضان؛ فقال: نعم، حدثني أبي قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»
الحديث.
ولما ذكره البزار بهذا اللفظ قال: هذا الحديث لا نعلمه يُروَى عن ابن عوف إلا بهذا
الإسناد من حديث النضر بن شَيبان، ورواه عن النضر غير واحد.
وقال السفاقسي: وقع في بعض النسخ بالهاء، وهو الصواب على أصول الكوفيين، وإنما
يكون عند البصريين بالتاء ممدودة: ونعمت؛ لأن نِعْمَ عندهم فعل فلا يتصل به إلا
تاء التأنيث دون هائه، وفي بعض النسخ «نعم»، وهي رواية أبي الحسن، ووجهه أنها
تقدمت مؤنثًا غير ذي فرج، مثل: {وَجَاءَهُمُ البَيَّنَاتُ} [آل عمران: 86].
و «نِعْمَ»: كلمة تجمع المحاسن كلها، و «بئس»: تجمع المساوئ كلها.
(1/33)
بَابُ
فَضْلِ لَيْلَةِ القَدْرِ
وَقَوْلِ اللهِّ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}
هذه السورة مكية في قول مقاتل، وفي الكتاب المعروف بـ «مقامات التنزيل»: لا خلاف
في ذلك.
وقال الواحدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة.
أخبرنا المسند المعمر فتح الدين الدَّبُوسِي، عن ابن المقير، عن أبي الفضل
الميْهَنِي، عن الواحدي، أخبرنا أبو بكر التميمي، حَدَّثنا عبد الله بن حيان،
حَدَّثنا أبو يحيى الرازي، حَدَّثنا سهل بن عثمان، حَدَّثنا يحيى بن أبي زائدة، عن
مسلم، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد قال: «ذكر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلًا
من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر، فتعجب المسلمون من ذلك،
فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا
أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}
قال: خير من الذي لبس السلاح فيها ذلك الرجل».
وقال الطبري: حَدَّثنا ابن مثنى، حَدَّثنا عبد الأعلى، حَدَّثنا داود، عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: «نزل القرآن كلُّه جملةً واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى
السماء الدنيا، وكان الله جلَّ وعزَّ إذا أراد أن يحدِث في الأرض شيئًا أنزله منه
حتى جمعَه».
وعن الشعبي قال: «نزل أول القرآن ليلة القدر».
وعن مجاهد: «ليلة القدر ليلة الحكم».
وحدَّثَنا أبو الخطاب الجارود بن سهيل، حَدَّثنا سلم بن قتيبة، حَدَّثنا القاسم بن
الفضل، حَدَّثنا عيسى بن مازن، قال: «قلت للحسن بن علي: عمدت لهذا الرجل فبايعت
له؟ يعني معاوية، فقال: إن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُرِيَ بني أميَّة
يعلون منبرَه خليفة بعد خليفة، فشقَّ ذلك عليه، فأنزل الله سورة القدر. قال
القاسم: فحسبنا مُلْكَ بني أمية فإذا هو ألف شهر».
(1/34)
وقال
مقاتل: أنزل الله جلَّ وعزَّ القرآن العظيم من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى
السَّفَرةِ، وكان ينزل تلك الليلة من اللَّوح على قدر ما ينزل به جبريل صلى الله
عليه وسلم إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السنة كلها إلى مثلها من قَابِل،
حتى نزل القرآن العظيم في ليلة القدر من رمضان».
وفي «تفسير ابن عباس» جمع ابن أبي زياد الشامي: أنزل الله جلَّ وعزَّ صحف إبراهيم
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أول ليلة من رمضان، وأنزل التوراة لستِّ ليالٍ خلون
منه، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة خلون منه، وأنزل القرآن ليلةَ أربعة وعشرين من
رمضان».
قال ابن عباس: «لأَنْ أقوم ليلة أربع وعشرين أحبُّ إلي من أقوم الشهر كله».
قال البخاري:
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: «مَا كَانَ فِي القُرْآنِ: {مَا أَدْرَاكَ} [الانفطار:
18].فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: {وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب: 63]. فَإِنَّهُ
لَمْ يُعْلِمْهُ».
هذا التعليق ذكره ابن عيينة في «تفسيره»
الذي أخبرنا به بدر الدين الحنفي قراءةً عليه، عن صالح المُدْلَجي، عن الحافظ أبي
القاسم الدمشقي، قال: أخبرنا الإمام أبو علي الحسن ابن المظفر، أخبرنا والدي قراءة
عليه، أنبا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن فراس، أخبرنا أبو جعفر الديلي، حدثنا أبو
عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة فذكره.
وقد اختلف العلماء في ليلة القدر:
فقيل: هي أول ليلة من رمضان.
وقيل: ليلة سبع عشرة.
وقيل: ليلة ثمان عشرة.
وقيل: ليلة تسع عشرة.
وقيل: ليلة إحدى وعشرين.
وقيل: ليلة ثلاث وعشرين.
وقيل: ليلة خمس وعشرين.
وقيل: ليلة سبع وعشرين.
وقيل: ليلة تسع وعشرين.
وقيل: آخر ليلة من شهر رمضان.
وقيل: في أشفاع هذه الأفراد.
وقيل: في السنة كلها.
وقيل: في جميع شهر رمضان.
وقيل: تتحول في ليالي العشر كلها.
(1/35)
وسميت
بذلك: لعظمها، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرَوُا اللهَّ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:
91].
وقيل: سميت بذلك من المضيق، قال تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهُ رِزْقُهُ}
[الطلاق: 7]. وهي ليلة تضيق الأرض فيها عن الملائكة.
وقيل: سميت بذلك لما يقدر فيها من الأشياء.
وقيل: من لم يكن له قَدْرٌ يصير برؤيتها ذا قَدْرٍ.
وقيل: لأنه أنزل فيها كتاب له قدر، وينزل فيها رحمة ذات قدر، وملائكة ذوو قدر.
وفي «شرح الهداية»: ذهب أبو حنيفة إلى أنها في رمضان تتقدم وتتأخر، وعندهما: لا
تتقدم ولا تتأخر، لكن غير معينة، وقيل: هي عندهما في النصف الأخير من رمضان.
وعند الشافعي: في العشر الآخِر لا تنتقل، ولا يزال إلى يوم القيامة.
وقال أبو بكر الرازي: هي غير مخصوصة بشهر من الشهور، وبه قال الحنفيون.
وفي قاضي خان: المشهور عن أبي حنيفة أنها تدور في السنة كلها، وقد تكون في رمضان،
وقد تكون في غيره، وصح ذلك عن ابن مسعود.
وذهب ابن الزبير إلى أنها ليلة سبع عشرة، وأبو سعيد الخدري إلى ليلة إحدى وعشرين
وإليه ذهب الشافعي.
وعن عبد الله بن أُنَيسٍ ليلة ثلاث وعشرين.
وعن ابن عباس وغيره من الصحابة: ليلة سبع وعشرين.
قال ابن عباس: «السورة ثلاثون كلمة، فإذا وصلت إلى قوله: {هي} فهي سابعَة وعشرين
منها، وكان يقول: خلق الإنسان من سبع، ورمي الجمار سبع.
وعن بلال: ليلة أربع وعشرين.
وعن علي: ليلة تسع عشرة.
وقيل: هي في العشر الوسط، والعشر الآخر.
وقيل: في أشفاع العشر الأواخر.
وقيل: في النصف من شعبان.
وقول الشيعة: أنها رفعت، يرد عليهم قوله: «التمسوها في كذا وكذا».
(1/36)
وقال
ابن حزم: فإن كان الشهر تسعًا وعشرين فهي في أول العشر الآخر بلا شك، فهي إما في
ليلة عشرين، أو ليلة اثنين وعشرين، أو ليلة أربع وعشرين، أو ليلة ست وعشرين، أو
ليلة ثمان وعشرين، وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر بلا شك، إما ليلة إحدى
وعشرين، أو ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة خمس، أو ليلة سبع، أو ليلة تسع وعشرين في
وترها.
وعن ابن مسعود: أنها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة يوم بدر، وحكاه ابن أبي عاصم
أيضًا عن زيد بن أرقم.
وفي «مسند عبد الله بن وهب البصري» عن عبيد الله بن عمرو: «من صلَّى العشاء
الآخِرة أصاب ليلة القدر».
وفي «شرح المهذب» عن الشافعي: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بنصيبه
منها.
وحديث الباب تقدم.
بَابُ التَمِسُوْا لَيْلَةِ القَدْرِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ
2015 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِّ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ
تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا
فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ». [خ 2015]
وفي حديث عمر عند الحاكم على شرط مسلم من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس:
«إني سمعت الله تعالى يذكر السبع، فذكر سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، وخلق الإنسان
من سبع، ونبت الأرض من سبع. فقال عمر: والله إني لأرى القول كما قلت».
وعند ابن أبي عاصم: «التمسوها في العشر الأواخر».
وعن ابن عباس: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يرشُّ على أهلِهِ الماءَ ليلةَ
ثلاث وعشرين».
(1/37)
وعند
مسلم عن أبي بن كعب: «وحَلَفَ لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقيل: بأي شيء تقول
ذلك؟ فقال: بالعلامة التي أخبرنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الشمسَ
تطلع يومئذٍ لا شعاع لها».
وعن عبد الله بن أُنَيسٍ أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أُرِيتُ ليلةَ
القدرِ ثم أُنْسِيتُها، وأُرَاني صبيحتَها أسجدُ في ماءٍ وطينٍ. قال: فمُطِرْنا
ليلةَ ثلاثٍ وعشرين» الحديث.
وعن أبي هريرة قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُرِيتُ ليلةَ القدر، ثم
أيقظني بعضُ أهلي، فنسيتُها، فالتمسوها في العشرِ الأواخر».
وعند ابن أبي شيبةَ عن جابر بن سَمُرةَ بسندٍ صالح قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «الْتَمِسُوا ليلةَ القدرِ في العشر الأواخر».
زاد أحمد: «في وترٍ، فإني قد رَأيتُها فأُنْسِيتُها، وهي مطرٌ وريحٌ، أو قال: قطرٌ
وريحٌ».
وعند ابن أبي عاصمٍ من حديث جابرِ بن عبد الله قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فأُنْسِيتُها، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ
الْأَوَاخِرِ مِنْ لَيالِيهَا، وَهِيَ لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ، بَلْجَةٌ، لَا حَارَّةٌ،
وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا، لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى
يُضِيءَ فَجْرُهَا».
وعند أبي زُرْعة عبد الرحمن بن عمرو البصري الدمشقي في العاشر من حديثه قال: حدثنا
سعيد ـ يعني ابن سليمان ـ، حَدَّثنا صالح بن عمر، حَدَّثنا عاصم بن كُلَيب، عن
خاله لقمان ـ يقال: اسمه الفَلَتان ـ قال: «أتيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
فقال: إنِّي خرجت إليكم، وقد بينت لي ليلة القدر، فخرجت إليكم لأثبتها، فلقيت في
المسجد رجلين يَتَلاحَيَان معهما الشيطان، فحجزت بينهما، فاختلست مني، فنسيتها،
فالتمسوها في العشر الأواخر».
وعند النسائي عن أنس مثله وفيه: «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة»
(1/38)
وعند
ابن أبي عاصم، حَدَّثنا صاعقة، حَدَّثنا عبد الصمد بن
النعمان، حَدَّثنا خالد بن مَحْدُوج، عنه مرفوعًا: «التمسوا ليلة القدر في أول
ليلة من رمضان، أو في تسعٍ، أو في أربع عشرة، أو في إحدى وعشرين، أو في آخر ليلة»،
قال أبو بكر: ولا نعلم أحدًا قال: «أول ليلة» إلا هذا.
وعند الترمذي مصححًا عن أبي بكرةَ سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول:
«التمسوها في تسع يبقين، أو سبعٍ يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاثٍ، أو آخر ليلة»،
وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وعند البخاري عن بلال يرفعه: «هي في السبع، في العشر الأواخر».
وعند أبي نُعَيم الحافظ أنها أول السبع من العشر الأواخر.
وعند الطبراني من حديث ابن لهيعة: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين».
وعند أبي داود - بسند فيه مقال - عن ابن مسعود قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين».
وعن معاوية بن أبي سفيان يرفعه: «ليلة القدر ليلة سبع وعشرين».
وعند الحاكم على شرط مسلم عن أبي ذرٍّ: «سألتُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن
ليلة القدر: أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال: بل هي في رمضان. قلت: تكون مع الأنبياء
ما كانوا، فإذا قبضوا رفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة.
قلت: يا رسول الله! في أي رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأول والعشر الأواخر.
قال: ثم حدَّث رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاهتبلت غفلته فقلت: في أي
العَشرَيْن؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها. ثم حدَّث،
قال: فاهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله! أقسمت عليك لتخبرني في أي العشر هي؟ قال:
فغضب عليَّ غضبًا ما غضب عليَّ قبله ولا بعده مثله، وقال: إن الله لو شاء لأطلعكم
عليها، التمسوها في السبع الأواخر».
(1/39)
وعند
أبي عبد الرحمن النسائي عن النعمان بن بشير قال: «قمنا مع رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة
خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة تسع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك
الفلاح».
زاد أحمد: «فأما نحن فنقول: ليلة السابعة ليلة سبع وعشرين، وأنتم تقولون: ليلة
ثلاث وعشرين السابعة، فمن أصوب نحن أو أنتم؟».
أخبرنا غير واحد من أشياخنا، عن الفقيه بهاء الدين المصري، عن الحافظ الثَّغْري،
قال: أخبرنا أبو الخطاب, حدثنا ابن بِشْران، أخبرنا أبو الحسين بن الحباب، حَدَّثنا
الصَّفَّار، حَدَّثنا سويد، حَدَّثنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي، عن أبي إسحاق،
عن هُبيرة بن يَريم، عن علي بن أبي طالب، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«من كان ملتمسًا ـ يعني ليلة القدر ـ فليلتمسها في العشر الأواخر من رمضان، فإن
عجزتم، فلا تُغْلَبُوا في السبع الأواخر».
وعند ابن أبي عاصم: «كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دخل العشرُ أيقظ أهله ورفع
المئزر، يعني اعتزل النساء».
وعند ابن أبي عاصم - بسند صالح - عن معاذ بن جبل: «سئل رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم عن ليلة القدر فقال: في العشر الأواخر, في الخامسة أو السابعة».
وعن أبي الدرداء - بسند فيه ضعف - قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرق فيها كل أمر
حكيم، وفيها أنزلت التوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن العظيم، وفيها غرسَ
الله الجنةَ، وجبَلَ طينةَ آدم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
وحديث [2016] أبي سعيد تقدم.
قال ابن بطال: قوله: (مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ
الأَوَاخِرِ) يريد ذلك العام الذي تواطأت فيه الرؤيا على ذلك، وهى ليلة ثلاث
وعشرين.
(1/40)
قال الطحاوي:
وفي القرآن ما يدلُّ أنها في رمضان خاصَّة خلاف ما يقوله ابن مسعود، قال تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ. إِنَّا كُنَّا مُنْزِلِيْنَ.
فِيْهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيْمٍ} [الدخان: 3]. فأخبر سبحانه بأن الليلة
التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن، قال
تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} [البقرة: 185]. فثبت
بذلك أن تلك الليلة في شهر رمضان.
قال ابن التين: قول أبي سعيد في حديثه:
(فَخَرَجَ صَبِيْحَةَ عِشْرِيْنَ) وجهه أنه أخرج قبته، أو خرج هو من موضع إلى آخر،
وأما هو فليس بوقت خروج من الاعتكاف، ولا يخرج من اعتكف وسط الشهر إلا بعد مغيب
الشمس من ليلة إحدى وعشرين. انتهى.
في حديث أبي سعيد بيان ما استبعده وهو:
2018 - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ
العَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ
عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى
مَسْكَنِهِ». [خ 2018]
وعند مسلم: «اعتكف في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده فنحَّاها في
ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: إني اعتكفت العشر الأول
ألتمسُ هذه الليلة، ثم اعتكفتُ العشر الأوسط، ثم أُتِيتُ فقيل لي: إنها في العشر
الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه».
وفي لفظ: «فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا» الحديث.
وعند مالك في حديث أبي سعيد خلافُ ما في البخاري، وهو الذي اعتمده ابن التين:
«حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي
يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ».
(1/41)
قال
أبو عمر: والوجه في ذلك عندي أنه أراد أنه خطبهم غداةَ عشرين ليعرِّفهم أنه اليوم
الآخر من أيام اعتكافه، وأنَّ الليلة التي تلي تلك الصبيحةَ هي ليلة إحدى وعشرين
هي المطلوب فيها ليلة القدر.
وقال المهلب: ليس بين الروايتين تعارض؛ لأن يوم عشرين معتكف فيه، وبه تتم العشرة
الأيام؛ لأنه دخل في أول الليل فيخرج في أوله، فيكون معنى قوله: «في ليلة إحدى
وعشرين وهي التي يخرج من صبيحتها» يريد الصبيحة التي قبل ليلة إحدى وعشرين،
وإضافتها إلى الليلة كما تضاف أيضًا الصبيحة التي بعدها إلى الليلة، وكلُّ متَّصل
بشيء فهو مضاف إليه؛ سواء كان قبله أو بعده، وإن كانت العادة في نسبة الصبيحة إلى
الليلة التي قبلها لتقدُّم الليل على النهار فإنَّ نسبة الشيء إلى ما بعده جائز.
وقوله في حديث عائشة: (تَحَرَّوْا) أي احرصوا في طلبها واجتهدوا فيه.
قال الطبري: في دلالته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ليلة القدر بالآيات دليل واضح
على كَذِبِ من زعم أنها تظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة من
سقوط الأشجار إلى الأرض، ثم رجوعها قائمة إلى أماكنها؛ إذ لو كان ذلك حقًا لم
يَخْفَ على بصرِ من يقوم ليالي السنة كلها، فكيف بليالي رمضان.
إثر حديث:
2021 - ابْنِ عَبَّاسٍ: «التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ». قَالَ عَبْدُ
الوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْهُ: «التَمِسُوهَا
فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ». [خ 2021]
خرَّجه البيهقي في «سننه» من طريق إسحاق بن الحسن، عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل
عنه.
وقوله: (شَدَّ مِئْزَرَهُ) المئزر والإزار: ما يأتزر الرجل به من أسفله، وهو
يُذكَّرُ ويؤنَّث، وهو هنا كناية عن الجِدِّ والتشمير في العبادة.
وقيل: كناية عن ترك النساء.
وعن الثوري: هذا من ألطف الكنايات عن اعتزال النساء.
قال القرطبي: وقد ذهب بعض أئمتنا إلى أنه عبارة عن الاعتكاف.
(1/42)
قال:
وفيه بعد لقوله: (أَيْقَظَ أَهْلَهُ)، وهذا يدل على أنه كان معهم في البيت، وهو
كان في حال اعتكافه في المسجد، وما كان يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، على أنه يصح
أن يوقظهنَّ من موضعه من باب الخوخة التي كانت له إلى بيته في المسجد. انتهى.
يحتمل أيضًا أن يكون قوله: (يُوْقِظُ أَهْلَهُ) أي المعتكفةَ معه في المسجد، أو
يحتمل أن يوقظهنَّ إذا دخل البيت لحاجته.
وقوله: (وَأَحْيَا لَيْلَهُ) يعني باجتهاده في العشر الآخر من رمضان؛ لاحتمال أن
يكون الشهر إما ناقصًا وإما تامًّا، فإذا أحيا ليالِيَ العشر كلها لم يفته منها
شفعٌ ولا وترٌ.
وقيل: لأن العشر آخر العمل فينبغي أن يحرص على تجويد الخاتمة.
بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ
وَالِاعْتِكَافِ فِي المَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ
وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِّ فَلاَ تَقْرَبُوهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة:
187].
قال الأزهري: قال المفسرون وغيرهم من أهل اللغة: {عَاكِفُونَ}: مقيمون في المساجد،
يقال: عكَف يعكُف ويعكِف؛ إذا أَقَامَ، ومنه قوله: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ
لَّهُمْ} [الأعراف: 138]؛ أي يقيمون، قال الفراء: يقال: عَكفتُه أعكُفُه عكفًا،
إذا حبسته، وَقد عكَّفْت القوم عن كذا، أي حبستهم، ويقال: إنك لتعكفني عن حاجتي،
أَي تصرفني عنها.
قال الأزهري: يقال: عكفتُه عكفًا، فعكف يعكف عكوفًا، وهو لازم وواقع، كما يقال:
رجعته فرجع، إلا أن مصدر اللازم العكوف، ومصدر الواقع العَكْف.
وعن الليث: عَكْفًا وعكوفًا، وهو إقبالك على الشيء لا ترفع عنه وجهَك.
والاعتكاف في المسجد: الإقامة فيه، وأن لا يبرح منه إلا لحاجة الإنسان، وقوم
عُكوف: مقيمون.
(1/43)
في
«الموعب»: أصوب ما يكون العَكْف إذا كان من جماعة، والعاكف: المعتكف، وقلَّ ما
يقولون: عكف، ولو قيل لكان صوابًا.
وفي «أمالي» أبي الحسن الأخفش: يعكفن: يقمن معي، ويقال: يطفن بي.
وفي «المحكم»: قوم عكف وعكوف.
وعن الشافعي: والاعتكاف لزوم المرء الشيءَ وحبسُ نفسِه عليه، بِرًّا كان أو إثمًا،
دليله قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}
[الأعراف: 138].
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضًا إلا أن
يوجبه المرء على نفسه نذرًا، فيجب عليه.
قال ابن قدامة: إن نوى اعتكافَ مدة لم يلزمه، فإن شرع فيها فله إتمامها وله الخروج
منها متى شاء، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: يلزمه بالنية مع الدخول فيه، فإن
قطعه لزمه قضاؤه.
قال ابن عبد البر: لا يختلف في ذلك الفقهاء، ويلزمه القضاء عند جميع العلماء.
قال: وإن لم يدخل فيه فالقضاء يستحب، ومن العلماء من أوجبه إن لم يدخل فيه، واحتج
بحديث عائشة: «كان يعتكف العشر الأواخر» الحديث، وفيه: «فإني معتكفه، فلما أفطر
اعتكف عشرين شوال».
قال ابن قدامة: لم يصنع أبو عمر شيئًا، وليس هذا بإجماع، ولا يعرف هذا القول عن
أحد سواه، وقد قال الشافعي: كل عمل لك أن لا تدخل فيه، فإذا دخلت فيه فخرجت منه
فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة.
وفي «شرح الهداية»: الاعتكاف سنة مؤكدة.
وفي «المبسوط»: قربة مشروعة.
وقال ابن العربي في «العارضة»: هو سنة، وقول أصحابنا: جائزٌ جهل منهم.
ونص الشافعيون والحنابلة على كونه سنة، ولم يقل أحد بوجوبه، وثبت أن رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتكف العشر الأول، والأوسط، والآخر، والعشرين من شوال،
يلتمس في ذلك كله ليلة القدر إلى أن استقر الأمر عنده أنها في العشر الأواخر.
(1/44)
وعن
أنس: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم
يعتكف عامًا، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين».
قال الترمذي: لما قطع اعتكافه من أجل أزواجه قضاه على مذهب من يرى قضاء التطوع إذا
قطعه.
قال ابن العربي: ليس في الحديث أنه شرع فيها، وإنما صلى الفجر فلما أراد أن يدخل
المعتَكَفَ جرى ما جرى ولم يدخل المعتَكَفَ ولا شرع فيه، فلم يلزمه قضاؤه على قول
أحد.
والاعتكاف: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف، أما اللبث في المسجد
فركنه، وخصُّ بالمسجد بالإجماع، ولم يخالف فيه أحد إلا ابن لبانة المالكي فجوزه في
غير المسجد من غير صوم للرجال والنساء، وهو شاذ، والصوم من شرطه.
وقيل: إنه مذهب علي، وعائشة، وابن عمر، والشعبي، وعروة، ومجاهد، والقاسم بن محمد،
وابن المسيب، ونافع، والزهري، والأوزاعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك،
والثوري، والليث، والحسن بن حي، والشافعي في القديم، وقول لأحمد بن حنبل.
وروي عن علي أيضًا، وابن مسعود، وطاووس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري،
والشافعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق: الصوم ليس بشرط في الواجب والنفل.
ورواية عطاء ومقسم وأبي فاخِتة عن ابن عباس شرط الصوم.
استدلوا بما رواه الدارقطني عن ابن عباس: «ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على
نفسه».
قال أبو الحسن: رفعه أبو بكر محمد بن إسحاق السُّوسي، وغيره لا يرفعه.
وبما رواه ابن عمر عند الأئمة الستة: «أن عمر سأل رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فقال: كنتُ نذرتُ أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال: أوف
بنذرك»، قالوا: والليلة لا تقبل الصوم بالإجماع، والصوم عبادة أصل بنفسه فلا يكون
شرطًا لغيره كالصلاة والزكاة والحج.
قالوا: وصوم رمضان لا يجوز لأحد أن ينوي به رمضان وغيره معًا لا واجبًا ولا غير
واجب، ومعلوم أن اعتكاف سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في رمضان.
(1/45)
وقال
ابن شهاب: اجتمعت أنا وأبو سهيل بن مالك عند عمر بن عبد العزيز، فقلت: «لا يكون
اعتكاف بغير صوم، فقال عمر: أَمْر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقلت: لا، قال:
أَمْر أبي بكر؟ قلت: لا، قال: أَمْر عمر؟ قلت: لا، قال: عثمان؟ قلت: لا، قال: فلا
إذًا».
وبما روي أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتكف في العشر الأول من شوال.
وأما الذين اشترطوا الصوم فذهبوا إلى ما قالت عائشة أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قال: «لا اعتكاف إلا بصوم»، رواه البيهقي من جهة مؤمِّل بن عبد العزيز
الدمشقي، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة عنها، وقال: هذا وَهَمٌ من سفيان
أومن مؤمل.
ورواه الدارقطني من حديث سويد بن عبد العزيز عن سفيان، وهو عند أبي داود عنها:
«السُّنَّةُ في المعتكف أن لا يعود مريضًا»، وفيه: «ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا
اعتكاف إلا في مسجد جامع».
وقال: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه قائل: «قالت: السُّنَّةُ».
وابن إسحاق هذا: هو القرشي المدني، عرف بعَبَّاد، وثقه ابن معين وغيرُه، وروى
حديثَه مسلم في «صحيحه»، ولما ذكر الدارقطني حديث القاسم بن معن، عن ابن جريج، عن
ابن شهاب عن سعيد وعروة عن عائشة قالت، فقال: إن قوله: «وإن السنة للمعتكف» الخ
ليس من قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إنما هو من قول ابن شهاب، ومن أدرجه في
الحديث فقد وهم.
وقال البيهقي: منهم من زعم أنه من قول عائشة، ومنهم من زعم أنه من قول ابن شهاب،
ويشبه أن يكون من قول مَنْ دُونَ عائشة، فقد روى الثوري عن هشام بن عروة قال:
«المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضًا، ولا اعتكاف إلا بصيام».
ورواه ابن أبي عَروبة عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت: «لا اعتكاف إلا بصوم»
فالله أعلم.
وروينا عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «المعتكف يصوم».
(1/46)
وعند
أبي داود أيضًا: «أن عمر لما سأل عن اعتكافه كان في الجاهلية قال له النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يوم الجِعْرانة يعني سنة ثمان: اعتكِفْ وصُمْ».
في إسناده عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار، وقال الدارقطني: سمعت أبا بكر
النيسابوري يقول: هذا الحديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو لم يذكروه؛ يعني الصوم،
منهم ابن جريج، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وابن زيد.
وقال البيهقي: هذا منكر، قد أنكره حفاظ الحديث لمخالفته أهل الثقة والحفظ في
رواية، وخرجه الشيخان من غير قوله: «وصم».
قال القرطبي: تفرَّدَ به ابن بُدَيلٍ عن عمرو، وخرَّجه الحاكم في «المستدرك» وقال:
لفقهاء أهل الكوفة في ضدِّ حديث ابن عباس يرفعه: «ليس على المعتكف صيام»، القائل
فيه: صحيح على شرط مسلم، حديثان: الأول: فذكر حديث عائشة ثم حديث عمر هذا، وقال:
لم يحتجَّ الشيخان بسفيان ولا بابن بُدَيل.
ولما ذكر أبو أحمد حديث ابن بديل قال: لا أعلم ذكرَ الصوم في الاعتكاف في هذا
الحديث إلا هو، ولا له غيرُ ما ذكرتُ مما ينكر عليه الزيادة في إسناده أو متنه ولم
أر للمتقدمين فيه كلامًا فأذكره. انتهى.
قال يحيى بن معين: هو صالح، وذكره ابن شاهين وابن حبان وابن خُلْفون في كتاب
«الثقات»، صحَّحَ حديثه هذا ابن العربي، وقد وجدنا لابن بديل متابعًا بخلاف ما
قاله أبو أحمد، وهو ما رواه الدارقطني بسند حسن من حديث سعيد بن بشير.
قال الإشبيلي: وتفرَّد به عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: «أن عمر نذر أن
يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أوفِ بنذرك».
وقال الشافعي: رأيتُ عامةً من الفقهاء يقولون: لا اعتكاف إلا بصوم، ذكره البيهقي.
(1/47)
وذكر
مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ونافع مولى ابن عمر أنهما قالا: «لا اعتكاف إلا
بصوم لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام.
وقال ابن القصار: إن الله تعالى لما ذكر الوطء في أول الآية الكريمة، وعلَّقَ
ذكرَه في الصوم بالنهار عطف عليه حكم الاعتكاف، وذكر خطر الوطء معه لأنه قد يصح في
وقت لا يصح فيه الصوم، وهو زمن الليل، ولو وطئ ليلًا يفسد اعتكافه، فهذا فائدة
ذكره الوطء بعد تقدُّمِ ذكره.
وقال عياض: لم يأت عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه اعتكف بغير صوم، ولو
كان جائزًا لفعله تعليمًا للجواز، وهو عمل أهل المدينة.
قالوا: ويجاب عن حديث ابن عباس بأمور، منها:
أن السُّوسي تفرَّد به ولم يحتجَّ به أهل الصحيح، فلا يعارض حديثَ عبد الرحمن بن
إسحاق المحتج به في الصحيح.
الثاني: أسلفنا عن ابن عباس اشتراط الصوم، والراوي إذا عمل بخلاف روايته قدح ذلك
في روايته على قاعدة الحنفية.
الثالث: القول بموجب الحديث، وهو أن الهاء عائدة على الاعتكاف دون الصوم؛ لأنه
أكثر فائدة، ولأن وجوب المنذور بالنذر معلوم، والخفاء في وجوب غير المنذور بالنذر،
فكان حمله على الأكثر فائدة، أو يحتمله فيحمل عليه توفيقًا بين الحديثين.
الرابع: نقول إنه محمول على الحصر والندب، وحديث عمر محمول على أنه كان نذر يومًا
وليلة، وهو في مسلم.
قال ابن بطال: كان الصوم كان في أول الإسلام بالليل، ولعل ذلك كان قبل نسخه.
انتهى.
وفيه نظر، لأنَّا قد أسلفنا أن صوم الليل كان أولَ الإسلام، وحديثُ عمر في السنة
الثانية.
(1/48)
وأنكر
النووي على صاحب «لمهذب» استدلاله بحديث عمر، وقال: هو نذر في الجاهلية، وقد تقرر
أن النذر في الجاهلية لا ينعقد على الصحيح، فلم يكن ذلك شيئًا واجبًا عليه.
قال ابن بطال: وهذا محمول على الحصر والندب لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله.
قال المهلب: كلُّ ما كان في الجاهلية من يمين وطلاق وشبههما فإنَّ الإسلام يهدمه،
ويكون الأمر بذلك أمرَ استحباب كيلا يكون خُلْفًا في الوعد.
وذهب البخاري إلى وجوب الوفاء به، ولهذا بوب في كتاب النذر: «بَابُ إِذَا نَذَرَ
وْ حَلَفَ أَلا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمَ» فقاس اليمين
على النذر، وهو قول
الشافعي وأبي ثور والطبري.
وزعم ابن الجوزي أن معنى قوله: (فِي الجَاهِلِيَّةِ) أي: ونحن بمكة قبل فتحها
وأهلها جاهلية، فعلى هذا لا يكون ناذرًا في الكفر، وبنحوه قاله الأصيلي، قال: يعني
في زمن الجاهلية بعد أنه أسلم عمر بن الخطاب. انتهى كلامهما.
وفيه نظر، لما ذكره ابنُ أبي عاصم في كتاب «الصيام»: حَدَّثنا أبو بكر بن أبي
شيبة، حَدَّثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال:
«نذرتُ أن أعتكف في الجاهلية، فلمَّا أسلمت سألتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
فقال: أوفِ بنذرك».
قال القرطبي: والصحيحُ اشتراط الصوم؛ لأنَّ حديث عائشة ـ إن صحَّ ـ فهو نص، وإن لم
يصحَّ فالأصل في العبادات والقرب أنها تفعل على نحو ما قرَّرها الشارع أو فعلها،
وقد تقرر مشروعية الاعتكاف مع الصوم في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يعتكف إلا
صائمًا، فمن ادَّعى جوازَه بغير صومٍ دُفِعَ إلى إقامة دليل على ذلك. انتهى.
(1/49)
قد
أسلفنا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتكفَ العشرَ الأوَّل من شوال، كذا عند
البيهقي، وفيه ما لا يصلح فيه صوم، ولما ذكره الإسماعيلي في «صحيحه» قال: فيه دليل
على جواز الاعتكاف بغير صوم.
لكن يخدش في هذا ما في البخاري: «اعتكف في آخر العشر من شوال».
وعند الإسماعيلي أيضًا: «حتى إذا أفطر اعتكف في شوال».
وعند أبي نعيم: «فلم يعتكف في رمضان إلا في العشرِ الأواخرِ من شوال».
وعند الطحاوي: ترك الاعتكاف حتى أفطر من رمضان ثم إنه اعتكف في عشر من شوال.
وعن أبي حنيفة: لا يصح إلا في مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس، وإليه ذهب الشافعي
ومالك وأحمد وداود والجمهور.
قال أبو حنيفة: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها بخلاف الرجل، وهو قول قديم
للشافعي، وجوَّزه بعض المالكية والشافعية للمرأة والرجل في مسجد بيتها.
ثم اختلف المشترطون للمسجد العام:
فقال الشافعي ومالك: يصح في كل مسجد.
وقال أحمد: يختص بمسجد يقام فيه الجماعة الراتبة.
وقال أبو حنيفة: يختص بمسجد تُصلَّى فيه الصلوات كلها.
وقال الزهري وآخرون: يختص بالجامع الذي يقام فيه الجمعة.
ونقلوا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه اختصاصه بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام
ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس. انتهى.
في كتاب «الصوم» لابن أبي عاصم: حَدَّثنا أبو موسى، حَدَّثنا أبو داود، حَدَّثنا
عمران، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن حذيفة قال: «لا اعتكافَ إلا في مسجد النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
قال: وعن ابن المسيب: «لا اعتكاف إلا في مسجد نبي».
وعن الحارث عن علي: «لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة».
وعن أبي يوسف: الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والنفل يجوز
أداؤه في غيرِ مسجد الجماعة.
والمرأة تعتكف في مسجد بيتها عند أبي حنيفة، وبه قال النخعي والثوري وابن عُليَّة.
(1/50)
ويصح
في سطح المسجد ورحبته، وله قراءة القرآن والحديث والعلم، وأمور الدين وسماع العلم
خلافًا لمالك، ذكر ابن العربي عن ابن القاسم أنه لا يجوز للمعتكف عيادة المريض ولا
مدارسة العلم ولا الصلاة على الجنائز خلافًا لابن وهب.
ولا بأس بأن يبيعَ ويبتاعَ في المسجدِ من غير حضور السلع، ويتزوج ويراجع ويتطيَّب
ويتردد في نواحي المسجد، وتكره الخياطة والخرز.
قال الشافعي في «الأم»: لا بأس بأن يقصَّ في المسجد؛ لأنَّ القَصَصَ وعظ وتذكير.
وفي «شرح الهداية»: يكره التعليم في المسجد بأجر، وكذا كتابة المصحف بأجر.
وقيل: إن كان الخياط يحفظ المسجد فلا بأس بأن يخيط فيه.
ويكره على سطحه ما يكره فيه بخلاف بيت في المسجد.
وأقل الاعتكاف عن مالك في رواية ابن القاسم عشرةُ أيام، وروي عنه: أقلُّه يوم
وليلة، وإن نذَرَ دونَ عشرة أيام لزمه.
قال النووي: ويصحُّ اعتكاف ساعة واحدة، وضابطه عند أصحابنا مُكْثٌ يزيد على
طمأنينة الركوع أدنى زيادة، هذا هو الصحيح، وفيه خلاف شاذٌّ في المذهب، ولنا وجه
أنه يصح اعتكاف المار في المسجد من غير لبث، والمشهور الأول.
وفي كتاب «الصيام» لابن أبي عاصم: «يُروَى عن يعلى بنِ أميَّة أنه اعتكف ساعةً من
نهار».
وحديث:
2033 - عَائِشَةَ: «كَانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعْتَكِفُ العَشْرَ
الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ». [خ 2033]
خرجه الستة.
وقوله: (آلْبِرَّ تُرَوْنَ) قال القرطبي: هو بهمزة الاستفهام، ومَدَّه على وجه
الإنكار، ونصب (الْبِرَّ) على أنه مفعول (تُرَوْنَ) مقدَّمًا.
وعن الخطابي في قوله: (آلْبِرَّ يَقُوْلُوْنَ بِهِنَّ) يريد: البرَّ تظنون بهنَّ
في صنيعهنَّ هذا.
قال الشاعر:
قال متى تقول القُلص الرواسما يلحقن أم عاصم وعاصما
قال: أي متى تظني.
(1/51)
وقال
الفرَّاء: والعرب تجعل ما بعد القولِ مرفوعًا على الحكاية، فتقول: عبد الله ذاهبٌ،
وقلت: إنك قائم. هذا في جميع القول إلا في القول وحدَها في حروف الاستفهام، وأنشد:
أما الرحيل فدون بعد غدٍ فمتى تقول الدارَ تجمعنا
بنصب «الدار» كأنه يقول: فمتى تظن الدارَ تجمعنا.
وأضاف سيبويه الرفع في قوله: «الدار تجمعنا» على الحكاية.
وقولها: (فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ) احتج به من يقول: يبدأ بالاعتكاف
من أول النهار، وبه قال الأوزاعي، والثوري، والليث في أحد قوليه.
وذهبت الأئمة الأربعة إلى جواز دخوله قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو
اعتكاف عشر، وتأولوا أنه دخل المعتَكَفَ وانقطع فيه وتخلَّى بنفسه بعد صلاة الصبح؛
لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف؛ بل كان من قبل المغرب مُعتكفًا لابثًا في المسجد،
فلما صلَّى الصبح انفرد.
قال القرطبي: وهل يبيتُ ليلةَ الفطر في معتكفه ولا يخرج منه إلا إذا خرَج لصلاة
العيد فيصلي، وحينئذ يخرج إلى منزله؟ أو يجوز له أن يخرج عند غروب الشمس من آخر
يوم من شهر رمضان؟ قولان للعلماء:
الأول: قول مالك وأحمد وغيرهما، واختلف أصحاب مالك إذا لم يفعل هل يبطل اعتكافه أم
لا يبطل؟ قولان.
وذهب الشافعي والليث والزهري والأوزاعي في آخرين إلى أنه يجوز خروجُه ليلة الفطر،
ولا يلزمه شيء.
وقولها في حديث صفية:
2035 - «قَامَتْ لِتَنْقَلِبُ». [خ 2035]
أي تنصرف إلى منزلها، يقال: قلبه يقلبه وانقلب هو إذا انصرف.
قال ابن التين: في رواية سفيان عند البخاري [2039]: (فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ
الأَنْصَارِ) لعله وَهَم؛ لأنَّ أكثرَ الروايات: «فأبصرَه رجلان».
قال القرطبي: يحتمل أن يكون هذا مرتين، أو يحتمل أن يكون صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر، فيصحُّ على هذا نسبة القصةِ إليهما جميعًا
وأفرادًا.
(1/52)
وقولها:
(فَسَلَّمَا) فيه جواز التسليم على رجل معه امرأةٌ بخلاف ما يقوله بعض الأغبياء.
وقوله: (عَلَىْ رِسْلِكُمَا) أي: على هينتكما، قال ابن فارس: الرَّسْل السَّير
السهل، وضبطه بالفتح، وهذه اللفظة بكسر الراء وبالفتح، قيل: بمعنى التؤدة وترك
العجلة، وقيل: بالكسر التؤدة، وبالفتح اللين والرفق، والمعنى متقارب.
وفي رواية أخرى: «تعاليا»، قال النووي: معناه قفا، ولم يُرد المجيء إليه، قال
تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:
64]. قال ابن التين: فأخرجه عن معناه وهو هلما بغير دليل واضح.
وقال ابن قتيبة: تعالى تفاعل من علوت، قال الفراء: أصلها عال البناء، وهو من
العلو، ثم إن العربَ لكثرة استعماله إياها صارت عندهم بمنزلة هلمَّ، حتى استجازوا
أن يقولوا لرجل وهو فوق شرف: تعال، أي اهبط، وإنما أصلها الصعود.
وقوله: (إِنِّيْ خَشِيْتُ أَنْ يُلْقِيَ الشَّيْطَانُ فِيْ قُلُوْبِكُمَا شَيْئًا)
وفي رواية: «شرًا»، يريد بذلك شفقته على أمته، وصيانة قلوبهم، فإنَّ ظنَّ السوء
بالأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- كفر بالإجماع، ولهذا إن البزَّار لما ذكر
حديث صفية هذا قال: هذه أحاديث مناكير؛ لأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان
أطهر وأجل من أن يرى أن أحدًا يظن به ذلك، ولا يَظنُّ برسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم ظنَّ السوء إلا كافرٌ أو منافق.
فقيل له: لو كان حقًا كما قلت لما احتاج أن يقول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك
شيئًا؛ لأن الكفر بالله أعظم من ذلك، وإن كان منافقًا فحاله حال الكافر، وإن كان
مسلمًا فمثل هذا الظنِّ بالنبي يخرجه من الإسلام، فهذه الأخبار عندنا ليست بثابتة.
فإن قال قائل: هذه الأخبار قد رواها قوم ثقات، ونقلها أهل العلم بالأخبار؟
(1/53)
قيل
له: العلة التي بيَّناها لا خفاء بها، ويجب على كلِّ مسلم القول بها، والذبُّ عن
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كان الرَّاوون لها ثقات، فلا يَعرونَ من
الخطأ والنسيان والغلط.
ولما ذكر أبو الشيخ هذا الحديث بوَّب له: ذِكْرُ خبرٍ روي عن رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم أنه رُئِيَ مع إحدى نسائه فمرَّ به رجل فقال: هذه زوجتي، وأن
ذلك غير محفوظ.
وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوءِ الظن وطلب السلامة، والاعتذار بالأعذار
الصحيحة تعليمًا للأمة.
وقوله: (يَجْرِيْ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الْدَّمِ) قيل: هو على ظاهره، وأن الله
جلَّ وعزَّ جعل له قوَّةً على ذلك.
وقيل: هو على الاستعارة لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا
يفارقه دمه.
وقيل: إنه يُلقِي وسوستَه في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب.
وزعم ابن خالويه في كتاب «ليس»: أن الشيطان ليس له تسلط على الناصية، وعلى أن يأتي
العبد من فوقه، قال الله جلَّ وعزَّ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}
[الأعراف: 71]. ولم يقل: من فوقهم؛ لأن رحمة الله تعالى تنزل من فوق.
واستدل الطحاوي بشغله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
بصفية على جواز اشتغال المعتكِفِ بالمباح من الأفعال، وإذا خرج المعتكف لحاجةٍ
قنَّع رأسَه حتى يرجع، رويناه في كتاب ابن أبي عاصم، حَدَّثنا محمد بن إِشْكاب،
حَدَّثنا يونس بن محمد، حَدَّثنا الهيَّاج بن بِسْطام، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن
عبد الخالق، عن أنس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المعتكف يعود المريضَ
ويتبع الجنازةَ، وإذا خرج لحاجته قنَّع رأسه».
قال ابن العربي: ولا يتعدَّى في خروجِهِ أقربَ المواضعِ إليه، فإن تعدَّى أقربَ
المواضع إليه ابتدأَ اعتكافه من ذي قبل، كذا قال مالك.
(1/54)
ولا
يجوز له أن يقف لأداء شهادة إلا ماشيًا، فإن وقف ابتدأ، ولا يعزي أحدًا، ولا يصلي
على جنازة إلا في المسجد، ولا يخيط ثوبَه إلا الشيء الخفيف.
قال ابن العربي: واجتمع العلماء على أن من وَطِئ زوجته في اعتكافه عامدًا في ليل
أو نهار فسد اعتكافه، وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: كانوا يجامعون وهم
معتكفون حتى نزلت: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
وعن ابن عباس: «كانوا إذا اعتكفوا فخرج أحدهم إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل
ورجع إلى اعتكافه فنزلت الآية».
واختلفوا فيما دونه من القُبلة واللمس والمباشرة، فقال مالك: من فعل من ذلك شيئًا
ليلًا أو نهارًا فسد اعتكافه، أنزل أو لم ينزل.
واختلف في المعتكفة معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من هي؟ ففي رواية: «سودة».
وفي «الموطأ»: أن زينب بنت جحش استحيضت وكانت تحت ابن عوف، قال المنذري: هذا وهم
من وجهين:
الأول: أنها لم تكن تحت عبد الرحمن بن عوف؛ إنما كانت تحت زيد بن حارثة.
الثاني: أنها لم تستحض قط، إنما استحيض أختاها حمنة وأم حبيبة، وذكر بعضهم أن بنات
جحش الثلاثة اسمهن زينب وأنهن استحضن كلهن، واستبعده بعضهم.
وقال ابن الجوزي: ما نعلم في زوجاته مستحاضة، وكأن عائشة أرادت بقولها: «من نسائه»
أي من النساء المتعلقات به بسبب صَهارة وشبهها. انتهى.
يرد هذا ما تقدم في الطهارة أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت معه.
قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء في جواز اعتكاف المستحاضة، فإن حاضت، فعن
الزهري وربيعة ومالك والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي: تخرج إلى دارها، فإذا طهرت
فلترجع ثم لتبن على ما مضى من اعتكافها، وعن أبي قِلابة: تضرب خباءها على باب
المسجد ما دامت حائضًا.
وقولها: «فَتَضَعُ الْطَّسْتَ تَحْتَهَا» وذلك لا يكون إلا في حال قيامها، وذكرته
عائشة ليستن به، فإن أرادت البول في المسجد في طست لم يصح لها ذلك.
(1/55)
قال ابن قدامة: وكذلك الفصد والحجامة، فإن دعت الحاجة خرج من المسجد، وعن ابن عَقيل: يجوز الفصد في طست كالمستحاضة، قال ابن قدامة: والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد.
(1/56)
كِتَابُ
الجُمُعَةِ
(بَابُ فَرْضِ الجُمُعَةِ) لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ
مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ،
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] ذكر الإسناد أبو
القاسم الحسين بن محمد بن حبيب في كتاب «ترتيب التنزيل»: أن سورة الجمعة من أواخر
ما نزل بالمدينة وأنه لم ينزل بعدها إلا التغابن والفتح والتوبة والمائدة، وروينا
عن يحيى بن زياد الفَرَّاء في كتاب «معاني القرآن العظيم» أنه قال: خَفَّفَ
الجمعةَ الأعمشُ، وثَقَّلَها عاصمٌ وأهل الحجاز، وفيها لغة يوم الجَمْعة وهي لغة
بني عُقَيْل لو قُرِئَ بهما لكان صوابًا. ورُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: إنما
سُمِّي يوم الجمعة، لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وفي «المعاني» للزَّجَّاج: قُرِئَتِ الجُمِعَة بكسر الميم ويجوز في اللغة الجمَعة
بفتح الميم ولا ينبغي أن يقرأ بها إلا أن تثبت بها روايةٌ من إمام من القراء. وذكر
الأزهري في «التهذيب»: الأصل فيها التخفيف، فمن ثَقَّل أتبع الضمة الضمةَ، ومن خفف
فعلى الأصل، والقراء قرؤوها بالتثقيل، وفي «الْمُوعِبِ» لابن التَّيَّانيِّ من
قال: جُمْعَة فأسكن قال: جُمَعٌ، ومن قال: جُمُعَة قال: جُمُعات، وفي «الأمالي»
لثعلب: إنما سمي يوم الجمعة، لأن قريشًا كانت تجتمع إلى قصي في دار الندوة، وفي
«الأنساب» للزبير بن بكار كانت تسمى العروبة، وإن كعب بن لؤي كانوا يجتمعون إليه
فيخطبهم ويعلمهم بخروج سيدنا سيد المخلوقين صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأنه من
ولده، قال: فسميت الجمعة بذلك. وفي «نوادر» اللِّحْياني: كان أبو زياد وأبو الجراح
يقولان: مضت الجمعة بما فيها فيوحدان ويذكران، وعند الطبري سمي بذلك لاجتماع آدم
فيه مع حواء في الأرض.
(1/1)
وعند ابن خزيمة عن سلمان مرفوعًا: «يَا سَلْمَانُ مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: بِهِ جُمِعَ أَبُوكَ أَوْ أَبُوكُمْ» الحديثَ. وفي «البلدان» لهشام بن محمد الكلبي: سُمِّيَتْ جُمُعَةً، لأن خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جُمِعَ فيها. وفي «سنن الدَّارَقُطْني» بسند ضعيف: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُجْمِعَ». ورواه أبو عروبة في «الأوائل» بسند صحيح عن سلمان بن موسى مرسلًا، وفي كتاب الداودي يسمى يوم الجمعة يوم القيامة، لأن القيامة تقوم فيه الناس. وقال ابن حزم: هو اسم إسلامي ولم يكن في الجاهلية، إنما كان يسمى في الجاهلية العروبة فسمي في الإسلام الجمعة، لأنه يجتمع فيه للصلاة اسمًا مأخوذًا من الجمع. انتهى. وفيه نظرٌ لما أسلفناه وكأنه رأى ما في تفسير عبد الرحمن بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة، وذلك أن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وكذا للنصارى فَهَلُمَّ فلنجعل يومًا نجتمع فيه ونذكر الله تعالى ونصلي ونشكره فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فأجمعوا إلى أسعد فصلَّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فَسَمُّوا الجمعة حين اجتمعوا إليه وذبح لهم أسعد شاة فتغدوا وتَعَشَّوا من شاة وذلك لقلتهم فأنزل الله في ذلك بعد: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الكراس الثاني والعشرين من الجزء الثالث من شرح البخاري. [الجمعة: 9]. انتهى. وهو لعمري عذر له، والله أعلم. 876 - حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ،
(1/2)
حَدَّثَنا
أَبُو الزِّنَادِ، أَنّ الأَعْرَجَ، حَدَّثَهُ: سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ
السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ
قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ،
فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ:
اليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ». وفي لفظ: «ثُمَّ سَكَتَ فَقَالَ:
حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا
يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ». رواه أبان بن صالح عن مجاهد عن طاوس عن أبي
هريرة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ
حَقٌّ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا». [خ¦876]
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن حذيفة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ
يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا
فَهَدَانَا اللهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ، وَالسَّبْتَ،
وَالْأَحَدَ، كَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ
مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ
لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ».
وعند الدَّارَقُطْني عن ابن عمر مرفوعًا: «لَيْسَ عَلَى المُسَافِرِ جُمُعَة».
وعن جابر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» في
إسناده بن لهيعة.
وعند ابن ماجه بسند فيه ضعف: «وَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ تَعَالَى افْتَرَضَ
عَلَيْكُمُ الجُمُعَةَ».
(1/3)
وعند
الدَّارَقُطْني من حديث إبراهيم بن محمد بن المبشر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ فِي
جَمَاعَةٍ إِلاَّ عَلَى أَرْبَعٍ: عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، أو صَبِيٍّ، أَوْ مَرِيضٍ،
أَوِ امْرَأَةٍ».
وفي «الغرائب» للدارقطني بسند فيه ضعف عن مالك عن نافع عن ابن عمر يرفعه: «نَحْنُ
الْآخِرُونَ فِي الدُّنْيَا السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وعند ابن خزيمة عن أم عطية قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إِلَيْكُنَّ» وفيه: «وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْنَا».
أما (بَيْدَ) فبمعنى غير، وقيل: بمعنى أنهم، وعن الشافعي بمعنى: من أجل، قال أبو
عبيد: وفيها لغة أخرى وهي (مَيْدَ) بالميم بدل الباء لقرب المخرج، وفي
«الْمُحْكَمِ»: الأولى أعلى، وفي «مجمع الغرائب»: بعض المحدثين يرويه (بِأيد أنا
أوتينا) أي بقوة أنا أعطينا، قال أبو عبيد: وهو غلط ليس له معنى يعرف.
وقال في كتاب «الواعي»: ليس له هنا معنى نعرفه، وقال ابن الأثير: لا أعرفها في لغة
ولا وجدتها في كتاب ولا أعلم وزنها وهل الباء زائدة أم أصلية؟.
وزعم القرطبي أنها يعني بيد بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الدال إذا كان
بمعنى غير، ويمكن أن يكون نصبه على الظرف الزمان.
وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لليهود فقالت طائفة: إن موسى صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أمرهم بيوم الجمعة وعَيَّنَه لهم وأخبرهم بفضيلته على غيره فناظروه
أن السبت أفضل فقال الله تعالى
له: دعهم وما اختاروا لأنفسهم، يؤيد هذا الحديث ما جاء في بعض طرق هذا الحديث،
وهذا يومهم الذي فرض عليهم.
(1/4)
وقيل:
إن الله تعالى لم يُعَيِّنْه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم الجمعة فاختلف اجتهادهم
في تعيينه، فعينت اليهود السبت، لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق، والنصارى الأحد،
لأن الله تعالى بدأ فيه الخلق، وعَيَّنَهُ الله تعالى لهذه الأمة ولم يَكِلْهُمْ
إلى اجتهادهم يؤيده: أنه لو عيَّن لهم فعاندوا فيه لما قيل: اختلفوا فيه، وإنما
كان يقال: فخالفوا أو عاندوا وقال في حديث حذيفة: «أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ
مَنْ كَانَ قَبْلَنَا» ولسبقه على السبت والأحد بمعنى وذلك، لأن ترتيب الأيام
الثلاثة الوضعية إذا سردت متتابعة لا تصح إلا بأن يتقدمها الجمعة وليس ذلك لغيرها.
وقوله: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» يعني أن هذين الوضعين لنا مَلَكة،
وأنهما ثابتان متى ذكر أحدهما عُرِفَ الآخر.
وأما قوله: في رواية أخرى «نَحْنُ الْآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ» فكأنه لما
أثبت لهم التأخر عطف وجاء بلفظه: (نَحْنُ) لِيُبَيِّنَ أن السبق لهم دون غيرهم،
كأن قائلًا قال: لما قال: نحن الآخرون فما لكم بذلك إذا ثبت لكم التأخر وتركتم
التقدم فقالوا: ونحن السابقون، وأيضًا لما في إعادة ضمير المتكلم الذي يضاف الخبر
إليه من الفائدة يقرع السمع به في كل خصلة.
وفي الحديث سقوط القياس مع وجود النص، وذلك أن الفريقين قالا بالقياس مع وجود النص
فَضَلَّا.
وفيه القول بالتفويض وترك الاختيار، لأنهم اختاروا فَضَلُّوا ونحن نحمد الله تعالى
عَلَّقْنَا الاختيار إلى ربنا جل وعز فهدانا.
(1/5)
وأما
نصب غدٍ فعلى الظرف وهما متعلقان بمحذوف تقديره: فاليهود يعظمون غدًا والنصارى بعد
غدٍ، ويحتمل أن يكون فرض عليهم الاجتماع للعبادة في هذا اليوم فَهُدِينا نحن لذلك
فاجتمعنا للعبادة فيه بفرض الله وهو قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ
يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة: 9] وهذا يصلح أن يكون
مناسبة الباب للحديث والله تعالى أعلم.
(بَابُ فَضْلِ الغُسْلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ
يَوْمِ الجُمُعَةِ، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ)
877 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ». [خ¦877]
هذا الحديث خرَّجه الأئمة الستة في كتبهم، وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِذَا أَرَادَ
أَحَدُكُمُ أَنْ يَأْتِيَ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ».
وقال الترمذي في «العلل الكبير»: وذكر حديث ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله بن
عمر عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الحديثَ. ثم قال: وقال ابن
عيينة: عن الزهري عن سالم عن أبيه: «سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ
عَلَى المنْبَرِ قَالَ: فَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الحَدِيْثِ أَيُّ
الرِّوَايَتَيْنِ أَصَحُّ فَقَالَ: كِلاَهُمَا صَحِيْحٌ».
وفي صحيح ابن خزيمة من حديث نافع عنه: «مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنَ النِّسَاءِ
وَالرِّجَالِ فَلْيَغْتَسِلْ, وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ
مِنَ النِّسَاءِ والرِّجَالِ» وخرج ابن خزيمة في «صحيحه»: الفضل الأول فقط.
وعند الشافعي: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الجُمُعَةَ» قال ابن الأثير في «شرح المسند»:
هذا أبلغ من حديث البخاري لتناوله كل جاءٍ، وإذا جاء وإن أعطى معنى الشرط فليس
بشرط حقيقي.
(1/6)
قال:
وقوله: (فَلْيَغْتَسِلْ) مجزوم بالأمر، وهو جواب الشرط وهو أبلغ في الدلالة على
ثبوت الغسل وتقريره والحث عليه.
878 – حَدَّثَنا عبد الله بن أَسْمَاءَ، أخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمُ في الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ
دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فقَالَ: إِنِّي
شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ
أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ». [خ¦878]
وفي لفظ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رجل
فَعَرَّضَ بِهِ عمر, فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ
النِّدَاءِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا زِدْتُ حِينَ
سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ, فَقَالَ: عُمَرُ
وَالْوُضُوءُ أَيْضًا؟ أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ إِلَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ».
وعند ابن حزم: «واللهِ مَا هُوَ بِالوضُوءِ».
(1/7)
وذكر
الدَّارَقُطْني في كتاب «الموطآت»: أن معن بن عيسى وابن وهب والشافعي ويحيى بن
يحيى وعبد الله بن يوسف ومُطَرِّفًا وحماد بن إسحاق والقعنبي وابن بُكَيْرٍ وعبد
الرحمن بن القاسم وأبا مصعب ومن تابعهم من أصحاب «الموطأ» رووه عن مالك عن الزهري
عن سالم أنه قال: «دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعُمَرُ يَخْطُبُ ... » الحديثَ.
مرسلًا عن عبد الله متصلًا عن عمر لم يذكروا فيه ابن عمر، وخالفهم جماعة من الثقات
فرووه عن مالك عن الزهري عن سالم عن عبد الله متصلًا عن عمر منهم: جويريةُ وابنُ
طَهْمَانَ وابنُ مَهْدِي والوليد بن مسلم ورَوْحُ بن عُبَادة وعبد الوهاب بن عطاء
وأبو عاصم النبيل ويحيى بن مالك بن أنس وعبد العزيز بن عمران والواقدي ويحيى بن
محمد الشجري وعثمان بن الحكم الجُذَامي وخالد بن حميد، زاد في كتاب «العلل»: إسحاق
الْحُنَيْنِي وأبا قُرَّة، وقال: وكذلك رواه أصحاب الزهري عن الزهري فيه أسانيد
أُخَرُ صحاح منها:
سالم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومنها عن طاوس عن ابن عباس وعن نافع عن ابن عمر، وقيل: عن الزهري عن سعيد عن أبي
هريرة، وقيل: عنه عن عُبَيْدِ
بنِ السَّبَّاقِ عن ابن عباس، وقيل: عنه عن أنس، والصحيح من ذلك كله حديث عمر
وابنه، ورواه عمرو بن دينار عن الزهري مرسلًا.
(1/8)
858 – حَدَّثَنا عبدُ اللهِ بنُ يوسفَ، أخْبَرنا مالكٌ عنْ صَفْوَان بْن سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».ولفظه في كتاب «الشهادات»: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فذكره. وفي حديث شعبة عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سُلَيْم عنه: «وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ» قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الغُسْلُ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ، فَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّه وَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ؟ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الحَدِيثِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، وَلَمْ يُسَمَّ. [خ¦858] وفي «كتاب الجمعة» لأبي عبد الرحمن: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدِرَ عَلَيْهِ».وفي لفظ: «وَلَوْ مِنْ طِيْبِ المَرْأَةِ».وفي قوله: دلالة على كل محتلم دلالة لما بوَّب له لقوله: وهل على الصبي شهود يوم الجمعة. وقوله: (أو عَلَى النِّسَاءِ) ذكر ابن التين عن أبي جعفر دليل سقوطها عن النساء، لأن أكثرهن إنما تجب عليها الفروض بالحيض لا الاحتلام. وفي «صحيح ابن خزيمة» من حديث جَدَّةِ إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية الأنصاري في حديث طويل فيه ذكر المبايعة وألَّا جُمُعَةَ علينا، وتردد ابن خزيمة في صحته.
(1/9)
وفي «الموطآت» للدارقطني: وقال حماد بن خالد الخياط عن مالك: وجب غسل الجمعة على كل محتلم كغسل الجنابة، زاد في «الغرائب»: لم يَقُلْه غير حماد وكان ثقة ولكنه فيما يقال كان أميًّا لا يكتب، قال: ورواه يحيى بن مالك عن أبيه بهذا السند مثله موقوفًا أَحْسِبُهُ سقط عن بعض الرواة ذِكُرُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/10)
وقال في كتاب «العلل»: رواه إسحاق الطباع عن مالك فقال: عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن سعيد وَوَهِمَ فيه، وحدَّث به أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار فَوَهِمَ فيه أبو عبد الرحمن بن إسحاق عن صفوان فقال: عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة وأبي سعيد ومنهم من قال عنه بالشك عن أحدهما، ورواه محمد بن عمرو بن علقمة عن صفوان عن عطاء بن يسار مرسلًا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ورواه نافع القارئ عن صفوان عن أبي هريرة وَوَهِمَ فيه، والصحيح من ذلك قول: من قال: عن صفوان عن ابن يسار عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولما ذكر حديث أبي بكر بن المنكدر قال: رواه سعيدُ بنُ هلال وبُكَيْرُ بنُ الأَشَجِّ عنه عن عمرو بن سُلَيْم عن عبد الرحمن عن أبي سعيد عن أبيهفَضَبَطَا إسناده وجَوَّدَاه وهو الصحيح يعني بذلك حديث مسلم فإنه رواه عن عمرو بن سَوَّاد، حدَّثَنَا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حَدَّثَاهُ عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه إلا أن بُكَيْرًا لم يذكر عبد الرحمن، وكذا ذكره أبو داود والنسائي فينظر في كلام الدَّارَقُطْني على أن أبا سعيد الدمشقي أكد ما قلناه، فقال: رواه سعيد بن سلمة ابن أبي الحسام عن محمد بن المنكدر عن أخيه عن أبي بكر عن أبي سعيد مثل حديث شعبة وبكير فهذا تصريح من أبي مسعود بأن حديث بكير كحديث شعبة الذي أسلفناه من عند البخاريِّ، ولهذا إنَّ ابن خزيمة لم يذكره إلا من حديث سعيد عن أبي بكر عن عبد الرحمن لم يُنْكِرْ بُكَيْرًا البتة.
(1/11)
قال الدَّارَقُطْني: على شعبة فقال: الباغِنْدي عن علي عن حَرْمي عنه عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ورواه عثمان بن حكيم عن عمرو بن سليم عن أبي سعيد ولم يصرح برفعه بل قال: من السنة أن يغتسل، ورواه زيد بن محمد فقال: عن محمد بن المنكدر عن جابر وَوَهِمَ فيه، وإنما رواه محمد عن أخيه أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سُلَيْم ولفظه في «علل ابن أبي حاتم»: «ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى المُسْلِمِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: الغُسْلُ، والسِّواكُ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إنْ وَجَدَ» وذكر عن شيخه أن أيوب بن عتبة أخطأ فيه فرواه عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي سعيد، وإنما هو يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل موقوف ويشبه أن يكون العذر لتخريج البخاري حديث أبي بكر عن أبي سعيد من غير واسطة لتصريحه وشهادته بسماعه له من أبي سعيد على لسان ثقة، ويحمل على أنه رواه أولًا عنه ثم سمعه منه وأنه رواه في حالتين وأنه أكد أنَّ أحدًا ما سمع منه. وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ».وعند ابن حبان عن جابر مرفوعًا: «عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ, وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ».
(1/12)
ولفظه في «علل أبي حاتم» وزعم أنه أخطأ «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» وقال ابن حزم: وكذا رويناه من حديث البراء بن عازب مسندًا، وعنده أيضًا عن أوس بن أويس: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا».قال ابن خزيمة لما خرجه معناه: قوله: (غَسَّلَ واغْتَسَلَ) جامع، فأوجب الغسل على زوجته أو أمته، ومن قال: غسل رأسه واغتسل أي: غسل سائر جسده، وعندهما أيضًا من حديث ابن إسحاق، حَدَّثَنا الزهري عن طاوس قال: قُلْتُ لِابنِ عَبَّاسٍ: زَعَمُوْا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاغْسِلُوا رُؤوسَكُمْ، إِلا أنْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَمَسُّوا مِنَ الطِّيبِ» فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا الطِّيبُ فَلا أَدْرِي وَأَمَّا الْغُسْلُ، فَنَعَمْ. ثم قَالَ ابن حبان: قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا جُنُبًا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ يُجْزِئُ عَنِ الِاغْتِسَالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غُسلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، إِذْ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمْ يُجْزِئْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ.
(1/13)
وعند ابن أبي شيبة: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» رواه من حديث رواه من حديث الحسن عن أبي هريرة ولفظه في «علل أبي حاتم»: قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الجُمَع: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِميْنَ، إنَّ هَذا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللهُ عِيدًا، فاغْتَسِلُوا»، وقَالَ: وَهِمَ يزيدُ بْنُ سَعِيدٍ الأصبحي عن مالك، وإِنَّمَا يَرويه مالكٌ بِسَندٍ مُرسَلٍ. ومن حديث نافع عنه يرفعه: «مَنْ أَتَى الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» ثم قال أبو حاتم: إِنَّمَا هُوَ عن نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُنكَرٌ. أخبرنا المسند المعمر عبد المحسن بن أحمد - عُرِفَ بابن الصابوني -، حَدَّثَنا الإمام جدي أبو حامد محمد، أخبرنا ابن الحرستاني، أخبرنا علي بن المسلم، أخبرنا أبو نصر بن طلاب، قال أخبرنا ابن جُمَيْعٍ الصيداوي، أخبرنا أبو علي الحسين الوراق، حَدَّثَنا أحمد بن عمرو الْمُصْعَبِي، حَدَّثَنا عبد الله بن مصعب بن بشر عن أبيه قال: خَطَبَنَا سَعيدُ بنُ عثمانَ بنِ عفان قَالَ: سمعت عثمان رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ».وروينا في «صحيح ابن خزيمة» عن عائشة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنْ أربعٍ: منَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الحِجَامَةِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ» وصحح الحاكم إسناده، وقال البيهقي: رواته ثقات. وعند الدَّارَقُطْني: «الغسل من».وفي «تاريخ نيسابور»: قال محمد بن يحيى الذهلي: لا أعلم فيمن غَسَّلَ ميتًا حديثًا ثابتًا ولو ثبت لَلَزِمَنا استعماله، وقال البخاري: حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الباب ليس بذاك، وقال أبو داود: هو منسوخ وليس العمل عليه، وقال أحمد بن حنبل وعلي بن المديني: لا يصح في هذا الباب شيء.
(1/14)
وعند أبي أحمد الجرجاني من طريق ضعيفة عن أنس بن مالك: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَوْ كَانَتْ بِدِيْنَارٍ».وعند العُقَيْلِيِّ بسند ضعيف عن عائشة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى مَنْ شَهِدَ الجُمُعَةَ».وعند ابن الجارود في «المنتقى» وابن خزيمة عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ رَوَاحُ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى مَنْ رَاحَ الْجُمُعَةَ الْغُسْلُ».وعند ابن خزيمة عن عبد الله بن أبي قتادة قال: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو قَتَادَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَا أَغْتَسِلُ , قَالَ: غُسْلُكَ هَذَا مِنْ جَنَابَةٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ , قَالَ: فَأَعِدْ غُسْلًا آخَرَ, إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَزَلْ طَاهِرًا إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى». ولَمَّا خرَّجه الحاكم قال: صحيح على شرط الشيخين، وخرَّجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة: قَالَ: «دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو سَعِيْدٍ» الحديثَ. وفي «مسند أحمد» عن أبي الدرداء يرفعه: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ مَسَّ طِيبًا ... » الحديثَ. وعن أبي أيوب يرفعه: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ لهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ» الحديثَ.
(1/15)
وعند بن أبي شيبة: حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنا يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى عن البراء: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَحَدُهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طِيبٌ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَهُ طِيبٌ».ومن حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من الأنصار عن رجل من الصحابة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «ثَلَاثٌ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» الحديثَ. ومن حديث الزهري قال: أَخْبَرَنِي ابنُ سَبَّاقٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ: «إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، فَاغْتَسِلُوا».ومن حديث وَبْرَةَ عن همام بن الحارث قال عبد الله: «مِنَ السُّنَّةِ الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ».وفي «علل ابن أبي حاتم» عَنْ مِسْكِينٍ أَبِي فَاطِمَةَ، عَنْ حَوْشَب، عَنِ الحَسَن كَانَ أَبُو أُمَامة يَرْوِي عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إنَّ الغُسْلَ يومَ الجُمُعَةِ لَيَسُلُّ الخَطَايا مِنْ أُصُولِ الشَّعْرِ اسْتِلالًا». وقال: قَالَ أَبِي: هَذَا منكرٌ؛ الحَسَنُ عَنْ أَبِي أُمَامَة لا يجيءُ، ووَهنَ أمرُ مِسْكين عِنْدِي بِهَذَا الْحَدِيثَ. ومن حديث الْقَاسِمِ عنه مرفوعًا: «اغْتَسِلُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ» ثم قال: قَالَ أَبِي: رَوَاهُ عمرُ بن عبد الواحد، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ، يَرْفَعُ الحديثَ وهو أشبَهُ. قوله: (أَيَّةُ سَاعَةٍ) هي تأنيث، أي: هو يَسْتَفْهِمُ به يقول: أي شخص هو هذا؟ وأية امرأة هذه واسمها؟.
(1/16)
و (السَّاعَةُ) اسم لجزء مخصوص من الزمان، وتَرِدُ على أنحاء أحدهما: تطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءًا هي مجموع اليوم والليلة، وتارةً تُطْلَقُ مجازًا على جزء ما غير مقدر من الزمان ولا يتحقق، وتارةً يطلق على الوقت الحاضر ولأرباب النجوم والهندسة وضع آخر، وذلك أنهم يَقْسِمُون كل نهار وكل ليلة باثني عشر قسمًا سواء كان النهار طويلًا أو قصيرًا وكذلك الليل، ويُسَمُّونَ كلَّ ساعةٍ من هذه الأقسام ساعةً فعلى هذا تكون الساعة تارة طويلة وتارة قصيرة على قدر النهار في طول النهار وقصره، ويسمون هذه الساعات المعوجَّة، وتلك الأولى المستقيمة، وهذا من أرشق الكنايات، فلما علم عثمان مراده بِحِدَّةِ فهمه اعتذر. وقوله: (الوُضُوْء) ورُوِيَ: <والوُضُوْء>، وهو يفيد العطف على الإنكار الأول. وقال القرطبي: الواو عوض عن همزة الاستفهام كما قرأ ابن كثير: {قالَ فِرْعَوْنُ وَآمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123] ومع حذف الواو إن صحت به الرواية فيكون إما لأنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره الوضوء عُذْرُك أو كفايتك في هذا المقام، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره الوضوء يقتصر عليه ويجوز نصبه بإضمار فعل تقديره فعلت الوضوء وحده أو توضأتيعضده قوله: وقد علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يأمر بالغسل، وتكون هذه الجملة حالًا منه والعامل فيها الفعل المقدر والعامل في الحال مع الرفع ما دل عليه مجموع الجملة المقدرة. وقوله: (أَيْضًا) منصوب، لأنه من آضَ يَئيض أيضًا عاد ورجع قاله يعقوب، كأنك أفدْتَ بذكرها الجمع بين الأمرين أو الأمور. وقوله: (يَأْمُرُ بِالغُسْلِ) وفي رواية <أَمَرَنَا> و<يَأْمُرُنَا> وهو ظاهر في الرفع وآكد من قوله يأمر لعدم دلالته على صريح اللفظ على العموم. وقد اختلف العلماء هل هو غسل يوم الجمعة سنة مؤكدة أو واجبة؟.
(1/17)
فمذهب أهل الظاهر إلى وجوبه وحكاه الخطابي أيضًا عن مالك والمعروف عنه أنه سنة، وإليه ذهب جمهور العلماء مستدلين بحديث عمر المذكور آنفًا وبحديث عائشة الآتي من عند البخاري: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنَ الْعَوَالِي، فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ، فَيَخْرُجُ الرِّيحُ مِنْهُمُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَوِ اغْتَسَلْتُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ». وفي لفظٍ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ» وفي لفظٍ: «كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ».وبما رواه الحافظ أبو بكر بن خزيمة في «صحيحه» وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَتَيَاهُ فَسَأَلَاهُ عَنِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَوَاجِبٌ هُوَ؟ فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَطْهَرُ, وَسَأُخْبِرُكُمْ لِمَاذَا بَدَأَ الْغُسْلُ: كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُحْتَاجِينَ, يَلْبَسُونَ الصُّوفَ, وَكَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ, فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ شَدِيدِ الْحَرِّ, وَمِنْبَرُهُ قَصِيرٌ، إِنَّمَا هُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، وَعَرِقَ النَّاسُ, فَثَارَتْ أَرْوَاحُهُمْ رِيحَ الْعَرَقِ وَالصُّوفِ حَتَّى كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا, حَتَّى بَلَغَتْ أَرْوَاحُهُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا, وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَطْيَبَ مَا يَجِدُ مِنْ طِيبِهِ أَوْ دُهْنِهِ».
(1/18)
وعند ابن حزم: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رُبَّمَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَرُبَّمَا لَمْ يَغْتَسِلْ» وأعلَّه محمد بن معاوية النيسابوري. وعند ابن جُمَيْعٍ من حديثه أيضًا: «كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَحْيَانًا وَيَذَرُ أَحْيَانًا».وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي هريرة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ ... » قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: «في جُمُعَةٍ» حديث الأعمش: أبو معاوية قال: «مَنْ تَوَضَّأَ»، وجرير يقول: «اغتسل» وفي «صحيح ابن خزيمة» والترمذي والطُّوسي في نسخة، وفي أخرى حَسَنٌ. وعن الحسن عن سمرة عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَةٌ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَذَاكَ أَفْضَلُ».وفي «تاريخ البخاري» قال علي عن سمرة صحيح، ولما ذكر العَدَنيُّحديث سمرة هذا في مسنده أتْبَعَهُ حديثًا بشرط حماد عن ثابت يزيد بن العلاء عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مثله، وزعم شيخنا أبو محمد المنبجي ومن خطه أن ابن ماجه رواه من حديث جابر بن سمرة. وعند ابن حزم عن الحسن قال: «أُنْبِئْنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَغْتَسِلُوْنَ».وعند البزار عن أبي سعيد بمثل حديث سَمُرَةَ، وسنده حسن ولا التفات إلى من أعلَّه بِأَسِيد بن زيدٍ الجَمَّال فإنه ممن خَرَّجَ حديثه البخاري وأثنى عليه غير واحد. وعند ابن ماجه في «معجمه»: حَدَّثَنا محمد بن محمد بن عثمان الزبيري، حَدَّثَنا إبراهيم بن صالح الشيرازي، حَدَّثَنا محمد بن معاوية النيسابوري، حَدَّثَنا أبو المليح عن ميمون بن مِهران عن ابن عباس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَحْيَانًا وَيَدَعُ أَحْيَانًا».
(1/19)
وعند ابن ماجه من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن يزيد الرَّقَاشي عن أنس مثله مرفوعًا، وقال الشيخ ضياء الدين المقدسي فيما رويناه عنه: رواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك، وقال عبد الرحمن: سألت أبي عن حديثٍ رواه همام عن قتادة عن الحسن عن أنس يرفعه: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ».ورواه أَبَان عن قتادة عن الحسن: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ» الحديثَ. أيُّها أصح؟ قال: جميعًا صحيحًا، همامٌ ثقة وصله، وأَبَانُ لم يوصله، ورواه الدَّارَقُطْني في كتاب «الأفراد والغرائب»: من حديث قتادة ومبارك والربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس وقال: تفرد به علي بن الحسن السامي عنه بهذه الألفاظ واختلف عليه. وعند أبي أحمد من حديث الفضل بن المختار عن أبان عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مِنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، فَلَمَّا كَانَ الشِّتَاءُ قُلْنَا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَمَرْتَنَا بِالغُسُلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَقَدْ جَاءَ الشِّتَاءُ وَنَحْنُ نَجِدُ البَرْدَ فَقَالَ: مَنِ اغْتَسَلَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلاَ حَرَجَ».ولما ذكر ابن شيبة في باب القائلين باب الوضوء يجزئ من الغسل قول أبي الشعثاء وإبراهيم وعطاء وأبي وائل والشعبي وأبي جعفر «لَيْسَ غُسْلٌ وَاجِبٌ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ» قال: حَدَّثَنا علي بن هاشم عن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَطَهَّرَ فَأَحْسَنَ الطُّهُورَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلَمْ يَلْهُ وَلَمْ يَجْهَلْ ... » الحديثَ.
(1/20)
وقالوا: قد قرن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الغسل بالطيب والاستنان، وأجمع الجميع فيما ذكره الطحاوي والطبري أن تارك الطيب والاستنان غير حرج إذا لم يكن له رائحة مكروهة يؤذي بها أهل المسجد فكذلك حكم تارك الغسل لأن مخرج الأمر واحد، وقالوا: أعني القائلين بالسنة، وقالوا أيضًا: لو كان الغسل واجبًا لما تركه عثمان ولا أقره عمر وسائر الصحابة على تركه. قال ابن حزم: فمن أين لكم أن عمر لم يأمره بالرجوع للغسل؟ ومن أين لكم أن عثمان لم يكن اغتسل في صدر يومه إذ ذلك عادة له كما ذكره مسلم عن حُمْرَانَ قال: «كُنْتُ أَضَعُ لِعُثْمَانَ طَهُورهُ فَمَا أَتَى عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يُفِيضُ عَلَيْهِ نُطْفَةً» ولو لم يكن الغسل واجبًا عند عمر لما قطع الخطبة منكرًا على عثمان حالفًا بالله ما هو بالوضوء. انتهى. لو كان عثمان سجيته الاغتسال كل يوم لَعُلِمَ ذلك منه أو لكان مقوله لعمر ولا يقول ما زدت على أن توضأت، ويحمل حديث مسلم أن فعله ذاك كان بعد هذه الواقعة تنبيهًا لها أو في زمن خلافته، لأنه كان في زمن ... لنفسه أشياء كما فعل في قصر الصلاة وغيره أيضًا، فمن أين لك يا أبا محمد أن حمران كان مملوكًا له يومئذ؟ وذلك شيء لا يقدر عليه ولو حرصت غاية الحرص وذلك أنه كان مملوكًا للمسيب بن نجبة أخذه من عين التمر ثم ابتاعه منه عثمان، وهذا يقتضي صيرورته إليه إما في أيام عمر أو في أيامه هو فلا دلالة إذًا بهذا والله تعالى أعلم. وأيضًا فالغسل عنده وعند أبي يوسف إنما هو لليوم لا للصلاة، قال أبو محمد: بحيث لو صلى الجمعة والعصر ولم يغتسل إلا بعد ذلك أجزأه بحيث يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله كله قبل الغروب، وأول وقته إثر طلوع الفجر من يوم الجمعة، وأفضله أن يكون متصلًا بالرواح إلى الجمعة، وهو لازم للحائض والنفساء كلزومه لغيرهما.
(1/21)
قال
أبو محمد: فإن قال قائل: قد رويتم مرفوعًا: «إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى
الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ
الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» قلنا: نعم، وهو نص قولنا، وإنما فيه أمر لمن جاء
الجمعة بالغسل وليس فيه أي وقت ولا إسقاط الغسل عن من لا يأتي إلى الجمعة، وقد
يريد الرجل إتيان الجمعة من أول النهار. انتهى. قد أسلفنا صحيحًا حديث ابن عمر
مرفوعًا: «وَمَنْ لَمْ يأتِ الجُمُعَةَ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ» وهو ردٌّ لما يقول
ابن حزم ظاهر والله أعلم. والاسْتِنَانُ والطِّيْبُ: الاستياك عند ابن حزم فرضان
أول بالغ من الرجال والنساء، وهو الاستياك مأخوذ من السِّنِّ يقال: سَنَنْتُ
الحديد أي: حككته على المِسَنِّ، وقيل: لأنه يستاك على أسنانه. وفي «الْمُحْكَمِ»:
سَنَّ أضْراسَه سَنًا سَوَّكها كأنَّه صَقَلَها. وشُرِعَ الطِّيْبُ لأن الملائكة
على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول فيكون الإنسان مطيبًا، لأنهم ربما صافحوه أو
لامسوه. وفي «المصنف»: «وَكَانَ ابنُ عُمَرَ كَانَ يُجَمِّرُ ثِيَابَهُ كُلّ
جُمُعَةٍ» وكذا رواه معاوية ابن قرة عن ثلاثين رجلًا من مُزَيْنَةَ، وحكاه مجاهد
عن ابن عباس وأبي سعيد وابن مغفل ومجاهد وابن عمر نحوه. واخْتُلِفَ في الاغتسال في
السفر فمن كان يراه: عبد الله بن الحارث وطَلْق بن حبيب وأبو جعفر محمد بن علي بن
الحسين وطلحة بن مُصَرِّف، وممن كان لا يراه: علقمة وعبد الله بن عمر وابن جبير بن
مطعم وابن مجاهد وطاوس والقاسم بن محمد والأسود وإياس بن معاوية، وعند مجاهد إذا
اغتسل يوم الجمعة بعد طلوع الفجر من الجنابة أجزأه من غسل الجمعة وذكره أيضًا عطاء
وأبو جعفر والحاكم والشعبي وابن عمر، فإن اغتسل ثم أحدث فعن النخعي يعيد غسله وكذا
ذكره طاوس، وأما عبد الرحمن بن أبزى وابن سيرين والحسن فقالوا: لا يعيد، ذكره ابن
أبي شيبة. (باب الطِّيب)
تقدم في الغسل.
(1/22)
(بَابُ
فَضْلِ الجُمُعَةِ)
881 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ،
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ
فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ
يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ». هذا حديث خرَّجه الأئمة الستة. [خ¦881]
وعند ابن ماهان: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ».
وعند النسائي بسند صحيح «تَقْعُدُ الْمَلَائِكَةُ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ
وسَلَامُهُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ».
وفيه: «الْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي
بَقَرَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَطَّةً، ثُمَّ
كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً».
وفي رواية: «بَعْدَ الْكَبْشِ دَجَاجَةً ثُمَّ عُصْفُوْرًا ثُمَّ بَيْضَةً».
(1/23)
وعند
أبي قُرَّةَ ذكر ابن جريج عن سُمَيٍّ بلفظ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
فَاغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ كَمَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ غَدَا إِلَى
أَوَّلِ سَاعَةٍ فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ الْجَزُورِ، وَأَوَّلُ السَّاعَةِ
وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الثَّانِيَةُ مِثْلُ الثَّوْرِ وَأَوَّلُهَا
وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ مِثْلُ الْكَبْشِ الْأَقْرَنِ
وَأَوَّلُهَا وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الرَّابِعَةُ مِثْلُ الدَّجَاجَةِ
وَأَوَّلُهَا وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الخَامِسَةُ مِثْلُ
الْبَيْضَةِ، فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ وَجَاءَتِ
الْمَلَائِكَةُ تَسْمَعُ الذِّكْرَ، ثُمَّ يُغْفَرُ لَهُ إِذَا اسْتَمَعَ
وَأَنْصَتَ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ».
وعند الدارمي: «فَإِذَا رَاحَ الْإِمَامُ، طَوَتِ الْمَلَائِكَةُ الصُّحُفَ،
وَدَخَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَمِعُ الذِّكْرَ».
وعند ابن خزيمة في «صحيحه»: «الْمُتَعَجِّلُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْذي يُهْدِي
بَدَنَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً، ثُمَّ
كَالْمُهْدِي طَائِرًا».
وفي لفظ: «عَلَى كُلّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
مَلَكَانِ يَكْتُبَانِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ» فَذَكَرَهُ وَفِيْ آخِرِهِ:
«وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ طَيْرًا، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَيْضَةً. فَإِذَا قَعَدَ
الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ».
وفي حديث عبد الله بن عمرو: «وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ, فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا حَبَسَ فُلَانًا؟ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: اللهُمَّ
إِنْ كَانَ ضَالًّا فَاهْدِهِ , وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَاشْفِهِ, وَإِنْ كَانَ
عَائِلًا فَأغْنِهِ».
(1/24)
وعند
ابن أبي شيبة من حديث علي بن زيد عن أوس بن خالد عنه مرفوعًا: «إِنَّ
الْمَلَائِكَةَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى
مَنَازِلِهِمْ، جَاءَ فُلَانٌ فَأَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُدْرِكِ الصَّلَاةَ
وَلَمْ يُدْرِكِ الْخُطْبَةَ».
وعند أبي داود عن علي بسند فيه مجهول يرفعه: «وَتَغْدُو الْمَلَائِكَةُ فَتَجْلِسُ
عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَيَكْتُبُونَ الرَّجُلَ مِنْ سَاعَةٍ، وَالرَّجُلَ
مِنْ سَاعَتَيْنِ، حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ» الحديثَ.
وفي «فضائل الأعمال» لحُمَيْدِ بنِ مَخْلَدِ بنِ زَنْجَوَيْه شيخ أبي داود
والنسائي: حدَّثَنَا ابن أبي أويس، حَدَّثَنا إبراهيم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن
أبي سفيان عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى أَبْوَابِ
الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ، يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَكَمُهْدِي
البَدَنَةِ إلى البَدَنةِ إلى البقرةِ إلى الشَّاةِ إلى عِلْيَةِ الطيرِ إلى
العُصْفور، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ، وَكَانَ مَنْ جَاءَ
بَعْدَ خُرُوْجِ الإِمَامِ كَمَنْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ وَلَمْ تَفُتْهُ».
(1/25)
وفي كتاب «الترغيب» لأبي الفضل الجوزي من حديث فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعًا: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى المَلاَئِكَةِ أَلْوِيَةُ الحَمْدِ إِلَى كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيْهِ، وَيَحْضُرُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المَسْجِدَ الحَرَامَ، مَعَ كُلِّ مَلَكٍ كُتَّابٌ، وُجُوْهَهُمُ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ مَعَهُمْ أَقْلَامٌ مِنْ فِضَةٍ وَقَرَاطِيْسُ مِنْ فِضَّةٍ يَكْتُبُوْنَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ الإِمَامِ كُتِبَ مِنَ السَّابِقِيْنَ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ خُرُوْجِ الإِمَامِ كُتِبَ شَهِدَ الخُطْبَةَ، وَمَنْ جَاءَ حِيْنَ تُقَامُ الصَّلاَةُ كُتِبَ شَهِدَ الجُمُعَةَ فَإِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ تَصَفَّحَ المَلَكُ وُجُوْهَ القَوْمِ فَإِذَا فَقَدَ مِنْهُمْ رَجُلًا كًانَ فِيْمَا خَلاَ مِنَ السَّابِقِيْنَ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّا فَقَدْنَا فُلاَنًا وَلَسْنَا نَدْرِي مَا خَلَّفَهُ اليَوْمَ، فَإِنْ كُنْتَ قَبَضْتَّهُ فَارْحَمْهُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيْضًا فَاشْفِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَأَحْسِنْ صَحَابَتَهُ وَيُؤَمِّنْ مَنْ مَعَهُ مِنَ الكُتَّابِ».
(1/26)
قرأت
على المسند شرف الدين يحيى المصري، عن ابن الحميري عن شُهْدَةَ، أخبرنا أبو عبد
الله النِّعَالِيُّ قراءة عليه، حَدَّثَنا أبو الحسن الْجَنَابِيُّ قراءة عليه،
أخبرنا ابن السماك قراءة عليه، أخبرنا أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي بجميع
كتاب «الديباج» تأليفه قال: أخبرنا إسماعيل بن زرارة أبو الحسن الرَّقِّيِّ،
حَدَّثَنا عبد العزيز بن عبد الرحمن عن خُصَيْفٍ عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «إِنَّ مَلَكَيْنِ
يَكْتُبَانِ يَوْمَ الجُمُعَةِ الأَوَّلَ فَالأَوَلَّ حَتَّى يَكْتُبَا
أَرْبَعِيْنَ، ثُمَّ يَطْوِيَانِ الصُّحُفَ وَيَقْعُدَانِ يَسْتَمِعَانِ
الذِّكْرَ».
قوله: (مِثْل غُسْلِ الجَنَابَةِ) في الصفة الشرعية
وأما قول بعضهم: أراد غسل الجنابة حقيقة بأن يستحب له أن يجامع زوجته بأن يكون أغض
للبصر وأسكن للنفس فقال النووي: هذا ضعيف أو باطل، يؤيد هذا التأويل ويردُّ قول
محيي الدين رحمه الله تعالى حديث الأوس بن أوس الذي أسلفناه: «مَنْ غَسَّلَ أَو
اغْتَسَلَ» فإن العلماء قالوا: بتشديد السين وبالتخفيف والمعنى: جامع، وفي التشديد
أوجب الغسل على غيره بالجماع أو حمله عليه واغتسل هو منه، وقيل: غسل للجنابة
واغتسل للجمعة، وقيل: غسل رأسه واغتسل في بقية جسده، وقيل: بالغ في النظافة
والدلك، واغتسل صب الماء عليه.
قال القرطبي: أنسب هذه الأقوال قول من قال: حمل غيره على الغسل، وعند ابن التين
معنى غسَّل أي ثيابه واغتسل أي غسَل جسده.
(1/27)
قوله:
(رَاحَ) بمعنى ذهب أول النهار وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير
المحدثين وابن حبيب المالكي، وذهب مالك وكثير من أصحابه والقاضي حسين وإمام
الحرمين إلى أن المراد بالساعات هنا لحظات لطيفة بعد زوال الشمس فإن الرواح لا
يكون إلا بعد زوال الشمس كما أن الغدو لا يكون إلا قبله، قال تعالى: {غُدُوُّهَا
شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] فذهب مالك إلى الساعات المذكورة إنما هي
أجزاء قليلة من الزمان أولها بعد الزوال وإلى أن يجلس الإمام على المنبر قال: لأن
الأجزاء متصلة متقاربة فجاز إطلاق البعض القليل على ما هو أقل منه، قال القرطبي:
يؤيد ما ذكره مالكٌ أمور:
الأول: أنه أول وقت أمر الله فيه بالسعي إلى الجمعة قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوا} [الجمعة: 9] وهذا النداء هو الذي
يحصل به الإعلام لدخول الوقت وبعده يخرج الإمام فيجلس على المنبر ويؤذن الأذان
الثاني، وفائدته الإعلام بحضور الإمام وعند هذا الأذان تطوى الصحف.
الثاني: التمسك بلفظ الرواح ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه يقال: على المشي مطلقًا فعلى
خلاف الأصل وهو مجاز، ولا يعارض ما في الحديث الآخر: (الْمُهَجِّر) فيقال: إنه من
الهاجرة وذلك قبل الزوال بل بشدة الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، ولا يقال
إن حقيقة الساعة العرفية إنما هي المتعارفة ولا يمنع ذلك، وتقول بل الساعة في عرف
اللغة القطعة من الزمان غير محدودة بمقدار كقوله تعالى: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ
سَاعَةٍ} [الروم: 55] وتقول العرب: جئتك من ساعة كذا فيعتبر بحسب ما يضاف إليه
وليست محدودةً، والأصل التمسك بالأصل.
(1/28)
الثالث:
قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ
الْمَسْاجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، كَالجَزُوْرِ»
إِلَى آخِرِهِ. وهذا السياق يفسر الحديث الأول، فإن الفاء للترتيب وعدم المهلة
فاقتضى هذا سبقية الأول وتعقيب الثاني فالأول هو الذي راح في الساعة الأولى إلى
آخر الخمس مرات وهي من أول الساعة السابعة إلى جلوس الإمام فهي ساعات الدخول
للجمعة لا ساعات النهار.
ومنها عَمِلَ أهلُ المدينة بترك البُكور للجمعة في أول النهار وبسعيهم إليها
قُرْبَ الخطبة والصلاة وهو نقلٌ معلومٌ عندهم غير منكرٍ، ولو تنزلنا فقلنا إن
الساعات في الحديث هي الزمانية لَلَزِمَ انقضاء فضائل المبكرين للجمعة بانقضاء
الخامسة التي فيها البيضة ولا يبقى لأهل السادسة فضل ويلزم طي الصحف إذ ذاك وهو
مُنَاقِضٌ للحديث، لأنه أخبر أن أجورهم لا تزال تُكْتَبُ إلى خروج الإمام، وخروجه
إنما هو في الساعة السابعة. انتهى.
قد أسلفنا من عند النسائي ما يخدش في هذا القول الأخير، وهو أنه ذكرهم في ستِّ
مراتب لا خمسٍ فأهل السادسة لهم بيضة والحديث صحيح، ويخدش في ذكره الساعة وأنها
قطعة غير محدودة ما أسلفناه أيضًا صحيحًا من عند أبي قُرَّةَ: (وَأَوَّلُ
السَّاعَةِ وآخِرُهَا سَوَاءٌ) فجعل لها أولًا وآخرًا ولا يكونان إلا لمحدود، ولو
صحَّ لنا حديث أبي داود عن جابر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِثِنْتَي عَشْرَةَ، يُرِيْدُ سَاعَةً» الحديثَ.
لَمَا احْتِيْجَ إلى كلِّ هذا كله التحريض، ولكان أصلًا يرجع إليه، لأنَّ فيه
الْجُلَاحَ مولى عبد العزيز بن مروان وفيه كلام، وعند أبي حنيفة أن الساعات تعتبر
من طلوع الشمس، وعند الشافعي قولان الأول: كقول أبي حنيفة والثاني الصحيح: من طلوع
الفجر.
(1/29)
و
(البَدَنَةُ) من الإبلِ والبقرِ كالأضحية من الغنم تُهْدَى إلى مكة شرفها الله
تعالى، الذكر والأنثى في ذلك سواء، والجمع بُدُنٌ وبُدْنٌ، ولا يقال في الجمع
بَدَنٌ، وإن كانوا قد قالوا خَشَبٌ وأَجَمٌ وَرَخَمٌ وأَكَمٌ، قاله ابن سِيْدَه
وغيره، وقال الأزهري: البدنة تقع على البعير والبقرة والغنم، وفي مسلم: «قَالَ
رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيَشْتَرِكُ فِي الْبَدَنَةِ -يعني البقرة- مَا يَشْتَرِكُ فِي
الْجَزُورِ؟ قَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ» وحديث الباب يعكر على هذا إذ
فيه التفرقة بين البدنة والبقرة فَيُنْظَر، وإليه ذهب الشافعي، وإلى قول ابن
سِيْدَه ذهب أبو حنيفة قال: وهي من البدانة أي الضخامة وقد اشتركا فيها يؤيد ذلك
قول الخليل: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يُسَمِّنُونَها،
والجمع بُدْنٌ يعني بسكون الدال، وقرأها ابن أبي إسحاق بضم الدال، وفي كتاب ابن
التين: تعجب مالك ممن قال لا تكون البدنة إلا من الإناث.
و (البَقَرَةُ) واحد البقر من الأهلي والوحش تكون للذكر والمؤنث، وجمع الجمع
أَبْقُرٌ فأما باقرٌ
وبَقِيرٌ وبَيْقُورٌ وباقورٌ وباقورةٌ فاسْمٌ للجمع قاله ابن سيده في
«الْمُحْكَمِ»، وَفِي «الصِّحَاحِ»: والجمع بقرات، والباقر جماعات البقر مع
رعاتها، وأهل اليمن يسمون البقرة باقورة، ومنه الحديث: «في ثلاثينَ باقورةً
بقرةٌ». و (الدَّجَاجَةُ) معروفة سميت بذلك لإقبالها وإدبارها يقع على الذكر
والأنثى قال جرير يذكر الدِّيكة:
لَمَّا تَذَكَّرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أرَّقَنِي ... صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ
بِالنَّوَاقِيس
(1/30)
وجمعها:
دِجَاج ودَجَاج ودجائج، فأما دجائج فجمعٌ ظاهر الأمر، ودجاجات ذكره ابن سيده، وفي
«المنتهى» لأبي المعاني: فتح الدال في الدجاج أفصح من كسره، ودخلت الهاء في
الدجاجة، لأنه واحد من جنس، مثلَ حمامة وبطة وحية ونحوها، وفي شرح الليلي عن ابن
طلحة يقال: دَجَاجةٌ ودِجَاجةٌ ودُجَاجةٌ باللغات الثلاث وكذلك في الجمع
الدَّجَاجِ والدِّجَاجِ والدُّجَاجِ.
وجمع البيضة بيض، ويجمع البيض على بيوض، قال ابن سيده: فأما قوله:
أبو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبُ
فشاذٌّ لا يعقد عليه بابٌ، لأن مثل هذا لا يحرَّك ثانيهِ، قال: وحضَرَ وحضِرَ
لغتان قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [البقرة: 235] بفتح الضاد وهي
اللغة العليا.
وقوله: (قَرَّبَ) يعني نحر وذبح في هدي أو ضَحِيَّة أو غيره وهو في الدجاجة
والبيضة بمعنى الصدقة بمثلها، وقيل: هو محمول على حكم ما تقدَّمه، كقولك: أكلت طعامًا
وشرابًا، وكقولهم:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدا
و (الكَبْشُ الأَقْرَنُ) يعني ذا القرون، خرج مخرج المدح، وفيه دلالة على فضيلة
على الأجمِّ.
وفي هذا الحديث حجة لأبي حنيفة والشافعي إذ قالا: البدن أفضل من البقر، والبقر
أفضل من الضأن في الضحايا خلافًا لمالك.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وبعض العلماء يقول: ليست الغنم بَهَدْي، والأكثرون يجعلونها
هَدْيًا.
الباب الذي بعده تقدم.
(بَابُ الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ)
(1/31)
883
- حَدَّثَنا آدَمُ، حدَّثَنَا ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ،
أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنِ ابنِ وَدِيعَةَ، عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ
الجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنَ الطُّهْرِ وَيَدَّهِنُ مِنْ
دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ
بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا
تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ
الأُخْرَى». [خ¦883]
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: رواه ابنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ،
عن الْمَقْبُرِيِّ: أن أباه كان يصلي هو وَعَبْدُ اللهِ بْنُ وَدِيعَةَ فَقَالَ
عَبْدُ اللهِ بْنُ وَدِيعَةَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ بهذا، لم يقل: عن أبيه عن ابن
وديعة.
وفيه فَحَدَّثَ أبو عمارة بن عمرو بن حزم, وأنا معه فقال عمارة: أَوْهَمَ ابن
وديعة سَمِعْتُهُ من سلمان بلفظ: «غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ
الأُخْرَى وزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيامٍ».
(1/32)
قَالَ
الإِسْمَاعِيْلِيُّ: ورواه يحيى بن سعيد وغيره عن ابن عجلان عن المقبري عن أبيه عن
ابن وديعة عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعند ابن خزيمة من
حديث إبراهيم عن علقمة عن الْقَرْثَعِ الضَّبِيِّ عنه: قَالَ لِيْ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا سَلْمَانُ, مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟» قُلْتُ:
اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ: قال: «يَا سَلْمَان بِهِ
جُمِعَ أَبُوكَ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا أُمِرَ
ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَيَقْعُدَ، فَيُنْصِتَ
حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهُ مِنَ يومِ
الْجُمُعَةِ».
زاد النسائي: «مَا اجْتَنَبَ المقْتَلَةَ» وعن أبي عبد الله على شرط مسلم عن أبي
سعيد وأبي هريرة مرفوعًا: «وَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ غُفِرَ لَهُ»
الحديثَ.
وعند الترمذي عن معاذ بن أنس قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إِلَى
جَهَنَّمَ» وقال: لا نعرفه إلا من حديث رِشْدِين، وقد ضعفه بعض أهل العلم.
وعند أبي داود عن عبد الله بن بشير قال: «جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ
النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطِبُ
فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ».
وعند ابن وهب عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو
بن العاصي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ
لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا، فَإِنْ تَخَطَّى
كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا».
(1/33)
وعن
عثمان بن أبي الأرقم عن أبيه وله صحبة قال: «الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ،
يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ
كَالْجَارِّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ» ولما رواه أحمد في مسنده رفعه.
وفي «المصنف» عن الحسن: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَخْطُبُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
حَتَّى جَلَسَ قَرِيبًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمَّا
قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا
فُلَانُ، أَمَا جَمَعْتَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْتنِي، قَالَ:
«قَدْ رَأَيْتُكَ أَتَيْتَ وَآذَيْتَ» وممن كره ذلك القاسم بن مخيمرة وسعيد بن
المسيب وعروة وابن سيرين ومسعود وابن شريح وسلمان الخير وأبو هريرة وكعب الحبر،
وقال الحسن: لا بأس أن يتخطى رقاب الناس إذا كان في المسجد سعة.
وروينا في كتاب «الترغيب والترهيب» للجوزي بسند لا بأس به عن أبي أيوب الأنصاري
يرفعه في حديث طويل فيه: «ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ
إِنْ بَدَا لَهُ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ
حَتَّى يُصَلِّيَ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ
الْأُخْرَى».
قوله: «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» يَسْتَدِلُّ به
من لم يقل بوجوب الغسل.
وقوله: (بِمَا اسْتَطَاعَ) قَالَ ابنُ التِّيْنِ: يعني إن لم يمنعه من ذلك مانع،
وقَالَ الدَّاودِيُّ: يعني إن استطاع وإلا فالوضوء، وفيه مطلوبية الادِّهان.
وقوله: (لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ) أي لا يتخطاهما، وقيل: لا يجلس بينهما
على ضيق الموضع.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: عن الأَصِيلي يريد أنه قام يصلي النافلة على قدميه ولم يفرق
بين قدميه، انتهى.
(1/34)
يخدش
في هذا قوله في عجز الحديث بعد قوله: ولا يفرق بين اثنين أي لا يتخطاهما ويصلي ما
كُتِبَ له ولو كان كما قال لقال: ثم يصلي غيرَ مُفَرِّقٍ بين اثنين وما أسلفناه
أيضًا من الأحاديث، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: الأشبه بتأويله ألا يتخطى رجلين ولا
يجلس بينهما.
وفيه مطلوبية التبكير إلى الجمعة.
وفيه أنَّ التَّنَفُّلَ قبل خروج الإمام يوم الجمعة مستحب، وأن النوافل المطلقة لا
حدَّ لها لقوله: (ما كُتِبَ لَهُ). وقوله: (ثُمَّ يُنْصِتُ) وفي رواية: < ثُمَّ
أَنْصَتَ> وفي بعض أصول مسلم: «ثُمَّ انْتَصَتَ» بزيادة التاء المثناة من فوق،
قال عياض: وهو وَهْمٌ. انتهى.
ذكر صاحب «الْمُوعِبِ» والأزهري وغيرهما أَنْصَتَ ونَصَتَ وانْتَصَتَ ثلاث لغات
بمعنى واحد فلا وَهْمَ إذًا وهو السكوت والاستماع والإصغاء.
واختلف العلماء في الكلام حَالَتَئِذٍ هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟
قال عياض: قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة، وعن
الشعبي والنخعي وبعض السلف: لا يجب إلا إذا تلي فيها القرآن.
واختلفوا إذا لم يسمع الإمام هل يلزمه الإنصات كما لو سمعه؟
فعند الجمهور يلزمه، وقال النخعي وأحمد والشافعي في قول: لا يلزمه.
فإنْ لَغَا الإمام هل يلزمه الإنصات أو لا؟.
فيه قولان لأهل العلم، وعند أبي حنيفة: يجب الإنصات بخروج الإمام، وعند غيره
بكلامه فإذا بلغ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب:
56] قال الطحاوي: فحينئذ يجب على القوم أن يصلوا على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، والذي عليه عامة المشايخ أنهم ينصتون من أولها إلى آخرها من غير أن
يذكروا الله ورسوله.
(1/35)
قال
ابن المنذر: هذا أحب إلي، وعن أبي يوسف يصلون عليه سرًّا وهو قول مالك في حق
القريب من الإمام، وأما البعيد فليس فيه رواية، وكان الحكم بن زهر شيخ الحنفية
ينظر في الفقه، وأجمعوا أنه لا يتكلم بكلام الناس، واختلفوا في القراءة والذكر،
وقال ابن قدامة: لا فرق بين القريب والبعيد، وللبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن
ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولا يرفع صوته وله أن يذاكر بالفقه
ويصلي النافلة.
وقوله: (غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى) قال الداودي:
هذا لا يكون إلا قبل ما سمع عثمان وغيره
في الوضوء أنه يغفر له مع آخر قطر الماء فيبشرهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بالشيء ثم بأكثر منه، وقيل: المراد بما بين الجمعتين هو في صلاة الجمعة وخطبتها
إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى تكون سبعة أيام سواءً فيما ذكره ابن حبان
في «صحيحه»، وأما الثلاثة المروية عن أبي هريرة فهو رضي الله عنه فسرها بقوله:
«الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».
في «صحيح الحاكم» قال الطبري: وهذا الثواب إنما يحصل لمن اتصف بالوصف الذي وصفه
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من غير حدوث مانع عمَّا أراده وقصده.
حديث ابن عباس تقدم.
(بابٌ يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ)
(1/36)
886
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ
عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اشْتَرَيْتَهَا
فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ
خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ» ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا
لِتَلْبَسَهَا». فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. وفي رواية: «قَبْلَ
أَنْ يُسْلِمَ». [خ¦886]
وفي لفظ: «تَبِيْعَهَا وَتُصِبْ بِهَا حَاجَتَكَ». وفي لفظ: «أَنَّ عُمَرَ، رَأَى
عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عُطَارِدٍ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ» وزعم
البرقاني أن البخاري أخرج من حديث نافع عن ابن عمر: «أَنَّ عُمَرَ رَأَى حُلَّةً
سِيَرَاءَ مِنْ حَرِيْرٍ فَقَالَ: ... ) الحديثَ. وجعله مسلم في طريق من مسند عمر
لا مسند ابنه.
وفي لفظ: «رَأَى عُمَرُ عُطَارِدًا التَّمِيمِيَّ يُقِيمُ فِي السُّوقِ حُلَّةً
سِيَرَاءَ ... » الحديثَ. وفيه «إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ
لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ».
وفي «صحيح ابن عوانة»: «فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مِنْ أُمِّهِ مِنْ أَهْلِ
مَكَةَ مُشْرِكًا».
قال الدَّارَقُطْني: ورواه سالم بن راشد عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن عمر، وَوَهِمَ في ذكر أبي هريرة. وقال أبو عمر: قال أيوب: عن ابن سيرين حلة
عطارد أو لبيد على الشك.
(1/37)
وفي
حديث سالم: «مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: ابْتَعْ هَذِهِ».
وفي رواية: «دِيْبَاجٍ أَوْ خَزٍّ». وفي رواية: «سُنْدُسٍ» قال: وأهل العلم على
أنها كانت من حرير. انتهى.
لقائل أن يقول: أكثر الروايات على أنها مختلطة بالحرير لا أنها حرير على صَرَافته
لما نذكره بعد.
وعند أبي عمر وأبي نُعَيْمٍ وغيرهما: أن عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ
لمَّا وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
أَهْدَى لَهُ ثَوْبَ دِيْبَاجٍ كَانَ كَسَاهُ إِيَّاهُ كِسْرَى فَعَجِبَ مِنْهُ
الصَّحَابَةُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا».
قوله: (حُلَّة سِيَرَاءَ) قال ابن قُرْقُولٍ: على الإضافة ضبطناه عن ابن سراج
ومتقني شيوخنا، ورواه بعضهم على التنوين على الصفة وزعم بعضهم أنه بدل لا صفة،
وقال الخطابي: حُلَّةُ سِيَرَاء كناقة عشراء، قال ابن قُرْقُولٍ: وأنكره أبو
مروان، لأن سيبويه قال: لم يأت فِعَلاء صفةً لكنِ اسمًا، قال ابن قُرْقُولٍ: وهو
الحرير الصافي فمعناه حلة حرير، وعن مالك: السِّيَرَاء وشيٌ من الحرير، وعن ابن
الأنباري السيراء الذهب، وقيل: هو نبت ذو ألوان وخطوط ممتدة كأنها السَّيُور
ويخالطها حرير. انتهى.
الذي رأيته في كتاب أبي حنيفة سِيَرَاء قال الفراء: هو نبت وهو أيضًا ثياب من ثياب
اليمن.
(1/38)
وقال
الخطابي: هي الْمُضَلَّعة بالحرير وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه
السيور وذكرها ابن ولَّاد في فصل الممدود المكسور الأول، وفي «صحاح» الجوهري:
بُرُودٌ فيها خطوط صفر، وقال صاحب «المغيث»: برود يخالطها حرير كالسُّيُور فهي
فعلًا من السير القد، وفي «الْمُحْكَمِ»: قيل: هو ثوب مُسَيَّرٌ فيه خطوط يُعْمَلُ
من القَزِّ، وقيل في «الجامع»: هي ثياب يخالطها حرير، وعن ابن التين: شك الراوي
فقال: حريرًا أو سيراء، وقال القرطبي: هي المخططة بالحرير ذكره الخليل والأصمعي،
والرواية حُلَّةٌ سِيَرَاء بتنوين حلة سيراء على أن تكون صفةً للحُلَّة كأنه قال:
سِيَرَةً كما قالوا: جُبَّةُ طيالسة أي غليظة.
وفي «شرح المهذب» عن ابن شهاب: هي ثيابٌ مُضَلَّعَةٌ بالقز، وقال: ابن المنير:
يجوز بحلةِ حريرٍ مثل ثوبِ خَزٍّ وخاتمِ حديدٍ، ويجوز بحلةٍ حريرٍ بالتنوين والخفض
فيهما على النعت، ويجوز بحلةٍ حريرًا بخفض الحلة ونصب الحرير على التمييز، وفي
رواية الشافعي رحمه الله تعالى: للجمعة وللوقود والحلة إزارٌ ورداءٌ بُرْدًا وغيره
ولا يقال لها (حُلَّةٌ) حتى تكون من ثوبين، والجمع حُلَلٌ وحِلَالٌ قال ابن
سِيْدَه أنشد ابن الأعرابي:
ليس الفتى بالمُسْمِن المختالِ ولا الذي يَرْفُلُ في الحِلَالِ
وقال القاسم بن سلام: الحلل برود اليمن، وعن ابن التين لا يقال حلة حتى تكون
جديدة، سميت بذلك لِحَلِّهَا عنْ طَيِّهَا.
(1/39)
و
(الخَلَاقُ) الحظ والنصب والنصيب من الخير والصلاح، ورجل لا خلاق له لا رغبة له في
الخير ذكره ابن سيده، وعند عياض وقيل: الحرمة، وقيل: الدين فعلى قول من يقول
النصيب والحظ يكون محمولًا على الكفار، وعلى القولين الآخرين يتناول المسلم
والكافر، قال القرطبي: اختلف الناس في لباس الحرير فمن مانع ومن مجوِّزٍ على
الإطلاق، وجمهور العلماء على منعه للرجال وإباحته للنساء على ما سنذكره إن شاء
الله تعالى في بابه، وإعطاؤه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الحُلَّةَ لعمر فيه
دلالة على جواز أن الإنسان يملك ما لا يجوز له لبسه. وأما صاحب الحلة فهو
عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ
تَمِيمٍ، وَفَدَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سنة تسع وعليه الأكثرون،
وقيل: سنة عشر، وهو صاحب الثوب الديباج الذي أهداه النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وكان كسرى كساه إياه، فعجب منه الصحابة فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا»
وله في سَجَاحِ لَمَّا تنبأت أنشده المَرْزُباني:
أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيْفُ بها وأصبحَتْ أنبياءُ الله ذُكْرَانَا
فلعنةُ الله ربِّ الناسِ كلِّهِمِ عَلَى سَجَاحِ ومنْ بالإِفْكِ أَغْرَانَا
وفي الحديث جواز الهدية للكافر.
قال القرطبي: وفيه دلالة على أنَّ عُمَرَ من مذهبه أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع
الشريعة إذ لو اعتقد ذلك لما كساه إياها. انتهى.
(1/40)
ولقائل
أن يقول: لم يهدها إليه ليلبسها بل لينتفع بها كما فعل صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مع عمر وغيره، وفي «مسند أحمد» ما يدلُّ على ما بوَّبَ له البخاري ولم
يأتِ فيه بحديث يطابق ما ترجم له، وأكثر ما فيه أن عمر أشار مشورة رُدَّتْ عليه،
وهو عن أبي أيوب: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ:
«مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ ثُمَّ خَرَجَ
وَعَلَيْهِ السَّكِيْنًةُ ... » الحديثَ. وعن ابن سَلَام قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ
لِيَوْمِ جُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَي مِهْنَتِهِ» رواه أبو داود.
وعند ابن ماجه عن عائشة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا
عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ
سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ».
وعند ابن أبي شيبة بسند على شرط مسلم حَدَّثَنا عَبْدَةُ، حَدَّثَنا عثمان بن
حكيم، عن عثمان بن أبي سليمان عن أبي سعيد مرفوعًا: «إِنَّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى
الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ السِّوَاكَ، وَأَنْ يَلْبَسَ مِنْ
صَالِحِ ثِيَابِهِ، وَأَنْ يَتَطَيَّبَ بِطِيبٍ إِنْ كَانَ».
وعن أبي جعفرٍ محمد بن علي بن حسين: «أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ويَوْمَ
الْعِيدَيْنِ».
وعن ابن عمر: «أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ للْجُمُعَةِ وَيَلْبَسُ مِنْ أَحْسَنَ
ثِيَابِهِ».
وعن مجاهد: البس أفضل ثيابك يوم الجمعة. وعن معاوية بن قرة قال: أدركت ثلاثين من
مُزَيْنَةَ إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا ولبسوا من أحسن ثيابهم وتطيبوا.
وعن نافع: «أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ يُجَمِّرُ ثِيَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ».
(1/41)
وعن
عبيد الله أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن ابن أبي ليلى قال:
«أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ أَصْحَابِ
بَدْرٍ، وَأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، إِذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَبِسُوا
أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ طِيبٌ مَسُّوا مِنْهُ، ثُمَّ
رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ».
وعن جابر بسند فيه قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا ضَرَّ رَجُلًا لَوِ
اتَّخَذَ لِهَذَا اليَوْمِ -يَعْنِي الجُمُعَةَ- ثَوْبَيْنِ يَرُوحُ فِيهِمَا».
وعند مالك عن يحيى بن سعيد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال:
«مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ، سِوَى ثَوْبَيْ
مهْنَتِهِ».
وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعًا: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَاسْتَنَّ وَمَسَّ مِنْ طِيْبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ , وَلَبِسَ مِنْ
أَحْسَنِ ثِيَابِهِ, كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ
الَّتِي قَبْلَهَا».
(بَابُ السِّوَاكِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَسْتَنُّ».
هذا التعليق تقدم عند البخاري في باب الطيب مُسْنَدًا.
(1/42)
887
– حَدَّثَنا عبد الله بن يُوسُفَ، أخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ،
عَنِ الأَعْرَجِ، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ-
لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ». وعند النسائي من رواية قتيبة
عن مالك: «مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ» وزعم أبو عمران رواية عبد الله بن يوسف عن مالك:
«لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ-أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ
بِالسِّوَاكِ» وكذا قاله القعنبي وأيوب بن صالح ومعن وزاد «عِنْدَ كلِّ صَلَاةٍ»
وكذلك قال فيه قتيبة: «عِنْدَ كلِّ صَلَاةٍ» ولم يقل: (أَوْ عَلَى النَّاسِ) كل
هذا قد رُوِيَ عن مالك عن أبي الزناد وكذا ذكره أبو العباس أحمد بن طاهر الداني في
كتابه «أطراف الموطأ» وقال: هو في آخر الطهارة يعني من «الموطأ»: مختصر ليس فيه
تحديد، ثم ذكر في آخر الطهارة أيضًا أن أبا هريرة قال: «لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ
عَلَى أُمَّتِهِ لَأَمَرَهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وَضُوءٍ) وأنه موقوف عند
يحيى بن يحيى وطائفة، ورفعه رَوْحٌ وسعيدُ بنُ عُفَيْر ومُطَرِّفٌ وجماعة عن مالك
قال: ورواية معن ومطرف وجويرية: «مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ». [خ¦887]
وأما الدَّارَقُطْني فذكر في «الموطآت» أن ابن يوسف ومحمد بن يحيى قالا: «لَوْلاَ
أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ» وقال معن: «عَلَى
الْمُؤْمِنِيْنَ -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ» زاد معن:
«عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ». انتهى.
وكان قول أبي الحسن هو الصواب لما ذكر في صحيح البخاري وغيره، وقال الشافعيُّ: لو
كان واجبًا لأمرهم به سواء شَقَّ أو لم يشق.
وفيه دليل على أن الأمر للوجوب، وزعم بعضهم أن الندب ليس مأمورًا به، وهي مسألة
اختلف فيها الأصوليون.
(1/43)
وفيه
دلالة على اجتهاده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما لم يَرِدْ فيه نصٌّ من الله
تعالى، ودلالة على جواز استياك الصائم بعد الزوال، وكذا أيوب عليه النسائي، وعلى
إباحة السواك في المسجد خلافًا لبعض المالكية قال: لأنه من المستقذرات، والمساجد
تُنَزَّهُ عن ذلك، ودلالة على أن الأمر للتكرار، لأنه لا مشقة في مرة واحدة فلو لم
يكن الأمر للتكرار لما كانت المشقة مانعة.
حديث حذيفة تقدم.
(بَابُ مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ)
890 - حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قالَ: قَالَ
هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ
إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي
هَذَا السِّوَاكَ، فَأَعْطَانِيهِ فَقَضِمْتُهُ، ثُمَّ مَضَغْتُهُ وَأَعْطَيْتُهُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ
إِلَى صَدْرِي». [خ¦890]
ولفظه: فِي وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: وَمَعَ عَبْدِ الرَّحمَنِ
سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَضِمْتُهُ، وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ
دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا
رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ
أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ رَفَعَ يَدَهُ -أَوْ إِصْبَعَهُ- ثُمَّ قَالَ: «فِي الرَّفِيقِ
الأَعْلَى» ثُمَّ قَضَى، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي
وَذَاقِنَتِي.
(1/44)
وفي
لفظ: «فِي يَدِهِ جَرِيدَةٌ رَطْبَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ بِهَا حَاجَةً، فَأَخَذْتُهَا، فَمَضَغْتُ
رَأْسَهَا».
قولها: (فَقَضِمْتُهُ) ذكرها ابن قُرْقُولٍ في باب القاف مع الصاد المهملة قال:
وكذا لأكثرهم، ولابن السكن والمستملي والحموي بضاد معجمة، ولما ذكره ابن الجوزي في
الضاد المعجمة قال: وبعض المحدثين يقوله بالمهملة، وبالمعجمة أصح، وقَالَ ابنُ
التِّيْنِ: هو في الكتب بصاد غير معجمة وقاف، وضبطه بعضهم بالفاء والمعنى يصح في
ذلك كله، لأن الفَصْمَ بالفاء الكسر، وصوابه بقاف وصاد غير معجمة وهو الكسر والقطع
قال: وكذا رويناه، وقد يصح بالضاد المعجمة، لأنه الأكل بأطراف الأسنان، وقال ثعلب:
قضمت الدابة شعيرها بالفتح ولم أره لغيرهما، يأتي تكملة في كتاب الصوم وتقدم طرف
منه في الطهارة.
(بَابُ مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
891 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ سَعِيْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ
رسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الفجرِ يومَ الجُمُعَةِ
{الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]». كذا في نسخة سماعنا على اسم محمد بن يوسف تمريض، وفي
الحاشية
(1/45)
مكتوب
في عدة نسخ، حَدَّثَنا أبو نعيم، حَدَّثَنا سفيان، وذكر خَلَفٌ في «الأطراف»: أن
البخاري رواه في العلاء عن أبي نعيم ومحمد بن يوسف قالا: حَدَّثَنا سفيان، وعلى
الحاشية مكتوب لم أجد حديث محمد هنا ولا ذكره أيضًا أبو مسعود الدمشقي في
«أطرافه»، وقال أبو نعيم الأصبهاني: حَدَّثَنا عليُّ بن عبد العزيز، حَدَّثَنا أبو
نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا سفيان الثوري فذكره ثم قال: رواه البخاري عن أبي نعيم، ورواه
الإسماعيلي من طريق معاذ ويحيى بن سعيد وابن مهدي وأبي نعيم كلهم عن سفيان، ورواه
مسلم عن زهير عن وكيع عن سفيان، ورواه مسلم أيضًامن حديث ابن عباس بلفظ: «يَقْرَأُ
فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ». [خ¦891]
وفي «شريعة المقاري» قال أبو بكر السِّجْزي الحافظ: حَدَّثَنا عثمانُ، حَدَّثَنا
حَجَّاجٌ، حَدَّثَنا حماد عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «غَدَوْتُ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فِي صَلاَةِ
الفَجْرِ فَقَرَأَ سُوْرَةً مِنَ المبَيَّنِ فِي الرَّكْعَةِ الأُوْلَى فِيْهَا
سَجْدَةٌ فَسَجَدَ ثُمَّ غَدَوْتُ عَلَيْهِ مِنَ الغَدِ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ
الآخِرَةِ مِنْ سُوْرَةٍ مِنَ المبَيَّنِ فِيْهَا سَجْدَةٌ فَسَجَدَ». انتهى.
أبان هذا لا أدري من هو.
وعند الطبراني من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عنه أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كَانَ يَقْرَأُ فِي فَجْرِ يَوْمِ
الجُمُعَةِ بـ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] وَسُورَةٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ
وَرُبَّمَا قَالَ: بِـ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]».
(1/46)
وعند
ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2]
وَ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]» قال البزار: لا نعلمه يروي عن سعد إلا من هذا
الوجه، والحارث بن نبهان قد تُكُلِّم فيه، وقد خالفه الحسين بن واقد وعبد الملك بن
الوليد فروياه عن عاصم عن أبي وائل وهو عندي الصواب. انتهى.
حديث عبد الله هذا رواه ابن ماجه من غير طريق هذين فقال: حَدَّثَنا حرملة بن يحيى،
حَدَّثَنا إسحاق ابن منصور، أخبرنا إسحاق بن سليمان، أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن
أبي فروة عن أبي الأحوص عن عبد الله ثم قال وقال إسحاق بن سليمان حَدَّثَنا عمرو
بن أبي قيس عن أبي فروة عن أبي الأحوص عن عبد الله ثم قال: وقال إسحاق بن سليمان
هكذا حَدَّثَنا عمرو بن عبد الله لا أشك فيه.
ورواه الطبراني في «معجمه الصغير»: الذي قرأته على المسند المعمر أبي البركات محمد
بن أبي عمرو بن محمد الصوفي، أخبرنا محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن عن السكري عن
أسعد بن سعيد وأم هانئ الفارفانية، وأم حبيبة عائشة بنت معمر، أنبأتنا فاطمة
الجُوْزَدَانِيَّة، أخبرنا ابن ريذه، أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب
قال: حَدَّثَنا محمد بن بشر، حَدَّثَنا دُحَيْمُ بن الوليد بن مسلم، حدثني ثور بن
يزيد عن عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه بزيادة: «يُدِيمُ ذَلِكَ»
وقال: لم يروه عن عمرو إلا ثور، ولا عن ثور إلا الوليد تفرد به دُحَيْم ولا كتبناه
إلا عن ابن بشر.
وعن علي بن أبي طالب مثله مرفوعًا، رواه الطبراني من حديث محمد بن بَكَّار،
حَدَّثَنا حفص بن سليمان الغَاضِري
عن منصور بن حبان عن أبي هَيَّاج عن علي بن ربيعة الوالبي عنه، وقال: لا يُرْوى عن
علي إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن بكار. انتهى كلامه.
(1/47)
وفيه
نظرٌ لأنه ذكر بعد هذا بأوراقٍ حَدَّثَنا سعيد بن محمد الذراع، حَدَّثَنا عمرو بن
علي، حَدَّثَنا معتمر بن سليمان، حَدَّثَنا ليث بن أبي سُلَيْم عن عمرو بن مُرَّةَ
عن الحارث عن عليٍّ فذكره بنحوه وقال: لم يروه عن عمرو إلا ليث ولا عنه إلا معتمر،
تفرد به عمرو بن علي ولم يرو عمرو بن مرة عن الحارث إلا هذا الحديث، وقال
الدَّارَقُطْني: أسنده عمرو وحده عن عمرو، وغيره يرويه موقوفًا وهو الصواب.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ذهب أكثر العلماء إلى القول بهذا الحديث، رُوِيَ ذلك عن علي
وابن عباس وأجازوا أن يقرأ بسورة فيها سجدة في الفجر يوم الجمعة واستحبه النخعي
وابن سيرين. انتهى.
الذي استحبه إبراهيم القراءة فيها بسورة فيها سجدة رواه عنه ابن أبي شيبة بسند
صحيح، وحدَّثَنَا ابن فُضَيْلٍ عن معرة عن أبي حمزة الأعور عن إبراهيم: أنه صلَّى
بهم يوم الجمعة الفجر فقرأ بهم بـ {كهيعص}.
وحَدَّثَنَا وكيع عن حسن بن صالح عن ابنه عن عثمان بن أبي صفية عن عليٍّ: أنه قرأ
في الفجر يوم الجمعة بسورة الحشر وسورة الجمعة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهو قول الكوفيين والشافعي وأحمد إسحاق، وقالوا: هو سنة.
انتهى.
الكوفيون مذهبهم كراهةُ قراءة شيء من القرآن العظيم مؤقتةً لشيء من الصلوات وأن
يقرأ سورة السجدة وهل أتى في الفجر في كل جمعة قال الطحاوي: معناه إذا رآه حتمًا
واجبًا لا يجزئ غيره أو رأى القراءة بغيرها مكروهة، أما لو قرأها في تلك الصلاة
تبركًا أو تأسيًا بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أو لأجل التيسير فلا كراهة.
وفي «المحيط»: بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانًا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجوز غيره.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: واختلف قول مالك في ذلك فروى ابن وهب عنه: لا بأس أن يقرأ
الإمام بالسجدة في الفريضة. وروى عنه أشهب أنه كره للإمام ذلك إلا أن يكون مَن
خلفَه قليلًا لا يخاف أن يُخَلِّطَ عليهم.
(1/48)
وقال
ابن العربي في «الأحوذي»: خرَّجَ البخاريُّ قراءة الصبح يوم الجمعة عن سعد بن
إبراهيم بلفظ: كان المقتضية للمداومة وهو مضعف عند مالك وغيره، وقد جاءت الرواية
أيضًا من غير طريقة ولكنه أمر لم يعلم المدينة فالله أعلم من قطعه، فينبغي أن يفعل
ذلك في الأغلب للقدوة ويقطع أحيانًا. انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ في موضعين الأول: كان لا يقتضي المداومة على ذلك أكثر العلماء، الثاني:
قد أسلفنا لفظة المداومة التي لا تحتمل التأويل بسند صحيح والله أعلم.
(بَابُ الجُمُعَةِ فِي القُرَى وَالمُدُنِ)
892 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنا أَبُو عَامِرٍ العَقَدِيُّ،
حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: «أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فِي مَسْجِدِ عَبْدِ القَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ
البَحْرَيْنِ». [خ¦892]
وعند أبي داود: «بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالمَدِيْنَةِ». وقال عثمان بن أبي شيبة: قرية من قرى عبد
القيس، ولفظ أبي هريرة عند أبي عبد الرحمن النسائي بسند صحيح: «أَوَّلُ جُمُعَةٍ
جُمِّعَتْ، بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بِمَكَّةَ جُمِّعَتْ بِجُوَاثَى بِالْبَحْرَيْنِ قَرْيَةٍ لِعَبْدِ
الْقَيْسِ». وفي «سنن سعيد بن منصور» عن أبي هريرة: «أَنَّهُمْ كَتَبُوا إِلَى
عُمَرِ بْنِ الخَطَّابِ مِنَ البَحْرَيْنِ يَسْأَلُوْنَهُ عَنِ الجُمُعَةِ
فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَجْمِعُوا حَيْثُ مَا كُنْتُمْ».
وذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح بلفظ: «جَمِّعُوْا».
(1/49)
وفي
«المعرفة» أن أَبَا هُرَيْرَةَ هُوَ السَّائِلُ وحسَّنَ سنده، وروى الدَّارَقُطْني
بسند ضعيف عن أم عبد الله الدَّوْسِيَّة قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ فِيْهَا إِمَامٌ,
وَإِنْ لَمْ يَكُونوا إِلَّا أَرْبَعَةً» زاد أبو أحمد الجرجاني حتى ذكر
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ثَلاَثَةً».
وعن مالك فيما ذكره في «المصنف»: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمِيَاهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ يَجْتَمِعُونَ».
وعن جعفر بن بُرْقَان قال: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ
بْنِ عَدِيٍّ: أَيُّمَا أَهْلِ قَرْيَةٍ لَيْسُوا بِأَهْلِ عَمُودٍ يَنْتَقِلُونَ،
فَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا يُجَمِّعُ بِهِمْ».
وفي «صحيح ابن خزيمة» عن ابن كعب بن مالك عن أبيه: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ
الْأَذَانَ بِالْجُمُعَةِ صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ،
فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ, كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ
فِي هَزْمِ البَيْتِ منْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ نقِيعُ
الْخَضَمَاتِ فكتب: وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا».
وعند البيهقي: «قبل مَقْدِمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وفي «المعرفة» للبيهقي قال الزهري: «لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُقْرِئَهُم القُرْآنَ
جَمَّعَ بِهِمْ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَكَانَ مُصْعَبُ أَوَّلَ مَنْ
جَمَّعَ الجُمُعَةَ بِالمَدِيْنَةِ بِالمسْلِمِيْنَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمَهَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
قال البيهقي: يريد الاثني عشر النقباء الذين خرجوا به إلى المدينة وكانوا له
ظَهْرًا.
(1/50)
وفي
حديث كعب: جَمَّع بهم أسعد وهم أربعون وهو يريد جميع من صلى معه ممن أسلم من أهل
المدينة مع النقباء، وأيضًا فقول كعب متصل، وقول الزهري منقطع، وفي مغازي موسى بن
عقبة وابن إسحاق: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين ركب من بني عمرو بن
عوف إلى المدينة مرَّ على بني سالم وهي قرية من قرى قباء والمدينة فأدركته الجمعة
فصلى بها إلى الجمعة فكانت
أول جمعة صَلَّاها حين قدم، ولم أجد فيها ذِكْر عددِ من صلَّاها بهم.
قال مالك: كل قرية فيها مسجد أو سوق فالجمعة واجبة على أهلها، ولا تجب على أهل
العمود وإن كثروا لأنهم في حكم المسافرين.
وعند الشافعي: لها شروط أن تقام في أبنية مجتمعة يستوطنها شتاء وصيفًا من تنعقد
بهم الجمعة، سواء أكان البناء من حجر أو خشب أو طين أو قصب أو غيرها، وسواء فيه
البلاد الكبار ذوات الأسواق والقرى الصغار، فإن كانت الأبنية متفرقة لم تصح عنده
بلا خلاف، لأنها قرية ويرجع في الاجتماع والتفرق إلى العرف، وأما أهل الجنائز فإن
كانوا ينتقلون من موضعهم شتاءً أو صيفًا لم تصح الجمعة بلا خلاف وإن كانوا دائمين
فيها شتاءً وصيفًا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض ففيه قولان أصحهما: لا تجب عليهم
الجمعة ولا تصح منهم دية قاله مالك وأبو حنيفة، والثاني: تجب عليهم الجمعة وتصح
منهم دية قاله أحمد وداود، ومذهب أبي حنيفة لا تصح الجمعة إلا في مِصْرٍ جامع أو
في مصلى المصر ولا تجوز في القرى، وتجوز بمنى إذا كان الأمير أمير الحاج أو كان
الخليفة مسافرًا، وقال محمد: لا جمعة بمنى ولا تصح بعرفات في قولهم جميعًا.
وقال أبو بكر الرازي في كتاب «الأحكام»: اتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة
في مواضع لا يجوز فعلها في غيرها، لأنهم مجمعون على أنها لا تجوز في البوادي
ومناهل الأعراب. انتهى.
ذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يرى على أهل المناهل والمياه أنهم يُجمِّعُون،
وقد أسلفنا قول عمر بن عبد العزيز.
(1/51)
وفي
«شرح الهداية»: اخْتُلِفَ في المصر الذي تجوز فيه الجمعة: فعن أبي يوسف هو كل موضع
يكون فيه كل محترف، ويوجد فيه جميع ما يحتاج الناس إليه في معايشهم عادة وبه قاضٍ
يقيم الحدود، وقيل: إذا بلغ سكانه عشرة آلاف، وقيل: عشرة آلاف مقاتل، وقيل: بحيث
أن لو قصدهم عددٌ أمكنهم دفعه، وقيل: كل موضع فيه منبر وقاض يقيم الحدود، وقيل: أن
لو اجتمعوا إلى أكبر مساجدهم لم يسعهم، وقيل: أن يكون بحال يعيش فيها كل محترف
بحرفته من سنة إلى سنة من غير أن يشتغل بحرفة أخرى.
وفي «شرح القُدُوري» للزَّاهِدي: جزيرة بينها وبين الموضع الذي تقام فيه الجمعة
بمقدار فرسخين ومياه تحتاج إلى سفينة في جميع الأوقات وفيها أقوام يبلغ سكانها
ثلاث مئة كلهم أحرار وفيهم إمامهم وهو ممن يفتيهم بما يحتاجون إليه، ولو اجتمعوا
في أكبر مساجدهم لا يسعهم لحاجتهم إلى مسجد آخر، هل يجوز لهم إقامة الجمعة بوجود
هذه الشرائط في زماننا هذا؟ وهل يأثمون بإقامتها أم لا؟ فأجاب: المصر شرط لإقامة
الجمعة ولكن لو جَمَّعوا في مثل هذا الموضع لا يتعرض لهم. انتهى.
وعن محمد: كل موضع مَصَّرَه الإمام فهو مصر حتى أنه لو بعث إلى قرية نائبًا لإقامة
الحدود والقصاص تصير مصرًا فإذا عزله ودعاه تلحق بالقرى، يؤيده هذا أن عثمان بن
عفان رضي الله عنه أرسل عبدًا أسود إلى الرَّبذة فكان أبو ذر يصلي خلفه وكذا غيره
من الصحابة الجمعة وغيرها، فإن جمع الأمير جنده في حصن وغلَّق بابه ولم يأذن فيه
للعامة جازت فيه الجمعة، وقال في «المحيط»: الإذن على سبيل الاشتهار حتى لو غلق
الأمير باب قصره وصلى فيه بجنده لا يجوز، وإن فتح باب قصره وأذن للناس حوله جاز.
(1/52)
قال
في «التحفة»: إن فعلها على وجه الشهرة استدل أبو حنيفة على أنها لا تجوز في القرى
بقول علي بن أبي طالب من عند ابن أبي شيبة بسند صحيح قال: حَدَّثَنا جرير عن منصور
عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه: «لاَ جُمُعَةَ وَلاَ
تَشْرِيْقَ إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» قال: وحدَّثَنَا ابن سعيد عن الأعمش عن
سعيد به، ولا التفات إلى قول النووي حديثُ عليٍّ ضعيف متفق على ضعفه، وهو موقوف
عليه بسند ضعيف منقطع وكأنه رأى كلام الشافعي، وذكر بعض الناس لا تجوز الجمعة إلا
في مصر جامع، وذكر منه شيئًا ضعيفًا، ويشبه أن الشافعي أراد الحديث المرفوع في ذلك
أو يكون ... على حديث علي من طريق حجاج بن أرطأة عن أبي إسحاق عن الحارث عنه، ولم
ير ما أسلفناه ولو رآه لما ادعى ما ادعاه، وأما محيي الدين فإنه زاد ذكر الاتفاق
ولا أدري مَن سَلَفُه في ذلك، ولا وجه لقوله إلا ما ذكرناه والله أعلم.
وزعم أبو زيد في «الأسرار»: أن محمد بن الحسن قال: رواه عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ معاذ وسراقة بن مالك، وقال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا عَبَّاد بن
العَوَّام عن عمرو بن عامر عن حماد عن إبراهيم عن حذيفة قال: «لَيْسَ عَلَى أَهْلِ
الْقُرَى جُمُعَةٌ، إِنَّمَا الْجُمَعُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ، مِثْلِ
الْمَدَائِنِ» وبه قال محمد بن سيرين والحسن وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
وإبراهيم النخعي ومجاهد، وعند الترمذي مضعفًا من حديث رجل من أهل قباء عن أبيه
وكانت له صحبة قال: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ
نَشْهَدَ لَهُ الجُمُعَةَ مِنْ قِبَاءَ».
وعن أبي هريرة يرفعه: «الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ» أنكره أحمد
إنكارًا شديدًا ولم يعده شيئًا.
(1/53)
وعند
الحاكم عنه مرفوعًا: «عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ منَ الْمَغْنَمِ
فَيَنْزِلَ بِهَا عَلَى مِيلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فَتَأْتِيَ
الْجُمُعَةُ فَلَا يُجَمِّعَ، فَيُطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ» ولما ذكره ابن عدي
ضَعَّفه معدي بن سليمان.
وعند ابن ماجه بسند جيد عن ابن عمر قال: «كَانَ أَهْلُ قِبَاءَ يُجَمِّعُوْنَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وفي الصحيح عن عائشة: «كَانُوْا يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنَ الْعَوَالِي
وَأَقْرَبُ الْعَوَالِي ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ».
وفي «المصنف»:حَدَّثَنا وكيع عن أبي البحتري قال: رَأَيْتُ أَنَسًا شَهِدَ
الْجُمُعَةَ مِنَ الزَّاوِيَةِ، وَهِيَ فَرْسَخَانِ مِنَ الْبَصْرَةِ.
وحَدَّثَنَا أَزْهَرُ، عَنِ ابنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو الْمَلِيحِ عَامِلًا
عَلَى الْأَيْلَةِ، فَكَانَتْ إِذَا أَتَتِ الْجُمُعَةُ، جَمَّعَ منها. وعن
الزهري: أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وكان ابن عمرو يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ في
الطَّائِفِ، وَهُوَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: الْوَهْطُ عَلىَ رَأْسِ ثَلَاثَةُ
أَمْيَالٍ. رواه عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه.
(1/54)
وجه
الدلالة من هذه الآثار أن الجمعة لو أُقِيْمَتْ في القرى لما احتاجوا أن يأتوا
إليها من مسيرة أميالٍ، فإن قيل: إنما لم يقم في قرى المدينة لينالوا فضيلة الصلاة
معه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قيل: كان يأمر بها في القرى النائية عن المدينة
لأنه يشق عليهم الحضور ويتعذر عليهم إدراك الفضيلة، فلما لم يأمر بها دلَّ على عدم
الجواز إذ لو جاز لأمر بها كما أمرنا بإقامة الجماعة في مساجد المدينة مع فوات
فضيلة الصلاة معه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وإلى هذا القول ذهب سُحْنُون، فإن
قيل: كيف تعملون في حديث ابن عباس المذكور أولًا بأنه جمَّع في قرية؟
قيل: الجواب عنه بأن ابن التين نقل عن أبي الحسن أنها كانت مدينة، والمدينة تسمى
أيضًا قرى، قال الله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعني مكة شرفها الله تعالى والطائف.
وَفِي «الصِّحَاحِ» للجوهري و «البلدان» للزمخشري: جُواثَى حصن بالبحرين، وقال أبو
عبيد البكري: هو بضم أوله وبثاء مثلثة على وزن فُعَالى مدينة بالبحرين لعبد القيس
قال امرؤ القيس:
وَرُحْنَا كأنا من جُواثَى عَشِيَّةً ... نُعالي النِّعاجَ بَين عِدْلٍ ومُحْقَبِ
يريد كأنا من تجار جُواثى لكثرة ما معهم من الصيد، وأراد كثرة أمتعة تجار جواثى
والله تعالى أعلم.
(1/55)
893
- حَدَّثَنا بشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا عبد الله، أخْبَرَنَا يُونُسُ، عنِ
الزُّهْرِيِّ، أخْبَرَنَا سَالِمٌ، عنِ ابنِ عُمَرَ أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كان يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاع» وَزَادَ اللَّيْثُ، قَالَ يُونُسُ:
كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابنِ شِهَابٍ، وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ
بِوَادِي القُرَى: هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ
يَعْمَلُهَا، وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ؟ وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَى أَيْلَةَ، فَكَتَبَ ابنُ شِهَابٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ: يَأْمُرُهُ أَنْ
يُجَمِّعَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ: أَنَّ عبد الله بن عُمَرَ قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ،
وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ
زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قال: وحسِبْتُ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
ألا َكُلُّكُمْ رَاع وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الأميرُ الذي على
الناسِ» الحديثَ. وخرجه مسلم عن قتيبة وابن رُمْحٍ عن الليث عن نافع بنحوه
(كُلُّكُمْ رَاعٍ). [خ¦893]
وكأنَّ البخاريَّ رأى أن قريةً قرية فبوَّب عليها الجمعة في القرى، أو يحتمل أن
يكون رُزَيق إنما سأل عن الأرض التي بها السودان لا أيلة فيصح التبويب لأن
أَيْلَةَ بلدة مشهورة ومثلها ممتنع ألا تقام فيها الجمعة.
قال أبو عبيد: هي مدينة على شاطئ البحر في منتصف ما بين مصر ومكة هذا قول أبي
عُبَيْدَةَ وقد أنشد قول حسان:
مَلَكا مِنْ جَبَلِ الثَّلْج إِلى ... جَانِبَيْ أَيْلَةَ مِنْ عَبْدٍ وحُرْ
(1/56)
قالَ:
وجبل الثلج دمشق، وقال محمد بن حبيب: وقد أنشد قول كثير:
رَأَيْتُ وَأَصْحَابِي بِأَيْلَةَ مَوْهِنًا وَقَدْ غَارَ نَجْمُ الفَرْقَدِ
الْمُتَصَوِّبِ
أيلة شعبة من رضوي، وهو جبلُ يَنْبُعَ قال البكري: الذي ذكره أبو عبيدة صحيح لا شك
فيه، وبتبوك ورد صاحب أيلة على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأعطاه
الجزية.
وقال الأحول: سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقد
رُوِيَ أن أيلة هي القرية التي كانت حاضرة البحر، وقال اليعقوبي: أيلة مدينة جليلة
على ساحل البحر المالح وبها يجتمع حاج الشام ومصر والمغرب، وبها التجارة الكثيرة،
ومن القلزم الى أيلة ست مراحل في برية وصحراء يتزود الناس من القلزم إلى أيلة
الماء لهذه المراحل الست.
وجواب الزهري: (كُلُّكُمْ راعٍ) بمعنى يجب عليك أن تقيم فيهم الأحكام الشرعية،
لأنه كان واليًا عليهم فهم رعيته، وإقامة الجمعة من الأحكام الشرعية التي يجب
إقامتها.
وأما قول ابن حزم مستدلًا لمذهبه: ومن أعظم البرهان أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أتى المدينة وإنما هي قرية صغار متفرقة فبنى مسجده في بني مالك بني
النجار وجمَّعَ فيه في قرية ليست بالكبيرة ولا مِصْرَ هناك فغير جيد في مواضع:
الأول: هو قد صحح قول علي بن أبي طالب: الذي هو أعلم الناس بالمدينة: «لَا
جُمُعَةَ ولَا تَشْرِيْقَ إِلَّا في مِصْر ٍجامعٍ».
الثاني: الإمامُ أي موضعٍ حلَّ جَمَّعَ.
الثالث: التمصير هو للإمام فأي موضع مَصَّرَهُ مُصِّرَ.
وأما الشرط الذي شرطه الشافعي وأحمد من أن يكون بتلك القرية أربعة رجال أحرار
بالغين عقلاء مقيمين بها لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاءً إلا ظَعَنَ حاجةٍ فينظر
مستندهما فإن قالا: مستندنا حديث أسعد قيل لهما: لا حجة فيه لأمور:
الأول: ليس هو أمْرٌ من صاحب الشرع صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
الثاني: أن هذا كان اتفاقًا لا قصدًا.
(1/57)
الثالث:
إذا سُلِّمَ أنه كان بقصد من أين لهما بقية الشروط.
وأما حديث جابر: «مَضَتِ السُّنَّةُ في كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ
جُمُعَةٌ وَأَضْحًى وَفِطْرٌ» فذكره الدَّارَقُطْني من طريق ضعيفة، وقول عبيد الله
بن عبد الله: «كُلُّ قَرْيَةٍ فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ
الْجُمُعَةُ» ففي سنده إبراهيم بن محمد، وقول سليمان بن موسى: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ جَمِّعُوا إِذَا بَلَغْتُمْ
أَرْبَعِينَ رَجُلًا» فرواه الشافعي عن الثقة عنده، وقد جاءت أحاديث تدلُّ لمن
يخالفهما منها ما في «الصحيحين»: عن جابر قضية العير وأنهم تفرقوا عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ
رَجُلًا، زاد ابن مسعود عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَوْ
تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي
نارًا» قال الحميدي: لم أجد في هذه الزيادة فيما عندنا من الكتابين ولا فيما أخرجه
الإسماعيلي ولا البرقاني وهي فائدة من أبي مسعود. انتهى.
وأما رواية: (لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلاَّ رَجُلٌ) قال الدَّارَقُطْني: خُولِفَ علي
بن عاصم في ذلك، والصحيح اثنا عشر.
فإن قيل: قد ذكر عياض أن خطبته التي انفضوا عنها إنما كانت بعد صلاة الجمعة فظنوا
أنهم لا شيء عليهم في الانفضاض، قيل له: قد قال أبو الفضل بعد أن أنكر بعض العلماء
كون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خطب قط بعد صلاة الجمعة لها. انتهى.
وسيأتي ما يرد هذا في باب إذا نفر الناس عن الإمام.
(1/58)
وفي
«الشرح» للزَّاهدي: سئل الحمامي وطاهر بن علي عن الخطبة إذا أُخِّرَتْ عن صلاة
الجمعة هل تصح صلاة الجمعة؟ فقال: لا، وقد أسلفنا حديث أم عبد الله الدَّوسية
ترفعه «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا
إِلَّا أَرْبَعَةٌ» وفي لفظ: «ثَلاَثَةٌ».
وعن أبي أمامة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «فِي
الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ وليسَ فِيْمَا دُوْنَ ذَلِكَ» رواه الدَّارَقُطْني من طريق
جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن وقد وُثِّقَا.
وفي «معرفة الصحابة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا أبو أحمد الغِطْرِيفي، حَدَّثَنا
إبراهيم بن عبد الله المخرمي، حَدَّثَنا صالح بن مالك، حَدَّثَنا أبو الصباح،
حَدَّثَنا عبد العزيز بن سعيد عن أبيه قال: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عَنْ خَمْسَةِ نَفَرٍ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَخَطَبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
يَوْمَ الجُمُعَةِ ثُمَّ صَلَّىَ بِهِم فَلَمْ يُعِبْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ذَلِكَ عَلَيْهِمْ» وحكى ابن شداد عن عمر بن عبد العزيز انعقادها بأربعين من
الموالي.
وحكى الماوردي في «الحاوي» عنه: ثمانين، وعند عياض: خمسين، قال وقال غيره يشترط
لانعقادها مئتان، وقال مطرف: ثلاثون بيتًا عند مالك، وعند ابن حزم عنه بخمسين
رجلًا، حكى ابن حبيب عن مالك بثلاثين رجلًا، وعن عروة بعشرين رجلًا، وقال عكرمة:
بسبع رجال لا أقل.
وعن أبي حنيفة والليث بن سعد وزفر ومحمد بثلاثة غير الإمام، وحكاه ابن المنذر عن
الأوزاعي وأبي ثور واختاره المزني وهو أحد قولي الثوري.
وعن الحسن برجلين غير الإمام وهو أحد قولي الثوري وقول أبي يوسف وأبي ثور ورواية
عن أحمد.
وعن النخعي بواحد مع الإمام وهو قول الحسن بن حي وأهل الظاهر، وحكى القرطبي عنهم
تلزم المنفرد وهي ظهر ذلك اليوم عنده لكل واحد.
(1/59)
وحكى
الدارمي عن القاشاني أنها تنعقد بواحد منفرد، قال في «شرح المهذب»: القاشاني لا
يُعْتَدُّ به في الإجماع، وقد نقلوا الإجماع أنه لا بد من عدد.
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن باثني عشر رجلًا، وقيل: بثلاثة عشر رجلًا.
قال ابن المنذر: مضت السنَّة بأن الذي يقيم الجمعة السلطان أو من أمره، فإن لم يكن
ذلك صَلَّوا الظهر.
قال الحسن: أربَعٌ إلى السلطانِ فذكر منها الجمعة، وقال ابن حبيب بن أبي ثابت: لا
تكون الجمعة إلا بأمير وخطبة وهو قول الأوزاعي ومحمد بن مسلمة ويحيى بن عمر
المالكي، وعن مالك إذا تقدم رجل بغير إذن الإمام لم يُجْزِهم، وذكر صاحب «البيان»
قولًا قديمًا للشافعي: إنها لا تصح إلا خلف السلطان أو من أذن له السلطان، وعن أبي
يوسف لصاحب الشرطة أن يصلي بهم دون القاضي، وقيل: يصلي القاضي.
واتفق أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك أن وقتها وقت الظهر وبه قال جمهور الصحابة
والتابعين والمرويُّ في غالب الأحاديث، وقال العربي: اتفق العلماء عن بكرة أبيهم
على أن الجمعة لا تجب حتى تزول الشمس، ولا تجزئه قبل الزوال إلا ما رُوِيَ عن أحمد
أنها تجوز قبل الزوال ونقله ابن المنذر عن عطاء وإسحاق والماوردي عن ابن عباس في
السادسة، قال ابن قدامة: والمذهب جوازها في وقت صلاة العيد.
والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، قال
الخطابي: الرعاية حسن التعهد للشيء، ورعاية كل شيء بحسبه.
(1/60)
وفي
الحديث دليل على جواز الجمعة وإنَّ ظلَّ الكعبة كما هو، وزعم عبد الله بن سلمة:
صلَّى بنا عبد الله الجمعة ضحًى وقال: خشيت عليكم الحرَّ، حدَّثَنَاه غندر عن شعبة
عن عمرو بن مُرَّةَ عن سعيد بن سُوَيْدٍ قال: صلى بنا معاوية الجمعة ضحًى، وفي
المصنف عن مصعب بن سعد: كان سعد بن أبي وقاص يَقِيْلُ بعد الجمعة، وعن سهل بن سعد
كنا نتغدَّى ونَقِيْلُ بعد الجمعة، وعن سعيد الأنصاري قال: كنا نجمِّعُ مع عثمان
ثم نرجع فنقيل وكذا قاله أنس وابن عمر، وحكي عن عمر وأبي وائل وسويد عن عقلة وأبي
مسلمة وابن أبي الهذيل
وقال مجاهد: ما كان للناس عيد إلا أول النهار.
وفي الحديث دليل على إقامة الجمعة بغير سلطان وأن الرجلين إذا حكَّما بينهما رجلًا
نفذ حكمه إذا أصاب، وزعم المنذري أن بعضهم قال: فيه دليل على سقوط القطع عن المرأة
إذا سرقت من مال زوجها، وعن العبد إذا سرق من مال سيده إلا فيما حجبه عنهما ولم
يكن لهما فيه تصرف.
(بَابُ هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟) ذكر فيه أحاديث تقدم ذكرها منها:
899 - حديثُ ابنِ عمرَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ». [خ¦899] 900 - وعن عبد
الله: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَت لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالجَمَاعَةِ
فِي الْمَسْجِدِ» الحديثَ. [خ¦900] ومناسبة هذين للباب أنهن إذا كُنَّ لا
يُمْنَعْنَ من الليل فدلَّ على أنهن لا يمنعن بالنهار، وصلاة الجمعة نهارية. الباب
الذي تقدم في الكلام على الأذان.
(1/61)
(بَابُ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ) لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} [الجمعة: 9] وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ. وَكَانَ أَنَسٌ فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ. هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة بنحوه كما سبق به في الباب، قيل: وبه قال النخعي وأبو عبد الرحمن السلمي والحكم وأبو هريرة. وعن أبي يوسف من ثلاثة فراسخ، وعنه إذا أمكنه المبيت في أهله وهو اختيار كثير من الشيوخ لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى أَهْلِهِ» ضعفه الترمذي وغيره وقد تقدم، وعن أبي حنيفة لا تجب إلا على ساكن المصر أو بعيدًا، وعن محمد إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة وهو قول مالك والليث، وفي «منية المفتي»: على أهل السواد الجمعة إذا كانوا على قدر فرسخين هو المختار، وعنه إذا كان أقل من فرسخين، وعن معاذ تجب من خمسة عشر فرسخًا، وقيل: إذا سمع صوت النداء وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق لحديث ابن عمر مرفوعًا: «الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ».ورُوِيَ أيضًا موقوفًا قال البيهقي: والذي رفعه ثقة وله شواهد، قال ابن المنذر: تجب عند ابن المنكدر وربيعة والزهري من أربعة أميال، وقال الزهري أيضًا: ستة أميال، وعن مالك والليث ثلاثة، وحكى أبو حامد عن عطاء عشرة أميال.
(1/62)
902 - وذكر البخاري بعد هذا حديث عائشة: «كَانَ النَّاسُ يَتَنَاوَبُوْنَ الجُمُعَةَ مِنَ العَوَالِيْ) الحديثَ. وقد تقدم وقال هنا في أول السند: حَدَّثَنا أحمد، حدَّثَنَا ابن وهب، قال أبو نعيم الأصبهاني: هو أحمد بن عبد اللهثم روى الحديث هو والإسماعيلي من طريق أحمد بن عيسى المصري عن ابن وهب. [خ¦902] وقال الحيَّاني: نسبه ابن السكن أحمد بن صالح المصري، وقال الحاكم أبو عبد الله: قيل إنه ابن صالح المصري وقيل: ابن عيسى التُّستري، وقال الكلاباذي: قال أبو أحمد الحاكم: أحمد بن وهب في «الجامع» هو ابن أخي ابن وهب، قال الحاكم أبو عبد الله: من قال هذا وهم وغلط دليله أن المشايخ الذين ترك البخاري الرواية عنهم في «الجامع» قد روى عنهم في سائر مصنفاته وليس له عن ابن أخي ابن وهب رواية في موضع، فهذا يدل على أنه لم يكتب عنه أو كتب عنه ثم ترك الرواية عنه. قال أبو نصر: قال ابن مَنْدَه: كما قال البخاري في «الجامع»: حدثنا أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح ولم يخرج عن ابن أخي ابن وهب في «الصحيح»، وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبه. و (يَتَنَاوبُونَ) أي يجيئون والانتياب المجيء نوبًا، وأصله ما كان من قرب كالفرسخ والفرسخين. وقولها: (فَيَأْتُونَ فِي الغُبَارِ) قال ابن قُرْقُولٍ: كذا رواه الفَِربري، وحكاه الأَصِيلي عن النسفي، قال: وهو وهم والصواب: <فيأتون في العَبَاء ويصيبهم الغبار> وقال: كذا هو عند القابسي. والعباءة والعَباية لغتان مشهورتان، والله أعلم. (بَابُ وَقْتُ الجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. قال ابن المنذر: الأثر عن أبي بكر وعمرو بن مسعود في جواز صلاة الجمعة قبل الزوال لا يثبت. وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: الآثار عن هؤلاء الصحابة لا تثبت، وقال الشيخ محيي الدين: أما الأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان فضعيف باتفاقهم. انتهى كلامه.
(1/63)
وكأنه غير جيد لما نُبَيِّنُهُ، أما التعليق المروي عن عمر فذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابي عن عبد الله بن سَيْدَان السُّلَامي قال: «شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْنَا مَعَ عُمَرَ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْنَا مَعَ عُثْمَانَ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ» ثابتٌ قال ابن سعد: كان ثقة وكذا قاله أبو داود، وذكره ابن حبان وابن خلفون في كتاب «الثقات»، وابن سَيْدَان وثَّقَهُ العجلي، وذكره ابن حبان في كتاب «الثقات»، وابن سعد في جملة الصحابة وكذا ابن شاهين وبعده أبو موسى وغيره، وروى حديثه هذا أيضًا أحمد في «مسنده».وفي «موطأ مالك» عن عمه عن أبيه قال: «كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِبٍ تُوْضَعُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ ثُمَّ يرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَيَقِيْلُ قَائِلَةَ الضُّحَى».قال ابن حزم: هذا يوجب أن صلاة عمر الجمعة كانت قبل الزوال، لأن ظل الجدار ما دام في المغرب منه شيء فهو قبل الزوال، فإذا زالت الشمس صار الظل في الجانب الشرقي ولا بد. وأما التعليق عن علي فذكره ابن أبي شيبة عن وكيع عن أبي العنبس عمرو بن مروان عن أبيه قال: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ عَلِيٍّ، إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ».وحَدَّثَنَا علي بن مسهر، حَدَّثَنا إسماعيل بن سُمَيْع عن أبي رَزِين قال: «كُنَّا نُصَلِّيْ مَعَ عَلِيٍّ الجُمُعَةَ، فَأَحْيَانًا نَجِدُ فَيْئًا وَأَحْيَانًا لَا نَجِدُ» وهذا الثاني إسناده صحيح.
(1/64)
وقال ابن حزم: روينا عن أبي إسحاق قال: «شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يُصَلِّي الجُمُعَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ». وقال ابن الأثير: وقد روى زهير عن أبي إسحاق: «أَنَّهُ صَلَّىَ خَلْفَ عَلِيٍّ الجُمُعَةَ فَصَلاَّهَا بِالهَاجِرَةِ بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَأَنَّهُ رَآهُ قَائِمًا يُصَلِّيْ».وأما التعليق عن النعمان فرواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد الله بن موسى، حَدَّثَنا حسن بن صالح عن سماك قال: «كَانَ النُّعْمَانُ يُصَلِّيْ بِنَا الجُمُعَةَ بَعْدَمَا تَزُوْلُ الشَّمْسُ».والتعليق عن عمرو رواه ابن أبي شيبة بسند لا بأس به عن محمد بن بشير العَبْدي، حَدَّثَنا عبدُ الله بنُ الوليدِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، قال: «مَا رَأَيْتُ إِمَامًا كَانَ أَحْسَنَ صَلَاةً لِلْجُمُعَةِ مِنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، كَانَ يُصَلِّيهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ».903 - وذكر البخاري بعد هذا حديث عائشة المذكور قبل: «كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ». [خ¦903] ومناسبته لهذا الباب أن الرواح لا يكون إلا بعد الرواح قاله الإسماعيلي. وعند البيهقي: «كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ». وعند أبي داود: «مُهَّان أَنْفُسِهِمْ».وعند الإسماعيلي: «كَانَ النَّاسُ أَهْلَ عَمَلٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُفَاةٌ، فَكَانُوا يَكُونُ لَهُمْ نَقْلٌ، ومَهَنَة أَنْفُسِهِمْ» قَالَ ابنُ التِّيْنِ: بفتح الميم والهاء جمع مَاهِن وهو الخادم.
(1/65)
904 – حَدَّثَنا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عنْ عُثْمَانَ بْنِ عبد الرحمن بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ». [خ¦904] 905 – حَدَّثَنا عَبْدَانُ، أخْبَرَنَا عبد الله، أخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عنْ أَنَسٍ: «كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الجُمُعَةِ». قالَ الترمذي: هذا هو الذي أجمع عليه أكثر أهل العلم أن وقت الجمعة كوقت الظهر ويستدل لمذهب أحمد بما أسلفناه وبحديث جابر من عِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا -يَعْنِي النَّوَاضِحَ- فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» ويخدش في هذه الرواية ما في النسائي: «ثُمَّ نَرْجِعُ فَنُرِيحُ نَوَاضِحَنَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قُلْتُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ؟ قَالَ: زَوَالَ الشَّمْسِ». [خ¦905] وأيضًا فإنه أخبر أن الصلاة والرواح كانا حين الزوال لا أن الصلاة قبله. فإن قيل: قوله: (حِيْنَ الزَّوالِ) لا تسع هذه الجملة فيجاب بأن المراد نفس الزوالوما يدانيه. ويستدل أيضًا بما رواه عطاء قال: «اجْتَمَعَ يَوْمُ فِطْرٍ وَيَوْمُ الجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً، لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ» رواه أبو داود. وفي رواية: «فَسُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ».ويُسْتَدَلُّ أيضًا بحديث سهل بن سعد من عند الشيخين: «مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
(1/66)
ويُسْتَدَلُّ أيضًا بحديث سلمة بن الأكوع عند الشيخين: «كُنَّا نُصَلِّيْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ» لكن يخدش في استدلالهم به ما في الرواية الأخرى: «وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ» فإن الأولى مطلقة وهذه مبيَّنة فيها وقتُ فعلها وهو الزوال، ويقال أيضًا هذا حجة للجماعة في كونها بعد الزوال، لأنه ليس معناه أنه ليس للحيطان شيء من الفيء، وإنما معناه ليس لها فيءٌ كثير بحيث يستظل به المار، لم يَنْفِ أصل الظل وإنما نفى كثيره، ويوضحه الرواية الأخرى: «يَتَتَبَّعُ الفَيْءَ» ففيه تصريح بوجود الفيء لكنه قليل، ومعناه: أن حيطانهم قصير وبلادهم متوسطة من الشمس فلا يظهر هناك الفيء بحيث يستظل به إلا بعد زمن طويل. ويُسْتَدَلُّ أيضًا بحديث سهل بن سعد من عند الشيخين: «مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وبحديث أنس المذكور عند البخاري، وربما رواه مالك في «الموطأ» عن عمرو بن يحيى عَنِ ابنِ أَبِي سَلِيطٍ: «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ».قال ابن سَلِيط: وَكُنَّا نُصَلِّي الْجُمُعَةَ مَعَهُ ونَنْصَرِفُ وَمَا لِلْجُدُرِ ظِلٌّ، قَالَ مَالِكٌ: وَذلِكَ لِلتَّهْجِيرِ، وَسُرْعَةِ السَّيْرِ.
(1/67)
وقال ابن حزم: بين المدينة ومِلَل اثنان وعشرون ميلًا ولا يجوز البَتَّةَ أن تزول الشمس ثم يخطب ويصلي الجمعة ثم يمشي هذه المسافة إلا من ركع ركض البريد، وبقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيْدَانِ» وبقوله أيضًا: «هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ عِيْدًا للمُسْلِمِيْنَ فَصَارَ كَالفِطْرِ وَالأَضْحَى فَتَصحُّ الصَّلاَةُ فِي وَقْتِهِمَا» ورجح بعضهم حديث أنس الأول على حديثه الثاني لأمرين: الأول: الرواية الأولى أضافها إليه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. والثانية: لم يذكر فيها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولا زمانه. قوله: (كُنَّا نُبَكِّرُ) أي نأتيها بُكْرَةً، أي: لتحصيل البدنة ونؤخر القيلولة إلى بعد الصلاة، لأنهم لو قالوا قبلها لفاتهم فضيلة البدنة. ويُسْتَدَلُّ للجماعة بحديث أنس وعائشة المذكورين قبل وبالروايات السابقة وبحديث رواه البيهقي من طريق مسلم بن جُنْدَبٍ عن الزبير بن العوام قال: «كُنَّا نُصَلِّيْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الجُمُعَةَ ثُمَّ نَبْتَدِرُ الْفَيْءَ، فَمَا يَكُونُ إِلَّا مَوْضِعُ الْقَدَمِ أَوِ الْقَدَمَيْنِ» ولَمَّا خرجه الحاكم قال: صحيح الإسناد. وعند ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا سفيانُ عن عمرو عن يوسف بن مَاهك قال: «قَدِمَ مُعَاذُ وَهُمْ يُجَمِّعُونَ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ: لَا تُجَمِّعُوا حَتَّى تَفِيءَ الْكَعْبَةُ مِنْ وَجْهِهَا» ورواه الشافعي عن سفيان وقال: ووجها الباب يريد معاذ حتى تزول الشمس. وقال ابن حزم: روينا عن ابن عباس قال: «خَرَجَ عَلَيْنَا عُمَرُ حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ».وفي «المصنف» عن مغيرة عن إبراهيم قال: «وَقْتُ الجُمُعَةِ وَقْتُ الظُّهْرِ».
(1/68)
وعن بلال العَبْسِي: «أَنَّ عَمَّارًا صَلَّىَ بِالنَّاسِ الجُمُعَةَ وَالنَّاسُ فَرِيْقَانِ بَعْضُهُمْ يَقُوْلُ زَالَتِ الشَّمْسُ وَبَعْضُهُمْ يَقُوْلُ: لَمْ تَزُلْ».وقال ابن عون: «كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْفَيْءُ هُنَيْهَةٌ».وعن الحسن: «وَقْتُ الجُمُعَةِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ».وعند ابن ماجه عن سعد القرظ قال: «كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ». (بابٌ إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
(1/69)
906 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنا أَبُو خَلْدَةَ هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: «كَانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا اشْتَدَّ البَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ بَرَّدَ بِالصَّلاَةِ» يَعْنِي الجُمُعَةَ. [خ¦906] قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو خَلْدَةَ، وقَالَ: بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الجُمُعَةَ. هذا رواه الإسماعيلي عن أبي الحسن الصوفي، أخْبَرَنَا ابن هشام عن يونس بلفظ: «إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِهَا يَعْنِيْ: الظُّهْرَ».وعند البيهقي: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَنْبٍ، حدَّثَنَا أبُو إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ، حَدَّثَنا يونسُ، أخْبَرَنَا خالد بن دينار أبو خلدة: «سَمِعْتُ أَنَسًا وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ الحَكَمِ أَمِيْرِ البَصْرَةِ عَلَى السَّرِيْرِ يَقُوْلُ: ... ) الحديثَ. وعند النسائي: «أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ أَخَّرَ صَلاَةَ الْجُمْعَةَ، فَتَكَلَّمَ يَزِيدٌ الضَّبِيُّ وَنَادَىَ أَنَسًا يَا أَبَا حَمْزَةَ، شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَشَهِدْتَ مَعَنَا، فَكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ ... » الحديثَ. وقال بشر بن ثابت، أخبرنا أبو خلدة: «فَصَلَّى بِنَا أَمِيرٌ الجُمُعَةَ، ثُمَّ قَالَ لِأَنَسٍ: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ؟».
(1/70)
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: حَدَّثَنا علي بن محمد بن حاتم، حَدَّثَنا أزهر بن مرزوق، حَدَّثَنا بشر بن ثابت، حَدَّثَنا أبو خلدة بلفظ: «إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ يُبَكِّرَ بِالظُّهْرِ, وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ أَبْرَدَ بِهَا، وَلكن يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ».ورواه البيهقي عن أبي عبد الله الحافظ أخبرني أبو أحمد بن محمد، أخبرنا إبراهيم بن محمد الفرائضي، حَدَّثَنا أحمد بن عبد الرحمن الكُزْبَرَاني، حَدَّثَنا بشر بن ثابت فذكره: «وَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ أَخَّرَهَا».قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اسْتُدِلَّ بهذا الحديث على أن وقت الجمعة وقتُ الظهر وأنها تصلى بعد الزوال ولا يكون الإبراد إلا بعد تمكن الوقت وفي المعنى لا فرق في استحباب إقامتها عقب الزوال من شدة الحر ومن غيره، فإن الجمعة يجتمع لها الناس فلو انتظروا الإبراد شق عليهم وكذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد والله تعالى أعلم. (بَابُ المَشْيِ إِلَى الجُمُعَةِ وَقَوْلِ اللهِ تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَمَنْ قَالَ: السَّعْيُ العَمَلُ وَالذَّهَابُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]) السعي في لسان العرب يكون الإسراعَ في المشي والاشتدادَ قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ» كذا ذكره الهروي وغيره.
(1/71)
وفي «الْمُحْكَمِ»: السعي عَدْوٌ دون الشدِّ سَعَى يَسْعَى سَعْيًا، والسعي الكسب وكل عمل من خير أو شر سَعْيٌ والفعل كالفعل، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ذهب مالك إلى أن المشي والمُضِيَّ يُسَمَّيَان سعيًا، من حيث كانا عملًا، وكل من عمل بيديه أو غيره فقد سعى، وأما السعي بمعنى الجَرْي فهو الإسراع يقال: سعى إلى كذا بمعنى العَدْو والجري فيتعدى بإلى، وإن كان بمعنى العمل تعدى باللام قال تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وإنما يتعدى سعى للجمعة بإلى لأنه بمعنى المضي. وقال الحسن: (أَمَا وَاللهِ مَا هُوَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِم السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَكِنْ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّاتِ وَالْشَّرْعِ) وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء وهو مذهب البخاري. وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود يَقْرَؤوْنَ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى. قال ابن مسعود وعمر بن الخطاب: لَوْ قَرَأَتُهَا فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي، وقال عمر لِأُبَيٍّ: وقرأ {فَاسْعَوا} لا تزال تقرأ المنسوخ، كذا ذكره ابن الأثير. وفي «المعاني» للزجاج: وقرأ ابن مسعود وأُبَي فَامْضُوا، وقد رُوِيَتْ عن عمر ولكن اتباع المصحف أولى، ولو كانت عند عمر فَامْضُوا لا غير لغيرها في المصحف، والدليل على أن معنى السعي التصرف في كل عمل قول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 40] الآية، فلا اختلاف في أن معناه وأن ليس للإنسان إلا ما عمل، وفي «تفسير عبد بن حميد»: حَدَّثَنا أبو النضر عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبَي وابن مسعود: أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَأانِ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ.
(1/72)
وفي قوله أيضًا عن عمر لِأُبَيٍّ (لا تزال تقرأ المنسوخ) نظرٌ، والذي في «تفسير عبد» قيل لعمر: إنَّ أُبَيًّا يقرأ فاسعوا إلى ذكر الله، فقال عمرُ: أُبَيٌّ أعلمنا بالمنسوخ. وكان يقرؤها فامضوا إلى ذكر الله. وفي التفسير المنسوب لابن عباس: ليس السعي إليها بالرجلين ولكن يقول امضوا إليها، والذكر صلاة الجمعة. وقوله: ({مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}) وفي تفسير أبي القاسم الجوزي المسمى «بالإيضاح»: {فَاسْعَوا} أي فاقصدوا إلى صلاة الجمعة، وقوله: ({مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}) أي في يوم الجمعة. ولما ذكر الفراء في كتاب «المعاني» قراءة عبد الله فامضوا قال: الْمُضِيُّ والسعيُ والذهاب في معنى واحد لأنك تقول للرجل وهو يسعى في الأرض وليس هذا باشتداد، وقد قال بعض الأئمة: لو قرأتها فاسعوا لاشْتَدَدْتَ ولأسرعت، والعرب تجعل السعي أسرع من المضي، والقول فيها القول الأول. وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يَحْرُمُ البَيْعُ حِينَئِذٍ، قال ابن حزم: روينا من طريق عكرمة عن ابن عباس لا يصلح البيع يوم الجمعة حتى يُنَادى بالصلاة فإذا قضيت الصلاة فَاشْتَرِ وَبِعْ، وقال عطاء: تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا. هذا التعليق رواه عبد بن حميد الكشي في «تفسيره الكبير»: عن روح عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: هل من شيء يحرم إذا نودي بالأولى سوى البيع؟ فقال عطاء: إذا نودي بالأولى حرم البيع، واللهو، والصنعات كلها بمنزلة البيع، والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابًا. وقال الزجاج: البيع من وقت الزوال من يوم الجمعة إلى انقضاء الصلاة كالحرام، وقال الفراء: إذا أذن المؤذن حَرُم البيع والشراء، لأنه إذا أُمِرَ بترك البيع فقد أُمِرَ بترك الشراء، لأن المشتري والبائع يقع عليهما البيعان.
(1/73)
وفي «تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي» عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «تَحْرُمُ التِّجَارَةُ عِنْدَ الأَذَانِ، وَيَحْرُمُ الكَلاَمُ عِنْدَ الخُطْبَةِ، وَيَحِلُّ الكَلاَمُ بَعْدَ الخُطْبَةِ، وَتَحِلُّ التِّجَارةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ» الحديثَ. وذكر عبد سبب نزول هذه الآية الكريمة: أن رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام فربما قَدِمَا يوم الجمعة ورسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ فَيَدَعَانِهِ وَيَقُوْمَانِ فَمَا هُمَا إِلَّا بَيْعًا حتى تقام الصلاة فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَذَرُوا البَيْعَ} [الجمعة: 9] فحرَّمَ عليهما ما كان قبل ذلك، رواه عن عبيد الله بن موسى عن موسى بن عُبَيْدَةَ عن محمد بن كعب القُرَظِي فذكره. وعن قتادة: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] حرم الشراء والبيع، وقال الضحك إذا زالت الشمس، وعن عطاء الحسن مثله وعن أيوب: لأهل المدينة ساعة يوم الجمعة ينادون حَرُمَ البيع وذلك عند خروج الإمام، وعند ميمون بن مهران كان ذلك إذا أذن المؤذن، وابْتَاع أهل القاسم من عطَّارٍ شيئًا وخرج القاسم إلى الجمعةفوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يتناقضوه. وفي «المصنف» عن مسلم بن يسار: «إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّهَارَ قَدِ انْتَصَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَا تَبْتَاعَنَّ شَيْئًا». وكان عمر بن عبد العزيز يمنع الناس البيع يوم الجمعة إذا نودي بالصلاة، وعن مجاهد من باع شيئًا بعد زوال الشمس يوم الجمعة فإن بيعه مردود، وعن بُرْدٍ قلت للزهري: متى يحرم البيع والشراء يوم الجمعة؟ فقال: كان الأذان عند خروج الإمام فأحدث عثمان التأذينة الثالثة فأذن على الزوراء ليجتمع الناس فأراد أن يترك البيع والشراء عند التأذينة.
(1/74)
وعن الشعبي في الساعة التي ترجى في الجمعة قال: فيما بين أن يَحْرُمَ البيع إلى أن يحلَّ. مذهب أبي حنيفة إذا أذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الأذانَ الأول ترك الناس البيع وتوجهوا إلى الجمعة، والاعتبار بالأذان قبل الزوال، وفي «المنافع» المعتبر الأذان بعد الزوال، وفي رواية ابن القاسم عن مالك: عند النداء الثاني والإمام على المنبر، وذهب أبو حنيفة وصاحباه وزفر والشافعي إلى أن البيع يجوز وقت النداء مع الكراهة، وقال: أحمد وداود ومالك في رواية: لا يصح، وعن الثوري البيع صحيح وفاعله عاصٍ لله تعالى. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: النهي لم يقع على البيع وإنما جرى ذكر البيع، لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة عن الجمعة، والنهي المقصود من ذلك: كل ما يمنع من إتيانها، وقد أجمع العلماء على أن المصلي لا يحل له في صلاته بيع ولا شراء، فلو قال رجل لآخر: بِعْنِي سلعتك بكذا فأجابه الآخر وهو في الصلاة بنعم أو بكلام ينعقد به البيع، أن البيع جائز وإن كان عاصيًا. وروى ابن القاسم عن مالك أن البيع مفسوخ، وروى ابن وهب وعلي بن زياد بئس ما صنع ويستغفر الله تعالى، قال ابن القاسم: لا يفسخ ما عقد حينئذ من النكاح، ولا تفسخ الهبة والصداقة والرهن والحمالة. وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: كل من لزمه النزول للجمعة يحرم عليه ما يمنعه منه من بيع أو نكاح أو عمل. قال: واخْتُلِفَ في النكاح والإجارة قال: وذكر القاضي أبو محمد: أن الهبات والصدقات مثل ذلك. وفي «شرح الهداية»: ينبغي أن يَحْرُمَ البيعُ والشراءُ قبلَ الزوال أيضًا إذا كان منزله بعيدًا عن الجامع بحيث يفوت عليه صلاة الجمعة. وفي «المغني»: عن أحمد يحرم البيع بزوال الشمس وإن لم يجلس الإمام على المنبر قال: ولا يصح هذا وتحريم البيع ووجوب السعي مختص بالمخاطبين بالجمعة فأما غيرهم فلا يثبت في حقه.
(1/75)
قال: وذكر ابن أبي موسى في غير المخاطبين روايتين، قال ابن حزم: ولا يحل البيع من أثر استواء الشمس ومن أول أخذها في الزوال والميل إلى أن تنقضي صلاة الجمعة ويفسخ البيع أبدًا إن وقع، قال ابن قدامة: ولا يحرم غير البيع من العقود وكالإجارة والصلح والنكاح، وقيل: يحرم وبالأول قال ابن حزم. قال البخاريُّ: قالَ إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهْوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أنْ يَشْهَدَ. في مراسيل أبي داود عن قتيبة عن أبي صفوان عَنِ ابنِ أَبِي ذِئْبٍ عن صَالِح بْن كَثِيرٍ: أَنَّ ابنَ شِهَابٍ خَرَجَ لِسَفَرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خَرَجَ لِسَفَرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَار» ورواه ابن أبي شيبة عن الفضيل حدَّثَنَا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بغير واسطة. وقال ابن المنذر: وقد اخْتُلِفَ فيه على الزهري وقد رُوِيَ عنه مثل قول الجماعة أنه لا جمعة على مسافر. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأكثر العلماء على أنه لا جمعة على المسافر، حكاه ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب وابن عمر ومكحول وعروة بن المغيرة ونفر من أصحاب عبد الله وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وإبراهيم النخعي وعبد الملك بن مروان وابن مسعود والشعبي وعمر بن عبد العزيز، ولما ذكر ابن التين قول الزهري قال: إن أراد بها فهو قول شاذ. وفي «شرح المهذب»: أما السفر ليلتها -يعني الجمعة- قبل طلوع الفجر فيجوز عندنا وعند العلماء كافة إلا ما حكاه العبدري عن إبراهيم النخعي قال: لا يسافر بعد دخول العشي من يوم الخميس حتى يصلي الجمعة وهذا مذهب باطل لا أصل له. انتهى.
(1/76)
بل له أصل صحيح رواه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن جريج عن عطاء عن عائشة قالت: «إِذَا أَدْرَكَتْكَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، فَلَا تَخْرُجْ حَتَّى تُصَلِّي الْجُمُعَةَ».وأما السفر يوم الجمعة بين الفجر والزوال فَجَوَّزَهُ عمر والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وابن عمر والحسن ومحمد بن سيرين وبه قال مالك بن أنس، وقال في «شرح المهذب»: الأصح تحريمه وبه قال ابن عمر وعائشة والنخعي، وفي كتاب البيهقي وعمر بن عبد العزيز وحسان بن عطية ومعاذ بن جبل، انتهى. قد سبق من عند ابن أبي شيبة أن ابن عمر قال بعكسه، والسند إليه صحيح رواه عن عباد بن العوام عن يحيى بن سعيد عن نافع والذي ذكره هو رواه الدَّارَقُطْني في «الأفراد» من حديث ابن لهيعة. قال النووي: وأما السفر يوم الجمعة بعد الزوال إذا لم يَخَفْ فَوْتَ الرفقة ولم يُصَلِّ الجمعة في طريقه فلا يجوز عندنا وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وداود، وجوَّزه أبو حنيفة. 907 - حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ، قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسِ بنُ جَبْرٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الجُمُعَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ» فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا عَبْسٍ يَقُولُ: الحديثَ. [خ¦907] وفي لفظ: «أَبْشِرْ فَإِنَّ خُطَاكَ هَذِهِ فَيْ سَبِيْلِ اللهِ» انتهى. روى البخاري عن علي بن عبد الله المدني، وعلي بن عبد الله بن إبراهيم لكنه أكثر عن ابن المديني، وابن إبراهيم إنما روى عنه حديثًا واحدًا في النكاح، وأبو عبس اسمه عبد الرحمن الأوسي وقيل: عبد اللهوقيل: كان اسمه عبد العُزَّى في الجاهلية، شهد بدرًا، ويزيد هذا بالزاي شامي والذي قالوا كوفي.
(1/77)
وفي حديث ابن عمر عن أبي بكر الصديق: «حَرَّمَهُمَا اللهُ عَلَى النَّارِ» رُويناه من حديث الرازي: أخبرنا شعيب بن عبد الله بن المنهال المصري، أخبرنا أحمد بن الحسن بن عُتْبَة الرازي، أخبرنا أحمد بن عمرو البصري حَدَّثَنا الفلَّاس، حَدَّثَنا أبو نصر التَّمَّار، أخبرنا كوثر بن حكيم عن نافع عنه. وفي «معجم ابن الْمُقْرِي» حَدَّثَنا أبو يعلى، حَدَّثَنا أبو موسى، حَدَّثَنا معاذ بن هاني، حَدَّثَنا محمد بن عبيد الله بن عبيد بن عمير سمعت أبا معاوية عَنِ ابنِ عُبَيْدِ بنِ السَّبَّاقِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يرفعه: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا رَجُلٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّار».وعند ابن عساكر من حديث سهر عن ابن غنم عن معاذ يرفعه: «وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا رَجُلٍ وَلاَ وَجْهُهُ فَيْ عَمَلٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَعْدَ المكْتُوْبَةِ مِنْ جِهَادٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ».وعند المخلص بسند جيد عن عبادة يرفعه: «لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ». وفي «الحلية» من حديث عطية عن أبي سعيد مثله. وفي «مسند أحمد» بسند جيد عن أبي هريرة وعنده عن جابر: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ». وعنده عن مالك بن عبد الله الخثعمي مثله. وعند الطبراني عن أبي الدرداء: «لَا تَلْثِمُوا مِنَ الْغُبَارِ فِي سَبِيلِ اللهِ, فَإِنَّهُ مِسْكِ الْجَنَّةِ».وعنده عن أنس: «الْغُبَارُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِسْفَارُ الْوُجُوهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
(1/78)
وعند
ابن عساكر عن أبي أمامة: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَغْبَرُّ وَجْهُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ
إِلَّا أَمَّنَ اللهُ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَغْبَرُّ
قَدْمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا أَمَّنَ اللهُ قَدَمَيْهِ من النَّارِ يَوْمَ
الْقِيَامَة».وروينا عن الخلعي من حديث إسماعيل بن عباس عن الأوزاعي عن عبد الرحمن
بن القاسم عن أبيه عن عائشة: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ،
فَلَنْ يَلِجَ النَّارَ أَبَدًا».وكان أبو هريرة يأتي الجمعة ماشيًا فإذا رجع إن
شاء ماشيًا وإن شاء راكبًا، وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الركوب إلى الجمعة
والعيدين، ذكره ابن أبي شيبة، وفي كتاب «الفضائل» لحميد بن زنجويه: حَدَّثَنا أبو
أيوب الدمشقي، حدَّثَنَا سويد بن عبد العزيز، حَدَّثَنا أَبُو نَصِيْرٍ
الْوَاسِطِيُّ، عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
«جَاءَ أَعْرَابِيٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا
رَسُوْلَ اللهِ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: الْجُمُعَةُ كَفَّارَاتٌ لِمَا
بَيْنَهُنَّ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَزِيَادَةٌ،
وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ بكُلِّ
قَدَمٍ مِنْهَا كَعَمَلِ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْجُمُعَةِ
أُجِيزَ بِعَمَلِ مِئَتَيْ سَنَةً».قالَ: وحَدَّثَنَا إسحاق، حَدَّثَنا بقية عن
أبي رجاء عن عمران بن حصين وأبي بكر فذكرها مثله وفي «قنية المنية»: الأصح أن يمشي
على السكينة والوقار، والمستحب المشي إليها، لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما
ركب في جمعة قط، وفي الرجوع اختلاف. الحديثان اللذان بعده تقدم ذكرهما وكذا الباب.
(بابٌ لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَقْعُدَ مَكَانَه)
(1/79)
911 - حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ نَافِعًا، سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ» قُلْتُ لِنَافِعٍ: الجُمُعَةَ؟ قَالَ: الجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. [خ¦911] في «مسند أبي قُرَّةَ السَّكْسَكِي» قال نافع: فكان ابن عمر يقوم له الرجل من مجلسه فلا يجلس فيه. قال: وذكر ابن جريج عن سليمان بن موسى أن جابر بن عبد الله قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا يُقِمْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ إِلَى مَقْعَدِهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ: افْسَحُوا).ذكر ابن قدامة في «المغني»: إنما كُرِهَ ذلك، لأن المسجد بيت الله تعالى والناس فيه سواء فمن سبق إلى مكان فإن قدَّم صاحبًا فجلس في موضع حتى إذا جاء قام وأجلسه مكانه كما كان ابن سيرين يفعل يرسل غلامه يوم الجمعة فيجلس في مكان فإذا جاء محمد قام الغلام، فإن لم يكن له نائب وجاء فقام له شخص ليجلسه مكانه جاز، لأنه قام باختياره، فإن انتقل القائم إلى مكان أقرب من الأول إلى سماع الخطبة فلا بأس، وإن انتقل إلى دونه كُرِهَ ويحتمل أنه لا يكره، لأن تقديم أهل الفضل إلى ما يلي الإمام مشروع لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لْيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» انتهى. كنت يومًا أصلي العصر في مسجد فجاء الشيخ زين الدين عمر بن أبي الحزم المعروف بابن الكتَّاني شيخ الشافعية في وقته على الإطلاق فتأخرت له عن مكاني فأبى وصلى في غيره، فلما فرغ قال لي: أنا لا أرى بالإيثار في القُرَبِ.
(1/80)
قال ابن قدامة: فلو آثر شخصًا بمكانه لم يجز لغيره أن يسبقه إليه، وقال ابن عَقِيْلٍ: يجوز لأن القائم أسقط حقه بالقيام فبقي على الأصل، وإن فرش مصلاه في مكان ففيه وجهان: أحدهما: يجوز رفعه والجلوس في موضعه، لأن السبق بالأجسام لا بالمصلى. والثاني: لا يجوز، وقال القاضي أبو الطيب: يجوز إقامة الرجل في ثلاث صور وهو أن يقعد في موضع الإمام، أو في طريق يمنع الناس من المرور فيه، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة. انتهى. كأنَّ البخاري نَحَا في تبويبه إلى أن الزحام يكون في الجمعة كثيرًا والاحتياج إلى الجلوس في مكان الغير موجودًا، والمقصود من ذلك التبكير إلى الجمعة فإنه إذا بكَّر لم يحتج إلى شيء من ذلك. (بَابُ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)
(1/81)
912 - حَدَّثَنا آدَمُ، حدَّثَنَا ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَعَلَى الزَّوْرَاءِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الزَّوْرَاءُ: مَوْضِعٌ بِالسُّوقِ بِالْمَدِينَةِ. [خ¦912] وفي لفظ عنه: «لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ».وفي لفظ: «أَمَرَ عُثْمَانُ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ».وفي لفظ: «أَمَرَ عُثْمَانُ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ».وعند الشافعي حَدَّثَنا بعض أصحابنا عن أبي ذئب وفيه: «ثُمَّ أَحْدَثَ عُثْمَانُ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ عَلَى الزَّوْرَاءِ». وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: زاد فيه غير السائب «لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ غَيْرَ مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ». انتهى كلامه. وفيه نظرٌ لما أسلفناه من عند البخاري أن السائب قال: ذلك لا غيره. وعند النسائي عن السائب: «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ، ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ».ولأبي داود: «كَانَ يُؤَذَّنُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ».
(1/82)
وفي «صحيح ابن خزيمة» عن السائب: «كَانَ النِّدَاءُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ تعالى فِي الْقُرْآنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ, وَإِذَا قَامَتِ الصَّلَاةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ, حَتَّى كَانَ عُثْمَانُ, فَكَثُرَ النَّاسُ, فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ». قال ابن خزيمة: والدليل على أنه أراد بِقَوْلِهِ: وَإِذَا قَامَتِ الصَّلَاةُ: النِّدَاءَ الثَّانِيَ الْمُسَمَّى إِقَامَةً، أَنَّ سَلْمَ بْنَ جُنَادَةَ حَدَّثَنا قال: حَدَّثَنا وَكِيعٌ، عَنِ ابنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ: «كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ, وَأَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ أَذَانَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, حَتَّى كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ, فَأَمَرَ بِالْأَذَانِ الْأَوَّلِ بِالزَّوْرَاءِ».وفي «تفسير عبد بن حميد» حَدَّثَنا عبد الملك بن عمرو، حَدَّثَنا عبد الله بن جعفر عن إسماعيل بن محمد عن السائب قال: «النِّدَاءُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ, وَعَامَّةِ خِلاَفَةِ عُثْمَانَ فَلَمَّا تَبَاعَدَتِ المنَازِلُ وَكَثُرَ النَّاسُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ فَلَمْ يُعِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعِيْبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلاَةِ بِمِنًى» الحديثَ. وفي «مصنف عبد الرزاق» عن ابن جريج قال سليمان بن موسى: أَوَّلُ مَنْ زَادَ الْأَذَانَ بِالْمَدِينَةِ عُثْمَانُ، قَالَ عَطَاءٌ: كَلَّا إِنَّمَا كَانَ يَدْعُو النَّاسَ دُعَاءً، وَلَا يُؤَذِّنُ غَيْرَ أَذَانٍ وَاحِدٍ.
(1/83)
وفي «تفسير عبد» حَدَّثَنا عبيد الله بن موسى عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال: إِنَّمَا هُوَ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ. وعند الحاكم من حديث مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «كَانَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ أَقَامَ الصَّلاَةَ» وقال: صحيح الإسناد، وهشام ممن يجمع حديثه. وفي «المصنف» عن الحسن: «النِّدَاءُ الْأَوَّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَالَّذِي قَبْلَ ذَلِكَ مُحْدَثٌ» وكذا قاله ابن عمر. وفي رواية: «عند الْأَذَانُ الْأَوَّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِدْعَةٌ».وعن الزهري: «أَوَّلُ مِنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ عُثْمَانُ، لِيُؤْذَنَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ».وفي لفظ: «فَأَحْدَثَ عُثْمَانُ التَّأْذِينَةَ الثَّالِثَةَ، عَلَى الزَّوْرَاءِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ».
(1/84)
وفي تفسير جُوَيْبِر عن الضحاك عن بُرْدِ بنِ سِنَانٍ عن مكحول عن معاذ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِلاَلًا أَنْ يُؤَذِّنَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَذَانًا وَاحِدًا، وَفَعَلَهُ أَبوْ بَكْرٍ رضي الله عنه مِنْ بَعْدِهِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الجُمُعَةَ أَذَانًا وَاحِدًا، فَلَمَّا كَانَتْ خِلاَفَةُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَكَثُرَ المسْلِمُوْنَ أَمَرَ مُؤَذِّنَيْن أَنْ يُؤَذِّنَا للنَّاسِ بِالجُمُعَةِ خَارِجًا مِنَ المسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ النَّاسُ الأَذَانَ، وَأَمَرَ أَنْ يُؤَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ المؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَبَيْنَ يَدَيْ أَبِيْ بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَمَّا الأَذَانُ الأَوَّلُ فَنَحْنُ ابْتَدَعْنَاهُ لِكَثْرَةِ المسْلِمِيْنَ وأما الأذان الثاني فَهُوَ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَاضِيَةً. قوله: (إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ) قال صاحب «الهداية»: وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يديه بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سوى هذا الأذان وهذا يرد قول ابن بطال: هذا الجلوس سنة عند العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يجلس الإمام قبل الخطبة. وقوله: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْر مُؤَذِّنٍ واحدٍ) يعني لصلاة الجمعة، وإلا فقد سبق في باب الأذان أنه كان له من المؤذنين غير واحد، ويحتمل قوله هنا على أنه أراد بلالًا لمواظبته. قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: أراد به التأذين فجاء بلفظ المؤذن، لأن فيه دلالة على التأذين.
(1/85)
وقال ابن حبيب: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَقِيَ المِنْبَرَ وَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى المنَابِرِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَانُوْا ثَلاَثَةً فَإِذَا فَرَغَ الثَّالِثُ قَامَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطِبُ. وزعم مالك في «المجموعة»: أن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه، وإنما كان الأذان على المنابر واحدًا بعد واحد إذا جلس الإمام على المنبر. قال ابن عبد البر: وقد شُبِّهَ على قوم من أصحابنا في موضع الأذان يوم الجمعة، وأنكر أن يكون الأذان في الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وزعموا أن ذلك أُحْدِثَ في زمن هشام، وهذا يدلُّ على قلة علم قائله. قالَ: والنداء الثالث هو الإقامة فقد بينا من «المصنف» وغيره ما هو هذا النداء، وأن الأذان الثاني في حديث السائب إنما يعني به الإقامة لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» يعني بين كل أذان وإقامة. قال أبو عمر: واختلف الناس هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد أو مؤذنون؟ فذكر ابن عبد الحكم عن مالك إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي وهذا يدل على أن النداء عنده لواحد بين يدي الإمام كما في حديث السائب، وعن ابن القاسم عن مالك: «إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ وَأَذَّنَ المؤَذِّنُوْنُ» بلفظ الجماعة، شَاهِدُهُ حديث الزهري عن ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ: «أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يُصَلُّونَ حَتَّى يَخْرُجَ فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُون ... » الحديثَ.
(1/86)
وكذا
حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه، قال أبو عمر: ومعلوم عند العلماء أنه يخرج أن
يكون المؤذنون واحدًا أو جماعة في كل صلاة إذا كان ذلك مترادفًا لا يمنع من إقامة
الصلاة، وعن الداودي: «كَانُوْا يُؤَذِّنُوْنَ فِيْ أَسْفَلِ المسْجِدِ لَيْسُوْا
بَيْنَ يَدَيِ الإِمَامِ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَعَلَ مَنْ يُؤَذِّنُ عَلَى
الزَّوْرَاءِ وَهِيَ كالصَّوْمَعَةِ فَلَمَّا كَانَ هِشَامُ جَعَلَ المؤَذِّنِيْنَ
أَوْ بَعْضَهُمْ يُؤَذِّنُوْنَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَارُوْا ثَلاَثَةً».و
(الزَّوْرَاء) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هو حجر كبير عند باب المسجد، وقال أبو عبيد:
هي ممدودة ومتصلة بالمدينة، وبها كانَ ملك أُحَيْحَةَ بن الجُلاحِ وهي التي عنى
بقوله: إِني مُقِيْمٌ عَلَى الزَّوْراءِ أَعْمُرُها ... إِنَّ الكَريمَ عَلَى
الإِخوانِ ذُو المالِوقال أبو عبد الله الحموي: هي قرب الجامع مرتفعة كالمنارة،
وفرق بينها وبين أرض أجنحة، وفي «فتاوى ابن يعقوب الخاصي»: هي المدينة. الأبواب
الأربعة بعد تقدم ذكرها. (بَابُ الخُطْبَةِ عَلَى المِنْبَرِ)
وَقَالَ أَنَسٌ: «خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى
المِنْبَرِ» هذا ذكره البخاري مسندًا في حنين الجذع وغيره.
917 - وحديث سهل تقدم. [خ¦917]
918 - حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
أخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أخْبَرَنِي ابنُ أَنَسٍ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ
بْنَ عبد الله قَالَ: «كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ المِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ
أَصْوَاتِ العِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ». [خ¦918]
قَالَ سُلَيْمَانُ: عَنْ يَحْيَى، أخْبَرَنِي حَفْصُ بنُ عُبَيْدِ الله بن أَنَسٍ:
سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عبد الله.
(1/87)
التعليق
عن سليمان هذا رواه البخاري في علامات النبوة مسندًا عن يحيى عن حفص، ذكر أبو
مسعود وخلف أن سليمان هذا هو ابن بلال قالا: وقد روى هذا الحديث عن يحيى عن حفص بن
عبد الله سليمان بن كثير العبدي كما قال ابن بلال ولم يذكره سماع بعضهم من بعض.
انتهى كلامهما.
وفيه نظر من حيث إن الدَّارَقُطْني ذكر أن سليمان بن كثير رواه عن يحيى بن سعيد عن
سعيد بن المسيب عن جابر، وزعم ابن مسعود الدمشقي أن البخاري إنما قال في حديث محمد
بن جعفر عن يحيى عن ابن أنس ولم يُسَمِّهِ، لأن ابن جعفر يقول فيه:
عن يحيى عن عبيد الله بن حفص بن أنس، فقال البخاري: عن ابن أنس ليكون أقرب إلى
الصواب. انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إنَّا وجدنا غير محمد بن جعفر بن أبي كثير قال كما قال محمد بن
جعفر، وفيه دلالة أن ذلك ليس منه إنما هو من يحيى بن سعيد.
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: أخبرنا المَنِيعي عن هارون بن عبد الله، حَدَّثَنا
يعقوب بن محمد، حَدَّثَنا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، حَدَّثَنا يحيى بن عبد الله
بن حفص بن أنس، قال يعقوب: إنما هو حفص بن عبيد الله بن أنس ولكن هكذا حَدَّثَنا
عن جابر قال: حَدَّثَنَاه محمد بن الهيثم، حدَّثَنَا ابن أبي مريم عن محمد بن جعفر
عن يحيى عن حفص بن عبيد الله عن جابر في حنين الجذع، ورواه أيضًا سويد بن عبد
العزيز عن يحيى بن سعيد عن حفص بن عبيد بن أنس ذكره الدَّارَقُطْني وقال: هو
الصواب، فدلَّ ما ذكرنا أن الخلاف ليس من ابن جعفر إنما هو من يحيى، وزعم الحميدي
في «جمعه» أنه ليس لابن أنس عن جابر في «الصحيح» إلا هذا الحديث الواحد. وفي «تاريخ
البخاري» قال بعضهم: عبيد الله بن حفص ولا يصح عبيد الله، ووقع في رواية أبي ذر
حفص بن عبد الله والصواب عبيد الله بالتصغير.
(1/88)
و
(العِشَارُ): الناقة تبلغ عشرة أشهر من حملها، قال ابن جني: جمع عِشَارٍ
عَشَائِرُ، وجمع عشائرَ وجمع عُشَراءَ: عُشَرَاوَات ذكره في «المخصص»، وفي
«الْمُحْكَمِ»: وقيل: العِشَار اسم يقع على النُّوْقِ حتى ينتج بعضها وبعضها
يُنتَظَر نتاجُها.
قال الفرزدق:
كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ ... فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ
عِشَارِي
قال بعضهم: ليس للعشار لبن، وإنما سماها عشارًا لأنها حديثة العهد بالنِّتاج وقد
وضعت أولادها، وعَشَّرَتِ النَّاقةُ وأَعْشَرتْ صارت عُشَرَاء، وأعشرت أيضًا أتى
عليها من نتَاجها عشرة أشهر.
وفي «تهذيب الأزهري» قال الفراء: العِشَارُ لُقَّح الإبل، وعن الأصمعي إذا بلغت في
حملها عشرة أشهر فهي عُشَراء ثم لا يزايلها ذلك الاسم حتى تضع وبعدما تضع لا
يزايلها، وقال الليث: عَشَّرَت فهي عُشَرَاء وجمعها عُشْراوات، والجميع العِشَار
قال: ويقع اسم العشار على النُّوْقِ التي نُتِجَ بعضُها وبعضها متقارب.
وفي «الْمُوعِبِ»: قال قطرب: قالوا أيضًا: أول ما تَلقح فهي عُشَراء، وعن الفراء
تجمع عُشَراوات يبلغون الألْف، وعن الداودي فيما ذكره ابن قُرْقُولٍ هي التي معها
أولادها، وعند الخطابي هي التي قاربت الولادة. وعند ابن التين: ليس في الكلام
فُعَلاء على فِعَال غيرَ نُفَساء وتجمع على نفساوات وعُشَراء على عشراوات.
قال ابن العربي في «أنوار الفجر»: حنين الجذع أعظم من اخضراره وإثماره فإن الإثمار
والاخضرار يكونان فيه بصفة والحنين والأنين لا يكونان في جنسه بحال، وذكر القزَّاز
أن هذا فيه رد على القدرية، لأنَّ الصِّياحَ ضَرْبٌ من الكلام
(1/89)
وهم
لا يجوزون الكلام إلا ممن له فم ولسان، وأما حديث جابر من عند ابن ماجه: «كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، سَلَّمَ» فمن
رواية ابن لهيعة وكذا حديث ابن عمر مثله ضَعَّفَهُ ابن عدي بعيسى بن عبد الله
الأنصاري، وعن أبي داود بسند جيد عن ابن عمر: «كَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُومُ،
فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَلَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ».
وعند ابن ماجه بسند فيه ضعف عن سعيد القرظ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ فِي الْحَرْبِ يَخْطُبُ عَلَى قَوْسٍ، وَفِي الْجُمُعَةِ
عَلَى عَصًا».
وعن الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ عند أبي داود بسند لا بأس به: «قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا، أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّه ...
» الحديثَ.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن جابر بن سمرة: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ
قَائِمًا، فَمَنْ قالَ إنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ
وَاللهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ». وممن كان يخطب قائمًا
أو أمر به: الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم والمغيرة والنعمان بن بشير وأبو هريرة
وابن مسعود وابنه أبو عبيدة وابن سيرين.
ورواه جعفر بن محمد عن أبيه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَخْطُبُ قَائِمًا» وابن عباس عنه أيضًا من رواية المحاربي حَدَّثَنا حجاج عن
الحكم عن مقسم عنه.
(بَابُ الخُطْبَةِ قَائِمًا) وَقَالَ أَنَسٌ: «بَيْنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا». هذا ذكره مسندًا في «صحيحه» في الاستسقاء.
(1/90)
920
- حَدَّثَنا عُبَيْدُ الله بن عُمَرَ القَوَارِيرِيُّ، حدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ
الحَارِثِ، حدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ: «كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ
يَقُومُ كَمَا تَفْعَلُوْنَ الآنَ». [خ¦920]
وفي لفظ: «كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا».
مذهب أبي حنيفة يخطب قائمًا على طهارة، لأن القيام فيها متوارث ثم هي شرط لصحة
الصلاة فيستحب فيها الطهارة كالأذان، فإن خطب قاعدًا أو على غير طهارة جاز مع
الكراهة، اسْتُدِلَّ لهم بحديث رواه مسلم بن الحجاج في «صحيحه»: أَنَّ كَعْبَ بْنَ
عُجْرَةَ رضي الله عنه، دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابنُ أُمِّ
الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ
قَاعِدًا، وَقدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11].وفي
«صحيح ابن خزيمة» قال: «مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ قَطُّ إِمَامًا يَؤمُّ
المسْلِمِيْنَ يَخْطبُ وَهُوَ جَالِسٌ، يَقُوْلُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ» قالوا:
فإنكار كعب عليه إنما هو لتركه السنة، ولو كان القيام شرطًا لما صلوا معه مع ترك
الفرض، وعند البخاري من أبي سعيد في هذا الباب بعد هذا: «جَلَسَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ»
وتقدم حديث سهل: «مُرِي غُلاَمَكِ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسْ عَلَيْهِنَّ
إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ».
وفي «المصنف» من حديث ليث عن طاوس: «أَوَّلُ مَنْ جَلَسَ عَلَى المنْبَرِ
مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبْي سُفْيَانَ».
وحَدَّثَنَا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: «إِنَّمَا خَطَبَ مُعَاوِيَةُ قَاعِدًا،
حَيْثُ كَثُرَ شَحْمُ بَطْنِهِ وَلَحْمُهُ».
وفي «المحلى» لابن حزم: كان عثمان ومعاوية يَخْطُبَانِ جَالِسَيْنِ.
(1/91)
وأجيب
عن الأحاديث التي ورد فيها القيام في خطبته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعن قوله
تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] بأن ذلك إخبار عن حاله التي كان عليها
عند انفضاضهم، وبأنه كان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يواظب على المشي الفاضل مع
جواز غيره ونحن نقول به، وقال الشافعي: يشترط لصحة الخطبتين القيام فيهما والجلوس
بينهما مع القدرة، فإن خطب قاعدًا أو مضطجعًا للعجز جاز بلا خلاف كالصلاة، وحكى
الرافعي وجهًا: أنها تصح من قعود مع القدرة على القيام وردَّهُ بعضهم.
وزعم ابن التين أن القيام سنَّة فإن خطب جالسًا فقال القاضي أبو محمد أساء ولا
تبطل خطبته، وعن ابن القصار القيام واجبٌ وجوبَ سُنَّةٍ لا أنه إن تركه فسدت
الخطبة ولا يباح له إن شاء فعله وإن شاء تركه.
وفي «شرح المهذب»: ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى صحتها قاعدًا مع القدرة على
القيام، والقيام عندهم سنة، وفي «المغني»: قال الهيثم بن خارجة لأحمد: كان عمر بن
عبد العزيز يخطب قاعدًا فأنكره شديدًا، وأما القعود بينهما فذكر الطحاوي أنه لم
يَشْتَرِطْ أحد الجلوس بينهما غير الشافعي، ذكر عياض عن مالك أن الجلوس بينهما
شرط، وقد خطب المغيرة بن شعبة بحضرة الصحابة والتابعين ولم يجلس في خطبته، وقد حصر
عثمان عن الخطبة فتكلم ونزل ولم يجلس ولم ينكره أحد.
(بابٌ يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ القَوْمَ، وَاسْتِقْبَال النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا
خَطَبَ)
وَاسْتَقْبَلَ ابنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ الإِمَامَ.
قال البيهقي: قال أخبرنا أبو الحسن المرجاني حَدَّثَنا أبو سهل الإسفراييني،
حَدَّثَنا حمزة بن محمد الكاتب، حَدَّثَنا نعيم عن حماد، حدَّثَنَا ابن المبارك
قال: قال أبو الجويرية: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْخُطْبَةِ يَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرَغَ
الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ.
(1/92)
وقال
في «المصنف»: حَدَّثَنا عبد الصمد المسمى ابنَ الريان قال: رَأَيْتُ أَنَسًا
فذكره.
وأما التعليق عن ابن عمر فقال البيهقي: حَدَّثَنا أبو بكر بن الحارث، أخبرنا أبو
محمد بن حيَّان، حَدَّثَنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حَدَّثَنا أبو عامر،
حَدَّثَنا الوليد بن مسلم قال: ذكرتُ لليث فأخبرني عن ابن عجلان عن نافع أن ابن
عمر «كَانَ يَفْرَغُ مِنْ سُبْحَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ
الْإِمَامِ، فَإِذَا خَرَجَ
لَمْ يَقْعُدِ الْإِمَامُ حَتَّى يَسْتَقْبِلَهُ».
وعند الترمذي مضعفًا قال: ولا يصح في هذا الباب عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ شيء.
عن ابن مسعود: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا اسْتَوَى
عَلَى المنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوْهِنَا».
وعند أحمد بن حنبل من حديث سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ بسند لا بأس به مرفوعًا:
«احْضُرُوا الْجُمُعَةَ، وَادْنُوا مِنَ الْإِمَامِ».
وعند ابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ
بِوُجُوهِهِمْ» زاد ابن الأثير: قال ابن ماجه: وأرجو أن يكون متصلًا، وذكره في
«المغني»: عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده. انتهى.
ليس في ابن ماجه إلا ما قدمناه عنه ولا ذكره أيضًا ابن عساكر في «الأطراف» ولا
غيره فينظر.
وفي «المبسوط»: كان أبو حنيفة إذا فرغ المؤذن من أذانه أدار وجهه إلى الإمام وهو
قول شريح وطاوس ومجاهد وسالم والقاسم وزاذان وعمر بن عبد العزيز وعطاء، وبه قال
مالك والأوزاعي والثوري وسعيد بن عبد العزيز وابن جابر ويزيد بن أبي مريم والشافعي
وأحمد وإسحاق، قال ابن المنذر: وهذا كالإجماع.
وفي «المغني» رُوِيَ عن الحسن: أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام، وكان سعيد
بن المسيب لا يستقبل هشامَ بن إسماعيل إذا خطب، يوكل به هشامٌ الشُّرَطَ تعطفه
إليه.
(1/93)
وفي
«سنن الأثرم» عن مطيع أبي يحيى المزني عن أبيه عن جده قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، أَقْبَلْنَا
بِوُجُوْهِنَا إلَيْهِ».
وعند ابن أبي شيبة: أخبرنا هُشَيْمٌ أخبرنا عبد الحميد بن جعفر الأنصاري بإسناد لا
أحفظه قال: «كَانُوا يَجِيئُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَجْلِسُونَ حَوْلَ
الْمِنْبَرِ، ثُمَّ يُقْبِلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بِوُجُوهِهِمْ».
وكأنَّ البخاري استنبط من حديث الباب وهو: (جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) استقبال الإمام
الناس، واستنبط الماوردي وغيره من هذا أن الخطيب لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا حالة
الخطبة، وصلاته على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فإن ذاك الفعل
باطل ولا أصل له، قال في «شرح المهذب»: اتفق العلماء على كراهة ذلك وهو معدود في
البدع المنكرة خلافًا لأبي حنيفة فإنه قال: يلتفت يمنةً ويسرة كالأذان فإن خالف
الخطيب السنة وخطب مستقبل القبلة ومستدبر الناس صحت خطبته مع الكراهة، وحكى الشاشي
وجهًا شاذًّا أنه لا يصح، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: فإن خطب بجماعة تنعقد بهم الجمعة
ثم أتى من فاته حضور الخطبة فصلاته صحيحة، وعن عطاء ومكحول ومجاهد وطاوس فاتته
الجمعة بفواته
الخطبة وفرضه أن يصلي أربعًا.
921 - حديث أبي سعيد يأتي إن شاء الله تعالى في الزكاة. [خ¦921]
(بَابُ مَنْ قَالَ فِي الخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ: أَمَّا بَعْدُ)
(رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ) هذا رواه البخاري فيما بعد مسندًا.
(1/94)
922 - وَقَالَ مَحْمُودٌ: حَدَّثَنا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنا هِشَامُ، أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ المُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، قُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ: أَيْ نَعَمْ، قَالَتْ: فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصلاةَ جِدًّا حَتَّى تَجَلَّانِي الغَشْيُ، وَإِلَى جَنْبِي قِرْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَفَتَحْتُهَا، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِي، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» قَالَتْ: وَلَغَطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ لِأُسَكِّتَهُنَّ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا قَالَ؟ قَالَتْ: قَالَ «مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي القُبُورِ، مِثْلَ -أَوْ قَرِيبًا مِنْ- فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ -أَوْ قَالَ: المُوقِنُ شَكَّ هِشَامٌ- فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ، هُوَ مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَآمَنَّا وَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا وَصَدَّقْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إنَّكَ لَمُؤْمِنٌ بِهِ، وَأَمَّا المُنَافِقُ -أَوْ قَالَ: المُرْتَابُ، شَكَّ هِشَامٌ- فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ». [خ¦922]
(1/95)
قَالَ
هِشَامٌ: فَلَقَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ فَأَوْعَيْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ
مَا يُغَلِّظُ عَلَيْهِ.
وخرجه في صلاة الكسوف عن عبدِ اللهِ بنِ يوسف، أخبرنا مالكٌ عن هشام عن امرأته
فاطمة عن أسماء قالت: «أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا
النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا
لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللهِ،
... » الحديثَ.
وقال في كِتَابِ العِلْمِ في بَاب مَنْ أَجَابَ الفُتْيَا بِإِشَارَةِ اليَدِ:
حَدَّثَنا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا هشام فذكره، ورواه في
الاعتصام عن القعنبي، وفي الطهارة عن إسماعيل عن مالك، وفي السهو عن يحيى بن
سليمان، حدَّثَنَا ابن وَهْبٍ، حَدَّثَنا الثوري، عن هشام، وفي الخسوف قال: وقال
أبو أسامة عن هشام وحَدَّثَنَا الربيع، حَدَّثَنا زائدةُ عن هشام بن مسلم عن أبي
بكر وأبي كريب عن أبي أسامة عن هشام ... حَدَّثَنَا زائدة عن هشام بن عروة عن
امرأته فاطمة الحديثَ، يسوق البخاري حديث الباب يؤذن أن أسماء روته عن عائشة وهو
خلاف ما ذكره البخاري في كتاب العلم وكتاب الطهارة فإنه لما ساقه في ذينك البابين
رفعه عنها والصواب ما ذكره هنا.
وقال أبو جعفر النحاس عن سيبويه: معنى أما بعدُ: مهما يكن من شيء، وقال أبو إسحاق:
إذا كان رجل في حديث وأراد أن يأتي بغيره قال: أما بعد، وأجاز الفَرَّاءُ أما
بعدًا بالنصب والتنوين، وأما بعدٌ بالرفع والتنوين وأجاز هشام أما بَعْدَ بفتح
الدال، ثم روى النحاس من حديث بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى أن داود
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول من قال: أما بعد وهو فصل الخطاب، وكذا ذكره عبد
في تفسيره عن الشعبي وزياد ابن أبيه.
(1/96)
قال
النحاس: وفي رواية محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
«أَوَّلُ مَنْ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ كَعْبُ بْنُ لُؤَي جَدُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وزعم ابن الكلبي أن أول من قالها قُسُّ بنُ سَاعِدَة وفي «غرائب مالك» للدارقطني
بسند ضعيف: «لَمَّا جَاءَ مَلَكُ الموْتِ إِلَى يَعْقُوْبَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ
قَالَ يَعْقُوْبُ فِي جُمْلَةِ كَلاَمٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ
مُوْكَلٌ بِنَا البَلاَءُ» الحديثَ. وفي «الْمُحْكَمِ» معناه: أما بعد دعائي لك،
وفي «الجامع» يعني: بعد الكلام المتقدم أو بعد ما بلغني من الخبر ثم حذفوا هذا
وضموا على أصل ما ذكرناه، وذكر الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي أن
جماعة من الصحابة رضي الله عنهم رووا هذه اللفظة عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ منهم سعدُ بنُ أبي وقاص وابن مسعود وأبو سعيد الخُدْري وعبد الله
بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله والفضل ابنا العباس بن عبد المطلب وجابر بن
عبد الله وأبو هريرة وسَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ وعدي بن حاتم وأبو حُمَيْدٍ
السَّاعِدِيُّ وعقبة بن عامر والطُّفَيْلُ بن سَخْبَرَةَ وجرير بن عبد الله
البَجَلِي وأبو سفيان بن حرب وزيد بن أرقم وأبو بَكْرَةَ وأنس بن مالك وزيد بن
خالد وقُرَّةُ بنُ دعموص والْمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ وجابر بن سمرة وعمرو بن ثعلب
ورَزِيْنُ بن أنس السُّلَمي والأسود بن سريع وأبو شريح بن عمرو وعمرو بن حزم وعبد
الله بن عُلَيْم وعقبة بن مالك وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
قولها: (وَلَغَطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ) اللَّغَطُ الأصوات المختلفة التي لا
تُفْهَم، قال الشاعر يصف القطا:
فهن يُلْغِطْنَ به إِلْغَاطَا كالنَّبَطِيِّ صادفَ الأنْبَاطَا
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ضبطه بعضهم بفتح الغين وهو الصحيح، وبعضهم بكسرها.
(1/97)
وقولها:
(انْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ) أي: مِلْتُ بوجهي ورجعت إليهن، وأصله من كَفَأْتُ
الإناءَ إذا أَمَلْتَهُ وكَبَبْتَهُ والفتنة أصلها الاختبار ولا فتنة أعظم من
الفتنة التي ذكرت في الحديث وقد وردت في تلك الفتنة أحاديث منها ما في الصحيح عن
أنس يرفعه: «إِذَا وُضِعَ العَبْدُ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَيَقُولاَنِ
لهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ
وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ
أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا
وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَأَمَّا المُنَافِقُ أوَ الكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ:
مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ
مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ
بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ
إلا الثَّقَلَيْنِ».
وعند ابن ماجه: «فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْغُوفٍ
بِزِيَادَةٍ، فَيَقُوْلاَنِ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللهَ تعالى؟ فَيَقُولُ: لا مَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَاه، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَة قبل النَّارِ فَيَنْظُرُ
إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ
اللهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فرجة قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا
وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَعَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ،
وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَيُقَالُ
للكَافِرِ عَكْسُهُ».
(1/98)
وعند
الترمذي: «أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لأَحَدِهِمَا:
الْمُنْكَرُ، وَلِلآخَرِ: النَّكِيرُ» وفيه: «فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ
سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ويُقَالُ لَهُ: نَمْ
كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لاَ يُوقِظُهُ إِلاَّ أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ».
وعند أبي داود: «أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ: مَا تَعْبُدُ؟ فَإِنِ اللهُ هَدَاهُ
قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللهَ، فَيُقَالُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا
الرَّجُلِ؟ هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا،
وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ» وَفِيْهِ:
«فَيُضْرَبُ بِمَطارِقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ».
وفي لفظ: «فَيُنَادِي منادٍ مِنَ السماء: أن صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفرِشُوه منَ
الجنةِ، وألبِسُوهُ منَ الجنةِ، وافتحوا له بابًا إلى الجنةِ: فيأتيه منْ رَوْحِها
وطيبها، ويُفْتَحُ لهُ مَدُّ بَصَره، وَقَالَ فِي الكَافِرِ: فَيُنَادِي مُنَادٍ
أَنْ كَذَبَ عَبْدِيْ ... » الحديثَ. «ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ
مَعَهُ مِرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا قَالَ:
فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
إِلَّا الثَّقَلَيْنِ فَيَصِيرُ تُرَابًا، قَالَ: ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ».
(1/99)
وفي
حديث البراء بن عازب رضي الله عنه بسند صحيح: «لما يَقُوْلُ العَبْدُ: هُوَ
رَسُولُ اللهِ فَيَقُولَانِ وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
مِنْ رَبِّنَا فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى:
{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]
وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي هيئةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرِّيحِ
حَسَنِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللهُ لَكَ، أَبْشِرْ
بِرِضْوَان من اللهِ وَجَنَّاتٍ لهم فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ فَيَقُولُ: بَشَّرَكَ
اللهُ بِخَيْرٍ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الَّذِي جَاءَ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ:
هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ» أخبرنا به
مُسْنِدُ وقته أبو الحسن علي بن أحمد فيما أَجَازَنِيه عن أبي المكارم اللَّبَّان
وأبي جعفر الصيدلاني قالا: أبو علي الحداد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو عبد الله
بن جعفر بن فارس، أخبرنا أبو بشر يونس بن حبيب العجْلي، حَدَّثَنا أبو داود
الطيالسي بجميع «مسنده» الذي هو أول «مسند» صُنِّفَ في الإسلام على رأي جماعة.
قال: حَدَّثَنا أبو عوانة -يعني الوضاح- عن الأعمش عن المنهال بن عمرو ...
الحديثَ.
وحَدَّثَنَا عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو وعن زاذان عن البراء فذكره.
وفي المعجم «الأوسط» لأبي القاسم عن أبي هريرة مرفوعًا فِي صِفَةِ المَلَكَيْنِ:
«أَعْيُنُهُمَا مِثْلُ قُدُورِ النُّحَاسِ، وَأَنْيَابُهُمَا مِثْلُ صَيَاصِي
الْبَقَرِ».
(1/100)
وفي
«الكنى» للنسائي هم: منكر ونكير وأنكر، وعند ابن الجوزي ناكور وسيدهم رومان، وزعم
أبو بكر بن العربي أن منكرًا بفتح الكاف وفي رواية معمر عن عمرو بن دينار عن سعد
بن إبراهيم عن عطاء بن يسار: قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَصْوَاتُهُمَا
كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ وَأْبَصَارُهُمَا كالْبَرْقِ الْخَاطِفِ يَجُرَّانِ
شُعُورَهُمَا، مَعَهُمَا مِرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيْدٍ لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا
أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يُقِلُّوهَا».
وقال الترمذي الحكيم: خلقهما لا يشبه خلق الآدميين ولا خلق الملائكة ولا خلق الطير
ولا خلق البهائم ولا خلق الهوام، بل هما خلق بديع ليس في خلقتهما أُنْسٌ للناظرين،
جعلهما تعالى تكرمة للمؤمن لتثبيته وتبصرة وهتكًا لستر المنافق في البرزخ. انتهى.
مُتَلوح من قوله في بعض الطرق: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها أن غيرهم من الأمم لم
يبتلوا بذلك تعظيمًا لشأن نبيهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وسيأتي له تتمة إن
شاء الله تعالى آخر الجنائز.
وفي حديث عمرو بن ثعلب «مال أو بسبي» كذا في الرواية، وفي «مستخرج» أبي نعيم
الحافظ: «مال أو شيء» وعند الإسماعيلي: «أتي بمال من البحرين» وفي روايتنا: «أنَّ
الذي ترك» وفي نسخة <أنَّ الذين ترك>.
والجزع ضد الصبر، والهلع شدة الفزع كذا قاله الشُّرَّاحُ.
وفي «الْمُوعِبِ»: الهَلَعُ مثالُ قَدَمٍ: شدة الحرص، ورجل هَلِعٌ مثال كَبِدٍ
وهَلُوع وهِلْوَاع وهِلْوَاعة: جزوعٌ حريص، والهَلَع: قلة الصبر، قال عمرو بن معد
يكرب:
كمْ مِن أخٍ لي ماجِدٍ ... بَوَّأْتُهُ بَيِديَّ لَحْدَا
ما إنْ جَزِعْتُ ولا هلعتُ ... ولا يَرُدُّ بكاي زيدا
قال: والجزع نقيض الصبر، وقد جَزَعَ جَزْعًا وجُزُوعًا فهو جَزِعٌ وجَازِعٌ
وجَزُوعٌ، وقال يعقوب: الجزع الفزع، زاد ابن سيده وجَزَعٌ وجُزَاع عن ابن الأعرابي
وأنشد:
(1/101)
ولَسْتُ
بِمَيْسَمٍ فِي النَّاسِ يُلْحَى ... على مَا فاتَهُ وَجْم جُزَاع وأجزعه الأمر.
و (الهِلَاعُ) والهَلَاع كالهُلُوع، والهلع الحزن تميميَّة، وشُحٌّ هالِعٌ محزن،
والهَلَع والهُلاع والهَلَعَاتُ الجبن عند اللقاء، وفي «أمالي ثعلب» الهِلْواعة
الرجل الجبان، وفي «تهذيب أبي منصور» قال الحسن بن أبي الحسن: الهَلُوع الشَرِهُ،
وعن الفراء الضجور، قال أبو إسحاق: الهلوع الذي يَفْزَعُ ويَجْزَعُ من الشر، وقال
القَزَّازُ: الهلع سوء الجزع، وَفِي «الصِّحَاحِ»: هو أفحش الجزع، ورجلٌ هُلَعَةٌ
مثال هُمَزَةٍ إذا كان يهلع ويجزع ويستجيع سريعًا، وجَزِع من الشيء بالكسر وأجزعه
غيرُه.
وقوله: منَ الغناء والخير أي أتركهم مع ما وهب الله تعالى لهم من غنى النفس فصبروا
وتعففوا عن المسألة والشَّرَه.
الحديث الذي بعده تقدم.
(1/102)
925 - حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» وتَابَعَهُ الهُذَلِيُّ عَنْ سُفْيَانَ هذا من حديث ذكره البخاري في كتاب الزكاة وغيره: «اسْتَعْمَلَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى المنْبَرِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُم ... » المتابعة التي ذكر عن أبي معاوية رواها مسلم في «صحيحه» في كتاب المغازي عن أبي كريب محمد بن العلاء عن أبي معاوية فذكره، ومتابعة أبي أسامة ذكرها البخاري مسندة فيما بعد، وسفيان المذكور هو ابن عيينة ذكر متابعته أيضًا البخاري فيما بعد عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» وتَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» وتَابَعَهُ الهُذَلَيُّ عَنْ سُفْيَانَ. [خ¦925]
(1/103)
وحديث
المسور يأتي في الفضائل إن شاء الله تعالى، وأن عليًا خطب بنت أبي جهل، وإنما
فاطمة بضعة مني. و (ابنُ اللُّتْبِيَّةِ) بضم اللام وسكون التاء المثناة من فوقُ
وحكى الحافظ أبو محمد بن المنذري فيما رُويناه عنه تحريك التاء، ويقال:
الأبْتِيَّة بسكون الباء قال: وتُحرَّك، واسمه فيما ذكره أبو منصور الباوردي في
كتابه: عبد الله، وقال أبو بكر بن دريد بنو لُتْبٍ بطن من الأزد، واللُّتْبُ
الاشتداد وهو اللصوق أيضًا.
927 - حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حدَّثَنَا ابن الغَسِيلِ، حَدَّثَنا
عِكْرِمَةُ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ المِنْبَرَ، وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلْحَفَةً
عَلَى مَنْكِبِهِ، قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعُصَابَةٍ دَسِمَةٍ، فَحَمِدَ اللهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ» فَثَابُوا
إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ،
يَقِلُّونَ وَيَكْثُرُ النَّاسُ، فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ
فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا، فَلْيَقْبَلْ
مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ». [خ¦927]
(ابنُ الغَسِيْلِ) هو أبو سليمان عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة الغسيل.
و (التَّعَطُّفُ) التردي بالرداء، وسمي الرداء عطافًا لوقوعه على عِطْفَي الرجل
وهما: ناحيتا عُنُقِه، ومنكب الرجل عِطْفُه، وكذلك المعطف، وقد اعتطف به وتعطف
ذكره الهروي، وفي «الْمُحْكَمِ»: والجمع عَطُف والأرْدِية لا واحد لها، وفي رواية
عُصَابة رسمًا، قال ابن قُرْقُولٍ: سوداء وكان له صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عِمَامة سوداء، والعصابة العمامة، ومنه الحديث: «أُمْرِنَا أَنْ نَمْسَحَ عَلَى
العَصَائبِ».
(1/104)
وقيل:
لونها لون الدسم كالزيت وشبهه من غير أن يخالطها شيء من الدسم، وقيل: متغيرة اللون
من الطيب والغالية، وزعم الداودي أنها على ظاهرها من عرقه صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ من المرض. انتهى.
وكأنه غير جيد لما بيناه.
وقوله: (إِنَّ هَذَا الحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ يَقِلُّونَ) وفي رواية: «حَتَّى
يكونوا في النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الملحِ من الطعامِ» هو من معجزاته صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ وإخباره عن المغيبات، فإن الأنصار اليوم في غاية القلة.
وقوله: (مَنْ وَلِيَ شَيْئًا) إلى آخره فيه دليل على أن الخلافة ليست فيهم، إذ لو
كانت فيهم لأوصاهم ولم يوص بهم.
وقوله: (وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ) قَالَ ابنُ التِّيْنِ: يريد فيما لم تجب
فيه الحدود أو كان حقًا لآدمي.
وقد اختلف العلماء في الخطبة هل هي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها أم لا؟.
فعند أبي حنيفة والشافعي وأحمد هي شرط في الجمعة لا تصح بدونها، قال ابن قدامة في
«المغني»: ولا نعلم فيها مخالفًا إلا الحسن البصري فإنه قال: تجزئهم جمعتُهم خطب
الإمام أو لم يخطب، لأنها صلاة عيد فلم يشترط لها الخطبة كصلاة الضحى. انتهى.
حكى ابن المنذر أن ذلك أيضًا هو مذهب داود وعبد الملك من أصحاب
مالكٍ، قال القاضي عياض: ورُوِيَ ذلك عن مالك أيضًا وحكاه ابن حزم أيضًا عن ابن
سيرين، قال في «المغني»: وجه من يقول بوجوب خطبتين حديث جابر وابن عمر: «أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يَخْطبُ خُطْبَتَيْنِ». وقد قال:
«صَلُّوْا كَمَا رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّيْ» ولأن الخطبتين أقيمتا مُقام ركعتين
فالإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الركعتين. انتهى.
(1/105)
عند
البزار: حَدَّثَنا سَلَمَةُ بن شَبِيب، حَدَّثَنا يزيد بن أبي حَكِيم عن ابن
الزيات عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر قال: «صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ،
وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَهِيَ
تَمَامٌ لَيْسَ تُقْصَرُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ»
قال: وهذا الحديث رواه ابن أبي ليلى عن عمر، ورواه زُبَيْدٌ اليامي حدَّثَ به عن
شعبة عن محمد بن طلحة عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر، وحدَّثَ به يزيد
بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن كعب بن عُجْرَةَ عن عمر ولا نعلمه يروي عن الأعمش
عن زيد عن عمر إلا من حديث من ... قال صاحب «المغني»: وأما القراءة فيحتمل أن تكون
شرطًا لكلِّ واحدة منهما كالركعتين، ويحتمل أن يشترط في أحدهما كما روى الأثرم عن
الشعبي مرسلًا: «ثُمَّ يَقُوْمُ فِي الثَّانِيَةِ فَيَخْطِبُ ثُمَّ يَنْزِلُ
وَكَانَ أَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلاَنِهِ».
قال ابن قدامة: ظاهره أنه لم يذكر في الثانية إلا وعظًا، وقال القاضي: تجب، وعند
أبي حنيفة إن اقتصر على ذكر الله تعالى جاز، وفي «شرح الهداية»: التسبيحة الواحدة
تجزئ في قول أبي حنيفة الآخر وأبي يوسف أيضًا إلا أنه يكون مسيئًا لغير عذر لترك
السنة.
(1/106)
وروى
الحسن عن أبي حنيفة أنه يخطب خطبة خفيفة، وروى مُطَرِّفٌ إنْ سَبَّحَ وهَلَّلَ
وصلَّى على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلا إعادة عليه يُسْتَدَلُّ لأبي
حنيفة بقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة: 9] فذِكرُه تعالى مطلقًا
من غير قيدٍ يجزئ فيه ما يقع عليه اسم ذِكْر، وبما ذكره في «المغني»: «أَنَّ رَجُلًا
جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا
أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: لَئِنْ كنتَ أَقْصَرْتَ فِي الْخُطْبَةِ
لَقَدْ أَعْرَضْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ» وبما ذكره المؤرخون وإن أنكره ابن العربي
فغير جيد من أن عثمان رضي الله عنه أُرْتِج عليه بعد قوله: الحمد لله فاعتذر إلى
القوم وقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدَّان لهذا المقام مقالًا، وإنكم إلى إمام
فَعَّالٍ أحوجُ منكم إلى إمام قَوَّالٍ ثم نزل فصلى بحضرة الصحابة رضي الله عنهم.
وفي «المبسوط»: أَنَّ الحَجَّاجَ أُرْتِجَ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ
لِلهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاس قَدْ هَالَنِي كَثْرَةُ رُؤوسِكُمْ
وَإحْدَاقُكُمْ إلَيَّ بِأَعْيُنِكُمْ وَإِنِّي لَا أَجْمَعُ عَلَيْكُمْ بَيْنَ
الشُّحِّ وَالْعَيِّ، إنَّ لِي نَعَمًا فِي بَنِي فُلَانَ فَإِذَا قَضَيْتُم الصَّلَاةَ
فَانْتَهِبُوهَا ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّىَ،
ومعه أنس بن مالك وغيره من الصحابة.
وعند أبي يوسف ومحمد لا تجزئ أقل من مقدار التشهد إلى عبده ورسوله، وفي رواية يثني
على الله ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ويدعو للمسلمين.
باب القعدة تقدم وكذا باب الاستماع.
(بابٌ إِذَا رَأَى الإِمَامُ رَجُلًا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)
(1/107)
930
- حَدَّثَنا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ
يَا فُلاَنُ؟» قَالَ: لاَ، قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ». وهو مُخَرَّجٌ
عند الستة ثم قال: باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين فذكر الحديثَ كما تقدم
وليس فيه خفيفتين وكأنه أراد في مسلم: «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ،
وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». [خ¦930]
وفي لفظ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنبيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَعَدَ سُلَيْكٌ قَبْلَ أَنْ
يُصَلِّيَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ركَعْتَ
رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ».
وفي رواية: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُم الْجُمُعَةَ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ،
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا».
وفي لفظ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ خَرَجَ الْإِمَامُ،
فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ».
وعند الدَّارَقُطْني بسند صحيح: «فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ
يَجْلِسْ».
ومن حديث الأعمش أيضًا عن أبي سفيان عن جابر عن سليك يرفعه بلفظ: «رَكْعَتَيْنِ
خَفِيفَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا». وعند ابن ماجه: «أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ
قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟ قَالَ: لَا» الحديثَ.
ورواه عن داود بن رُشَيْدٍ، حَدَّثَنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة وسنده صحيح، وعن أبي سفيان عن جابر قالا الحديثَ.
(1/108)
وعند
الدَّارَقُطْني عبيد بن محمد العبدي، حَدَّثَنا معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس:
«دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ المسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَخْطُبُ, فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْخُطْبَةِ
حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ». وقال: أسنده عبيد بن محمد عن معتمر عن أبيه عن
قتادة عن أنس وَوَهِمَ فيه، والصواب عن معتمر عن أبيه مرسل: «جَاءَ رَجُلٌ
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ قَالَ يَا فُلَانُ
أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا, قَالَ: فَصَلِّ, ثُمَّ انْتَظَرَهُ حَتَّى صَلَّى» وكذا
رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر.
وروى بسند صحيح عن أحمد بن محمد بن إسماعيل الآدمي، حَدَّثَنا الفَضْلُ بنُ
سَهْلٍ، حَدَّثَنا يعقوب بن إبراهيم، حَدَّثَنا أبي عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح
عن مجاهد عن جابر قال: «جَاءَ سُلَيْكٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلَا تَعُدْ لِمِثْلِ
هَذَا, قَالَ: فَرَكَعَهُمَا ثُمَّ جَلَسَ».
وحَدَّثَنَا أحمد بن عبد الله الوكيل، حَدَّثَنا الحسن بن عرفة، حَدَّثَنا
هُشَيْمٌ، عن أبي مَعْشَرٍ عن محمد بن قيس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَهُ
أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، أَمْسَكَ عَنِ الْخُطْبَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ
رَكْعَتَيْهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى خُطْبَتِهِ». وقال: هذا مرسل وأبو معشر يحتج
ضعيف.
(1/109)
وفي «الأسرار» لأبي زيد روينا عن ابن عمر: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمْسَكَ عَنِ الخُطْبَةِ حَتَّى صَلَّىَ سُلَيْكٌ» وعند الترمذي مصححًا: «أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَجَاءَ الحَرَسُ لِيُجْلِسُوهُ، فَأَبَى حَتَّى صَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَيْنَاهُ، فَقُلْنَا: رَحِمَكَ اللهُ، إِنْ كَادُوا لَيَقَعُوا بِكَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَتْرُكَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَأَمَرَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ». زاد ابن حبان والبيهقي: «ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَلْقَوْا ثِيَابًا فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الرَّجُلَ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى جَاءَ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ: أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَصَاحَ بهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثمَّ قَالَ: خُذْهُ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا جَاءَ في تِلْكَ الْجُمُعَةَ في هَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَطَرَحُوا ثِيَابًا فَأَعْطَيْتُهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا جاءت الْجُمُعَةُ أَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَأَلْقَى أَحَدَ ثَوْبَيْه». وخرَّجَهُ ابن خزيمة في «صحيحه»، وقال: الحاكم صحيح على شرطهما.
(1/110)
وفي
«صحيح ابن حبان»: «أَنَّهُ دَعَاهُ فَأَمَرَهُ بصلاةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ
الْجُمُعَةَ الثَّانِيَةَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَدَعَاهُ وَأَمَرَهُ أَنْ
يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ الْجُمُعَةَ الثَّالِثَةَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَدَعَاهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ».
وفي «صحيح الدارمي»: أخبرنا محمد بن يوسف، حَدَّثَنا سفيان عن الربيع قال:
رَأَيْتُ الحَسَنَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ وَقَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ
يَخْطُبُ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا».
وأما حديث علي بن أبي طالب: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«لاَ تُصَلُّوَا وَالإِمَامُ يَخْطُبُ» فغير صحيح، بل في غاية الضعف، ذكره أبو
سعيد الماليني من طريق محمد بن أبي مطيع عن أبيه وهما مجهولان عن محمد بن جابر وهو
ضعيف عن أبي إسحاق عن الحارث عنه، وقد أسلفنا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ للرَّجُلِ الذِيْ يَتَخَطَّىَ رِقَابَ النَّاسِ: «اجْلِسْ فَقَدْ
آذَيْتَ» ولم يأمره بالصلاة، وطريقه صحيحة وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، قال ابن
المنذر: وهو قول شريح وعطاء بن أبي رباح وعروة وابن سيرين والنخعي وقتادة والليث
والشعبي والثوري وسعيد بن عبد العزيز ومالك بن أنس
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهو قول الجمهور من أهل العلم وذكره ابن أبي شيبة عن عمر
وعثمان وعلي وابن عباس.
وقال ابن شهاب: فخروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام
(1/111)
وقال
ثعلبة بن أبي مالك: كان عمر إذا خرج للخطبة أنصتنا، وقال عياض: كان أبو بكر وعمر
وعثمان يمنعون من الصلاة عند الخطبة، وذكر سَنَدٌ في كتابه «الطراز»: وترك الخطباء
الركوع إذا خرجوا لحاجة الخطبة ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه
ركع قبل الخطبة في المسجد فكذا الحاجة للاستماع والإنصات.
وقال ابن العربي: الصلاة حين ذاك حرام من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:
204] فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه فيه ويشتغل بغير فرض.
الثاني: صحَّ عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «إِذَا قُلْتَ
لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأصلان المفروضان الركنان في المسألة يَحْرُمان في حال الخطبة فالفضل أولى أن
يحرم.
الثالث: لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع والخطبة صلاة إذ يَحْرُمُ فيها من
الكلام والعمل ما يحرم في الصلاة.
وأما حديث سُلَيْك فلا يعترض على هذه الأصول من أربعة أوجه:
الأول: هو خبر واحد.
الثاني: يحتمل أنه كان في وقت كان الكلام مباحًا في الصلاة لأنَّا لا نعلم تاريخه
فكان مباحًا في الخطبة فلما حرم في الخطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي
هو آكد فرضية من الاستماع فأولى أن يحرم ما ليس بفرض.
الثالث: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَلَّمَ سُلَيْكًا وقال له: (قُمْ
فَصَلِّ) فلما كلمه وأمره سقط عنه فرض الاستماع إذ لم يكن هناك قول ذلك الوقت إلا
مخاطبته له وسؤاله وأمره.
(1/112)
الرابع:
أن سُلَيْكًا كان ذا بَذَاذة فأراد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يُشهرَه ليُريَ
حاله، وقال الطحاوي: يجوز أنه لما أمره النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قطع
خطبته ثم استأنف، ويجوز أن يكون بنى عليها، قال: ومن الدليل على أن ذاك الوقت كان
إباحة الكلام في الخطبة حديث سعيد وما فيه من الكلام قال: ولا نعلم خلافًا أن مثل
هذا الكلام محظور في الخطبة لأمره فيها بالإنصات.
وعند ابنِ بَزِيْزَةَ كان سُلَيْك عريانًا فأراد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أن يراه الناس، قال: وقد قيل: إن ترك الركوع حالتئذ سنة ماضية وعمل
مستفيض من زمن الخلفاء وعوَّلوا أيضًا على حديث أبي سعيد الخدري يرفعه: «لاَ
تُصَلُّوَا وَالإِمَامُ يَخْطُبُ» واستدلوا بإنكار عمر على عثمان في ترك الغسل ولم
ينقل أنه أمره بالركعتين، ولا نُقِلَ أنه صلاهما وعلى تقدير التسليم لما يقول
الشافعي
فحديث سليك ليس فيه دليل له إذ مذهبه أن الركعتين تسقطان بالجلوس خلافًا لأبي
حنيفة.
وروينا في كتاب «اللباب»: روى علي بن عاصم عن خالد الحذاء: أَنَّ أَبَا قِلاَبَةَ
جَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَجَلَسَ وَلَمْ يُصَلِّ.
وعن عقبة بن عامر قال: الصلاة والإمام على المنبر معصية.
وفي كتاب «الأسرار» لنا ما روى الشعبي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أنه قال: «إِذَا صَعِدَ الإِمَامُ المِنْبَرَ فَلاَ صَلاَةَ ولاَ كَلاَمَ
حَتَّى يَفْرُغَ». والصحيح من الرواية: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ والإِمَامُ عَلى
المِنْبَرِ، فَلاَ صَلاَةَ ولاَ كَلاَمَ».
(1/113)
وأما
حديث ابن عمر يرفعه: «مَنْ دَخَلَ المسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَصَلَّىَ أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ الفَاتِحَةَ وَخَمْسِيْنَ مَرَةً قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ فَذَلِكَ مَئَتَا مَرَةٍّ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَرَىَ مَقَعْدَهُ مِنَ
الجَنَّةِ أَوْ يُرَى لَهُ» فذكره الدَّارَقُطْني في «الغرائب» وضَعَّفَهُ، وأما
حديث أنس: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَنْزِلُ عَنِ
الْمِنْبَرِ فَيَعْرِضُ لَهُ الرَّجُلُ فَيُكَلِّمُهُ، فَيَقُومُ مَعَهُ حَتَّى
يَقْضِيَ حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إِلَى مُصَلَّاهُ فَيُصَلِّي» فاستغربه
الترمذي وقال عن البخاري: وَهِمَ جرير بن حازم فيه، وقال أبو داود: والحديث ليس معروف،
وأما الحاكم فقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كأنه لم يعتبر ما قيل في وهم
جرير والله تعالى أعلم.
باب رفع اليدين في الخطبة يأتي إن شاء الله في الاستسقاء.
(بَابُ الإِنْصَاتِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، وَإِذَا قَالَ
لِصَاحِبِهِ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا)
وَقَالَ سَلْمَانُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يُنْصِتُ إِذَا
تَكَلَّمَ الإِمَامُ». هذا الحديث تقدم في لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ
الجُمُعَةِ.
(1/114)
934 - حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ». هذا الحديث أخرجه الستة في كتبهم، وزعم الدَّارَقُطْني في «علله»: أنه رُوِيَ عن عُقَيْل أيضًا وابن جريج عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن إبراهيم بن قارظ وسعيد أنهما حَدَّثاه عن أبي هريرة قال: ورُوِيَ عن صابح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ورواه إسحاق بن راشد وعمرو بن قيس عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة، قال أبو الحسن: والمحفوظ ما رواه البخاري. انتهى. [خ¦934] في «صحيح مسلم» من طريق عُقَيْل عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ وابن المسيب عن أبي هريرة وابن جريج عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن إبراهيم بن قارظ. وعند أبي داود: «مَنْ دَنَا مِنَ الإِمَامِ فَلَغَا وَلَمْ يَسْتَمِعْ وَلَمْ يُنْصِتْ كَانَعليهِ كِفْلٌ مِنَ الوِزْر وَمَنْ قَالَ صَهٍ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ لَغَا فَلاَ جُمُعَةَ لَهُ» ورواية ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: «فَقَدْ لَغَيْتَ» قال ابن عيينة: لغيت لغة أبي هريرة، وقد تقدم: «وَمَنْ مَسَّ الحَصَى فَقَدْ لَغَا».وحديث سلمان: «وَيُنْصِتُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلاَتَهُ».وعند أحمد عن ابن عباس مرفوعًا: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ».
(1/115)
وعند ابن ماجه: لَمَّا قَالَ أُبَيٌّ لِأَبِي الدَّرداء وَسَأَلَهُ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ تَبَارَكَ عَلَى المنْبَرِ فَلَمَّا انْصَرَفَ فَقَالَ لِيْ أُبَيٌّ: لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلَاتِكَ الْيَوْمَ إِلَّا مَا لَغَوْتَ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «صَدَقَ أُبَيٌّ».وفي «مسند أحمد» يراه عند أبي شيبة أن عمر بن الخطاب هو المقول فيه صدق عمر، وفي طريق أخرى عن سعد بن أبي وقاص: سِمِعَ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ لَهُ: لَا جمعةَ لَكَ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «صَدَقَ سَعْدٌ» الأول عنده مرسل، والثاني ضعيف. وعند البيهقي بسند صحيح: أَنَّ أَبَا ذَرٍ هُوَ السَّائِلُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: وَقِيْلَ إِنَّ جَابِرًا هُوَ السَّائِلُ لابنِ مَسْعُوْدٍ، قال: وهذا الاختلاف إنما هو في اسم صاحب القصة واتفقت الروايات على تصديق النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قائله. وفي لفظ: «لاَ جُمُعَةَ لَكَ».وعند أبي داود عن عبد الله بن عمرو يرفعه: «يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ إِنْ شَاءَ اللهُ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]».
(1/116)
اللَّغْو واللَّغَا السَّقَط وما لا يُعْتَدُّ به من كلام وغيره ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع، واللغو في الأيمان لا والله، وبلى والله، وقيل معناه: الإثم، ولغا في القول يَلْغُو ويَلْغَى لَغْوًا، ولَغَى لَغًا ومَلْغَاةً: أخطأ، قال رؤبة: عن اللَّغا ورَفَثِ التكلُّمولغا يلغو لغوًا تكلم، ذكره ابن سيده، وفي «الجامع»: اللغو الباطل يقول: لغيت ألْغَى لَغْيًا ولَغًى بمعنًى، وَلَغَا الطائرُ يلغو لغوًا إذا صوَّتَ، وفي «التهذيب»: لغوتُ ألغو وألْغَى ولَغَى ثلاث لغات، واللغو كل ما لا يجوز وينبغي أن يُلْغَى. والإنصات قال أبو المعالي في «المنتهى»: نَصَتَ يَنْصِتُ إذا سكت، وأنصت لغتان أي: استمع، يقال: أنْصَتَهُ وأنصتَ له وينشد: إِذَا قَالَتْ حِذَامُ فَأَنْصِتُوهَاويروى فصدقوها، وفي «الْمُحْكَمِ»: أنصت أعلى، والنُّصْتة الاسم من الإنصاتوفي «الجامع»: والرجل ناصتٌ ومُنْتَصِتٌ وفي «المجمل» و «المغرب»: الإنصات السكون للاستماع، وأنشد الراغب في «المجالسات»:السمع للعين والإنصات للأذنقال الترمذي: كرهوا للرجل أن يتكلم والإمام يخطب، وقالوا: إن تكلم غيره فلا ينكر عليه إلا بالإشارة. واختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس: فرخص بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم وهو قول الشافعي، قال ابن المنذر: وممن رأى أن يشير ولا يتكلم عبد الرحمن بن أبي ليلى وزيد بن صُوْحَان والأوزاعي والثوري، وكره الإشارة طاوس، وزعم ابن العربي أن الشافعي وأحمد قالا: يشمِّت العاطس ويرد السلام وخالفهما سائر فقهاء الأمصار وهو الحق، فإن العاطس ينبغي له أن يخفض صوته في التحميد، والداخل لا يسلم، فإن فعلا فالفرض الذي هم بصدده أولى من الفرض الطارئ.
(1/117)
وفي «قواعد ابن رشد»: فرق بعضهم بينهما فقالوا: يَرُدُّ السلامَ ولا يُشَمِّتُ، وقال ابن وهب: ومن لغا فصلاته أربع، وعن الشعبي: الكلام في حال الخطبة جائز إلا في حال قراءة القرآن وقاله أيضًا إبراهيم وسعيد بن جبير، وحكى ابن أبي شيبة عن الحسن: أنه كان يسلم ويردون عليه وعن إبراهيم مثله، فروى ويشمتون العاطس، وعن الحكم وحماد وعن سالم وعامر: لا يرد السلام وليستمع، وعن طاوس ومحمد وسعيد بن المسيب مثله، وعن الباقر والقاسم: يرد في نفسه، ورُوِيَ عن إبراهيم بسند صحيح أنه رُئِيَ يكلم رجلًا والإمام يخطب يوم الجمعة وكان عروة لا يرى بذلك بأسًا إذا لم يستمع الخطبة، وقال إسماعيل بن إبراهيم عن أبيه: رأيت إبراهيم وسعيد بن جبير يتكلمان والحجاج يخطب. وعند أبي حنيفة ينصت ولا يقرأ ولا يصلي نفلًا ولا يشتغل بالذكر وغيره ويكره رد السلام وتشميت العاطس والأكل والشرب، وعن أبي يوسف يرد السلام ويشمت العاطس، وعن أبي حنيفة يردُّ بقلبه كالمتغوط إذا سمع الأذان يجيب بقلبه فإذا فرغ أجاب بلسانه، فإنْ لم يرد السلام في حال الخطبة هل يرد بعد الفراغ من الخطبة؟ فعند محمود: يرد، وقال أبو يوسف: لا يرد، وعن مالك يُسَكِّتُ الناسَ بالتسبيح والإشارة ولا يحصبهم لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَمَنْ مَسَّ الحَصَى فَقَدْ لَغَا».وعن ابن مسعود: «إِذَا رَأَيْتَهُ يَتَكَلَّمُ فَاقْرَع رَأْسَهُ بِالعَصَا».وعن بعضهم السكوت كان لازمًا في حق الصحابة، لأن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يسمعهم ما ينزل عليه من القرآن العظيم، وأما فالسكوت غير لازم، لأنه قد يكون في القوم من هو أعلم من الإمام وأورع فلا يلزمه استماع خطبة من هو دونه، ذكره في «شرح الهداية»، وقال أبو بكر: ورخص مجاهد وطاوس في شرب الماء ومثله عن الشافعي، وقال أحمد: إن لم يسمع الخطبة شرب. (بَابُ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ)
(1/118)
935 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. [خ¦935] في «صحيح أبي الحجاج»: «يُزَهِّدُهَا». وفي لفظ: «وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيْفَةٌ».وعند النسائي: «لاَ يُوَافِقُهُا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ فِيْهَا خَيْرًا» وزعم الدَّارَقُطْني أن حديث الباب رواه زائدة والبَكَّائي عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي هريرة موقوفًا، ورواه الأعمش عن مجاهد اجتمع ابن عباس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو فذكره عنهم كلهم موقوفًا. وفي حديث عطاء عنه موقوفًا ورفعه: «وَهِيَ السَّاعَةُ التِيْ تُذْكَرُ فِي الجُمُعَةِ مَا بَيْنَ المغْرِبِ وَالعَصْرِ».وفي «التمهيد»: مرفوعًا: «إِنَّ السَّاعَةَ التِيْ يُتَحَرَّى فِيْهَا الدُّعَاءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ هِيَ آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ». رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عنه صححه أبو عمر عنه مرفوعًا. وفي حديث عطاء عنه: «هي بَعْدَ العَصْرِ».وعند أحمد مرفوعًا: «وَفِي آخِرِ ثَلاَثِ سَاعَاتٍ مِنْهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا اللهَ فِيْهَا اسْتُجِيْبَ لَهُ».وفي «مصنف عبد الرزاق» بسند ضعيف يرفعه: «في يَوْمِ الجُمُعَةِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ وَهُوَ يُصَلِّيْ أَوْ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ يَدْعُو اللهَ فِيْهَا بِشَيءٍ إِلَّا اسْتَجَابَ لِهُ».
(1/119)
وعِنْدَ مُسْلِمٍ من حديث أبي موسى: سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ فِي سَاعَةِ الجُمُعَةِ: «هِيَ مَاَ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ-يَعْنِي عَلَى المنْبَرِ- إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ» قال الدَّارَقُطْني: رواه أبو إسحاق تارة عن أبي بردة فرفعه بلفظ: «السَّاعَةُ التِيْ تُرْجَى يَوْمَ الجُمُعَةِ عِنْدَ نُزُوْلِ الإِمَامِ» وتارة رواه عنه فوقفه بلفظ: «السَّاعَةُ التِيْ فِي الجُمُعَةِ مَا بَيْنَ نُزُوْلِ الإِمَامِ إِلَى مِنْبَرِهِ إِلَى دُخُوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ».وعند ابن ماجه بسند لا بأس به من حديث أبي لُبَابَةَ يرفعه: «سَيِّدُ الأَيَّامِ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وَفِيْهِ سَاعَةٌ لاَ يَسْأَلُ العَبْدُ فِيْهَا شَيْئًا إِلاَّ أَتَاهُ إِيَّاهُ مَالَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا».وعند الترمذي محسنًا من حديث عمرو بن عوف رفعه: «فِي الجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ اللهَ العْبَدُ فِيْهَا شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: حِيْنَ تُقَامُ الصَّلاَةُ إِلَى الانْصِرَافِ مِنْهَا».وعند الدَّارَقُطْني من رواية عطاء ابن السائب والأغر بن الصباح عن أبي الأحوص عن ابن مسعود مثل حديث أبي هريرة، وعند ابن ماجه بسند جيد من حديث عبد الله بن سَلَام: «قُلْتُ يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ، قَالَ: فَأَشَارَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ%ج 1 ص 454%أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ، أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ.
(1/120)
قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، قُلْتُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ، قَالَ: بَلَى، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ، لَا يُجْلِسُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ».وعند أحمد بن حنبل من حديث أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعًا: «إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ».وعند الحاكم عن أبي سلمة: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَنا عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هَلْ عِنْدَكَ مِنْهَا عِلْمٌ؟ فَقَالَ: سَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أُعْلَمْتُهَا، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا كَمَا أُنْسِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ» وقال فيه: صحيح، وخرجه ابن خزيمة أيضًا في «صحيحه».وفي كتاب أبي القاسم الجوزي بسند جيد يرفعه: «هِيَ عِشَاءُ يَوْمِ الجُمُعَةِ آخِرَ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَغْفَلُ مَا يَكُوْنُ النَّاسُ».وعند الحاكم مصححًا من حديث أبي سلمة عن جابر عن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، لَا يُوجَدُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ إِيَّاهُ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ».قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: قوله: (فَالْتَمِسُوهَا) إلى آخره هو من قول أبي سلمة.
(1/121)
وعن أنس بن مالك عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «التَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ بَعْدَ العَصْرِ إِلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ» قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ومحمد بن أبي حميد يعني رواية عن موسى بن وردان عن أنس منكر الحديث. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن: «أَنَّ نَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ اجْتَمَعُوْا فَتَذَاكَرُوْا السَّاعَةَ التِيْ فِيْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوْا وَلَمْ يَخْتَلِفُوْا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ» ذكره سعيد بن منصور في «سننه».وفي كتاب ابن زنجويه بسند لا بأس به عن محمد بن كعب القرظي: أَنَّ كَلْبًا مَرَّ فِيْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: اللهُمَّ اقْتُلْهُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَقَدْ وَافَقَ السَّاعَةَ التِيْ إِذَا دُعِيَ فِيْهَا اسْتُجِيْبَ».ومن حديث أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: «هِيَ مَا بَيْنَ العَصْرِ وَالمَغْرِبِ».وفي رواية عمر بن راشد عن يحيى عنه: «هِيَ فِيْمَا بَيْنَ الأَذَانِ إِلَى انْصِرَافِ الإِمَامِ يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الْجُمُعَة: 9] ويقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]».وفي «المصنف» عن عوف هي: «مِنْ خُرُوْجِ الإِمَامِ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاَةُ».وعن أبي بردة وأعجب ابن عمر: «هِيَ السَّاعَةُ التِي اخْتَارَ اللهُ فِيْهَا الصَّلَاةَ».
(1/122)
وعند الدَّارَقُطْني في «غرائب مالك»: عن علي بن الفضل، حَدَّثَنا جعفر ومحمد بن عوف بن زياد، حَدَّثَنا محمد بن صالح بن فيروز، حَدَّثَنا مالك عن نافع عنه يرفعه: «أَلا وَإِنَّ فِي الجُمُعَةِ لَسَاعَةً تُغْفَرُ فِيْهَا الذُّنُوْبُ وَتُخْرِجُ%ج 1 ص 455%الإِنْسَانَ مِنَ الذُّنُوْبِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وَهِيَ بَعْدَ العَصْرِ وَهِيَ مَعَ غُرُوْبِ الشَّمْسِ وَيُشِيْرُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِيَدِهِ مَعَ غُرُوْبِ الشَّمْسِ».وعن أبي بردة أيضًا عند خروج الإمام، وقال أبو أمامة: إني لأرجو أن يكون في إحدى هذه الساعات إذا كان المؤذن أو الإمام على المنبر أو عند الإقامة، وعن الحسين: عند زوال الشمس في وقت الصلاة، وعن الشعبي: ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وقال مجاهد وطاوس: بعد العصر، وعن عائشة رضي الله عنها «حِيْنَ يُنَادِي المنَادِيْ بِالصَّلاَةِ». وفي لفظ: «إِذَا أَذَّنَ المؤَذِّنُ لِصَلاَةِ الغَدَاةِ» ذكرها ابن أبي شيبة. وفي «التمهيد» قال آخرون: وقتها من حين الإحرام فيها إلى السلام منها وهو موافق لقوله: (قَامَ يُصَلِّي).وعن أبي السَّوَّارِ العَدَوي أنهم كانوا يرونها ما بين الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة، وعن أبي ذَرٍّ هو ما بين أن تزيغ الشمس شبرًا إلى ذراع.
(1/123)
وزعم أبو محمد المنذري أنه قيل: هي من عند الزوال إلى نصف الذراع، وفي «المغني» لابن قدامة هي: مخفية كليلة القدر قال: وقيل هي الساعة الثالثة من النهار، قال: وقد تكون مختلفة فتكون في حق كل قوم في وقت صلاة، وقال الأثرم في «الناسخ والمنسوخ الكبير»: لا يخلو هذه الأحاديث من وجهين: إما أن يكون بعضها أصحَّ من بعض، وإما أن تكون هذه الساعة تنتقل في الأوقات كانتقال ليلة القدر في ليالي العشر، وذكر في «الأثير»: عن الزهري إذا قَسَّمَ الإنسان ساعات نهار يوم الجمعة على أيام الجمع صادف الساعة المخصوصة لا بعينها، وعن كعب لو قسم الإنسان جُمُعَهُ في جُمَعٍ أتى على تلك الساعة، وقيل: هي منتقلة في اليوم، وزعم ابن الجوزي أن في حديث فاطمة بنت سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْن أَنَّهَا سَأَلَتْ أَبَاهَا عَنْهَا فَقَالَ: «إِذَا تَدَلَّىَ نِصْفُ عَيْنِ الشَّمْسِ للْغُرُوْبِ» قال: فإن قيل: كيف يسأل وهو يصلي فالجواب من وجهين أحدهما: أن يكون السؤال في الصلاة وذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون في التلاوة فإنه إذا قرأ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] فقد سأل. الثاني: يسأل عند القراءة كما في حديث حذيفة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ ... » الحديثَ وهذا يحتمل أن يكون في الفرض أو النفل. الثالث: أن يسأل عن انقضاء التشهد. والوجه الثاني: أن يُسَلِّمَ ويسألَ والساعة لم تنقض فيكون معنى سؤاله في الصلاة عند فراغها. انتهى كلامه. وفيه نظر في موضعين: الأول: لم يرد في حديث أنه يقرأ%ج 1 ص 456%منها بخاتمة سورة البقرة. الثاني: حديث حذيفة مصرح: بِأَنَّهُ كَانَ في الليل نفلًا والله أعلم، ولقائل أن يقول: قيامه إلى الصلاة أو في الصلاة سؤال كما قال أمية: إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا ...
(1/124)
كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ السؤالُفهذا الكلام مع مربوب فكيف برب الأرباب جل وعلا. وأما قول: من قال: إنها رُفِعَتْ فغير جيد، لأن أبا عمر ذكر من حديث جريج عن داود بن أبي عاصم عن عبد الله بن قيس مولى معاوية قال: قلت: لأبي هريرة زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة قد رُفِعَتْ فقال: كذب من قال ذلك، قلت: فهي في كل جمعة أستقبلها، قال: نعم، قال أبو عمر: على هذا تواترت الأخبار. انتهى. فتلخص من هذه الأقوال السالفة أنه اخْتُلِفَ فيها على تسعة عشر قولًا أتينا بها كلها، والله الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل. (بابٌ إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإِمَامِ فِي صَلاَةِ الجُمُعَةِ، فَصَلاَةُ الإِمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ)
(1/125)
936 - حَدَّثَنا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْدِ، قَالَ: حَدَّثَنا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]». وفي رواية: «أَنَا فِيْهِم». [خ¦936] في «سنن الشافعي» عن إبراهيم بن محمد حدثني جعفر بن محمد عن أبيه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَتْ لَهُ سُوقٌ، يُقَالُ لَهَا: الْبَطْحَاءُ، كَانَتْ بَنُو سُلَيْمٍ يَجْلِبُونَ إِلَيْهَا الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَالسَّمْنَ، فَقَدِمُوا فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ وَتَرَكُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَكَانَ لَهُمْ لَهْوٌ يضَربُوْنَهُ يُقَالُ لَهُ: الْكَبَر فَعَيَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11].قال السُّهَيلي: ذكر أهل الحديث أن دِحْيَة بن خليفة الكلبي قدم من الشام بِعيرٍ له تحمل طعامًا وبَزًّا، وكان الناس إذ ذاك محتاجين انفضوا إليها وتركوا النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وزعم ابن الجوزي أن ذلك كان قبل إسلام دحية، وقد تقدم قول الدَّارَقُطْني في قول جابر: «لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعوْنَ رَجُلًا أَنَا فِيْهِم».
(1/126)
وفي «مراسيل أبي داود» حَدَّثَنا محمود بن خالد، حَدَّثَنا الوليد، أخبرني بُكَيْر بن معروف المذكور في ثقات ابن خَلْفُون والقائلون: أبو داود ليس به بأس أنه سمع مقاتل بن حيان يعني الموثق والمخرج حديثه في «صحيح مسلم» قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ%ج 1 ص 457%صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ مِثْلَ الْعِيدَيْنِ حَتَّى كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ وَقَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ دِحْيَةَ قَدِمَ بِتَجَارَتِهِ، وَكَانَ دِحْيَةُ إِذَا قَدِمَ تَلَقَّاهُ أَهْلُهُ بِالدُّفُوفِ، فَخَرَجَ النَّاسُ فَلَمْ يَظُنُّوا إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرَكِ الْخُطْبَةِ شَيْءٌ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة: 11]، فَقَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْخُطْبَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَكَانَ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ لِرُعَافٍ أَوْ حَدَثٍ بَعْدَ النَّهْيِ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يُشِيرُ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ فَيَأْذَنُ لَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثُمَّ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ».قالَ السُّهَيلي: هذا وإن لم يُنْقَل من وجه ثابت فالظَّنُّ الجميلُ بالصحابة يُوجِبُ أن يكون صحيحًا وقد تقدم كلام عياض، وفي «شرح القدوري» للزاهدي: سُئِلَ الحمامي وطاهر بن علي عن الخطبة إذا أُخِّرَت عن صلاة الجمعة فقال: لا. قال الأَصِيلي: وصف الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم بخلاف هذا فقال: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} [النور: 37] إلا أن يكون الحديث قبل نزول هذه الآية الكريمة.
(1/127)
قالَ السُّهَيلي: وقد جاء ذكر أسماء الذين بقوا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في حديث مرسل رواه أسد بن عمرو الدبوسي وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وأبو عبيدة وبلال وابن مسعود في رواية، وفي رواية عمار بن يسار وفي رواية: (لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عشرَ رَجُلًا وامرأةً) فإن قيل: ما السِّرُّ في قوله: إليها ولم يقل إليهما؟ فيجاب بأن الفراء ذكر في «المعاني»: أن التجارة كانت أهم إليهم فرد الضمير إليها، وفي قراءة عبد الله: وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفضوا إليها، ذكر أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يخطب يوم الجمعة فقدم دحية بتجارة له من الشام فيها كل ما يحتاج إليه فضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه إلا ثمانية نفر فنزلت: {وَإِذَا رَأَوا تِجَارَةً} أو يقال: كما قال الزجاج: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوًا انفضوا إليه، فحذف خبر أحدهما، لأن الخبر الثاني يدل على المحذوف، قال: ويجوز في الكلام وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليه وانفضوا إليها وانفضوا إليهما، رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ فِي خُطْبَةِ الجُمُعَةِ فَجَاءَتْ إِبِلُ دِحْيَةَ وَعَلَيْهَا زَيْتٌ فَانْفَضُّوْا» الحديثَ. واللهو هنا قيل: الطبل. انتهى.
(1/128)
أو يقال: بأن العطف إذا كان بأو إذا كان ضميرًا فقياسه عوده إلى أحدهما لا إليهما أو يقال: إن الضمير عِيْدَ إلى المعنى%ج 1 ص 458%دون اللفظ، قال ابن الأثير: تقديره انفضوا إلى الرؤية التي رأوها أي: مالوا إلى طلب ما رأوه، وفي «تفسير عبد بن حميد» حَدَّثَنا يعلى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: «قَدِمَ دِحْيَةُ بِتِجَارَةٍ فَخَرَجُوْا يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ سَبْعَةَ نَفَرٍ» وأخبرني عمرو بن عون عن هشيم عن يونس عن الحسن قال: «فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلاَّ رَهْطٌ مِنْهُمْ: أَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة: 11]، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى معيَ أَحَدٌ منكم لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَارًا».أخبرنا يونس عن شيبان عن قتادة قال: «ذَكَرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَامَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: جَاءَتْ عِيْرٌ فَجَعَلُوْا يَقُوْمُوْنَ حَتَّى بَقِيْتَ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: كَمْ أَنْتُمْ؟ فَعَدُّوْا أَنْفُسَهُمْ فَإِذَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةً ثُمَّ قَامَ الجُمُعَةَ الثَّانِيَةَ فَخَطَبَهُمْ وَوَعَظَهُمْ فَقِيْلَ: جَاءَتْ عِيْرٌ فَجَعَلُوْا يَقُوْمُوْنَ حَتَّى بَقِيَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَقِيْلَ لهم: كَمْ أَنْتُمْ؟ فَعَدُّوْا أَنْفُسَهُمْ فَإِذَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةً فَقَالَ: وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوِ اتَّبَعَ آخِرُكُمْ أَوَّلَكُمْ لالْتَهَبَ الوَادِي عَلَيْكُمْ نَارًا فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيْهَا مَا يَسْمَعُوْنَ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة: 11]، الآية».
(1/129)
حَدَّثَنَا شيبان عن وَرْقَاء عَنِ أَبِي نَجِيحٍ عن مجاهد: «{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا} [الجمعة: 11]، فَقَالَ: كَانَ رِجَالٌ يَقُوْمُوْنَ إِلَى نَوَاضِحِهِمْ وَإِلَى السَّفَرِ يقْدمُونَ يَبْتَغُونَ التِّجَارَةَ واللَّهْوِ».وفي تفسير ابن عباس جمع إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن جويبر عن الضحاك عنه أبان عن أنس: «بينما نحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يخطب يوم جمعة إذ سمع أهل المسجد صوت الطبول والمزامير، وكان أهل المدينة إذا قدمت عليهم العير من الشام بالبر والزبيب استقبلوها فرحا بالمعازف فقدمت عِيْرٌ لدحية والنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يخطب فتركوا النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وخرجوا، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: من هاهنا، فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة فإذا اثنا عشر رجلًا وامرأتان، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لو تبع آخركم أولكم لاضطَّرم الوادي عليكم نارًا ولكن الله تَطَوَّلَ على أمتي بكم فرفع العقوبة بكم عمن خرج فنزلت الآية».وروينا عن الواحدي قال: قال المفسرون: «أَصَابَ أَهْلَ المَدِيْنَةِ جُوْعٌ وَغَلاَءُ سِعْرٍ فَقَدِمَ دِحْيَةُ بِتِجَارَةٍ مِنَ الشَّامِ فَضُرِبَ لَهَا طَبْلٌ يُؤْذِنُ النَّاسَ بِقُدُوْمِهِ ... » الحديثَ.
(1/130)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: اختلف العلماء في الإمام يفتتح صلاة الجمعة بالجماعة ثم يتفرقون،
فقال الثوري: إذا ذهبوا إلا رجلين صلى ركعتين، وإن بقي واحدٌ صلى أربعًا، وقال أبو
ثور: يصليها جمعة، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا افتتح الجمعة وكبر للإحرام%ج 1 ص
459%ثم تفرقوا كلهم صلاها جمعة وحده، وقال أبو حنيفة: إذا تفرقوا قبل أن يسجد سجدة
استقبل الظهر، وإذا تفرقوا بعد سجوده سجدة صلاها جمعة، وحكى ابن القصار كمثله عن
ملك وهو قول المزني، وقال زفر: إذا نفروا عنه قبل أن يجلس للتشهد بطلت صلاته، وعن
الشافعي إن بقي اثنان حتى تكون صلاته صلاة جماعة أجزأهم وقيل: لا يجزئهم حتى
يكونوا أربعين. وفي «المهذب»: إن بقي معه واحد أتم الجمعة، لأن الاثنين جماعة،
وخرَّجَ المزني قولين الأول: إن بقي وحده جاز أن تتم الجمعة. والثاني: إن صلى ركعة
ثم انفضوا أتمَّ الجمعة وإن انفضوا قبل الركعة لم يتم الجمعة، وقال إسحاق: إن بقي
معه اثنا عشر رجلًا صلاها جمعة أخذًا بهذا الحديث، وعن أشهب إذا لم يبق معه إلا
عبيد ونساء صلى بهم الجمعة. (العِيْرُ) مؤنثة القافلة وقيل: العير الإبل تحمل
الميرة لا واحد لها من لفظها، والجمع عِيرات بالإسكان ذكره ابن سيده، وفي
«الجامع»: العير إبل تحمل الميرة والتجارة ولا تكون عيرًا إلا كذلك والله تعالى
أعلم. (بَابُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا)
937 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ
المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ العِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ
لاَ يُصَلِّي بَعْدَ الجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ».
[خ¦937]
وفي رواية معن عن مالك: «حَتَّىَ يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّيْ فِيْ بَيْتِهِ».
(1/131)
وفي
رواية يحيى بن مالك: «وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الجُمُعَةِ فِي المسْجِدِ
حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ».
قال الدَّارَقُطْني في «الموطآت»: وكذلك قال أبو علي الحنفي وبشر بن عمر: «حَتَّى
يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي فقط» ورواية سالم عن أبيه لم يذكر فيها البيت في المغرب،
وفي «الغرائب»: وَبَعْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ رَكْعَتَينِ فِي بَيْتِهِ وفيها أيضًا:
«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ
شَيْئًا».
وينظر في قول البخاري وقبلها وأنه ليس على شرطه ولم يذكر.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ».
وفي لفظ: «مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا».
وفي لفظ: «إِذَا صَلَّيْتُمُ الْجُمُعَةَ فَصَلُّوا بَعْدَهَا أَرْبَعًا».
زعم أبو بكر الخطيب أن هذه اللفظة مدرجة وأن المرفوع: «فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ».
وفي «علل الخلال» «فَإِنْ عَجِلَ بِكَ شَيْءٌ، فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فِي
الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيْنِ إِذَا رَجَعْتَ»
%ج 1 ص 460%
وقال الأثرم: قلت لأحمد عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن حفصة «كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ» فقال: عن
حفصة؟! -كالمنكر- ليس هذا بشيء من قال هذا؟ قلت: حماد بن سلمة ثم سكت.
وعند أبي إسحاق إبراهيم بن حزب العسكري السمسار في مسند أبي هريرة تأليفه
حَدَّثَنا عبد الله بن عبد الوهاب، حَدَّثَنا عبد الله بن محمد عن سهل عن أبيه عن
أبي هريرة يرفعه: «صَلُّوْا بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا».
(1/132)
وعند
أبي داود السجزي عن عطاء: «رَأَىَ ابنَ عُمَرَ إِذَا كَانَ بِمَكَّةَ شَرَّفَهَا
اللهُ تَعَالَى فَصَلَّى الجُمُعَةَ فَيَنْحَازُ عَنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى
فِيهِ الْجُمُعَةَ قَلِيلًا غَيْرَ كَثِيرٍ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
يَمْشِي أَنْفَسَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَرْكَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قِيْلَ لِعَطَاءٍ:
كَمْ رَأَيْتَ ابنَ عُمَرَ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِرَارًا، وَإِذَا كَانَ
بِالْمَدِينَةِ، صَلَّى الْجُمُعَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَفْعَلُهُ».
وفي «سنن سعيد بن منصور» عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «عَلَّمَنَا ابنُ
مَسْعُوْدٍ أَنْ نُصَلِّيَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا، فَلَمَّا قَدِمَ
عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، عَلَّمَنَا أَنْ نُصَلِّيَ سِتًّا».
وأما الصلاة قبل الجمعة ففيه أحاديث منها ما في «صحيح ابن حبان» عن ابن عمر:
«أنَّه كانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ، وَيُصَلِّي بَعْدَهَا
رَكْعَتَيْنِ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَفْعَلُ ذَلِك» قال: وأخبرنا ابن قتيبة، حَدَّثَنا محمد بن عمرو، حَدَّثَنا تميم
بن سعيد، حَدَّثَنا محمد بن مهاجر عن ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن عبد الله
بن الزبير قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَلاَةٍ
مَفْرُوْضَةٍ إِلاَّ وَبَيْنَ يَدَيْهَا رَكْعَتَانِ» وعند أبي داود قال: هو مرسل
عن أبي قتادة: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَرِهَ
الصَّلَاةَ نِصْفَ النَّهَارِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: إِنَّ
جَهَنَّمَ تُسَجَّرُ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ».
(1/133)
وعن
أبي هريرة مثله رواه الشافعي عن إبراهيم شيخه وفي «الأوسط» للطبراني من حديث أبي
عبيدة عن أبيه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيْ
قَبْلَ الجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا».
وعند ابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عباس قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَرْكَعُ مِنْ قَبْلِ الجُمُعَةِ أَرْبَعًا لاَ يَفْصِلُ فِي شَيْءٍ
مِنْهُنَّ».
(بَابُ قَوْلِ اللهِ عزِّ وجلَّ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ} [الجمعة: 10])
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: جماعة أهل العلم على أن هذا إباحة بعد الحظر، وقيل: هو أمر
على بابه، وعن الداودي: هو إباحة لمن كان له كفاف، أو لا يطيق التكسب، وفرض على من
لا شيء له ويطيق التكسب، وقال غيره: من تعطف عليه بسؤال أو غيره ليس طلب التكسب
عليه بفريضة.
938 - حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنا أَبُو غَسَّانَ،
حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ،
%ج 1 ص 461%
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى
أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ
الجُمُعَةِ تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ، ثُمَّ
تَجْعَلُهُ في قَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ فتَطْحَنُهَا، فَيكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ
عَرْقَهُ، وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ يومِ الجُمُعَةِ، فَنُسَلِّمُ
عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا، فَنَلْعَقُهُ وَكُنَّا
نَتَمَنَّى يَوْمَ الجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ» [خ¦938]
حدَّثَنَا ابن مَسْلَمَةَ، حدَّثَنَا ابن أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
سَهْلِ بنِ سعدٍ بِهَذَا، وَقَالَ: «مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا
بَعْدَ الجُمُعَةِ».
(1/134)
وذكر
أيضًا في باب الغرس من كتاب المزارعة ليستدل به على أعمال الصحابة رجالهم ونسائهم
بأنفسهم وذلك شعار الصالحين من غير عارٍ ولا نقيصة على أهل البصيرة، واعترض عليه
الإسماعيلي بقوله: المعروف في السلق أنه يُزْرَعُ ولا يُغْرَسُ، ولو استدل بحديث
محمد بن جعفر بن الزبير عن أبي حازم كان واضحًا إذ فيه: «كَانَتْ لَنَا عَجُوْزٌ
تَزْرَعُ السِّلْقَ».
وفي لفظ: «كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ، تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَة -قَالَ ابنُ
مَسْلَمَةَ: نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ- فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ
فَتَطْرَحُهُ فِي القِدْر، وَتُكَرْكِرُ عليهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ» وقد تقدم في
باب وقت الجمعة طرف منه.
(الأَرْبِعَاء) والرُّبْعَانِ جمع ربيع وهي الساقية الصغيرة تجري إلى النخل
حجازيَّة، ذكره ابن سيده.
وقوله: (فَنَلْعَقُهُ) هذا اختيار ثعلب في الفصيح كسر العين من الماضي وفتحها من
المستقبل.
(بابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ)
وَقَوْلِ اللهِ جلَّ وعزَّ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ:
{عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102]
(1/135)
أخبرنا
المسند المعمَّر أبو النون الجَوْدَرِيُّ، عن أبي الحسن الْمُقيَّري، عن أبي الفضل
الْمِيْهَني قال: أخبرنا الإمام أبو الحسن الواحدي - فيما أجازناه - قال: أخبرنا
الأستاذ أبو عثمان الزَّعفراني المقرئ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي
بن زياد، أخبرنا أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي، حَدَّثَنا علي بن زياد حَدَّثَنا
أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي، حَدَّثَنا علي بن زياد حَدَّثَنا أبو قُرَّةَ
موسى بن طارق قال: ذكر سفيان عن منصور عَنْ مُجَاهِدٍ، حدثنا أَبُو عَيَّاشٍ
الزُّرَقِيِّ قال: «صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الظُّهْرَ فَقَالَ المشْرِكُوْنَ: كَانُوْا عَلَى حَالٍ لَوْ كُنَّا أَصَبْنَا
مِنْهُمْ غِرَّةً فَقَالُوْا: يَأْتِيْ عَلَيْهِمْ صَلاَةٌ هِيَ أَحَبُّ
إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ قَالُوْا: وهِيَ العَصْرُ فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِهَؤُلاَءِ الآيَاتِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] وَهُمْ بِعُسْفَانَ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَذَكَرَ
صَلاَةَ الخَوْفِ».
وأخبرنا الشيخ الإمام يوسف بن عمر الحنفي قراءة عليه، أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد
العظيم، أخبرنا أبو حفص بن محمد بن معمر، أخبرنا الإمامان أبو البدر إبراهيم بن
محمد بن منصور وأبو الفتح الدُّومي، أخبرنَا الحافظ أبو بكر بن ثابت البغدادي، أخبرنَا
أبو عمر الهاشمي، أخبرنَا أبو علي اللُّؤلُئِي، أخبرنَا أبو داود السِّجِسْتاني
%ج 1 ص 462%
(1/136)
قال
أخبرنا سعيد بن منصور عن جرير عن منصور عن مجاهد عنه بلفظ: «فَصَفَّ خَلْفَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَفٌّ، وصَفَّ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّفِّ
صَفٌّ آخَرُ، وَرَكَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَرَكَعُوا جَمِيعًا،
ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَليه، وَقَامَ الْآخَرُونَ
يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا صَلَّى هَؤُلَاءِ السَّجْدَتَيْنِ وَقَامُوا سَجَدَ
الْآخَرُونَ الَّذِينَ كَانُوا خَلْفَهُمْ، ثُمَّ تَأخَّر الصَّفُّ الَّذِي
يَلِيهِ إِلَى مَقَامِ الْآخَرِينَ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الآخَرُ إِلَى مَقَامِ
الصَّفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ
الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، سَجَدَ الْآخَرُونَ ثُمَّ جَلَسُوا
جَمِيعًا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَصَلَّاهَا بعُسْفان، وَصَلَّاهَا
يَوْمَ بَنِي سُلَيْم».
وفي لفظ: «نَزَلَتْ صَلاَةُ الخَوْفِ بَيْنَ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ
وَكَانَتْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَانِ مَعَ إِمَامِهِمْ» ولما خرجه الإمام قال:
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولما خرجه البيهقي قال: هذا إسناد صحيح إلا أن
بعض أهل العلم يشك في سماع مجاهد من أبي عياش، وقد وجدنا حديثًا جيدًا صَرَّح
مجاهد فيه بسماعه من أبي عياش. انتهى.
وسماعه منه متوجه، لأنَّ مولدَ مجاهد تقريبًا سنة عشرين، وأبو عياش بقي إلى بعد
الأربعين وقيل: بعد الخمسين.
(1/137)
وزعم
الداودي أن صلاة الخوف كانت بذات الرقاع فَسُمِّيَتْ بذلك لترقيع الصلاة فيها،
وكانت في المحرَّم يوم السبت لعشرٍ خَلَوْن منه، وقيل: في سنة خمس، وقيل: في جمادى
الأولى سنة أربع، وذكرها البخاري بعد غزوة خيبر، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى،
ويقال: كانت قبل بدر الموعد، وقد رُوِيَ في كيفية صلاة الخوف روايات عدة فابن حزم
يقول: بين أربعة عشر وجهًا كلها صحَّ عن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وقال أبو عمر: المرويُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في
ذلك ستة أوجه.
وفي «المصنف» بسند جيد عن مجاهد: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّىَ
بِعُسْفَانَ صَلاَةَ الخَوْفِ وَلَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الْخَوْفِ قَبْلَ يَوْمِهِ
وَلاَ بَعْدَهُ».
وفي «المحلى»: لا يتم عَنْ زَيدِ بنِ ثَابِتٍ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّةً، ولَمْ يُصَلِّ ما قَبْلَهَا
وَلَا بَعْدَهَا»، قال أبو محمد: هو خبر ساقط لم يروه إلا يحيى الحِمَّاني وهو
ضعيف عن شريك وهو مدلِّس، وذكر ابن القصَّار أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صَلاَّهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاطِنَ، وَصَحَّحَهَا بَعْضُهُمْ فِي
ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ فَقَط.
وعند ابنِ بَزِيْزَةَ: نَزَلَتْ بِعُسْفَانَ فِي صَلاَةِ العَصْرِ، وفي حديث جابر:
«صَلاَّهَا فِي غَزْوَةِ جُهَيْنَةَ»، وقيل: في بطن
%ج 1 ص 463%
(1/138)
نخل،
وقيل: في ذات الرقاع، وقيل: في غطفان، وتواتر أنه صلاها على هيئات صحح العدول منها
سبعًا، وقال ابن العربي: رويت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في صلاة الخوف
روايات كثيرة أصحها ستَّ عشرة رواية مختلفة، قال: وصلاها رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أربعًا وعشرين مرة، وقال أحمد بن حنبل: لا أعلم رُوِيَ فيها عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا حديثًا ثابتًا وهي كلها صحاح ثابتة إلا
حديث صلى به المصلي أجزأه.
وفي «سؤالات حرب» سمعت أبا أحمد يقول: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح الإسناد
وكلما فعلت منها فهو جائز، وفي «علل الخلال» قال علي بن سعيد: سئل أبو أحمد عن
صلاة الخوف فقال: قد رُوِيَ ركعة وركعتين، ابن عباس يقول: ركعةً ركعةً إلا أنه كان
للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ركعتان، وما يُرْوَي عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كلها صحاح، وفي رواية صالح قال: إني أجيز كل ما جاء.
وفي كتاب الترمذي عنه: رُوِيَتْ صلاة الخوف مرفوعة على أوجه، وما أعلم في هذا الباب
إلا حديثًا صحيحًا زاد أبو علي الطُّوسي في كتابه «الإحكام» وهكذا قال إسحاق بن
إبراهيم ورأى أن كلَّ ما رُوِيَ في ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
جائزٌ العمل به، وهذا على قدر الخوف والمختار حديث سهل بن أبي حثمة على غيره.
(1/139)
942 - حدَّثَنَا أبو اليَمَانِ، أخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عنِ الزُّهْرِيِّ، وسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ -يَعْنِي صَلاَةَ الخَوْفِ- فَقَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، أنَّ عبد الله قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَافَيْنَا الْعَدُوَّ فَصَافَفْنَاهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاؤُوْا فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثمَّ سلَّمَ، فقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» وفي لفظ: «إِذَا اخْتَلَطُوْا قِيَامًا وَإِنْ كَانُوْا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوْا قِيَامًا وَرُكْبَانًا». [خ¦942] ورواه مالك في «الموطأ» وقال: قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وفي «موطأ ابن الحسن» عنه: لا أرى عبد الله حَدَّثه إلا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. قال الدَّارَقُطْني: ورواه عن مالك إسحاق بن عيسى الطباع فأسنده بغير شك، وفي رواية يحيى بن أبي زائدة عن مالك: «فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَشَدَّ مِنْ هذا صَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي القِبْلَةِ وغيرَ مُسْتَقْبِلِيها» ثم قال: وقال نافع: ولا أراه أخذه إلا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/140)
%ج 1 ص 464%وفي لفظ: وزاد ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا» وقال ابن عبد البر: رواه جماعة عن نافع ولم يشكوا في رفعه منهم: ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى وكذا رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وخالد بن معدان، ولما رواه مسلم في «صحيحه» مرفوعًا من غير تردد بَيَّنَ أن هذه الزيادة وهي: (فإنْ كانَ خوفٌ) إلى آخره من كلام ابن عمر أدرجها على المتن. وفي لفظ: «فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ قَضَتِ الطَّائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً» قَالَ ابنُ عُمَرَ: «فَإِذَا كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَلِّ رَاكِبًا وقَائِمًا تُومِئُ إِيمَاءً».وعند ابن ماجه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَصَفَ صَلاَةَ الخَوْفِ وَقَالَ: «فَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا».وفي «مسند الهيثم بن خلف»: «إِذَا اخْتَلَطُوا فَإِنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ وَإِشَارَةٌ بِالرَّأْسِ».وعند الإسماعيلي: «قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ».
(1/141)
وفي «الموطأ»: «مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ أَوْ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُهَا» وهذا الحديث فيه إشكال من حيث إن ابن عمر صلَّى وهو رضي الله عنه إنما أُجِيْزَ في الخندق وغزوة نجد المذكورة هنا هي ذات الرقاع وهي قبل الخندق إجماعًا إلا ما شذَّ به البخاري من أنها بعد خيبر اللَّهمَّ إلا أن يكون حضرها من غير إجازة فيحتاج إلى نقل، ولكن السَّكْسَكِي ذكر في «مسنده» من طريق صحيحة وأبو داود الطيالسي وأبو محمد الدارمي في «مسنديهما» عن أبي سعيد الخدري: «إِنَّ فِي الخَنْدَقِ لَمَّا حُبِسُوْا عَنِ الصَّلاَةِ صَلَّىَ بِهِمُ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَا فَاتَهُمْ قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ تبارك وتعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]» فعلى هذا فاتجه ما قاله ابن عمر وإن كان أهل السِّيَر على خلاف ذلك فينظر.
(1/142)
وأما الأحاديث الواردة في الباب فحديث سهل بن أبي حثمة عند الستة وسيأتي إن شاء الله تعالى في المغازي، وكذا حديث جابر بن عبد الله وحديث ابن عباس وحديث حذيفة في «صحيح أبي حاتم ابن حبان» و «صحيح أبي بكر بن خزيمة»: «صَفَّ النَّاسَ صَفَّيْنِ صَفًّا خَلْفَهُ وَصَفًّا مُوَازِي الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ مَكَانَ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا» وذكر أن حديث زيد بن ثابت مثله مرفوعًا، وقال الحاكم: حديث حذيفة صحيح الإسناد، وفي «المحلى»: فإن قيل: قد رُوِيَ من طريق حذيفة أنه أمر بقضاء ركعة، قلنا: هذا انفرد به الحجاج بن أرطأة وهو ساقط، ثم لو صحَّ لما نفع من رواية الثقات أنهم لم يقضوا بل كان يكون ذلك جائزًا، قال بعضهم: وقد رُوِي عن حذيفة%ج 1 ص 465%صلاة الخوف وأربع سجدات، قلنا: هذا من رواية يحيى الحماني وهو ضعيف عن شريك وهو مدلس عن جريج وهو مجهول، ثم لو صح لكان ذلك مقصودًا به صلاة إمامهم بهم، وكذلك القول في رواية سُلَيْم وهو مجهول على حذيفة.
(1/143)
وحديث أبي هريرة من عند الحاكم على شرط الشيخين: وذكر غَزْوَةِ نَجْدٍ: «وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَامَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ فَرَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَة وَرَكَعَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي معه، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَتِ الطَّائِفَةُ التي تَلِيهِ، وَالآخرُونَ قِيَامٌ مُقَابلو الْعَدُوِّ، ثُمَّ قَامَ وَقَامَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ، فَذَهَبُوا إِلَى الْعَدُوِّ فَقَاتلُوهُمْ، وَأَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ مُقَابِلي الْعَدُوِّ، فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَائِمٌ كَمَا هُوَ، ثُمَّ قَامُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَكْعَةً أُخْرَى وَرَكَعُوا مَعَهُ وَسجدَ فَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتِ الطَّائِفَةُ الَّتِي كَانَتْ ممَّا يَلِي الْعَدُوَّ فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَاعِدٌ وَمَنْ معهُ، ثُمَّ كَانَ السلامُ فَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا جَمِيعًا، فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَكْعَتَانِ وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ».وفي لفظ: «فَلَمَّا قَامُوْا مَشَوُا الْقَهْقَرَى إِلَى مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ».وعند الترمذي مصححًا: «قَسَمَ أَصْحَابَهُ نِصْفَيْنِ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْهُم وَطَائِفَة مُقْبِلُوْنَ عَلَى عَدُوِّهِم قَدْ أَخَذُوْا حِذْرَهُمْ وَأَسلِحَتَهُمْ بِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ تَأَخَّرَ هَؤُلاَءِ وَتَقَدَّمَ أُوْلَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً تكونُ لَهُمْ مَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَكْعَةً رَكْعَةً، ولِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَكْعَتَانِ». انتهى. هذا الحديث يقتضي أن يكون من مراسيل أبي هريرة، لأن صحبته متأخرة عن هذه الغزوة بزمان.
(1/144)
وحديث عائشة رضي الله عنها: «كَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَكَبَّرَتِ الطَّائِفَة التِيْ صَفَّتْ مَعَهُ ثُمَّ رَكَعَ فَرَكَعُوا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَرَفَعُوا، ثُمَّ مَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جَالِسًا ثُمَّ سَجَدُوا هُمْ لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَامُوا فَنَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى حَتَّى قَامُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، فَقَامُوْا فَكَبَّرُوا، ثُمَّ رَكَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ وَسَجَدُوا لِأَنْفُسِهِمُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَامَتِ الطَّائِفَتَانِ جَمِيعًا، فَصَلَّوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَرَكَعَ فَرَكَعُوا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدُوا جَمِيعًا، ثُمَّ عَادَ فَسَجَدَ الثَّانِيَةَ، وَسَجَدُوا معهُ سَرِيعًا كَأَسْرَعِ الْإِسْرَاعِ جَاهِدًا، لَا يَأْلُونَ سِرَاعًا، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمُوا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَقَدْ شَارَكَهُ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا».وعند أبي داود من حديث عبيدة عَنْ أبيه عبد الله بن مسعود قال: «فَقَامُوا: صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَصَفٌّ مُسْتَقْبِلَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ جَاءَ%ج 1 ص 466%الْآخَرُونَ فَقَامُوا مَقَامَهُمْ، وَاسْتَقْبَلَ هَؤُلَاءِ الْعَدُوَّ، فَصَلَّى بِهِمُ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ هَؤُلَاءِ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمُوا، ثُمَّ ذَهَبُوا فَقَامُوا مَقَامَ أُولَئِكَ مُسْتَقْبِلِي الْعَدُوِّ، وَرَجَعَ أُولَئِكَ إِلَى مَقَامِهِمْ فَصَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمُوا».
(1/145)
وفي رواية: «فَكَبَّرَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَكَبَّرَ الصَّفْانِ جِمِيْعًا» وعنده أيضًا وخرَّجه أيضًا ابن حبان واللفظ لأبي داود عن أبي بَكْرَة قالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي خَوْفٍ الظُّهْرَ، فَصَفَّ بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ، وَبَعْضُهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى ِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ، ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَكَانَتْ لهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَرْبَعًا، وَلِأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي الْحَسَنُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ يَكُونُ لِلْإِمَامِ سِتُّ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ ثَلَاثٌ. ورُوِيَ أيضًا عن أبي سلمة وسليمان اليشكري عن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولفظه في «صحيح ابن خزيمة»: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَجَاءَ الْآخَرُونَ فَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سِتُّ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ ثَلَاثٌ ثَلَاثٌ»، وقال الحاكم لما خرجه: هذا الحديث غريب من حديث أشعب الحمراني يعني عن الحسن أبي بكرة لم يكتبه إلا بهذا الإسناد سمعت أبا علي الحافظ يقوله، وقال الحاكم: وهو صحيح على شرط الشيخين، وقال ابن حزم لَمَّا خرَّجه مُسْتَدِلًّا به: هذا آخر فعل فعله سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأن أبا بكرة شهده معه ولم يسلم إلا يوم الطائف ولم يشهد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعد الطائف إلا تبوك فقط، فهذه أفضل صفات صلاة الخوف لما ذكرناه وقال بها الشافعي وأحمد.
(1/146)
وقال أبو عمر: لا وَجْدَ لمن قال إن حديث أبي بكرة وجابر كان في الحضر، لأن فيه سلامه في كل ركعتين منهما وهما حديثان ثابتان من جهة النقل عند أهل العلم، وعن محفوظ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّىَ صَلاَةَ الخَوْفِ فِي الحَضَرِ» وعند البيهقي من حديث العمري عن أخيه عن القاسم عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْخَوْفِ، فَصَفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ, وَطَائِفَةٌ تِلْقَاءَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ قَامَ وَقَامُوا، وأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ذَهَبُوا مَكَانَ أَصْحَابِهِمْ وَجَاءَ الْآخَرُونَ، فَصَلَّى بِهِمُ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ أَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثم ذهبُوا» قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: قَالَ الْقَاسِمُ: مَا سَمِعْتُ شَيْئًا فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ هَذَا. وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: «صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهُ صَلَّاهَا ثَلَاثًا».
(1/147)
وعنده أيضًا بسند صحيح: «أَنَّ أَبَا مُوسَى أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ%ج 1 ص 467%أَصْبَهَانَ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَجَعَلَهُمْ صَفَّيْنِ، طَائِفَةٌ مَعَهَا السِّلَاحُ مُقْبِلَةٌ عَلَى عَدُوِّهَا، وَطَائِفَةٌ وَرَاءَهَا، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمَّ نَكَصُوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ حَتَّى قَامُوا مَقَامَ الْآخَرِينَ يَتَخَلَّلُونَهُمْ حَتَّى قَامُوا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرَى ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ بالَّذِينَ يَلُونَهُ وَالْآخَرُونَ فَصَلَّوْا رَكْعَةً رَكْعَةً، فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَتَمَّتْ لِلْإِمَامِ رَكْعَتَانِ فِي جَمَاعَةٍ وَلِلنَّاسِ رَكْعَةٌ رَكْعَةٌ مَعَهُ، ورَكْعَةٌ رَكْعَةٌ دُوْنَهُ».وعِنْدَ مُسْلِمٍ من حديث ابن عباس قال: «فَرَضَ اللهُ تعالى الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا، وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً». وعند الحاكم على شرطهما: «صَلَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِذِي قَرَدٍ، فَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَهُ، وَصَفٌّ مُوَازي الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ خَلْفَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَكَانَ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوا».
(1/148)
وفي لفظ: «مَا كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ إِلَّا كَصَلَاةِ أَحْرَاسِكُمْ هَؤُلَاءِ الْيَوْمَ خَلْفَ أَئِمَّتِكُمْ هَؤُلَاءِ، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ عُقْبًا، قَامَتْ طَائِفَةٌ وَهُمْ جَمِيعًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَسَجَدَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، ثُمَّ قَامَ وَقَامُوا مَعَهُ جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعُوا مَعَهُ جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ فَسَجَدَ الَّذِينَ كَانُوا قِيَامًا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَالَّذِينَ سَجَدُوا مَعَهُ فِي آخِرِ صَلاتِهِمْ، سَجَدَ الَّذِينَ كَانُوا قِيَامًا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ جَلَسُوا، فَجَمَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وأصله في «صحيح البخاري»: «قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مَعَهُ، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةِ، فَقَامَ الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ وَأَتَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاَةٍ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا».
(1/149)
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: والذي ذهب ابن أبي ليلى وقال الطحاوي: وإليه ذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف: إذا كان العدو في القبلة وإن كانوا في غير القبلة فكما روى ابن عمر، وأما أبو حنيفة ومالك فتركا العمل به لمخالفته الكتاب، وحديث عبد الله بن أُنَيْس من «صحيح ابن حبان»: «لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ لِيَقْتُلَهُ قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا إِنْ أُؤَخِّر الصَّلَاةَ، فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إِيمَاءً، نَحْوَهُ، ... » الحديثَ. وفي «العلل للخلال» قال أحمد: لا أعلم أحدًا قال: في الماشي يصلي إلا عطاء، وما يعجبني أن يصلي الماشي. انتهى. حكى ابن أبي شيبة عن مجاهد الصلاة وهو يمشي وحكاه عطاء عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقال مكحول: لا بأس به وفعله سعيد بن جبير وأبو برزة%ج 1 ص 468%الصحابي. وعند أبي قُرَّة ذكر المثنى بن الصباح: حَدَّثَنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: «صَلَّيْتُ معَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاةَ الخوفِ يومَ الْمُرَيْسِيْعِ ونحنُ مُصَافُّون بني لِحْيان فَقُمْنَا صَفَّيْنِ فَرَكَعْنَا جميعًا، ثم سجدَ معه الصفُّ الأولُ وقامَ الآخرونَ في وجهِ العدو، ثم قامَ الأولونَ ثمَّ سجدَ الآخرون، ثم قاموا فتقدموا واستأخر الأولون ثم فعلوا كما فعلوا أول مرة».وفي «المصنف»: عن عطاء وسعيد بن جبير وأبي البحتري وأصحابهم قالوا: «إِذَا الْتَقَى الزَّحْفَانِ، وَضَرَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقالَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، فَتِلْكَ صَلَاتُكَ، ثُمَّ لَا تُعِيدُ».
(1/150)
وعن مجاهد والحكم: «إِذَا كَانَ عِنْدَ الطِّرَادِ وسَلِّ السُّيُوفِ، أَجْزَأَ الرَّجُلَ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ تَكْبِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا تَكْبِيرَة وَاحِدَة أَجْزَأَتْهُ أَيْنَمَا كَانَ وَجْهُهُ».وعن إبراهيم: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمُطَارَدَةِ فَأَوْمِئْ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ».وقال هَرِمُ بْنُ حِبَّانَ لأصحابه وكانوا في جيش: لِيَسْجُد كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ سَجْدَةً تَحْتَ جُنَّتِهِ، وسئل الحسن عن الصلاة إذ ذاك قال: يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وسجدتينِ غَيْرَ تِلْقَاء وَجْهه، وقال حماد: ركعة حيث كان وجهه، ونهى ثابت بن السِّمْط عن ثابت عن النزول للصلاة حالتئذ، وقال جابر بن عبد الله: صلاة الخوف ركعة. وعند البزار بسند فيه ضعف عن ابن عمر: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّىَ صَلاةَ الْمُسَايَفَةِ رَكْعَةً عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الرجل يجزئ عَنْهُ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فيما أحْسُبُ لَمْ يُعِدْ».وزعم ابن حزم أنه إن كان وحده فهو مخير بين ركعتين في السفر أو ركعة واحدة ويجزئه، وقد روي عن حذيفة مثله: «أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً وَلَمْ يَقْضُوْا» وعن زيد بن ثابت مثله، قال أبو محمد: وصحَّ هذا أيضًا مسندًا عن جابر، وأخبر جابرٌ أن القَصْرَ المذكور في الآية عند الخوف هو هذا، وصحَّ من طريق الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ورواه أيضًا عن ابن عمر فهذه آثار متظاهرة متواترة وقال بها جمهور السلف كما روينا عن حذيفة أيام عثمان ومن معه من الصحابة لا يُنْكِر ذلك أحد منهم. وروينا عن أبي هريرة: «أَنَّهُ صَلَّىَ بِمَنْ مَعَهُ صَلاَةَ الخَوْفِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ وَلاَ أَمَرَ بِالقَضَاءِ».
(1/151)
وعن ابن عباس: أومئ بركعة عند القتال، وعن مكحول: إذا لم يقدروا أن يصلوا على الأرض صلَّوا على ظهور الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتان، فإن لم يقدروا أخَّروا حتى يأمنوا. قال أبو محمد: أمَّا التأخر فلا يحل البَتَّةَ، وبالأول يقول سفيان بن سعيد، قال أبو محمد: مِلْنَا إلى هذا لسهولته ولكثرة من رواه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولكثرة من قال%ج 1 ص 469%به الصحابةِ والتابعين ولتواتر الخبر به عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولموافقته القرآن العظيم، ولما ذكر المنذري القائلين بأن صلاة الخوف ركعة وعطاء وطاوس والحسن ومجاهد والحكم وحماد وقتادة يصلي في شدة الخوف ركعة واحدة يومئ إيماء، وكان ابن راهويه يقول: أما عند المسابقة فتجزئك ركعة واحدة يومئ بها إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة، لأنها ذكرٌ لله تعالى، وأما سائر أهل العلم: فإن صلاة شدة الخوف عندهم لا تنقص من العدد شيئًا ولكن يصلي بحسب الإمكان ركعتين أي وجه يوجهون إليه يومئون إيماء، وحمل قول ابن عباس في الخوف ركعة يعني مع الإمام فلا يكون مخالفًا لغيره من الأحاديث الصحيحة. انتهى. وفيه نظرٌ لما أسلفناه. أخذ أبو حنيفة رحمه الله تعالى بحديث ابن عمر وابن مسعود فيما ذكره الثعلبي، زاد شيخنا القشيري إلا أنه قال بعد سلام الإمام تأتي الطائفة الأولى إلى موضع الإمام فتقضي ثم تذهب، ثم تأتي الطائفة الثانية فتقضي ثم تذهب قال: وقد أنكرت عليه هذه الزيادة، وقيل: إنها لم تذكر في حديث.
(1/152)
وقال أبو محمد عبد العزيز وابنُ بَزِيزَةَ: قال مكحول وأبو يوسف والحسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن وبعض علماء الشاميين: أن صلاة الخوف مخصوصة بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اعتمادًا منهم على قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] وعندنا: أن هذا خطاب مواجهة، لأنه المبلغ عن الله تعالى لا خطاب تخصيص بالحكم، لما صح أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصحابة رضي الله عنهم فصلوها بعده منهم علي وأبو هريرة وأبو موسى وغيرهم. وفي «التمهيد»: قال طائفة من أهل العلم: منهم ابن علية وأبو يوسف لا تُصَلَّى الخوف بعد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بإمام واحد، وإنما تُصَلَّى بعده بإمامين، يصلي كل واحد منهم بطائفة ركعتين واحتجوا بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102] لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليس كغيره، ولم يكن من أصحابه من يؤثر منه بنصيبه غيره، وكلهم كان يحب أن يأتم به، والناس بعده يستوي أحوال أهل الفضل منهم أو يتقارب فليس بالناس اليوم حاجة إلى إمام واحد عند الحرب. قال أبو عمر: ومن الحجة لسائر العلماء إجماعهم على أن قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ينوب فيها منابه ويقوم مقامه الخلفاء والأمراء بعده وكذا قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] إلى غيره من الآيِ. وفي «حلية العلماء» لأبي بكر محمد بن أحمد الشاشي: قال المزني: صلاة الخوف منسوخة، وكذا حكاه بن القصار عن أبي يوسف أيضًا قالا: ولا يجوز أن تُصَلَّى بعده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأن فيها تغيير هيئات لا تجوز%ج 1 ص 470% إلا خلفه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/153)
قال ابن القصار: وكانت صلاة الخوف ثابتة في الشريعة ثم نُسِخَتْ بدلالة تأخيره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصلاة يوم الخندق ثم قضاها دفعة، فلو كانت صلاة الخوف ثابتة لم يؤخروا الصلاة عن وقتها. وقال أبو الوليد بن رشد في «القواعد»: ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تُؤَخَّرُ عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل يوم الخندق، قال: والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف، قال في «شرح المهذب»: هذا قول شاذ، وما ذكر من النَّسْخ قول من لا يعرف السنن، لأن الأمر بصلاة الخوف كان بعد الخندق في غزوة ذات الرقاع وذلك كانت سنة سبع والخندق سنة خمس فكيف ينسخ الآخر بالأول؟ انتهى. قد بينا أن هذا القول تفرد به البخاري، والمؤرخون على خلافه فلا يقدح في قول عالم إلا بأمر جامع عليه أو دليل واضح، وقد حكى الأقطع في «شرح القدوري» وغيره أنَّ أبا يوسف رجع عن قوله إلى قول الجماعة. وتقدم أيضًا في حديث أبي بكرة صلاته مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الخوف، وذلك بعد الطائف والله الموفق. وأما أبو عبد الله الشافعي فأخذ بحديث صالح بن خَوَّات الآتي بعد، وذكر الدَّارَقُطْني في «سننه» حديثًا من جهة بقية عن عبد الحميد بن السَّرِي، حَدَّثَنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي صَلاَةِ الخَوْفِ سَهْوٌ».ولما ذكره أبو أحمد في «كامله» ردَّه بِبَقِيَّةَ وشيخه، وقال السُّهَيلي: سنده ثابت. قال ابن حزم: وروينا عن الضحاك بن مُزَاحم ومجاهد والحكم بن عيينة وإسحاق أن تكبيرتين فقط تجزيان في صلاة الخوف، وروينا أيضًا عن الحكم ومجاهد وإسحاق أن تكبيرة واحدة تجزئ في صلاة الخوف. قال أبو محمد: وليس لهذا أصل من كتاب ولا سنة والله تعالى أعلم. الأبواب الثلاثة تقدم ذكرها.
(1/154)
(بَابُ صَلاَةِ الطَّالِبِ وَالمَطْلُوبِ رَاكِبًا وَإِيمَاءً) وَقَالَ الوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ صَلاَةَ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ الدَّوابِّ، فَقَالَ: كَذَا الأَمْرُ عِنْدَنَا إِذَا تُخُوِّفَ الفَوْتُ، وَاحْتَجَّ الوَلِيدُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ».هذا التعليق رواهُ ابن أبي شيبة عن وكيع، حدَّثَنَا ابن عون عن رجاء ابن حَيْوَةَ الكِنْدي قال: «كَانَ ثَابِتُ بْنُ السِّمْطِ، أَوِ السِّمْطُ بْنُ ثَابِتٍ فِي مَسِيرٍ فِي خَوْفٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّوْا رُكْبَانًا، فَنَزَلَ الْأَشْتَرُ، فَقَالَ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: نَزَلَ يُصَلِّي، قَالَ: مَا لَهُ خَالَفَ خُولِفَ بِهِ» انتهى. ذكر ابن حبان أن ثابت بن السمط أخو شرحبيل بن السمط فإذا كان كذلك فَيشبه أن يكونا كانا في ذلك الجيش فَنُسِبَ إلى كل منهما رئيسَيْه، وقد ذكر شرحبيلَ جماعةٌ في الصحابة رضي الله عنهم، وثابتًا في التابعين وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: طلبت قصة%ج 1 ص 471%شرحبيل بن السمط بتمامها لأتبين إن كانوا طالبين أم لا، فذكر الفَزَازي في «السنن» عن ابن عون عن رجاء عن ثابت بن السمط بن ثابت قال: كانوا في سفر في خوف فصلَّوا ركبانًا، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصلاة فقال: خالفَ خُولِفَ بهِ، فخرج الأشتر في الفتنة.
(1/155)
قال: فبان بهذا الخبر أنهم كانوا حين صلوا ركبانًا، لأن الإجماع حاصل على أن المطلوب لا يصلي إلا راكبًا وإنما اختلفوا في الطالب، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: صلاة ابن السمط ظاهرها أنها كانت في الوقت وهو من قوله تعالى: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال: وقَالَ الدَّاودِيُّ: احتجاج الوليد بحديث بني قريظة ليس فيه حجة، لأنه قبل نزول صلاة الخوف، قال: وقيل: إنما صلَّى شرحبيل على ظهر الدابة، لأنه طمع في فتح الحصن فصلَّى إيماءً ثم فتحه، وجوَّزَ ذلك بعض أصحاب مالك وهو ابن حبيب وغير الداودي قال: لا حجة في حديث بني قريظة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما أراد سرعة سيرهم ولم يجعل لهم بنو قريظة موضعًا للصلاة. وقال أبو حنيفة: إذا كان الرجل مطلوبًا فلا بأس بصلاته سائرًا، وإن كان طالبًا فلا، وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء كل واحد منهما يصلي على دابته، وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور وابن عبد الحكم، وعن الأوزاعي: إن كان الطالب قُرْبَ المطلوب صلَّى إيماءً وإلا لم يجز له الإيماء، وعن الشافعي: إن خاف الطالب انقطاعه عن أصحابه وكثرة الطالبين له صلَّى إيماءً وإلا فلا.946 - حَدَّثَنا عبد الله بن مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، حدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، وقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.
(1/156)
[خ¦946] في «صحيح مسلم» عن عبد الله بن محمد بن أسماء، حَدَّثَنا جويرية فقال: «الظُّهْرَ بَدَلَ العَصْرِ».وفي «مستخرج أبي نعيم» حَدَّثَنا أبو إسحاق، حَدَّثَنا أبو يعلى، حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: «لاَ يُصَلِّيْنَ أَحَدٌ الظُّهْرَ». وقَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: حَدَّثَنا أبو يعلى، حَدَّثَنا عبد الله: «فَقَالَ: العَصْرُ» كَذَا وَكَذَا رواه أيضًا عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عن عبد الله، وقال ابن حبان في «صحيحه»: حَدَّثَنا عمر بن محمد، حَدَّثَنا مالك بن إسماعيل فذكر: «الظهرَ» ورواه سعد عن مالك كذلك أيضًا. قال ابن سعد: كان مسيره إليهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي قعدة عَقِبَ الخندق. وعند ابن إسحاق: «لَمَّا رَجَعَ مِنَ الخَنْدَقِ أَتَاهُ جِبْرِيْلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الظُّهْرَ فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلاَحَ فِإنَّ المَلائِكَةَ مَا وَضَعَتْهُ اعْمِدْ إِلَيْهِمْ» وزعم بعض العلماء أن الجمع بين قوله الظهر والعصر بأن هذا الأمر كان بعد دخول%ج 1 ص 472%وقت الظهر، وقد صلى الظهر بالمدينة بعضهم دون بعضٍ، فقيل: للذين لم يصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وللذين صلوها بالمدينة لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، قال: ويحتمل أنه قيل للجميع: لا تصلوا العصر ولا الظهر إلا في بني قريظة، قال: ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولًا لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين ذهبوا بعدهم لا تصلوا العصر إلا بها.
(1/157)
قالَ السُّهَيلي: في هذا دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيبٌ إذ لا يستحيل أن يكون الشيء صوابًا في حقِّ إنسانٍ خطأً في غيره فيكون من اجتهد في مسألة فأدَّاه اجتهاده إلى التحليل مصيبًا في استحلالها، وآخر اجتهد فأدَّاه اجتهاده إلى تحريمها، وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حقِّ شخصٍ واحدٍ، وإنما عَسُرَ فهمُ هذا الأصل على طائفتين الظاهرية والمعتزلة، أما الظاهرية فلأنهم علَّقوا الأحكام بالنصوص فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر أو إباحة معًا إلا على وجه النسخ، وأما المعتزلة فإنهم علَّقوا الأحكام بتقبيح العقل وتحسينه فصار حسن الفعل عندهم أو قبحه صفة عين فاستحال عندهم أن يتصف فعل بالحسن في حق زيد والقُبْحُ في حق عمرو كما يستحيل ذلك في الألوان والأكوان وغيرها من الصفات القائمة بالذوات، وأما ما عدا هاتين الطائفتين فليس الحظر عندهم والإباحة بصفات أعيان، وإنما هي صفات أحكام. وزعم الخطابي أن قول القائل في هذا: كلُّ مجتهدٍ مصيب ليس كذلك، وإنما ظاهر خطاب خُصَّ بنوع من الدليل، وقال غيره: إنما تعارضت أدلة الشرع عند هؤلاء الصحابة. وفيه دليل لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى ولمن يقول بالظاهر أيضًا. قَالَ ابنُ بَطَّال: استدلال الوليد بقصة بني قريظة على صلاة الطالب فجيدٌ لو كان فيهم أنهم صلوا ركبانًا، فلم يوجد ذلك احتمل أن يكون لما أمرهم بتأخير العصر وقد علم بالوحي أنهم لا يأتونها إلا مغيب الشمس ووقت العصر فرض فاستدل أنهم كما ساغ للذين صلوا ببني قريظة ترك الوقت وهو فرضٌ ولم يعنفهم كذلك يسوغ للطالب أن يصلي في الوقت راكبًا بالإيماء يكون تركه للركوع والسجود المفترض كترك الذين صلوا ببني قريظة فريضة الوقت.
(1/158)
وقال
ابن المنير: لأَبْيَنُ عندي غير ما ذكره ابن بطال، وهو أن البخاري استدل بالطائفة
التي صلَّتْ فظهر له أنها لم تنزل، لأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما
أمرهم بالاستعجال إلى بني قريظة والنزول ينافي مقصود الجد في الوصول، فمنهم من بنى
على أن النزول للصلاة معصية للأمر الخاص بالجِدِّ فتركها إلى أن فات وقتها لوجود
المعارضين، ومنهم من جمع بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع في هذا السير فصلَّى
راكبًا، ولو فرضناها صلت نازلة لكان ذلك مضادة لما أمر به الرسول صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وهذا لا يظن بأحد من الصحابة على قوة أفهامهم رضي الله عنهم أجمعينوقد
تقدم حديث ابن أنيس. بَابُ التَّكْبِيرِ وَالغَلَسِ تقدم في باب ما يذكر في
الفجرِ. (بابُ العِيدَيْنِ وَالتَّجَمُّلُ فِيهِ)
حديث عمر تقدم في الجمعة.
وروى الشافعي عن إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَلْبَسُ بُرْدَ حِبَرَةَ فِي كُلِّ عِيدٍ».
وعن إبراهيم، حَدَّثَنا جعفر بن محمد قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَعْتَمُّ فِي كُلِّ عِيْدٍ».
وعند ابن خزيمة من حديث الحجاج عن أبي جعفر عن جابر: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ
وَالْجُمُعَةِ» وقال حجاج: أظنه حجاج بن أبي عثمان.
وعند البيهقي عن أبي رزين عن علي بن ربيعة قال: «شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ يَوْمَ عِيدٍ مُعْتَمًّا, قَدْ أَرْخَى عِمَامَتَهُ مِنْ خَلْفِهِ,
وَالنَّاسُ مِثْلُ ذَلِكَ».
وعن نافع: «أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ أَحْسَنَ
ثِيَابِهِ».
(1/159)
وقال
ابن سيده: العيد كل يوم فيه جَمْعٌ، واشتقاقه من عاد يعود كأنهم عادوا إليه وقيل:
اشتقاقه من العادة لأنهم اعتادوه، والجمع أعياد لزم البدل، ولو لم يلزم لقيل:
أعواد كريح وأرواح، وفي «الجامع»: يوم العيد معناه اليوم الذي يعود فيه الفرح
والسرور، وفي كتاب ابن التين: سمي عيدًا لكثرة عوائد الله تعالى فيه على عباده.
وأول عيد صلَّاه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عيد الفطر في السنة
الثانية من الهجرة.
وعند أبي داود عن أنس قال: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: «مَا هَذَانِ
الْيَوْمَانِ؟» قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ
بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ» إسناده صحيح.
(بَابُ الحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ العِيدِ)
949 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ، حدَّثَنَا ابن وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَسَدِيَّ، حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى
الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ:
مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «دَعْهُمَا»
فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا. [خ¦949]
(1/160)
950
- وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالحِرَابِ، فَإِمَّا
سَأَلْتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَإِمَّا قَالَ: «تَشْتَهِينَ
تَنْظُرِينَ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ،
وَهُوَ يَقُولُ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَة» حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ:
«حَسْبُكِ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاذْهَبِي». [خ¦950]
وفي بَاب سُنَّةِ العِيدَيْنِ: «تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ».وفي رواية:
<بَما تَقَاذَفَتْ> ورُوِيَ: «تَعَازَفَتِ الأَنْصَارُ
%ج 1 ص 474%
يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ» وفيه: فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «يَا أَبَا بَكْرٍ، لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدٌ،
وَهَذَا عِيدُنَا».
وفي بَاب: إِذَا فَاتَهُ العِيدُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْن قالت عائشة: «وَتِلْكَ
الأَيَّامُ أَيَّامُ مِنًى» وفيه: «وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ
فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَمْنًا
بَنِي أَرْفِدَةَ، يَعْنِي مِنَ الأَمْنِ».
وفي «مختصر البخاري» للمهلب: قال الليث: «فَزَجَرَهُمْ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ».
وعند النسائي: «تَضْرِبَانِ بِالدُّفِّ بِالمَدِيْنَةِ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «َوالحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
قال الجياني: أحمد هذا نسبه ابن السكن في النسخة التي رويناها من طريق أبي محمد
عنه أحمد بن صالح، وقيل: إن عيسى التُّسْتُري ولا يخلو أن يكون واحدًا منهما وقول
من قال: أنه ابن أخي ابن وهب غلط.
(1/161)
وقال
أبو عبد الله بنُ مَنْدَه: كل ما في «جامع البخاري» أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح،
وإذا حدث عن التستري نسبه، وقال أبو محمد بن حزم: حَدَّثَنا عبد الرحمن بن عبد
الله، حَدَّثَنا إبراهيم بن أحمد حدَّثَنَا الفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنا البخاري،
حَدَّثَنا أحمد بن صالح، حدَّثَنَا ابن وهب فذكره.
وأما الإسماعيلي وأبو نعيم فروياه عن الحسن بن سفيان قال: حَدَّثَنا أحمد بن عيسى
والله أعلم.
وكان الشِّعْرُ الْمُغَّنَى به في وصف الشجاعة والحرب ومثله إذا صُرِفَ إلى جهاد
الكفار، كان مُعينًا في أمر الدين.
وفي قولها: (وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ) إرشاد إلى أن ذلك ليس بالغناء الذي
يَهيج النفوس إلى أمور لا تليق، قال القرطبي: أما الغناء فلا خلاف في تحريمه، لأنه
من اللهو واللعب المذموم بالاتفاق، فأما ما يَسْلَمُ من المحرمات فيجوز القليل منه
في الأعراس والأعياد وشبههما، ومذهب أبي حنيفة تحريمه وبه يقول أهل العراق، ومذهب الشافعي
كراهته وهو المشهور من مذهب مالك، وقد صنف الناس في تحريمه وإباحته تصانيف عديدة
حاصلها يرجع إلى ما ذكرناه وسيأتي في الحج تكملة لهذا إن شاء الله تعالى.
و (الْمزْمُوْرُ) بضم الميم الأول وفتحها والأول أشهر ذكره عياض وغيره، قال ابن
سيده: يقال: زَمَرَ يَزْمُرُ ويَزْمِرُ زَمِيْرًا وزَمَرَانًا غنَّى في القصب،
وامرأة زامرة ولا يقال: رجل زامِرٌ، إنما هو زَمَّار، وقد حكى بعضهم رجل زَامِرٌ،
والْمِزْمَار والزَّمَّارة ما يُزْمَرُ فيه، وفي «الجامع»: وفي الحديث: «نَهَى عنْ
كَسْبِ الزِّمَّارَةِ» يريد الفاجرة، وجمع المزمار مزامير، وَفِي «الصِّحَاحِ»:
ولا يقال: للمرأة زَمَّارة، وفي كتاب ابن التين: الزَّمِيْر الصوت الحسن، ويطلق
على الغناء أيضًا.
(1/162)
قال
القرطبي: إنكار أبي بكر مستصحبًا لما كان تقرر عنده من تحريم اللهو والغناء جملةً،
حتى ظن أن هذا من قبيل ما يُنْكَرُ فبادر إلى ذلك من طريق الأدب والإجلال لمكان
سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: حمل السلاح والحراب
%ج 1 ص 475%
يوم العيد لا مدخل له عند العلماء في سنة العيد ولا في هيئة الخروج إليه كما بوَّب
البخاري، ويمكن أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان محاربًا لبعض
الأعداء فرأى الاستعداد والتَّأَهُّبَ بالسلاح فإن كان كذلك فهو جائز، ثم إن لعب
الحبشة لا يعطي أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خرج بهم في العيد ولا أمر
أصحابه بالتأهب بها، ولم تكن الحبشة للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حشدًا ولا
أنصارًا، انتهى.
الذي يظهر أنَّ البخاريَّ بوَّبَ هذا بيانًا للجواز ومخالفةً لما وقع في «مراسيل
أبي داود» عن أبي عيسى الخراساني عن الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ: «نَهَى رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ يُخْرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ بِالسِّلَاحِ»
ولِمَا ذكره هو بعد قول ابن عمر للحجاج وجاءه يعوده: حَمَلْتَ السِّلاَحَ فِي
يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ.
و (أَرْفِدَةَ) ذكر ابن التين أنه لقب للحبشة، وقيل: اسم جنس منهم، وقيل: أراد بني
الإماء وهو بفتح الهمزة وإسكان الراء، وقيل: بفتح الفاء وكسرها والكسر أشهر.
وقوله: (دُوْنَكُمْ) منصوب على الظرف بمعنى الإغراء، والْمُغْرَى به محذوف وهو
لعبهم، والعرب تُغْرِي بِعَلَيْكَ وعندك وأخواتها وشأنهما أن تتقدم الاسم كما في
هذا الحديث وقد جاء تأخيرها شاذًا.
كقوله:
يَا أَيُّها المائحُ دَلوِي دُونَكا! ... إني رأيتُ النَّاس يَحْمدُونَكا!
(1/163)
ولعبهم
في المسجد قَالَ ابنُ التِّيْنِ: كان هذا في أول الإسلام لِتَعَلُّمِ القتال، وقال
أبو الحسن في «التبصرة»: هو منسوخ بالقرآن العظيم قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ
مَسَاجِدَ اللهِ} [التوبة: 18] الآية، وبقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ» الحديثَ.
وأما نظر عائشة إلى لعبهم فلا يلزم منه نظرها إلى أبدانهم، أو لأنها كانت صغيرة
قبل بلوغها على رأي من يرى أن المرأى هو لا يمنع من النظر، أو لأنها تحمل على أن
بصرها إذا وقع على أبدانهم من غير قصد صرفته لحسن معرفتها وفقهها، فإن النظر إلى
وجه الأجنبي إذا أمن الفتنة للشافعية فيه وجهان، قال في «شرح المهذب»: أصحهما
تحريمه لقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:
31] ولقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأم المؤمنين وأم حبيبة فيما رواه الترمذي
محسنًا: «احْتَجِبَا مِنْهُ -يعني ابنُ أمِّ مَكْتُوم- فَقَالَتَا: إِنَّهُ
أَعْمَىَ قَالَ: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ».
وقوله: (أَمْنًا) يعني أْمَنُوا أَمْنًا ولا تخافوا ويحتمل أنه أقام المصدر مقام
الصفة كقوله: رجلٌ صَوْمٌ أي صائم والمعنى: آمنين.
وقوله: (حَسْبُكِ) هو استفهام وحذفت همزة الاستفهام بدليل قولها: (قُلْتُ: نَعَمْ)
تقديره أحسبك؟ أهل يكفيك هذا القدر؟ وعند ابن ماجه بسند صحيح عن عِيَاضٍ
الْأَشْعَرِيِّ وشَهِدَ عِيدًا بِالْأَنْبَارِ فقال: «مَا لِي لَا أَرَاكُمْ
تُقَلِّسُونَ كَمَا كَانَ
%ج 1 ص 476%
يُقَلَّسُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
(1/164)
وعن
قَيْسِ بْنِ سَعِيْدٍ قَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ رَأَيْتُهُ، إِلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «كَانَ يُقَلَّسُ لَهُ يَوْمَ
الْفِطْرِ» والتقليس: اللعب رواه أيضًا بسند صحيح.
(بَابُ سُنَّةِ العِيدَيْنِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ)
951 - حَدَّثَنا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ، سَمِعْتُ
الشَّعْبِيَّ، عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا
أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا،
وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ،
لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ». [خ¦951]
وفي لفظ: «وذكرَ هَنَةً منْ جِيْرَانِهِ».
وفي موضع آخر: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمَ الأَضْحَى
بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَقَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ
أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلاَ نُسُكَ لَهُ». فَقَالَ
أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ البَرَاءِ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنِّي
نَسَكْتُ شَاتِي قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اليَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ
وَشُرْبٍ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ شاةٍ تُذْبَحُ فِي بَيْتِي،
فَذَبَحْتُ شَاتِي وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاَةَ فَقَالَ: «شَاتُكَ
شَاةُ لَحْمٍ» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عِنْدِي عَنَاقًا لَنَا جَذَعَةً
هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أَفَتجْزِئ عَنِّي؟ قَالَ: «نَعَمْ وَلَنْ
تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ».
(1/165)
وفي
لفظ: إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ المَعْزِ، قَالَ: «اذْبَحْهَا، وَلا
تَصْلُحُ لِغَيْرِكَ» ثُمَّ قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا
ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ
وَأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ».
وفي لفظ: «مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَلاَ يَذْبَحْ
حَتَّى يَنْصَرِفَ» وفيه: عِنْدِي جَذَعَةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ، قَالَ
عَامِرٌ: هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْهِ.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَسَكْتُ عَنِ ابْنٍ لِي وفيه: فَقَالَ:
«ضَحِّ بِهَا، فَإِنَّهَا خَيْرُ نَسِيكَتيك» وفيه: هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ
مَقْرومٌ، وَإِنِّي عَجَّلْتُ نَسِيكَتِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي وَأَهْلَ
دَارِي، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَعِدْ نُسُكًا» فَقَالَ:
عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَقَالَ: «هِيَ خَيْرُ
نَسِيكَتَيْكَ، وَلَا تَجْزِي جَذَعَةٌ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ».
اختلف الناس في صلاة العيد:
فالصحيح من مذهب أبي حنيفة أنها واجبة، وقيل: سنة مؤكدة كمذهب مالك، وقيل: عن أبي
حنيفة أنها فرض كفاية وقال به بعض المالكية وأبو سعيد الإصطَخْري الشافعي وأحمد بن
حنبل، ومذهب الشافعي سنة مؤكدة.
وعن القرطبي: قال الأصمعي: هو فرض.
وقوله: (ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ) يستدل من يرى أن النحر كصلاة العيد، فإن كان
واجبًا فالنحر معطوف عليه وكذا إن كان سنة.
وفيه أن الخطبة
%ج 1 ص 477%
بعد صلاة العيد.
(1/166)
وقوله: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَلْيُعِدْ» يستدل به من يرى وجوب الأضحية، ووقت الذبح عند مالك بعد صلاة الإمام وذبحه إلا أن يوجد تأخير يتعدَّى فيه فيسقط الاقتداء به، وعند أبي حنيفة الفراغ من الصلاة، وعند الشافعي دخولها وقت دخول الصلاة ومقدار ما يوقع فيه فاعتبر الوقت دون الصلاة، وقال عياض: أجمع العلماء على الأخذ بهذا الحديث وأنه لا يجزئ الجَذَعُ من المعز.
(1/167)
وقال ابن سِيْدَه في «المخصص» عن أبي عبيد: عَنَاق والجمع عُنُوق وأَعْنُقٌ، وعن ابن دريد: وَعَنَقَ، قال أبو عبيد: ثم يكون التيس جَذَعًا في السنة الثانية والأنثى جَذَعَةٌ، وفي «الْمُحْكَمِ»: الجَذَعُ الصغير، وقيل: الجذع من الغنم تيسًا كان أو كبشًا الداخل في السنة الثانية، وقيل: الجذع من الغنم لسنة، والجمع جُذْعان وجِذْعان وجِذَاعٌ، والاسم الجذُوعة، وقيل: الجُذُوعة في الدواب والأنعام قبل أن يُثني بسنة، وهو زمن ليس بسنٍّ تسقط وتعاقبها أخرى، وفي «الْمُوعِبِ» لابن التياني الكثير العنق مثال طنب، والجَذَعة السمينة من الضأن والجمع جُذُع، وفي «التهذيب» لأبي منصور: العَنَاقُ تُجْذِعُ لسنة وربما أجذعت العَنَاقُ قبل تمام السنة للخصب، وسمعت المنذري، سمعت إبراهيم الحربي، سمعت ابن الأعرابي في الجذع من الضأن قال: إذا كان ابن شابّين أجذع لستة أشهر إلى سبعة أشهر، وإذا كان ابن هَرِمين أجذع لثمانية أشهر إلى عشرة أشهر، قال الأزهري: فابن الأعرابي فرق بين المعزى والضأن في الإجذاع، فجعل الضأن أسرع إجذاعًا، وهذا إنما يكون مع خصب السنة، وقال يحيى بن آدم: إنما يُجْزِئ الجذع من الضأن في الأضاحي، لأنه ينزو فَيُلقِح، وإذا كان من المعزى لم يُلقِح حتى يُثني، وعن الأصمعي الجذع من المعز لسنة، ومن الضأن لثمانية أشهر أو تسعة، وَفِي «الصِّحَاحِ»: الأنثى جَذَعةٌ والجمع جَذَعات، وفي «الجامع»: العَنَاقُ تجمع في القليل على أَعْنُق وتصغر عُنَيِّقٌ، ومن حذف الألف قال: عُنَيْقَة فيزيد الهاء، لأنه يصير مؤنثًا على ثلاثة أحرف، وعن عياض: الجَذَعُ ما قوي من الغنم قبل أن يحول عليه الحول، فإذا تمَّ له حول صار ثَنِيًّا.
(1/168)
و
(الهَنَةُ) الحاجة والفقر، وحكى الهروي عن بعضهم شد النون في هَنَّ وهَنَّه،
وأنكره الأزهري، وقال الخليل: من العرب من يسكنه يجريه مجرى من، ومنهم من ينونه في
الوصل، قال ابن قُرْقُولٍ: وهو أحسن من الإسكان وقال ابن الجوزي: لما ذبح الأولى
ظنًّا منه أنها تكفيه أُثِيْبَ بِنِيَّتِه فكذلك سماها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ نَسِيكَةً وهي الذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى.
وفيه جواز الأكل قبل الصلاة لقوله: (تَغَدَّيْتُ
%ج 1 ص 478%
قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلاَةَ) وإن كان الأفضلُ غيرَه. وقوله: (تَجْزِي) هي بفتح
التاء، قال أبو عبيد: المعنى لا تقضي عن أحد بعدك، قال ابن العربي: ظن بعض
الغافلين أن قوله: (تَجْزِيك ولن تَجْزِي عنْ أحدٍ) يريد الشاة التي ذبحها أولًا
قبل الصلاة، لأنه ذبح بتأويل يُعْذَرُ به، قال: وهذا باطل إنما الإجزاء عن الشاة
الثانية.
الخروجُ إلى الصلاةِ بِغَيْرِ مِنْبَرٍ، تقدم في باب ترك الحائض الصوم في كتاب
الطهارة.
(بَابُ الأَكْلِ يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ الخُرُوجِ)
(1/169)
953 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ». [خ¦953] قال ابن مسعود الدمشقي: هذا من قديم حديث هشيم وعنده فيه طريق أخرى يعني الْمُخَرَّج عند الترمذي عن قتيبة عنه عن محمد بن إسحاق عن حفص بن عبيد الله بن أنس عن جده أنس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُفْطِرُ عَلَى تَمَرَاتٍ يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمُصَلَّى» وقال: حديث حسن صحيح غريب. وقال الدَّارَقُطْني: عن علي بن عاصم عن عبيد الله وتابعه أبو الربيع فرواه عن هُشَيْم عن ابن إسحاق عن حفص بن عبيد الله، وقد أنكر أحمد بن حنبل حديث أبي الربيع عن هشيم يعني الْمُخَرَّج في صحيحي أبي نعيم والإسماعيلي وقال: هشيم مدلس، وقد روى عنه ابن أبي شيبة هذا الحديث عن حفص بن عبيد الله بلفظ: «كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُفْطِرُ يَوْمَ الفِطْرِ عَلَى تَمَرَاتٍ ثُمَّ يَغْدُوْ».وأخبرناه محمد بن زياد، حَدَّثَنا أحمد بن منيع حَدَّثَنا هشيم مثله. وقال البخاري: قال: مُرَجَّأُ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنِ أَبِيْ بَكْرٍ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا».هذا التعليق رواه أحمد بن حنبل في «مسنده» عن حرمي بن عمارة عنه، وأبو نعيم الحافظ عن أبي أحمد عن الحسن بن سفيان، حَدَّثَنا إسحاق بن منصور، حَدَّثَنا هاشم بن القاسم، حَدَّثَنا مُرَجَّأ.
(1/170)
وقَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: أخبرنا المنيعي، حَدَّثَنا علي بن شعيب البزار، حَدَّثَنا هاشم بن القاسم، وأخبرني الحسن، حَدَّثَنا إسحاق بن منصور، حدَّثنا أبو النضر، حَدَّثَنا مُرَجَّأٌ، وحَدَّثَنَا عمران بن موسى بن عثمان، حَدَّثَنا مالك بن إسماعيل، حَدَّثَنا زهير، حَدَّثَنا عتبة بن حميد الضبي، حدثني عبيد الله بن أبي بكر سمعت أنسًا يقول: «مَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمَ فِطْرٍ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ ثَلاَثًا أًوْ خَمْسًا أًوْ سَبْعًا أَوْ أَقَّلَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ وِتْرًا».قرأت على المسند المعمر أبي العباس أحمد بن عبد الله الصَّيْرفي، عن الرُّحْلَة أبي الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرَّاني، عن يوسف بن المبارك بن كامل الخفاف، أخبرنَا سعد الخير بن محمد الأنصاري، أخبرنا الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد العزيز الأميري، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الحاجب، وأبو حفص بن جاباره، حَدَّثَنا أبو سعيد القاسم%ج 1 ص 479%بن علقمة، أخبرنا العلامة أبو علي الحسن بن علي بن نصر بن منصور الطُّوسي بجميع «إحكام الأحكام» تأليفه قال: أخبرنا زياد بن أيوب، حَدَّثَنا أبو عبيدة عبد الواحد بن واصل الحداد، قال: حَدَّثَنا ثواب بن عتبة، عن عبيد عن عبيد الله بن بريدة عن أبيه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ لَا يَأْكُلُ حَتَّى يَرْجعَ».قال أبو علي: حديث بريدة حديث غريب، وعند البيهقي «حَتَّى يَرْجِعَ فَيَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ أُضْحِيَتِهِ».
(1/171)
قال الطُّوسي: وحَدَّثَنَا زياد بن أيوب، حَدَّثَنا أبو غسان، حَدَّثَنا مَنْدل العنزي عن عمر بن صُهْبَان عن نافع عن ابن عمر قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يُغَدِّيَ أَصْحَابَهُ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ» قال أبو علي: وهذا حديث غريب. وعند الترمذي من حديث الحارث عن علي بن أبي طالب قال: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَطْعَمَ الرَّجُلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمُصَلَّى» وقال: حديث حسن. وفي «الموطأ» عن سعيد بن المسيب: «أَنَّ النَّاسَ كَانُوْا يُؤْمَرُوْنَ بِالأَكْلِ قَبْلَ الغُدُوِّ يَوْمَ الفِطْرِ».وفي «مسند الشافعي»: حَدَّثَنا إبراهيم بن محمد، أخبرني صفوان بن سُلَيْم: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَطْعَمُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَبَّانِ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَأْمُرُ بِهِ» قال ابن الأثير: هذا مرسل، وقد روي مرفوعًا عن علي. وفي «المصنف» من حديث ابن عقيل عن عطاء بن يسار وقال أبو سعيد الخدري قال: «كَان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَأْكُلَ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمُصَلَّى».زاد البزار في «مسنده»: «فَإِذَا خَرَجَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِلنَّاسِ، فَإِذَا رَجَعَ صَلَّى فِي بَيْتِهِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الصَّلَاةِ شَيْئًا يَعْنِي يَوْمَ العِيْدِ».وفي «المصنف» من حديث الحجاج عن عطاء عن ابن عباس قال: «إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا تَخْرُجَ حَتَّى تَطْعَمَ».وعن الشعبي قال: «إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تطعمَ يومَ الفطرِ قبلَ أنْ تَغْدُوَ وتُؤَخِّرَ الطعامَ يومَ النَّحْرِ حتى ترجعَ». وعن السائب بن يزيد قال: «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ تَأْكُلَ قَبْلَ أَنْ تَغْدُوَ يَوْمَ الفِطْرِ».
(1/172)
وعن
أبي إسحاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالأَكْلِ
يَوْمَ الفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ المصَلَّىَ، وحكاه عن معاوية بن سويد بن
مقرن وابن مغفل وعروة وصفوان بن محرز وابن سيرين وعبد الله بن شداد والأسود بن
يزيد وأم الدرداء وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وتميم بن سلمة وأبي مجلز. وعن عبد
الله بن نمير، حَدَّثَنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: «أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ
يَوْمَ العِيْدِ إِلَى الُمصَلَّى وَلاَ يَطْعَمُ شَيْئًا».وحَدَّثَنَاه هشيم،
أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال: «إِنْ طَعِمَ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَطْعَمْ فَلاَ
بَأْسَ» وحكاه الدَّارَقُطْني عن ابن مسعود، وكأنَّ البخاري لمح هذا فَعَدَّه
خلافًا فبوب على عكسه والله أعلم.%ج 1 ص 480%وقال ابن المنذر: الذي عليه الأكثرون
استحباب الأكل إنما كان الأكل قبل الغدو إلى المصلى ليخالف العادة ولئلا يظنَّ
ظانٌّ أنَّ الصِّيَامَ لازمٌ إلى الرجوع من الصلاة، والدليل على ذلك أنه لم يأكل
قبل النحر، وفي السُّنَّةِ يستحب يوم الفطر الغسلُ، والسواكُ، ولبس أحسن الثياب
المباحة، والطيب، والتختم، والتبكير وهو سرعة الانتباه والابتكار وهو المسارعة إلى
المصلى، والإفطار على حلو قبل الصلاة، وأداء صدقة الفطر قبلها، وصلاة الغداة في
مسجد حيِّهِ، والخروج إلى المصلى ماشيًا، والرجوع في طريق أخرى، والنحر كذلك إلا
في الفطر والصدقة، وزعم الداودي أن الفطر إنما استحب على التمر، لأن النخلة ممثلة
بالمسلم، ولأنه قيل: من الشجرة الطيبة.
(بَابُ المَشْيِ وَالرُّكُوبِ إِلَى العِيدِ، وَالصَّلاَةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ
بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلاَ إِقَامَةٍ)
(1/173)
957
- حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي الفِطْرِ وَالأَضْحَى، ثُمَّ يَخْطُبُ
بَعْدَ الصَّلاَةِ». [خ¦957]
ليس في هذا الحديث مطابقة لما بوَّبَ له فينظر، إنما فيه الابتداء بالصلاة قبل
الخطبة وهو مروي عن جماعة من الصحابة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منهم
البراء بن عازب وجُنْدَب بن عبد الله وسندهما صحيح في «المصنف»، وكذا فعله علي
وعثمان وقاله أنس وإبراهيم وأبو البحتري وسعيد بن جبير.
وذكر حديث ابن عباس: «أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى ابنِ الزُّبَيْرِ أَوَّلَ مَا
بُوْيِعَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ للصَّلاَةِ يَوْمَ الفِطْرِ
وَإِنَّمَا الخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلاَةِ».
وعند أبي داود بسند صحيح: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَوْ
عُثْمَانَ» شَكَّ يَحْيَى بن سعيد راويه.
وفي «المصنف» عن يحيى عن ابن جريح عن عطاء: أَنَّ ابنَ الزُّبَيْرِ سَأَلَ ابنَ
عَبَّاسٍ وَكَانَ الَّذِي بَيْنَهُمَا حَسَنٌ، فَقَالَ: لَا يُؤَذِّنُ وَلَا
يُقِيمُ، فَلَمَّا سَاءَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، أَذَّنَ وَأَقَامَ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن جابر بن سمرة قال: «صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ
وَلَا إِقَامَةٍ» وقال ابن أبي شيبة: حدَّثَنَا ابن مهدي عن سماك قال: رَأَيْتُ
الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَالضَّحَّاكَ، وَزِيَادًا يُصَلُّونَ يَوْمَ
الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ.
(1/174)
وحَدَّثَنَا
عبد الأعلى عن بُرْدٍ عن مكحول أَنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ: ليسَ في العِيْدَيْنِ أذانٌ
ولا إقامةٌ، وكذا قاله عكرمة وإبراهيم وأبو وائل، وقال الشعبي والحكم: هو بدعة،
وقال محمد: مُحدثٌ، وبسند صحيح عن ابن المسيب: أول من أحدثه معاوية.
وحدَّثَنَا ابن إدريس عن حُصَيْنٍ: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ فِي العِيْدِ زِيَادٌ.
وأخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا زكريا عن رجل عن الشعبي عن البراء: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ العِيْدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ
وَلَا إِقَامَةٍ
%ج 1 ص 481%
وكذا فعله ... ، ذكره عن معتمر عن زيد بن أبي زياد عن جدته عنه، وأما قول أبي بكر
بن العربي: روى من لا يوثق به أن أول من أحدث الأذان في العيد معاوية، فغير جيد
لما ذكرناه عمن يوثق به، وفي «الواضحة» لابن حبيب أول من فعله هشام، وقَالَ
الدَّاودِيُّ: مروان.
وعند الشافعي وغيره: ينادى لهما (الصلاةَ جامعةً) بنصبهما الأول على الإغراء،
والثاني: على الحال.
وأما المشي إلى العيد الذي بوب له فلم يذكره ولا ما يدل عليه وفيه أحاديث منها: ما
تقدم من عند الترمذي عن علي: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ
مَاشِيًا».
وعند ابن ماجه عن سعد القرظ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَخْرُجُ إِلَى العِيْدِ مَاشِيًا».
وعن ابن عمر من رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري وهو مُتَّهَمٌ «كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْرُجُ إِلَى العِيْدِ مَاشِيًا
وَيَرْجِعُ مَاشِيًا».
وعن أبي رافع من رواية مندل بن علي وهو ضعيف: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كان يأتي العيد ماشيًا».
وعند ابن أبي شيبة عن جعفر بن برقان: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْعِيدَ مَاشِيًا
فَلْيَفْعَلْ.
(1/175)
وقال
زِرٌّ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي يَوْمِ فِطْرٍ أَوْ نَحْرٍ فِي ثَوْبِ
قُطْنٍ مُتَلَبِّبًا بِهِ يَمْشِي، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَكْرَهُ الرُّكُوبَ
إِلَيْهِمَا.
وحَدَّثَنَا وكيع عن محمد بن أبي حفصة قال: رأيت الحسن يأتي إلى العيد راكبًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
(بَابُ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الْعِيدِ)
(1/176)
962 - حَدَّثَنا أَبُو عَاصِمٍ حدَّثَنَا ابن جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي الحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُوسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الخُطْبَةِ». [خ¦962] 964 - وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلاَلٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِى المَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا». [خ¦964] وفي لفظٍ: شَهِدْتُ الْفِطْرَ مَعَ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَكَانُوا يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ، فَنَزَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: وكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى جاء النِّسَاءَ مَعَه بِلَالٍ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الآية [الممتحنة: 12].ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: «أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، لَا يَدْرِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ مَنْ هِيَ، قَالَ فَتَصَدَّقْنَ، وَبَسَطَ بِلَالٌ ثَوْبَهُ فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ وَالْخَوَاتِيمَ العِظَامَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ. وفي لفظ: القُرطَ والخَاتَمَ والشيءَ. وقال عبد الرزاق: الفتخ الخواتيم العظام كانت في الجاهلية. وعند أبي داود: «فَقَسَمَهُ عَلَى فُقَراءِ المسلمينَ». انتهى.
(1/177)
هذا الحديث خرجَّه السِّتة، وقال الداودي: كان علي رضي الله عنه أيضًا يفعل كفعل أصحابه إلا أن ابن عبَّاس لم يشهد معه العيد بالكوفة، لأنه كان ولَّاه البصرة. وقال أشهب رحمه الله تعالى: من بدأ بالخطبة قبل الصلاة أعادها بعد الصلاة، وإن لم يفعل أجزأه، وقد أساء. وفي «المصنف» عن يوسف بن عبد الله بن سلام: «كانَ الناسُ يبدؤونَ بالصلاةِ ثم يُثَنُّونَ بالخطبةِ حَتَّى إِذَا كانَ عمرُ وكَثُرَ الناسُ بدأَ بالخطبةِ» رواه عن عبدة بن سليمان عن يحيى بن سعيد، في المستدرك عن عبد الله بن السائب، قال: شهدتُ معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ العيدَ، فَلَمَّا قضى الصلاةَ قال: «إِنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أحبَّ أنْ يجلسَ للخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، ومن أحبَّ أنْ يذهبَ فَلْيَذْهَبْ» وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال عبد الحق: هذا يُروى%ج 2 ص 1%عن عطاء عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرسلًا. وقال ابن الجوزي: الحكمة في تقديم الصلاة على الخطبة، ليتبين ما هو فرض عين كالجمعة، وما هو فرض كفاية، أو لأن للناس ... بالفطر أو بالنحر، فقُدمتِ الصلاة لئلا يشتغلوا عنها، أو لأن الخطيب من شأنه أن يُبين لهم ما يُخرجون من الفطرة أو ما ينحرون، وذلك يفتقر إلى الحفظ فأخر لئلا يتفكر الحافظ له قبل الصلاة في الخطبة، بخلاف الجمعة فإن خطبتها موعظة فقط. وذهب أبو حنيفة والثوري ورواية عن مالك إلى أنه يجوز التنفل بعد صلاة العيد ولا يتنفَّل قبلها، وقال الشافعيُّ: يتنفل قبلها وبعدها. وروى ابن وهب وأشهب عن مالك: لا يتنفل قبلها ويُبَاحُ بعدها، وفي «المدونة» يجوز في بيته، وعن ابن حبيب قال قوم: هي سُبْحَةُ ذلك اليوم يقتصر عليها إلى الزوال، قال: وهو أحب إليَّ.
(1/178)
وفي «الذخيرة»: ليس قبل العيدين صلاة، كذا ذكر محمد بن الحسن في الأصل، وإن شاء تطوع قبل الفراغ من الخطبة، يعني ليس قبلها صلاة مسنونة، لا أنها تكره إلا أنَّ الكَرْخِيَّ نصَّ على الكراهة قبل العيد، حيث قال: يُكْرَهُ لمن حضر المصلى التنفُّلُ قبل صلاة العيد. وفي «شرح الهداية»: كان محمد بن مقاتل المروزي يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى المصلى، وإنما يكره في الجبَّانة، وعامة المشايخ على الكراهة مطلقًا، وعن علي وابن مسعود وجابر وابن أبي أوفى أنهم كانوا لا يرَوْنَها قبلُ ولا بعدُ، وهو قول ابن عمر ومسروق والشعبي والضحاك وسالم والقاسم والزهري ومعمر وابن جريج وأحمد. وقال أنس والحسن وسعيد بن أبي الحسن وابن زيد وعروة والشافعي: يصلي قبلها وبعدها، زاد ابن أبي شيبة: أبا الشَّعْثَاء وأبا برزة الأسلمي ومكحول والأسود ورجالًا من الصحابة وصفوان بن محرز. قال في «الشرح»: وقول الشافعي في غير الإمام، وقال أبو مسعود البدري: لا يُصلى قبلها، ويصلى بعدها. انتهى. في «المصنف» عن مروان بن معاوية عن إسماعيل بن سُمَيْع عن علي بن أبي كثير أن أبا مسعود البدري: «كانَ إِذَا كانَ يومُ أَضْحَى أو فطرٍ طافَ في الصُّفُوفِ، فقالَ: لا صلاةَ إلا معَ الإمامِ»، وفي لفظ: «حَتَّى يخرجَ الإمامُ»، ورواه عن وكيع عن سفيان عن أشعث بن أبي الشعثاء عن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زَهْدَم %ج 2 ص 2%عنه رجع إلى «الشرح»، قال وهو قول علقمة والأسود ومجاهد والثوري والنخعي والأوزاعي وابن أبي ليلى. انتهى. عند ابن أبي شيبة: كان سعيد بن جبير وإبراهيم وعلقمة ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابن مسعود وعلي بن أبي طالب وأصحاب عبد الله يصلون بعد العيد أربعًا، وكان بريدة يصلي قبلها أربعًا وبعدها أربعًا، وكان الحسن ومحمد يصليان بعد العيد ويطيلان القيام. انتهى.
(1/179)
فيُنظر
في المذكور في «الشرح»، وفيه قولٌ رابع: يكره في المصلى قبلها وبعدها، ويرخص في
غيره، وقول خامس ذكره ابن شاس: لا يتنفل قبلها ولا بعدها في هذا اليوم، وزعم ابن
بزيزة أن الإجماع انعقد على أن صلاة العيدين ركعتان إلا ما رُوِي عن علي ابن أبي
طالب أنها تصلى في الجامع أربعًا، وفي المصلى ركعتان. انتهى. ذكر ابن أبي شيبة عن
علي أيضًا أنها تصلى في المسجد ركعتين كقول الجماعة. و (الخُرْصُ) والخِرْصُ
القُرْطُ بحبة واحدة، وقيل: هي للحَلْقة من الذهب أو الفضة والجمع خِرَصَةٌ،
والخُرْصة لغة فيها، وفي «الصحاح»: الخُرْص بالضم والكسر والجمع الخِرْصانُ، قال
الشاعر: عليهِنَّ لُعْسٌ من ظباءِ تَبَالَةٍ مدبدبةُ الخِرْصانِ بَادٍ
نُحُورُهَاوفي «مجمع الغرائب»: الخرص حلقة صغيرة تُعَلَّق في الأذن. وقال أبو
المعاني في «المنتهى»: السِّخابُ شيء يُتَّخَذُ من طيب وغيره ليس فيها جوهر، وربما
عُمِل من خرزات أو نوى الزيتون، والجمع سُخُبٌ مثل كتاب وكتب، وقال ابنُ سِيْدَه:
هي قلادة تتخذ من قَرَنْفُلٍ وسُك ومَحْلَب. وفي «الجامع» للقَزَّاز: ويكون من
الطِّيْب والجوهر والخرز، وقول امرأة من العرب: ويوم السِّخَابِ مِن أعاجِيبِ
ربِّنا على أنَّه من بلدة السُّوء نَجَّانيهي امرأة دخلت العراق فاتهمها قومٌ بعقد
ذهب لهم وأُخِذَتْ به فألقاه طائر، فالسخاب هنا العقد، وقد سبق ذكره في «الوشاح»،
وقيل: هو خيط فيه خرز، وسمي سخابًا لصوت خرزه عند حركته من السَّخَبِ بالسين
والصاد، وهو اختلاط الأصوات، وفي «الغريبين»: قال أبو المكارم هو من المَعَاذات.
(بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ حَمْلِ السِّلاَحِ فِي العِيدِ وَالحَرَمِ: وَقَالَ
الحَسَنُ: نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلاَحَ يَوْمَ عِيدٍ إِلَّا أَنْ يَخَافوا
العَدُوًّ).
(1/180)
966 - حَدَّثَنا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى: حَدَّثَنا الْمُحَارِبِيُّ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ ابنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الحَجَّاجَ فَجَاءَ يَعُودُهُ، فَقَالَ الحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: حَمَلْتَ السِّلاَحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ، وَأَدْخَلْتَه في الحَرَمَ وَلَمْ يَكُنِ السِّلاَحُ يُدْخَلُ الحَرَمَ». [خ¦966] 967 - وفي لفظٍ: «قَالَ الحَجَّاجُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالُوا: صَالِحٌ، فَقَالَ مَنْ أَصَابَكَ؟ قَالَ: أَصَابَنِي مَنْ أَمَرَ بِحَمْلِ السِّلاَحِ فِي يَوْمٍ لاَ يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُهُ، يَعْنِي: الحَجَّاجَ».انتهى. [خ¦967] وفي «صحيح الإسماعيلي»: وذلك أنَّ الناسَ نَفَرُوا عَشِيَّةَ نَفَر، ورجلٌ من أصحاب الحجاج عارضٌّ حربته، فضرب ظهر قدم ابن عمر، فأصبح وَهِنًا منها حَتَّى مات. وفي «نسب قريش» للزبير لما أرسل عبد الملك يأمر الحجاج ألا يخالف ابن عمر ثَقُلَ عليه أمره، فأمر رجلًا معه حربة يقال إنها كانت مسمومة، فلما دفع الناس من عرفة لصق ذلك الرجل به، فَأَمَرَّ الحربةَ على قدمه، وهي في غرز رحله فمرض منها أيامًا ثم مات. وفي كتاب الصريفيني: لما أنكر عبد الله على الحجاج نصب المنجنيق وقتْلَ ابن الزبير أمر الحجاج بقتله، فضربه رجل من أهل الشام ضربة، فلما أتاه الحجاج يعوده قال له عبد الله: تقتلني ثم تعودني! كفى بالله حكمًا بيني وبينك.
(1/181)
وتبويب البخاري في حمل السلاح في العيد يخرج من تعليق الحسن، وحديث ابن عمر للمعنى الآخر، أو يكون حمل أيام منًى لقربها من العيد على أيام العيد، وحمْلُ السلاح في المساجد التي لا تحتاج إلى الحمل فيها مكروه، لما يُخشى فيها من الأذى والعقر عند التزاحم، فإن خافوا عدوًا فمباح حملها. وقال ثابت في كتاب «خلق الإنسان»: وفي القدم الأخمص، وهو خَصْرُ باطنها الذي يتجافى عن الأرض لا يصيبها إذا مشى الإنسان، وفي «المحكم»: هو باطن القدم وما رقَّ من أسفلها. (بَابُ التَّبْكِيرِ للعِيدِ) (وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ بُسْرٍ: إِنْ كُنَّا فَرَغْنَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ).هذا التعليق%ج 2 ص 4%رواه أبو داود بسند صحيح بلفظِ: قال يزيد بن حُمَيْدٍ: إن عبد الله خرج مع الناس في يوم فطر أو أضحى فأنكر إبطاء الإمام، فقال: إنا كنا فرَغنا ساعتنا هذه، قال يزيدُ: وذلك حين التسبيح. وخرَّجه الحاكم بلفظ: «إنَّا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» الحديث. وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وقت صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس وابيضت إلى وقت الزوال، وعن الشافعي: أول وقتها طلوع الشمس مرتفعة قيد رمح أو رمحين. قال ابن الأثير: والسُّنَّةُ في يوم الفطر التأخير لِيُخْرِجَ الناس صدقة الفطر قبل الصلاة، وأن تعجيل يوم النحر ليأكل الناس من أضاحيهم. قال الشافعي: أَخْبَرَنَا إبراهيم قال: حَدَّثَنِي أبو الحويرث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران: «أن عجِّلِ الأَضْحَى وأَخِّرِ الفِطْرَ».قال الشافعي: وأَخْبَرَنَا الفقيه الثقة أن الحسن كان يقول: «إنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يَغْدُو إِلَى الأَضْحَى والفِطْرِ حينَ تطلعُ الشمسُ فَيَتَتَامُّ طلوعُهَا».
(1/182)
قال: وأَخْبَرَنَا إبراهيم: حَدَّثَنِي عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر: «كانَ يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى يومَ الفطرِ إذا طلعتِ الشمسُ»، وأجمع الفقهاء أنها لا تُصلَّى قبل طلوع الشمس، ولا عند طلوعها. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: دلَّ حديث ابن بُسْرٍ على أن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم، فلا تؤخر عن وقتها، وقال إبراهيم: كانوا يصلون الفجر وعليهم ثيابهم يوم العيد، وكان رافعُ بنُ خَدِيْجٍ يجلس في المسجد مع بنيه فإذا طلع الفجر صلى ركعتين ثم ذهب إلى المصلى، وكان عروة لا يأتي العيد حتى تستقلَّ الشمس، وهو قول عطاء والشعبي، حديث البراء تقدم. (بابُ فَضْلِ العَمَلِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ: أَيَّام العَشْرِ، وَالأَيَّامُ المَعْدُودَاتُ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ).كذا في نسخ الصحيح، والتلاوة: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203].قال عبد بن حميد في «تفسيره»: حَدَّثَنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج عن عمرو بن دينار سمعت ابن عباس يقول: اذكروا الله في أيام معدودات الله أكبر، اذكروا الله في أيام معلومات الله أكبر، قال: الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات العشر. (وَكَانَ ابنُ عُمَرَ%ج 2 ص 5%وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي الأَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرونِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا).قال الشافعي: حَدَّثَنا إبراهيم بن محمد، أخبرني عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: «أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو إِلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ ثُمَّ يُكَبِّرُ بِالْمُصَّلى حَتَّى إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ تَرَكَ التَّكْبِيرَ». زاد في «المصنف»: «ويرفعُ صوتَه حَتَّى يبلغَ الإمامَ».
(1/183)
قال البيهقي: ورواه عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في رفع الصوت بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى، ورُوِي في ذلك عن علي وغيره من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. (وَكَبَّرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ خَلْفَ النَّافِلَةِ) محمد هذا أبو جعفر محمد بن علي بن حسين الباقر، وقال السَّفَاقُسيُّ: لم يتابع محمدًا على هذا أحد، وعن بعض الشافعية يكبر عقيب النوافل والجنائز على الأصح، وعن مالك قولان والمشهور أنه مختص بالفرائض. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهو قول الشافعي، وسائر الفقهاء لا يرون التكبير إلا خلف الفريضة. وفي «الأشراف» التكبير في الجماعة مذهب ابن مسعود وبه قال أبو حنيفة، وهو المشهور عن أحمد، وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي: يكبر المنفرد والصحيح من مذهب أبي حنيفة أن التكبير واجب، وفي «قاضي خان» سُنَّة. اختلف السلف في الأيام المعدودات والمعلومات: فالأيام المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهو قول أبي حنيفة، رواه عنه الكرخي في «المختصر»، وهو قول الحسن وقتادة. ورُوِيَ عن علي وابن عمر أن المعلومات هي ثلاثة أيام النحر والمعدودات أيام التشريق، وهو قول أبي يوسف ومحمد، سميت معدودات لقلتهن، ومعلومات لحرص الناس على علمها، لأجل فعل المناسك في الحج، وقال الشافعي: من الأيام المعلومات النحر، ورُوِيَ عن علي وعمر: يومُ النحر ويومان بعده، وبه قال مالك، قال الطحاوي وإليه أذهب، لقوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ -في أيام معلومات - عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 34]. وهي أيام النحر، وسُمِّيَتْ معدودات لقوله تعال: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
(1/184)
وسميت
أيام التشريق معدودات، لأنه إذا زيد عليها في البقاء كان حصرًا لقولهصَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «لا يَبْقَيَنَّ مُهَاجرِيٌّ بمكةَ بعدَ قضاءِ نُسُكِهِ فوقَ
ثلاثٍ».
969 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ
عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ
أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ» قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ
إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ».
[خ¦969]
كأن المراد بهذه أيام التشريق، وليس يقتضي الحديث إلا أيام العشر، بيانه أن
الترمذي رواه من حديث الأعمش عن مسلم عن سعيد عن ابن عباس بلفظ: «مَا مِنْ أيامٍ
العملُ الصَّالِحُ فيهنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ منْ هذهِ الأيامِ العشرِ» قالوا: يا
رسولَ اللهِ ولا الجهادُ. الحديث.
وزعم بعضهم أن حديث الباب ليس مطابقًا للترجمة، وإنما المطابق التعليق، وهو غير
جيد، لأن قوله: (مَا مِنْ أيامٍ العملُ الصَّالِحُ فيهنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ منْ
هذهِ الأيامِ) يقتضي التكبير وغيره من سائر الأعمال، والله أعلم.
(1/185)
(بَابُ التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ) (وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي فِتْيَةٍ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا).هذا التعليق رواه البيهقي عن أبي عبد الله الحافظ عن أبي بكر بن إسحاق، قال: قال أبو عبيد: فحَدَّثَنِي يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عطاء عن عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكبر في فتية ... الحديث. وفيه: «ليسمعه أهل السوق فيكبرون».وفي «الموطأ»: «خرجَ عمرُ الغد منْ يومِ النَّحْرِ حينَ ارتفعَ النهارُ شيئًا، فَكَبَّرَ وكَبَّر الناسُ معهُ، ثم خرجَ الثانيةَ بعدَ ارتفاعِ النهارِ، فَكَبَّرَ وكبَّرَ الناسُ بتكبيرهِ، ثمَّ خرجَ حينَ زاغتِ الشمسُ فَكَبَّرَ وكبَّرَ الناسُ معهُ حتى بلغَ البيتَ» وذلك فعل عمر، لأنه خاف الغفلة على الناس عن ذكر الله تعالى. وقال ابن حبيب: ينبغي لأهل منًى أن يكبروا أول النهار، وإذا ارتفع النهار ثم إذا زالت الشمس ثم بالعشي، وكذلك فعل عمر.970 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسًا وَنَحْنُ غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ عَنِ التَّلْبِيَةِ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَ: «كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ» وكذا رواه ابن عمر عند أبي داود بسندٍ صحيح. [خ¦970]
(1/186)
971 - حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ%ج 2 ص 7%حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ: حَدَّثَنا أَبِي عَنْ عَاصِمٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: «كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يَوْمَ الْعِيد» الحديث. [خ¦971] وقد تقدم في الحيض، وقال أبو علي: كذا رواه أبو ذر، وكذلك خرَّجَهُ أبو مسعود الدمشقي في كتابه: محمد عن عمر. قال أبو علي: وفي روايتنا عن أبي علي بن السكن وأبي أحمد وأبي زيد: حَدَّثَنا عمر بن حفص لم يذكروا محمدًا قبل عمر، ويشبه أن يكون هو محمد بن يحيى الذهلي، وإليه أشار الحاكم في هذا الموضع، وأمَّا خلف والطرقي فذكرا أنَّ البخاريَّ رواه عن عمر بن حفص، لم يذكرا محمدًا قبل عمر، وكذا ذكر أبو نُعَيْمٍ أنَّ البخاريَّ رواه عن عمر بن حفص. الأبوابُ المذكوراتُ بعدُ تَقَدَّمَ ذِكرُها. (بَابُ مَنْ خَالَفَ الطَّرِيقَ إِذَا رَجَعَ يَوْمَ العِيدِ)
(1/187)
986 - حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنا أَبُو تُمَيْلَةَ، حَدَّثَنا فُلَيْحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ» تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ فُلَيْحٍ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ. [خ¦986] كذا في روايتنا، وذكر الجياني أن في روايته هكذا عن أبي الحسن والأَصِيلي قال: وعن أبي ذَرٍّ الهَرَويِّ وعبد الله بنِ السَّكَنِ تابعه يونس بن محمد عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة، وحديثُ جابر أصحُّ. قال: وفي النسخة عن النسفي عن البخاري تابعه يونس بن محمد عَنْ فُلَيْحٍ لم يزد شيئًا، قال: وقال أبو مسعود في روايته عن البخاري بعد أن ساق حديث أَبِي تُمَيْلَةَ: تابعه يونس بن محمد عن فليح، قال: وقال محمد بنُ الصَّلْتِ عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة قال أبو عبد الله: وحديث جابر أصح. قال أبو مسعود: وإنما رواه يونس بن محمد عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة لا عن جابر، قال: وكذلك روى الهيثم بن جميل عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة، كما رواه ابن الصلت. قال: الجياني: وهذا تصريح من أبي مسعود في الردِّ على البخاري، وقول البخاري صحيح، ومتابعة يونس لأَبِي تُمَيْلَةَ صحيحة. وذكر أبو مسعود في سند أبي هريرة قال: قال البخاري في العيدين: وقال محمد بن الصلت عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة بنحوه -يعني بنحو جابر المذكور- ثم قال أبو مسعود منْ قِبَلِ نفسهِ: وكذلك قال يونس بن محمد والهيثم. قَالَ الجَيَّانِيُّ: ورواية يونس بن محمد لهذا الحديث من%ج 2 ص 8%طريق جابر محفوظة صحيحة من رواية الثقات عن يونس ولم يقع لنا في «الجامع» حديث ابنِ الصَّلْتِ إلا من طريق أبي مسعود، ولا غِنى بالباب عنه، لقول البخاري: وحديث جابر أصح.
(1/188)
ثم ذكر من طريق سعيد بن السكن عن عَلَّان عن سعيد بن الحكم وعن عمر بن أحمد الجوهري: حَدَّثَنا محمد بن معاذ الرازي كلاهما عن محمد بْنِ الصَّلْتِ: حَدَّثَنا فليح عن سعيد بن الحرث عن أبي هريرة. الحديث. وذكره أبو عيسى عن عبد الأعلى وأبي زُرْعَةَ قالا: حَدَّثَنا محمد بن الصلت .. الحديث. وقال: حديث غريب. انتهى. هذا خرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقال الطُّوسي: غريب، ورواه أبو تميلة ومحمد بن الصلت ويونس جميعًا عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن جابر، وابنِ الصَّلْتِ يقول: عن أبي هريرة، ثم قال أبو عيسى: وروى أبو تميلة ويونس هذا الحديث عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن جابر. ورواه ابن أبي شيبة عن يونس عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن جابر، وخرجه أبو جعفر العُقَيْليُّ عن علي بن عبد العزيز عن محمد بْنِ الصَّلْتِ عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة، وخرجه أيضًا من طريق يونس عن فُلَيْحٍ. قَالَ الجَيَّانِيُّ: ما ذكرناه من رواية أبي علي بن السكن في «الجامع» فنرى أن ذلك من إصلاحه، والله أعلم. ومما يرجح قول أبي مسعود قول البيهقي، وروى أيضًا عن أَبِي تُمَيْلَةَ عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة رواه عنه أبو أحمد الحرشي، وذكر أيضًا عن محمد بن عبيد الله بن أبي داود وأبي الأزهر قالا: حَدَّثَنا يونس بن محمد، حَدَّثَنا فليح عن سعيد عن أبي هريرة، وقال خلف رحمه الله في كتاب «الأطراف»: قال أبو مسعود: وقد رواه محمد بن حميد عن أَبِي تُمَيْلَةَ عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة كذا رواه الناس عنه. وحديث يونس بن محمد إنما رواه عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة لا عن جابر، وكذلك رواه الهيثم بن جميل عَنْ فُلَيْحٍ عن سعيد عن أبي هريرة، كما رواه محمد بْنُ الصَّلْتِ عَنْ فُلَيْحٍ عَنْ سَعِيْدٍ عن أبي هريرة، فصار يرجع الحديث إلى أبي هريرة، فهذا كما ترى غيرُ الذي نقله الجياني عن أبي مسعود.
(1/189)
وقال القاضي ابن العربي: وعجبتُ من البخاريِّ كيف خرجه مع الاضطراب الذي فيه، وعند الحاكم شاهدًا من طريق عبد الله بن عمر العمري عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أخذَ يومَ العيدِ في طريقٍ ثم رجعَ منْ طريقٍ آخرَ». ومن حديث بكرِ بنِ مُبَشِّرٍ قال: «كنتُ أَغْدو معَ أصحابِ رسولِ الله صلَّى اللهِ%ج 2 ص 9%عليه وسلم إِلَى الْمُصَلَّى يومَ الفِطْرِ والأضْحَى، فَنَسْلُكُ بطنَ بُطْحَانَ حتى نأتيَ إلى الْمُصَلَّى فَنُصَلِّيَ معَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثم نرجع منْ بطنِ بُطْحَاَن إلى بيوتِنَا» ولما ذكر ابن القطان هذا الحديث قال: عندي أنه لا يصح، فإن بكرًا لا تُعْرَفُ صحبته من غير هذا الحديث. قال: وإسحاق بن سالم لا يُعْرَفُ بشيء من العلم إلا بحديث الغدو يوم العيد، ولا روى عنه غيرُ أُنَيْس بن أبي يحيى، ولما خرجه أبو داود قال: رُوي هذا الحديث عن أبي هريرة وغيره. وقال أبو علي بن السَّكَنِ في كتاب «الحروف»: بكر بن مُبَشِّرٍ رُوي عنه حديث واحد بإسناد صالح، ثم أورد له هذا الحديث من رواية إسحاق، ثم قال: ليس لبكر رواية صحيحة إلا من هذا الوجه. وعند ابن ماجهْ بسند فيه ضعف عن سعد القرظ: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْعِيدَيْنِ سَلَكَ عَلَى دَارِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، ثُمَّ عَلَى أَصْحَابِ الْفَسَاطِيطِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فِي الطَّرِيقِ الْأُخْرَى، طَرِيقِ بَنِي زُرَيْقٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَى دَارِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَدَارِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى الْبَلَاطِ».وعن أبي رافع من طريق مِنْدَلِ بن علي: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يَأْتِي العيدَ ماشِيًا، ويرجعُ في غيرِ الطريقِ الذي ابتدأَ فيه».
(1/190)
وزعم ابن حزم أنه يُستحبُّ المسير إلى العيد على طريق والرجوعُ على آخر، فإن لم يكن ذلك فلا حرج، لأنه قد رُوِيَ ذلك من فعل سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وليست الرواية فيها بالقوية. انتهى كلامه. وهو غير جيد لما أسلفناه، وقد اخْتُلِفَ في محمد شيخ البخاري، فذكر في أطراف خلف أنه وجد حاشية هو محمد بن مقاتل، وزعم الجياني أن أبا علي وأبا نصر نسباه محمد بن سلام، وكذا ذكره أبو الفضل بن طاهر، وعند ابن التين أن فعله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذلك لتعم الناس الذين لم يَرَوه بركَتُه في الطريقين، وقيل: فعله خشية الزحام، وقيل: لتعم الناس صدقته إذ قد يكون من الفقراء من لا يمكنه الحركة. وقيل: ليُكثِّر خُطاهُ لتكثير الثواب، وقيل: ليَكْثُروا في أعين اليهود. وقال المنذري: ليشهد له الطريقان، وقيل: كان يحب أن يساوي بين أهل الطريقين فيَتبرَّكون به، ويُسَرُّون بمشاهدته وينتفعون بمسألته، وقيل كان يقصد بذلك حذارَ%ج 2 ص 10%المنافقين، وقال الشافعي: وأُحِبُّ ذلك للإمام والمأموم. واختُلف في فعل ذلك بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقيل: إذا عقلنا ما فعله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وكان المعنى باقيًا أو لم يعقل معناه فإنا نقتدي به فيه، فأما إذا عقلنا معناه ولم يكن باقيًا لم نفعله، وقيل: نقتدي به فيه وإن زال معناه. (بابٌ إِذَا فَاتَهُ العِيدُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ، وَمَنْ كَانَ فِي البُيُوتِ وَالقُرَى) لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ».أما قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (هَذَا عِيدُنَا) فهو حديث تقدم في باب سنَّة العيدين: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا».وأما قوله: (أَهْلَ الإِسْلاَمِ) فيشبه أن يكون تفسيرًا من البخاري، فيُنظر.
(1/191)
(وَأَمَرَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَوْلَاهُمُ ابنَ أَبِي عُتْبَةَ بِالزَّاوِيَةِ فَجَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ وَصَلَّى كَصَلَاةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَتَكْبِيرِهِمْ) هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة، فقال: حدَّثَنَا ابن عُلَيَّةَ، عنْ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَنَسِ بنِ مالكٍ: «أَنَّ أَنَسًا كَانَ رُبَّمَا جَمَعَ أَهْلَهُ وَحَشَمَهُ يَوْمَ الْعِيدِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبَيْدُ الله بن أَبِي عُتْبَةَ رَكْعَتَيْنِ».وقال البيهقي في «السنن»: حدَّثَنَا أبو الحَسَنِ الْفَقِيهُ، وَأبو الحَسَنِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، حَدَّثَنا أَبُو سَهْلٍ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عنْ عبد الله بن أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ أَنَسٌ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ جَمَعَ أَهْلَهُ يُصَلِّي بِهِمْ مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْعِيدِ».قال: وَيُذْكَرُ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا كَانَ بِمَنْزِلِهِ بِالزَّاوِيَةِ، فَلَمْ يَشْهَدِ الْعِيدَ بِالْبَصْرَةِ، جَمَعَ مَوَالِيَهُ وَوَلَدَهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ مَوْلَاهُ عبد الله بن أَبِي عُتْبَةَ فَيُصَلِّي بِهِمْ كَصَلَاةِ أَهْلِ الْمِصْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَيُكَبِّرُ بِهِمْ كَتَكْبِيرِهِمْ».وبه قال فيما ذكره ابن أبي شيبة مجاهد وابن الحنفية وإبراهيم وابن سيرين وحماد وأبو إسحاق السبيعي. وروينا في «الجعديات» عن شعبة عن قتادة عن عبد الله -أو عبيد الله- مولى أنس بن مالك فذكر حديثًا، فيُنظر في جزم البخاري مع وجود الرجل المجهول فيه.
(1/192)
(وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَهْلُ السَّوَادِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْعِيدِ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ كَمَا%ج 2 ص 11%يَصْنَعُ الْإِمَامُ) هذا ذكره ابن أبي شيبة، فقال: حَدَّثَنا غندر عن شعبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال في القوم يكونون في السَّوادِ في السفرِ في يوم عيد فطر أو أضحى، قال: يجتمعون فيصلون ويؤمهم أحدهم. وذكره أيضًا عن نافع وعطاء وعمر، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا فَاتَهُ الْعِيدُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. قال ابن أبي شيبة في فصل من فاتته صلاة العيد كم يصلي: حَدَّثَنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عطاء قال: يصلي ركعتين ويكبر. وقال ابن المنير: موضع الاستدلال من حديث عائشة، يعني المتقدم في باب: الحراب والدرق والإشارة، لقوله: (إنها أيامُ عيدٍ) فأضاف نسبة العيد إلى الإمام مطلقًا، فيستوي في إضافتها الفذُّ والجماعة والنساء والرجال، والله تعالى أعلم. وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اختلف العلماء فيمن فاتته صلاة العيد، فقالت طائفة: يصلي ركعتين، وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور، إلا أن مالكًا يَستحب له ذلك من غير إيجاب، وقال الأوزاعي يصلي ركعتين ولا يجهر بالقراءة ولا يكبر تكبير الإمام وليس بلازم. وقالت طائفة يصليها إن شاء، لأنها إنما تُصلى ركعتين إذا صليت مع الإمام بالبروز لها كالجمعة مع الإمام أربعًا، رُوِي ذلك عن علي وابن مسعود، وبه قال الثوري وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصلِّ، فإن شاء صلَّى أربعًا، وإن شاء ركعتين. وقال إسحاق: إن صلَّى في الجبال صلَّى كصلاة الإمام، فإن لم يصلِّ فيها صلى أربعًا.
(1/193)
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأولى الأقوال بالصواب أن يصليها كما سنَّهَا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وهو الذي أشار إليه البخاري، بقوله: (هَذَا عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلَامِ) و (إِنَّهَا أيامُ عيدٍ)، وذلك إشارة إلى الصلاة وقد أبان ذلك بقوله: (أولُ نُسُكِنا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا) ومن صلى كصلاة الإمام فقد أصاب السنة. قال: واتفق مالك والكوفيون والمزني على أنه لا يُصلَّى صلاةُ العيد في غير يوم العيد. وقال الشافعي في قولٍ: إنها تقضى من الغد، واحتج عليه المزني، فقال: لما كان بعد الزوال أقرب إلى وقتها من اليوم الثاني، وأجمعوا أنها لا تصلى إلا قبل الزوال فأحرى أن لا تصلى من الغد وهو أبعد. وفي «القواعد» لابن رشد قال قوم: لا قضاء عليه%ج 2 ص 12%أصلًا وهو قول مالك وأصحابه، وحكى ابن المنذر عن مالك مثل قول الشافعي. وفي «شرح الهداية»: من فاتته صلاة العيد مع الإمام لم يقضها، يعني أنه صلاها الإمام بجماعة وفاتت بعضهم حتى خرج وقتها، فإنه لا يصليها وحده ولا بجماعة وسقطت عنه، وأما إذا فاتت الإمام فإنه يصليها مع الجماعة في اليوم الثاني إذا كان الفوات بعذر، وقال ابن مسعود يصلي أربعًا، وبه قال أحمد لكن إن شاء بتسليمة واحدة، وإن شاء بتسليمتين واستحسنه الثوري. وقال مالك: الفَذُّ يصلي العيد، وقال سُحْنُون: لا يصليها، لأنها تجري مَجرى الجمعة وسد الذريعة المبتدعة، وإن كان عذر يمنع من الصلاة صلَّاها من الغد وبعد الغد ولا يصليها بعد ذلك، والتارك بغير عذر مسيء.
(1/194)
وقال ابن حزم: ومن لم يخرج يوم الفطر ولا يوم الأضحى لصلاة العيد خرج في اليوم الثاني، فإن لم يخرج غُدْوةً خرج ما لم تَزُلِ الشمسُ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، فلو لم يخرج في الثاني من الأضحى وخرج في الثالث فقد قال به أبو حنيفة والشافعي، واستدلَّ للقول الأول بحديث أبي داود عن أبي عُمَيْر بن أنس عن عمومة له من الصحابة أن ركبًا جاؤوا إلى النبي صلى الله علي وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا وإذا أصبحوا يَغْدُون إلى مصلاهم، وقال: هذا مسند صحيح. وقال الخطَّابيُّ: حديث أبي عمير صحيح والمصير إليه واجب، وقال البيهقي لما خرجه: هذا إسناد صحيح، وقال ابن المنذر: حديث ثابت يجب العمل به، وقال ابن القَطَّانِ: هو حديث ينبغي أن ينظر فيه، ولا يقبل إلا أن تثبت عدالة أبي عمير، فإنه لا يعلم له كثير شيء، إنما هي حديثان أو ثلاثة لم يروها عنه غير أبي بشر، ولا أعرف أحدًا عرف من حاله ما يوجب قَبول روايته، ولا هو ممن يعلم أن أكثر من واحد روى عنه فيصيرَ من جملة المساتير المختلف في ابتغاء مزيد على ما تقرر من إسلامهم برواية أهل العلم عنهم، وقد رأيت من قال: اسمه عبد الله وهو البَاوَرْدِيُّ، فإنه ذكر حديثه هذا في كتابه في الصحابة له فأسماه في نفس الإسناد عبد الله، وذلك لا يفيد في المقصود%ج 2 ص 13%من معرفة حاله شيئًا، وفيه أيضًا مع الجهل بحال أبي عمير كون عمومته لم يُسمَّوا، فالحديث جرى بأن لا يقال فيه: صحيح. انتهى كلامه. وفيه نظرٌ من حيث إن أبا حاتم الرازي قال: روى عنه عبد الله بن المثنى ويزيد الرشك، وذكره ابن حبان في كتاب «الثقات»، وقال محمد بن سعد: أمه الفَارِعَةُ بنت المثنى بن حارثة الشيباني، وكان ثقة قليل الحديث، انتهى. فأي تعريف أكثر من هذا، والله أعلم. الباب الذي بعده تقدم. (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْوِتْرِ)
(1/195)
990
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ
وَعَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ
أَحَدُكُم الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى».
[خ¦990]
993 - وفي حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنه: «صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى
مَثْنَى، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ، فَارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لَكَ مَا
صَلَّيْتَ». قَالَ القَاسِمُ: وَرَأَيْنَا أُنَاسًا مُنْذُ أَدْرَكْنَا يُوتِرُونَ
بِثَلاَثٍ، وَإِنَّ كُلًّا لَوَاسِعٌ أَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ
بَأْسٌ. [خ¦993]
وعند مسلم: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّائِلِ، فَقَالَ: يَا رَسول اللهِ كَيْفَ صَلَاةُ
اللَّيْلِ؟ قَالَ: «مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَصَلِّ رَكْعَةً،
وَاجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِكَ وِتْرًا». ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِ
الْحَوْلِ، وَأَنَا بِذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فَلَا أَدْرِي هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، أوْ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ
مِثْلَ ذَلِكَ.
وفي لفظ: «بادروا الصبحَ بالوترِ».
وفي لفظ: «منْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ وِتْرًا قبلَ
الصبحِ».
وفي لفظ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ».
(1/196)
وفي
لفظ: أَنَّ رَجُلًا نَادَى رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ، كَيْفَ أُوتِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى، فَلْيُصَلِّ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِنْ أَحَسَّ أَنْ
يُصْبِحَ سَجَدَ سَجْدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى».
وفي «موطأ معن»: «فليصلِّ ركعةً واحدةً» الحديث.
وعند أبي عيسى سأل أنسُ بنُ سيرين ابنَ عُمر: أطيل في
%ج 2 ص 14%
ركعتي الفجر؟ فقال: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي من الليلِ
مَثْنَى مَثْنَى ويوترُ بركعةٍ».
وعند الدَّارَقُطْني في رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن ابن عمر مرفوعًا:
«صلاةُ الليلِ والنهارِ مَثْنَى مَثْنَى»، قال أبو الحسن: وهو غير محفوظ، وإنما
تعرف صلاة النهار عن يعلى بن عطاء عن علي البارقي عن ابن عمر، وقد خالفه نافع وهو
أحفظ منه فذكر: «أنَّ صلاة الليلِ مَثْنَى مَثْنَى والنهارِ أربعًا»، وفي رواية
يحيى عن عبيد الله عن نافع أن ابن عمر: «كانَ يصلِّي بالليلِ مَثْنَى وبالنهارِ
أربعًا» رواه وهب بن وهب القاضي وهو متروك عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر
مرفوعًا: «صلاةُ الليلِ والنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى»، ووهم فيه والمحفوظ عن عبيد
الله ما ذكرناه، وروى إبراهيم الحُنَيْنِيُّ عن مالك والعمري عن نافع عن ابن عمر
يرفعه: «صلاةُ الليلِ والنهار مَثْنَى مَثْنَى» قال: وكذلك روى عن عبد الله عن
نافع عن مالك ولا يثبت عنه، وإنما تعرف هذه اللفظة من رواية الحنيني.
وقال ابن عبد البر: ورواية الحنيني خطأ لم يتابعه عن مالك أحدٌ، وعند الترمذي
وخرَّج حديث يعلى عن علي البارقي: اختلف أصحاب شعبة في حديث ابن عمر فرفعه بعضهم،
ووقفه بعضهم، وكذا قاله أبو علي الطُّوسي، وقال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ.
وقال ابن الجوزي: هذه زيادة من ثقة فهي مقبولة.
(1/197)
وعند
البيهقي: سئل أبو عبد الله البخاري عن حديث البارقي هذا أصحيح هو؟ قال: نعم، قال:
وقال سعيد بن جبير: كان ابن عمر لا يصلي أربعًا لا يفصل بينهن إلا المكتوبة.
وفي «سؤالات مضر بن محمد»: سألت يحيى بن معن عن صلاة الليل والنهار، فقال: صلاة
النهار أربع لا يُفصَل بينهن، وصلاة الليل ركعتان، فقلت: إن أبا عبد الله أحمد بن
حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، قال: بأي حديث؟ قلت: بحديث شعبة عن يعلى
عن علي عن ابن عمر، فقال: ومن علي الأزدي حتى أقبل منه هذا، أدعُ يحيى بن سعيد
الأنصاري عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتطوع بالنهار ولا يفصل بينهن، وآخذ بحديث
علي الأزدي، لو كان حديث علي صحيحًا لم يخالفه ابن عمر، قال يحيى: وكان شعبة يتقي
هذا الحديث، وربما لم يرفعه.
وفي «سؤالات حرب» قال: حَدَّثَنا أحمد، حَدَّثَنا غير واحد وجوَّده غُنْدَرٌ،
حَدَّثَنا شعبة عن يعلى بن عطاء
%ج 2 ص 15%
عن علي الأزدي، الحديث.
وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله يقول: كان شعبة يفرقه، يعني هذا الحديث، قال أبو
عبد الله: ولا أدري لمَ فرقه، والإسناد عندي جيد.
وفي «علل الخلَّال» قال: إسماعيل بن سعيد: قلت لأحمد: فمُتَّقِّيه أنت؟ قال: لا،
إسناده جيد، ونحن لا نتَّقيه. انتهى.
وقال الفضل بن زياد: قيل لأحمد رواه أحد عن ابن عمر غير علي؟ قال: نعم، إلا أنه
أوقفه، حَدَّثَنا يونس بن محمد عن ليث بن سعد عن عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد
الله عن عبد الله بن أبي سلمة عن محمد بن عبد الرحمن عن ابن عمر: «صلاةُ الليلِ
والنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى». انتهى.
قد أسلفنا عن الدَّارَقُطْني رفع هذه اللفظة من رواية محمد بن عبد الرحمن.
(1/198)
قال
الخلاَّلُ: وأَخْبَرَنَا أبو داود سمع أحمد يقول: أما صلاة الليل مثنى مثنى فليس
فيه اختلاف، وكان شعبة يتهيب حديث ابن عمر: «صلاةُ الليلِ والنَّهَارِ مَثْنَى
مَثْنَى» قال أبو داود: يعني يتهيبه للزيادة التي فيه: (والنهار)، وروى نافع عن
ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعًا، وبعضهم قال: عن نافع عن ابن عمر أنه كان
يصلي بالنهار أربعًا، فخاف لو كان حفظ ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صلاة النهار مثنى لم يكن يرى أن يصلي بالنهار أربعًا.
قال أبو داود: في هذا توهينٌ لحديث يعلى، يعني حديث علي الأزدي، وقد رُوي عن ابن
عمر مرفوعًا: «صَلَاةُ الليلِ مَثْنَى مَثْنَى» ولم يذكر النهار أكثر من خمسة عشر
رجلًا من أصحابه، وقد بَيَّنَ أيوب الأشياء التي سمعها محمد بن سيرين من ابن عمر
ليس فيها هذا، وقال غيرُ أبي داود عن أحمد أنه قال: لا ينبغي أن يكون هذا مما سمع
محمد من ابن عمر.
وقال أبو جعفر المعروف بالإمام: رأيت أبا عبد الله وإسحاق بن إسرائيل في المسجد
الجامع قبل الصلاة، فصلى أبو عبد الله عشر ركعات، ركعتين ركعتين، وصلى إسحاق ثماني
ركعات أربعًا أربعًا لم يفصل بينهن بسلام، فقلت لإسحاق، فقال حديث أبي أيوب: «أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا
لَا يَفْصِلُ بينهنَّ بسلامِ»، فجئتُ إلى أبي عبد لله فسألته، فقال حديث شعبة عن
يعلى، الحديث، قال: فقلت: فحديث أبي أيوب في الأربع، قال: هذا رواه قَرْثَع وقزعة
ومَن قرثع وقزعة؟ انتهى.
في صحيح ابن خزيمة:
%ج 2 ص 16%
(1/199)
وأما
الخبر الذي احتجَّ بعض الناس في الأربع قبل الظهر بتسليمة حديث أبي أيوب فإنه رُوي
بسندٍ لا يَحْتَجُّ بمثله من له معرفة برواية الآثار، وروى شبيهًا به الأعمش عن
المسيب بن رافع عن علي بْنِ الصَّلْتِ عن أبي أيوب مرفوعًا إلا أنه ليس فيه «لا
يُسَلِّمُ بَيْنَهُنَّ» ولست أعرف عليًّا هذا، ولا أدري من أي بلاد الله تعالى هو،
ولا أفهم أَلَقِي أبا أيوب أم لا، ولا يحتج بمثل هذه الأسانيد إلا معاندٌ أو جاهل.
انتهى.
في كتابِ «قربان المتقين» لأبي نعيم الحافظ: روى حديث أبي أيوب عنه أبو أمامة من
رواية ابن زحر عن علي بن القاسم والشعبي من حديث السري بن إسماعيل ومحمد بن أبي
أيوب من حديث السكن بن أبي كريمة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه، ورواه ثوبان عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كرواية أبي أيوب من حديث صالح بن جبير:
حَدَّثَنا أبو أسماء الرجبي عنه، وعمر بن الخطاب من رواية عبد الله بن محمد بن
ناجية: حَدَّثَنا هارون حَدَّثَنا علي بن عاصم عن يحيى البَكَّاء عن ابن عمر عنه،
وعبد الله بن السائب من رواية ابن ابي ليلى عن عبد الكريم عن مجاهد عنه.
وقول من قال: إن أصحاب شعبة اختلفوا في رفعه، فيه نظرٌ من حيث إنا رأينا كبار
أصحابه والمختصين بصحبته رَوَوه عنه مرفوعًا، من ذلك: أن أبا علي الطُّوسي رواه
مرفوعًا عن الحسن بن محمد الزعفراني، حَدَّثَنا عمرو بن مرزوق عن شعبة.
والترمذي عن محمد بن بشار، حدَّثَنَا ابن مهدي، حَدَّثَنا شعبة.
وأبو محمد الدارمي في «مسنده» عن أبي بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنا وكيع وغندر،
حَدَّثَنا شعبة.
وعند البيهقي من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة، وقال: كذا رواه أيضًا معاذ بن
معاذ العنبري.
وابن خزيمة في «صحيحه» عن محمد بن جعفر وابن مهدي عنه.
والعباس بن عبد المطلب من رواية موسى بن عُبَيْدَةَ عنْ سعيدِ بن أبي سعيد مولى
أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبي رافع عنه.
(1/200)
والفضل
بن عباس من رواية عبد الرحمن بن حُمَيْدٍ الطائي عن أبي أمية عن أبي رافع عنه.
وأم سلمة من رواية عمر بن قيس عن ابن جبير عنها، ويشده أيضًا ما سلف من متابعيه.
ويقول مالك في «الموطأ»: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يقول: «صلاةُ الليلِ
والنهارِ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كلِّ ركعتينِ».
وبما رواه الترمذي عن ابن عباس قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«الصلاةُ مَثْنَى مَثْنَى تَشَهُّدٌ وتخضّعٌ وتضرُّعٌ وتَمَسْكُنٌ في كلِّ
ركعتينِ».
وبما في «علل الخلَّال»: أَخْبَرَنَا زكريا بن يحيى: حَدَّثَنا أبو طالب
%ج 2 ص 17%
أنه قرأ على أبي عبد الله عن ابن جعفر عن شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أنس بن أبي
أنس عن عبد الله بن نافع بن العمياء عن عبد الله بن الحارث عن المطلب عن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «الصلاةُ مَثْنَى مَثْنَى وتَشَهُّدٌ في
كلِّ ركعتينِ». الحديث.
قال أبو عبد الله: أخطأ شعبة في هذا الحديث في موضعين: قال: عن أنس بن أبي أنس،
وقال ليث بن سعد: عمران بن أبي أنس، وعمران رجل معروف بالمدينة، وأنس لا أعرفه،
وقال: الْمُطَّلِب، وليس هو المُطَّلِبَ، وغيره لا يقول المطلب.
قلت: فمن المطلب؟.
قال: لا أعرفه.
قال: ووافق شعبةَ على بعض هذا الإسناد رجلٌ ضعيف من أهل المدينة اسمه يزيد بن
جُعْدبة، ولما خرَّج ابن خزيمة حديث شعبة في «صحيحه» له قال: إن ثبت هذا الخبر
بهذه اللفظة: «الصلاةُ مَثْنَى مَثْنَى» مثل خبر ابن عمر ففي هذا زيادة، وهي رفع
اليدين لتقول: اللهم.
وفي خبر الليث قال: ترفعهما إلى ربك تستقبل بهما وجهك وتقول: ربِّ يا ربِّ، ورفع
اليدين في التشهد قبل السلام ليس من سنة الصلاة، وهذا دالٌّ على أنه إنما أمره
برفع اليدين والدعاء والمسألة بعد السلام من المَثْنى.
(1/201)
وفي
كتاب «الفضائل» لِحُمَيْدِ بن زَنْجَوَيْه: حَدَّثَنا الحكم بن نافع، حَدَّثَنا
أبو بكر بن أبي مريم عن حبيب بن عبيد وعطية بن قيس عن عمرو بن عَبْسَة يرفعه:
«صلاةُ الليلِ مَثْنَى مَثْنَى».
وقال ابن عبد البر: حديث «الصلاة مَثْنَى مَثْنَى» وإن كان لا يقوم بسنده حجة،
فالنظر يعضده والأصول توافقه، ومن الدليل أن صلاة النهار مثنى كصلاة الليل سوى أن
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين،
وبعد الجمعة ركعتين، وبعد الفجر ركعتين، وكان إذا قدم من سفر صلى في المسجد
ركعتين، وصلاةَ الفطر والأضحى والاستسقاء ركعتين.
وقال: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ» ومثل هذا
كثير، ودليل آخر أن العلماء لما اختلفوا في صلاة النافلة بالنهار وقام الدليل على
حكم صلاة النافلة بالليل وجب رد ما اختلفوا فيه على ما أجمعوا عليه قياسًا.
وقال: مالك والليث والشافعي وأحمد وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو
ثور: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، مستدلين بما تقدم.
وقال أبو حنيفة والثوري: صلِّ ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين، صلِّ بالنهار إن
شئت ركعتين وإن شئت أربعًا أو ستًا أو ثمانيًا، وقال الثوري: صلِّ ما شئت بعد أن
تقعد في كلِّ ركعتين
%ج 2 ص 18%
وهو قول الحسن بن حي.
وقال الأوزاعي: صلاة الليل مثنى وصلاة النهار أربعًا، وهو قول النخعي.
و (مَثْنَى مَثْنَى) يريد: ركعتين ركعتين وهو معدول عن اثنين اثنين لا ينصرف للعدل
المكرر، كأنها عُدِلَتْ مرتين مرة عن صيغة اثنين ومرة عن تكرُّرها، وهي نكرة تعرف
بلام التعريف، لأنك تقول: المَثْنى، وكذلك ثلاث ورباع، وقيل: إنما لم ينصرف للعدل والوصف،
تقول: مررت بقوم مثنى، أي مررت بقوم اثنين اثنين، وموضعها رفع، لأنها خبر المبتدأ
الذي هو قوله: (صلاةُ الليلِ)، وقد سئل ابن عمر: ما مَثْنَى مَثْنَى؟ قال:
تُسَلِّمُ في كل ركعتين.
(1/202)
وفي
«شرح المهذب»: جمهور العلماء على أن وقت الوتر يخرج بطلوع الفجر مستدلين بما رواه
أبو سعيد: قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ الصبحِ» عند
مسلم، ولَمَّا خرجه الحاكم قال: وله شاهد صحيح وهو قوله عليه السلام: «بَادِرُوا
الصبحَ بالوترِ» وهو مخرج في «صحيح ابن خزيمة».
وروى أبو سعيد مرفوعًا: «مَنْ أَدْرَكَهُ الصبحُ ولَمْ يُوْتِرْ فَلَا وِتْرَ
لَهُ» وقال: صحيح على شرط مسلم، وخرجه أيضًا ابن خزيمة، وعند الترمذي عن ابن عمر
قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إذا طلعَ الفجرُ فقدْ ذَهَبَتْ كلُّ صلاةٍ
بالليلِ والوترُ فأوتروا قبلَ طلوعِ الفجرِ».وقال: تفرد به سليمان بن موسى، وخرجه
أيضًا الحاكم في مستدركه، ولفظه في «صحيح ابن خزيمة»: فإن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قال: «الوترُ قَبْلَ الفجرِ»، وفي لفظٍ «فقدْ ذهبَ صلاةُ الليلِ
والوتر».
وفي «المصنف» عن الحسن قال: «لا وِتْرَ بعدَ الغَدَاةِ». وفي لفظٍ «إذا طَلَعَتِ
الشمسُ فلا وترَ».
وقال: الشعبي من صلى الغداة ولم يوتر فلا وتر عليه، وكذا قاله مكحول وسعيد بن
جبير، وقيل: إنه يمتد بعد الفجر حتى يصلي الفجر.
قال ابنُ بَزِيزَةَ: ومشهور مذهب مالك أنه يصليه بعد طلوع الفجر مالم يصلِّ الصبح،
والشاذ من مذهبه أنه لا يصلي بعد طلوع الفجر، قال وبالمشهور من مذهبه قال أحمد
والشافعي، ومن السلف ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وحذيفة وأبو الدرداء
وعائشة.
وقال طاوس: يصلي الوتر بعد صلاة الصبح.
وقال: أبو ثور والأوزاعي والحسن والليث
%ج 2 ص 19%
(1/203)
يصلي
الوتر بعد صلاة الصبح، كأنهم لمحوا ما في النسائي بسندٍ جيدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ، أنَّهُ كَانَ فِي مَسْجِدِ
عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَهُ،
فَجَاءَ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَوْتِرُ، وَقَالَ: سُئِلَ عبد الله: هَلْ بَعْدَ
الْأَذَانِ وترٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَبَعْدَ الْإِقَامَةِ، وَحَدَّثَ عَنِ النبيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتِ
الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى».
في لفظ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عبد الله فَقَالَ: أُوتِرُ بَعْدَ النِّدَاءِ؟
فَقَالَ: نَعَمْ وَبَعْدَ الْإِقَامَةِ.
وفي «المصنف» قَالَ أبو الدَّرْدَاءِ: «رُبَّمَا أَوْتَرْتُ وَإِنَّ الْإِمَامَ
لَصَافٌّ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ». و «كَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يُوتِرُ عِنْدَ
الْإِقَامَةِ»، وسُئِلَ أبو عُبَيْدَةَ: الرَّجُلُ يَسْتَيْقِظُ عِنْدَ
الْإِقَامَةِ قَالَ: «يُوتِرُ».
وعند الحاكم مصحح الإسناد عن أبي الدرداء قال: رُبَّمَا رأيتُ النبيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يوترُ وقدْ قامَ النَّاسُ لصلاةِ الصبحِ، وقال أبو ثور
والأوزاعي والحسن والليث: يصلي ولو طلعت الشمس.
وقال سعيد بن جبير: يوتر من القابلة، وقال ابن العربي أقل النفل عند الشافعي ركعة
وحقيقة مذهبه تكبيرة، فإنه عنده لو كبر لصلاة ثم بدا له في تركها فخرج عنها كتب له
ثواب التكبيرة وليس له أصل، وأما ركعة واحدة فلم تشرع إلا في الوتر كما تقدم عن
ابن عمر، وفعله أبو بكر وعمر، ورُوِيَ عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن عباس
ومعاوية وأبي موسى وابن الزبير وعائشة وعطاء ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور
إلا أن مالكًا قال: ولا بدَّ أن يكون قبلها شفع لِيُسَلِّمَ بينهن في الحضر
والسفر، وعنه لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وكذا فعله سحنون في مرضه.
(1/204)
وقال
الأوزاعي: إن شاء فَصَلَ بينهما وإن شاء لم يفصل، وممن قال يوتر بثلاث لا يفصل
بينهن عمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأُبَيُّ بن كعب وابنُ عباس وأنس وأبو أمامة
وعمر بن عبد العزيز والفقهاء السبعة وأهل الكوفة.
قال الترمذي: ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إليه، ويشبه أن يكونوا مستدلين بما في
«كتاب الحاكم» عن عائشة قالت: «كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا
يُسَلِّمُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ منَ الوترِ» وقال: صحيح على شرط
الشيخين وله شواهد، فذكر منها عنها قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ
%ج 2 ص 20%
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوترُ بثلاثٍ لا يَقْعُدُ إِلَّا في آخرهِنَّ» قال الحاكم:
وهذا وتر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي لله عنه، وعنه أخذ أهل المدينة عطاء
وغيره.
وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: «كانَ لا يُسَلِّمُ في ركْعَتَي الوترِ».
وعند البيهقي: «لا يُسَلِّمُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأوليينِ منَ الوترِ».
ولما ذكره ابن أبي حاتم في كتاب «العلل» من حديث عثمان بن الحكم عن يحيى بن سعيد
أنه بَلَغَهُ عن عائشة، قال عن أبيه وأبي زرعة: هذا أشبه، وقد أفسد على يحيى بن
أيوب، حيث رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة عنها، وعند النسائي بسند صحيح عن أُبَيِّ
بنِ كَعْبٍ: «كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يوترُ بـ {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}
ولا يُسَلِّمُ إلا في آخِرِهِنَّ».
وعن ابن عباس: «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يوتر بـ {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ}» وسنده أيضًا صحيح.
وعند الترمذي من حديث الحارث عن علي: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يوترُ بثلاثٍ». الحديث.
(1/205)
وعند
الطحاوي عن أبي خالد: سألتُ أبا العالية عن الوتر فقال: علمنا أصحاب محمد الوتر
مثل صلاة المغرب غير أنا نقرأ في الثالثة: هذا وتر الليل، وهذا وتر النهار.
وعن الربيع المؤذن عن ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز:
أمرنا الفقهاء بالوتر ثلاثًا لا نسلم إلا في آخرهن.
وعند الدَّارَقُطْني عن ابن مسعود قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«وترُ الليلِ ثلاثٌ كوترِ النهارِ صلاةَ المغرب» وفي سنده يحيى بن زكريا المعروف
بابن أبي الحواجب، وفيه ضعف ولم يرفعه غيره، وهو عند ابن أبي شيبة موقوف بسند
صحيح.
وعن ابن عباس بسند صحيح: الوتر بسبع أو بخمس، ولا أقل من ثلاث، وعن جابر بن زيد:
الوتر ثلاث، وحَدَّثَنَا حفص عن عمرو عن الحسن قال: أجمع المسلمون على أن الوتر
ثلاث لا تسليم إلا في آخرهن.
وكان سعيد بن جبير ومكحول وسعيد بن المسيب والنخعي وأبو العالية وخلاس وأصحاب علي
وأصحاب عبد الله يوترون بثلاث ولا يسلمون في الركعتين، وكذا فعله أبو أمامة وعمر،
وفي «الموطأ» عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يقول: صلاة المغرب وترُ صلاةِ
النهار وهو عند النسائي بسند صحيح مرفوع: «صلاةُ المغربِ وترُ صلاةِ النهارِ فأوتروا
صلاةَ الليلِ».
قال أبو عبد الله: وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه
%ج 2 ص 21%
وسلم: «أنَّهُ أوترَ بثلاثٍ».
وعند أبي نعيم من حديث عبيد بن عبيد الله عن السَّرِيِّ بن إسماعيل عن الشعبي عن
عبد الرحمن بن أبي سارة قال: سألتُ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن صلاة
الليل فقال: «ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، والوترَ وركعتينِ
عندَ الفجرِ» الحديث.
(1/206)
وقال:
أراه عبد الرحمن بن أبي سبرة، وقد عارض هذا حديثٌ رواه أبو هريرة مرفوعًا من عند
الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقال الدَّارَقُطْني: إسناده كلهم ثقات «لا
تُوْتِرُوا بِثَلَاثٍ ولا تشَبِّهُوا صلاةَ المغربِ، أَوْتِروا بخمسٍ أو بسبعِ أو
بتسعٍ أو بِإِحْدَى عَشْرَةَ ركعةً أو بأكثرَ منْ ذلكَ».
وفي «المصنف»: حَدَّثَنا عَبَّادُ بنُ العوَّامِ عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن
عائشة أنها قالت: لا توترْ بثلاثٍ بُتْرٍ، صلِّ قبلها ركعتين أو أربعًا.
وحَدَّثَنَا هشيم عن العوام: حَدَّثَنا أبو كذا عن إبراهيم التيمي أنه قال: كانوا
يكرهون أن يشبهوا الوتر بالمغرب، قال البيهقي: وهذا يخالف قول من يجعلها ثلاثًا
كالمغرب في الظاهر، والمراد من خبر أبي هريرة الزيادة فيها وترك الاقتصار فيها على
الثلاث كما اختاره الشافعي.
وقول البخاري: (وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عبد الله بن عُمَرَ: كَانَ يُسَلِّمُ منَ
الرَّكْعَةِ وَالرَّكْعَتَيْنِ فِي الوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ).
أحاله على السند الأول، بيانه أن البيهقي لما روى هذا خاصة قال: رواه البخاري في
الصحيح عن ابن يوسف عن مالك، ورواه أيضًا من طريق الشافعي عن مالك من الوتر.
انتهى.
وكأنَّ البخاري في فصله بينهما يحتمل أمرين:
الأول أن يكون سَمِعَهُما متفرِّقَينِ المرفوعَ عن الأثرِ فأدَّاهما كما سمعهما.
أو أراد التفرقة بين الحديث والأثر كعادته وعادة غيره.
واخْتُلِفَ في الوتر فزعم القاضي أبو الطيب أن العلماء كافَّةً قالت: إنه سنة، حتى
أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة وحده: هو واجب، وليس بفرض، وقال أبو حامد في
«تعليقته»: الوتر سنة مؤكدة ليس بفرض ولا واجب، وبه قالت الأمة كلها إلا أبا حنيفة
وتبعهما على قولهما غير واحد، وهو غير جيد لعدم تفرد أبي حنيفة بذلك، هذا القاضي
أبو بكر بن العربي ذكر عن سحنون وأصبغ بن الفرج وجوبه.
%ج 2 ص 22%
(1/207)
وحكى
ابن حزم أن مالكًا قال: من تركه أُدِّب، وكانت جُرحة في شهادته، وحكاه ابن قدامة
في «المغني» عن مذهب أحمد.
وفي «المصنف» عن مجاهد بسند صحيح هو واجب ولم يكتب، وعن ابن عمر بسند صحيح: ما
أُحِبُّ أني تركت الوتر وأنَّ لي حُمْرَ النَّعَم.
وحكى ابن بطال وجوبه عن يوسف بن خالد السَّمْتِي شيخِ الشافعي ووجوبه على أهل
القرآن عن ابن مسعود وحذيفة وإبراهيم النخعي، وحكاه ابن أبي شيبة أيضًا عن ابن
المسيب وأبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود والضحاك، وكأن الأصل في ذلك قول النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ» رواه الأوزاعي عن الزهري عن عطاء
بن يزيد قال: حَدَّثَنا أبو أيوب عند الحاكم، وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين،
وقد تابعه الزبيدي محمد بن الوليد وسفيان بن عيينة وسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق
ومعمر بن راشد وبكر بن وائل على رفعه.
قال الحاكم: ولستُ أشكُّ أنَّ الشيخين تركا هذا الحديث لتوقيف بعض أصحاب الزهري
إياه، وهذا مما لا يُعِلُّه، وقال ابن القطان: ينبغي أن يكون القول فيه قولَ مَن
رفَعه، لأنه حفظ ما لم يحفظ واقفُهُ، فأرِيَ الحديث صحيحًا، وهو عند
الدَّارَقُطْني بلفظ «حقُّ واجبٌ»، وقال: قوله: (واجبٌ) ليس بمحفوظ ولا أعلم أحدًا
تابع محمد بن حسان الأزرق عليه، قال ابن القطان: هو تفرد ثقة صدوق، يعني الأزرق.
وعن بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» قال: أبو عبد الله هذا
حديث صحيح، ولفظه عند أبي داود «الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ
مِنَّا. قَالَهَا ثَلَاثًا».
وعند أبي بكر الرازي الحنفي «الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ». انتهى.
(1/208)
كأنه
يشير إلى أنَّ خارجة تفرد عنه ابن أبي مُرَّةَ، وليس كذلك، لما ذكره أبو عبيد الله
محمد بن الربيع الجيزي في كتاب «الصحابة» تأليفه، روى عنه أيضًا عبد الرحمن بن
جبير قال: ولم يرو عنه غير أهل مصر، وعن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن راشد
الزَّوْفِيِّ عن عبد الله بن أبي مُرَّةَ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ قال:
خَرَجَ عَلَيْنَا رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقالَ: «إِنَّ اللهَ
تعالى أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ وَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ
الْوِتْرُ فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ صلاةِ الْعِشَاءِ إِلَى صلاةِ
الْفَجْرِ».
قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواته
%ج 2 ص 23%
مدنيون ومصريون ولم يتركاه إلا لما قدمت ذكره من تفرد التابعي عن الصحابي. انتهى.
كأنه يشير إلى أن خارجة تفرد عنه ابن أبي مرة، وليس كذلك لما ذكره أبو عبيد الله
محمد بن الربيع الجيزي في كتاب «الصحابة» تأليفه روى عنه أيضًا عبد الرحمن بن جبير
قال: ولم يرو عنه غير أهل مصر وقال اليزيدي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث
يزيد، وقد وَهِمَ بعض المحدثين في هذا الحديث فقال: عبد الله بن راشد الزرقي، وهو
وهم.
وقال أبو زيد في كتاب «الأسرار»: وهو حديث مشهور، وقال ابن حبان في كتاب
«الصحابة»: روى خارجة حديثًا في الوتر إسناده مظلم لا يعرف سماع بعضهم من بعض،
ولما ذكر عبد الله بن راشد في «الثقات» قال: روى عن عبد الله بن مُرَّةَ إن كان
سمع منه، ومن اعتمده فقد اعتمد إسنادًا مُشَوَّشًا.
وفي «مسائل أبي عمر خطاب بن بشر الوراق» لأحمد بن حنبل قال أحمد: حديث «إنَّ اللهَ
زَادَكُمْ صلاةً» لم يثبت هذا الخبر.
(1/209)
وفي
«صحيح ابن خزيمة» عن عليٍّ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أوتر ثم قال:
«يا أهلَ القرآنِ أَوْتِرُوا فإنَّ اللهَ وترٌ يحبُّ الوترَ» ولما خرَّجه الحاكم
قال: لهذا الحديث شواهد، ولفظه عنده: «إنَّ الوترَ ليسَ بِحتمٍ كَصَلَاتِكُمُ
المكتوبة، ولكنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أوترَ ثم قال:» الحديث.
وعند البزار من طريق أبي مَعْشَر وجابر الجُعْفِي: «الوترُ واجبٌ عَلَى كُلِّ
مُسْلِمٍ».
وعند الترمذي محسنًا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يا أَهْلَ
القُرْآنِ أَوْتِرُوا ... » الحديث، ولما ذكره أبو محمد الأشبيلي صححه ورجحه شيخنا
القشيري، وحسَّنَهُ أيضًا الطُّوسي وغيره، وقال صالح بن أحمد فيما ذكره الخلال:
قلت لأبي: الأحاديث التي تُروى أن الوتر على من يقرأ القرآن، أفيكون من لا يقرأ
القرآن في الوتر كمن يقرؤه؟ فقال: إنما يُرْوَى هذا مرسلًا ليس بإسنادٍ جيد، يروى
عن علي قال: هو سُنَّةٌ سَنَّها رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وعند أبي داود مسكوتًا عنه، وابن ماجهْ من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن
أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «إنَّ اللهَ وِتْرٌ يحبُّ
الوترَ، فَأَوْتِرُوا يا أهلَ القرآنِ»، فقال أعرابي: ما يقول رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فقال: ليس لك ولا لأصحابك.
وعند
%ج 2 ص 24%
البزَّار من طريق أبي معشر وجابر الجعفي: «الوترُ واجبٌ على كلِّ مُسْلمٍ».
وعند الطحاوي بسند صحيح عن أبي بَصْرَة أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: «إنَّ اللهَ تعالى أَمَدَّكُمْ صَلاةً وهي الوترُ، فَصَلُّوهَا فيما بينَ
العشاءِ إلى صلاةِ الفجرِ» وقد سمع هذا الحديث من أبي بصرة عمرُو بن العاصي وأبو
ذَرٍّ الغفاري.
(1/210)
وعند
أحمد من رواية المثنى بن الصباح وفيه ضعف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إنَّ اللهَ تعالى زَادَكُمْ صلاةً
فَحَافِظُوا عَلَيْهَا وهي الوتر» فكان عمرو بن شعيب يرى أن يعاد الوتر ولو بعد
شهر، وفي كتاب «الأثر» لأحمد حَدَّثَنا هاشم، حَدَّثَنا فرح، حَدَّثَنا إبراهيم عن
عبد الله بن عمر يرفعه: «إنَّ اللهَ زَادَنِي صَلَاةَ الوترِ».
وعند أبي قُرَّةَ: «أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أمرَ بالمحافظةِ
عَلَى الوترِ».
وعند الدَّارَقُطْني من حديث النضر بن عبد الرحمن -وهو ضعيف- عن عكرمة عن ابن
عباس: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خرجَ عليهم يُرى البِشْرُ والسرورُ
في وجهه، فقال: «إنَّ اللهَ تعالى قدْ أَمَدَّكُمْ بصَلَاةٍ وهي الوتْرُ» ورواه
الدَّارَقُطْني من حديث حَجَّاجِ بنِ أَرْطَأَةَ والعَرْزَمِي عن عمرو، وعنده من
حديث بقية حَدَّثَنا عبد الله بن محرز عن قتادة عن أنس قال رسول صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «أُمرتُ بالوترِ والأَضْحَى ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيَّ».
وعند أحمد بسند جيد عن أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«مَنْ لم يُوْتِرْ فليسَ مِنَّا» وزعم في سؤالات مُهَنًّا أن معاوية بن قرة راويه
عن أبي هريرة لم يسمع منه، وعن معاذ: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يقول: «زادني ربي صلاةً وهي الوتْرُ، ووقتها فيما بينَ العشاءِ إلى طلوعِ الفجرِ».
وفي «الاستذكار» عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: «الوترُ حقٌّ فَمَنْ لَمْ يوترْ فليسَ مِنَّا».
وفي كتاب «معرفة الرجال والأخبار» لأبي القاسم البلخي: روى جرير بن عبد الحميد عن
منصور عن حبيب عن طاوس قال: قال رجل لابن عمر إن أبا هريرة يقول: إن الوتر ليس
بحتم، فقال وَهَل أبو هريرة.
(1/211)
وفي
«الأسرار» لأبي زيد الدبوسي روت عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه
قال: «أَوْتِرُوا يا أهلَ القرآنِ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ
%ج 2 ص 25%
فليس مِنَّا».
وعن أبي قتادة وأبي محمد الأنصاري رضي الله عنهما: الوتر حقٌّ واجبٌ.
وفي «مسند أبي داود» بسند جيد عن أبي إدريس الخولاني قال: كنت في مجلس من الصحابة
فذكروا الوتر، فقال بعضهم: واجب، وقال بعضهم: سنة. الحديث، وصححه أبو عمر، وفي
«موطأ مالك» أنه بلغه أن ابن عمر سئل عن الوتر: أواجب هو؟ فقال عبد الله: قد أوتر
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأوتر المسلمون. انتهى.
قال الحنفيون: في هذا دلالة ظاهرة على وجوبه، إذ كلامه يدل أنه صار سبيلًا
للمسلمين، فمن بدله دخل في قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}
[النساء: 115]، وعن عثمان بن سعيد الدارمي حَدَّثَنا عثمان بن سعيد بن كثير بن
دينار، أخْبَرَنَا أبو غسان محمد بن مُطَرِّفٍ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن
أبي سعيد الخدري قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ
وترٍ أو نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا أَصْبَحَ أَو ذَكَرَهُ» قال الحاكم: صحيح
على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ونقل تصحيحه ابن الحصَّار عن شيخه أبي محمد، ورواه
الترمذي عن محمود بن غيلان: حَدَّثَنا وكيع، حَدَّثَنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
عن أبيه عن عطاء به، قال: وحَدَّثَنَا قتيبة، حَدَّثَنا عبد الله بن زيد بن أسلم
عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ به، قال أبو عيسى: وهذا أصح من
الحديث الأول.
وسمعت أبا داود السِّجْزي يقول: سألت أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن زيد فقال:
أخوه عبد الله لا بأس به، وحكى ابن ماجهْ أن محمد بن يحيى وهَّى حديث عبد الرحمن
في هذا. انتهى.
(1/212)
يقول
الحنفي: المعتمد على ما رواه الحاكم لسلامته من هاتين العلتين، وإذا كان كذلك
فالأمر إذا تجدد كان للوجوب ووجوب القضاء فَرْعُ وجوب الأداء.
وعند الحاكم على شرط الشيخين مرفوعًا: «إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ ولَمْ يُوْتِرْ
فَلْيُوْتِرْ».
وروى مالك عن عبد الكريم عَنْ سعيدِ بن جبير أن ابن عباس رقد ثم استيقظ فقال
لخادمه: انظر ما صنع الناس، فذهب ثم رجع فقال: قد انصرف الناس من الصبح، فقام عبد
الله فأوتر ثم صلى الصبح.
وفي «المصنف» قال الشعبي: لا تدعْ وِتْرَكَ ولو نَصِفَ النهارُ، وكذا قاله طاوس
وعطاء ومجاهد، وقال ابن جبير: يُوتَر من القابلة وتران، وقال عليُّ بن أبي طالب:
إذا استيقظت وذكرت الوتر فَصَلِّه، وعن معاوية بن قرة
%ج 2 ص 26%
قال رجل للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إني أصبحت ولم أوتر، قال:
«فَأَوْتِرْ».
وعند الدَّارَقُطْني من حديث نَهْشَلٍ عن الضحاك عن ابن عمر يرفعه: «منْ فَاتَهُ
الوترُ منَ الليلِ فَلْيَقْضِهِ منَ الغدِ».
قال أبو زيد: وعن الحسن بن أبي الحسن أجمع المسلمون على أن الوتر حق واجب.
وحكى الطَّحَاويُّ فيه إجماع السلف رضي الله عنهم، قال: وما روي بخلاف هذا فمحمول
على أنه ليس كالخمس علمًا واعتقادًا، وما روينا يحتمل على التشبه عملًا لتكون
حكاية الحسن والطحاوي الإمامين صادقة والزيادة والإمداد يكونان من جنس اللاحق به،
تقول مدَّ الله في عمرك، وأمدَّ السلطان الجيش يعني بزيادة تلحقهم.
ونسب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ زيادة الوتر إلى الله تعالى بأمره
وإيجابه، ولو لم يكن واجبًا كان بمنزلة التراويح والسنن التي واظب عليها ولم
يجعلها زيادة في الفرائض كالوتر.
فإن قيل: فقد قال الأعرابي لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين سأله
عن الصلوات: هل علي غيرها؟ قال: «لَا، إِلَّا أنْ تَطَوَّعَ».
(1/213)
وقال
لمعاذ إذ أرسله إلى اليمن: «أَخْبِرهم أَنَّ اللهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ
خَمْسَ صَلَواتٍ».
قيل: لقائل أن يقول في قولِه: «زَادَكُمْ» إشارة إلى أنها متأخرة عن وجوب الخمس،
وأيضًا فلم يقل أحد بفرضيته والوجوب غير الفرض، وأما قول من قال: لو كان واجبًا
لما صلَّاه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على الراحلة إذ الفرائض لا تؤدَّى على
الراحلة إلا بشروط.
قيل لهم: أنتم تقولون بفرضيته عليه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على ما هو الصحيح
عندكم، على أنَّا نطعن في صحة الحديث الذي استندتم إليه، لأنه عند الحاكم وغيره من
رواية أبي حباب يحيى بن أبي حية وهو ضعيف مدلِّس، وحتى قال النووي: ذكرته لأمر
ضعفه ولأحذِّرَ من الاغترار به.
ورواه البزار بسند ضعيف عن ابن عباس بنحوه.
وقال ابن الجوزي: لا نعلم في تخصيص النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالوتر
حديثًا صحيحًا، وإن كان ابن عقيل قال: صح أنه كان واجبًا عليه.
فإن قلتم: قال القرافي في «الذخيرة»: الوتر في السفر ليس واجبًا عليه، وصلاته إياه
على الراحلة كانت في السفر.
قيل: يكفي في هذا أنه قول بغير استناد إلى سنة صحيحة ولا ضعيفة، هذا ابن عمر روى
عنه الطحاوي أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض ويزعم
%ج 2 ص 27%
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يفعل ذلك.
وقال الدَّارَقُطْني: حَدَّثَنا عبد الله بن سليمان، حَدَّثَنا عيسى بن حماد، حَدَّثَنا
الليث عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر «أنَّ رسولَ الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ لا يوترُ عَلَى رَاحِلَتِهِ» وسنده صحيح على شرط مسلم.
وروي ... حَدَّثَنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدَّثَنَا ابن علية، عن أيوب عنْ
سعيدِ بن جبير عنه مرفوعًا، ورواه ابن أبي شيبة عن معتمر عن حميد عن بكر عنه،
وحَدَّثَنَا معتمر عن ابن عون عن القاسم كان عمر بن الخطاب يوتر بالأرض.
(1/214)
وقال
إبراهيم: كانوا يُصَلُّونَ على رواحلهم إلا المكتوبة والوتر كانوا يصلونهما على
الأرض، وكان عروة إذا أراد الوتر نزل، وكذلك الضحاك والحسن ومحمد بن سيرين.
وفي «الأسرار»: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى
رَاحِلَتِهِ ويُوْتِرُ على الأَرْضِ».
ولئن سلَّمنا لكم قولكم، من أين لكم أنه أوتر على الراحلة مرارًا لاحتمال أن يكون
فعله لعذر.
الثاني: نحن لا نقول بفرضيته حتى تلزمونا بجواز صلاة الفرض على الراحلة، ونحن
وأنتم نقول به.
وأما قول ابن العربي: عن أبي حنيفة الوتر واجب ولا يلحق بالواجب بالقرآن، فلذلك
يفعل على الراحلة فهو شيء لا يعرفه الحنفيون.
الثالث: يحتمل أن تكون صلاته إياه على الراحلة قبل إمداد الله تعالى إياه به.
وفي «شرح الهداية»: لو اجتمع أهل قرية على ترك الوتر أدبهم الإمام وحبسهم فإن
امتنعوا قاتلهم.
وفي «ظاهر الرواية» إذا فات يقضى، وعن أبي يوسف لا قضاء عليه، وعند محمد أحب إليَّ
أن يقضيه.
وعن الشافعي لا يجب عليه القضاء.
وعن أحمد وأبي مصعب واللخمي المالكي لا يقضى بعد الفجر.
ولا يجوز أن يوتر قاعدًا مع القدرة على القيام ولا على الراحلة من غير عذر، وقال
أبو يوسف ومحمد: يوتر عليها من غير عذر، وبإنكاره يكفر جاحده للاختلاف الواقع فيه.
حديث ابن عباس تقدم في باب قراءة القرآن بعد الحدث.
وحديث عائشة يأتي في صلاة الليل.
(1/215)
(بَابُ سَاعَاتِ الوِتْرِ) (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالوِتْرِ%ج 2 ص 28%قَبْلَ النَّوْمِ).هكذا ذكره البخاري مسندًا في صلاة الضحى، وسيأتي إن شاء الله تعالى وهو شبيه بما رواه مسلم عن أبي الدرداء: «أَوْصَانِي حَبِيْبِي -قلتُ: لنْ أَدَعَهُنَّ ما عِشْتُ- بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ منْ كلِّ شَهْرٍ، وصلاةِ الضُّحَى، وبأنْ لا أنام حتى أوترَ». ومثله رواه أبو ذر عند النسائي مسند جيد.995 - حَدَّثَنا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، قُلْتُ لِابنِ عُمَرَ: أَرَأَيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الغَدَاةِ أُطِيلُ فِيهِمَا القِرَاءَةَ، فَقَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، وَيُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الغَدَاةِ، وَكَأَنَّ الأَذَانَ بِأُذُنَيْهِ». قَالَ حَمَّادٌ: أَيْ بِسُرْعَةٍ. [خ¦995] 996 - وذكر بعدَه حديث عائشة المخرج عند الستة: «مِنْ كُلّ اللَّيْلِ قدْ أَوْتَرَ» ... «وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ». [خ¦996] وهذه الأحاديث تقتضي أول وقت الوتر وهو حديث أبي هريرة، وأوسطه وهو حديث ابن عمر، وآخره وهو حديث عائشة، وهو بمقتضى أحوال الناس في النوم واليقظة. وقد تقدم ذكر وقت الوتر في عدة أحاديث في الباب قبل، وفي «صحيح ابن خزيمة»: «كَانَ ابنُ عُمَرَ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنِ الْوِتْرِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفْصِلَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّهَا الْبُتَيْرَاءُ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: أَسُنَّةَ اللهِ وَرَسُولِهِ تُرِيدُ؟ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ وَرَسُولِهِ».
(1/216)
زاد البيهقي من حديث ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص قال: قلت لعبد الله بن عمر: إن الناس يقولون البتيراء؟ فقال: يا بنيَّ إن البتيراء أن يصلي الرجل الركعة التامة في ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم في الأخرى فلا يتم ركوعها ولا سجودها ولا قيامها فتلك البتيراء. وفي «التمهيد» بسند ضعفه العقيلي عن أبي سعيد الخدري: «أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنِ البُتَيْرَاءِ». و (البُتَيْرَاءُ): أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها. وعند ابن خزيمة أيضًا من حديث أبي قتادة أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال لأبي بكر: «مَتَى تُوْتِرُ؟» قال: قبل أن أنام. وقال لعمر: «مَتَى تُوْتِرُ؟» قال أنام ثم أوتر، فقال لأبي بكر: «أخذتَ بالَحْزِم أو بالوثيقةِ»، وقال لعمر: «أخذتَ بالقوةِ».وفي حديث ابن عمر: فقال لعمر: «فِعْلِي فَعَلْتَ»، وفي لفظ: «فِعْلَ القويِّ فعلتَ».وروِّيناه في «فوائد سَمُّوَيْهِ» من حديث ابن عقيل عن جابر أنَّ النبي صلى الله عليه%ج 2 ص 29%وسلم قال لأبي بكر: «أيَّ حينٍ تُوْتِرُ؟» قال: أولَ الليل بعد العتمة. الحديث. وقال الخطابي: حَدَّثَنا محمد بن هاشم، حَدَّثَنا الزهريُّ، عن عبد الرزاق، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، أخْبَرَنِي ابنُ شِهَابٍ، عنِ ابنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ تَذَاكَرَا الْوِتْرَ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُوبَكْرٍ: أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ عَلَى وِتْرٍ، فَإِنِ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى الصَّبَاحِ، وَقَالَ عُمَرُ: لَكِنِّي أَنَامُ عَلَى شَفْعٍ، ثُمَّ أُوتِرُ مِنَ السَّحَرِ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه: «حَذِرَ هَذَا» وَقَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: «قَوِيَ هَذَا».
(1/217)
وفي حديثِ جابر من عند مسلم: «منْ خَافَ أَنْ لَا يستيقظَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ منْ أولِهِ ولِيَرْقُدْ، وَمَنْ طَمِعَ منكُمْ أَنْ يَستيقظَ منْ آخرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَحضورةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ». وعن عائشة بمثله رواه مالك في «الموطأ».اختلف الناس في أول وقت الوتر: فالصحيح المشهور أنه يدخل بفراغه من فريضة العشاء، سواء صلَّى بينه وبين العشاء نافلة أم لا، وسواء أوتر بركعة أو بأكثر، فإن أوتر قبلَ فعلِ العشاء لم يصح وتره. قال النووي في «شرح المهذب»: سواء تعمدَّه أو سها. الثاني: يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء، قاله إمام الحرمين وغيره، وقطع به أبو الطيب، وله أن يصليه قبلها، قالوا: سواء تعمدَّه أم سها. الثالث: أنه إن أوتر بأكثر من ركعة دخل وقته بفعل العشاء، وإن أوتر بركعة فشرط صحتها أن يتقدمها نافلة بعد فريضة العشاء، فإن أوتر بركعة قبل أن يتقدمها نفل لم يصح وتره، قال إمام الحرمين: ويكون تطوعًا. وفي «شرح الهداية»: أول وقته عندهما بعد العشاء، وعند الإمام: إذا غاب الشفق، وفي «مختصر الطحاوي»: وقته وقت العشاء، فَمَنْ صلَّاه في أول الوقت أو آخره يكون مؤديًا لا قاضيًا. وأما آخر وقته: فذكر ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر. وزعم ابن التين: أن أول وقته انقضاء صلاة العشاء، فإن ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح، فهل يقطعها أم لا؟ فقيل: يقطع مطلقًا سواء أكان إمامًا أو مأمومًا أو فذًّا، وقيل: لا يقطع مطلقًا، وقيل: يقطع الإمام والفذُّ، وقيل: يقطع الفذُّ خاصةً، وقيل: إن تذكر قبل أن يعقد ركعة قطع وإلا فلا.%ج 2 ص 30%وقوله: (كَأَنَّ الأَذَانَ بِأُذُنَيْهِ) قَالَ الْمُهَلَّبُ: يريد الإقامة من أجل التغليس بالصلاة. حديث عائشة تقدم، وكذا حديث ابن عمر. (بابُ الوِتْرِ فِي السَّفَرِ)
(1/218)
1000 - حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلاَةَ اللَّيْلِ، إِلَّا الفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ». [خ¦1000] في «شرح الهداية»: راكب الدابة الخارج من المصر المتوجه إلى القبلة إذا انحرفت عن القبلة لم تجز صلاته، والحديث يرد ذلك القول. وعن أبي حنيفة: ينزل لسنَّة الفجر لتأكُّدها، وفي أكثر الكتب لا يجوز فعلها قاعدًا عنده، وفي رواية عنه هي واجبة، كأنه اعتمد ما رواه البيهقي بسند جيد، عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ زَادَكُمْ صلاةً إلى صَلَاتِكُمْ، هي خيرٌ منْ حُمْرِ النَّعَمِ، ألا وهي الركعتانِ قبلَ صلاةِ الفجرِ».قال العباس بن الوليد: قال لي يحيى بن معين: هذا حديثٌ غريبٌ من حديث معاوية بن سَلَام محدث أهل الشام وهو صدوقٌ، ومن لم يكتب حديثه مسندة ومنقطعة فليس بصاحب حديثٍ، وقالا: يجوز فعلها في المِصْر. وأما ما وقع في مسلم قال ابن عمر: «رأيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى حمارٍ وهو مُتَوَجِّهٌ إلى خَيْبَرَ» فزعم الدَّارَقُطْني وغيره أن ذلك وهْمٌ، قالوا: والمعروف راحلته وعلى بعيره، وإنما الحمار حكاه أنس بن سيرين عن أنسٍ: إذ خرج يتلقاه بعين التمر. وقد اختلف الناس في التنفُّل في السفر، فمنهم من جوَّزه مطلقًا بالليل والنهار، ومنهم من جوَّزه بالليل دون النهار، ومنهم من منعه فيهما. واختلفوا في الصلاة على الدابة في السفر الذي لا تُقْصر في مثله الصلاةُ، فقال جماعةٌ: يصلي في قصير السفر وطويله، وعن مالكٍ: لا يصلي أحدٌ على دابته في سفرٍ لا تقصر في مثله الصلاة. (بابُ: القُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ)
(1/219)
1001 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ، سُئِلَ أَنَسُ: «أَقَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي الصُّبْحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيْلَ لَهُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ؟ قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا». [خ¦1001] 1002 - وفي حديث عَاصِمٍ: «قُلْتُ: قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، قلت: فَإِنَّ فُلاَنًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ%ج 2 ص 31%أَنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، قَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا، أَرَاهُ كَانَ بَعَثَ قَوْمًا يُقَالُ لَهُم القُرَّاءُ، زُهَاءَ سَبْعِينَ رَجُلًا، إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دَونَ أُولَئِكَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَهْدٌ، فَقَنَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ». [خ¦1002] 1003 - وفي لفظٍ: «يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ». [خ¦1003] 1004 – وفي لفظٍ: «كَانَ القُنُوتُ فِي الفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ». [خ¦1004] وفي لفظٍ «دَعَا عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ غَدَاةً، علَى رِعْلٍ، وذَكْوَانَ، وَ بني لِحْيَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ».قال أنس: فنزلَ فيهم قُرْآن قَرَأْنَاهُ حَتَّى نُسِخَ بَعْدُ: أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ.
(1/220)
وفي لفظٍ: «بعثَ قومًا منْ سُلَيْمٍ إلى بني عَامرٍ» وفيه: «قال لهم خالي يعني حَرَام بن مِلْحَان: أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَإِلَّا كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا، فَبَيْنَمَا هو يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذْ أَوْمَؤوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ، فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، فَقَتَلُوهُمْ إِلَّا رَجُلًا أَعْرَجَ صَعِدَ الجَبَلَ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُمْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَأَرْضَاهُمْ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا».وفي لفظٍ: «قالَ حرامٌ بالدمِ كذا، فَنَضَحَهُ على وَجْهِهِ ورأسِهِ».وعند أبي داود: قال محمد بن سيرين: حَدَّثَنِي من صلَّى مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاة الغداة، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قام هُنَيَّة. وفي لفظٍ عن أنس بن سيرين عنه: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ».وعِنْدَ السَّرَّاجِ: حَدَّثَنا سواد بن عبد الله، حَدَّثَنا المعتمر، سمعت حميدًا يحدث عن أنس: «فَدَعَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على قَتَلَةِ القُرَّاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» وقال: هذا لفظ حديث المعتمر، ورواه إسماعيل بن جعفر بن أبي ذر، عن حميدٍ: «فدعا النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عليهم أيامًا».وذكر في «مسنده» عن ابن عباس أن مبدأ القنوت كان لما قتل القراء، وذكر دعاءه على الكفار عن أبي هريرة وابن عمر، وفي «المصنف» وسعيد بن زيد وخفاف بن إيماء بن رحضة%ج 2 ص 32%، وعبد الرحمن بن أبي بكر عند الطحاوي، وعند البيهقي: «دَعَا عَلَيْهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ».
(1/221)
وسيأتي في الجهاد إن شاء الله تعالى. وقوله: (دُوْنَ أُولَئِكَ) يعني أن عدد المبعوثين دون عدد المشركين. وعند الطرقي: قنت بعد الركوع يسيرًا، قال الطرقي: أراد يسيرًا من الزمان لا يسيرًا من القنوت، لأن أدنى القيام يسمى قنوتًا فاستحال أن يوصف بالحقارة. وعند ابن ماجه: وسئل عن القنوت في صلاة الصبح، فقال: «كُنَّا نَقْنُتُ قبلَ الرُّكوعِ وبعدَهُ».وروينا في «مُسْنَدِ السَّرَّاجِ»: حَدَّثَنا داود بنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنا حسان بن إبراهيم، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: «ما قَنَتَ نبيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَطُّ في صلاةِ الغَدَاةِ إلا ثلاثينَ ليلةً، يدعو على فَخْذٍ منْ بني سُلَيْمٍ، ثم تركَهُ بعد».وفي كتاب «القنوت» لأبي القاسم بن منده من حديث أنس: «دعا على قَتَلَةِ القراءِ تسعًا وعشرين ليلةً». ومن حديث الغزِّي: حَدَّثَنا شيبان، حَدَّثَنا غالب بن فرقد، كنت عند ابن سيرين: فلم يقنت في صلاة الغداة. وفي لفظٍ: «لم يقنتِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا شهرًا واحدًا حَتَّى ماتَ».واختلف العلماء في القنوت: فعن أبي حنيفة أنه واجبٌ، وفي «المبسوط» هو سنةٌ، وإليه ذهب الشافعي وغيره. وقال ابن التين: هو مستحب ليس سنةً، ومن نسيه لم يسجد للسهو، وقال سحنون: هو سنةٌ، وفيه السهو في القياس، قاله الحسن وغيره، وحكاه ابن أبي شيبة، عن حمادٍ. وقال علي بن زياد: من تركه متعمدًا فسدت صلاته. واختلف العلماء هل هو قبل الركوع أو بعده: فمذهب أبي حنيفة: أنه قبل الركوع، وحكاه ابن المنذر، عن عمر، وابن عباس، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، والبراء بن عازب، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وعمر بن عبد العزيز، وعَبِيْدَةَ السَّلماني، وحميد الطويل، وابن أبي ليلى، وبه قال مالك، وإسحاق، وابن المبارك.
(1/222)
وصحيح مذهب الشافعي: بعد الركوع، وحكاه ابن المنذر، عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي في قول، وحكى أيضًا التخيير قبل الركوع وبعده، عن أنس، وأيوب بن أبي تميمة، وأحمد بن حنبل، وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله أحمد: روى عاصم، عن أنس: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَنَتَ قبلَ الركوعِ» هَلْ قَالَهُ أحدٌ غيره؟ قال: لا، قتادة عن%ج 2 ص 33%أنس، والتيمي عن أبي مجلز عن أنس، وأيوب عن محمد سألت أنسًا، وحنظلة السدوسي، أربعتهم كلهم عن أنس، رووه بعد الركوع. انتهى. ذكر السراج من طرقٍ صحاحٍ عن عاصم بعد الركوع من رواية شريك بن عبد الله وأبي معاوية. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: أختار القنوت بعد الركوع، لأن كل شيء ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في القنوت إنما هو في الفجر، لما رفع رأسه من الركوع، وقنوت الوتر أختاره بعد الركوع، ولم يصح عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في قنوت الوتر قبلُ أو بعدُ شيءٌ. وقال أبو داود: قال أحمد: كل ما روى البصريون عن عمر في القنوت فهو بعد الركوع، وروى الكوفيون قبل الركوع، زاد الأثرم عن أحمد: ما أعجب هذا!.ولما روى البيهقي عن عبد الرحمن بن أبزى قال: صليت خلف عمر بن الخطاب، فسمعته يقول بعد القراءة وقبل الركوع: «اللَّهمَّ إياك نعبد» الحديث. قال: كذا قال: قبل الركوع، وهو وإن كان إسنادًا صحيحًا فمن روى عن عمر بعد الركوع أكثر، رواه أبو رافع، وعبيد بن عمير، وأبو عثمان النهدي، وزيد بن وهب، والعدد أولى بالحفظ من الواحد. ورُوينا عن الحازمي في «المنسوخ»، عن محمد قال: سألت أنسًا أقنت عمر في صلاة الصبح؟ فقال: قنت من هو خير من عمر، النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/223)
ثم قال: قال أبو موسى الحافظ: قال أبو مسلم الليثي عقيب هذا الحديث: هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري عن منذر، ومسلم عن أبي خيثمة، قال: غير أني تتبعته، فلم أجده في الناس، ولعله أراد أن هذا الإسناد في الكتابين لغير هذا الحديث، والله أعلم. انتهى. عند ابن ماجه عن أُبَيِّ بن ِكَعْبٍ: «أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يُوتِرُ فَيَقْنُتُ قبلَ الركوعِ» وسنده صحيح على رسم أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وغيره رواه عن علي بن ميمون الرقي، حَدَّثَنا مخلد بن يزيد، عن زُبَيْد اليامي، عن سعيدِ بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه عنه. قال البيهقي: ورواه عيسى بن يونس، عن فِطْرِ بنِ خليفةَ، عن زبيد، ورواه حفص بن غياث، عن مسعد، عن زبيد، عَنْ سَعِيْدٍ مثله، قال: ورواه عطاء بن مسلم، وفيه ضعف، عن العلاء بن المسيب، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. الحديث. وفي «الاستيعاب» عن أمِّ عبد أنها:%ج 2 ص 34% «رأتْ سيدنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقنت في الوتر قبل الركوع».قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَجْهُ قول مالك القنوت قبل الركوع، ليدرك المستيقظون من النوم الركعة التي بها يدرك الصلاة. وحكاه المنذري عن عثمان، قال: ليدرك من سُبِقَ بالصلاة الركعة. ومذهب أبي حنيفة: لا يقنت في غير الوتر، كأنه نظر إلى ما رواه الدَّارَقُطْني من حديث عمرو بن شَمِر، عن جابر، عن أبي الطُّفَيْل، عن علي وعمار: «سَمِعَا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَجْهَرُ في المكتوباتِ بالبَسْمَلَةِ، ويَقْنُتُ في صلاةِ الفجرِ والوِتْرِ».
(1/224)
وما ألزم الدَّارَقُطْني الشيخين تخريجه، وصححه ابن حبان وابن خزيمة وغيرهما، عن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: عَلَّمَنِي رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ في قنوتِ الوِتْرِ: «اللهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيتَ». زاد البيهقي بعد واليت «وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ».قال ابن خزيمة: وهذا الخبر رواه شعبة، عن يزيد بن أبي مريم في قصة الدعاء، ولم يذكر القنوت ولا الوتر، وشعبة أحفظ مِنْ عدَّة مثل يونس بن أبي إسحاق، يعني راوي اللفظ الأول عن أبي إسحاق، عن يزيد قال: وأبو إسحاق لا يعلم سمع هذا الخبر من يزيد أو دلَّسَه عنه، ولو ثبت أنه أمر بالقنوت في الوتر، أو قنت في الوتر، لم يجز عندي مخالفة خبر النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولست أعلمه ثابتًا. وقد روى الزهري عن سعيدٍ، وأبي سلمة عن أبي هريرة «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَمْ يكنْ يَقْنُتُ إلا أنْ يكونَ يَدْعُو لقومٍ، أو يَدْعُو على قومٍ». وروى قتادة عن أنسٍ مثله. وفي النسائي: عن أُبَيِّ بن كعب يرفعه: «كانَ يُوتِرُ بثلاثٍ، ويَقْنُتُ قبلَ الركوعِ» وقد تقدم. وفي «سؤالات الميموني»: وسألته يعني أحمد بن خداش، عن حنظلة السدوسي، فقال: له أشياء مناكير، روى حديثين منكرين عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أحدهما: عن أنسٍ «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَنَتَ في الوترِ».
(1/225)
وعند الترمذي محسنًا، عن عليٍّ «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يقولُ في آخِرِ وترِهِ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أنْتَ كَمَا%ج 2 ص 35%أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».وقَالَ السَّرَّاجُ: حَدَّثَنا أبو كريب، حَدَّثَنا محمد بن بشر، عن العلاء بن صالح، حَدَّثَنا زبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أنه سأله عن القنوت في الوتر، فقال: حدَّثَنَا البراء بن عازب قال: سنةٌ ماضيةٌ، وخرجه أيضًا ابن خزيمة في «صحيحه» وقال: هذا وهمٌ، إنما هو الفجر. وفي «المصنف»: حَدَّثَنا وكيع عن عمرو بن ذر، عن أبيه رفعه، «أنَّهُ كانَ يَقْنُتُ في الوترِ قَبْلَ الركعةِ». وحَدَّثَنَا يزيد بن هارون، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة: «أنَّ ابنَ مسعودٍ وأصحابَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانوا يَقْنُتُونَ في الوترِ قبلَ الركوعِ».وحَدَّثَنَا يزيد، أَخْبَرَنا أبان بن أبي عياش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يقنتُ في الوترِ قبلَ الركوعِ»، قال: ثم أرسلتُ أمي -أم عبدٍ- فباتت عند نسائه، فأخبرتني «أنَّهُ قنتَ في الوتر قبلَ الركوعِ».وحَدَّثَنَا هشيم، أَخْبَرَنَا منصور، عن الحارث العكلي، عن إبراهيم، عن الأسود أنَّ عمرَ قنتَ في الوتر قبل الركوع. وحَدَّثَنَا هشيم، حَدَّثَنا ليثٌ، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه: كان ابن مسعود لا يقنت في شيء من الصلاة إلا في الوتر قبل الركوع، وكان الأسود يقنت في الوتر قبل الركعة. وقال إبراهيم: كانوا يقولون القنوت بعدما يفرغ من القراءة في الوتر، وكان سعيد بن جبيرٍ يفعله.
(1/226)
وحَدَّثَنَا وكيعٌ، عن هارون بن أبي إبراهيم، عن عبد الله بن عبيد الله بن عميرٍ، عن ابن عباسٍ أنه كان يقول في قنوت الوتر: «لكَ الحمدُ مِلْءَ السمواتِ السبعِ» الحديث. وحَدَّثَنَا وكيعٌ، عن حسن بن صالحٍ، عن منصورٍ، عن شيخ يكنى أبا محمدٍ، أن الحسين بن علي كان يقول في قنوت الوتر: «اللهمَّ إِنَّك تَرَى ولا تُرى، وأَنْتَ بالمنظرِ الأَعْلَى، وأنَّ إليكَ الرُّجْعَى، وأنَّ لكَ الآخرةَ والأولى، اللَّهمَّ إنَّا نَعُوذُ بكَ منْ أنَّ نَذِلَّ ونَخْزَى».وعن إبراهيم بسندٍ صحيحٍ، ليس في قنوت الوتر شيءٌ مؤقتٌ، إنما هو دعاءٌ واستغفارٌ. وعن عمرو بن ميمونٍ، والأسود أن عمر بن الخطاب لم يقنت في الفجر، وكذلك ابن مسعودٍ، وفي روايةٍ أنه قال: لا يقنت في صلاة الصبح، وكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم لا يقنتان فيه، وكذلك ابن الزبير وجدُّه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسعيد بن جبيرٍ وإبراهيم. وقال الشعبي: إنما جاء القنوت -يعني في الفجر- من قبل الشام. وفي «المنتقى» لأبي عمر، عن ابن عمر وطاوس، القنوت في الفجر بدعة، وبه%ج 2 ص 36%قال الليث ويحيى بن سعيدٍ الأنصاري ويحيى بن يحيى الأندلسي. وفي «المحلى» عن أشهب ترك القنوت جملة. وعند الدَّارَقُطْني بسندٍ ضعيفٍ، عن أم سلمة قالت: «نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ القنوتِ في الفجرِ» قال: وقال هيَّاج: عن عنبسة، عن ابن نافع، عن أبيه، عن صفية بنت أبي عبيد، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بهذا. وعنده أيضًا من حديث شبابة حَدَّثَنا عبد الله بن ميسرة، عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حُرَّةَ، عن سعيدِ بن جبيرٍ قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: «القنوتُ في صلاةِ الصبحِ بدعة».
(1/227)
وفي كتاب «القنوت» لأبي القاسم بن منده -ولما ذكر الطحاوي قول الشافعي: هو سنة في الفجر، ويقنت في الصلوات كلها عند حاجة المسلمين إلى الدعاء- قال: لم يقل هذا أحدٌ قبله، لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يزل محاربًا للمشركين ولم يقنت في الصلوات. وردَّ ذلك النووي بأن أبا حميدٍ قال: هذا غلط، بل قد قنت عليٌّ في المغرب بصفين، انتهى كلامهما. وفيه غفلة شديدة عما في الحديث المتقدم عَنْ أَنَسٍ: «كَانَ القُنُوتُ فِي المَغْرِبِ وَالفَجْرِ).وقَالَ السَّرَّاجُ في «مسنده»: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بنُ سعيدٍ، حَدَّثَنا معاذ بن هشامٍ، حَدَّثَنِي أبي، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، حَدَّثَنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، حَدَّثَنا أبو هريرة: «أنَّ نبيَّ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان إذا قالَ: سمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه من الركعةِ الآخرةِ منْ صلاةِ العشاءِ الآخرةِ قَنَتَ» الحديث. وحَدَّثَنَا يوسف بن موسى، حَدَّثَنا وكيعٌ ويزيد بن هارون، حَدَّثَنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَنَتَ في الفجرِ وفي الْمَغْربِ».وحَدَّثَنَا عبيد الله بن سعيدٍ، حَدَّثَنا معاذ بن هشامٍ، حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا يحيى، حَدَّثَنا أبو سلمة، حَدَّثَنِي أبو هريرة قال: والله لأقرِّبَنَّ لكم صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء الآخرة، وصلاة الصبح يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار. وفي لفظ معمرٍ عن يحيى: ويذكر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يفعله. وحَدَّثَنَا أبو الأشعث، حَدَّثَنا خالد بن الحارث، حدَّثَنَا ابن عجلان، عن نافعٍ، عن ابن عمر «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يَدْعُو في أربعةٍ، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٍ} الآية [آل عمران: 128]» الحديث.
(1/228)
وأَخْبَرَنا أحمدُ بنُ إبراهيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنا عبدُ الصمدِ، حَدَّثَنا ثابت، حَدَّثَنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «قَنَتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، في الظهرِ والعصرِ%ج 2 ص 37%والمغربِ والعِشَاءِ والصُّبْحِ، في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ، إذا قالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حمدَه، منَ الركعةِ الآخرةِ، يدعو على رِعْلٍ وذكوان وعُصَيَّةَ، ويؤمِّنُ مَن خلفَه».وقد تقدم من عند البخاري القنوت في المغرب والفجر. وفي «المصنف» عن أبي جعفرٍ: كل صلاةٍ يجهر فيها يقنت فيها. وفي «المحلى» بسندٍ صحيحٍ، عن البَرَاء بن عازب «كانَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا قَنَتَ فِيْهَا».وقد جاء في الترمذي صحيحًا ما يعارض هذه الأقوال ظاهرًا عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه قال: صليت خلف النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلم يقنت، وخلف أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ فلم يقنتوا، يا بني إنه محدث. زاد ابن منده في «كتاب القنوت»: رواه جماعة من الثقات عن أبي مالكٍ. وفي «المصنف» ولما سئل عنه ابن عمر لم يعرفه، وقال: أَيْشٍ القنوتُ؟ قيل: يقوم الرجل ساعةً بعد القراءة يدعو فقال ابن عمر: ما شعرت، وسنده لا بأس به. وفي لفظٍ: ما شهدت ولا علمت. ولما قنت عليٌّ في الصبح أنكر الناس ذلك، فقال: إنما استنصرنا على عدونا. وقال ابن جعفرٍ: خرج عليٌّ من عندنا وما يقنت، وإنما قنت بعد ما أتاكم. يقوله لأبي إسحاق. وسئل سعيد بن جبيرٍ عن القنوت، فقال: إذا قرأت فاركع. وفي «المحلى» روينا عن ابن عباس أنه لم يقنت. وعن عبد الرزاق، عن معمرٍ، أن الزهري كان يقول: من أين أخذ الناس القنوت؟ وتعجب: «إِنَّمَا قَنَتَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَيَّامًا ثم تركَ ذلكَ». قال أبو محمدٍ: فهذا الزهري جهل القنوت ورآه منسوخًا.
(1/229)
وقال ابن أبي نجيحٍ: سألت سالمًا، هل كان عمر يقنت في صلاة الصبح؟ قال: لا، إنما هو شيءٌ أحدثه الناس. قال أبو محمدٍ: وذهب قومٌ إلى أن القنوت إنما يكون في حال المحاربة فقط، واحتجوا بما روِّيناه من طريق ابن المجالد عن أبيه، عن النخعي، عن علقمة والأسود قالا: «ما قنتَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في شيءٍ منَ الصَّلَواتِ إِلَّا إذا حاربَ، فَإِنَّه كانَ يَقْنُتُ في الصَّلَواتِ كلهن، ولا قَنَتَ أبو بَكْرٍ، ولا عُمر، ولا عثمان رضي الله عنهم حتى ماتوا، ولا قنتَ عليٌّ حتى حَاربَ أهلَ الشَّامِ، فكانَ يَقْنُتُ في الصلوات كلهن، وكان معاوية يقنت أيضًا، يدعو كلُّ واحدٍ مِنْهُما%ج 2 ص 38%عَلَى صَاحِبِه».قال أبو محمدٍ: وهذا لا حجة فيه لإرساله، ولا حجة في المرسل. وقوله: (عنْ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعثمانَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْنُتُوا) قد صح عنهم بأثبت من هذه الطريق أنهم كانوا يقنتون، والْمُثْبِتُ العالِمُ أولى من النافي الذي لم يعلم، أو يقول: كلاهما صحيحٌ، وكلاهما مباحٌ. وقد جاء في كتاب الدَّارَقُطْني عن أنسٍ «ما زالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْنُتُ في صلاةِ الغَدَاةِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» في سنده الربيع بن أنس، وفيه كلامٌ، لا سيما من رواية أبي جعفر الرازي عنه على ما قاله ابن حبان وغيره، ورواه أيضًا من طريق عمرو بن عبيد المعتزلي وغيره من الضعفاء. ويؤوَّل على تقدير الصحة بطول القيام في صلاة الغداة، فإن طول القيام يسمى قنوتًا. وعنده أيضًا من حديث قيسٍ، عن أبان بن تغلب، عن ابن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ «ما زالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارقَ الدُّنْيَا». انتهى. يشبه أن يكون هذا أمثلَ من الأول، والله أعلم. وفي «القواعد» لابن رشدٍ: وقال قومٌ: لا قنوت إلا في رمضان، وقال قومٌ: في النصف الأخير منه، وقال قومٌ: في النصف الأول.
(1/230)
وقَالَ الْمُهَلَّبُ: ولم يحفظ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه تمادى على القنوت في المغرب، بل تركه تركًا لا يكاد يثبت معه. وكانت هذه السرية في صفر، على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة، إلى بئر معونة -ماءٍ لبني عامر بن صَعْصَعَةَ- على أربعة مراحل بالمدينة، وقيل قرب حَرَّةِ بني سُلَيْم. قال ابن سعدٍ: قدم أبو براءٍ عامر بن مالك بن جعفر الكلابي مُلاعِبُ الأسنَّة، ولقب بذلك لقول الشاعر يخاطب أخاه: فَرَرْتَ وأَسْلَمْتَ ابنَ أمِّكَ عَامرًا يُلاعِبُ أَطرَاف الوَشِيجِ المُزَعْزَعِوفي شعر لبيدٍ (مُلاعبُ الرماح)، فأهدى للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلم يقبل منه، وعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: لو بعثتَ معي نفرًا من أصحابك إلى قومي، لرجوت أن يجيبوا دعوتك، فقال: «إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أهلَ نجدٍ»، قال: أنا لهم جارٌ أن يعرض لهم أحدٌ، فبعث معه القراء، وهم سبعون رجلًا. وفي «مُسْنَدِ السَّرَّاجِ» أربعون. وفي «المعجم» ثلاثون: ستةٌ وعشرون من الأنصار، وأربعةٌ من المهاجرين، وأمَّر عليهم المنذر بن عمرو%ج 2 ص 39%الساعدي، الذي قال له المُعْنِق ليموتَ، فخرج عليهم عامر بن الطفيل فقتلوا جميعًا، غير عمرو بن أمية الضمري وكعب بن زيد، فقال حسان بن ثابت: على قتلى المعونة فاستهلِّي بدمع العين سَحًّا غيرَ نَزْرِوفي الصحيح أن رعلًا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على عدوهم، فأمدهم بسبعين من الأنصار، الحديث. ورِعْل ورِعْلَة جميعًا قبيلة باليمن، وقيل هم من سُلَيمٍ، قاله ابن سِيْدَه، وفي «الصحاح»: رِعْل: بالكسر، وَذَكْوَانُ قبيلتان من سُلَيْمٍ. وقال ابن دريد: رِعْلَ من الرَّعْلَة، وهي: النخلة الطويلة، والجمع: رعال، وهو ردٌّ لما قاله ابن التين: ضبط بفتح الراء، والمعروف أنه بكسرها، وهو في ضبط أهل اللغة بفتحها.
(1/231)
وقال الرشاطي: هو رِعْلُ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. وقال ابن دحية في «المولد»: ولا أعلم في رعل وعصية صاحبًا له رواية صحيحة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وعُصَيَّة هو ابن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، ذكره أبو علي الهَجَري في «نوادره».وأما عيب المزني على أبي حنيفة من أنه زاد تكبيرةً في القنوت، لم يثبت بها سنةٌ، فغير جيدٍ لما رواه ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن حربٍ، عن ليثٍ، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه: أن ابن مسعود كان إذا فرغ من القراءة كبَّر ثم قنت، فإذا فرغ من القنوت كبَّر ثم رجع. وحَدَّثَنَا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قال: إذا أردت أن تقنت فكبِّر للقنوت، وكبِّر إذا أردت أن تركع. وفي لفظٍ: ارفع يديك للقنوت. وعند أبي جعفر الطحاوي عنه: ترفع الأيدي في سبعة مواطن: في افتتاح الصلاة، وفي التكبير للقنوت، الحديث. رواه عن سليمان بن شعيب، عن أبيه، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، عن طلحة بن مصرف عنه. قال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا غندر، حَدَّثَنا شعبة قال: سمعت الحكم وحمادًا وأبا إسحاق يقولون في قنوت الوتر: إذا فرغ كبَّر ثم قنت. وحَدَّثَنَا معاوية بن هشام، حَدَّثَنا سفيان، عن ليثٍ، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله: أنه كان يرفع يديه في القنوت. وفي رواية عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ليثٍ: كان يرفع يديه إذا قنت في الوتر.%ج 2 ص 40%وعن أبي عثمان النهدي: كانَ عمرُ إِذَا قَنَتَ يرفعُ يَدَيْهِ حتى يَبْدُوَ ضَبْعَاهُ. وعن خلاس بن عمرو أن ابن عباس قنتَ بهم فرفع يديه حتى مدَّ ضَبْعَيْهِ. وعند البيهقي عن أنسٍ في قصة القراء وقتلهم قال: «فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كُلَّمَا صلَّى الغداةَ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ»، يعني: على الذين قتلوهم.
(1/232)
وروى مسلم عن عائشة، وسألها أبو سلمة عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقالت: «كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَان رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ».وعند ابن خزيمة: «يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ}، و {إِذَا زُلْزِلَتِ}».وفي حديث أنسٍ يقرأ فيهما بالرحمن والواقعة وهو جالسٌ بعدما أسنَّ. قال أنسٌ: ونحن نقرأ بالسور القصار {إِذَا زُلْزِلَتِ}، {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ}، ونحوهما. ولما سأل ابن أبي حاتمٍ أباه عن حديث قتادة، عن أنسٍ يرفعه: «يُصَلِّي بعدَ الوترِ ركْعَتَيْنِ، يقرأ في الأولى: بأم القرآن، و {إِذَا زُلْزِلَتِ} وفي الثانية: بأم القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ}». قال: هذا حديثٌ منكرٌ من حديث قتادة. وعند الترمذي عن أم سلمة: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يُصَلِّي بعدَ الوترِ ركعتينِ خَفِيْفَتَيْنِ وهو جَالسٌ».وقال: روي نحو هذا عن أبي أمامة، وعائشة وغير واحدٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وذكر الخلال في «العلل»: أن سُلَيمًا كذا ذاكر أحمد بهذا الحديث، فقال: ما سمعت بأغرب منه. وقال الأثرم: ذكرت لأبي عبد الله حديث ميمون هذا، فقال: كان يدلس الحديث. وقال إبراهيم بن الحارث: أن أبا عبد الله سئل عن الركعتين بعد الوتر، وأنها رُوِيَت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من وجوه، ما تقول فيها؟ قال: أرجو أن لا يضيق، ولكن يكون ذاك وهو جالس كما جاء الحديث. وعند النسائي بسندٍ لا بأس به، عن أبي أمامة: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يُصَلِّي ركعتينِ بعدَ الوترِ وهو جالسٌ».
(1/233)
وعند الدَّارَقُطْني مثله عن أنسٍ بسندٍ جيدٍ، ثم قال: قال لنا أبو بكرٍ النيسابوري: هذه سنةٌ تفرد بها أهل البصرة، وحفظها أهل الشام. وعنده أيضًا: حدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنا عبد الله بن صالح، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عبد الرحمن بْنِ جُبَيْرِ%ج 2 ص 41%بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ثَوْبَانَ قال: كُنَّا مَعَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: «إِنَّ السَّفَرَ جَهْدٌ وَثُقْلٌ، فَإِذَا أَوْتَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ وَإِلَّا كَانَتَا لَهُ».وخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، وعندهما أيضًا، عن طلق بن عليٍّ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «لَا وِتْرَانِ في ليلةٍ». وقال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ. وقد اختلف أهل العلم في الذي يوتر من أول الليل، ثم يقوم من آخره: فرأى بعض أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم نقض الوتر، وقالوا: يضيف إليه ركعة، ويصلي ما بدا له، ثم يوتر في آخر صلاته، لأنه لا وتران في ليلةٍ، وهو الذي ذهب إليه إسحاق. وقال بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم: إذا أوتر من أول الليل ثم قام من آخر الليل فإنَّه يصلي ما بدا له، ولا ينتقض وتره، ويدع وتره على ما كان عليه، وهو قول الثوري، ومالكٍ، وابن المبارك، وأحمد، وهذا أصح، لأنه قد روي من غير وجهٍ «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ صَلَّى بعدَ الوترِ» انتهى. وهو قول أبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
(1/234)
(بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ وَخُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ) 1005 - 1011 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَسْقَى فَقَلَبَ رِدَاءَهُ». [خ¦1005 - 1006 - 1007 - 1008 - 1009 - 1010 - 1011] وفي لفظ: (خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَحوَّلَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيْهِمَا بالقراءةِ».1012 - وفي لفظٍ: (خَرَجَ فَاسْتَسْقَى». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كَانَ ابنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: هُوَ صَاحِبُ الأَذَانِ، وهو وَهْمٌ، هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمِ المَازِنِيُّ مَازِنُ الأُنْصَارِ. [خ¦1012] وفي لفظٍ: «فَدَعَا اللهَ قائِمًا فَسُقوا».وفي لفظٍ: «وحَوَّلَ ظَهْرَهُ إلى النَّاسِ».وفي لفظٍ: (خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ).قال سفيان: وأخبرني المسعودي، عن أبي بكرٍ: جعل اليمين على الشمال. هذا حديثٌ خرجه الستة. وقال ابن القطان: المسعودي ليس من شرط الشيخين لضعفه وشدة اختلاطه، والبخاري فيما يعلق من الأحاديث غير مبالٍ بضعف رواتها، فإنها غير معدودة فيما انتخب، ثم إنا لا نعلم من وصل للبخاري الإسناد عن سفيان، فإنه يكون محتملًا أنه%ج 2 ص 42%حدثه به عبد الله بن محمد المذكور عنه الحديث أولًا، أو يحتمل أن يكون علَّقه غير مُوَصَّل، ولذلك لا يَعُدُّ أحدٌ المسعودي في رواة كتابه. والثاني أبو بكر الذي حدَّث عنه المسعودي في رواة كتابه لم يقل لنا عمن أخذه، وكما يجوز أن يكون أخذها عن عباد بن تميمٍ صاحب القصة، فكذلك يجوز أن يكون أخذها عن غيره، فأرسلها إرسالًا. انتهى كلامه.
(1/235)
وفيه نظرٌ من حيث زعم أنها تكون عن عبد الله بن محمد فإذا كانت كذلك فصار المسعودي من رجال الكتاب المخرج لهم في التعليق، ويكون السند إلى سفيان موصولًا، لأنه أحال به على ما قبله، وأبو بكرٍ هو المذكور في نفس السند فلا حاجة إلى الخرص، لكنه في إيراده على عبد الحق كونه عزا قول المسعودي للبخاري جيد، لأن البخاري إنما ذكره متابِعًا أو تعليقًا، لا أصلًا، والله تعالى أعلم. وقد وجدنا ابن ماجه رواه فقال: حَدَّثَنا محمد بن الصباح، حَدَّثَنا سفيان، عن يحيى بن سعيدٍ، عن أبي بكرٍ بن محمد بن عمرو بن حزمٍ، عن عبَّادٍ، ثم قال: قال سفيان عن المسعودي: سألت أبا بكر بن محمد بن عمرو، أجعل أعلاه أسفله، أو اليمين على الشمال؟ قال: لا، بل اليمين على الشمال. قوله: (خَرَجَ يَسْتَسْقِي) قال ابن الأثير: هو أبلغ لفظًا من خرج فاستسقى، لأن يستسقي في موضع نصب على الحال، أي خرج مستسقيًا، فكان الاستسقاء له لازمًا في حال خروجه، وليس كذلك (فَاسْتَسْقَى) لأنه معطوف على (خَرَجَ) بالفاء، وليس حالًا، فالاستسقاء في الثاني مرتبٌ على الخروج غير ممتزجٍ به، والأول كان الاستسقاء مخالطًا له ممتزجًا به دالًا على أن الخروج كان للاستسقاء، وإن كانت الأخرى كذلك، إلا أن اللفظ لا يدل عليه. قال: ولقائلٍ أن يقول: إن قوله: (فَاسْتَسْقَى) فعل ماضٍ يدل على وقوع الاستسقاء منه، و (يَسْتَسْقِي) مضارعٌ لا يدل على وقوع الاستسقاء، فإنه قد لا يوجد ذلك المانع، فكان أبلغ في المعنى.
(1/236)
فالجواب: أنا قدمنا أنَّ قوله (يَسْتَسْقِي) خرج مستسقيًا، لأنه في موضع الحال، والاستسقاء يطلق عليه من حين إنشاء الخروج، لأن نية الاستسقاء متقدمة عليه، والأعمال بالنيات، فهو من حين ابتدائه في الخروج كان مستسقيًا، ولا يزال كذلك إلى أن يفرغ، ثم ما أردفه من قوله: (وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) يزيل%ج 2 ص 43%هذا الوهم المقدر بأن الاستسقاء وجد منه، ووقع وثبت ما قلناه، وصح ترجيحه. قال ابن العربي: قوله: (فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ) يريد الشروع في الصلاة، وإلا فليس في الدعاء استقبال، ويحتمل أن يكون الاستسقاء يخص الاستقبالين تأكيدًا. قال ابن التين: قلب الرداء لا يكون إلا عند استقبال القبلة، كما في «صحيح البخاري».واختلف قول مالكٍ متى يستقبل القبلة، ويحول رداءه: ففي رواية ابن القاسم: إذا فرغ من الخطبة، وروى عنه في أثناء الخطبة، يدعو ثم يستقبل الناس، ويتم الخطبة، واختاره أصبغ، وعن عبد الملك يفعله بعد صدرٍ من الخطبة، وعنه أيضًا في آخر الخطبة الثانية. وقال ابنُ بَزِيْزَةَ عن مالكٍ يحوِّل قبل استقبال القبلة. قال القرطبي: وأنكره أبو حنيفة، وضعفه ابن سلَّام من قدماء علماء الأندلس، وعند غيرهما هو سنةٌ يفعله الإمام والمأمومون. وقال الليث وأبو يوسف ومحمد بن عبد الحكم وابن وهبٍ: يقلِّبُ الإمام وحده، وليس ذلك على من خلفه. وعن مالكٍ إذا حول الإمام حول الناس قعودًا. وقال ابن الماجشون: ليس على النساء تحويل، وقيل: يحول الناس قيامًا كالإمام. وصفة التحويل على ما ذكره الشافعي يُنَكِّسُ أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، ويتوخَّى أن يجعل ما على شقه الأيمن على شقه الأيسر، ويجعل الجانب الأيسر على الأيمن. وقال أحمد وإسحاق: يجعل اليمين على الشمال، والشمال على اليمين. قَالَ الْمُهَلَّبُ: قلبه على وجه التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه.
(1/237)
قال ابنُ بَزِيْزَةَ: ذكر أهل الآثار أن رداءه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان طولُه أربعةَ أذرعٍ وشبرًا، في عرض ذراعين وشبر. وقال الواقدي: كان طوله ستة أذرعٍ في ثلاثة وشبر، وإزاره من نَسْجِ عُمَان، طوله أربعة أذرعٍ وشبر، في عرض ذراعين وشبر. وقال ابن العربي: قال محمد بن علي: حَوَّلَ رداءه ليتحول القحط. قال القاضي أبو بكرٍ: هذه أمارةٌ بينه وبين ربه، لا على طريق الفأل، فإن من شرط الفأل ألا يكون بقصد، وإنما قيل له: حول رداءك فيتحول حالك، فإن قيل: لعل رداءه سقط فردَّه، وكان ذلك اتفاقًا، قلنا: الراوي المشاهد للحال أعرف، وقد قرنه بالصلاة، والخطبة، والدعاء، فدلَّ أنَّهُ من السنة، انتهى. يشهد لما يردُّه%ج 2 ص 44%من القول ويرجح أيضًا قول أبي حنيفة: ما في «المستدرك» على شرط مسلمٍ من حديث ابن زيد: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ لَهُ سَوْدَاءُ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ أَسْفَلَهَا فَيَجْعَلَهُ أَعْلَاهَا، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ فَقَلَبَهَا عَلَيْهِ الْأَيْمَنُ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَالْأَيْسَرُ عَلَى الْأَيْمَنِ». وهو في «مسند» الشافعي من حديث عباد بن تميم. وقال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا بين القائلين بصلاة الاستسقاء أنها ركعتان، واختلف في صفتهما، فروي أنه يكبر كتكبير العيد، سبعًا في الأولى وخمسًا في الثانية، وهو قول ابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزمٍ، والشافعي، وداود، وحُكِيَ عن ابن عباسٍ. وقيل: يصلي ركعتين كصلاة التطوع، وهو مذهب مالكٍ وأبي ثورٍ، وإسحاق، وهو ظاهر كلام الخِرَقي، ولا يسن لها أذانٌ ولا إقامةٌ، لا نعلم فيه خلافًا.
(1/238)
1022 - ذَكر البخاريُّ قَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الأَنْصَارِيُّ وَخَرَجَ البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَاسْتَسْقَى، فَقَامَ لَهُمْ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ، فَاسْتَغْفَرَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيْهِما بِالقِرَاءَةِ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ وَلَمْ يُقِمْ). [خ¦1022] وهو عند مسلمٍ عن ابن مثنى وابن بشارٍ، عن غندرٍ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، ورواه البيهقي من طريق أبي غسان، عن زهيرٍ، وقال آخره: رواه البخاري عن أبي نعيمٍ، عن زهيرٍ، ورواه الثوري عن أبي إسحاق قال: «فَخَطَبَ ثُمَّ صَلَّى». ورواه شعبة عن أبي إسحاق قال: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ اسْتَسْقَى».قال: ورواية الثوري وزهير أشبه، وإنما استسقى عبد الله مع صغره لكونه الأمير، وفي هذا الحديث دليل على ألا خطبة في الاستسقاء. وزعم بعضهم أن الاستغفار هنا كان في الخطبة، بدليل رواية الثوري، وذكر ابن حزمٍ أن ابن الزبير أرسل إليه أن استسقِ بالناس. وفي «سنن الكَجِّي» ما يدل على أن الذي صلى بهم ذلك اليوم زيد بن أرقم. وعند ابن ماجه بسندٍ صحيحٍ، عن أبي هريرة «خَرَجَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمًا يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ خَطَبَنَا وَدَعَا اللهَ تعالى» الحديث. وقال الخلال في كتاب «العلل»: قال أبو مسعودٍ أحمد بن الفرات: هذا حديثٌ غريبٌ عجيبٌ.
(1/239)
وفي «علل ابن أبي حاتمٍ»: وسأل أباه عن حديثٍ رواه حبيب بن أبي%ج 2 ص 45%ثابتٍ عن عبد الله بن باباه، عن أبي هريرة في الاستسقاء، قال: رواه بكر بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال أبي: الصحيح عندي ما رواه شعبة، عن حبيبٍ، عن سالم بن أبي الجعد، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرسلًا، وليس لابن باباه عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الاستسقاء معنى. قال أبي: وأما حديث داود بن علي، فإني عارضته بحديث حبيبٍ، عن ابن باباه، عن أبي هريرة، فإذا قد خرج المتن سواء ليس فيه زيادةٌ ولا نقصٌ، فعلمت أنه ليس لداود في هذا الحديث معنى، وإنما أراد ابن أبي ليلى حديث حبيبٍ وكان ابن أبي ليلى سيِّئ الحفظ. وقال ابن قدامة: ينادى لها الصلاة جامعة. انتهى. وقد جاء في حديث إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال: أرسلني أميرٌ من الأمراء، أسأل عن الصلاة في الاستسقاء، فقال ابن عباس: «خرجَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يومًا يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا ركعتين بلا أذانٍ ولا إقامةٍ، ثم خَطَبَنَا ودعا اللهَ تعالى» الحديث «متواضعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، متضرِّعًا، فَصَلَّى ركعتينِ كما يصلي في العيد، لم يخطب خطبَكم هذه».قال أبو عليٍّ الطُّوسي وأبو عيسى الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وخرَّجه أيضًا أبو عوانة الإسفراييني وأبو حاتم ابن حبان في «صحيحهما»، وكذا أبو محمد بن حزمٍ باحتجاجه به. وقال الحاكم: رواته مصريون ومدنيون، ولا أعلم أحدًا منهم منسوبًا إلى نوعٍ من الجرح. وعند أبي داود: «فَرَقِيَ المنبرَ فلَمْ يَخْطُبْ خُطَبَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ». وذكر أن الْمُرْسِلَ الوليد بن عتبة أمير المدينة.
(1/240)
وعند الحاكم صحيحَ الإسناد أن طلحة أرسله مروان إلى ابن عباس، فقال: «سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين، إلا أنه قلب رداءه، وصلى ركعتين، كبر في الأولى سبع تكبيراتٍ، وقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقرأ في الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وكبر فيها خمس تكبيراتٍ».وعند الحاكم على شرط الشيخين، عن عائشة قالت: شَكَوا إِلَى رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَره، فَوُضِعَ لَهُ بالْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، حينَ بَدَا%ج 2 ص 46%حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ بلادكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُم الإجابةَ»، ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ -أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ- وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللهِ، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ» الحديث.
(1/241)
وفي «مسند» الشافعي بسندٍ فيه رجلٌ مجهولٌ: «أَصَابَ النَّاسَ سَنَةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَمَرَّ بِهِمْ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لَوْ شَاءَ صَاحِبُكُمْ لَمُطِرْتُمْ مَا شِئْتُمْ وَلَكِنَّهُ لا يُحِبُّ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ، فَقَالَ: «أَوَقدْ قَالَ ذَلِكَ؟ إِنِّي لأَسْتَنْصِرُ بِالسَّنَةِ عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ، وَإِنِّي لأَرَى السَّحَابَ خَارِجَةً مِنَ الْعَيْنِ فَأَكْرَهُهَا، مَوْعِدُكُمْ يَوْمَ كَذَا وكَذا أَسْتَسْقِي لَكُمْ) الحديث، وفيه «فَمَا أَقْلَعَتِ السَّمَاءُ جُمُعَةً».) بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ (.حديث أبي هريرة تقدم.
(1/242)
1007 - حَدَّثَنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا، قَالَ: «اللهُمَّ سَبْعًا كَسَبْعِ يُوسُفَ»، فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الجُلُودَ وَالمَيْتَةَ وَالجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرَى الدُّخَانَ مِنَ الجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللهَ لَهُمْ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى} [الدخان: 16] وَالْبَطْشَةُ: يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَدْ مَضَتِ البَطْشَةُ وَالدُّخَانُ وَاللِّزَامُ آيَةُ الرُّومِ). [خ¦1007] وفي التفسير أن قريشًا لما أبطؤوا على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالإسلام قال: «اللهُمَّ اكْفِنِيْهِمْ بسبعٍ كَسَبْعِ يوسفَ».
(1/243)
وفي%ج 2 ص 47%لفظٍ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يُحَدِّثُ فِي كِنْدَةَ، فَقَالَ: يَجِيءُ دُخَانٌ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِأَسْمَاعِ المُنَافِقِينَ وَأَبْصَارِهِمْ، يَأْخُذُ المُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، قالَ مسروقٌ: فَفَزِعْنَا، فَأَتَيْتُ ابنَ مَسْعُودٍ فأخْبَرْتُهُ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَغَضِبَ وجَلَسَ، وقَالَ: مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنَ العِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، أنَّ قُرَيْشًا أَبْطَؤوا» الحديث. وفي لفظٍ: «قال عبد الله: مضى خمسٌ الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام».قال أبو الفرج: الذي أنكره ابن مسعودٍ، ذهب إليه جماعةٌ وقالوا: إنه دخانٌ يأتي قبل يوم القيامة، وهو مرويٌّ عن عليٍّ وابن عمر وأبي هريرة وابن عباسٍ والحسن، وقال ابن أبي مليكة: «غدوتُ على ابنِ عباسٍ ذاتَ يومٍ، فقالَ: مَا نِمْتُ الليلةَ، قلت: ولم؟ قال: طلعَ الكوكبُ ذو الذنبِ، فخشيتُ أنْ يطرقَ الدخان».وروى حذيفة بن أَسيد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «منْ أشراطِ الساعةِ دخانٌ يمكثُ في الأرضِ أربعينَ يومًا»، يؤيده قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15].وفي صحيح مسلمٍ عن حذيفة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ لا تَرَوْنَ السَّاعةَ حتى تروا قبلها عَشْرَ آياتٍ، أولها: طُلُوعُ الشمسِ منْ مغربِهَا، ثم الدُّخَانُ، ثم الدَّجالُ» الحديث.
(1/244)
وذكر القرطبي أن بعض العلماء روى في حديث حذيفة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إنَّ منْ أشراطِ الساعةِ دُخَانًا يَمْلَأُ ما بينَ المشرقِ والمغربِ، يمكثُ في الأرضِ أربعينَ يومًا، فأمَّا المؤمنُ فيصيبُهُ منه شِبْهُ الزُّكَامِ، وأمَّا الكافرُ فيكونُ بمنزلةِ السَّكْرانِ، يخرجُ الدُّخانُ منْ أنفِهِ وعَيْنَيْهِ وأذنِهِ ودُبُرِهِ»، قال: وقيل هذا الدخان من آثار جهنم يوم القيامة. وروي هذا عن عليٍّ وابن عمر وابن عباسٍ وابن أبي مليكة والحسن. وقال مجاهدٌ: كان ابن مسعود يقول: هما دخانان، قد مضى أحدهما، والذي بقي يملأ ما بين السماء إلى الأرض، ولا يجد المؤمن منه إلا كالزُّكْمَة، وأما الكافر فَتَنْتَقِبُ مسامعه، فتنبعث عند ذلك الريح الجنوب من اليمن، فتقبض روح كل مؤمنٍ، ويبقى شرار الناس. وقال ابن دحية: الذي يقتضيه النظر الصحيح حمل ذلك على قضيتين، إحداهما وقعت، والأخرى %ج 2 ص 48%ستقع، فأما التي كانت فهي التي كانوا يرون فيها كهيئة الدخان، وهيئة الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الآيات والعلامات، ولا يمتنع إذا ظهرت تلك العلامات أن يقولوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12]، فيكشف عنهم، ثم يعودون لقرب الساعة. وقول ابن مسعودٍ لم يسنده إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إنما هو من تفسيره، وقد جاء النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بخلافه. قوله: (حَصَّتْ) بحاءٍ وصادٍ مهملتين مشددة الصاد، أي: استأصلت وأذهبت النبات فانكشفت الأرض. وفي «المحكم» سَنَةٌ حصَّاء: جَدْبَةٌ قليلة النبات، وقيل: هي التي لا نبات فيها، وكانت هذه القصة قبل الهجرة بدليل قوله: (فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ) يعني صخرَ بن حربٍ.
(1/245)
وفي
رواية أسباطٍ عن منصورٍ: «فَدَعَا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَسُقُوا الغَيْثَ، وأطبقَتْ عليهم سَبْعًا»، وهو دليلٌ على صدقه عندهم، إذ
استشفعوا به لعلمهم بإجابة الله دعوته، وإنما كُفرهم كان حسدًا وعنادًا، نعوذ
بالله من ذلك. واخْتُلِفَ في (اللِّزَامُ) فذكر ابن أبي حاتمٍ في «تفسيره» أنه
القتل الذي أصابهم ببدرٍ، رُوِيَ ذلك عن ابن مسعودٍ وأبي بن كعبٍ ومحمد بن كعبٍ
ومجاهدٍ وقتادة والضحاك. قال أبو العباس القرطبي: وعلى هذا فتكون البطشة واللزام
واحدًا. وعن الحسن: اللزام يوم القيامة، وعنه أنه موتٌ، وقيل: يكون بذنبكم عذابًا
لازمًا لكم. وعند الهروي: يكون التكذيب لازمًا لمن كذب حتى يجازى بعمله، وقيل:
يلزمهم التكذيب فلا يعطَون التوبة وتلزمهم العقوبة، وقيل لزامًا: فيصلًا. وفي
«المحكم» اللزام: الحساب، وقال ابن العربي: والذي عندي أن المراد به: الانتقام
منهم بظهوره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، حتى يؤمنوا أو يهلكوا. و (الوَطْأَةُ):
البأس والعقوبة، وفي «المحكم»: الوطأة الأخذة الشديدة، وفي «الجامع»: وطئ فلانٌ
بني فلانٍ وطأةً شديدةً، إذا غزاهم فأوجع فيهم، وعند الهروي يكون الوطءُ بالقدم
وبالقوائم وبالخيل. (بَابُ سُؤَالِ النَّاسِ الإِمَامَ الِاسْتِسْقَاءَ إِذَا
قَحَطُوا)
1008 – حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنا أَبُو قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ
يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أَبِي طَالِبٍ:
%ج 2 ص 49%
[خ¦1008]
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ اليَتَامَى عِصْمَةٌ
لِلْأَرَامِلِ
(1/246)
1009
– (وَقَالَ عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنا سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ)، قال: رُبَّمَا
ذَكَرْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَسْتَسْقِي، فَمَا يَنْزِلُ حَتَّى يَجِيشَ كُلُّ مِيزَابٍ.
وَأَبْيَضَ ... ) البيت. [خ¦1009]
قال ابن ماجهْ في «سننه»: حَدَّثَنا أحمد بن الأزهر، عن أبي النضر هاشم بن القاسم،
عن أبي عقيلٍ، حَدَّثَنا عمر بن حمزة فذكره.
(1/247)
1010 – حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. [خ¦1010] هذا الحديث تفرد به البخاري عن الستة، وقال الإسماعيلي: هذا الذي رواه في الباب خارجٌ عن الترجمة، إذ ليس في هذا الخبر أن أحدًا سأله أن يستسقي لهم، وحديث أنسٍ الذي رواه ليس فيه هذا المعنى بواحده، وإنما هو الاستسقاء بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وبعمه، لا مسألته أن يستسقي لهم، وهذا ظاهره. وقال ابن المنير: وجه المناسبة التنبيه على أن للعامة حقًا على الإمام أن يستسقي لهم إذا سألوا ذلك، ولو كان من رأيه هو التأخير من باب التفويض إلى التقدير. ووجه مطابقة الترجمة للحديثين (قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ) البيت، ففاعل يستسقي محذوفٌ، وهُم الناس، وكذا قول عمر: (إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ)، يدل على أنهم كانوا يتوسلون، فإن لعامة المؤمنين مدخلًا في الاستسقاء. انتهى. الذي يظهر أن البخاري على جاري عادته يبوِّب لما في بعض طرق ذلك الحديث، وترك ذكره لعذرٍ ما من الأعذار، بيانه أن حديث ابن عمر أصله لما سأله الأعرابي بقوله:
(1/248)
1013 - 1014 «هَلَكَتِ الأَمْوَالِ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلِ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدَيْهِ فَدَعَا، فَسُقُوا»، فهذا فيه كما ترى سؤال الإمام الاستسقاء عند القحط، وحديث عمر يبيِّنه ما أورده الإسماعيلي نفسه في الحديث عن أحمد بن فرحٍ، حَدَّثَنا محمد بن مثنى، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنا أبي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ قال:%ج 2 ص 50%كَانُوا إِذَا قَحَطُوا عَلَى عَهْدِ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، اسْتَسْقَوْا بِالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَيَسْتَسْقِي لَهُمْ فَيُسْقَوْنَ، فَلَمَّا كَانَ بعدُ في إمارةِ عُمَرَ، قَحَطُوا، فَأَخْرَجَ عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ يَسْتَسْقِي بِهِ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا عَلَى عَهْدِ نَبِيَّكَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَسْقَيْنَا بِهِ فَسُقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ اليومَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، قَالَ: فَسُقُوا». [خ¦1013 - 1014] وفي «المحكم»: واستسقاء عمر بالعباس، لأن كعبًا قال: إن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيهم، وقيل: لأنه كان أمسَّ الناس بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأقربهم إليه رحمًا، فأراد عمر أن يصلها ليتصل بها إلى من كان يأمر بصلة الأرحام صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وزعم ابن قدامة أن ذلك كان عام الرمادة. وفي كتاب «الردة» لسيفٍ، عن أبي سلمة: كان أبو بكر الصديق إذا بعث جندًا إلى أهل الردة، خرج ليشيعهم، وخرج بالعباس معه، فإذا وجههم قال: يا عباس استنصر وأنا أؤمن، فإني أرجو ألا يخيب دعوتك لمكانك من نبي الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. انتهى. فكان هذا هو سلف عمر في ذلك.
(1/249)
وفي «مسند الحميدي»: عن ابن المسيب، أخبرني من شهد عمر يستسقي بالناس، فقال العباس: كم بقي من نوء الثريا، قال العلماء بها يزعمون أنها تعترض بعد سقوطها في الأفق سبعًا، قال: فما مضت سابعةٌ حتى مُطِرْنا. وذكر الإمام أبو القاسم بن عساكر في «كتاب الاستسقاء» من حديث إبراهيم بن محمد عن حسان بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس أن العباس قال ذلك اليوم: اللَّهمَّ إن عندك سحابًا، وإن عندك ماءً، فانشر السحاب، ثم أنزل منه الماء، ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل، وأطل به الفرع، وأدرَّ به الضَّرْع، اللَّهمَّ شفِّعنا في أنفسنا وأهلنا، اللَّهمَّ إنا شفعاء إليك عمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا، اللَّهمَّ اسقنا سقيا وادعةً بالغةً طبقًا مجيبًا، اللَّهمَّ لا نرغب إلا إليك، وحدك لا شريك لك، اللَّهمَّ إنا نشكو إليك سَغَبَ كل ساغب، وعَدَمَ كل عادمٍ، وجوع كل جائعٍ، وعُرْي كل عارٍ، وخوف كل خائفٍ. وفي حديث أبي صالحٍ: «فلمَّا صعدَ عمرُ ومعه العباسُ المنبرَ، قال عمرُ: اللَّهمَّ إنا توجَّهْنَا بِعَمِّ نبيك وصِنْو أبيه، فاسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين%ج 2 ص 51%، ثم قال: قل يا أبا الفضل، فقال العباس: اللَّهمَّ إنه لم ينزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولم يكشف إلا بتوبةٍ، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا بالتوبة، فاسقنا الغيث، قال: فأَرْخَتِ السماء شآبيب مثل الجبال» الحديث. وروينا في كتاب «المحتكرين» لأبي العباس النسوي أن العباس قال يومئذٍ وعيناه تنضحان وسبابته تجول على صدره: اللَّهمَّ أنت الراعي لا تهمِلُ الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعةٍ، فقد ضَرَعَ الصغيرُ، ورقَّ الكبير، وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللَّهمَّ فأغثهم بغياثك قبل أن يقنَطوا فيهلِكوا، فإنه لا يَيأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فسقوا لوقتهم.
(1/250)
وفي ذلك يقول ابن عفيفٍ فيما ذكره الزبير: ما زالَ عباسُ بن شيبة غايةً للناسِ عندَ تنكُّرِ الأيامِرجلٌ تفتَّحتِ السماءُ لصوتِهِ لما دعا بدعاوةِ الإسلامِ فُتحَت لهُ أبوابُها لمَّا دعا فيها بجندٍ مُعْلَمِين كرامِعَرفَت قريشٌ حينَ قامَ مقامَهُ فيهِ لهُ فضلًا على الأقوامِوقال حسان بن ثابتٍ رضي الله عنه: سألَ الإمامُ وقدْ تتابعَ جَدْبُنا فسقى الغمام بغرَّةِ العباسِ عمِّ النبيِّ وصنوِ والدِهِ الذي ورثَ النبيَّ بذاكَ دونَ الناسِوقال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهبٍ: بعمِّي سقى اللهُ الحجازَ وأهلَهَ عشيةَ يستسقي بشيبتِهِ عمرْ توجَّهَ بالعباسِ في الجدبِ راغبًا فما كرَّ حتى جاءَ بالديمةِ المطرْوهنا سؤالٌ في قوله: (وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ) وهو كيف قال أبو طالبٍ هذا، واستسقاؤه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما كانت بعد وفاته؟.قال السُّهَيلي: الجواب أن أبا طالبٍ حضر استسقاء عبد المطلب والنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ معه، وذلك أن الخطابي ذكر أن رُقَيْقَةَ بنتَ%ج 2 ص 52%أبي صيفي قالت: «تتابعتْ على قريشٍ سنواتٌ أَنْحَلت الظِّلْفَ، وأَرَقَّتِ العظمَ، فبينا أنا راقدةٌ أو مُهَوِّمةٌ إذا أنا بهاتفٍ يصرخُ يا معشرَ قريشٍ، انظروا رجلًا طُوالًا عُظامًا أبيض بضًّا أشمّ العرنين، فليخلص هو وولده وولد ولده، وفيهم الطيب الطاهر، ألا فَلْيَسْتَسْقِ الرجل وليؤمِّنِ القومُ، فلما قصصت رؤياي، قالوا: هذا شيبةُ الحَمْدِ، فلما ارتقى أبا قُبَيسٍ اعتضد ابن ابنه محمدًا فرفعه على عاتقه، وهو يومئذٍ غلامٌ قد أيفع، ثم استسقى فما راموا والبيتِ حتى انفجرت السماء بما بها» الحديث. انتهى.
(1/251)
وروينا في كتاب «المجالسة» للدينوري: أن أبا طالبٍ استسقى بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعد وفاة عبد المطلب، وهو أمسُّ من الذي ذكره السُّهَيلي، أَخْبَرَنَا بذلك جماعةٌ منهم الشيخة المسندة أم الخير عائشة بنة علي الحميرية قراءةً عليها، أَخْبَرَنَا الإمام قراءةً عليه، أَخْبَرَنَا الإمام أبو القاسم هبة الله بن علي بن سعود البوصيري، أَخْبَرَنَا أبو الحسن علي بن الحسين الفراء، أَخْبَرَنَا أبو القاسم عبد العزيز بن الحسن بن إسماعيل النضر، أَخْبَرَنَا الغساني، أَخْبَرَنَا والدي، قال: أَخْبَرَنَا الإمام أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي رحمه الله تعالى. و (الثِّمَالُ): بكسر الثاء المثلثة، قال ابن الأنباري: معناه مطعمٌ لليتامى، يقال: ثَمَلَهُم يَثْمُلُهُم إذا كان يطعمهم. وفي «مجمع الغرائب» يقال: هو ثِمَالُ قومه إذا كان يقوم بأمرهم، وفي «المحكم» فلان ثمال بني فلان أي عمادهم، وعند ابن التين: هو المُطعِم في الشدَّة. وقوله: (عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ) أي يَنَلْنَ ببركته وفضله ما يقوم لهن مقام الأزواج. و (الْأَرَامِل): جمع أرمل، وهو الذي نَفِدَ زاده، قال ابن سيده: رجلٌ أرملٌ، وامرأةٌ أرملةٌ، وهي المحتاجة، وهي الأرملة والأرامل والأراملة كَسَّرُوه تكسير الأسماء لغلبته، وكل جماعةٍ من رجالٍ ونساءٍ، أو رجالٍ دون نساءٍ، أو نساءٍ دون رجالٍ أرامل، بعد أن يكونوا محتاجين. وفي «الجامع» قالوا: ولا يقال رجلٌ أرمل، لأنه لا يكاد يذهب زاده بذهاب امرأته إذ لم تكن قَيِّمَةً عليه بالمعيشة بخلاف المرأة.
(1/252)
وقد زعم قومٌ: أنه يقال رجلٌ أرملٌ إذا ماتت امرأته، قال الشاعر:%ج 2 ص 53% أحبُّ أن أصطاد ضبًّا سحبلا رعى الربيع والشتاء أرملاقالوا: فجعل الضب أرمل، لأنه يكون أسمن له، لأنه إذا كان ذا سِفادٍ هزل، ومنه قول الحطيئة: هذي الأراملُ قد قضَّيتَ حاجتَها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكرِ؟ قال: ولو أن رجلًا أوصى للأرامل بمالٍ لوجب أن يعطى لمن لم يكن لها زوجٌ من النساء، ولمن لم يكن له امرأةٌ من الرجال. قال: وأنكر هذا أكثر الناس، وقالوا لو وجب هذا بطل الاشتقاق، إذ كان الاشتقاق يوجب ألا يكون الذكر أرملًا بموت امرأته، ويوجب كون المرأة على ذلك، قالوا: وليس في قول الشاعر: هذي الأرامل حجةٌ، لأنه لم يرد بالأرامل من ذهب عياله، وإنما أراد الفقير الذي لا زاد له، وكذا ليس في قول الآخر: رعى الربيع والشتاء أرملاحجةٌ، لأن أرملًا انتصب، لأنه حالٌ من الشتاء، لأن الشتاء يذهب أموال الناس لجدبه فهو حال منه، قالوا: وإنما يقال رجلٌ أرملٌ على الشذوذ، كما يقال للعجوز شيخة، فلو قال رجلٌ في وصيته: يدفع مالي للشيوخ لم يعط منه للعجائز شيءٌ، وإن كانت العرب قد قالت في شذوذ الكلام للعجوز شيخةٌ، وكذا قالوا: غلامٌ وغلامةٌ ومن يقول للذكر أرمل قول، لو قال: مالي للغلمان لم يعط منه الجواري شيئًا، وهذا مناقضٌ والله تعالى أعلم.
(1/253)
أَخْبَرَنَا الإمام الرحلة أبو عبد الله محمد بن الحسن بن علي الجزائري رحمه الله تعالى قراءةً عليه وأنا أسمع، أَخْبَرَنَا أبو الكرم لاحق بن عبد المنعم قراءةً عليه، أَخْبَرَنَا الحافظ أبو محمد المبارك بن علي البغدادي، أَخْبَرَنَا الإمام أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد، أَخْبَرَنَا جدي الحافظ أبو بكر البيهقي، أَخْبَرَنَا أبو زكريا بن أبي إسحاق، أَخْبَرَنَا أبو جعفر محمد بن علي بن دُحيم، حَدَّثَنا جعفر بن عنبسة، حَدَّثَنا عبادة بن زياد الأزدي، عن سعيدِ بن خُثَيمٍ، عن مسلمٍ الملائي، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله والله لقد أتيناك وما لنا بعيرٌ يئط ولا صبيٌّ يصيح، وأنشده:%ج 2 ص 54% أَتَيْنَاك والعذراء يدمى لَبانُها وَقد شُغِلَتْ أم الصَّبِي عَن الطِّفْلِ وَألقى بكفيه الصَّبِيُّ استكانةً من الْجُوع ضَعفًا مَا يُمِرُّ وَمَا يُحْلي وَلَا شَيْء مِمَّا يَأْكُل النَّاسُ عندنَا سوى الحنظل العاميِّ وَالْعِلْهِز الفَسْلِ وَلَيْسَ لنا إلاّ إِلَيْك فِرارُنا وَأَيْنَ فرار النَّاس إلاّ إِلَى الرُّسْلِ؟ فَقَامَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يجر رِدَاءَهُ حَتَّى صعِد الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: «اللهُمَّ اسْقِنَا». الحديث.
(1/254)
وَفِيه: فجَاء أهل البطانة يصيحون: الْغَرق الْغَرق، فَضَحِك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ: لله درُّ أبي طَالبٍ لَو كَانَ حَاضرًا لَقَرَّت عَيناهُ، من ينشدنا شعره؟ فَقَالَ عَليّ: يَا رَسُول الله كَأَنَّك أردْت قَوْله:|وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامَ بِوَجْهِهِفَذكر أبياتًا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أجل، فَقَامَ رجلٌ من بني كنَانَة فَأَنْشد أبياتًا منها: لَك الْحَمد وَالْحَمْد مِمَّن شكرْ سُقِيْنَا بِوَجْه النَّبِي الْمَطَرْ دَعَا اللهَ خالقَهُ دَعْوَةً وأشخصَ مَعْهَا إِلَيْهِ الْبَصَرْ فَلم يَكُ إِلَّا كلَفِّ الردا وأسرع حَتَّى رَأينَا الدُّرَرفَقَالَ رَسُول الله، صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِن يكن شَاعِر أحسن فقد أَحْسَنت».وعند الحاكم صحيح الإسناد على شرط الشيخين عن كعب بن مُرَّةَ -أو مُرَّةَ بنِ كعبٍ- ورجح الثاني، قال: دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فقال: «اللهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيعًا غَدَقًا طَبَقًا، عاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ، نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ» فسقوا. وعن جابرٍ على شرط الشيخين مثله، وعن عميرٍ مولى آبي اللحم قال: «رأيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ قريبًا منَ الزَّوراءِ، قائمًا يَسْتَسْقِي، رافعًا يديه قِبَلَ وجْهِهِ، لا يجاوزُ بِهِمَا رأسَهُ». وقال: صحيح الإسناد. وفي «الدلائل» لأبي نعيم الحافظ من حديث ابن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة: «قامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يومًا ضُحًى في%ج 2 ص 55%المسجدِ فَكَبَّرَ ثلاثَ تكبيراتٍ ثم قال: اللهُمَّ اسْقِنَا» الحديث.
(1/255)
ومن حديث ابن أبي ليلى، عن داود بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن جده: أن ناسًا من مضر أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فسألوه أن يدعو الله أن يسقيهم، فقال: «اللهُمَّ اسْقِنَا» الحديث. ومن حديث ابن إسحاق، عن أبي عُبَيْدَةَ بن محمد بن عمار بن ياسرٍ، عن الرُّبَيْعِ بنتِ مُعَوِّذٍ في حديثٍ: «وَإِنَّهُ لمْ يَكُنْ معهم ماءٌ، فَأَتَوا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فدعا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَمْطَرَتْ حتى استقى الناسُ وسُقُوا».ومن حديث عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب، عن أبي لبابة بن عبد المنذر قال: كأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على المنبرِ يومَ الجمعةِ يَخْطُبَ الناس، فقال: «اللهُمَّ اسْقِنَا» الحديث. وخرجه أبو عوانة في «صحيحه» من حديث عُمَيْر مولى آبي اللحم، عن أبي لبابة، ومن حديث الواقدي عن مشايخه، قال: «قَدِمَ وفدٌ منْ مُرَّةَ بنِ قَيْسٍ، ورسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في المسجدِ، فَشَكَوا إليه السَّنَةَ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «اللهُمَّ اسْقِنَا الغيثَ» الحديث. قال الواقدي: ولما قدم وفد سلامان سنة عشر شكوا إليه الجدب، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بيديه «اللهُمَّ اسْقِهِمُ الغيثَ في دَارِهِمْ» الحديث. وعند البيهقي في «الدلائل» عن أبي وَجْزَة: أتى وفد فَزَارَةَ بعد تبوك، فشكوا إليه السنة، فصعد المنبر، ورفع يديه، وكان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء، قال: فوالله ما رأوا الشمس سبتًا، فقام الرجل الذي سأل الاستسقاء: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل. الحديث. وعند أبي داود بسندٍ جيدٍ، عن جابرٍ قال: أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَواكٍ، فقال: «اللهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيْثًا» الحديث.
(1/256)
وفي «صحيح أبي عوانة»، عن ابن عباسٍ «جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقال: يا رسول الله لقد جئتك من عند قومٍ ما يتزود لهم راعٍ ولا يخطر لهم فحلٌ، فصعِد المنبر، فحمد الله تعالى، ثم قال: اللَّهمَّ اسقنا» الحديث. وعنده أيضًا، عن سعد بن أبي وقاصٍ «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نزل واديًا لا ماء فيه، وسبقه المشركون إلى الماء، فقالَ بعضُ المنافقينَ: لو كانَ نبيًّا لاسْتَسْقَى لقومهِ، فبلغَ ذلك النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فبسطَ يَدَيْهِ وقال: اللهُمَّ جَلِّلْنَا سَحَابًا%ج 2 ص 56%كثيفًا قَصِيفًا دَلُوقًا مَخْلُوفًا ضَحُوكًا زِبْرَجًا، تُمْطِرُنَا مِنْهُ رَذَاذًا قَطْقَطًا سَجْلًا بُعَاقًا يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» فما رد يديه من دعائه حتى أظلنا السحاب الذي وصف. وعنده أيضًا: عن عامر بن خارجة بن سعدٍ، عن جده أن قومًا شكوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قحط المطر، فقال: «اجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ، ثم قولوا: يا رب يا رب» قال: ففعلوا فسُقوا، حتى أحبوا أن يُكْشَفَ عنهم. ورويناه في «سنن الكجي الكبير» من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده كان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا استسقى قال: «اللهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وبهيمتَكَ وانْشُرْ رحمتَكَ وأحْيِ بلدَكَ الميت».قال أبو حاتمٍ في كتاب «العلل»: عمرو بن شعيب عن أبيه مرسلٌ أصح. وروينا عن ابن عساكر الحافظ في «كتاب الاستسقاء» من حديث المسيب بن شريك، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، عن جده قال: «خَرَجْنَا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ» الحديث.
(1/257)
وفي «سنن سعيد بن منصورٍ» بسندٍ جيدٍ إلى الشعبي قال: «خرجَ عمرُ يَسْتَسْقِي فلم يَزِدْ على الاستغفار، فقالوا: ما رأيناك اسْتَسْقَيْتَ؟ فقال: لقد طلبتُ الغيثَ بِمَجَاديحِ السماء الذي يُسْتَنْزَلُ به المطر، ثم قرأ {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} الآية [هود: 52]». وخرجه أبو بكرٍ في «مصنفه» عن وكيعٍ، عن عيسى بن حفص بن عاصمٍ، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه قال: خرجنا مع عمر، الحديث. وفي «مراسيل أبي داود» من حديث شريكٍ، عن عطاء بن يسار أن رجلًا من نجدٍ أتى رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أجْدَبْنَا وهَلَكْنَا، فادع الله، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، الحديث. في هذه الأحاديث ترجيحٌ لما يقوله أبو حنيفة وإبراهيم النخعي ليس في الاستسقاء صلاةٌ في جماعةٍ. قال أبو حنيفة: فإن صلى الناس وحدانًا جاز، وإنما الاستسقاء: الدعاء والاستغفار، وخالفه صاحباه، فقالا بقول الجماعة. قال الدبوسي في «الأسرار»: لو كانت الصلاة واجبة لما تركها عمر حين استسقى بالعباس. فثبت أن الأخبار التي فيها الصلاة إما أن تكون وهمًا، وإما كانت في ابتداء الإسلام قبل بيان منازل الفرائض والنوافل والواجب، والله تعالى أعلم. وأما قول النووي: لم يقل هذا أحدٌ غير أبي حنيفة فغير جيدٍ، لأن إبراهيم حكى عنه ابن أبي شيبة%ج 2 ص 57%بسندٍ صحيحٍ أنه خرج مع المغيرة بن عبد الله يستسقي، قال: فصلى المغيرة، ورجع إبراهيم حيث رآه يصلي، وذكره أيضًا عنه بسندٍ جيدٍ كذلك، وزعم ابن بَزِيْزَةَ أن ذلك مذهبه. وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ليس تقصير من قصر من الرواة، فلم يذكر الصلاة حجة على من ذكرها، بل الذي رواها أولى، لأنها زيادةٌ يجب قبولها.
(1/258)
وفي «شرح المهذب»: يُحْمَلُ قول من لم يذكر ذلك على النسيان أو لأن بعضها كان في خطبة الجمعة وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفى بها، ولو لم يُصَلِّ أصلًا كان بيانًا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاةٍ ولا خلافَ في جوازه. انتهى. أما حمله على نسيان الراوي فمتعذرٌ لأنا حكينا عن بضعة عشر صحابيًا استسقاه بغير صلاةٍ، أفيجوز لأحدٍ دعوى النسيان على هؤلاء الجماعة؟ والذي ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه أن الأمرين جائزان إن شاء صلى وإن شاء لم يصلِّ وتتفق الأحاديث والله تعالى الموفق. وقوله: (بَعْضَهَا كَانَ يومَ الجُمُعَةِ) كأنه يشير إلى حديث أنسٍ الآتي وحديث أولئك المتقدمين ليس فيه جمعةٌ. (بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي المَسْجِدِ الجَامِعِ)
(1/259)
1013 – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ المِنْبَرِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: هَلَكَتِ الأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُغِيثَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «اللهُمَّ اسْقِنَا، اللهُمَّ اسْقِنَا، اللهُمَّ اسْقِنَا». [خ¦1013] قَالَ أَنَسٌ: لاَ وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَة وَلاَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ. قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ، انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْعًا، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَائِمًا يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُمْسِكهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ%ج 2 ص 58%يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلاَ عَلَيْنَا، اللهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالجِبَالِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ».قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسًا: أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي.
(1/260)
قال أبو نعيمٍ في «الدلائل»: رواه عن أنسٍ، الحسن وثابتٌ وعبد العزيز بن صهيبٍ وقتادة وسالم بن أبي الجعد ومسلم الملائي والزهري ويحيى بن سعيدٍ الأنصاري وفيه ابن عباسٍ وجابر.1014 - وفي لفظٍ عند البخاري: «أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ». [خ¦1014] 1015 - وفي لفظٍ: «فَلَقَدْ رَأَيْتُ السَّحَابَ يَتَقَطَّعُ يَمِينًا وَشِمَالًا، يُمْطَرُونَ وَلاَ يُمْطَرُ أَهْلُ المَدِينَةِ». [خ¦1015] 1016 - وفي لفظٍ: «فَانْجَابَتْ عَنِ المَدِينَةِ انْجِيَابَ الثَّوْبِ». [خ¦1016] 1018 - وفي لفظٍ في حديث إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ: «وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَلاَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ». [خ¦1018] 1021 - وفي لفظٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَامَ النَّاسُ، فَصَاحُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَحَطَ المَطَرُ، وَاحْمَرَّتِ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتِ البَهَائِمُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَسْقِينَا، فَقَالَ: «اللهُمَّ اسْقِنَا. مَرَّتَيْنِ» وَايْمُ اللهِ، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ، فَلَمَّا قَامَ فِي الجُمْعَةِ الثَّانِيَةِ، صَاحُوا تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ، فَادْعُ اللهَ يَحْبِسْهَا عَنَّا، قَالَ: فَتَبَسَّمَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَقَالَ: «اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا» فَتَكَشطَتْ عَنِ المَدِينَة، فَجَعَلَتْ تمطرُ حَوْلَهَا وَمَا تمطرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَة، فَنَظَرْتُ إِلَى المَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الإِكْلِيلِ.
(1/261)
[خ¦1021] 1029 - وفي لفظٍ: «أَتَى رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ البَدْوِ» وفيه: «فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدَيْهِ يَدْعُو، وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدْعُونَ) وفيه: «يَا رَسُولَ اللهِ، شَقَّ السَّفَرُ وَمُنِعَ الطَّرِيقُ». [خ¦1029] 1030 - وفي لفظٍ: (وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَشَرِيكٍ، سَمِعَا أَنَسًا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ». [خ¦1030] 1033 - وفي لفظٍ: (فَثَارَ سَحَابٌ أَمْثَالُ الجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ)، وفيه: «فَمَا جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا تَفَرَّجَتْ، حَتَّى صَارَتِ المَدِينَةُ فِي مِثْلِ الجَوْبَةِ حَتَّى سَالَ الوَادِي، وَادِي قَنَاةَ شَهْرًا، قَالَ: وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ%ج 2 ص 59%إِلَّا حَدَّثَ بِالجودِ». [خ¦1033] وفي «مُسْنَدِ السَّرَّاجِ» بخط ابن النجار الحافظ مجودًا: «وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ نَقْبٍ وَلاَ دَار».قال ابن التين: قوله: (دَخَلَ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ المِنْبَرِ) يعني: مستدبر القبلة، انتهى. إن كان يريد بالمستدبر المنبر فصحيحٌ، ولكن لا معنى لذكره، وإن كان أراد الباب فلا يتجه لبابٍ يواجه المنبر أن يستدبر القبلة.
(1/262)
وقوله: (مِنْ بَابٍ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ) قال عياضٌ: دار القضاء سُمِّيَتْ بذلك، لأنها بيعت في قضاء دَين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أنفقه من بيت المال وكتبه على نفسه وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله، فإن عجز ماله استعان ببني عدي ثم بقريشٍ، فباع عبد الله هذه الدار لمعاوية وقضى دينه وكان ثمانيةً وعشرين ألفًا، فكان يقال لها: دار قضاء دين عمر بن الخطاب ثم اختصروا فقالوا: دار القضاء وهي دار مروان بن الحكم، وقيل: هي دار الإمارة. انتهى. كأنه لما قيل دار مروان ظنَّ القائل أن المراد بالقضاء الإمارة. وأما قوله: كان ثمانيةً وعشرين ألفًا فيه غرابةٌ، والذي في الصحيح وغيره من كتب المؤرخين كان ستةً وثمانين ألفًا. وقوله: (تَقَطَّعَتِ السُّبُلِ) أراد الطرق، وفي روايةٍ <وَانْقَطَعَت>.قال ابن التين: وهو أشبه، واختلف في معناه، فقيل: ضعفت الإبل لقلة الكلأ أن يسافر بها، وقيل: إنها لا تجد في سفرها من الكلأ ما يبلغها، وقيل: إن الناس أمسكوا ما عندهم من الطعام ولم يجلبوه إلى الأسواق. قوله: (فَادْعُ اللهَ أن يُغِيْثنَا) كذا هو في جميع النسخ بضم الياء. و (اللهُمَّ أَغِثْنَا) بالألف رباعي من أغاث يُغيث، والمشهور في كتب اللغة أنه يقال في المطر: غاث الله الناس والأرض، يَغيثهم بفتح الياء، قال عياضٌ: قال بعضهم: هذا المذكور في الحديث من الإغاثة بمعنى المعونة وليس من طلب الغيث، إنما يقال في طلبٍ: اللَّهمَّ غِثنا. قال أبو الفضل: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث أي: هب لنا غيثًا أو ارزقنا غيثًا، كما يقال: سقاه وأسقاه أي: جعل له سقيًا على لغة من فرق بينهما. انتهى. يحتمل أن يكون قوله: (اللهُمَّ أَغِثْنَا) أي فرج عنا وأدركنا، فعلى هذا%ج 2 ص 60%جوز ما وقع في عامة النسخ.
(1/263)
قال أبو المعاني في «المنتهى»: يقال أغاثه الله يغيثه، والغِياث ما أغاثك الله به اسمٌ من أغاث، واستغاثني فأغثته، وقال القَزَّازُ: غاثه يَغُوثه غَوثًا، وأغاثه يُغيثه إغاثةً، فأُمِيتَ غاث واستُعمل أغاث، ويقول الواقع في بليةٍ: اللَّهمَّ أغثني أي: فرج عني، وقال الفراء: الغيث والغوث مستعارتان في المعنى والأصل. وفي «الموعب» و «المحكم» و «المخصص» أغاثه وغاثه غوثًا وغياثًا، والأولى أعلى. وفي «النبات» لأبي حنيفة: وقد غِيْثَت الأرض فهي مَغيثةٌ ومَغيوثةٌ. أبو الحسن اللِّحْياني: أرضٌ مَغِيْثةٌ ومَغْيُوثةٌ أي: مَسْقِيَّةٌ. ومَغيرةٌ ومغيورةٌ، والاسم: الغيرة والغيث، الفراء: الغيث يَغُورنا ويَغيرنا، وقد غارنا الله بخيرٍ: أغاثنا. وقد اختلف العلماء في رفع اليدين عند الدعاء: فكرهه مالكٌ في روايةٍ، وأجازه غيره في كل الدعاء، وبعض العلماء جوزه في الاستسقاء فقط. وقال جماعةٌ من العلماء: السنَّة في دعاء رفع البلاء أن يرفع يديه ويجعل ظهرهما إلى السماء، وفي سؤال شيءٍ وتحصيله يجعل بطنهما إلى السماء. وعن مالك بن يسار: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إذا سألتمُ اللهَ فاسْأَلُوه ببطونِ أَكُفِّكُم ولا تسألوه بظهورها». وقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما رواه سلمان الفارسي من عند الترمذي محَسَّنًا: «إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كريمٌ يَسْتَحِي إذا رفعَ الرجلُ إليه يَدَيْهِ أنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائبين». قال الترمذي: ورواه بعضهم فلم يرفعه. و (القَزَعَةُ): مثال شجرةٍ قطعةٌ من السحاب رقيقةٌ كأنها ظلٌّ إذا مرت من تحت السحاب الكثير، قال: مَقانِبُ بعضُها يبري لبعضٍ كأنَّ زُهاءها قَزَعُ الظِّلالذكره في «العين»، وقال أبو حاتمٍ: القزع: السحاب المتفرق. وقال يعقوب عن الباهلي: يقال ما على السماء قزعةٌ أي شيءٌ من غيمٍ، ذكره في «الموعب»، وفي «تهذيب» الأزهري: كل شيءٍ متفرقٍ فهو قزعٌ.
(1/264)
وفي حديث عليٍّ حين ذكر يعسوب الدين يجتمعون إليه كما يجتمع قزع الخريف يعني قطع السحاب. وفي «المحكم» أكثر ما يكون ذلك في الخريف. و (سَلْعٍ): بسينٍ مهملةٍ مفتوحةٍ%ج 2 ص 61%ولامٍ ساكنةٍ بعدها عينٌ مهملةٌ. قال ابن قُرْقُولٍ: هو جبلٌ بسوق المدينة، ووقع عند ابن سهلٍ بفتح اللام وسكونها، وذكر أن بعضهم رواه بغينٍ معجمةٍ، وكله خطأٌ. وفي «المحكم» و «الجامع»: سَلْعٌ موضعٌ، وقيل: جبلٌ، وأنشد القزَّاز:|أقمنا ثلاثًا بين سلعٍ وفارعوقال: فارعٌ حصن حسان بن ثابتٍ، وفي «الموعب»: سلع مثال كعبٍ: موضع، وأنشد: إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْعٍ لقتيلًا دمه ما يُطَلُّصاحب «العين»: هو بالحجاز، والبيت لابن أخت تأبط شرًا. وقال البكري: هو جبلٌ متصلٌ بالمدينة. وفي «الصحاح» السلع: جبلٌ بالمدينة، وأنشد هو والزمخشري في أسماء البلاد البيتَ لتأبَّطَ شرًا وكأنه غير جيدٍ. وزعم الهروي: أن سلعًا معرفةٌ لا يجوز إدخال الألف واللام عليه. انتهى. قد روينا في «دلائل النبوة» للبيهقي وكتاب أبي نعيمٍ الأصبهاني وأبي سعيدٍ الواعظ و «الإكليل» لأبي عبد الله بن البيِّع: فطلعت سحابةٌ من وراء السلع فينظر والله تعالى أعلم. ونسب البيتَ الحسنُ بن المظفر النيسابوري للشَّنْفَرَى، وقال: سلعٌ وادٍ. وزعم أبو الفرج أن هذا البيت مصنوعٌ صنعه خلف الأحمر على لسان ابن أخت تأبط شرًا، واستدلَّ على ذلك بأن سلعًا بالحجاز، وتأبط إنما قُتِلَ بأرض هُذَيلٍ، فأنى له سلع؟ و (َمَطَرتِ السَّماءُ): تَمْطُر، ومَطَرتْهم تَمْطُرهم مَطَرًا، وأمطرتْهم: أصابتهم بالمطر، وأمطرهم الله: في العذاب خاصةً، ذكره ابن سيده. وفي كتاب «النبات» لأبي حنيفة، قال أبو عبيدة: تقول أين أَنْحَتْكَ السماءُ أي: أمطرتك، وأنحيناها بمكان كذا وكذا أي: أمطرناها، وقال الفراء: قطرت السماء وأقطرت مثل مطرت وأمطرت.
(1/265)
وفي «الجامع» مطرت السماء تمطُر مَطْرًا ومَطَرًا، فالمطْر المصدر، والمطَر الاسم، وفيه لغةٌ أخرى مَطَرَتْ تَمْطَر%ج 2 ص 62%مَطَرًا ومَطْرًا، فالمطْر المصدر، والمطَر الاسم، وفيه لغةٌ أخرى مَطَرَتْ تَمْطَر مطرًا وكذا أَمْطَرَتِ السماء تُمطر. وفي «الصحاح» مَطَرَتِ السماء وأمطرها الله، وناسٌ يقولون: مطرت السماء وأمطرت بمعنًى. وفي «التهذيب» أما كلام العرب فيقال: مَطَرَتِ السماء وَأَمْطَرَتْ. وقوله: (مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا): بسينٍ مهملةٍ مفتوحةٍ بعدها باءٌ موحدةٌ. وعند الداودي: (سِتًّا): بسينٍ مكسورةٍ، وفسره ستة أيامٍ، ووُهِّم في ذلك وليس جيدًا، بل الواهم من وهمه، لأن في «الصحيح»: «فَمَا زِلْنَا نُمْطَرُ حَتَّى كَانَتِ الجُمُعَةُ الأُخْرَى» فهذا يبين صحة ما ذهب إليه الداودي ويوهن قول من قال: أراد بالسبت القطعة من الزمان، لأنه قال: أصل السبت القَطْع، وإنما أراد اليوم المسمى بالسبت والله أعلم. وقوله: (اللهُمَّ حَوَالَيْنَا)، وفي مسلمٍ: <حَوْلَنَا> وكلاهما صحيحٌ وهو ظرفٌ متعلقٌ بمحذوفٍ تقديره: اللَّهمَّ أنزل أو أمطر حوالينا ولا تُنزل علينا، فإن قيل إذا مطرت حول المدينة فالطريق ممتنعةً إذ لم تزل شكواهم؟ فالجواب: أنه أراد بحوالينا الآكام والظِّراب وشبههما كما في الحديث، فتبقى الطرق على هذا مسلوكةً كما سألوا. (وَالظِّرَابِ): قال القَزَّازُ: هي جمع ظَرْب ساكنِ الراء، جبلٌ منبسطٌ على الأرض، وقيل: هو الظَّرِب على فَعِل، ويقال: ظِراب وظُرُب، كما يقال: كتاب وكتب، ويخفف فيقال: ظُرْب. وفي بعض الحكم: (إياك والرُّعب فإنه يزيل الحلم كالظرب)، قالوا: وأصل الظراب ما كان من الحجارة أصله نابتٌ في جبلٍ أو أرضٍ حزنةٍ، وكان أصله الثاني مُحَدَّدًا وإذا كان خِلقة الجبل كذلك سمي ظربًا. وفي «المحكم» الظرب: كل ما نتأ من الحجارة وحُدَّ طرفه، وقيل: هو الجبل الصغير.
(1/266)
وفي «المنتهى» للبَرْمَكي: الظِّراب الروابي الصغار دون الجبل. وفي «الغريبين»: الأظراب جمع ظَرِب. وقول أنسٍ لما سئل: أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي، وفي موضعٍ آخر: فَأَتَى الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ. وفي لفظٍ: جاء رجلٌ فقال: ادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا. ثم قال: جاء فقال. الحديث. وفي لفظٍ في الأول: قَامَ أَعْرَابِيٌّ، ثم قال في آخره: فَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ. قال ابن التين:%ج 2 ص 63%لعلَّ أنسًا تذكر بعدُ أو نسي بعدِ ذكره. وقوله: (انْجَابَتْ) قال ابن القاسم: معناه تدورت كما يدور جيب القميص، وقال ابن وهبٍ: معناه انقطعت عن المدينة كما يقطع الثوب، وقال ابن شعبان: خرجت عن المدينة كما يخرج الجيب عن الثوب. قال ابن التين: فيه دليلٌ على أن من أودع وديعةً فجعلها في جيب قميصه أنه يضمن، قال: وقيل لا يضمن. قال: والأول أحوط لهذا الحديث. وقوله: (فَقَامَ النَّاسُ فَصَاحُوا) قال السَّفَاقُسيُّ: إن كان هذا محفوظًا فقد يتكلم الرجل ثم يصيح الناس، ويحتمل أنه يعني بالناس: الرجل، لأنه يتكلم عنهم وهم حضورٌ سامعون لقوله، أو لعلهم صاحوا وتكلم هو عنهم استشفاعًا بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى الله تعالى، فوافق قول عمر بن الخطاب: (كُنَّا نَسْتَشْفِعُ به).و (الإِكْلِيلِ): شبه عصابة مزين بالجوهر، ويقال له أيضًا: التاج. وقول البخاري في بَاب رَفْعِ النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الإِمَامِ: و (قَالَ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ) فذكر الحديث، رواه أبو نعيم الحافظ فقال: حَدَّثَنا أبو أحمد محمد بن أحمد، حَدَّثَنا موسى بن العباس وإسحاق الحربي قالا: حَدَّثَنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حَدَّثَنا أيوب بن سليمان، حَدَّثَنا أبو بكرٍ به. وقال: ذكره البخاري فقال: وقال أيوب بن سليمان بلا روايةٍ.
(1/267)
وقال الإسماعيلي: أَخْبَرَنَا موسى بن العباس، حَدَّثَنا أبو إسماعيل أيوب بن سليمان، وعنده: «حُبِسَ المسافرُ وانْقَطَعَ الطريقُ».وروينا عن البيهقي: أَخْبَرَنَا أبو القاسم عبد الخالق المؤذن، أَخْبَرَنَا أبو بكرٍ محمد بن أحمد بن خَنْب ببخارى، أَخْبَرَنَا أبو إسماعيل الترمذي، حَدَّثَنا أيوب بن سليمان، وفيه: «فأتى الرجلُ إلى رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ الله لَثِقَ المسافرُ ومُنِعَ الطريق». الحديث. ثم قال أخرجه البخاري في «الصحيح» فقال: وقال أيوب بن سليمان. قال ابن الجوزي: وعند البخاري (يَشِقَ المُسَافِرُ) أي: اشتد الضرر عليه. وقال الخطابي: يشق ليس بشيءٍ، وإنما هو لَثِقَ من اللثق وهو الوحل، يقال: لثق الطريق والثوب إذا أصابه ندى المطر، قال: ويحتمل أن يكون مشق بالميم، يريد أن الطريق صارت مزلَّةً زَلَقًا، ومنه مشق الخط، والميم والباء يتقاربان. وقال%ج 2 ص 64%ابن الأثير: قيل معناه تأخر، وقيل: حبس، وقيل: ملَّ، وقيل: ضَعُفَ. وعند ابن بطالٍ: وذكر الرواة في هذا الحديث (بَشِقَ المُسَافِرُ) بالباء الموحدة، ولم أجد له في اللغة معنًى، ووجدت في «النوادر» للحياني: (نَشِقَ) بالنون وكسر الشين بمعنى نشب، وعلى هذا يصح المعنى في قوله: مُنِعَ الطَّرِيقُ. انتهى كلامه. وفيه نظرٌ لما ذكره أبو محمد في «الكتاب الواعي» وهو من أكبر كتب اللغة في الحديث (بَشِقَ المُسَافِرُ) رواه المستملي في «صحيح البخاري» كذا يعني بالباء الموحدة، ومعنى بشق أي: ملَّ. قال: وفي «المُنَضَّد» لكراعٍ: بشق: تأخر، ولم يتقدم، قال: فمعنى بشق المسافر: ضَعُفَ عن السفر وعجز عنه لكثرة المطر، كضعف الباشق وعجزه عن الصيد، لأنه ينفر الصيد ولا يصيد. وفي «الكتاب المغيث» قال البخاري: بشق أي: ائتد.
(1/268)
قال أبو موسى في رده كلام الخطابي: إنما هو بشق، يقال: بشق الثوب، وبشكه قطعه في خفة فعلى هذا يكون بشق أي قطع به، وفي «العين» الباشق طائرٌ معروفٌ ولو اشتق منه فِعْل فقيل: بشق لكان جائزًا.========== في الأصل: (الذين). ضبطها في الأصل بفتح الطاء والصواب ما أثبت في المتن. قوله: «مَطَرًا ومَطْرًا، فالمطْر المصدر، والمطَر الاسم، وفيه لغةٌ أخرى مَطَرَتْ تَمْطَر مطرًا» تكرر في بداية الورقة 24/ب. كذا صورتها في الأصل وفي «المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث» لأبي موسى الأصفهاني (ص 162): «أي انسدَّ». (بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أَمْطَرَتْ) (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19]: المَطَرُ).روينا عن جماعةٍ من أشياخنا، عن ابن رواحٍ، عن ابن بَشْكُوَال، عن أبي عبد الله محمد بن عَتَّابٍ، عن أبي المطرف القنازعي، عن أبي الطيب الحريري قال: أَخْبَرَنَا أبو جعفر الطبري بجميع كتاب التفسير، قال: حَدَّثَنا محمد بن مثنى، حَدَّثَنا أبو صالحٍ، حَدَّثَنا معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباسٍ قال: الصَّيِّبُ: المطر. وحَدَّثَنِي محمد بن سعدٍ، حَدَّثَنِي سلمة، حَدَّثَنِي عمي، حَدَّثَنِي أبي، عن أبيه، عن ابن عباسٍ. وحَدَّثَنِي موسى، حَدَّثَنا عمرو، حَدَّثَنا أسباط، عن السُّدِّيِّ في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ. وعن مُرَّة، عن ابن مسعودٍ عن ناسٍ من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. قال: وحدثتُ عن المنجاب، حَدَّثَنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضحاك، عن ابن عباسٍ مثله. وفي روايته عن الأحمسي، حَدَّثَنا محمد بن عبيد، حَدَّثَنا هارون بن عنترة، عن أبيه، عنه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] قال: القَطْرُ. وعن عطاءٍ وقتادة، ومجاهدٍ والربيع بن أنس: الصيب: المطر. وقال عبد الرحمن بن زيدٍ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] قال: أو كغيثٍ من السماء.
(1/269)
وفي «تفسير الضحاك»: عن ابن عباسٍ جمع إسماعيل بن أبي الزناد الصَّيِّب: الرزق. وقال سفيان: الصَّيِّب: الذي فيه المطر. وقال غيره: صاب وأصاب يصوب%ج 2 ص 65%كأنه يعني ما روِّيناه عن أبي عبيدة معمر بن المثنى في كتاب «المجاز»: الصيب تقديره من الفعل سيِّد وقيِّمٌ وهو من صاب يصوب ينزل المطر، قال علقمة بن عبدة: كأنَّهُمُ صابَتْ عليهمْ سحابةٌ صَواعِقُها لِطَيرهنَّ دبيبُ فلا تَعْدِلي بَيْني وبينَ مُغَمَّرٍ سقَتكِ رَوايا المُزن حيث تَصوبُوقال رجل من عبد القيس يمدح بعض الملوك ولست لإنسيٍّ ولكن لِمَلْأَكٍ تنزَّلَ من جوِّ السماء يَصوبُوقال أبو إسحاق الزجاج: الصيب في اللغة المطرُ وكلُّ نازلٍ من علوٍّ إلى أسفل فقد صاب يصوب. وقال الطبري: صيِّبٌ فَيْعِلٌ، وهو في الأصل صَيْوِب ولكن الواو لما سبقها ياءٌ ساكنةٌ صُيِّرتا جميعًا ياء مشددة، وقال الفراء: هو صَوِبَ مثل نَيِل، وفي «المحكم» صاب المطرُ صوبًا وانصاب كلاهما انصب، ومطرٌ صوبٌ وصيِّبٌ وصيوبٌ وصابت السماء الأرض جادتها، وصاب الماء وصوَّبه صبَّه وأراقه، والتصوب الانحدار، والتصويب خلاف التصعيد والإصابة خلاف الإصعاد. وفي «التهذيب» قال شمر: قال بعضهم: الصيب الغيم ذو المطر. وقال المبرد: هو من صاب إذا قصد. وقال الخطابي: الصيب الماء الكثير الشديد.
(1/270)
1032 – حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى المَطَرَ، قَالَ: صَيِّبًا نَافِعًا» تَابَعَهُ القَاسِمُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ. هذه المتابعة ذكرها الدَّارَقُطْني في «الغرائب» عن المحاملي حَدَّثَنا حفص بن عمر، أخْبَرَنَا يحيى عن عبيد الله ولفظه: «صَيِّبًا هنيًّا». [خ¦1032] وقوله: (وَرَوَاهُ الأَوْزَاعِيُّ، وَعُقَيْلٌ، عَنْ نَافِعٍ) رواه البيهقي عن أبي الحسن العلوي، أخْبَرَنَا الفضل بن عبيدٍ أَخْبَرَنَا أبو حاتمٍ الرازي، حَدَّثَنا نعيم، حَدَّثَنا الوليد بن مسلم، حَدَّثَنا الأوزاعي، حدَّثَنِي نافعٌ فذكره بلفظ «اللهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا هَنِيًّا» ثم قال: قد ذكر الوليد سماع الأوزاعي من نافع، وكان يحيى بن معين يزعم أن الأوزاعي لم يسمع من نافعٍ مولى ابن عمر، قال ويشهد لقوله ما أَخْبَرَنَا أبو عبد الله%ج 2 ص 66%الحافظِ، حدَّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدَّثنا العباس بن الوليد بن مَزْيَد، حدَّثنا الأوزاعي، حدَّثنا رجل عن نافع أن القاسم بن محمد أخبره، فذكر هذا الحديث. وعند الدارقطني: قال البابِلْتي عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد الزُّبَيدي عن نافع. وقال عُقبة بن عَلقمة: عن الأوزاعي عن الزهري عن نافع قال، وهذا غير محفوظ. قال: ورواه عبد الرزاق عن عبد الله عن القاسم عن محمد عن عائشة. وقيل أيضًا: عن ابن المبارك عن عُبيد الله عن القاسم عن عائشة، ولا يصح. والصحيح الأول. وعند أبي داود: كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا رأى ناشِئًا في أُفُقِ السَّماءِ تَركَ العملَ وإن كان في صلاةٍ، ثم يقول: «اللَّهُمَّ إني أعوذُ بك مِن شرِّها»، فإن مُطِرَ قال: «اللَّهُم صَيَّبًا هَنيئًا».
(1/271)
وعند
النسائي: كان إذا مُطِرُوا قال: «اللهم اجعله سَيْبًا نافعًا».وعند ابن ماجه: إذا
رأى سحابًا مقبلًا من أفق من الآفاق، ترك ما هو فيه وإن كان في صلاته، حتى
يَستقبله، فيقول: «اللهمَّ إنا نعوذ بك من شر ما أُرْسِل به»، فإن أُمطِر قال:
«اللهم سَيْبًا نافعًا» مرتين أو ثلاثًا، وإن كشفه الله عز وجل ولم يُمْطَروا
حَمِد اللهَ على ذلك. وقد جاء في حديث أنس الذي بعدُ وهو من أفراد البخاري: «كانت
الريح الشديدة إذا هَبَّت عُرِف ذلك في وجهه صلَّى الله عليه وسلَّم».وفي الاستسقاء
لابن عساكر من طريقٍ ضعيفةٍ عن المطلب بن حنطب أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم
كان [يقول] عند المطر: «اللهم سُقْيا رحمةٍ، ولا سُقْيا عذابٍ ولا بلاء ولا هدم
ولا غرق، اللهم على الظِّراب ومَنابِتِ البحر، اللهم حَوَالَيْنا ولا علينا».قال
ابن قُرْقُول: ضبَطَه الأَصِيلي: «صَيْبًا» بالتخفيف، وفي رواية النسفي: «صاب
وأصاب».وفي حاشية الأَصِيلي: أظن الواو تَصَحَّفَتْ من الألف. وقال ابن التين:
«صَيْبًا» مُخَفَّف في رواية أبي الحسن. وفي رواية أبي ذرٍّ: مشدد على وزن فيعل.
وقال الخطابي: السَّيْب العطاء، والسَّيْب: مَجْرى الماء، والجمع سُيُوب، وقد ساب
يَسُوب إذا جرى. بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «نُصِرْتُ
بِالصَّبَا»
1035 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَن الحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
%ج 2 ص 67%
النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ
عَادٌ بِالدَّبُورِ». [خ¦1035]
بوَّب البيهقي لهذا الحديث: أيُّ ريحٍ يكون بها المطر؟
وقال الشافعي: أخبرني مَن لا أَتهِم: حدَّثنا عبد الله بن عُبيد الله عن محمد بن
عمرو أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «نُصرتُ بالصبا، وكانت عذابًا على مَن
كان قبلي» انتهى.
(1/272)
ونُصرتُه
صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوم الخندق، بَعَثَ الله تعالى الصَّبا ريِحًا باردةً
على المشركين في ليالٍ شاتيةٍ شديدةِ البرد، فأَطفأَتِ النيرانَ، وقطعَتِ الأوتادَ
والأطناب، وأَلقتَ المضارب والأخبية، فانهزموا بغير قتال ليلًا. قال تعالى: {إِذْ
جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}
[الأحزاب:9].
و (الصَّبَا): ذكر أبو حنيفة في كتاب «الأنواء» أن خالد بن صفوان قال: الرياح
أربع: الصبا، ومَهَبُّها فيما بين مَطْلِعَ الشُرْطَيْن إلى القطب، ومَهَبُّ
الشَّمال فيما بين القطب إلى مَسْقَط الشُّرْطَين، وما بين مسقط الشُّرْطَين إلى
القطب الأسفل مَهَبُّ الدَّبُور، وما بين القطب الأسفل إلى مطلع الشُّرْطَين
مَهَبُّ الجنوب.
وحُكِي عن جعفر بن سعد بن سَمُرَة أنه قال: الرياح سِتٌّ: القَبُول وهي الصبا
مَخْرَجُها ما بين المشرقين، وما بين المغربين الدَّبُور.
وزاد: النكباء ومحوة.
قال أبو يحيى محمد بن العلاء: كافة الناس على قول خالد.
وأما الأصمعي فقال: مُعْظَم الرياح أربع، وحَدَّهن بالبيت الحرام، فقال: القَبُول
التي تأتي من تِلقاء الكعبة - يريد التي تَستقبلها - وهي الصبا، والدبور التي تأتي
من دُبُر الكعبة المُشَرَّفة.
قال أبو حنيفة: القبول هي المشرقية، لأنها من قِبَل المشرق تجيء.
قال أبو صخر الهُذَلي:
إذا قلتُ هذا حين أَسْلُو يَهِيجُني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
والدبور: تُنَاوِحُها وهي المغربية، وهكذا هاتان الرِّيحان في جميع الأرض، فمَهبُّ
الصبا في كل بلد من قِبَل مَشْرِقه، ومهب الدبور من قبل مغربه.
وذُكِر لي عن ابن الأعرابي أنه قال: مهب الصبا من مطلع الثريا إلى بنات نعش، ومهب
الدبور من مسقط النسر الطائر إلى سهيل.
ويقال في تثنيتهما وجَمْعِهما وتصريف الأفعال
%ج 2 ص 68%
منهما: صَبا وصَبْوان وصَبْيان وصَبَوات وأَصباء، وقَبول وقبائل، ودَبُور و
دَبائر.
(1/273)
ويقال:
قَبِلَتِ الريحُ تقبُل قَبولًا، ودَبَرَت تدبُر دُبورًا.
وتقول: أقبلنا من القبول، وأصبينا من الصبا، وأدبرنا من الدَّبور، فنحن مُصْبون
ومُدْبِرون، ومَصْبُوُّون ومصبيون، ودبرنا فنحن مدبورون، والصبا ريح البرد،
والدبور ريح الصيف.
وذُكِر لي عن أبي عبيدة أنه قال: الصبا الإلقاح، والدبور للبلاء، وأهونه أن يكون
غُبارًا عاصفًا يقذي الأعين وهي أقلُّهن هبوبًا.
وفي «المحكم»: الصبا ريح تستقبل البيت، قيل: لأنها تحنّ إليه، والدبور التي تأتي
من خلفك إذا وقفتَ في القِبلة.
وقال أبو علي: ويكونان اسمًا وصفة، وتُجمَع الدَّبور على دُبُر.
وقال القزاز: الصبا تهب من مطلع الشمس.
[وقال] الجوهري: إذا استوى الليل والنهار، وهي تُسلي عن المكروب.
قال القزاز: وكتابتها بالألف؛ لقولهم: صبت الريح تصبو صبا؛ إذا هبت من هناك.
وفي التفسير: ريح الصيب هي التي حملت ريح يوسف قَبْل البشير إلى يعقوب، صلوات الله
عليهما وسلامه، فإليها يستريح كل محزون.
وقال الداودي: وقيل القبول لأنها كانت قبلة قبل الإسلام.
وقال ابن التين: وهذا غلط، والدبور هي الريح العقيم.
بَاب مَا قِيلَ فِي الزَّلَازِلِ وَالْآيَاتِ
(1/274)
1036 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حدَّثنا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ -وَهُوَ الْقَتْلُ- حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُم المَالُ فَيَفِيضَ». [خ¦1036] قوله: (يُقْبَضَ الْعِلْمُ) قال السَّفاقُسي: يعني أكثرُهُ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله».وقال المُهَلَّب: ظهور الزلازل والآيات وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة والإعلان بالمعاصي. روى ابن أبي شَيْبة عن حفص، عن لَيْث، عن شَهْر قال: زُلزِلتِ المدينة%ج 2 ص 69%في عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «إنَّ ربَكم يستعتبكم فأَعْتِبوه».ألا ترى إلى عمر بن الخطاب ? حين زُلزِلت المدينة في أيامه فقال: «يا أهل المدينة ما أسرعَ ما أحدثتُم، والله لئن عادت لأَخرجَنَّ من بين أظهركم»، فخشي أن تصيبه العقوبة معهم، كما قيل لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أنهلَكُ وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كَثُر الخبث، ويبعث الله الصالحين على نياتهم».وقال ابن المنذر: اختُلِف في الصلاة عند الزلزلة وسائر الآيات، فقالت طائفة: يصلي عندها كما يصلي عند الكسوف. وروي عن ابن عباس أنه صلَّى في الزلزلة بالبصرة. وقال ابن مسعود: إذا سمعتم هذا من السماء فافزعوا إلى الصلاة. وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. وكان مالك والشافعي لا يريان ذلك. وقال الكوفيون: الصلاة في ذلك حسَنٌ.
(1/275)
وأما تَقَارب الزَّمَان: فزعم ابن الجوزي أن فيه أقوالًا أربعة: أحدها: أنه قُربُ القيامة، ثم المعنى إذا قَرُبَت القيامة كان من شرطها الشحُّ والهرْجُ. والثاني: أنه قصر مدة الأزمنة عما جرت به العادة، كما جاء: «حتى تكون السَّنَةُ كالشهر، والشهرُ كالجمعة، والجمعةُ كاليوم».والثالث: أنه قِصَر الأعمار بقلة البركة فيها. والرابع: تقارب أحوال الناس في غلبة الفساد عليهم، ويكون المعنى بتقارب الزمان: أي تتقارب صفاتهم في القبائح، ولهذا ذكر على أَثَره الهرْج والشح. وذكر ابن التين أن معنى ذلك: قُرب الآيات بعضها من بعض. وفي «حواشي المنذري»: قيل: معناه تطيب تلك الأيام حتى لا يَكادُ تُستطال؛ بل تقصر. قال: وقيل على ظاهره من قصر مُدَدها. وقيل: تقارب أحوال أهله في ملة الدين حتى لا يكون فيهم مَن يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله. قال الطحاوي: فقد يكون معناه في ترك طلب العلم خاصة. وأما (الْهَرْج): فذُكِرَ في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله وما الهرْج؟ فقال «القتل».وذكر صاحب «العين» فيما ذكره ابن التَّيَّاني أنه مثال كعب القتال والاختلاط، ورأيتهم يتهارجون؛ أي: يتفاسدون. وقال يعقوب: الهرْج القتل. قال ابن قيس الرُّقَيَّات:%ج 2 ص 70%ليتَ شعري أأولُ الهرْجِ هذا أم زمانٌ من فتنةٍ غيرَ هَرْجٍوقال الزُّبَيْدي: قال ابن دُريْد: الهرج الفتنة في آخر الزمان. قال: ورُوِي: «أمام الساعة هرج»، وأصله الإكثار من الشيء. وفي «المحكم»: الهرج شدة القتل وكثرته، والهرج كثرة الكذب وكثرة النوم، والهرج شيء تراه في النوم، وليس بصادق. وفيض المال: كثرته حتى يَفْضُل منه بأيدي مُلَّاكه ما لا حاجة لهم به، وقيل: بل ينتشر في الناس ويعمهم، وهو الأظهر.========== في نص المخطوط: «في»، وفي آخر الصفحة السابقة في الربط بين الصفحات: «على». كذا في الأصل، وفي التوضيح: «لعب»، ونص العين (3/ 388): «الهَرْجُ: القِتالُ والاختلاطُ».
(1/276)
1037
- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدَّثنا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ،
حدَّثنا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ
لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا» قَالَ: قَالُوا: وَفِي نَجْدِنَا؟ قَالَ:
قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا» قَالَ: قَالُوا:
«وَفِي نَجْدِنَا» قَالَ: قَالَ: «هُنَالِكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ، وَبِهَا
يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ». [خ¦1037]
خرَّجه الترمذي من حديث أزهر السمان مرفوعًا، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا
الوجه من حديث ابن عون.
وروي هذا الحديث أيضًا عن سالم عن أبيه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقال أبو عبد الله بن أبي نصر الحُمَيْدي: اختُلِف على ابن عون فيه فرُوِي عنه
مسنَدًا، ورُوِيَ عنه موقوفًا على ابن عمر من قوله، والخلاف إنما وقع من حسين بن
حسين فإنه هو الذي روى الوقف، وأما أزهر وعبيد الله بن عبد الله بن عون فروياه عن
ابن عون عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فذكر الحديث.
وفي رواية: «ذَكر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم» وذَكر الحديث.
وقال ابن التين: قال الشيخ أبو الحسن: سقط من سنده ابن عمر عن النبي صلَّى الله
عليه وسلَّم، وهذا لفظ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأن مثل هذا لا يُدرَك
بالرأي.
وخرَّجه الإسماعيلي مسندًا، وفيه: «فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال: أظنه وفي
نجدنا».
قال الداودي: وإنما لم يقل في نجدنا لأنه لا يدعو بما سبق في علم الله خلافُه.
قال ابن هشام في «التِّيجان»: هو اسم أعجمي من لغة بني حام، وتفسيره بالعربي: خيرٌ
طيبٌ.
وقال أبو عبيد البكري: مهموز الألف، وقد لا يُهمَز.
قيل: إنه سُمِّي بشامات هناك حمْر وسود، ولم يدخلها سام بن نوح قط، كما قال بعض
الناس: إنه
%ج 2 ص 71%
(1/277)
أول
مَن اختطها فسُميت به، واسمه شام بالشين فعُرِّب فقيل سام بالسين المهملة، وكانت
العرب يقولون مَن خرج إلى الشام نقص عمره وقتله نعيم الشام. قاله أبو عبيد، قال:
وأنشدنا ثعلب:
يقولون: إن الشأم يقتل أهله فمَن لي إن لم آته بخلود
وفي «المحكم»: الشأم بلاد عن مشأمة القِبلة.
وأما قول الشاعر:
أزمان سلمى لا يرى مثلَها الراؤون في شأم ولا في عراق
إنما نكَّره لأنه جعل كل جزء منه شامًا، كما احتاج إلى تنكير العراق فجعل كل جزء
منه عراقًا.
وهي الشام، والنسب إليها: شاميٌّ وشامٍ، وأشاموا القومُ: أتوا الشام أو ذهبوا
إليها.
وقال القزَّاز: فيها لغتان شام وشآم.
وقال الجوهري يُذَكَّر ويؤنث ولا يقل شام، وما جاء في ضرورة الشعر فمحمول على أنه
اقتصر من النسبة على ذكر البلد.
وذكر الكلبي في كتاب «البلدان» تأليفه عن الشرقي: إنما سُمِيَتْ بسام بن نوح لأنه
أول مَن نزلها.
قال الكلبي: ولم ينزلها سام قط.
قال: ولما أُخرِج الناس من بابل أخذ بعضهم يُمنةً فسميت اليمن، وتشاءم آخرون فسميت
الشام، وكانت الشام يقال لها أرض كنعان.
قال: وكان مالخ بن غابر هو الذي قسم الأرض بين بني نوح صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو القاسم الزجاجي في كلامه على «الزاهر»: سميت بذلك لكثرة قراها وتداني
بعضها من بعض فشبهت بالشامات، وقال أهل الأثر: سميت بذلك لأن قومًا من كنعان بن
حام خرجوا عند التفرق فتشاءموا إليها؛ أي أخذوا ذات الشأم. انتهى.
وأنشد بعضهم عن امرئ القيس:
فما مَلك العراق على المعلى بمقتدر ولا ملك الشآمي
وزعم أن الشآم لغة في الشام، ورَدَّ ذلك غير واحد، وأن صواب إنشاده: «ولا المَلِك
الشآمي» يعني المنسوب إلى الشام، واسمه الحارث بن أبي شَمِر.
وقال الرشاطي: قال قوم: أصله في الكعبة؛ لأن لها بابها يستقبل المطلع، فمن قابل
طلوع الشمس كانت اليمن عن يمينه في شق الجنوب والشام عن يده الشومى في شق الشمال.
(1/278)
وقال
محمد بن يزيد المُبَرد: قول العرب ذهبتُ الشام
%ج 2 ص 72%
إنما جاز، ولم يَجُز ذهبْتُ العراق لأن الشام مبهم؛ أي ذهبتُ شامةَ الكعبة، وهذا
خلاف مذهب سيبويه؛ لأنه يقول: إن هذا شاذ خارجٌ عن بابه لأنه اسم وُضِع بعينه.
وقال أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي في كتابه «اشتقاق أسماء البلدان»:
وقال قوم سميت شامًا من شَوْم الإبل وهي سودها.
وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر: قال ابن المُقَفَّع: سميت الشام بسام بن نوح صلى
الله عليه وسلم وسام، اسمه بالسريانية: شام، وبالعبرانية: شيم.
قال ابن عساكر: وقيل سميت شامًا لأنها عن شمال الأرض، وقال بعض الرواة إن اسم
الشام أولًا سورية، وكانت أرضَ بني إسرائيل، قُسِّمَت على اثني عشر سهمًا فصار
لسبط منهم مدينة شامرين، وهي من أرض فلسطين فصار إليها متجر العرب في ذلك الدهر،
ومنها كانت مِيرَتهم فسَمَّوا الشام بشامرين، ثم حذفوا فقالوا الشام.
وقال ابن قُرْقُول: يقال مُسَهَّلًا ومهموزًا.
وقال أبو الحسين بن سَرَّاح: مهموز ممدود، وأباه أكثرُهم إلا في النسب، أعني فتح
الهمزة. كما اختُلِف في إثبات الياء مع الهمزة الممدودة فأجازه سيبويه ومنعَه
غيره.
وقال ابن التين: يذَكَّر ويؤنث.
(1/279)
بَاب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شُكْرَكُمْ. هذا التعليق ذكره عبد بن حُمَيْد الكَشِّي في «تفسيره» فقال: حدَّثنا إبراهيم عن أبيه عن عكرمة عن مولاه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} قال: تجعلون شكركم. وحدثني يحيى بن عبد الحميد عن ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: الاستسقاء بالأنواء. قال: وحدَّثنا إبراهيم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال يومًا لأصحابه: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إنه يقول: إن الذين يقولون: نُسقَى بنجم كذا وكذا فقد كفر بالله تعالى وآمن بذلك النجم، والذين يقولون: سُقينا بالله فقد آمن بالله وكفر بالنجم».وفي تفسير ابن عباس جمعَ إسماعيلَ بن أبي زياد الشامي وروايتَه عن الضحاك عنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: وذلك أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مرَّ على رجل وهو يَستقي بقَدَح له ويصبه في قِرْبَة من ماء السماء،%ج 2 ص 73%وهو يقول: سُقينا بِنَوْء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} يعني المطر، حيث يقولون: سُقينا بنوء كذا وكذا. وفي «صحيح مسلم» من حديث ابن عباس قال: مُطِر الناس على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أصبح من الناس شاكرًا ومنهم كافرًا». قالوا: هذه رحمة وضعها الله تعالى. وقال بعضهم: لقد صدَق نَوْء كذا، فنزلت هذه الآيات: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}.
(1/280)
وذكر أبو العباس في «مقامات التنزيل» عن الكلبي: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عطش أصحابُه فاستسقوه فقال: «لعلكم إن سُقيتم قلتم سُقينا بنوء كذا وكذا؟» قالوا: والله ما هو بِحِين الأنواء، فدعا اللهَ فَمُطِروا، فمر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم برجل يغرف في قَدح ويقول: مُطِرنا بنوء كذا وكذا. فنزلت. قال: وأما السُّدِّي فروى عنه الحكم قال: أصابت قريشًا سنةً شديدة فسألوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يستسقي، فدعا فأُمطِروا، فقال: بعضهم مُطرنا بنوء كذا وكذا. فنزلت الآية. قال السُّدِّي: وحدثني عبدُ خيرٍ، عن علي أنه كان يقرؤها: «وتجعلون شُكركم».وقال عبد بن حميد: حدَّثنا عمر بن سعد وقَبيصة عن سفيان عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن قال: كان علي يقرأ: «وتجعلون شُكركم أنكم تكذبون».وحدثنا أبو نُعيم، حدَّثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قرأ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] قال: «تجعلون شكركم، تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا».وروينا في «المعاني» للفراء: جاء في الأثر: «تجعلون شكركم»، وهو في العربية حسن أن تقول: جعلتَ زيارتي إياك أنك استخففتَ بي، فيكون المعنى: جعلت ثواب زيارتي الجفاء، كذلك: جعلتم شكر الرزق التكذيب. وفي «المعاني» للزجاج: وقُرِئتْ: «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون»، ولا ينبغي أن يقرأ بها لخلاف المصحف، وقد قالوا: إن تفسير رزقكم ها هنا الشكر. ورُوِي: قد رزقني شكري، وليس رزقي في معنى شكري، فصحيح إنما الكلام في قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يدل على معنى: وتجعلون رزقكم أن تقولوا مُطرنا بنوء كذا فتَكذبون في ذلك. وفي «تفسير أبي القاسم الجوزي»: المعنى وتجعلون نصيبكم من القرآن أنكم تكذبون. حديث زيد بن خالد [1038] تقدم.
(1/281)
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى».هذا التعليق تقدم ذِكْره في باب سؤال جبريل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإيمان والإسلام، رواه عن مسدد، حدَّثنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا أبو حيان، عن أبي زرعة عنه.1039 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مِفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ». [خ¦1039] وفي لفظ: «مفاتح الغيب»، وفي لفظ: ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34].ولمَّا رواه النسائي نَسَب سفيان، فقال: الثوري، وكذا ذكره أصحاب الأطراف. ولمَّا رواه أبو نعيم الحافظ عن الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدَّثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثم قال: رواه يعني البخاري عن الفريابي. وهو ترشيح لقول مَن قال: سفيان هو الثوري، لتفرد الفريابي بالرواية عنه دون ابن عيينة. وفي «مسند أبي داود الطيالسي»: حدَّثنا ابن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه أنه قال: أوتي نبيكم مفاتيح الغيب إلا خمس، ثم تلا هذه الآية إلى آخرها. وذكر محمد بن جرير الطبري أن المفاتيح جمع مِفْتاح، قال: والمفاتح جمع مَفْتَح، وهما في الأصل: كل ما يُتَوسَّل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها. وقال الزَّجَّاج: مَن ادَّعى أنه يعلم شيئًا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن العظيم لأنه قد خالفه. وفي «النوادر» لأبي مِسْحَل: بابٌ فُتِح إذا كان سهلَ الإذن.
(1/282)
و
(الغَيب): ما غاب عن الخلق، وسواء أكان مُحَصَّلًا في القلوب أو غير محصل، ولا غيب
عند الله عز وجل. وذكر في «البستان» أن أبا جعفر المنصور رأى في نومه صورة ملَك أو
غيرِه وسأله عن مدة بقائه فأشار بأصابعه الخمس، فعبَّره المعبرون بخمسة أيام،
وبعضهم بغير ذلك، فسأل أبا حنيفة فقال هذه إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]. الآية، فكأنه قال: هذا من العلوم التي لا
يعلمها إلاالله جلَّ وعزَّ، فكان كما قال. وذكر بعضهم أن الرائي الرشيد والمعبِّر
أبو يوسف. أَبْوَابُ الْكُسُوفِالصَّلَاةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ 1040 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حدَّثنا خَالِدٌ، عَنْ يُونُسَ، عَن الحَسَنِ،
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم
فَانْكَسَفَت الشَّمْسُ، فَقَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ،
فَدَخَلْنَا، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى انْجَلَت الشَّمْسُ، وقَالَ:
«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يُكَسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ،
فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا وَادْعُوا، حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ».
[خ¦1040]
وفي رواية حَمَّاد بن زيد، عن يونس [1048]: «وَلَكِن يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا
عِبَادَهُ».
قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ الْوَارِثِ وَشُعْبَةُ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يُونُسَ: «يُخَوِّفُ اللّهُ بِهِمَا
عِبَادَهُ».
وَتَابَعَهُ أَشْعَثُ عَن الحَسَنِ، وَتَابَعَهُ مُوسَى عَنْ مُبَارَكٍ عَن
الحَسَنِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرَةَ عَن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه
وسلَّم: «يُخَوِّفُ اللّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ».
وفي موضع آخر:
1063 - وَذَلِكَ أَنَّ ابْنًا لِلنَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مَاتَ يُقَالُ
لَهُ: إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ. [خ¦1063]
(1/283)
وقال
في: بَاب كُسُوفِ الْقَمَرِ
1062 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حدَّثنا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
يُونُسَ عَنْ، الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: انْكَسَفَت الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. [خ¦1062] قال
الإسماعيلي: هذا الحديث لا يدخل في هذا الباب، ثم ذكره من طريق هُشَيْم: أخبرنا يونس
عن الحسن: انكسفت الشمس والقمر. قال: وذكره البخاري عن عبد الوارث، وليس فيه إلا
ما في سائر الأحاديث أن الشمس والقمر آيتان الحديث. والذي ذكرناه عن هشيم أَدْخَلُ
في هذا الباب؛ لأن فيه الشمسَ والقمرَ في رواية بعضهم. قال: ورواه ابن عُلَيَّة عن
يونس عن الحسن، وفيه: الشمس والقمر، وفيه: «إذا رأيتم منها شيئًا فصلوا».قال
الإسماعيلي: قوله: «منها شيئًا» أَدْخَلُ في هذا الباب من قوله «فإذا كان
ذلك».ورواه البيهقي من طريق حَمَّاد بن سلمة عن الحسن بلفظ: «الشمس والقمر».وقال:
هكذا رواه جماعة من الأئمة عن بِشْر بن موسى بهذا اللفظ؛ يعني عن السَّيْلَحِيني،
عن حماد بن سلمة، ومن طريق خالد بن الحارث عن أشعث عن الحسن، وفيه%ج 2 ص 76%:
«الشمس والقمر».وفي بعض نُسَخ البخاري: حدَّثنا محمود حدَّثنا سعيد بن عامر عن
نوفل، فأَسقط شعبة بين سعيد ويونس، وهو غلط لأنه لا بد من شعبة، ذكر ذلك الطَرْقي
وغيره، وإن كان شيخنا المزي ذكر أن سعيد بن عامر روى عن يونس بن عبيد ... .وعند
أبي داود بسند لا بأس به: «أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا جاءه أمر سرور
أو بُشِّر به خر ساجدًا لله تعالى».وعند الدارقطني بسند ضعيف عن أبي جُحَيْفَة:
«أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جاءه بشير فَخَرَّ ساجدًا لله تعالى».قول
البخاري: (تَابَعَهُ مُوسَى عَنْ مُبَارَكٍ) أراد بها تنصيص الحسن على سماعه من
أبي بكرة، فإن ابن أبي خيثمة ذكر في «تاريخه الكبير» عن يحيى أنه لم يسمع منه.
(1/284)
وفي كتاب «التعديل والتجريح» عن الدارقطني: الحسن عن أبي بكرة مرسلٌ. وقال أبو الوليد في كتاب «الجرح والتعديل»: أخرج البخاري فيه الحسن سمعتُ أبا بكرة. فتأوله الدارقطني وغيره من الحفاظ على أنه الحسن بن علي بن أبي طالب؛ لأن البصري لم يسمع عندهم من أبي بكرة. والصحيح أن الحسن في هذا الحديث هو ابن علي بن أبي طالب، وكذا قاله الداودي فيما ذكره ابن بَطال. وطريق مبارك خرجها الطبراني عن العباس بن الفضل الأسفاطي، قال: حدَّثنا أبو الوليد الطيالسي، حدَّثنا مبارك بن فضالة عن الحسن فذكره. وموسى الذي ذكره البخاري هو موسى بن داود الضَّبَّيُّ فيما ذكره شيخنا أبو محمد التوني في الحواشي. وأبى ذلك الحافظ أبو الحجاج فزعم أن البخاري علَّق على التَّبُوذَكي عن مبارك، ولم يذكر للضبي في البخاري أصلًا ولا تعليقًا فينظر. والله تعالى أعلم. وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدُ الْوَارِثِ: يُخَوِّف) يعني بذلك ما خرَّجه في كسوف القمر عن أبي معمر عن عبد الوارث. وأما أبو عبد الرحمن النسائي فقال: حدَّثنا عمران بن موسى، حدَّثنا عبد الوارث، حدَّثنا يونس فذكر الحديث، وفيه: «يخوف الله بهما عباده»، وفيه «فصلى ركعتين كما تُصَلون».وقال البيهقي: حدَّثنا أبو بكر أحمد بن أحمد، حدَّثنا أبو العباس محمد بن أحمد النيسابوري، حدَّثنا محمد بن نُعيم، حدَّثنا عمران بن موسى، فذكره كما عند النسائي. وقال: رواه البخاري عن أبي معمر عن عبد الوارث، إلا أن أبا مَعْمَر لم يذكر قوله: «يخوف الله بهما عباده»، وقد ذكره جماعة. وقال%ج 2 ص 77%الإسماعيلي: وقد جاء بلفظ عبد الوارث إسماعيلُ ابن عُليَّة، ثم ذكر سنده إلى إسماعيل ابن علية، عن يونس عن الحسن الحديث، وفيه: «يخوف الله بهما عباده» قاله. ورواه يزيد بن زُرَيْع عن يونس مثله، كذا قال المَنيعي إثَر حديث ابن علية هذا. انتهى.
(1/285)
حديث يزيد بن زريع خرَّجه ابن خزيمة في «صحيحه» فقال: حدَّثنا أحمد بن المِقدام حدَّثنا ابن زريع، حدَّثنا يونس وفيه «يخوف الله بهما عباده».ورواه أيضًا البَزَّار عن عمرو بن علي عنه مثله. وقوله: (وشُعْبَة) يريد بذلك ما خرَّجه في كسوف القمر، حدَّثنا محمود بن غيلان، حدَّثنا سعيد بن عامر عن شعبة به، وسيأتي. وقوله: (وَخَالِدٌ) يعني المذكور عنده أول الباب. وقوله: (وحمَّادُ بنُ سَلَمةَ) روى الطبراني في «المعجم الكبير» عن علي بن عبد العزيز قال: حدَّثنا حَجاج بن مِنهال، حدَّثنا حماد بن سلمة عن يونس. والبيهقي من طريق أبي زكريا السَّيْلحيني، عن حماد بن سلمة عن يونس، فذكره. وقوله: (تَابَعَهُ أَشْعَثُ عَن الحَسَنِ) يعني تابع مباركَ بن فُضَالة عن الحسن بذكر التخويف، رواه النسائي عن الفَلَّاس عن خالد بن الحارث عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة، من حديث خالد بن الحارث عن أشعث عن الحسن: صلى ركعتين مثل صلاتكم هذه في كسوف الشمس والقمر، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وعند الدارقطني من حديث محمد بن محبوب، حدَّثنا محمد بن دينار الطاحي، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة يرفعه: «أن الله تعالى إذا تجلَّى لشيءٍ من خلقِه خَشَعَ له، فإذا كُسِف واحد منهما فصلوا وادعوا».قال أبو الفرج: في الكسوف سبع فوائد: الأول: ظهور التصرف في الشمس والقمر. الثاني: تبيين قُبْح شأن مَن يعبدهما. الثالث: إزعاج القلوب الساكنة بالغفلة عن مسكن الذهول. الرابع: ليُري الناس أنموذج ما سيُجرى في القيامة من قوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:9].الخامس: أنهما يؤخذان على حال التمام فيُركسان ثم يَلطُف بهما فيُعادان إلى ما كانا عليه، فيُشار بذلك إلى خوف المكر ورجاء العفو. السادس: أن يفعل بهما صورة عقاب لمَن لا ذنب له.
(1/286)
السابع: أن الصلوات المفروضات عند كثير من الخلق عادة لا انزعاج لهم فيها ولا وجود هَيْبة، فأتى بهذه الآية وسُنت لها الصلوات%ج 2 ص 78%ليفعلوا صلاةً على انزعاج وهيبة. وفي «شرح ابن بطال»: قال القاضي أبو الطيب: أليس رؤية الأهلة وحدوث الحر والبرد وكل ما جرت العادة بحدوثه من آيات الله تعالى فما معنى قوله في الكسوفين أنهما آيتان؟ ويجاب: أن هذه الحوادث آيات دالة على وجوده جلَّ وعزَّ وقِدَمه، وخَصَّ الكسوفين لإخباره صلَّى الله عليه وسلَّم لهم عن ربِّه جلَّ وعزَّ أن القيامة تقوم وهما منكوسان وذاهبا النور، فلما أعلمهم بذلك أمرهم عند رؤية الكسوف بالصلاة والتوبة خوفًا أن يكون الكسوف لقيام الساعة لِيعتدُّوا لها. قال المُهَلَّب: يحتمل أن يكون هذا قبل أن يُعْلِمه الله تعالى بأشراط الساعة. وقوله: (فَصَلُّوا وادْعُوا) تمسك به مَن جوَّز صلاة الكسوفين في بيته. وقوله: (فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَينِ) يَستدل به مَن يقول: إن صلاة الكسوف ركعتين كصلاة النافلة، وهو أبو حنيفة وأصحابه. ويستدلون أيضًا بما في «صحيح ابن خزيمة» عن ابن مسعود: «انكسفت الشمس فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فصلى ركعتين».وعن عبد الرحمن بن سَمُرة عند مسلم: «انخسفت الشمس فانطلقتُ فإذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قائم يُسَبِّح ويكبِّر ويَحمد ويدعو حتى انجلت الشمس وقرأ سورتين وركع ركعتين».ولفظ الحاكم: «وقرأ سورتين في ركعتين» وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وعند النسائي: «فصلى ركعتين وأربع سجدات».وعن سمرة بن جُنْدُب قال: «لما كانت الشمس على قدر رمحين أو ثلاثة من عين الناظرين اسودَّتْ حتى آضَتْ كأنها تنُّومَةٌ فجئت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فتقدم فصلى بنا كأطول ما قام في صلاة قط، لا نسمع له صوتًا، ثم ركع كأطول ما ركع بنا في صلاة قط، لا نسمع صوته، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك فذكر خطبة طويلة».
(1/287)
وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الترمذي والطُّوسِي: حسن صحيح، انتهى. ثعلبة بن عمار راويه ليس من شرطهما، إنما خرَّج البخاري له في «أفعال العباد» وأصحاب السنن الأربعة، فينظر. وعن النعمان بن بشير قال: «انكسفت الشمس فصلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ركعتين ركعتين حتى انجلت». وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.%ج 2 ص 79%وعند النسائي: «فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة».وفي لفظ: «أن نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا يركع ويسجد».وعند أحمد: «فصلى ركعتين ثم يسأل، ثم يصلي ركعتين ثم يسأل».وعند أبي داود: «فجعل يصلي ركعتين ركعتين ثم يسأل عنها حتى انجلت الشمس».قال ابن حزم: فإن قيل: إن أبا قِلابة قد روى هذا الخبر عن رجل عن قَبيصة، قلنا نعم. فكان ماذا؟ أبو قلابة قد أدرك النعمان فروى هذا الخبر عنه، ورواه أيضًا عن آخر فحدث بكِلْتَا روايتيه، فلا وجه للتعليل بمثل هذا أصلًا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كَسَفَت الشمس على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقام فأطال القيام حتى قيل: لا يركع، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع رأسه فأطال القيام حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد». وقال: صحيح غريب. وقال البيهقي: فهذا الراوي حفظ عن ابن عمرو طول السجود، ولم يحفظ ركعتين في ركعة، كما حفظ أبو سلمة بن عبد الرحمن. ثم ذكر لعطاء متابعًا لفظاً من حديثه عن أبي عامر العَقْدي، حدَّثنا سفيان، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، وعطاء بن السائب، عن أبيه. فذكره. وخرجه النسائي وأبو داود عن أبيه عنه من حديث عطاء بن السائب. ومُطْلَقُ حديث أبي موسى: «فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله» الحديث، وسيأتي.
(1/288)
ومن حديث أبي إسحاق عن هشام وعبد الله بن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن عروة عن عائشة فذكرت الكسوف قالت: «فقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فصلى بالناس، فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة، ثم سجد سجدتين، ثم قام فأطال القراءة، فحزرت قراءته فرأيت أنه سورة آل عمران». قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وعن موسى بن إسماعيل، حدَّثنا وُهَيْب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن قَبِيصَة الهِلالي، قال: كَسَفَتِ الشمس فخرج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين، أطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت الشمس، فقال: «إنما هذه الآيات يُخَوِّف اللهُ بهما عباده، فإذا رأيتموها فَصَلُّوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة».وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. والذي عندي أنهما عللاه%ج 2 ص 80%بحديث رَيْحان بن سعيد عن عَبَّاد بن منصور عن أيوب عن أبي قِلابة عن هلال بن عامر عن قبيصة. وحديث يرويه موسى بن إسماعيل عن وُهَيْب لا يَعْتَلُّ بحديث رَيْحان وعَبَّاد، والمصير إلى حديث ابن عباس وعائشة من رواية مالك أَوْلى لأنها أصح ما رُوي في هذا الباب من جهة الإسناد، ولأن فيهما زيادة يجب قَبولها. فإن قيل: إن طاوسًا روى عن ابن عباس ثلاث ركعات في كل ركعة، وعُبيد بن عُمير روى عن عائشة بمثل ذلك، وروى عطاء عن جابر ست ركعات في أربع سجدات، وأُبي بن كعب روى عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عشر ركعات في ركعتين، فلِمَ لم يكن المصير عندك إلى زيادة هؤلاء؟ قيل له: إنما تُقبَل الزيادة من الحافظ إذا ثبتت عنه، وكان أحفظ وأتقن ممن قصَّر أو مثله في الحفظ، وأما إذا كانت من غير حافظ ولا مُتقِنٍ فلا يُلتَفت إليها، وحديث طاوس مضطرَب. وقال ابن جرير الطبري في «تهذيب الآثار» وإسحاق بن راهويه في «مسنده»: صلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة الكسوف غيرَ مرة وفي غير سنة.
(1/289)
قال البيهقي: وبه قال ابن راهويه وابن خزيمة وأبو بكر بن إسحاق والخطابي واستحسنه ابن المنذر. وقال ابن قدامة: مقتضى مذهب أحمد أنه يجوز أن تُصلَّى صلاة الكسوف على كل صفة. قال أحمد: روي عن ابن عباس وعائشة أربع ركعات وأربع سجدات، وأما علي فيقول ست ركعات وأربع سجدات، وكذلك قال حُذيفة. قال ابن قدامة: وهذا قول إسحاق وابن المنذر، وبعض أهل العلم قالوا: يجوز على كل صفة صح أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فعلها، وقد رُوي عن عائشة وابن عباس: صلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ست ركعات وأربع سجدات. قال ابن عبد البر: وقال الطوسي وأبو عيسى: حديث غريب حسن صحيح. وقال أبو عمر: وقال أبو حنيفة والثوري والحسن بن حي صلاة الكسوف كهيئة صلاتنا ركعتان نحو صلاة الصبح ثم الدعاء حتى تنجلي، وهو قول النخعي. ورُوِيَ نحو قولهم عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من حديث أبي بكرة وسمرة عبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير وقبيصة الهلالي وعبد الرحمن بن سمرة، وهي آثار مشهورة صحاح، ومن أحسنها حديث النعمان إلا أن المصير إلى زيادة مَن حفظ أَوْلى. فإن قيل: قد رُوي في صلاة الكسوف%ج 2 ص 81%عشر ركعات في ركعة، وثمان في ركعة، وست في ركعة، وأربع في ركعة، فهلا صرت إلى زيادة مَن زاد؟ قلنا: تلك آثار معلولة ضعيفة. وفي موضع آخر: والأحاديث يعني التي صار إليها الكوفيون في بعضها اضطراب. وعند أبي داود بسند صحيح: «فصلى ركعتين ركعتين حتى انجلت».وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح عن السائب بن مالك والد عطاء: «أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في كسوف القمر ركعتين».وفي «علل ابن أبي حاتم»: السائب ليست له صُحبة، والصحيح إرساله. ورواه بعضهم عن أبي إسحاق عن السائب بن مالك عن ابن عمرو عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم. وعن إبراهيم عند أبي بكر بسند صحيح: كانوا يقولون: إذا كان ذلك فصلوا كصلاتكم حتى تنجلي. ==
ج4 التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
وحدَّثنا وَكيع، حدَّثنا إسحاق بن عثمان الكلابي عن أبي أيوب الهجَري قال: انكسفت الشمس بالبصرة وابنُ عباس أميرٌ عليها، فقام يصلي بالناس فقرأ فأطال القراءة، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه ثم سجد ثم فعل ذلك في الثانية، فلما فرغ قال: هكذا صلاة الآيات، قال: فقلت: بأي شيء قرأ فيهما؟ قال: بالبقرة وآل عمران. وحدَّثنا وكيع، حدَّثنا يزيد بن إبراهيم عن الحسن: «أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في كسوفٍ ركعتين فقرأ في إحداهما بالنجم».وفي «المحلى»: أخذ بهذا طائفة من السلف؛ منهم عبد الله بن الزبير صلى في الكسوف ركعتين كسائر الصلوات. فإن قيل: قد خطَّأه في ذلك أخوه عروة؟ قلنا: عروة أحق بالخطأ من عبد الله الصاحب الذي عمل بعلمٍ، وعروة أنكرَ ما لم يعلم، وذهب ابن حزم إلى العمل بما صح من الأحاديث فيها. ونحا نحوه ابن عبد البر، فقال: وإنما يصير كل عالم إلى ما روى عن شيوخه ورأى عليه أهل بلده، وقد يجوز أن يكون ذلك اختلاف إباحة وتوسعة، فقد رُوي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم: صلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ست ركعات وأربع سجدات. وقال ابن عبد البر: وذلك أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلى صلاة الكسوف مرارًا، فحكى كلٌّ ما رأى، وكلهم صادق كالنجوم مَن اقتدى بهم اهتدى، انتهى. البيهقي يذهب إلى أن هذه الأحاديث كلها ترجع إلى صلاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في كسوف الشمس يوم مات إبراهيم.%ج 2 ص 82%وقد رُوي في حديث كل واحد منهم ما يدل على ذلك، والذي ذهب إليه أولئك الأئمة توفيق بين الأحاديث. وإذا عمل ما قاله البيهقي حصل بينها خلافٌ يلزم منه سقوط بعضها واطِّراحه، ومما يدل على وَهْن قوله ما روته عائشة أم المؤمنين عند النسائي بسند صحيح: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في كسوفٍ في صُفَّة زمزم، يعني بمكة شرَّفها الله تعالى».
(1/291)
وأكثر الأحاديث كانت بالمدينة، فدل ذلك على التعدد، وكانت وفاة إبراهيم يوم الثلاثاء لِعَشر خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر ودُفِن بالبقيع. قال البيهقي: وكسفت الشمس أيضًا يوم قُتل الحسين بن علي، وكان قتله يوم عاشوراء. وفي ذلك دلالة على جواز اجتماع كسوف الشمس والعيد. وقوله: (فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُا فَصَلُّوا وَادْعُوا، حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ) قال ابن بطال: استدل به مَن يقول أنه يُطَوِّل صلاة الكسوف إلى انجلاء الشمس، وأنه لا يقطع صلاة الكسوف حتى تنجلي الشمس. كأنه - والله أعلم - يشير إلى قول ابن أبي شيبة: حدَّثنا معتمر، حدَّثنا إسحاق بن سُوَيد، عن العلاء بن زياد، في صلاة الكسوف، قال: يقوم فيقرأ ويركع، فإذا قال: سمع الله لمن حمده نظر إلى القمر أو الشمس، فإن كان لم ينجل قرأ، ثم ركع، فإذا قال: سمع الله لمن حمده نظر إلى القمر، فإن كان لم ينجل قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، فإذا قال: سمع الله لمن حمده نظر إلى القمر، فإن كان انجلى سجد، ثم قام فشفعها بركعة، وإن لم تنجل لم يسجد أبدًا، حتى تنجلي، ثم إن كان كسوف بعد لم يُصَلّ هذه الصلاة. قال أبو جعفر الطحاوي: يقال لمن قال ذلك: قد جاء في الحديث: «فصلوا وادعوا حتى تنجلي الشمس».وفي رواية المغيرة وأبي موسى: «فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره»، فأمر بالدعاء والاستغفار كما أمر بالصلاة، فدل على أنه لم يرد منهم عند الكسوف الصلاة خاصة، ولكن أُريدَ منهم ما يتقربون به إلى الله تعالى من الصلاة والدعاء والاستغفار وغيره. واختلف أصحاب مالك إن تجلت الشمس قبل فراغ الصلاة، فقال أَصْبَغ: يتمها على ما بقي من سنتها حتى يتفرغ منها، ولا ينصرف إلا على شفع. وقال سُحْنون: يصلي ركعة واحدة وسجدتين ثم ينصرف ولا يصلي باقي الصلاة على سنة صلاة الخوف. وفي حديث أبي مسعود وابن%ج 2 ص 83%عمر عند البخاري: «فإذا رأيتموهما فقوموا فصلوا».وفي حديث المغيرة زيادة: «وادعوا».
(1/292)
بَاب الصَّدَقَةِ فِي الْكُسُوف 1044 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بِالنَّاسِ فَأقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ ثُمَّ فَعَلَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّت الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: [خ¦1044] «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا»، ثُمَّ قَالَ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِن اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا».وفي: بَاب خُطْبَةِ الْإِمَامِ فِي الْكُسُوفِوَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
(1/293)
هذان الحديثان ذكرهما في كتابه مسندًا بعد:1046 - حدَّثنا ابْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ، فذكَرَتِ الكسوف: فَاقْتَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، فَقَامَ ولمْ يَسْجُدْ، وَقَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً هِيَ أَدْنَى مِنَ القِرَاءَةِ الأُولَى، ثُمَّ كَبَّرَ وَرَكَعَ. [خ¦1046] وفيه: فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَانْجَلَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ، ثُمَّ قَامَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ تعالى، وَكَانَ يُحَدِّثُ كَثِيرُ بْنُ العَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، كَانَ يُحَدِّثُ يَوْمَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لِعُرْوَةَ: إِنَّ أَخَاكَ يَوْمَ خَسَفَتْ بِالْمَدِينَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ الصُّبْحِ؟ قَالَ: أَجَلْ، لِأَنَّهُ أَخْطَأَ السُّنَّةَ. وفي: بَاب: هَلْ يَقُولُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ أَوْ خَسَفَتْ؟ 1047 - فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ: «إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ». [خ¦1047] هذا الحديث أخرجه الستة. وقال ابن عبد البر: حديث عائشة أحسن حديث وأصحه. وعند مسلم: «ألا هل بلغت؟».وفي%ج 2 ص 84%لفظٍ: «أما بعد فإن الشمس»، وفي آخره: «ثم رفع يديه فقال: اللهم هل بلغتُ».وفي لفظ: «فَصَلوا حتى يُفرَج عنكم»، قال: «ولقد رأيت في مقامي هذا كلَّ شيء وُعِدتم حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قِطفًا من الجنة حين رأيتموني أتقدم، ولقد رأيت جهنم يَحطِم بعضها بعضًا حين رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لُحَيٍّ وهو الذي سيب السوائب».
(1/294)
وفي حديث عُبيد بن عُمير عنها: «فقام قيامًا شديدًا، يقوم قائمًا ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ثم يقوم ثم يركع ركعتين فيها ثلاث ركعات وأربع سجدات، وكان إذا ركع قال: «الله أكبر»، وإذا رفع رأسه قال: «سمع الله لمن حمده»، وفيه: «فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتى تنجلي».وعند الحاكم على شرطيهما: «فصلوا وتصدقوا وأعتقوا».وعنده كذلك من حديث ابن جريج عن عطاء: أخبرني مَن أُصدِّقُ - يريد عائشة - وفيه: «فركع في كل ركعة ثلاث ركوعات وركع الثالثة ثم سجد».قولها: (ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ) حجة على مالك ومَن قال بقوله: لم أسمع أن السجود يُطوَّل في صلاة الكسوف. قال في «شرح المهذب»: قال جمهور أصحابنا: لا يُطوِّل؛ بل يقتصر على قَدره في سائر الصلوات، وقال محققوهم: تستحب إطالته نحو الركوع الذي قبله، وهذا هو المنصوص للشافعي، وهو الصحيح للأحاديث الصحيحة المصرِّحة بذلك. وقولها: (فخَطَبَ النَّاسَ) يَستدل به مَن يرى أن للكسوف خطبة. قال الشافعي وإسحاق: يخطُب خُطبتين بعد الصلاة، وهما سنة عندهما. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا خُطبة لها، قالوا: لأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أمرهم بالصلاة والتكبير والصدقة ولم يأمرهم بالخُطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها، ولأنها صلاة يفعلها المنفرد في بيته فلم يُشرَع لها خطبة، وإنما خطب صلَّى الله عليه وسلَّم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها وكأنه مختص به. وقال بعضهم: خطب بعدها لا لها، لِيَردُّهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم كما في الحديث. وبالركوعين في كل ركعة قال الشافعي، وروي عن مالك وأحمد وأبي ثور وأكثر أهل الحجاز محتجين بهذا الحديث، وبحديث ابن عباس وأسماء وجابر بن عبد الله الآتي ذِكر حديثِهم بعدُ.%ج 2 ص 85%ويُشبه أن يَخدِش في ذلك الاستدلال أن حديث عائشة قد ذكرْنا موافقته لقول أبي حنيفة. وذكرنا أيضًا من عند مسلم فيه: ثلاث ركعات في كل ركعة.
(1/295)
وحديث ابن عباس خرّج مسلم في بعض طُرُقه عنه: «قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع»، قال: والأخرى مثلها. وفي لفظٍ: «صلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات».وعند الدارقطني من طريق لا بأس بها: «صلى في كسوف الشمس والقمر ثمان ركعات في أربع سجدات».وحديث جابر رواه أيضًا في صحيحه: «صلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالناس ست ركعات بأربع سجدات».والشافعي لا يقول بذلك، وقد زعم أن مناظرًا قال لمحمد بن الحسن: ألم تعلم أن الحديث إذا جاء من وجهين واختلفا وكانت فيه زيادة كان الأخذ بالزيادة أَوْلى، لأن الجائي بها أثبت من الذي نقص الحديث؟ قال: فقال: نعم. قال: قلت: ففي حديثنا من الزيادة ما ينبغي أن يُرجَع إليه؟ قال: فالنعمان بن بشير لا يذكر في كل ركعة ركوعين. قلت: فالنعمان يزعم أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلى ركعتين ثم نظر فلم تنجلِ الشمس فقام فصلى ركعتين ثم ركعتين، أفتأخذ به؟ قال لا. قلت: فأنت إذًا تخالف قول النعمان وحديثَنا. انتهى. لقائل أن يقول له كما قال لمحمد سواء: أأنت تأخذ بحديث عائشة وجابر وابن عباس؟ فإن قال: نعم. قيل: قد صح عنهم ما أسلفناه، وهو زيادة، أتأخذ بها؟ فإن قال: لا. قيل: فأنت إذًا تخالف ما ذكرت أنك اعتمدته وتخالف ما أسلفناه من حجتنا. وما رواه النعمان عَمِلَ به الحسن وأفتى به فيما ذكره ابن أبي شيبة، وقد رأينا حديثًا فيه زيادة ينبغي أن يعمل بها مَن قال بقبول الزيادة من الثقة، رواه الحاكم من حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبَيِّ بن كعب قال: انكسفت الشمس فصلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقرأ سورة من الطُّوَل وركع خمس ركعات وسجد سجدتين، الحديث. قال أبو عبد الله: الشيخان لم يخَرِّجا لأبي جعفر الرازي، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الأحوال، وهذا الحديث فيه ألفاظ زائدة، ورواته صادقون.
(1/296)
وصححه أيضًا أبو محمد الإشبيلي، وأقرَّه الحافظان%ج 2 ص 86%ابن القطان وابن المَوَّاق. وعند النسائي من حديث عطاء عن عُبيد بن عُمير عن عائشة مرفوعًا: «صلى عشر ركعات في أربع سجدات».وفي حديث علي من رواية حَنَش الصنعاني - وفيه كلام - من مسند أحمد يرفعه: «أربع ركعات في كل ركعة، وفعَلَ في الثانية كذلك».وقد تقدم قول مَن قال في كل ركعة عشر ركعات، وثمان، وست. وقوله: (وَكَانَ يُحَدِّثُ كَثِيرُ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الحديث. قال مسلم في «صحيحه»: حدَّثنا محمد بن مِهران، حدَّثنا الوليد بن مسلم، أخبرنا عبد الرحمن بن نَمِر، أنه سمع ابن شهاب، يخبر عن عروة، عن عائشة أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جهر في صلاة الكسوف بقراءته. ثم قال عَقيبه: قال الزهري: وأخبرني كثير بن عباس، عن ابن عباس، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه صلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات. قال: وحدَّثنا حاجب بن الوليد، حدَّثنا محمد بن حرب، حدَّثنا محمد بن الوليد، عن الزهري قال: كان كثير بن العباس، يحدث أن ابن عباس، كان يحدث عن صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم كسفت الشمس، بمثل ما حدث عروة، عن عائشة. وأخرجه أبو داود عن أحمد بن صالح عن عَنْبَسَة بن خالد عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: كان كثير يحدث أن ابن عباس كان يحدث عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أنه صلى ركعتين في كل ركعة ركعتين. وقال الإسماعيلي: لَمَّا استخرج حديث عائشة عن الحسن عن عبد الله بن أحمد، حدَّثنا أحمد بن صالح، حدَّثنا عَنْبَسَة، حدَّثنا يونس فذكره. ثم قال في آخره: قال ابن شهاب: وحدَّثنا كَثِير بن عباس، عن ابن عباس يرفعه مثل ذلك. وحدَّثنا القاسم حدَّثنا الرمادي، حدَّثنا أحمد بن صالح، حدَّثنا عَنْبَسَة، حدَّثنا يونس بهذا، وزاد: «فقلت لعروة: إن أخاك» الحديث.
(1/297)
وقال أبو نُعَيْم: حدَّثنا أبو أحمد، عن المُطَرِّز، حدَّثنا أحمد بن منصور، حدَّثنا أحمد بن صالح، حدَّثنا عَنْبَسَة حدَّثنا يونس عن ابن شهاب أنه كان يحدث عن كثير بن عباس الحديث. ثم قال: رواه - يعني البخاري - عن يحيى، عن الليث، عن عُقَيْل، وعن أحمد بن صالح، عن عَنْبَسَة، عن يونس. وقال الطبراني: حدَّثنا أحمد بن المُعَلَّى، حدَّثنا صفوان بن صالح، حدَّثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن كثير بن عباس عن أخيه: «أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلى يوم كسفت الشمس أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات».ورويناه في «الحِلية» %ج 2 ص 87%لأبي نعيم قال: حدَّثنا أبو محمد بن حبان، حدَّثنا أبو العباس القَلَانِسي، حدَّثنا محمد بن مهران، حدَّثنا الوليد، حدَّثنا عبد الرحمن بن نمر، سمع ابن شهاب يخبر عن عروة، عن عائشة أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جهر في صلاة الكسوف بقراءته. قال الزهري: وأخبرني كثير عن أخيه عبد الله أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلى أربع ركعات الحديث. وأما خَلَف: فذكر حديث الكسوف من حديث كثير عن ابن عباس، وزعم أن البخاري خرَّج حديث عروة عن عائشة، ثم قال: وقال في آخره: وكان كثير يحدث أن ابن عباس كان يحدث مثل ذلك، ثم قال: فالله أعلم هل حديث كثير في حديث ابن بُكَير وأحمد بن صالح أم في حديث أحدهما. وأما الحُمَيْدي: فذكر في جَمْعه حديث عطاء عن ابن عباس: «انخسفت الشمس» الحديث، ثم قال: وقد رواه مسلم مختصرًا في الصلاة فقط من حديث كثير بن عباس عن ابن عباس عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنه صلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات».وعن عروة عن عائشة مثله. قال: وليس لكثير عن أخيه في الصحيح غير هذا الحديث.
(1/298)
وعند الدارقطني: حدَّثنا عبد الله بن سليمان، حدَّثنا أحمد بن صالح، حدَّثنا عنبسة، حدَّثنا يونس عن الزهري، قال: وكان كثير يحدث عن عبد الله أنه كان يحدث: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في كسوف الشمس»، مثل حديث عروة عن عائشة يرفعه: «أنه صلى في كل ركعة ركعتين».وزعم هو واللالَكائي أن كثيرًا من أفراد مسلم. ولَمّا روى البيهقي في «السنن» حديث عروة عن عائشة عَقَّبه بما رواه من طريق: عُقْبة أبي داود والمُنادي حدَّثنا أحمد بن صالح، حدَّثنا عنبسة، حدَّثنا يونس، عن ابن شهاب، قال: وكان كثير، إلى آخره. ثم قال: رواه البخاري عن أحمد بن صالح بطوله مع هاتين الزيادتين، وهي التي زاد من طريق كثير، أحدُهما: صلاة ركعتين في كل ركعة، والثانية: قول الزهري لعروة فعل أخيه، ثم ذكر عن عبد الرحمن بن نمر أنه سمع ابن شهاب يخبر بذلك عن عروة عن عائشة. ثم قال: قال الزهري: فقلت لعروة: ما فعل هذا أخوك إلى آخره. ثم قال: وأخبرني كثير عن ابن عباس عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه صلى أربع ركعات في ركعتين في أربع سجدات، ثم قال: رواه البخاري في «الصحيح» عن ابن مِهْران دون حديث كثير. ورواه مسلم عن محمد بن مهْران مع حديث كثير دون قصة%ج 2 ص 88%ابن الزبير. قال في «المعرفة»: ورواه من جهة أحمد بن صالح عن عنبسة عن يونس عن الزهري، قال: كان كثير بن العباس يحدث أن عبد الله كان يحدث: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في كسوف الشمس» مثل حديث عروة عن عائشة. ثم قال: رواه البخاري في «الصحيح» عن أحمد بن صالح.
(1/299)
وذكر أبو الفضل بن طاهر أن كثيرًا سمع عبد الله عندهما في الصلاة، وأن الزهري روى عنه حديثًا واحدًا عند البخاري تابعه عليه مسلم، ثم قال: حدَّثنا أبو محمد الصريفيني، حدَّثنا محمد بن عمر الوَرَّاق، حدَّثنا ابن أبي داود، حدَّثنا أحمد بن صالح، حدَّثنا عنبسة، حدَّثنا يونس عن ابن شهاب، قال: وكان كثير بن عباس يحدث عن ابن عباس: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في خسوف الشمس» مثل حديث عروة عن عائشة عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنه صلى ركعتين».قال الزهري: قلت لعروة: إن أخاك، إلى آخره، ثم قال: وقال مسلم عن محمد بن مهْران، عن الوليد، عن ابن نمر، عن ابن شهاب قال: وأخبرني كثير عن ابن عباس الحديث. وقال ابن الأثير: أخرج الشافعي عن الثقة عن مَعْمَر عن الزهري عن كثير بن عباس بن عبد المطلب أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في كسوف الشمس ركعتين. ثم قال: هكذا أخرجه مرسلًا في «اختلاف الحديث».وقد أخرجه البخاري مسندًا عن أحمد بن صالح عن عَنْبَسة عن يونس عن الزهري عن كثير عن ابن عباس. وأخرجه مسلم عن حاجب، عن محمد بن حرب، عن الزُّبَيْدي، عن ابن مهران عن الوليد، عن ابن نمر، كلاهما عن الزهري عن كثير، عن ابن عباس. وأما قول ابن التين: الذي رويناه بسين مهملة، وضُبِط في بعض الكتب بشين معجمة، فكلام لا يساوي سماعه. وذكر ثعلب في «الفصيح»: أن كسفت الشمس وخسف القمر أجود الكلام. وفي «التهذيب» لأبي منصور: خسف القمر وخسفت الشمس؛ إذا ذهب ضوؤهما. وفي «المختار» لأبي عُبيدة معمر: خسف القمر وكسف واحد ذهب ضوؤه. وقال بعضهم: كسفت الشمس إذا طلعت، ومنه قول الشاعر: الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرايعني: أن الشمس طالعة ليست مغطية نجوم الليل والقمر. وقيل: الكسوف أن يكسف ببعضهما، والخسوف أن يخسف بكليهما، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81].
(1/300)
وقال ابن حبيب في «شرح الموطأ»: الكسوف تغيُّر اللون، والخسوف انخسافهما. وكذلك تقول في عين الأعور إذا انخسفت وغارت في جفن العين وذهب%ج 2 ص 89%نورها وضياؤها. وفي «نوادر اليزيدي» وكتاب «الغريبَين» و «مجمع الغرائب» و «المعاني» للقزاز والجوهري: قال القزاز: كَسَفت الشمس والقمر تُكْسَف كسوفًا فهي كاسفة وكُسِفت فهي مكسوفة. وقوم يقولون: انكسفت وهو غلط. وقال الجوهري: العامةُ تقول انكسفت. وفي «المحكم»: كسفها الله وأكسفها، والأول أعلى والقمر كالشمس. وقال اليزيدي: خسف القمر وهو يخسف خسوفًا فهو خسف وخسيف وخاسف وانخسف انخسافا. قال: وانخسف أكثر في ألسنة الناس. وفي «شرح الفصيح» لأبي العباس أحمد بن عبد الجليل التَّدْميري: كسفت الشمس أي اسودت في رأي العين من ستر القمر إياها عن الأبصار. وبعضهم يقول: كسفت الشمس على ما لم يسم فاعله وانكسفت. وحدثني القاضي أبو محمد، عن أبي حاتم أنه كان يقول: إذا ذهب ضوء بعض الشمس لخفاء جِرمها فذلك الكسوف. وزعم ابن التين وغيره أن بعض اللغويين قال: لا يقال في الشمس إلا كسفت، وفي القمر إلا خسف، وذكر هذا عن عروة بن الزبير أيضًا. وحكى عياض عن بعض أهل اللغة عكسه، وكأنه غير جيد، لقوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8].وعند ابن طريف: كسفت الشمس والقمر والنجوم والوجوه كسوفًا. وفي «المغيث» لأبي موسى: روى حديثَ الكسوف عليٌّ وابنُ مسعود وأبيُّ بن كعب وسَمُرَة وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو والمغيرة وأبو هريرة وأبو بكرة وأبو شُرَيْح الكَعْبي والنعمان بن بشير وقَبيصة الهِلالي جميعًا بالكاف. ورواه أبو موسى وأسماء وعبد الله بن عدي بن الخيار بالخاء. وروي عن جابر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم باللفظين جميعًا، كلهم حكوا عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا ينكسفان» بالكاف فسَمَّى كسوف الشمس والقمر كسوفًا. انتهى. أغفل حديث أبي مسعود من عند البخاري: «لا ينكسفان».
(1/301)
وقد ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه ليس في خسوف القمر جماعة، مستدلين بأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جمع لكسوف الشمس، ولَمَّا خسف القمر في جمادى الآخرة سنة أربع فيما ذكره ابن الجوزي وغيره لم يجمع فيه. وقال مالك: لم يبلغنا ولا أهل بلدنا أن%ج 2 ص 90%النبي صلَّى الله عليه وسلَّم جمع لخسوف القمر، ولا نُقِل عن أحد من الأئمة بعده أنه جمع فيه. قال المُهَلَّب: يمكن أن يكون صلَّى الله عليه وسلَّم فعل ذلك رحمةً للمؤمنين لئلا تخلو بيوتهم بالليل فتسرق، دليله: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لأم سلمة لما نزلت توبة كعب بن مالك وصاحبيه ليلًا، وقالت: ألا أبشر الناس؟ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أخشى أن يحطمهم الناس».وفي لفظ: «أخشى أن يمنع الناس نومَهم» انتهى. ذكر ابن قدامة أن أكثر أهل العلم على مشروعية الصلاة لخسوف القمر، فعله ابن عباس، وبه قال عطاء والحسن وإبراهيم والشافعي وإسحاق وأبو ثور، وهو مروي عن عثمان بن عفان وجماعة المحدثين وعمر بن عبد العزيز، مستدلين بقوله: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا رأيتم ذلك فصلوا».وعند الشافعي في «مسنده»: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدَّثنا عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن الحسن، عن ابن عباس: أن القمر كسف، وعبد الله على البصرة، فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين، ثم ركب فخطبنا، وقال: إنما صليت كما رأيت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يصلي. وعند الدارقطني من حديث إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، بسند لا بأس به: «أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات، ويقرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت، أو الروم، وفي الثانية بياسين».وفي حديث قبيصة مرفوعًا: «إذا انكسفت الشمس والقمر فصلوا».
(1/302)
ومن
حديث ثابت بن محمد الزاهد عند الدارقطني، عن سفيان بن سعيد - وسنده جيد - عن حبيب
بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في
كسوف القمر والشمس ثمان ركعات في أربع سجدات».وبوَّب البخاري: بَابُ الصَّلاَةِ
فِي كُسُوفِ القَمَرِوذكر فيه حديث أبي بكرة:1062 - «انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ».
[خ¦1062] ولم يذكر القمر. قال الأصيلي فيما ذكره ابن التين: في الحديث ذكر القمر
بقوله في روايتنا، وأمر بالصلاة عند خسوف القمر، وبه يصح تبويبه. وذكر ابن حبيب عن
ابن عباس: كسف القمر في عهده صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يجمعنا إلى الصلاة معه،
ولكنه صلى ركعتين. انتهى. إن صح هذا فلا معارضة بينه وبين روايته الأولى؛ لأن
القمر خسف مرات متعددة فيما ذكره ابن التين، فيُحمَل هذا على مرة من تلكالمِرار،
وقد أسلفنا حديثًا فيه: أنه صلى في كسوف القمر ركعتين.
بَاب النِّدَاءِ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةٌ فِي الْكُسُوفِ
1045 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حدَّثنا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حدَّثنا مُعَاوِيَةُ
بْنُ سَلَّامِ بْنِ أَبِي سَلَّامِ، حدَّثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ،
أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَمَّا كَسَفَت
الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم نُودِيَ أَنِ
الصَّلَاة جَامِعَة. [خ¦1045] وذَكَره في:
طُولِ السُّجُودِ فِي الكُسُوفِوفي آخره:1051 - قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا سَجَدْتُ
سُجُودًا قَطُّ كَانَ أَطْوَلَ مِنْه. [خ¦1051]
وفيه:
فَرَكَعَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم رُكُوعينِ فِي سَجْدَةٍ، ثُمَّ قَامَ،
فَرَكَعَ رُكُوعينِ فِي سَجْدَةٍ.
وسيأتي عن عائشة نحوه.
(1/303)
قد
أسلفنا ما عارض هذه الرواية، وزعم أبو علي الجَيَّاني: أن إسحاق هذا لم ينسبه أحد
فيما بلغه، قال: ويشبه أن يكون ابنَ منصور، فقد روى مسلم في كتابه عن إسحاق بن
منصور، عن يحيى بن صالح حديثًا في كتاب الوكالة.
وزعم شيخنا أبو الحجاج: أن إسحاق بن إبراهيم لم يروِ عن يحيى بن صالح، ولا ذَكَر
في يحيى بن صالح أن إسحاق بن منصور روى عنه عند البخاري، إنما عَلم له علامة مسلم
دونه، وذكر أن عبد الله بن محمد بن شيرويه روى عن الحنظلي.
ولما ذكر أبو نعيم حديث ابن شيرويه عن إسحاق عن يحيى هذا الحديث قال: خرجه البخاري
عن إسحاق عن يحيى ولم ينسُبه.
فينظر في كلام شيخنا أبي الحجاج المِزي.
وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن صلاة الكسوف ليس فيها أذان ولا إقامة، إلا
أن الشافعي قال: لو نادى منادٍ: الصلاة جامعة، لتخرج الناس بذلك إلى المسجد لم يكن
بذلك بأس.
بَاب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي الْكُسُوفِ
(1/304)
1049 - 1050 - حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ». [خ¦1049 - 1050] ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى فَمَرَّ بَيْنَ ظَهْرَانَي الحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي%ج 2 ص 92%وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ وَانْصَرَفَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. وفي موضع آخر: «إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آية من آيات الله يريهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة».وفي:
(1/305)
بَاب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكُسُوفِ 1065 - جَهَرَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ كَبَّرَ فَرَكَعَ. [خ¦1065] وفي «مسند السَّرَّاج» من حديث أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق قال: دخلَتْ يهوديةٌ على عائشة فقالت لها: سمعتِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يذكر شيئًا في عذاب القبر؟ فقالت عائشة: لا، وما عذاب القبر؟ قالت: فسليه. فجاء النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فسألته عائشة عن عذاب القبر فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: عذاب القبر حق، قالت: فما صلى بعد ذلك صلاة إلا سمعته يتعوذ من عذاب القبر. وفي حديث منصور عن أبي وائل عن مسروق عنها قالت: دخل عليَّ عجوزتان من عُجُز اليهود فقالتا: إن أهل القبور يُعذَّبون في قبورهم، فكذبتهما ولم أصدقهما، فدخل علي َّرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت له: دخل عليَّ عجوزتان من عُجُز اليهود، فقالتا: إن أهل القبور يُعذَّبون في قبورهم، فقال: إنهم ليعذبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم. تقدم في كتاب الطهارة ذِكْر عذاب القبر. وأما رؤيته الجنة والنار: قال أبو عمر: فالآثار في ذلك كثيرة، رواهما مرارًا على ما جاءت به الآثار. وحديث أسماء تقدَّم في كتاب الجمعة في قوله أما بعد. وقولها: (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ») أي أعوذ عياذًا به منه، وقد تَرِد مصادر على وزن فاعل. ويحتمل أنه تَعَوَّذ بالله من عذاب القبر، وإن كان الناس يعذَّبون في قبورهم. وقولها: (ذَاتَ غَدَاةٍ) %ج 2 ص 93%قال الدواديُّ: أتى في غداة، فجعل ذات بمعنى في. قال ابن التين: ليس بصحيح؛ بل تقديره في ذات غداة. وقولها: (فَصَلَّى فِي المَسْجِدِ) قال به جماعة من العلماء. وذكر ابن حبيب أن للإمام أن يصليها إن شاء في المسجد تحت السقف أو في صحنه، وإن شاء خارجًا في البراح، وقال به أيضًا أصبغ.
(1/306)
وقال الطحاوي: يصلي في المسجد الجامع أو في مصلى العيد. وقال الشافعيون والحنابلة: السنة في المسجد؛ لأن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فعلها فيه، ولأن وقت الكسوف يضيق عن الخروج إلى المصلى. واختلف في وقت أدائها: فأما أولها فوقتٌ يجوز فيه أداء النافلة بغير خلاف. وآخرها: فعن مالك لا يصلي بعد الزوال، رواه ابن القيم. وفي رواية ابن رجب: تصلى وإن زالت الشمس، وعنه لا تصلى بعد العصر. ومذهب أبي حنيفة: إن طلعت مكسوفة لا تصلى حتى يدخل وقت الجواز، قال ابن المنذر وبه أقول، خلافًا للشافعي. وفي «المحيط»: لا تصلى في الأوقات الثلاثة. وذكر أبو عمر في «الاستذكار»: قال الليث بن سعد: حججت سنة ثلاث عشرة ومئة، وعلى الموسم سليمان بن هشام، وبمكة شرَّفها الله تعالى عطاء بن أبي رباح وابن شهاب وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد وعمرو بن شعيب وأيوب بن موسى، فكسفت الشمس بعد العصر فقاموا قيامًا يدعون الله في المسجد. فقلت لأيوب: ما لهم لا يصلون؟ فقال: النهي قد جاء عن الصلاة بعد العصر، فلذلك لا يصلون، إنما يذكرون حتى تنجلي الشمس. وهو مذهب الحسن بن أبي الحسن وابن عُلَيّة والثوري. وقال إسحاق: يُصَلُّون بعد العصر مالم تصفَرَّ الشمس، وبعد صلاة الصبح، ولا يصلون في الأوقات الثلاثة، فلو كسفت عند الغروب لم يصلَّ إجماعًا. قال ابن قدامة: إذا كان الكسوف في غير وقت صلاة جعل بمكان الصلاة تسبيحًا، هذا ظاهر المذهب؛ لأن النافلة لا تُفعَل أوقاتَ النهي، سواء كان لها سبب أو لم يكن، روي ذلك عن الحسن وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي حنيفة ومالك وأبي ثور ونصَّ عليه أحمد. روى قتادة قال: انكسفت الشمس ونحن بمكة شرفها الله تعالى بعد العصر، فقاموا قيامًا يدعون، فسألت عن ذلك عطاء فقال: هكذا يصنعون. وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد أنهم يصلونها في أوقات النهي،%ج 2 ص 94%قال أبو بكر بن عبد العزيز: وبالأول أقول، هو أظهر القولين.
(1/307)
بَابُ صَلاَةِ الكُسُوفِ جَمَاعَةً وَصَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ فِي صُفَّةِ زَمْزَمَ. هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن غندر، حدَّثنا ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاوس: أن الشمس انكسفت على عهد ابن عباس، فصلى على صُفّة زمزم ركعتين، في كل ركعة أربع سجدات. وعند الشافعي عن سفيان عن الأحول: سمعت طاوسًا يقول: خسفت الشمس، فصلى بنا ابن عباس في صفة زمزم ست ركعات في أربع سجدات. وقال البيهقي: روى عبد الله بن أبي بكر عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: رأيت ابن عباس صلى على ظهر زمزم في كسوف الشمس ركعتين، في كل ركعة ركعتان. وقال الشافعي: إذا كان عطاء وعمرو أو صفوان والحسن يروون عن ابن عباس خلاف ما روى سليمان الأحول، كانت رواية ثلاثة أولى أن تُقبَل، ولو ثبت عن ابن عباس أشبه أن يكون ابن عباس فرَّق خسوف الشمس والقمر وبين الزلزلة، فقد روي أنه صلى في زلزلة ثلاث ركعات في ركعة. قال أبو عمر: فقال: ما أدري أَزُلزلتِ الأرض أم بي أرض؟ قال أبو عمر: لم يأتِ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من وجه صحيح أنَّ الزلزلة كانت في عصره، ولا صحت عنه فيها سنة، وأوّلُ ما جاءت في الإسلام على عهد عمر بن الخطاب. وفي «المعرفة» للبيهقي: صلَّى علي بن أبي طالب في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات، خمس ركعات وسجدتين في ركعة، وركعة وسجدتين في ركعة. وقال الشافعي: لو ثبت هذا الحديث عندنا عن علي عنه لقلنا به، هم يثبتونه ولا يأخذون به. وقوله: (وَصَلَّى ابْنُ عُمَر) كأنه يريد - والله أعلم - ما عند ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سُفيان، عن عاصم بن عبيد الله قال: رأيت ابن عمر يهرول إلى المسجد في كسوف، ومعه نعلاه؛ يعني لأجل الجماعة. قال: (وَجَمَعَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ) وذكر حديث ابن عباس، وقد تقدم طرف منه في باب الصدقة في الكسوف. ومما ينبه عليه هنا قوله:1052 - نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُوْرَةِ البَقَرَةِ.
(1/308)
[خ¦1052] وفي لفظ: «نحوًا من قيام سورة البقرة».وعند مسلم: «قدر سورة البقرة».وهو يدل أن القراءة كانت سرًّا، وكذا في بعض طرق حديث%ج 2 ص 95%عائشة: «فحزرتُ قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة».وقد تقدم مَنْ ذَكَرَ الإسرار والجهر، وأجاب بعضهم بأن ابن عباس كان صغيرًا فمقامه آخر الصفوف، فلم يسمع القراءة، فحزر المدة، وكأنه غير جيد لأن في بعض طرقه: «قمت إلى جانب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فما سمعت منه حرفًا» ذكره أبو عمر.
(1/309)
وقوله في: بَاب الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْكُسُوفِ 1066 - وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ. [خ¦1066] ذكر خلف الواسطي أن مسلمًا رواه، رواه عن محمد بن مهران، حدَّثنا الوليد، حدَّثنا الأوزاعي عن ابن شهاب. قال خلف: وهو في حديث البخاري عن محمد بن مهران عن الوليد، وقال - يعني الوليد -: وقال الأوزاعي وغيره: سمعت الزهري. ورواه أيضًا أبو داود عن عباس بن الوليد، عن أبيه عن الأوزاعي عنه. وقوله: (تَابَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَن الزُّهْرِيِّ فِي الْجَهْرِ) أما متابعة سفيان فرواها الترمذي عن محمد بن أبان، عن إبراهيم بن صدقة، حدَّثنا سفيان بن حسين. قال: وروى أبو إسحاق الفَزَاري عن سفيان بن حسين نحوه. ومتابعة سليمان رواها البيهقي عن الحاكم: حدَّثنا أبو بكر بن إسحاق، حدَّثنا أبو المثنى، حدَّثنا محمد بن كثير، حدَّثنا سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقام فكبَّر وكبَّر الناس، ثم قرأ فجهر بالقرآن وأطال، الحديث. وقال الترمذي عن البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح عندي من حديث سمرة أنه أسر بالقراءة. وقال أحمد: حديث عائشة في الجهر ينفرد به الزهري، وقد روينا عن عائشة وابن عباس ما يدل على الإسرار. والتَّكَعْكع: ذكر ابن التياني في «الموعب» عن أبي زيد: كَعِعْتُ وكَعَعْت بالكسر والفتح، أكِع وأكَعُّ بالكسر والفتح، كعًّا وكعاعةً بالفتح؛ إذا هِبْتَ القوم بعد ما أردتهم فرجعْتَ وتركتهم، فإني عنهم لكعُّ بالفتح. صاحب «العين»: كعَّ وكاعَّ بالتشديد، وقد كعَّ كعوعًا، وهو الذي لا يمضي في عزم.
(1/310)
وفي «التهذيب» لأبي منصور الأزهري: رجلُ كُعْكُع وقد تكعكع وتكأكأ إذا ارتدع، وقال أبو عبيد: كَعْكَعتُه فتكعكع، وأنشد المتمم بن نويرة: ولكنني أمضى على ذاك مُقدمًا إذا بعض مَن يلقى الخطوب تكعكعا%ج 2 ص 96%وقال: أصل كعكعت كععت، فاستثقلت العرب الجمع بين ثلاثة أحرف من جنس واحد ففرقوا بينها بحرف مكرر. وقال غيره: أكعَّه الفَرَقُ إكعاعًا؛ إذا حبسه عن وجهه. وفي «المحكم»: كعَّ كعوعًا وكعاعةً وكيعوعة، وكعكعه عن الورد نحاه. وفي «الجامع» للقزاز و «الواعي» لأبي محمد: ولا يقال: كاع، وقد أجازه قوم. وفي «الصحاح»: عن يونس كع يكُع بالضم، وقال سيبويه: يكِع بالكسر أجود. وفي «مجمع الغرائب»: تكعكت تأخرت. وعند ابن عبد البر: تكعكعت تقهقرت. وقوله: (رَأَيتُ الجَنَّةَ ورَأَيتُ النَّارَ) يريد أن الجنة عُرضت له من غير حائل. و (أُرِيتُ): فعل لم يسمَّ فاعله، وقد أقيم المفعول الذي هو الرائي على الحقيقة مقام الفاعل، فكأن الجنة عُرضتْ عليه ثم كشف عن بصره فرأى النار. وقوله: (فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ) الكاف هنا موضع نصب، التقدير: فلم أر منظرًا مثل منظري اليوم. و (أَفْظَع): قال ابن سيده: فظع الأمر فظاعة فهو فظيع، وفظع الأخيرة على النسب، وأفظع اشتد وبرَّح، وأفظعه الأمر وفظع به واستفظعه وأفظعه رآه فظيعًا. وفي «الجامع»: يفظع أفظع إفظاعًا، وهو مُفَظِعٌ، والاسم: الفظاعة، وأفظعني هذا الأمر وأفظعته، وأُفظع هو وأفظعه مفظيعه صيَّره فظيعًا. وفي «الصحاح»: أُفظِعَ الرجل على ما لم يسمَّ فاعله؛ أي نزل به أمر عظيم. وفي «المغيث»: قوله: (لَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ أَفْظَعَ) يحتمل أن يكون الفظيع؛ أي لم أر منظرًا فظيعًا كاليوم، ويجوز أن يضمن فيه: «منه»، كأنه قال: لم أر أفظع منه، وهو كلام العرب، واستفظعته وتفظعته استعظمته ووجدته فظيعًا، وأفظعني الأمر أي تعاظمني، ومثله: فُظِعت به، وفَظِعت به؛ أي: ضقت به ذرعًا.
(1/311)
وقوله:
(يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ) اختلف الرواة في إثبات واو قبل (يَكْفُرْنَ) وإسقاطها
فأثبتها يحيى بن يحيى عن مالك، والقعنبي وابن القاسم وابن وهب لم يثبتوها، واختير
رواية يحيى، ووجهها: كأن السائل لما قال: أيكفرن بالله، لم يجبه على هذا جوابًا
بالإحاطة العلم بأن من النساء مَن يكفرن بالله تعالى كما أن من الرجال مَن يكفر
بالله تعالى فلم يحتج إلى ذلك؛ لأن المقصود من الحديث غير ذلك. الأبواب الثلاثة
تقدمن. بَاب لَا تَنْكَسِفُالشَّمْسُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِرَوَاهُ أَبُو
بَكْرَةَ وَالْمُغِيرَةُ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ. هذه
الأحاديث كلها عنده مسندة. وعند ابن سعد أيضًا حديث محمود بن لبيد بسند صحيح
وقوله في: بَاب الدُّعَاءِ فِي الْخُسُوفِ قَالَهُ أَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُهما
عنده مسندان أيضًا. بَاب قَوْلِ الْإِمَامِ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ: «أَمَّا
بَعْدُ»
1061 - وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حدَّثنا هِشَامٌ، قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ
عَنْ أَسْمَاءَ. تقدم أنه أسنده قبل في كتاب الجمعة، فقال:922 - وَقَالَ
مَحْمُودٌ: حدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ. [خ¦922] وقال مسلم: عن أبي بكر وأبي كريب عن
أبي أسامة، فذكره. وقال أبو علي الجياني: وقع في رواية ابن السكن في إسناد هذا
الحديث وهم، وذلك أنه زاد في الإسناد رجلًا، أدخل بين هشام وفاطمة عروة بن الزبير،
والصواب هشام عن فاطمة والله أعلم. والأبواب التي بعدُ تَقدَّمَ ذِكرها.
(1/312)
بَاب مَا جَاءَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ وَسُنَّتِهَااختلف العلماء في سجود التلاوة؛ فذهب أبو حنيفة إلى وجوبها على التالي والسامع، سواء قصد سماع القرآن، أو لم يقصد، لقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20 - 21]، ولقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، وقال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وما نذكره من الأحاديث بعدُ. قالوا: ولأن الذم لا يتعلق إلا بترك واجب، وما تلوناه من الآي أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وحكاه في «المصنف»: عن حفص عن حجاج عن حماد عن إبراهيم ونافع وسعيد بن جبير أنهم قالوا: مَن سمع السجدة فعليه أن يسجد. وحدَّثنا عبدة عن الأعمش عن إبراهيم التميمي قال: كنت أَعرِضُ على أبي وهو يعرض عليَّ في الطريق، فيمر بالسجدة فيسجد، فقلت له: أتسجد في الطريق؟ فقال: نعم، كذا قاله أبو العالية. وعن إبراهيم بسند صحيح: إذا سمع الرجل السجدة وهو يصلي فليسجد. وعن الشعبي: كان أصحاب عبد الله إذا سمعوا السجدة سجدوا، في صلاة كانوا أو غيرها. وقال شعبة: سألت حمادًا عن الرجل يصلي فيسمع السجدة؟ قال: يسجد، وقال الحكم مثل ذلك. وحدَّثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول في الجُنُب إذا سمع السجدة%ج 2 ص 98%يغتسل ثم يقرؤها فيسجدها، فإن كان لا يحسنها قرأ غيرها ثم سجد. وحدَّثنا حفص، عن حجاج، عن فضل، عن إبراهيم، وعن حماد وسعيد بن جبير قالوا: إذا سمع الجنب السجدة اغتسل ثم سجد. وحدَّثنا عبيد الله بن موسى عن أبان العطار عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عثمان في الحائض تسمع السجدة؟ قال: تومئ برأسها إيماءً. وحدَّثنا محمد بن بشر، حدَّثنا سعيد عن قتادة عن ابن المسيب قال: تومئ برأسها وتقول: اللهم لك سجدت.
(1/313)
وعن
الحسن في رجل نسي السجدة من أول صلاته فلم يذكرها حتى كان في آخر ركعة من صلاته
قال: يسجد فيها ثلاث سجدات، فإن لم يذكرها حتى يقضي صلاته غير أنه لم يُسَلِّم
بعدُ؟ قال: يسجد سجدة واحدة ما لم يتكلم، فإن تكلم استأنف الصلاة. وعن إبراهيم:
إذا نسي السجدة فليسجدها متى ما ذكرها في صلاته. وسئل مجاهد: يشك في سجدته، وهو لا
يدري أسجدها أم لا؟ قال مجاهد: إن شئت فاسجدها، فإذا قضيت صلاتك فاسجد سجدتين وأنت
جالس، وإن شئت فلا تسجدها واسجد سجدتين وأنت جالس في آخر صلاتك. وذهب الشافعي
ومالك - في أحد قوليه - وأحمد وإسحاق والأوزاعي وداود إلى أنها سنة. قال عمر بن
الخطاب في البخاري: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. قالوا: وقوله هذا
والصحابة حاضرون، والإجماع السكوتي حجة عندكم، قالوا: وبه قال سلمان وابن عباس
وعمران بن حصين، واستدلوا بما يأتي من الأحاديث، وبما رواه مسلم عن أبي هريرة
يرفعه: «إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلي أُمر ابن آدم
بالسجود فسجد فله الجنة» الحديث، وكأنه مذهب البخاري، والله تعالى أعلم. ولِقائل
أن يقول: إن سلمان كان مذهبه في السجود مذهب أحمد، وهو إذا جلس لها وقصد سماعها،
كذا حكاه ابن أبي شيبة. وعن مالك سجودها فضيلة.
1067 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الأَسْوَدَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: قَرَأَ رَسُول الله صلَّى الله عليه وسلَّم النَّجْمَ بِمَكَّةَ،
فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ، غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى -
أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا،
فَرَأَيْتُهُ بَعْد قُتِلَ كَافِرًا. [خ¦1067]
ذكر أبو القاسم بن الحسين بن محمد بن حبيب في كتاب «ترتيب التنزيل»: أن سورة النجم
%ج 2 ص 99%
نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس.
(1/314)
وقال
أبو العباس الضرير في «مقامات التنزيل»: إنها مكية بالإجماع.
وعند الترمذي عن أبي الدرداء قال: «سجدت مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إحدى
عشرة سجدة، منها التي في النجم»، وقال: حديث غريب، وفي الباب عن علي وابن عباس
وأبي هريرة وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمرو بن العاص.
وفي هذا الحديث مطلوبية السجود في المفصل، وسيأتي حديث أبي هريرة من عند البخاري،
والعجب من النووي يحتج به على خصومه ويزعم أنه في مسلم، ولم يذكر البخاري، وهو فيه
ثابت في سائر نسخه، وسيأتي ذكره وأنه عند الأئمة الستة.
وفي «المصنف» بسند لا بأس به قال أبو رافع الصائغ: صلى بنا عمر في صلاة العشاء
فقرأ في إحدى الركعتين الأُولتين: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1].
فسجد وسجدنا معه.
وبسند صحيح قال الأسود: رأيت عمر وعبدالله يسجدان في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
[الانشقاق: 1].
وبسند صحيح عن عبد الله أنه سجد في النجم و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].
وعن علي: سورة اقرأ من عزائم السجود.
وقال سليمان بن حبيب: سجدت مع عمر بن عبد العزيز في الانشقاق.
وعن ابن عمر بسند مثله، وكذا عن ابن سيرين وعمار وعثمان.
وعند الحاكم صحيح الإسناد عن عمرو بن العاص: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن العظيم، منها ثلاثة في المفصل».
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن حديث أبي إدريس الأزدي عن عاصم بن بَهدَلَةَ
عن زر عن صفوان بن عسال قال: سجد بنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في: {إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فقال: هذا حديث منكر وخطأ، وإنما هو عاصم عن
زر قال: قرأ عمار على المنبر: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فنزل
فسجد.
(1/315)
وإليه
ذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك،
وأما مالك شيخهما فقال: ليس في المفصل سجود، مستدلًا بحديث زيد بن ثابت الآتي:
«قرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم النجم فلم يسجد فيها».
وبما رواه أبو داود من طريق أبي قدامة الحارث بن عبيد - وهو ضعيف - عن عكرمة عن
ابن عباس: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم
%ج 2 ص 100%
لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة».
وبما في «المصنف» من حديث أبي قلابة والحسن قالا: قال عمر: ليس في المفصل سجود.
وعن أبي العُرْيان المُجَاشِعي والحسن عن ابن عباس مثله.
وكذا قاله سعيد بن جبير والحسن وابن المسيب وعكرمة وطاوس وأبي بن كعب، والسند إلى
هؤلاء الستة صحيح.
وذكره ابن المنذر أيضًا عن مجاهد، وقال يحيى بن سعيد: أدركت القراء لا يسجدون في
شيء من المفصل.
وعند الشافعي عن بعض أصحابه عن ابن جريج عن ابن أبي نجيج عن مجاهد قال: «سجد النبي
صلَّى الله عليه وسلَّم في النجم ثم ترك».
وأخبرنا بعض أصحابنا عن يونس عن الحسن: «سجد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في
النجم بمكة ثم تركه في المدينة» انتهى.
يردُّ حديث ابنِ عباس حديث مجاهد، والحسن لو صح حديث أبي هريرة الذي أسلم سنة سبع
إجماعًا، وقد صحَّ عنه أنه قال: «سجدت مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في: {إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1].
وذكر ابن أبي حاتم في كتاب «العلل» عن أبيه: أن جماعة رووه بزيادة: {والنَّجْمِ}،
قال: والصحيح رواية الوليد بن مسلم وعبد العزيز بن محمد، عن ابن أبي ذئب، عن محمد
بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة.
وأما حديث زيد بن ثابت: «قرأت على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم النجم فلم يسجد
فيها»، فمحمول على أن زيدًا القارئ لم يسجد، وجماعة من العلماء عندهم إذا لم يسجد
القارئ لا يسجد المستمع ذكر ذلك الطبري.
(1/316)
بيانه
ما في «مراسيل أبي داود» عن زيد بن أسلم: قرأ غلام عند النبي صلَّى الله عليه
وسلَّم السجدة، فانتظر الغلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فلما لم يسجد قال
لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: أليس فيها سجدة؟ قال: «أنت قرأتها، فلو سجدت
سجدنا».
وقال الطحاوي: يمكن أن يكون قرأها في وقت لا تجوز فيه الصلاة، أو كانا على غير
وضوء، أو بيان عدم وجوبها على الفور كما ذهب إليه أبو حنيفة.
وأما ابن حزم فقال: إن راويَه ابنَ قسيط صح عن مالك أنه قال: لا يعتمد على روايته.
قال أبو محمد: وصحَّ بطلان هذا الخبر بحديث أبي هريرة يرفعه: «أنه سجد في النجم»،
وأبو هريرة متأخر الإسلام.
وعند الدارقطني: قال أبو صخر - يعني المرادي - عن ابن قسيط: وصلَّيت وراء عمر بن
عبد العزيز وأبي بكر بن حزم فلم يسجدا.
قوله: (وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ
%ج 2 ص 101%
وَالمُشْرِكُونَ) وفي حديث ابن عباس الآتي من عند البخاري:
==========
في الأصل: الثوري.
كذا في الأصل، ولعل الصواب: بسند صحيح، فإسناده صحيح في المصنف.
في الأصل: «والصحيح رواية الوليد بن مسلم، عن عبد العزيز بن محمد، عن ابن أبي ذئب،
عن الحارث بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة»، والتصويب من «علل الحديث» لابن
أبي حاتم (2/ 401).
في الأصل: «زر».
في الأصل: «زيد القارئ».
كذا ذكر المصنف، وهذا اللفظ لم يرد في البخاري إلا في حديث ابن عباس الذي أشار
إليه المصنف بعد كلمات، أما حديث ابن مسعود الذي في الباب والباب الذي بعده برقم
[1067] [1070]: فلفظه: «فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ القَوْمِ إِلَّا سَجَدَ».
(1/317)
1071 - سَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ. وعند الدارقطني من حديث أبي هريرة: «سجد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بآخر النجم، والجن والإنس والشجر» وسنده صحيح. [خ¦1071] وقال في آخره: قال لنا ابن أبي داود رحمه الله: لم يروه عن هشام - يعني عن ابن سيرين عنه - إلا مَخلد بن حسين. زعم النووي أن ذلك محمول على مَن كان حاضرًا، وما أسلفناه يعكر عليه. قوله: قال عياض وسجودهم كان لأنها أول سجدة نزلت، انتهى كلامه. وفيه نظر من حيث إن سورة اقرأ أول ما نزل وفيها سجدة، والنجم بعد ذلك بأعوام. وأيضًا فقد ذكر الحاكم صحيحًا على شرط الشيخين من حديث أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله: «أول سورة نزلت فيها السجدة الحج، قرأها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فسجد وسجد الناس معه إلا رجلًا أخذ التراب فسجد عليه، فرأيته قُتِل كافرًا».تابع إسرائيل زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق، وإنما اتَّفقا على حديث شعبة عن أبي إسحاق: سجد في النجم. ولا يعلل أحد الحديثين الآخر، فإني لا أعلم أحدًا تابع شعبة على ذكره النجم إلا قيس بن الربيع، والذي يؤدي إليه الاجتهاد صحة الحديثين. الكلام على ما يذكره الأخباريون في سورة النجم يأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج من كتاب التفسير. والرجل الذي أخذ كفًّا من تراب ذكر البخاري في التفسير أنه أمية بن خلف. وفي كتاب النسائي بسند صحيح عن المُطَّلب بن أبي وَداعة قال: «رأيت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سجد في النجم، وسجد الناس معه». قال المطلب: فلم أسجد معهم، وهو يومئذ مشرك. وفي لفظ: «فأَبَيْتُ أن أسجد معهم»، ولم يكن يومئذ أسلم. فلمَّا أسلم قال لا أدع السجود فيها أبدًا. وروينا عن أبي محمد المنذري أنه قال: قيل هو الوليد بن المغيرة. وقيل: عتبة بن ربيعة. وقيل: أبو أحيحة سعيد بن العاص. وأما قول ابن بزيزة: كان منافقًا، فغير جيد لأنَّا أسلفنا أن السورة مكية، وإنما المنافقون في المدينة.
(1/318)
وفي «المصنف» بسند صحيح عن أبي هريرة قال: سجد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمون في النجم إلا رجلين من قريش، أرادا بذاك الشهرة. والعَجب من رجل عالم كبير -يقصد الرد على أبي حنيفة-%ج 2 ص 102%بهذا الحديث بقوله: فالرجلان لا يتركان - إن شاء الله - الفرض، ولو تركاه لأمرهما النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بإعادته. ولم يعلم أن هذين الرجلين كانا غير مسلمين، يوضحه ما في حديث عبد الله بن مسعود المبدأ بذكره. واختلف في عدد سجدات التلاوة: فعند أبي حنيفة أربع عشرة سجدة: في آخر الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، وآلم تنزيل، وص، وحم السجدة، والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك. وذهب مالك إلى أنها إحدى عشرة سجدة بإسقاط آخر الحج وثلاث المفصل. وقد أسلفنا أن أبا العريان رواه عن ابن عباس، ورُوِيَ أيضًا عن ابن عمر. وذهب المدنيون في روايتهم عن مالك والليث وإسحاق ورواية عن أحمد وابن المنذر واختاره المروزي وابن شريح الشافعيان: إلى أنها خمس عشرة سجدة بثانية الحج. وذهب الشافعي إلى أنها أربع عشرة بسقوط ص، وهو أصح قوليه، وأحمد. وذهب أبو ثور إلى أنها أربع عشرة، فأسقط سجدة النجم. وذهب مسروق فيما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح إلى أنها ثنتا عشرة سجدة، أسقط ثانية الحج وص والانشقاق. وذهب عطاء الخراساني إلى أنها ثلاث عشرة، أسقط ثانية الحج والانشقاق. وذهب ابن مسعود إلى أن عزائم السجود: الأعراف، وبني إسرائيل، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك، رواه ابن أبي شيبة عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عنه. وذهب علي بن أبي طالب إلى أن عزائم السجود: آلم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ، رواه ابن أبي شيبة عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن عبد الله بن عباس عنه.
(1/319)
وذهب سعيد بن جبير إلى أنها: آلم تنزيل، والنجم، واقرأ، رواه أبو بكر عن داود - يعني ابن أبي إياس - عن جعفر عنه. وذهب عبيد بن عمير إلى أن عزائم السجود: آلم تنزيل، والأعراف، وحم تنزيل، وبنو إسرائيل. وذهب جماعة إلى أنها عشر سجدات، قال أبو بكر: حدَّثنا أبو أسامة، حدَّثنا ثابت بن عمارة، عن أبي تميمة الهجيمي: أن أشياخًا من الهجيم بعثوا راكبًا لهم إلى المدينة وإلى مكة - شرفهما الله تعالى - يسأل لهم عن سجود القرآن، فأخبرهم أنهم أجمعوا على عشر سجدات. وذهب ابن حزم إلى أنها تسجد للقبلة%ج 2 ص 103%ولغير القبلة، وعلى طهارة وعلى غير طهارة. قال: وثانية الحج لا نقول بها أصلًا في الصلاة، وتبطل الصلاة بها، يعني إذا سجدت فيها. قال: لأنها لم يصحَّ بها سنة عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ولا أجمع عليها، وإنما جاء فيها أثر مرسل. انتهى. أما أثر مرسل فغير جيد؛ بل فيها حديث صحيح عند الحاكم، وقد تقدم. وأما حديث عقبة بن عامر أنه قال: يا رسول الله في الحج سجدتان؟ قال: «نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما»، فذكره الدارقطني من طريق ابن لهيعة. قال ابن حزم: وصح عن عمر وابنه وأبي الدرداء السجود فيها، وروي أيضًا عن أبي موسى، وقال ابن عمر: لو سجدت فيها واحدة لكانت سجدة، في الآخرة أحب إليَّ. وقال عمر: فُضِّلتْ بسجدتين. وروي أيضًا عن علي بن أبي طالب وأبي موسى وعبد الله بن عمرو بن العاص. وصح عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم السجود في ص. السجود في تنزيل. تقدم ذكرها. بابُ سَجْدَةِ ص 1069 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ، وَأَبُو النُّعْمَانِ، قَالَا: حدَّثنا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: سَجْدَةُ ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَسْجُدُ فِيهَا.
(1/320)
[خ¦1069] وفي موضع آخر [4807] قال مجاهد قلت: لِابْنَ عَبَّاسٍ: مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ فِي ص؟ قَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 90]. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. وعند ابن ابي شيبة عن مجاهد عنه: «كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يسجد في ص».وعند النسائي: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا».والعجب من البيهقي وشدة تعصبه يرد هذا الحديث بأن عكرمة كان مالك لا يرضاه. وعند الدارقطني بسند فيه ضعف عن أبي محذورة يرفعه: «سجدها داود صلَّى الله عليه وسلَّم توبة، ونحن نسجدها شكرًا».وعند أبي عبد الله الحاكم – وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه – و «صحيح ابن خزيمة» عن أبي سعيد قال: قرأ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم%ج 2 ص 104%وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة تشرّف الناس السجود، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشرفتم للسجود» فنزل فسجدها وسجدوا. زاد ابن خزيمة: أَدخَلَ بعض أصحاب ابن وهب في هذا الإسناد بين سعيد بن أبي هلال وبين عياض بن عبد الله: إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وأحسب أنه غَلِط في إدخاله إسحاق في هذا السند. وعند الحاكم: «رأيت رؤيا وأنا أكتب سورة ص، فلما بلغت السجدة رأيت الدواة والقلم وكل شيء يحضرني انقلب ساجدًا، فقصصتها على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم يزل يسجد فيها بعدُ».وعند البيهقي بسند منقطع: «فأمرني بالسجود فيها».
(1/321)
ورواه الحسن عن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن جريج، عن عبد الله عن ابن عباس بمعنى حديث عاصم، يعني فلما قرأ السجدة التي في ص سجدت شجرة، فقالت: اللهم أعظم لي بها أجرًا، واحطط بها وزرًا وأحدث بها شكرًا. فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «فنحن أحق بالسجود من الشجرة».قال البيهقي: إلا أنه لم يذكر أمر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالسجود فيها، إنما ذكر سجوده فيها. قال: وقد روي موصولًا من أوجه عن عمرو، وزعم أنه عن سعيد عن ابن عباس، وليس بالقوي. ولما خرّج الحاكم حديث ابن عباس صحَّحه. وعند الدارقطني عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سجد في ص» وسنده صحيح. وذكر علي بن أبي داود أنه قال: لم يروه إلا حفص بن غياث. وفي «المصنف»: قال ابن عمر: في ص سجدة. وقال الزهري: كنت لا أسجد في ص حتى حدثني السائب أنَّ عثمان سجد فيها. وعن سعيد بن جبير: أن عمر كان يسجد في ص. وعن ابن عباس مثله. وعن عبد الله بن الحارث قال: هي موجبة سجدة ص. وكان طاوس يسجد في ص. وسجد فيها: الحسن، والنعمان بن بشير، ومسروق، وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك بن قيس. وكان عبد الله بن مسعود لا يسجد فيها. وعن الشعبي قال: كان بعض أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يسجد في ص، وبعضهم لا يسجد، فأيُّ ذلك شئت فافعل. وكان أبو المليح لا يسجد فيها. وعن أبي إسحاق قال: خطب الضحاك بن قيس فقرأ ص فسجد فيها، وعلقمة وأصحاب عبد الله وراءه فلم يسجدوا. وعند الترمذي - وقال غريب، وقال أبو داود: إسناده واهٍ - عن أبي الدرداء%ج 2 ص 105%قال: «سجدت مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في ص».وعن عقبة بن عامر: فيها السجود. وكذا قاله ابن المسيب والثوري، ذكره ابن بطال. وقال الترمذي: اختلف أهل العلم من الصحابة وغيرهم في سجدة ص، فرأى بعض أهل العلم أن يسجد فيها وهو سفيان وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق.
(1/322)
وقال ابن الجوزي: اختلف فيها الفقهاء، فذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها سجدة، وقال الشافعي: ليست سجدة، وعن أحمد كالمذهبين، والمنصور منهما كقول الشافعي، وهي سجدة عند داود. وقال الطحاوي: النظر أن يكون فيها سجدة؛ لأن موضع السجود منها موضع خبر لا موضع أمر، فينبغي أن يرد إلى حكم أشكاله من الأخبار، فيكون فيها السجود. وهي عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24]. وكذا قاله مالك، وروي عنه عند قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25].وقال أبو بكر الرازي: قال محمد بن الحسن: معناه خر ساجدًا، فعبَّر عن السجود بالركوع. وفي «شرح المهذب»: إن قرأها في الصلاة فينبغي ألا يسجد، فإن خالف وسجد ناسيًا أو جاهلا ً لم تبطل صلاته، ولكن يسجد للسهو. فإن سجدها عامدًا عالمًا بالتحريم بطلت صلاته على أصح الوجهين. ولو سجد إمامه الذي يعتقد السجود فيها فثلاثة أوجه: أصحها لا يتابعه؛ بل إن شاء نوى مفارقته لأنه معذور، وإن شاء انتظره قائمًا كما لو قام إلى خامسة لا يتابعه، وإن انتظره لا يسجد للسهو، لأن المأموم لا سجود عليه، والثالث يتابعه. وفي «شرح الهداية»: قال بعض الشيوخ: ينوب الركوع عن سجدة التلاوة في الصلاة وخارج الصلاة، وكذا حكى ابن حبيب المالكي. وذكر الأثرم أن ابن عمر كان إذا قرأ النجم في صلاة وبلغ آخرها كبر وركع بها، وإن قرأ بها في غير صلاة سجد. وعن عبد الرحمن بن يزيد: سألنا عبد الله عن السورة يكون في آخرها سجدة، أيركع أو يسجد؟ قال: إذا لم يكن بينك وبين السجود إلا السجود فقريب. والله تعالى أعلم. وقول البخاري في: بَاب سَجْدَة النَّجْمِقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. هذا عنده مسند كما أشرنا إليه. وقال في: بَاب سُجُود الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَوَالْمُشْرِكُ نَجسٌ. قال ابن التِّين: ضُبط في بعض الكتب بفتح النون والجيم، قال: وكذلك رويناه، والذي في اللغة بالكسر.
(1/323)
قال البخاري: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. كذا في أصل سماعنا، وكذا رواه ابن%ج 2 ص 106%السكن، وفي رواية ابن الهيثم عن الفِرَبْرِي: «كان ابن عمر يسجد على وضوء».قال ابن بطال: والصحيح إثبات: «غير»، وهو المعروف عن ابن عمر. روى ابن أبي شيبة عن محمد بن بشر، حدَّثنا زكريا بن أبي زائدة، حدَّثنا أبو الحسن - يعني عبيد بن الحسن - عن رجل زعم أنه كنفسه، عن سعيد بن جبير، قال: كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيُهريق الماء، ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ. انتهى. البخاري، كأنه لم يُرِد هذا لانقطاعه بالرجل الغير مسمى، ولعله أراد ما في رواية أبي الهيثم، يوضحه ما ذكره البيهقي في باب سجود التلاوة بسند صحيح عن المهرجاني، حدَّثنا أبو سهل بشر بن أحمد، حدَّثنا داود بن الحسين البيهقي، حدَّثنا قتيبة، حدَّثنا الليث عن نافع عن ابن عمر أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر. وفي «المصنف»: عن الحسن في الرجل يسمع السجدة وهو على غير وضوء قال: لا سجود عليه. وعن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة وهو على غير وضوء قال: يسجد حيث كان وجهه. وعن إبراهيم: إن لم يكن عنده ماء تيمم وسجد. مذهب الأئمة الأربعة - رحمهم الله تعالى - وجمهور العلماء: اشتراط الطهارة لها من الأحداث والأنجاس بدنًا ومكانًا وثيابًا وستر عورة واستقبال القبلة، وأنَّ كل ما يفسد الصلاة يفسدها، إلا ابن حزم وطائفة كما بينا مذهبهم قبلُ، والله أعلم. قال ابن بطال: فإن ذهب البخاري إلى الاحتجاج بقول ابن عمر وابن عباس: سجد معه صلَّى الله عليه وسلَّم المشركون، فلا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين لم يكُ على وجه العبادة لله والتعظيم له، وإنما كان لما قيل في الحديث الضعيف أنه ذكر آلهتهم. فلا يستنبط من سجودهم جواز السجود على غير وضوء؛ لأن المشرك نجس لا وضوء له إلا بعد إسلامه، وإن كان البخاري أراد الرد لذلك فهو أشبه.
(1/324)
وقال ابن الْمُنَيِّر: الصواب رواية مَن روى عن ابن عمر أنه كان يسجد للتلاوة على غير وضوء. الظاهر من فعل البخاري أنه صوَّب مذهبه، واحتج له بسجود المشركين، ولم يذكر البخاري تمام القصة، ولا سبب سجود المشركين؛ لأن الباعث لهم على السجود الشيطان لا الإيمان. وسمعت شيخنا قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة - رحمه الله تعالى - بالمدرسة الكاملية يقول: الصواب والمشهور عن ابن%ج 2 ص 107%عمر أنه كان يسجد للتلاوة على غير وضوء. ولعلَّ البخاري رجَّح ذلك بفعل المشركين بحضرته صلَّى الله عليه وسلَّم ولم ينكر عليهم سجودهم بغير طهارة، وقد أطلق الراوي عليه اسم السجود، فدل على صحته ظاهرًا. بَاب مَنْ سَجَدَ لِسُجُودِ الْقَارِئِوَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَم وَهُوَ غُلَامٌ فَقَرَأَ عَلَيْهِ سَجْدَةً. فَقَالَ: اسْجُدْ فَإِنَّكَ إِمَامُنَا. الذي رأيت في «مصنف ابن أبي شيبة»: حدَّثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي إسحاق عن سُليم بن حَنْظَلة قال: قرأتُ على عبد الله بن مسعود سورة بني إسرائيل فلما بلغتُ السجدة قال عبد الله: اقرأها، فإنك إمامنا فيها. وعند البيهقي: حدَّثنا علي بن محمد بن بشران، أخبرنا أبو جعفر الرازي، حدَّثنا محمد بن عبدالله، حدَّثنا إسحاق الأزرق، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سُلَيم بن حنظلة قال: قرأت السجدة عند ابن مسعود، فنظر إلي فقال: أنت إمامنا، فاسجد نسجد معك. وفي «سنن سعيد بن منصور» من حديث إسماعيل بن عياش، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وفيهما كلام، عن أبي هريرة: قرأ رجل عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سجدة فلم يسجد، فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنت قرأتها، ولو سجدتَ سجدنا معك».
(1/325)
وعند البيهقي من حديث عطاء بن يسار قال بلغني أن رجلًا قرأ عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم آية من القرآن فيها سجدة، عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فسجد الرجل، وسجد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم معه، ثم قرأ آخر آية فيها سجدة عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فانتظر الرجل أن يسجد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يسجد، فقال الرجل: يا رسول الله قرأتُ السجدة فلم تسجد؟! فقال عليه الصلاة والسلام: «أنت إمامنا، فلو سجدتَ لسجدنا معك».قال الشافعي: إني لأحسبه زيد بن ثابت؛ لأنه يحكى أنه قرأ عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يسجد، وإنما روى الحديثين معًا عطاء بن يسار. بَاب مَنْ رَأَى أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَوَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن: الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا؟ %ج 2 ص 108%قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا، كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ. هذا التعليق ذكره أبو بكر في «مصنفه» فقال: حدَّثنا عبد الأعلى، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن مُطَرّف، قال: وسألته عن الرجل يتمارى في السجدة أسمعها أو لم يسمعها؟ قال: وسمعها، فماذا ثم؟ قال مطرف: سألت عمران بن حصين، عن الرجل لا يدري أسمع السجدة أم لا؟ قال: وسمعها فماذا؟ وَقَالَ سَلْمَانُ: مَا لِهَذَا غَدَوْنَا. هذا ما رواه أيضًا ابن أبي شيبة عن ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: دخل سلمان الفارسي المسجد وفيه قوم يقرؤون، فقرؤوا سجدة فسجدوا، فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لو أتينا هؤلاء؟ قال: ما لهذا غدونا. وقال البيهقي: أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم الحافظ، أخبرنا أبو نصر أحمد بن عمرو، حدَّثنا سفيان بن محمد الجوهري، حدَّثنا علي بن الحسن، حدَّثنا عبد الله بن الوليد، حدَّثنا سفيان عن عطاء فذكره. وقد تقدم قبلُ في أبواب السجود ذكره.
(1/326)
وَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ سمعها. رواه أيضًا البيهقي بسنده المذكور إلى سفيان، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: إنما السجدة على مَن سمعها. قال البيهقي: وروي من وجه آخر عن ابن المسيب عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: إنما السجدة على من جلس لها. وقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع عن ابن عروبة عن قتادة عن ابن المسيب عن عثمان قال: إنما السجدة على مَن جلس لها. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ تسْجُدُ إِلَّا أَنْ تكُونَ طَاهِرًا، فَإِذَا سَجَدْتَ وَأَنْتَ فِي حَضَرٍ، فَاسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ، فَإِنْ كُنْتَ رَاكِبًا فَلاَ عَلَيْكَ حَيْثُ كَانَ وَجْهُكَ.1077 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْر بْنُ أَبِي مُلَيْكَة، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّمِيمِي، عَنْ رَبِيعَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الهُدير، عَمَّا حَضَرَ رَبِيعَةُ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النَّحْلِ حَتَّى جَاءَتِ السَّجْدَةِ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَهَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّجْدَةُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا نَمُرُّ بالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، ومَنْ لمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرَ. [خ¦1077] زَادَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ. وفي نسخة من «الصحيح»: قال ابن جريج: وزاد نافع إلى آخره.%ج 2 ص 109%والحديث من أفراد البخاري. وذكر محمد بن عبد الواحد المقدسي أن سعيد بن منصور أسنده.
(1/327)
وعند البيهقي من حديث هشام بن عروة عن أبيه: «أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة وهو على المنبر» الحديث، وفيه: «ومنعهم أن يسجدوا».وأما هيئة السجود: فذكر أبو داود من رواية عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر قال: «كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا».قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث. وعنده أيضًا من حديث مصعب بن ثابت - وفيه كلام - عن نافع عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قرأ عام الفتح سجدة وسجد، وسجد الناس كلهم، منهم الراكب والساجد في الأرض، حتى أن الراكب ليسجد على يده. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ومصعب بن ثابت لم يذكراه بجرح. وعند الترمذي - مصححًا - والحاكم - على شرط الشيخين - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في سجود القرآن بالليل يقول في السجدة مِرارًا: «سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته».زاد البيهقي: «فتبارك الله أحسن الخالقين».وفي «المصنف»: كان إبراهيم وعطاء والحسن وأبو صالح ويحيى بن وثاب وسعيد بن جبير لا يُسَلِّمُون في السجدة. وقال إبراهيم: كان أصحاب عبد الله يقرؤون السجدة وهم يمشون فيومئون إيماءً. وسئل ابن عمر عن الرجل يقرأ السجدة، وهو على الدابة؟ قال: يومئ. وفي «المستدرك» على شرط الشيخين عن ابن عمر: «أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلَّى الظهر فسجد فظننَّا أنه قرأ تنزيل السجدة».قال الحاكم: هذه سُنة صحيحة غريبة، أن الإمام يسجد فيما يُسِّر بالقراءة مثل سجوده فيما يعلن.
(1/328)
بَاب مَا جَاءَ فِي التَّقْصِيرِ وَكَمْ يُقِيمُ حَتَّى يَقْصُرَ ذكر الضحاك في «تفسيره»: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم صلى في جدة الإسلام الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والمغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين، والغداة ركعتين، فلما نزلت آية القبلة تحوَّل للكعبة، وكان قد صلى هذه الصلوات نحو بيت المقدس، فوجَّهَه جبريل صلى الله عليه وسلم بعدما صلى ركعتين من الظهر نحو الكعبة،%ج 2 ص 110%وأومأ إليه بأن صلِّ ركعتين، وأمره أن يصلي العصر أربعًا، والعشاء أربعًا، والغداة ركعتين. وقال: يا محمد، أما الفريضة الأولى فهي للمسافرين من أمتك والغزاة. وروينا عن أبي جعفر محمد بن جرير، عن المثنى، حدَّثنا إسحاق، حدَّثنا عبد الله بن هاشم، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]. ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بِحَوْلٍ غزا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].وحدَّثنا ابن بشَّار، حدَّثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة: أي يوم أنزل أو أي يوم هو؟ فقال: انطلقنا نتلقى عيرًا لقريش آتية من الشام، حتى إذا كنا بنخل، فنزلت آية القصر، الحديث. وفي «شرح المسند» لابن الأثير: كان قصر الصلاة في السنة الرابعة من الهجرة. وفي «تفسير الثعلبي»: قال ابن عباس: أول صلاة قصرت صلاة العصر، قصرها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعسفان في غزوة ذي أنمار.
(1/329)
1080 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، وَحُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَقَامَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا» [خ¦1080] عند أبي داود: «أقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم زمن الفتح تسع عشرة ليلة يصلي ركعتين».وفي لفظ: «سبع عشرة».قال: وأكثر الروايات تسع عشرة. وأخبرنا النفيلي، عن سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، ولفظه: «أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة».قال أبو داود: رواه عَبْدَةُ بن سليمان، وأحمدُ بن خالد الوهبيُّ، وسلمةُ بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله عن ابن عباس. وقال البيهقي: الصحيح مرسل. ورواه أيضًا من طريق الحسن بن الربيع، عن ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن الزهري. ورواه ابن أبي شيبة عن عبد الله بن إدريس، عن ابن إسحاق مسندًا، وهو سند صحيح خلاف ما ذكره البيهقي، ولو%ج 2 ص 111%رواه أبو داود من هذه الطريق لما أعله بما سبق من قوله. وعند الترمذي: سافر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم سفرًا فصلى تسعة عشر يومًا ركعتين ركعتين. وعند أبي داود عن عِمران بن حُصَيْن قال: شهدت مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: «يا أهل البلد، صلوا أربعًا، فإنا سَفرٌ».في سنده ابن جدعان. وقال الحاكم في «الإكليل»: أصحها بضع عشرة. وعند البيهقي من حديث رجل عن ابن عمر: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أقام سبع عشرة يصلي ركعتين يحاصر الطائف».قال البيهقي: مَن روى: «تسع عشرة» عد يوم الدخول ويوم الخروج، ومَن روى: «سبع عشرة» لم يعدهما، ومَن قال: «ثمان عشرة» لم يعد أحد اليومين.
(1/330)
وذكر البخاري بعده حديث أنس:1081 - خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ - شرفها الله تعالى - فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، قيل: كم أَقَمْتُمْ؟ قَالَ: عَشْرًا. [خ¦1081] وهو مخرج عند الأئمة الستة، وكان في حجة الوداع. وعند أبي داود بسند صحيح عن جابر قال: «أقام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة».وقال ابن حزم: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان راويه ثقة، وباقي مَن في السند لا يسأل عنهم. وفي «علل الترمذي»: قال محمد بن إسماعيل: يروى عن ابن ثوبان عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مرسلًا. وذكر أبو هلال العسكري في كتاب «الأوائل» تأليفه قال: وَلَّى الحجاجُ بن يوسف أنسَ بن مالك سابور بن فارس، فأقام فيها سنين يقصر الصلاة ويفطر، ويقول: ما أدري كم مقامي ومتى يوافيني العزل. قال أبو هلال: هذا إسناده صحيح. وعند ابن الجوزي مضعفًا: كتب عبد الله بن معمر إلى ابن عمر وهو أمير بفارس: إنا قد استقررنا فلا نخاف عدونا، وقد أتى علينا سبع سنين، وقد وُلِد لنا أولاد، فكم صلاتنا؟ فكتب إليه ابن عمر: صلواتكم ركعتان، فكتب إليه ثانيًا، فكتب ابن عمر: كتبت إليك سنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسمعته يقول: «من أخذ بسنتي فهو مني، ومن رغب عن سنتي فليس مني».وقال أبو عبد الله الجوزقاني: هذا الحديث باطل. اختلف العلماء في المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها%ج 2 ص 112%لزمه الإتمام: فذكر ابن حزم عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا وضعتَ رجلك بأرضٍ فأتم. وهو في «المصنف» عن عائشة وطاوس بسند صحيح. قال: وحدثنا داود، عن عبد الأعلى، عن أبي العالية قال: إذا اطمأن صلى أربعًا. يعني نزل. وعن ابن عباس بسند صحيح مثله. الثاني: إقامة يوم وليلة، حكاه ابن عبد البر عن ربيعة. الثالث: ثلاثة أيام، قاله ابن المسيب في قول.
(1/331)
الرابع: أربعة أيام، روي عن الشافعي وأحمد بن حنبل، وروى مالك عن عطاء الخراساني أنه سمع سعيد بن المسيب، قال: مَن أَجمَعَ إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة. قال مالك وذلك أحب ما سمعتُ إلي. قال أبو عمر: ودلَّ ذلك على أنه سمع الخلاف. وقال ابن الحَصَّار في «تقريب المدارك»: قول سعيد مسندٌ بالمعنى من قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «يمكث المهاجر بمكة ثلاثًا»، وإقامة المهاجر بمكة محرمةٌ مع الاختيار، فيدل ذلك على أن مدة الثلاث ليست مدة إقامة، وأن ما زاد عليها إقامة. انتهى. وروى قولَ سعيد أيضًا ابنُ أبي شيبة عن وكيع عن هشام عن قتادة عن سعيد. وقال ابن وهب: أحسن ما سمعت، والذي لم يزل عليه أهل العلم عندنا: أن من أجمع إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة. قال أبو عمر: وإلى هذا ذهب الشافعي، وهو قوله وقول أصحابه، وبه قال أبو ثور. قال الشافعي: ولا يحسب يوم ظعنه ولا يوم نزوله. وحكى إمام الحرمين عن الشافعي أربعة أيام ولحظة. الخامس: أكثر من أربعة أيام، ذكره ابن رشد في «القواعد» عن أحمد وداود. السادس: أن ينوي إقامة اثنين وعشرين صلاة، قال ابن قدامة في «المغني»: هو مذهب أحمد. السابع: عشرة أيام، روي عن علي بن أبي طالب من حديث محمد بن علي بن حسين عنه، والحسن بن صالح ومحمد بن علي بن حسين، رواه أبو بكر عن الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه. وحدَّثنا شريك عن جابر عن أبي جعفر: أنه كان يتم في عشر. الثامن: اثنا عشر يومًا، قال أبو عمر: روى مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يقول: أقل صلاة المسافر ما لم يجمع مكثًا اثنتا عشرة ليلة. قال: وروي عن الأوزاعي مثله، ذكره الترمذي%ج 2 ص 113%في «جامعه».التاسع: ثلاثة عشر يومًا، قال أبو عمر: روي ذلك عن الأوزاعي. العاشر: خمسة عشر يومًا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والليث بن سعد وحكاه ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب بسند صحيح.
(1/332)
وحدَّثنا وكيع، حدَّثنا عمر بن ذر عن مجاهد: كان ابن عمر إذا أجمع على إقامة خمس عشرة صلى أربعًا. الحادي عشر: ستة عشر يومًا، روي عن الليث أيضًا. الثاني عشر: سبعة عشر يومًا، وهو قول للشافعي. الثالث عشر: ثمانية عشر يومًا، وهو قول للشافعي أيضًا. الرابع عشر: تسعة عشر يومًا، قاله إسحاق بن إبراهيم فيما ذكره الطوسي عنه. الخامس عشر: عشرون يومًا، وقد أسلفنا حديثه، وبه قال ابن حزم. السادس عشر: يقصر حتى يأتي مصرًا من الأمصار، قال أبو عمر: قاله الحسن بن أبي الحسن. قال: ولا أعلم أحدًا قاله غيره. وهو في «المصنف» مسند صحيح عنه، ولفظه: إذا قدم مسافر مصرًا من الأمصار صلى أربعًا، وذكره ابن حزم أيضًا عن قتادة. السابع عشر: إحدى وعشرون صلاة، ذكره ابن المنذر عن الإمام أحمد. الثامن عشر: يقصر مطلقًا، ذكره أبو محمد البصري. التاسع عشر: قال ابن أبي شيبة: حدَّثنا جرير عن مغيرة عن سِمَاك بن سَلَمة عن ابن عباس قال: إن أقمت في بلد خمسة أشهر فقصِّر الصلاة. العشرون: قال أبو بكر: حدَّثنا مِسْعَر وسفيان عن حَبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن قال: أقمنا مع سعد بن مالك شهرين بعُمان يقصر الصلاة ونحن نُتمُّ، فقلنا له؟ فقال: نحن أعلم. الحادي والعشرون: قال: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا شعبة، حدَّثنا أبو التَّيَّاح عن أبي المِنْهال - رجل من غزة - قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولًا لا أشد على سفر؟ قال: صل ركعتين. الثاني والعشرون: عند أبي بكر بسند صحيح قال سعيد بن جبير: إذا أراد أن يقيم أكثر من خمسة عشر يومًا أتم الصلاة. وقال ابن الحصار في «تقريب المدارك» لما ذكر إقامته بتبوك عشرين يومًا: هذا يدل على أن ليس لمدة إقامة المسافر تحديد إلا أن يجمع الإقامة، بخلاف مذهب ابن عباس إذ قال: إن زدنا على تسعة عشر يومًا أتممنا.
(1/333)
بَابُ الصَّلاَةِ بِمِنًى 1082 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ، حدَّثنا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ أيَّامِهِ ثُمَّ أَتَمَّهَا» [خ¦1082] عند مسلم: «صلَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمنًى صلاة المسافر، وأبو بكر وعمر وعثمان، ثمان سنين، أو قال: ستَّ سنين».وعند ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سعيد بن السَّائب، عن داود بن أبي عاصم، قال: سألت ابن عمر عن الصلاة بمنًى فقال: «هل سمعتَ بمحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فإنه كان يصلي بمنًى ركعتين».ورواه ابن أبي حاتم في «العلل» من حديث الزهري، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، فقال أبي وأبو زرعة: حديث الزهري عن سالم أشبه. أخبرنا الإمام المسند يونس بن عبد القوي الجَوْدَري، قراءةً عليه وأنا أسمع، عن الشيخ بهاء الدين الشافعي وغيره، قالوا: أخبرنا الحافظ الثَّغْري، قال: أخبرنا أبو العلاء محمد بن عبد الجبار بن محمد الضَّبِّي، أخبرنا أبو عبد الله الجَمال، أخبرنا عبد الله بن جعفر بن فارس، أخبرنا يونس بن حبيب، أخبرنا أبو داود الطيالسي، قال: حدَّثنا زَمْعَة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: «صلَّى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمنًى صلاة السفر ركعتين، ثم صلَّى أبو بكر ركعتين، ثم صلَّى بعده عمر ركعتين، ثم صلَّى بعده عثمان ركعتين، ثم إنَّ عثمان أتمَّ بعد».وقال المَرُّوذي: قال – يعني أبا عبد الله – وذكر حديث يحيى بن سُليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: «سافرت مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلُّون الظهر والعصر ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها» فأنكره إنكارًا شديدًا، وقال: هذا من قِبَل يحيى بن سُليم.
(1/334)
وعند
مسلمٍ: قال حفص بن عاصم لابن عمر: «أبن عمر؛ لو صليت بعدها ركعتين؟ فقال: لو فعلت
لأتممت الصلاة».1083 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ، حدَّثنا شُعْبَة، أَنْبَأَنَا
أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ، يقول: «صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آمَنَ مَا كَانَ النَاسُ وأَكثَرُهُ بِمِنًى
رَكْعَتَيْنِ». [خ¦1083] عند النسائي: «ونحن أكثر ما كنَّا قط وآمنه».وفي روايةٍ:
«في حجة الوداع».وعند الإسماعيلي: سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن حارثة.1084 - حدَّثنا
قُتَيْبَةُ، حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ، عَنِ الأَعْمَشِ، حدَّثنا إِبْرَاهِيمُ،
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
%ج 2 ص 115%
بْنَ يَزِيدَ، يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ،
فَقِيلَ ذَلِكَ لابْنِ مَسْعُودٍ، فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ
أَبِي بَكْر بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بِمِنًى
رَكْعَتَيْنِ»، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ
مُتَقَبَّلَتَانِ. [خ¦1084]
وعند ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا سفيان وابن أبي ليلى، عن عون بن أبي
جُحَيفة، عن أبيه قال: «صلَّيت مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمنًى الظهرَ
ركعتين حتى رجع إلى المدينة».
وحدَّثنا وكيع، حدَّثنا حنظلة، قال: سألت [القاسم وسالمًا وطاوسًا] عن الصلاة
بمنًى فقالوا: قَصْرٌ.
وفي لفظ: أهل مكة إذا خرجوا إلى منى قصروا.
(1/335)
قال
ابن بطال: اتَّفق العلماء على أن الحاجَّ القادم مكَّة - شرَّفها الله تعالى -
يقصُر الصلاة بها وبمنًى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر؛ لأنَّ مكة ليست دارَ
إقامةٍ إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فُرِضَ عليهم ترك
المقام بها، فلذلك لم ينوِ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الإقامة بها ولا
بمنًى.
قال: واختلف العلماء في صلاة المكي بمنًى، فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنًى، وكذلك
أهل منًى يتمون بمنًى ويقصرون بمكة وعرفات.
قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما قصر
بعرفة لم يُميِّز مَنْ وراءه، ولا قال: يا أهل مكة أتموا، وهذا موضع بيان، ولذلك
قال عمر بعده لأهل مكة: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ.
قال: وممَّن روي عنه أن المكي يقصر بمنًى: طاوس والأوزاعي وإسحاق، قالوا: القصر
سُنَّةُ الموضع، وإنما يتمُّ بمكة ومنًى من كان مقيمًا بهما، ولو لم يجز لأهل مكة
القصر بمنًى لقال حارثة الذي داره بمكة وأخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه:
وأتممنا نحن. أو قال: قال لنا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتموا؛ لأنه يلزمه
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البيان لأمته.
وقالوا: لأن عمل الحاج لا ينقضي في أقل من يوم وليلة، مع الانتقال اللازم والمشي
من موضع إلى موضع لا يجوز الإخلال به، فجرى ذلك مجرى الشيء اللازم.
والثاني: أن من مكة إلى عرفة ثم الرجوع إلى مكة بمقدار ما تقصر فيه الصلاة، ويلزمه
بالدخول فيه، فيلزمه القصر، ولا
%ج 2 ص 116%
يلزم على هذا من يخرج من سفر بضعًا وعشرين ميلًا؛ لأن رجوعه هناك ليس لازمًا،
ورجوعه إلى مكة في الحجِّ لازم.
(1/336)
وقال
أكثر أهل العلم - منهم: عطاء، والزهري، وهو قول الثوري، والكوفيين أبي حنيفة وأصحابه،
والشافعي، وأحمد، وأبي ثور-: لا تقصر الصلاة بمنًى وعرفات؛ لأنه ليس بينهما مسافة
القصر، قالوا: وفي قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: «أتموا صلاتكم» ما أغنى أن يقول
ذلك بمنًى.
وقال الطحاوي: ليس الحج موجبًا للقصر؛ لأن أهل منًى وعرفات إذا كانوا حُجَّاجًا
أتمُّوا، وليس هو بمُتعلّقٍ بالموضع؛ بل هو متعلقٌ بالسفر، وأهل مكة - شرَّفها
الله تعالى - مقيمون هناك لا يقصرون، ولما كان المعتمر لا يقصر إن خرج إلى منًى
فكذلك الحاج.
واختلفوا في المسافة التي تقصر فيها الصلاة؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون:
المسافة التي تقصر فيها الصلاة ثلاثةُ أيام ولياليهن بسَيْر الجمل ومشي الأقدام.
وقال أبو يوسف: يومان وأكثر الثالث، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة، ورواية ابن
سَمَاعَة عن محمد.
ولم يريدوا بها السير ليلًا ونهارًا؛ لأنهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة،
فلو سلك طريقًا هي مسيرة ثلاثة أيام، وأمكنه أن يصل إليها في يومٍ من طريق أخرى،
قصر.
ثم قدَّروا ذلك بالفراسخ، فقيل: أحد وعشرون فرسخًا، وقيل: ثمانية عشر، وعليه
الفتوى، وقيل: خمسة عشر فرسخًا.
وإلى الثلاثة الأيام ذهب عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسويد بن غَفَلَة، والشعبي
والنخعي، والثوري، وابن حَيٍّ، وأبو قِلابة، وشريك بن عبد الله، وسعيد بن جبير،
ومحمد بن سيرين، ورواية عن عبد الله بن عمر.
وعن مالك: لا يقصر في أقل من ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، وذلك ستة عشر فرسخًا،
وهو قول أحمد.
والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: ستة آلاف ذراع، والذراع: أربع وعشرون أصبعًا
معترضةً معتدلةً.
والأصبع: ست شَعيرات معترضات معتدلات.
(1/337)
وذلك
يومان، وهو أربع بُرْدٍ، هذا هو المشهور عنه، كأنه احتج بما رواه الدارقطني من
حديث عبد الوهاب بن مجاهد -وهو ضعيف ومنهم من يكذبه- عن أبيه وعطاء بن أبي رباح،
عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله
%ج 2 ص 117%
عليه وسلم: «يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى
عُسْفان».
وقال البيهقي: الصحيح أنه من قول ابن عباس.
وعنه أيضًا: خمسة وأربعون ميلًا، وعنه: اثنان وأربعون ميلًا، وعنه: أربعون ميلًا،
وروي: ستة وثلاثون ميلًا.
قال ابن حزم: ذكر هذه الروايات عنه إسماعيل القاضي، قال: ورأى لأهل مكة خاصة القصر
إلى منًى فما فوقها وهي أربعة أميال.
وللشافعي سبعة نصوص في المسافة التي تقصر فيها الصلاة: ثمانية وأربعون ميلًا، ستة
وأربعون، أكثر من أربعين، أربعون، يومان، ليلتان، يوم وليلة، وهذا الآخر قال به
الأوزاعي.
قال أبو عمر: قال الأوزاعي: عامة العلماء يقولون به.
قال أبو عمر: وعن داود: يقصر في طويل السفر وقصيره.
زاد ابن حامد حتى لو خرج إلى بستان له خارج البلد قصر.
وفي «المحلى» أثر حذيفة: «ألا تقصر في نيف وستين ميلًا».
وعن شقيق بن سلمة، فيما ذكره أبو داود -وسئل عن قصر الصلاة من الكوفة إلى واسط-
فقال: «لا تقصر الصلاة في ذلك». وبينهما مئة وخمسون ميلًا.
وعن ابن عمر: تقدير مئة ميل إلا أربعة أميال.
وعن إسحاق بن حيٍّ: لا قصر في أقل من اثنين وثمانين ميلًا.
وعن ابن عمر: اثنان وسبعون ميلًا.
وعن الثوري: نحو نيفٍ وستين ميلًا، تتجاوز ثلاثة وستين ميلًا، ولا يقصر عن أحد
وستين.
وعن أبي الشَّعْثَاء: ستة أميال.
وعن ابن المُسيَّب: بَرِيد.
قال ابن حزم: صحَّ عن كلثوم بن هانئ، وقبيصة بن ذُؤَيب، وابن مُحَيرِيز القصر في
بضعة عشر ميلًا.
وزعم أبو محمد أنه لا يقصر عندهم في أقل من ميل، قال: ولا يجوز لنا أن نوقع اسم
سفرٍ وحكم سفرٍ إلا على ما سمَّاه به من هو حجةٌ في اللغة سفرًا، فلم نجد ذلك في
أقل من ميل.
(1/338)
وروينا
الميل أيضًا عن ابن عمر، روي عنه أنه قال: لو خرجت ميلًا لقصرت.
قال: وعنه: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وعنه ثلاثة أميال.
وعن ابن مسعود أربعة. وعن دحية ثلاثة أميال.
وفي «المصنف»: حدَّثنا هُشَيم، عن أبي هارون، عن أبي سعيد: «أن النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم
%ج 2 ص 118%
كان إذا سافر فرسخًا قصر الصلاة».
وحدَّثنا هُشَيم، عن جُوَيبر، عن الضَّحَّاك، عن النَّزَّال: «أنَّ عليًّا خرج إلى
النخلة فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه، وقال: أردت أن أعلمكم
سُنَّةَ نبيِّكم».
وكان حذيفة يصلِّي ركعتين فيما بين الكوفة والمدائن.
وعن ابن عباس: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة.
وعن ابن عمر وسويد بن غَفَلَة وعمر بن الخطاب ?: ثلاثة أميال.
وعن أنس: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة
فراسخ - شعبة الشاك - قصر». رواه مسلم.
وعن الحسن: يقصر في مسيرة ليلتين.
وعن أبي الشعثاء: ستة أميال.
وعند مسلم عن جُبَير بن نُفَير قال: خرجت مع شُرَحْبِيل بن السِّمْط إلى قرية على
رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلًا فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر صلَّى بذي
الحُلَيفة ركعتين، فقلت له، فرفعه إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وأما إتمام عثمان الصلاة بمنًى فللعلماء في ذلك أقوال منها: أنه أتمها بمنًى خاصة،
قال أبو عمر: قال قوم: أخذ بالمباح في ذلك؛ إذ للمسافر أن يقصر ويتم، كما له أن
يصوم ويفطر.
وقال الزهري: إنما صلَّى بمنًى أربعًا لأن الأعراب كانوا كثيرين في ذلك العام،
فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع.
وقال البيهقي في «المعرفة»: وقد رُوِّينا بإسنادٍ حسنٍ عن عبد الرحمن بن حميد، عن
أبيه، أن عثمان أتمَّ بمنى، ثم خطب الناس فقال: «أيها الناس إن السُّنَّةَ سُنَّةُ
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسُنَّةُ صاحبيه، ولكن حدث العام من الناس فخفت
أن يستنُّوا».
(1/339)
قال
البيهقي: وهذا يؤيد رواية أيوب عن الزهري أن عثمان أتمَّ بمنى من أجل الأعراب
لأنهم كثروا عامئذٍ، ويضعف ما رواه معمر عنه أن عثمان إنما صلى أربعًا لأنه أجمع
الإقامة بعد الحج.
قال أبو عمر: المعروف عن عثمان أنه ما كان يطوف للإفاضة والوداع إلا ورواحله قد
رُحِّلت.
قال البيهقي: وروى يونس عنه: لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها
صلى أربعًا.
وروى مغيرة عن إبراهيم قال: صلَّى عثمان أربعًا لأنه كان اتَّخذها وطنًا.
قال البيهقي:
%ج 2 ص 119%
وذلك مَدْخولٌ؛ لأنه لو كان إتمامه لهذا المعنى لما خَفِيَ ذلك على سائر الصحابة،
ولما أنكروا عليه ترك السنة، ولما صلَّاها ابن مسعود في منزله أربعًا وهو لم ينوِ
الإقامة كما قال عن عثمان.
قال البيهقي: رُوِّينا بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد في صلاة
ابن مسعود أربعًا وقولهم له ألم تحدَّثنا: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبا
بكر وعمر صلوا ركعتين»؟ قال: بلى؛ ولكن عثمان كان إمامًا، والخلاف شرٌّ.
وقال الشافعي: أخبرنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: «أنه كان يصلي وراء الإمام
بمنًى أربعًا، فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين».
قال الشافعي: وهذا يدلُّ على أن الإمام إذا كان من أهل مكة - شرَّفها الله تعالى -
صلَّى بمنًى أربعًا، أو يكون الإمام كان من غير أهل مكة - شرَّفها الله تعالى -
يتم بمنًى؛ لأن الإمام كان في زمان ابن عمر من بني أمية، وقد أتموا بإتمام عثمان
?، والإمام إذا أتم بقومٍ لم تفسد صلاتهم.
قال أبو عمر: قال ابن جُريج: إنَّ أعرابيًا نادى عثمان في منًى: يا أمير المؤمنين،
ما زلت أصليها منذ رأيتك عام الأول صليتها ركعتين، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس
أن الصلاة ركعتين.
ويخدش في هذا أن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أولى الناس بهذا ولم
يفعله.
(1/340)
وروى
عبد الله بن الحارث بن أبي ذُباب، عن أبيه -وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب- قال:
صلى بنا عثمان أربع ركعات، فلما سَلَّمَ أقبل على الناس فقال: إني تأهَّلت بمكة،
وقد سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من تأهَّلَ ببلدة فهو من
أهلها، فليصلِّ أربعًا».
وفي «مسند محمد بن سَنْجَر» بسند ضعيفٍ: أن عثمان لما أنكروا عليه قال: أيها الناس
إني لما قدمت تأهَّلتُ بها، إنِّي سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول:
«إذا تأهَّل الرجل ببلد فليصل بهم صلاة المقيم».
وقال ابن حزم: وقيل: إنه تأوَّلَ أنَّه إمام الناس، فحيث حلَّ هو منزله.
وهذا يرده أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أولى بذلك ولم يفعله.
قال: وقيل: كان أهله معه بمكة - شرفها الله تعالى -.
وهذا يرده أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
%ج 2 ص 120%
كان يسافر بزوجاته ولم يقصر.
وقيل: كان لعثمان بمنًى أرض، فكأنه كالمقيم.
وهذا فيه بُعدٌ؛ إذ لم يقل أحد أن المسافر إذا مرَّ بما ملكه من الأرض ولم يكن له
فيها أهل أن حكمه حكم المقيم.
وفي «القِنْيَة»: إذا دخل المسافر مِصرًا وتزوَّج لا يصير مقيمًا بنفس التزوج،
بخلاف المرأة.
وذكر القرطبي أن الوجه في أمر عثمان: أنه هو وعائشة رضي الله عنهما تأوَّلا أن
القصر رخصةٌ غير واجب، فأخذا بالأكمل الأتم، ولولا ذلك ما أقروا عثمان عليه، انتهى
كلامه.
وفيه نظرٌ لما في «صحيح مسلم» عن ابن عمر: «صحبت رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قُبِضَ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين
حتى قُبِضَ، وعمر فلم يزد على ركعتين حتى قُبِضَ، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين
حتى قَبَضَه الله تعالى».
وفي «صحيح ابن خزيمة»: «سافرت مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومع أبي بكر ومع
عمر ومع عثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، لا يصلون قبلها ولا
بعدها».
(1/341)
ورواية
ابن عمر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصلي قبل وبعد» فذكر الترمذي أنه
من رواية عَطيّة العَوفي، وهو ضعيف.
فهذا نص أن عثمان ? كان يصلي ركعتين حتى قُبِضَ، وهو مخالف لما رواه البخاري عن
ابن عمر: «صحبت عثمان فكان يصلي ركعتين صدرًا من خلافته».
وطريق الجمع: أن ابن عمر أخبر عن عثمان في أسفاره إلا بمنًى، فإن عثمان إنما أتمَّ
بها لا في سفره كله، على ما فسره عمران بن حصين المُصَحَّح حديثه عند الترمذي،
واسترجاع ابن مسعود دليل أن عثمان عنده خالف الفضل، إذ لو اعتقد أنه ترك الفرض لما
صح أن يُصلى خلفه.
وذكر الداودي أن ابن مسعود كان يرى القصر فرضًا، فلأجل هذا استرجع.
وفي ذلك نظر لما أسلفنا من أن ابن مسعود صحَّ عنه أنه صلى أربعًا وقال: «الخلاف
شر». فلو كان يعتقد القصر فرضًا لكان الخلاف هذا خيرًا لا شرًا.
ومثله حديث ابن عباس: «صلينا مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحن آمنون لا
نخاف شرًّا بين مكة والمدينة ركعتين» رواه أبو بكرٍ بسندٍ صحيحٍ في «مصنفه».
وقوله: (آمَنَ مَا كَانَ النَاسُ) يريد بذلك دفعَ خلافِ من يقول: إنما تقصر الصلاة
في خوف أو حرب.
ذكر أبو جعفر في «تفسيره»: حدَّثنا أبو عاصم؛ عمران بن محمد
%ج 2 ص 121%
الأنصاري، حدَّثنا عبد الكبير بن عبد المجيد، حدَّثنا عمر بن عبد الله بن محمد بن
عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال سمعت عائشة تقول في السفر: أتمُّوا صلاتكم.
فقالوا: إن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصلي في السفر ركعتين. فقالت:
«إن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في حرب وكان يخاف، فهل تخافون أنتم».
وفي لفظٍ عنده: «وكانت تصلي في السفر أربعًا».
وحدَّثنا سعيد بن يحيى، حدَّثنا أبي، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أي أصحاب رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يتم في السفر؟ قال عائشة وسعد بن أبي وقاص.
(1/342)
وفي
«الاستذكار»: لما سئل سعد عن ذلك قال: عليكم بشأنكم فأنا أعلم بشأني.
قال أبو عمر: فلم يعب عليهم القصر ولا نهاهم عنه.
وفي «المعرفة»: وروينا عن المِسْوَر بن مَخْرَمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد
يغوث: أنهما كانا يتمان الصلاة في السفر.
وروينا جواز الأمرين عن سعيد بن المسيَّب، وأبي قِلابة.
وقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا ابن فُضيل وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عُمارة بن
عُمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله بن مسعود: لا تقصر الصلاة إلا في
حج أو جهاد.
وعن عثمان بن عفان ?: إنما يَقصُرُ الصلاةَ من كان حاجًا أو بحضرة عدوٍّ، ورواه عن
ابن عُلية، عن أيوب، عن أبي قِلابة، وكذا قاله إبراهيم التيمي.
وفي «الاستذكار» عن عطاء: ما أرى أن تقصر الصلاة إلا في سبيل من سبل الله تعالى.
وقد كان قبل ذلك لا يقول هذا. كان يقول: يقصر في كل ذلك.
وكان طاوس يسأله الرجل فيقول: أسافر لبعض حاجتي أفأقصر الصلاة؟ فيسكت ويقول: إذا
خرجنا حجاجًا أو عمَّارًا صلينا ركعتين.
قال أبو عمر: ذهب داود في هذا إلى قول ابن مسعود، وهو نقض لأصله في ترك ظاهر
الكتاب؛ إذ لم يخص ضربًا من ضربٍ.
واختلف أهل الظاهر في هذه المسألة: فطائفة قالت بقول داود، وقال أكثرهم: يقصر كل
مسافر، العاصي والمطيع كمذهب أبي حنيفة، وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يقصر إلا
من سافر في طاعة إن يباح، فإن سافر متلذذًا أو شبهه فلا يقصر ولا يفطر.
وعند الطبري - بسندٍ صحيحٍ - عن أبي العالية قال: سافرت إلى مكة - شرَّفها الله
%ج 2 ص 122%
(1/343)
تعالى
- فكنت أصلي ركعتين، فلقيني قرَّاء من هذه الناحية فقالوا: كيف تصلي؟ قلت: ركعتين.
قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كل ذلك سنة وقرآن، صلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم ركعتين، قالوا: إنه كان في حرب. قلت: قال الله تبارك تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].
وقال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] الآية.
وقد أوضح هذا الأمر ما في «صحيح مسلم» عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب:
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ} [النساء: 101] فقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت
منه، فسالت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها
عليكم، فاقبلوا صدقته».
وفي «الاستذكار» عن أبي حنظلة الحذَّاء: قلت لابن عمر: أُصلِّي في السفر ركعتين
والله تعالى يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:
101] فقال: كذا سنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي «تاريخ أصبهان» لأبي نُعَيمٍ: حدَّثنا سليمان، حدَّثنا محمد بن سهل
الرِّبَاطي، حدَّثنا سهل بن عثمان، عن شريك، عن قيس بن وهب، عن أبي الكَنود: سألت
ابنَ عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان نزلت من السماء، فإن شئتم فردُّوها.
(1/344)
أخبرنا
الإمام المسند يحيى بن أبي الفتوح المصري، بقراءتي عليه، عن الإمام بهاء الدين
المصري، أخبرتنا شَهْدة قالت: أخبرنا ابن هريسة، أخبرنا البَرْقاني، أخبرنا
الإسماعيلي، حدَّثنا محمد بن الفضل المحمدآبادي، حدَّثنا عبد الله بن مسلم
الدمشقي، حدَّثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس وابن عمر قالا: «سنَّ رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصلاة في السفر ركعتين، وهي تمام» الحديث، سيأتي
فيه زيادة بعد.
وأما منًى: فذكر هشام بن السائب الكلبي في كتابه «أسماء البلدان» روايةَ أبي بكرٍ؛
أحمد بن سهل الحُلواني: إنما سُمِّيت منًى لأنه مُنيَ بها الكبش الذي فُدي به إسماعيل
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مُنيَ من المَنِيَّة.
قال: وأخبرني أبو محمد بن السائب: إنما سُمِّيت منًى لما يمنى فيها من الشعر والدم
في قول ابن عباس.
ويقال: إن جبريل لما أتى آدم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمنًى قال له: تَمَنَّ، في
قول محمد بن علي بن حسين.
وقال البكري في «معجم ما استعجم»: هو
%ج 2 ص 123%
جبل بمكة معروف.
وقال أبو علي الفارسي: لامه ياء من مَنَيت الشيء إذا قدرته. من قول الشاعر:
حتى تُلاقي ما يُمني لك الماني
والتقاؤهما: أن الناس يقفون بمنى فيقدرون أمورهم وأحوالهم فيها، وهذا صحيح مستقيم،
وهي تؤنث وتذكر، فمن أنث لم يجزه، ويقول هذا منى.
وقال الفراء: الأغلب عليه التذكير. قال العَرْجِي في تأنيثه:
ليومنا بمنى إذ نحن ننزلها أشد من يومنا بالعرج أو ملل
وقال دِعْبِل في تذكيره:
سقى منًى ثم روَّاه وساكنه وما ثوى فيه واهي الوَدق مُنْبَعِق
وأما قول لَبِيد بن ربيعة ?:
عفت الديار محلها فمقامها بمنًى تأبَّد غَوْلها فرِجَامها
فهو موضع في بلاد بني عامرٍ، قاله أبو الفرج الأموي.
وزعم أبو بكرٍ الحازمي: أن منى صقع قرب مكة، وهو أيضًا هضبة قرب قرية في ديار غَني
بن أَعصُر.
وذكره القزاز وصاحب «الواعي» و «الصحاح» في المعتل بالألف.
(1/345)
قال
أبو نصر: موضع بمكة، مقصور، مذكَّر يصرف، وقد امتنى القوم: إذا أتوا منى، عن يونس.
وقال ابن الأعرابي: أمنى القوم.
وقال ابن خزيمة: ليست منى ولا عرفات من مكة؛ بل هما خارجان من مكة، منى بائن من
بناء مكة وعمرانها.
وقد يجوز أن يكون اسم مكة يقع على جميع الحرم لا على نفس البنيان المتّصل بعضه
ببعض خاصّة، فإن كان اسم مكة يقع على جميع الحرم فمنى داخلٌ في الحرم. والله تعالى
أعلم.
بَابٌ: كَمْ أَقَامَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي حَجَّتِهِ؟
1085 - حدَّثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حدَّثنا وُهَيْبٌ، حدَّثنا أَيُّوبُ،
عَنْ أَبِي العَالِيَةِ البَرَّاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَدِمَ
النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصُبْحِ رَابِعُهُ يُلَبُّونَ بِالحَجِّ،
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلَّا مَنْ كان مَعَهُ هَدْيٌ»
تَابَعَهُ عَطَاءٌ. [خ¦1085] خرَّجها في الحج مسندة، ويريد بـ (رَابِعُهُ): يعني%ج
2 ص 124%ذا الحجة، وكان دخوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم الأحد، وبات
بالمُحَصَّب ليلة الأربعاء رابع عشرة، وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة، وخرج صبيحته
مسافرًا. وقال ابن خزيمة: لستُ أحفظ في شيء من الأخبار أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أَزْمَع في شيء من أسفاره على إقامة أيام معلومة غير هذه السفرة التي قدم
فيها مكة لحجة الوداع، فإنه قدمها مُزْمِعًا على الحج، ولم يقم بها إلا ثلاثة أيام
كوامل؛ الخامس والسادس والسابع، وبعض الرابع دون ليلته، وليلة الثامنة، وبعض يوم
الثامن، فلم يكن هناك إزماع على مقام أربعة أيام ولياليها في بلدة واحدة، وسيأتي
إن شاء الله تعالى ذلك في الحج.
بَابٌ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاَةَ
وَسَمَّى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «السّفر يَوْمًا وَلَيْلَةً»
كأن البخاري يريد ما ذكره في هذا الباب: «لا يحل لامرأة أن تسافر مسيرة يوم وليلة»
الحديث.
(1/346)
وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقْصُرَانِ، وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُردٍ
وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا.
هذا التعليق ذكره البيهقي فقال: أخبرنا أبو حامد الحافظ، أخبرنا زاهر بن أحمد،
حدَّثنا أبو بكر النيسابوري، حدَّثنا يوسف بن سعيد بن [مسلم بن حجاج] حدَّثنا ليث،
حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح: «أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان
ركعتين، ويقصران في أربعة برد فما فوق ذلك».
قال أبو عمر: هذا عن ابن عباس معروف من نقل الثقات، متصل الإسناد عنه من وجوه،
منها: ما رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عنه.
وقال ابن أبي شيبة: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو: أخبرني عطاء عنه. وحدَّثنا وكيع،
حدَّثنا هشام بن الغَاز، عن ربيعة الجُرَشي، عن عطاء، عنه.
وقوله ذلك لا يشبه أن يكون رأيًا، إنما يشبه أن يكون توقيفًا، والله تعالى أعلم.
وفي «الموطأ»: مالك عن نافع عن سالم: «أن ابن عمر ركب إلى ذات النُّصُب فقصر
الصلاة في مسيره ذلك». قال مالك: وبين ذات النُّصُب والمدينة أربعة بُرْد.
وعند ابن أبي شيبة: حدَّثنا ابن عُلية، عن أيوب، عن نافع، عن سالم عنه: خرج إلى
أرض له بذات النُّصُب فقصر، وهي ستة عشر فرسخًا.
وعن مالك عن ابن شهاب عن سالم: أن أباه ركب إلى رِيْمٍ فقصر الصلاة في مسيره ذلك،
%ج 2 ص 125%
قال مالك: وذلك نحوٌ من أربعة بُرُد.
قال أبو عمر: خالفة عَقيل عن ابن شهاب فقال: نحو من ثلاثين ميلًا.
وكذلك رواه عبد الرزاق عن مالك عن ابن شهاب عن سالم: أن عبد الله يقصر في اليوم
مسيره التام، قال سالم: وخرجنا مع عبد الله إلى أرض له برِيْم، وذلك من المدينة
على نحو ثلاثين ميلًا، فقصر.
قال أبو عمر: أما رواية عبد الرزاق عن مالك فأظنها وهمًا؛ لخلاف ما في «الموطأ».
(1/347)
وأما
رواية عقيل فإن لم تكن وهمًا فيحتمل أن تكون «رِيم» موضعًا متَّسعًا كالإقليم،
فيكون تقدير مالك إلى آخره، وتقدير عقيل إلى أوله، ومالك أعلم بنواحي بلده.
قال بعض شعراء أهل المدينة:
فكم من حَرّة بين المنقّا إلى أُحدٍ إلى جنبات رِيم
وجنبات ريم: ربما كانت بعيدة الأقطار.
وفي «المحلى» عن معمر، عن أيوب، عن نافع: أن ابن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة
أربعة برد.
قال أبو محمد: وهذا مما اختُلف فيه على ابن عمر.
قال ابن عبد البر: روى ابن جُريج عن نافع: أن عبد الله كان أدنى ما يقصر فيه
الصلاة مال له بخيبر، وهو مسيرة ثلاث قواصد.
وقد اختُلِفَ على ابن عمر في ذلك، وأصح ما روي عنه ما رواه ابنه سالم ونافع: أنه
كان لا يقصر إلا في اليوم التام أربعة بُرْد.
وروى مالك عن نافع: أنه كان يسافر مع مولاه البَرِيد فلا يقصر.
وهذا خلاف ما رواه محارب بن دِثَار عن ابن عمر: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر
الصلاة.
وما رواه محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر: أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة
أميال.
وهذان الخبران من رواية الكوفيين عنه، فكيف نقبلهما مع ما ذكرناه من خلافهما لسالم
ونافع؟
وفي «المصنف» عن ابن بكير، حدَّثنا مالك: أنه بلغه أن ابن عباس كان يقصر الصلاة
فيما بين مكة والطائف، وفيما بين مكة وجدة، وفيما بين مكة وعُسْفان.
قال مالك: وذلك أربعة برد.
1086 - حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ:
حَدَّثَكُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ
إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». [خ¦1086]
(1/348)
1087
- وحدَّثنا مُسَدَّدٌ،%ج 2 ص 126%حدَّثنا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ،
أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مرفوعًا: «لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ
ثَلاَثًا إِلَّا ومَعَها ذو مَحْرَمٍ». [خ¦1087] تَابَعَهُ أَحْمَدُ، عَنْ ابْنِ
المُبَارَكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. انتهىأحمد هذا: ذكر الحاكم أبو عبد الله أنه أحمد
بن محمد بن موسى مَرْدُويَه. وزعم الدارقطني: أنه أحمد بن محمد بن ثابت شَبُّويَه.
وقال أبو أحمد بن عدي: لا يعرف. وفي «علل الدارقطني» قال يحيى بن سعيد القطان: ما
أنكرت على عبيد الله بن عمر إلا هذا الحديث. قال: ورواه عبد الله بن عمر عن نافع
عن ابن عمر موقوفًا، وخالفه إبراهيم الصائغ فرواه عن ابن عمر عن النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم وزاد ألفاظًا لم يأت بها غيره. ولما رواه ابن أبي شيبة في «مسنده» عن
ابن عمير وأبي أسامة عن عبيد الله فذكره مرفوعًا، رأيت حاشية بخط قديم جدًا: هذا
الحديث غلَطٌ، غَلِط فيه عبيد الله عن نافع، ولم ينكر عليه القطان غيره. انتهىوفيه
نظرٌ؛ لجلالة عبيد الله، ولأن يحيى نفسه رواه عنه، فلو كان منكرًا ما رواه عنه،
وإذا رواه عنه فلا يحدِّث به، فيُنظر. وقد وجدنا لعبيد الله متابعًا على رفعه،
رواه مسلم في «صحيحه» عن محمد بن رافع، حدَّثنا ابن أبي فُدَيك، عن الضَّحَّاك بن
عثمان، عن نافع فذكره بلفظ: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر ثلاث
ليال إلا ومعها ذو حُرْمَة».1088 - حدَّثنا آدَمُ، حدَّثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ،
حدَّثنا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ
الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ».
[خ¦1088]
عند مسلم: «مسيرة ليلة».
(1/349)
وعند
ابن حبان: «لا يحل لامرأة تسافر إلا مع ذي محرم».
وعند أبي داود: «بَريدًا».
قال البخاري:
تَابَعَهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، وَسُهَيْلٌ، وَمَالِكٌ، عَنِ
المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
كذا في أكثر النسخ للبخاري: [المقبري عن أبي هريرة. وفي بعضها لم يذكر أبا هريرة].
فعلى الأول تكون المتابعة في لفظ الحديث لا في السند؛ لأن سند ابن أبي ذئب عن أبيه
عن أبي هريرة.
وعلى الثاني: تكون المتابعة في السند، وسنبينه إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن مسعود وخَلَف وأبو نُعيم في «المستخرج»: أن الذي في البخاري عن أبي
هريرة.
أما متابعة سهيل: فرواها أبو داود في «سننه» عن القَعْنَبي، والنُّفَيلي، عن مالك،
وعن يوسف بن موسى بن جرير،
%ج 2 ص 127%
جميعًا عن سُهيل، عن سعيد، عن أبي هريرة.
ومتابعة مالك مخرجة في «الموطأ» عنه، عن أبي هريرة.
وعند أبي عمر: رواه سهيل عن أبيه وسعيد، عن أبي هريرة بلفظ: «إلا ومعها زوجها، أو
ابنها، أو أبوها، أو ذو محرم منها».
ورواه بُكير بن خُنَيس عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة: «لا تسافر امرأة في
الإسلام مسيرة بَرِيدٍ إلا مع زوج أو ذي محرم».
قال أبو عمر: حديث سُهيل في هذا الباب مضطرب الإسناد والمتن.
ولفظ ابن مهدي عنه: «إلا مع ذي محرم من أهلها».
ولفظ الشافعي عنه: «ذي محرم منها».
وقال موسى بن أعين: «إلا مع ذي محرم».
قال الدارقطني في «الغرائب»: رواه بِشر بن عمر، وإسحاق الفَرَوي، عن مالك، عن
سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وعند الإسماعيلي: من حديث الوليد بن مسلم، عن مالك، مثل حديث بشر بن عمر.
وقال أبو عمر: روى شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن
أبي هريرة.
وقال الدارقطني في استدراكه على الشيخين كونهما أخرجاه من حديث ابن أبي ذئب عن
سعيد عن أبيه، وقال: الصواب سعيد عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه.
(1/350)
واحتج
بأن مالكًا ويحيى بن أبي كثير وسهيلًا قالوا: عن سعيد عن أبي هريرة.
وسيأتي من عند البخاري حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا بلفظ: «يومين إلا ومعها
زوجها».
وفي رواية: «ثلاثًا».
وفي رواية: «فوق ثلاث».
وفي رواية: «تسافر سفرًا يكون ثلاثة أيام فصاعدًا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو
زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها».
وحديث ابن عباس يرفعه: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» فقال رجل: يا رسول الله
إن امرأتي خرجت حاجَّة، وإني اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا، قال: «انطلق فحجَّ مع
امرأتك».
ورواه أيضا: عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ذكره أبو عمر مرفوعًا.
البريد: قال ابن سيده: هو فرسخان.
وقيل: ما بين كل منزلتين بريد.
وقال صاحب «الجامع»: البريد أميال معروفة، يقال: هو أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة
أميال.
وفي «الواعي»: البريد سكة من السكك، كل اثنا عشر ميلًا بريدٌ.
وكذا ذكره في «الصحاح» وغيره.
وفي «الجمهرة»: البريد
%ج 2 ص 128%
معروف عربي.
والفرسخ: قال ابن سيده: هو ثلاثة أميال، أو ستة، سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى قعد
واستراح كأنه سكن، والفرسخ السكون.
وفي «الجامع»: قيل: إنما سُمِّيَ فرسخًا من السعة. وقيل: المكان إذا لم يكن فيه
فرجة فهو فرسخ. وقيل: الفرسخ الطويل.
وفي «مجمع الغرائب»: فراسخ الليل والنهار ساعاتهما وأوقاتهما.
وفي «الصحاح»: هو فارسي معرب.
والميل: من الأرض معروف، وهو قدر مدِّ البصر، وقيل: ليس له حد معلوم، وقيل: هو
ثلاثة آلاف ذراع. وعن يعقوب: منتهى مدِّ البصر.
وفي «التنبيهات»: الميل عشر غَلَوات، والغَلَوة طَلْق الفرس، وهو مئتا ذراع.
وفي «المُغرب» للمُطَرَّزي: الغلوة ثلاثمئة ذراع إلى أربعمئة. وقيل: هي قدر رمية
بسهم.
والميل الهاشمي: لأن بني هاشم حددوه وأعلموه.
(1/351)
وقال
ابن عبد البر: أصح ما في الميل: ثلاثة آلاف ذراع وخمسمئة. وقيل: أربعة آلاف ذراع.
وقيل: ألف خطوة بخطوة الجمل. وقيل: هو أن ينظر إلى الشخص فلا يعلم أهو آت أو ذاهب،
وأرجل هو أو امرأة.
قال عياض: وقيل اثنا عشر ألف قدم.
وعن الجَرمي قال أبو نصر: هو قطعة من الأرض ما بين العلمين.
وقوله: (لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ) ظاهر الأحاديث الواردة في الباب يلزم منها أن
يكون المحرم شرطًا في وجوب الحج على المرأة، وقد روي ذلك عن النخعي والحسن، وهو
مذهب أبي حنيفة وفقهاء أصحاب الحديث.
وفي كتاب «الحج» للطَرْطُوسي: وعن أبي حنيفة لا يجوز لها الخروج مع نساء ثقات وقوم
مأمونين، واختلف أصحابه، فقال بعضهم: المحرم شرط في الوجوب، فإذا لم تجده لم
يلزمها الحج. وقال بعضهم: هو شرط في الأداء لا في الوجوب.
ويدل لما قاله مالك قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يا عدي بن حاتم يوشك أن
تخرج الظَّعينةُ من الحيرة تؤمُّ البيت لا جوار معها، لا تخاف إلا الله عزَّ
وجلَّ».
وجهة الدليل: أنه أخبر بظهور الإسلام، وانتشار العدل، حتى تخرج المرأة وحدَها، فلو
شرط معها المحرم بطل هذا المعنى.
وذهب عطاء وابن جبير وابن سيرين والأوزاعي ومالك والشافعي إلى أن ذلك
%ج 2 ص 129%
ليس بشرط، وروي مثله عن عائشة، لكن الشافعي يشترط في أحد قوليه أن يكون معها نساء
ثقات أو امرأة ثقة.
قال النووي: فلو وجدت امرأة واحدة ثقة لم يلزمها الحج، لكن يجوز لها الحج معها،
هذا هو الصحيح.
قال القرطبي: وظاهر قول مالك على اختلاف تأويل قوله: تخرج مع رجال أو نساء، فهل هو
بمجموع ذلك أو في جماعة من أحد الجنسين؟ وأكثر ما نقله عنه أصحابنا اشتراط النساء.
(1/352)
وسبب
هذا الخلاف: مخالفة ظاهر هذه الأحاديث لظاهر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]
وأجمعت الأمة أن المرأة تلزمها حجة الإسلام بهذه الآية وبقوله: «بني الإسلام على
خمس شهادة .. » فذكر منها الحج عارضت مع الأحاديث الواردة: «لا تسافر المرأة إلا
مع ذي محرم».
فاختلف العلماء في تأويل ذلك، فجمع أبو حنيفة - ومن قال بقوله - بينهما بأن جعل
الحديث مبينًا للاستطاعة في حق المرأة.
ورأى مالك - ومن قال بقوله - أن الاستطاعة بنفسها سنة في حق الرجال والنساء، وأن
الأحاديث المذكورة في هذا لم تتعرض للأسفار الواجبة.
واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج والعمرة إلا مع ذي محرم، وحاشى
الهجرة من دار الحرب، فاتفقوا على أنها تهاجر من دار الحرب إلى دار الإسلام، وإن
لم يكن معها محرم.
قال الباجي: هذا عندي في الشابة، أما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر كيف شاءت في كل
الأسفار بلا زوج ولا محرم.
وقال عياض: ورُد هذا بأن المرأة مظنة الطمع، ولكل ساقطة لاقطة.
وفي كتاب «الحج» للطَّرطُوسي: قال ابن عبد الحكم: لا تخرج مع نساء ليسوا منها
بمحرم.
وأما اختلاف ألفاظ المدة فهو بحسب اختلاف السائلين واختلاف المواطن، وليس في النهي
عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم أو البريد.
قال البيهقي: فإنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِلَ عن المرأة تسافر ثلاثًا بغير
محرم فقال: لا. وسُئِلَ عن سفرها يومين بغير محرم فقال: لا. وسُئِلَ عن سفرها
يومًا فقال: لا. وكذلك البَرِيد، فأدَّى كل منهم ما سمع، وما جاء منها مختلف من
راوٍ واحدٍ فسمعه في مواطن، وروى تارة هذا وتارة هذا، وكله صحيح، وليس في هذا كله
تحديد، لا كل ما يقع عليه اسم السفر.
وقيل:
%ج 2 ص 130%
(1/353)
يحتمل
أن يُجمَع بينهما بأن اليوم المفرد والليلة المفردة بمعنى اليوم والليلة
المجموعين، فيكون اليوم إشارة إلى مدة الذهاب، واليومان إشارة إلى مدة الذهاب
والرجوع، والثلاثة إشارة إلى مدة الذهاب والرجوع واليوم الذي تقضى فيه الحاجة.
وقيل: قد يكون هذا كله تمثيلًا لأقل العدد، فاليوم للواحد أول العدد وأقله،
والاثنان أول الكثير وأقله، والثلاثة أقل الجمع.
قوله: (لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ) قال القرطبي: على العموم لجميع المؤمنات؛ لأن
المرأة نكرة في سياق النفي، فيدخل فيه الشابة والمُتَجالَّة، وهو قول الكافة، وقال
بعض أصحابنا: تخرج منه المتجالَّة، وهو بعيد.
واختُلِفَ في المحرم: فيجوز لها المسافرة مع محرمها بالنسب؛ كأبيها وأخيها وابن
اختها وابن أخيها وخالها وعمها.
ومع محرمها بالرضاع؛ كأخيها من الرضاع، وابن أخيها، وابن أختها منه، ونحوهم.
ومع محرمها من المصاهرة؛ كأبي زوجها، وابن زوجها,
ولا كراهة في شيء من ذلك، وكذا يجوز لهؤلاء الخلوة بها، والنظر إليها من غير حاجة،
ولكن لا يحل النظر بشهوة.
وحاصله: أن محرم المرأة من لا يجوز له نكاحها من الأقارب، وكره مالك سفرها مع ابن
زوجها؛ لفساد الناس بعد العصر الأول، ولأن كثيرًا من الناس لا ينفرون من زوجة الأب
نفرتهم من محارم النسب.
وقوله: (تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ) فيه تعريض أنها إذا سافرت بغير
محرم فإنها ستخالف شرط الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن التعرض إلى وصفها بذلك
إشارة إلى التزام الوقوف عند ما نهيت عنه، وأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقضي
لها بذلك.
وقوله: (أَنْ تُسَافِرَ) في موضع رفع؛ لأنه فاعل يحل، التقدير: لا يحل لها السفر.
الهاء في (مَسِيرَةَ يَوْمٍ) للمرة الواحدة، التقدير: أن تسافر مرة واحدة، سفرة
واحدة، مخصوصة بيوم وليلة.
بَابُ يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ
(1/354)
وَخَرَجَ
عَلِيٌّ: فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى البُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ
الكُوفَةُ، قَالَ: «لاَ حَتَّى نَدْخُلَهَا».
هذا التعليق رواه أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المُغَلِّس في «الموضح» تأليفه،
عن بشر بن موسى، حدَّثنا خَلَّاد بن يحيى، عن سفيان، عن وقاء بن إياس الأسدي،
أخبرنا علي بن
%ج 2 ص 131%
ربيعة، قال: خرجنا مع علي ? فقصر ونحن نرى البيوت، ثم رجعنا فقصرنا ونحن نرى
البيوت، فقلنا له فقال: نقصر حتى ندخلها.
ورواه الحاكم عن أبي العباس محمد بن يعقوب، حدَّثنا الحسن بن مكرم، حدَّثنا يزيد -
يعني ابن هارون - أخبرنا وقاء.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، أخبرنا محمد بن يعقوب، حدَّثنا أسيد
بن عاصم، حدَّثنا الحسين بن حفص، عن سفيان، حدَّثنا وِقاء، فذكره.
ووِقاء فيه كلام، فينظر في جزم البخاري بالتعليق عنه.
وقد رأيت أبا عمر قال: روى سفيان بن عيينة وغيره، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن
يزيد، قال: خرجت مع علي بن أبي طالب إلى صفين، فلما كان بين الجسر والقنطرة صلى
ركعتين. انتهى، وسنده صحيح.
وعن الثوري، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، أن عليًا حين خرج من
البصرة رأى خُصًّا - يعني خيمة - فقال: لولا هذا الخُصُّ لصلينا ركعتين. وروى وكيع
عن الثوري مثله.
قال أبو عمر: وقيل هذا عن علي من وجوه شتى، وهو مذهب جماعة العلماء إلا من شذَّ،
وممن روينا عنه ذلك: علقمة، والأسود، وعمرو بن ميمون، والحارث بن قيس الجعفي،
والنخعي، وعطاء، وقتادة، والزهري، وهو [قول] مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد،
وسفيان الثوري، وسليمان بن موسى، والأوزاعي، وأهل الحديث.
حديث أنس:
1089 - « .. وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ». [خ¦1089] يأتي إن شاء الله تعالى
في الحج. وحديث عائشة:1090 - «الصَّلاَةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْن».
[خ¦1090]
(1/355)
تقدم
في أول كتاب الصلاة، ومما ينبَّه عليه هنا قوله: حدَّثنا عبد الله بن محمد،
حدَّثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ هَاجَرَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا» الحديث.
سفيان هذا: هو ابن عيينة، قاله الطَّرْقي، وصرح به الحُميدي والشافعي، إذ
رَوَيَاهُ عنه، وكذا ابن حزم.
وقال أبو عمر: كل من رواه عن عائشة قال فيه: «فرضت الصلاة» إلا ما حدث به أبو
إسحاق الحربي قال: حدَّثنا أحمد بن الحجاج، حدَّثنا ابن المبارك، حدَّثنا ابن
عجلان، عن صالح بن كَيسان، عن عروة، عن عائشة قالت: «فرض رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم الصلاة ركعتين ركعتين» الحديث، انتهى كلامه.
وفي «مسند عبد الله بن وهب» بسند صحيح عن عروة عنها: «فرض الله
%ج 2 ص 132%
الصلاة حين فرضها ركعتين» الحديث.
وعند السراج بسند صحيح قالت: «فرض الصلاة على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أول ما فرضها ركعتين» الحديث.
وفي لفظ: «أول ما افترض على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الصلاة ركعتين
ركعتين إلا المغرب» وسنده صحيح.
وعند البيهقي من حديث داود بن أبي هند، عن عامر عن عائشة قالت: «افترض الله الصلاة
على نبيكم بمكة ركعتين ركعتين؛ إلا المغرب، فلما هاجر إلى المدينة زاد إلى كل
ركعتين ركعتين إلا صلاة الغداة».
قال: وقد رويناه من حديث بَكَّار بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن مسروق، عن
عائشة بمعناه. وكذا قاله محبوب عن داود.
وقال الدولابي: نزل إتمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت
من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشهر، وأقرت صلاة السفر
ركعتين.
وقال المهلب: المغرب فرضت وحدها ثلاثًا، وما عداها ركعتين ركعتين.
وقال الأَصيلي: أول ما فرضت الصلاة أربعًا على هيئتها اليوم.
(1/356)
وأنكر
قول من قال: فرضت ركعتين، وقال: لا يقبل في هذا خبر الآحاد، وأنكر حديث عائشة.
وقال أبو عمر بن عبد البر: رواه مالك عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة، وقال:
حديث صحيح الإسناد عند جماعة أهل النقل، لا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده؛ إلا
أن الأوزاعي قال فيه: عن الزهري عن عروة عن عائشة، وهشام بن عروة عن عروة عن
عائشة، ولم يروه مالك عن ابن شهاب ولا عن هشام، إلا أن شيخًا يسمَّى محمد بن عباد
بن هانئ رواه عن مالك وابن أخي الزهري، جميعًا عن الزهري، عن عروة عن عائشة، وهذا
لا يصح عن مالك، والصحيح في إسناده عن مالك ما في «الموطأ»، وطرقه عن عائشة متواترة،
وهو عنها صحيح، ليس في إسناده مقال.
إلا أن أهل العلم اختلفوا في معناه، فذهب جماعة منهم إلى ظاهره وعمومه وما يوجبه
لفظه، فأوجبوا القصر في السفر فرضًا، وقالوا: لا يجوز لأحد أن يصلي في السفر إلا
ركعتين ركعتين في الرباعية، وحديث عائشة واضح في أن الركعتين للمسافر فرض؛ لأن
الفرض الواجب لا يجوز خلافه ولا الزيادة عليه، ألا ترى أن المصلي في الحضر
%ج 2 ص 133%
[لا] يجوز له أن يزيد في صلاة من الخمس شيئًا، ولو زاد لفسدت، فكذلك المسافر لا
يجوز له أن يصلي في السفر أربعًا لأن فرضه فيه ركعتان.
وممن ذهب إلى هذا:
عمر بن عبد العزيز إن صح عنه، وعنه: الصلاة في السفر ركعتان لا يصح غيرهما. ذكره
ابن حزم محتجًا به.
وحماد بن سليمان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول بعض أصحاب مالك.
وروي عن مالك أيضًا - وهو المشهور عنه - أنه قال: من أتم في السفر أعاد في الوقت.
واستدلوا بحديث عمر بن الخطاب: «صلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان
نبيكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» رواه النسائي بسند صحيح.
وبما رواه ابن عباس من عند مسلم: «إن الله فرض الصلاة على نبيكم صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين».
(1/357)
وفي
«التمهيد» من حديث أبي قِلابة، عن رجل من بني عامر، أنَّه أتى النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فقال له: «إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة»، وعن أنس
بن مالك القشيري عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مثله.
وعند ابن حزم - صحيحًا - عن ابن عمر قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صلاة
السفر ركعتان، من ترك السنة كفر.
وعن ابن عباس: من صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين.
وفي «مسند السراج» - بسند جيد - عن عمرو بن أمية الضمري يرفعه: «إن الله رفع عن
المسافر الصيام ونصف الصلاة».
وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس، وابن عمر، والثوري.
وقال الأوزاعي: إن قام إلى الثالثة ألغاها وسجد للسهو.
قال الحسن بن حَيٍّ: إذا صلَّى أربعًا متعمِّدًا أعادها إذا كان ذلك منه الشيء
اليسير، فإن طال ذلك منه وكثر في سفره لم يعد.
وقال الحسن البصري: من صلى أربعًا عمدًا بئس ما صنع وقضت عنه. ثم قال للسائل: لا
أبا لك، أترى أصحاب محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تركوها لأنها ثقلت عليهم؟
وقال الأثرم: قلت لأحمد: الرجل يصلي أربعًا في السفر؟ قال: لا، ما يعجبني.
وقال البَغَوي الشافعي: هذا قول أكثر العلماء.
وقال الخَطابي: الأولى القصر ليخرج من الخلاف.
وقال الترمذي: العمل على
%ج 2 ص 134%
ما فعله النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقال أبو عمر: وقد طعن [قوم في] حديث عائشة لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، وقالوا: لو كانت ركعتين
لم يقصر؛ لأن الإجماع منعقد ألا يصلي المسافر في سفره أقل من ركعتين في شيء من
الصلوات، فأي قصر كان يكون لو كانت الصلاة ركعتين؟
(1/358)
قال
أبو عمر: وهذه غفلة شديدة؛ لأن الصلاة إن كانت فرضت بمكة - شرَّفها الله تعالى -
ركعتين كما قالت عائشة، فقد زِيدَ فيها على قولها بعد قدومه صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم المدينة، وبعد ذلك نزلت سورة النساء في إباحة القصر للضاربين في الأرض وهم
المسافرون، وهذا لا يخفى على من له أدنى فهم، على أنا نقول إن فرض الصلاة استقر من
زمانه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى يومنا هذا في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين
لمن شاء عند قوم، وعند آخرين على الإلزام، فلا حاجة بنا إلى أول فرضها لما فيه من
الاختلاف، فمن ذهب إلى الإلزام ذهب إلى حديث عائشة، وهو حديث قد خولفت فيه، وكانت
هي أيضًا لا تأخذ به؛ لأنها كانت تتم في سفرها، ولا يظن عاقل بها تعمد فساد صلاتها
بالزيادة فيها ما ليس منها عامدة، فدلَّ ذلك على أنها علمت أن القصر ليس بواجب،
وأنه رخصة، ولا وجه لقول من قال إنها تأوَّلت أنها أم المؤمنين فحيث حلت عند
بنيها؛ لأنه قول ضعيف لا معنى له ولا دليل عليه، لأنها إنما صارت أم المؤمنين بأن
كانت زوجًا لأبي المؤمنين صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان هو صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أولى بذلك.
والأولى عندنا أنها علمت أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما خُيِّر في القصر
والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، فأخذت هي في خاصتها بغير الرخصة، إذا كان
ذلك مباحًا لها، وقد أسلفنا عنها بمعنى ذلك مرفوعًا.
قال أبو عمر: والمصير إلى ظاهر قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] أولى؛ لأن رفع الحرج يدل على الإباحة
لا على الإلزام، مع ما تقدم من الآثار المبينة بأن قصر الصلاة سنة ورخصة وصدقة.
والذي ذهب إليه أكثر العلماء من السلف والخلف في قصر الصلاة في السفر أنها سنة
مسنونة لا فريضة، وبعضهم يقول رخصة وتوسعة، فمن جعلها سنة رأى الإعادة منها في
الوقت، وكره الإتمام، وهذا تحصيل مذهب مالك
%ج 2 ص 135%
(1/359)
وأكثر
أصحابه، ومن رآها رخصة وأجاز الإتمام وجعل المسافر بالخيار في القصر والإتمام.
روى أبو مصعب عن مالك أنه قال: القصر في السفر سنة مؤكدة للرجال والنساء.
وقال الشافعي: لا أحب لأحد أن يتم رغبة عن السنة، فإن أتمها متأوِّلًا وأخذ
بالرخصة فلا حرج، قال: وليس للمسافر أن يصلي ركعتين حتى ينوي القصر.
قال أبو عمر: فهو على أصله فرضُه أربع، وأصحابه اليوم على أن المسافر مخير في
القصر والإتمام، وكذلك جماعة المالكيين من البغداديين.
قال أبو عمر: والفصل عندي القصر.
وقال القاضي أبو محمد بن عبد الحق في رده علة صاحب الكتاب «المحلى»: إن حمل حديث
عائشة على ظاهره فهذان الحديثان ناسخان له، وكذا حديث عمر وابنه، ولا يقال بالنسخ
إلا بعد تعذر الجمع، والجمع بينهما قريب، والتأويل سائغ، فيكون معنى قول عائشة:
«وأقرت صلاة السفر» لمن شاء أو أخذ بالرخصة، وكذا حديث عمر وابنه.
يعني حديث العلاء بن زهير من عند النسائي، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عنها:
«خرجت مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوة في رمضان فأفطر النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم وصمتُ، وقصرَ وأتممتُ، فقلت: يا رسول الله أفطرتَ وصمتُ وقصرتَ
وأتممتُ؟ فقال: أحسنتِ يا عائشة».
قال: وهو حديث صحيح، وإن كان ابن حزم رده بجهالة حال العلاء فليس جيدًا؛ لأن
العلاء ثقة مشهور.
وزعم ابن حزم أن عطاء روى عن عائشة: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقصر
في السفر ويتم»، ثم قال: تفرد به المغيرة بن زياد، ولم يروه غيره، وهو منكر
الحديث.
وهو غير جيد أيضًا؛ لأن الدارقطني رواه في «سننه» من حديث أبي عاصم، حدَّثنا عمر
بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عنها، الحديث، ثم قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح.
وأما حديث: «المتم في السفر كالمقصر في الحضر» فرده العقيلي لمَّا رواه برواية عمر
بن سعيد وغيره.
بَابُ يُصَلِّي المَغْرِبَ ثَلاَثًا فِي السَّفَرِ
(1/360)
1091
- أخبرنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي
سَالِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ%ج 2 ص 136%صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ
المَغْرِبَ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العِشَاءِ» قَالَ سَالِمٌ:
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَفْعَلُهُ إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ. [خ¦1091] 1092 -
وَزَادَ اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ سَالِمٌ: كَانَ
ابْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. قَالَ سَالِمٌ:
وَأَخَّرَ ابْنُ عُمَرَ المَغْرِبَ، وَكَانَ اسْتُصْرِخَ عَلَى صَفِيَّةَ،
فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةَ، فَقَالَ: سِرْ، فَقُلْتُ: الصَّلاَةَ، فَقَالَ: سِرْ،
حَتَّى سَارَ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ:
«هَكَذَا رَأَيْتُ رسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي إِذَا أَعْجَلَهُ
السَّيْرُ». [خ¦1092]
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي إِذَا
أَعْجَلَهُ السَّيْرُ يقيم المَغْرِبَ، فَيُصَلِّيهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ،
ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ العِشَاءَ، فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلاَ يُسَبِّحُ بَعْدَ العِشَاءِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ
اللَّيْلِ».
(1/361)
قال
الإسماعيلي: هذا الحديث رواه أبو صالح عن الليث هكذا، فكأنه - يعني البخاري - لم
يستجز في هذا الكتاب أن يروي عنه؛ إلا أنه رأى الإرسال عنه كأنه أقوى، وهذا أمر
عجيب؛ إذ جعل إرساله هذا عن ضعيف يصحح ترجمة مقصده من هذا الباب، وذكره لذلك،
وروايته عنه لهذا الحديث غير مصحح ترجمة بابه. وقد أخبرني القاسم بن زكريا،
حدَّثنا ابن زَنْجويه، وحدثني إبراهيم بن هانئ، حدَّثنا الرفاعي، قالا: حدَّثنا
أبو صالح، حدَّثنا الليث بهذا لا على هذا الطول، ولكن قال: إن ابن عمر قال: «رأيت
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أعجله السير يقيم صلاة المغرب فيصليها
ثلاثًا» ثم ذكر باقي الحديث إلى قوله: «ولا يسبح بعد العشاء حتى يقوم من جوف
الليل» انتهى.
وفي «صحيح مسلم»: حدَّثنا حرملة، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا يونس، عن ابن شهاب أن
عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، أن أباه قال: «جمع رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم بين المغرب والعشاء ليس بينهما سجدة، وصلى المغرب ثلاثًا، والعشاء
ركعتين».
ورواه أيضًا من حديث سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: «جمع رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين المغرب والعشاء بجمع، صلَّى المغرب ثلاثًا
والعشاء ركعتين بإقامة واحدة».
وعند الترمذي: «أَخَّرَ المغربَ حتى غابَ الشفق، ثم نزل فصلَّى فجمع بينهما، ثم
أخبرهم أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يفعل ذلك إذا جدَّ به السير».
وعند أبي داود: «غاب الشَّفق وتصوَّبت
%ج 2 ص 137%
النجوم».
وفي حديث سفيان بن سعيد، عن يحيى بن سعيد: «أخَّرها إلى ربع الليل».
وفي لفظ: «إذا كان في آخر الشَّفَق نزَلَ فصلَّى المغرب، ثم أقام العشاء وقد توارى
الشفق».
وفي لفظ: «حتى إذا كان قبل غيوب الشفق نزل فصلَّى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق
وصلى العشاء».
وفي لفظ: «عند ذهاب الشفق نزل فجمع بينهما».
وأسانيدها كلها مرفوعة صحيحة.
(1/362)
وعند
ابن خزيمة: «فسرنا حتى كان نصف الليل أو قريبًا من نصفه نزل فصلَّى».
وزعم البيهقي في «المعرفة» أن محمد بن فضيل عن أبيه، وجابر، وعطاف بن خالد، رووه
عن نافع: «صلَّى قبل غروب الشفق المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق فصلى العشاء».
وقال: هؤلاء خالفوا الأئمة الحفاظ من أصحاب نافع في هذه الرواية، ولا يمكن الجمع
بينهما، فتترك روايتهم ويؤخذ برواية الحفاظ.
وزعم أبو داود: لم نر ابن عمر جمع بينهما قط إلا تلك الليلة، يعني ليلة استصرخ على
صفية.
وفي رواية: فعل ذلك مرة أو مرتين.
وزعم عبد الحق الإشبيلي أن فيه وهمًا، والصحيح منها رواية النسائي عن محمود بن
خالد، حدثني الوليد، حدَّثنا ابن جابر - وهو عبد الرحمن بن يزيد - قال: حدثني
نافع، قال: خرجت مع عبد الله، فذكر قوله: حتى إذا كان في آخر الشفق. قال: وما في
معناه.
قال: ويقوي هذه الرواية حديث أنس الآتي من عند مسلم: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم كان إذا عجَّل به سفر يؤخِّر الظهر إلى أول وقت العصر، فيجمع بينهما،
ويؤخِّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين مغيب الشفق».
وعنده أيضًا: «كان إذا ارتحل قبل أن تزيغَ الشمس أخَّر الظهر إلى أول وقت العصر،
ثم ينزل فيجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب».
وعند النسائي أيضًا عن كثير بن قيس عن سالم أن ابن عمر: «سار حتى إذا اشتبكت
النجوم نزل ثم قال للمؤذن أقم» الحديث.
وعند الدارقطني بسند فيه مجهولان يرفعه: «إذا ارتحل حين تزول الشمس جمع بين الظهر
والعصر، فإذا مَدَّ به السيرُ أخَّر الظهر وعجَّلَ العصر، ثم يجمع بينهما».
وعند السراج: «وكان لا ينادى معه في السفر إلا في الصبح والمغرب، وسائر ذلك
إقامة».
وعند مسلم من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل
%ج 2 ص 138%
عن معاذ: «خرجنا مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر
والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا».
(1/363)
وفي
حديث قرَّةَ بن خالد عن أبي الزبير: «جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين
المغرب والعشاء» قال: قلت: ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد ألا يحرج أمته.
وقال أبو داود: حدَّثنا قتيبة، حدَّثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي
الطفيل، عن معاذ بن جبل: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوة تبوك كان إذا
ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّرَ الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا
ارتحل بعد زيغ الشمس صلَّى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل
المغرب أخَّرَ المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجَّلَ العشاء
فصلاها مع المغرب».
قال أبو داود: هذا حديث منكر، وليس في تقديم الوقت حديث قائم.
وعند الترمذي: «وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجَّلَ العصر إلى الظهر، وصلى الظهر
والعصر جميعًا».
وقال: حديث حسن غريب، لا نعرف أحدًا رواه عن الليث غير قتيبة، والمعروف عند أهل
العلم حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل: «جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين
المغرب والعشاء».
وقال البيهقي: تفرَّد به قتيبة عن الليث عن يزيد، وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد
عن أبي الطفيل، فأما رواية أبي الزبير عنه فمحفوظة صحيحة.
وقال ابن يونس في «تاريخه»: لم يحدِّث به إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط وأن موضع
[يزيد] أبو الزبير.
وقال الدارقطني: رواية أبي الزبير هي الصحيحة، وقيل: عن أبي الزبير عن ابن جبير،
وهو صحيح عنه، وقيل: عن أبي الزبير عن جابر، وجمع قُرة في روايته عن أبي الزبير
بهذا الحديث بين حديث أبي الطفيل عن معاذ وبين حديث أبي الزبير عن ابن جبير عن ابن
عباس، وبين حديث أبي الزبير عن جابر نفسه، فيشبه أن تكون الأقاويل كلها محفوظة.
وقال السَّراج عن قتيبة: على هذا الحديث سبع علامات. يعني الذين رووه عنه أحمد بن
حنبل، وأبو خيثمة، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحميدي، ويحيى، حتى عدَّ سبعةً.
(1/364)
وقال
أبو علي الطُّوسي: حدَّثنا يوسف بن موسى القطان، حدَّثنا محمد بن عيسى الطَّبَّاع،
حدَّثنا مالك
%ج 2 ص 139%
بن أنس، عن أبي الزُّبير، عن أبي الطفيل أن معاذًا أخبره: «أنهم خرجوا مع رسول
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عام تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب، قال:
وأخَّر الصلاة يومًا ثم خرج فصلَّى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل وخرج فصلَّى
المغرب والعشاء جميعًا».
وحدَّثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، ومحمد بن علي بن طرخان، قالا: حدَّثنا قتيبة،
حدَّثنا الليث، فذكر الحديث السابق من عند أبي داود، وقال في آخره: قال محمد بن
إسماعيل: وسمعت أحمد بن حنبل وسُئِلَ عن هذا الحديث فقال: حدَّثنا به قتيبة، فمن
عمل به أجزأه. وبلغني أن علي بن المديني روى هذا الحديث عن أحمد بن حنبل عن قتيبة،
وهو حديث حسن غريب، تفرد به قتيبة، لا نعرف أحدًا رواه غير الليث عن يزيد.
وقال أبو حاتم: كتبت عن قتيبة حديثَ الليث، لم أصبه بمصر عن الليث عن يزيد، ولا
أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث، حدَّثنا أبو صالح، عن
هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ عن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم بهذا.
وقال ابن العربي عن البخاري: يشبه أن يكون هذا الكلام في حديث معاذ من تفسير
الليث.
وقال الخطيب لم يرو حديث يزيد عن أبي الطفيل أحدٌ غير قتيبة عن الليث، وهو منكر
جدًا من حديثه، ويَرَونَ أن خالدًا المدائنيَّ أدخله على الليث، وسمعه منه قتيبة.
وفي «الاستذكار» قال أبو عمر وذكر حديث ابن عمر: ولو تعارض الحديثانِ - يعني هو
وحديث معاذ - لكان الحكم لحديث معاذ؛ لأنه أثبت ما نفاه ابن عمر، وليس للنافي
شهادة مع المثبت.
وفي «مسند أحمد» زيادة: «جمع في تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى
رجعنا».
وقال أبو محمد بن حزم: لا يعلم أحدٌ من أصحاب الحديث ليزيدَ بن أبي حبيب سماعًا من
أبي الطفيل عامر بن واثلة.
(1/365)
وقال
الحاكم أبو عبد الله: هذا حديث رواته ثقات وهو شاذ الإسناد والمتن، ولا نعرف له
علَّة نعلِّلُه بها، فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وذكر أن البخاري قال: قلت لقتيبة:
مَعَ مَنْ كتبتَ عن الليثِ حديث يزيد عن أبي الطفيل؟ قال: كتبته مع خالد المدائني،
قال: وكان
%ج 2 ص 140%
خالد يُدخِلُ الحديث على الشيوخ. انتهى.
قد وجدنا لهذا الحديث متابعًا رواه أبو داود عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب،
حدَّثنا الفضل بن فضالة، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل،
عن معاذ: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس
قبلَ أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخَّر الظهر حتى
ينزل العصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب
والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخَّر المغرب حتى ينزل العشاء ثم يجمع
بينهما».
قال أبو داود: حديث المفضل عن الليث حديث منكر.
وفي كتاب ابن دَاسَه: روى هذا الحديث ابن أبي فُدَيك، عن هشام بن سعد، عن أبي
الزبير على معنى حديث مالك، يعني الذي تقدم من عند الطوسي.
وقال الدارقطني: رواه المفضل عن الليث عن هشام. وهو أشبه بالصواب.
قال أبو داود: ورواه هشام بن عروة، عن حسين بن عبد الله، عن كريب عن ابن عباس عن
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نحوه.
وذكر الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله الأندلسي - المعروف بابن العربي - أن حديث
ابن عباس - يعني الذي أشار إليه أبو داود - صحيح وليس له علَّة.
وكأنه غير جيد؛ لأن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وإن
كان أحمد بن سعيد قال عن يحيى بن معين: لا بأس به بالحديث، يكتب حديثه.
وقال ابن عدي: أحاديثه يشبه بعضها بعضًا، وهو ممن يكتب حديثه، فإني لم أجد في
أحاديثه منكرًا قد جاوز المقدار.
وقال أبو الحسن العجلي: لا بأس به.
وخرج الحاكم له حديثًا في «مستدركه».
(1/366)
فقد
تكلم فيه غير واحد، ولفظه عند الدارقطني، ورواه عن أبي بكر النيسابوري، حدَّثنا
الحسن بن يحيى الجرجاني، حدَّثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، حدثني حسين بن عبد الله
بن عباس، عن عكرمة وعن كريب مولى ابن عباس [أن ابن عباس] قال: ألا أخبركم عن صلاة
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السفر؟ قلنا: بلى، قال: «كان إذا زاغت له
الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار
حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع
بينها وبين
%ج 2 ص 141%
العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا حانت العشاء نزل فجمع بينهما».
ثم قال: روى هذا الحديث حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني حسين، عن كريب وحده، عن
ابن عباس، ورواه عثمان بن عمر، عن ابن جريج، عن حسين، عن عكرمة، عن ابن عباس،
ورواه عبد المجيد عن ابن جريج عن هشام عن حسين عن كريب عن عبد الله.
قال: وكلهم ثقات، فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه أولًا من هشام، عن حسين، ثم لقي
ابنُ جريج حسينًا فسمعه منه كقول عبد الرزاق وحجاج، عن ابن جريج قال: حدثني حسين،
واحتمل أن يكون حسين سمعه من كريب ومن عكرمة جميعًا عن مولاهما، فكان يحدث به مرة
عنهما ومرة فرقهما، وتصح الأقاويل كلها.
وقد خرج البيهقي له متابعًا من طريق حجاج بن منهال، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن أيوب
عن أبي قلابة عن ابن عباس أنه قال: إذا كنتم سائرين فنأى بكم المنزل فسيروا حتى
تصيبوا منزلًا تجمعوا بينهما، وإن كنتم نزلًا فعجل لكم أمر فاجمعوا بينهما ثم
ارتحلوا.
ورواه أيضًا من طريق سليمان بن حرب وعارم، عن حماد عن أيوب عن أبي قِلابة عن ابن
عباس، ثم قال: لا أعلمه إلا مرفوعًا.
وعند ابن أبي شيبة: حدَّثنا يزيد بن هارون، عن حجاج، عن عطاء قال: أقبل ابن عباس
من الطائف فأخَّر صلاة المغرب، ثم نزل فجمع بين المغرب والعشاء.
(1/367)
ويرشحه
ما رواه أبو قتادة العدوي عند البيهقي في «المعرفة»: أن عمر بن الخطاب كتب إلى
عامله: أن الجمع بين الصلاتين من الكبائر.
وهو يحدثني فيما قاله الشافعي أنه مرسل، وكأنه رآه من رواية أبي العالية عن عمر.
وهو لعمري لم يسمع منه، لكنْ أبو قتادة صحابي فسماعه منه واضح.
وما في البخاري عن عبد الله بن مسعود: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا
يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله: هما
صلاتان تحولتا من وقتهما، صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين
يبزغ الفجر».
وفي لفظ: «والذي لا إله غيره ما صلَّى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قط صلاة
لغير وقتها إلا المغرب والصبح بمزدلفة».
وعند الترمذي من رواية حَنَش، عن عكرمة عن ابن عباس، قال النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر».
ورده تضعيف حَنَش، ولما خرجه الحاكم قال: هذا قاعدة في الزجر عن الجمع بغير عذر.
وحَنش يمني سكن الكوفة ولم يخرجاه.
وقال ابن خزيمة: وأما رواية من روى: «جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر» غلط وسهو.
وقال
%ج 2 ص 142%
ابن أبي شيبة: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: «صليت
مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمان جميعًا، وسبعًا جميعًا».
قال عمرو: قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخَّر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل
العشاء؟ قال: وأنا أظن ذاك.
وعند السراج: كأنه في الحضر.
وعند ابن خزيمة: «في غير خوف ولا سفر» وأصله عند مسلم.
وفي «الأوسط» للطبراني من حديث قَزَعة بن سُويد، عن أبي حَيَّة، عن أبي الشَّعثاء،
عن ابن عباس: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقام بخيبر ستة أشهر يصلي الظهر
والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا».
وقال: لم يرو هذا الحديث عن جابر إلا أبو حَيَّة، تفرد به قَزَعة.
(1/368)
وفي
«مسند السراج» بسند لا بأس به: قال عبد الله بن شقيق: خطبنا ابن عباس يومًا بعد
العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فطفق الناس ينادون: الصلاةَ الصلاةَ، فقال ابن
عباس: «أتعلموني بالصلاة والسنة؟ إني شهدت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جمع بين
الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء» قال: فأتيت أبا هريرة فصدَّقه.
وحدَّثنا وكيع، حدَّثنا مالك بن مِغْوَل، قال: سألت عطاء عن تأخير الظهر والمغرب
في السفر، فلم ير به بأسًا، يعني للجمع، وكذا قاله مجاهد لما سئل عنه.
وقال ابن الحَصَّار في «تقريب المدارك»: قول من حسَّن حديث معاذ وصحَّح حديث ابن
عباس عندي أولى من قول أبي داود لصحة الاشتراك في وقت صلاتي النهار وصلاتي الليل
وظاهر القرآن العظيم، وهذه الأحاديث يحتج بها الفقهاء والمحدثون ولا فرق بين
تقديمه العصر في وقت الظهر، وتأخير الظهر لوقت العصر، وكذلك القول في المغرب
والعشاء، ولا يحتاج إلى الجمع بين ذلك مع ما أوردناه من حديث معاذ وابن عباس
الصحيحين، وأما ما أعل به من إدخال المدائني على الشيوخ فلا يقدح في سماع قتيبة؛
لأنه سمعه من لفظه، وهو ثقة فلا يضره حضور من حضر عدل أو غيره.
وليست هذه الأحاديث معارضة لحديث أنس: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أراد
أن يجمع في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما»
%ج 2 ص 143%
إذ قد يفعل ذلك كله في أوقات متعددة وحديث معاذ وابن عباس كانا في تبوك وكذا جمعه
في حجة الوداع.
وقد روى الجمع بين الصلاتين عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جماعة؛ منهم علي بن
أبي طالب من عند أبي داود بسند لا بأس به: «كان إذا سافر سار بعدما تغرب الشمس حتى
تكاد أن تظلم، ثم ينزل فيصلي المغرب، ثم يتعشى ثم يصلي العشاء، ويقول: هكذا رأيت
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصنع».
(1/369)
وابن
عمر؛ ورواه ابن أبي شيبة بسند فيه ضعف: «جمع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
بين الصلاتين في غزوة بني المصطلق».
وأسامة بن زيد وسيأتي حديثه.
وجابر بن عبد الله من عند أبي داود بسند ضعيف: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
غابت له الشمس بمكة فجمع بسرف».
وأبو هريرة في «الموطأ»: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يجمع بين
الظهر والعصر في سفره بتبوك».
كذا رواه عن مالك: أبو مصعب، والحُنيني، ومطرف، وابن عَثْمَة، والمِخْرَاقي، ويحيى
بن يحيى فيما قيل، قال أبو عمر: وغير هؤلاء يرويه عن مالك، عن داود بن حصين، عن
الأعرج مرسلًا.
وقال البزار: وقد روي في الجمع بين الصلاتين عن أبي هريرة من طريقين؛ أحدهما: زيد
بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه، والثاني: عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن
الأعرج عن أبي هريرة.
وابن مسعود من عند أبي بكر بسند ضعيف: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جمع بين
الصلاتين في السفر».
وأبو أيوب الأنصاري من عند البخاري: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جمع في
حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا».
وعائشة قالت: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يؤخِّرُ الظهر ويعجل العصر،
ويؤخِّرُ المغرب ويعجل العشاء في السفر».
أخبرنا به الإمام أبو الفتح المغربي، أخبرتنا سيدة المارانية، قراءة عليها عن
المشايخ الأربعة: أبي روح، وزينب الشَّعرية، وأبي بكر بن الصَّفار، وإسماعيل
القارئ، قال أبو روح: وزينب، أخبرنا زاهر، وقالت زينب أيضًا: أخبرنا عبد المنعم
القُشيري، وقالت هي وابن الصفار والقارئ: أخبرنا وجيه بن طاهر، قالوا: أخبرنا أبو
القاسم القشيري، قراءة عليه، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر الخَفّاف
%ج 2 ص 144%
الفَطري، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن مهران الثقفي، قراءة عليه، أخبرنا
إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا وكيع، أخبرنا المغيرة بن زياد، عن عطاء بن يسار عنها.
(1/370)
قال
أبو العباس: وحدَّثنا جعفر بن هاشم، ومحمد بن غالب، حدَّثنا الربيع بن يحيى
الأُشْناني، حدَّثنا سفيان بن سعيد، حدَّثنا ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله:
«أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة
من غير خوف ولا علة للرُّخَص»، وأصله عند مسلم.
وفي «الأوسط» عن ابن عباس قال: «أقام رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بخيبر ستة
أشهر يجمع بين الصلاتين».
اختلف الناس في الجمع في غير عرفات ومزدلفة:
فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى منع الجمع في غير هذين المكانين، وهو قول ابن مسعود،
وسعد بن أبي وقاص فيما ذكره ابن شداد في كتابه «دلائل الأحكام»، وابن عمر في رواية
أبي داود، والنخعي وابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وعمرو بن دينار والحسن والثوري
والأسود وأصحابه وعمر بن عبد العزيز وسالم ومحمد بن سيرين.
قال ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع حدَّثنا أبو هلال عن حنظلة السدوسي عن أبي موسى
أنه قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر.
ورويناه عن ابن عباس مرفوعًا في كتاب «المنسوخ» لابن هشام من حديث حَنَش عن عكرمة
عنه.
وفي «التمهيد» قال أبو عمر بن عبد البر: وهي رواية ابن القاسم عن مالك.
وقال ابن بطال: وهو قول مالك في «المدونة» وقول الليث.
وأما قول النووي: إن أبا يوسف ومحمدًا خالفا شيخهما، وأن قولهما كقول الشافعي
وأحمد، فقد رده عليه صاحب «الغاية في شرح الهداية» بأن هذا لا أصل له عنهما.
وقال ابن العربي: اختلف الناس في الجمع في السفر على خمسة أقوال:
لا تجوز، قاله أبو حنيفة.
يجوز كما يجوز في القصر، قاله الشافعي.
يجوز إذا جد به السير، قاله مالك.
يجوز إذا أراد السرعة في قطع الطريق، قاله ابن حبيب.
مكروه، قاله مالك في رواية المصريين عنه.
البابان اللَّذان بعد هذا تقدَّما، وكذا حديث عامر بن ربيعة، وسيأتي ذكره أيضًا.
وقول البخاري:
(1/371)
1098
- وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ
سَالِمٌ: «كَانَ عَبْدُ اللَّهِ%ج 2 ص 145%يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ مِنَ
اللَّيْلِ». [خ¦1098] زعم الإسماعيلي أن هذا رواه أبو صالح في غير هذا الكتاب عن
الليث، أخبرناه ابن ناجية عنه، يعني عن البخاري، عن أبي صالح، وأخبرني القاسم عن
ابن زَنْجُوْيَه، وحدَّثنا إبراهيم بن هانئ عن الرمادي عنه، وقد رواه ابن وهب
وشبيب عن يونس ين يزيد بهذا اللفظ سواء. حديث جابر وأنس تقدَّم حكمهما. ثم ذكر حديث
ابن عمر:
1102 - «صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَكَانَ لاَ يَزِيدُ
فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ
كَذَلِكَ». [خ¦1102] في «الموطأ»: لم يكن عبد الله يصلي مع الفريضة في السَّفَر
شيئًا قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل. كذا هو عنده موقوف، ورفعه غير واحد. قال
ابن بطال: قوله: «لم أره يتطوع» يعني بالأرض؛ لأن ابن عمر روى: «أن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم كان يصلي على راحلته في السفر حيث توجهت، وأنه كان يتهجد بالليل
في السفر»، وإن أراد بقوله: (لَمْ أَرَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يُسَبِّحُ فِي السَّفَرِ) التطوعَ في الأرض المتصل بالفريضة الذي حكمه حكمها في
استقبال القبلة والركوع والسجود، ولذلك قال عبد الله: لو تنفلت لأتممت أي التنفل
الذي هو من جنس الفريضة لجعلته في الفريضة ولم أقصرها، وممن كان لا يتنفل في
السفر: علي بن حسن وسعيد بن جبير. وقال ابن التين: لا خلاف بين الأئمَّةِ في جواز
النافلة بالليل في السفر، وأكثر العلماء على جواز التنفل بالليل والنهار، ويحتمل
أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يتنفَّل في رحله بحيث لا يراه ابن عمر ولا
غيره.
(1/372)
بَابُ
مَنْ تَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ «وَرَكَعَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
رَكْعَتَيِ الفَجْرِ فِي السَّفَرِ» هذا في «صحيح مسلم» في حديث النوم بالوادي
وقوله لبلال: «اكلأ لنا الفجر»، وفيه: «صلَّى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
ركعتين ثم صلى الغداة».وعند أبي داود: «فصلوا ركعتي الفجرِ ثم صلوا الفجر».1103 -
حدَّثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ أَبِي
لَيْلَى، قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم صَلَّى الضُّحَى غَيْرُ أُمِّ هَانِئٍ ذَكَرَتْ: «أَنَّ النَّبِيَّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهَا، فَصَلَّى
ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، قالت: فَمَا رَأَيْتُهُ صَلَّى صَلاَةً%ج 2 ص 146%أَخَفَّ
مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ». [خ¦1103] وفي لفظ:
«وفاطمة تستره فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ»، تقدَّم هذا الحديثُ في أول
الصلاة.1104 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَّ أَبَاهُ
أَخْبَرَهُ: «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلَّى
السُّبْحَةَ بِاللَّيْلِ فِي السَّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ
تَوَجَّهَتْ بِهِ». [خ¦1104]
هذا التعليق تقدم مسندًا.
وفي «تاريخ هراة»: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجراح، حدَّثنا عبد الخالق بن
إبراهيم بن طَهْمان، عن أبيه، عن أبي الزبير المكي، عن عكرمة بن خالد، عن أم هانئ،
فذكرت صلاتَه يوم الفتح فقلت: يا رسول الله ما هذه الصلاة؟ قال: «صلاة الضحى».
وفي «صحيح ابن خزيمة»: «سلَّمَ بين كل ركعتين».
(1/373)
وقال
عبد الله بن الحارث بن نوفل: سألتُ وحرصت على أن أجد أحدًا من الناس يخبرني أنَّ
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سبَّح سبحة الضحى فلم أجد من يخبرني إلا أم
هانئ الحديث.
قال ابن بطال: قول ابن أبي ليلى: «ما حدَّثنا أحدٌ» لا حجة فيه، ويرد عليه ما روي
أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى الضحى وأمر بصلاتها من طرق جمَّة منها:
حديث أبي هريرة: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن» فذكر ركعتي الضحى.
وعند الحاكم: «إن للجنة بابًا يقال له: الضحى، فإذا كان يوم القيامة يُنادي منادٍ:
أين الذين كانوا يديمون على صلاة الضحى، هذا بابكم فادخلوه برحمة الله تعالى».
وعند ابن خزيمة في «صحيحه» - وزعم أن من أسنده لم يتابع على رفعه - من طريق خالد
الطحان، عن محمد بن عمرو، عن ابن أبي سلمة عنه يرفعه: «لا يحافظ على صلاة الضحى
إلا أوَّاب».
وقال الحاكم: هذا إسناد احتجَّ بمثله مسلم، قال: ولعل قائلًا يقول: قد أرسله حماد
بن سلمة والدَّرَاوَرْدِيُّ عن محمد بن عمرو. فيقال: خالد ثقة، والزيادة من الثقة
مقبولة.
وفي لفظ: «ألا أخبركم بأسرع كَرَّةً وأعظم غنيمةً»، وفيه: «ثم أعقب بصلاة الضحى».
وعند ابن خزيمة: «رأيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سفر صلى سبحة الضحى ثمان
ركعات».
وعند الترمذي واستغربه: «من صلَّى الضحى ثنتي عشرة ركعه بنى الله له قصرًا في
الجنة».
وعند ابن عبد البر: «يا أنس صلِّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأوَّابين».
وعند ابن
%ج 2 ص 147%
أبي حاتم: «ما رأيته صلَّى الضحى قبل ذلك»، يعني لما صنع له طعام.
وحديثا أنس الآتيان في «الصحيح».
وعند مسلم: عن أبي الدرداء قال: «أوصاني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بثلاث»
فذكر ركعتي الضحى.
وعند الحاكم: «من صلَّى الضحى أربعًا لم يُكتَب من الغافلين».
(1/374)
وقال:
صحبت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ والأئمة الأثبات فوجدتهم يختارون هذا العدد،
ويصلون هذه الصلاة أربعًا لتواتر الأخبار الصحيحة فيه، وإليه أذهب.
ورُوِيَ عن مجاهد: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى الضحى أربعًا»، وروي عنه
أيضًا: «أنه صلى الضحى ركعتين وستًا وثمانيًا».
وعند البزار بسند حسنه: عن أبي الدرداء: «أوصاني خليلي بثلاث، قال: وسبحة الضحى في
السفر والحضر»، وزعم ابن بطال أنه فيه ضعف.
وعن أبي ذر: «يصبح على كلِّ سُلَامى من ابن آدم صدقه»، وفي آخره: «ويجزئ من ذلك
كله ركعتان من الضحى» خرجه مسلم.
وعند البخاري: عن ابن عمر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا يصلي من
الضحى إلا يومين يوم مقدمِ مكة» وسيأتي.
وعند الحاكم: عن ابن أبي أوفى: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى الضحى
ركعتين حين بُشِّرَ برأس أبي جهل وبالفتح».
وعن أنس قال: «أوصاني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بركعتي الضحى».
وعن عقبة بن عامر: «أمرنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نصلِّيَ ركعتي الضحى
بسوريهما بالشمس وضحاها والضحى».
وعن عائشة سُئِلَتْ كم كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلى الضحى؟ قالت:
«أربعًا ويزيد ما شاء الله»، رواه الحاكم.
وعند مسلم: عن مُعاذة قلت لعائشة: أكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي الضحى؟
قالت: «أربع ركعات ويزيد ما شاء الله»، وفي لفظ: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم صلى الضحى في بيتها أربع ركعات».
وفي كتاب «النوادر» لآدم: حدَّثنا أبو معاوية عن مُعرِّف، عن عبد الملك بن ميسرة
عنها: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من صلَّى في يوم ثنتي عشرة ركعة من
أول النهار بُنِيَ له بيت في الجنة».
وعند أحمد من حديث أم ذرَّة قالت: رأيتُ عائشة تُصلِّي الضحى وتقول: «ما رأيت
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي إلا أربع ركعات».
قال أبو عمر:
%ج 2 ص 148%
(1/375)
هذا
عندي غير صحيح، وهو منكر مردود بحديث ابن شهاب عنها: «ما سبَّح رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم سبحة الضحى وإني لأستحبها».
قال ابن التين: كذا الرواية المشهورة. وروي: [أسبحنها بالنون بعد النون] والأولى
أولى.
وعن نُعيم بن هَمَّار عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «قال الله عزَّ وجلَّ:
ابن آدم اكفني أربع ركعات من أول النهار أكفك بهنَّ آخره» خرَّجه ابن حبان في
«صحيحه».
وقال الحاكم: ورواه قتادة فقال: نعيم عن عقبة بن عامر، ولا أعلم أحدًا ذكر عقبة في
هذا الإسناد إلا قتادة، فأما الشاميون فإنهم يعدون نُعَيم بن هَمَّار في الصحابة.
وعن أبي أمامة: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذكر هذه الآية الكريمة:
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] قال: «هل تدرون ما {وَفَّى} [النجم:
37]؟ عمل يومه بأربع ركعات الضحى».
وفي لفظ مرفوع: «من صلى الصبح في مسجد جماعة ثم ثبت فيه حتى يسبح فيه سبحة الضحى
ثم صلى الضحى كان له كأجر حاج أو معتمر».
وفي نسخة: «ومعتمر تمَّ له حجته وعمرته».
وفي «الثواب» لآدم: حدَّثنا حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير عن القاسم عنه: «تلا
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإبراهيم الذي وفى» الحديث.
وفي «صحيح ابن خزيمة» عن بُريدَةَ: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول:
«في الإنسان ستون وثلاثمئة مفصل، فعليه أن يتصدَّق عن كلِّ مفصل منه بصدقة، فذكر
حديثًا فيه، فإن لم تجد فركعتا الضحى تجزيك».
وعن ابن عمر قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ابن آدم اضمَنْ إليَّ ركعتين
من أول النهار أكفك آخره».
قال الحاكم: لا أعلم أحدًا قال في هذا الحديث ركعتين غير ليث بن أبي سُلَيم وهو
مجمع على سوء حفظه.
وعن محمد بن قيس عن جابر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى الضحى ست
ركعات».
(1/376)
وعن
الضَّحَّاك بن قيس عن ابن عباس أنه كان يقول: لقد أتى علينا زمان ولا ندري ما وجه
هذه الآية: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْرَاقِ} [ص:18] حتى رأينا الناس يصلون الضحى.
وفي رواية عطاء الخرساني عنه أنه قال يومًا لجلسائه: هل تجدون ركعتي الضحى في
القرآن؟ قالوا: لا، فتلا {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18].
وعند
%ج 2 ص 149%
ابن أبي شيبة، حدَّثنا وكيع، حدَّثنا محمد بن شريك، عن ابن أبي مُلَيكة عن ابن
عباس، أنه سئل عن صلاة الضحى: فقال: إنها لفي كتاب الله تعالى، ثم قرأ: {فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ
فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36].
وفي «صحيح ابن خزيمة» عن علي: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصلي
الضحى».
قال الحاكم: وكذا رواه جبير بن مطعم.
وفي «الثواب» لآدم من حديث نِعْمَة عن أبيه عن علي: قال رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «من صلَّى سبحة الضحى ركعتين إيمانًا واحتسابًا كتب له بها مئتي
حسنة» الحديث.
ومن حديث معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«من سبَّح سبحة الضحى ثمان ركعات أعطي إيمانه وهداه رشده ونوره».
وعن زيد بن أرقم: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرج على أهل قُبَاء وهم
يصلون الضحى بعدما أشرقت الشمس فقال: إن صلاة الأوابين كانت إذا رمضت الفصال».
قال الحاكم: هذا حديث متفق على إخراجه في الصحيحين. انتهى
كأنه غير جيد إنما هو عند مسلم وحده.
قال: وقد صحَّت الروايات عن علي، والحسن، وجماعة من أئمة أهل البيت أنهم كانوا
يواظبون على صلاة.
وعن الحسن قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من صلَّى بعد الصبح
أربعًا لم يمسَّ جلده النار».
(1/377)
وعن
عبيد الله بن جَرَاد: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من صلى فيكم صلاة
الضحى فليصلها متعهِّدًا، فإن الرجل ليصليها السَّنَةَ من الدَّهْرِ ثم ينساها
ويدعها، فتحنُّ إليه كما تحنُّ الناقة إلى ولدها إذا فقدته».
وعن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي صلاة الضحى ثنتي
عشرة ركعة»، رواها الحاكم أبو عبد الله.
وفي «شرح المهذب» هو حديث ضعيف، فينظر.
وعن أبي سعيد الخدري: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي الضحى حتى نقول
لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» وقال: حسن غريب.
وعن ابن مسعود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «من صلى الضحى عشر ركعات بني
له بيت في الجنة»، ذكره ابن بطال.
وعن الأحوص بن حكيم عن عبد الله
%ج 2 ص 150%
بن غابر أن أبا أمامة وعتبة بن عبد حدثاه عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم ثبت في مكانه في المسجد حتى يسبح سبحة الضحى»
الحديث.
رواه الطبراني في «معجمه الكبير»، ورواه ابن زنجويه في كتاب «الفضائل» عن عتبة بن
عبد عن أبي أمامة وقال: عتبة صحابي.
وعند أبي داود بسند فيه كلام: عن معاذ بن أنس الجهني أن رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم قال: «من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى
لا يقول إلا خيرًا غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».
وقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا ابن نمير، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن علي بن
عبد الرحمن عن حذيفة قال: «خرجت مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى حرة بني
معاوية فصلى الضحى ثمان ركعات طول فيهن».
وعند ضياء الدين المقدسي ذكر صلاة الضحى باثنتي عشرة ركعة عن أم حبيبة قالت: قال
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما من عبد مسلم يصلِّي في كلِّ يوم ثنتي عشرة
ركعة تطوعًا من غير فريضة إلا بنى الله له بيتًا في الجنة» رواه مسلم.
(1/378)
وعن
أبي موسى من عند أحمد بن حنبل مثله.
وعن عِتْبانَ بن مالك: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى في بيته سُبحةَ
الضحى فقاموا وراءه فصلوا».
قال الحاكم: هذا قطعه من الحديث المتفق عليه مطولًا، وخرجه ابن خزيمة في «صحيحه».
وقد وردت أحاديث ظاهرها تعارض هذه الأخبار؛ منها: حديث ابن عمر من عند البخاري:
«وقيل له: أتصلي الضحى؟ قال: لا».
وحديث عائشة من عنده أيضًا: «ما رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سبح سبحة
الضحى، وإني لأستحبها».
وفي لفظ: «أكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي الضحى؟ قالت: لا إلا أن يجيء
من مغيبه».
قال البيهقي: عندي - والله أعلم - أنها تريد ما داوم عليها، «وإنِّي لأستحبُّها»
أي أداوم عليها.
قال: وكذا قولها: «وما أحدث الناس شيئا» تعني المداومة عليها.
وفي قولها «إذا جاء من مَغِيبِه» إثبات فعلها.
قال الحاكم: وروي في ذلك عن جابر وكعب بن مالك.
وقد بينت العلة في تركه المداومة عليها بقوله: «وإن كان رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم ليدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم»
وفي «صحيح
%ج 2 ص 151%
ابن خزيمة» خبر ابن عمر وعائشة: «لم يكن يصلِّي الضحى إلا أن يقدم من غيبة».
قال ابن خزيمة: يقول العالم: لم يفعل فلان كذا أو لم يكن كذا على المسامحة والمساهلة
في الكلام، وإنما يريد أن فلانًا لم يعمل فلان كذا علمي، والدليل على صحة ما تأولت
أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد صلى صلاة الضحى في غير اليوم الذي كان يقدم
فيه من الغيبة، فالخبر الذي يجب قبوله ويحكم به هو خبر من علم أنه صلى الضحى لا
خبر من قال إنه لم يصلِّ.
وروينا في كتاب «الناسخ والمنسوخ» لابن هشام من حديث سفيان، عن عاصم بن كُليب، عن
أبيه عن أبي هريرة قال: «ما صلَّى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاة الضحى
قط»، وفي رواية: «إلا مرة واحدة».
(1/379)
وقال
أبو عمر: العلماء لا يوقعون اسم سبحة إلا على النافلة دون الفريضة والإحاطة عند
صحابي أو اثنين بجميع الأحاديث متعذرة، وقد رُوِيَ عن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم آثار كثيرة حسانٌ في صلاة الضحى، ألا ترى أن أمَّ هانئ علمت من صلاة الضحى
ما خفي على عائشة، وأين أم هانئ من عائشة في العلم.
وقد شرك عائشة في عدم العلم بذلك جماعة من الصحابة، هذا سماك بن حرب قال: قلت
لجابر بن سَمُرة: أكنت تجالس رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ «قال: نعم
كثيرًا، فكان لا يقوم من مصلَّاه الذي صلَّى فيه الغداة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت
الشمس قام». قال: وهذا حديث صحيح.
ولم يكن عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر يصلون الضحى ولا يعرفونها.
وقال طاوس: أول من صلاها الأعراب.
وقال الشعبي: سمعت ابن عمر يقول: ما صليت الضحى منذ أسلمت.
وفي رواية سالم: لقد قتل عثمان وما أحد يستحبُّها، وما أحدث الناس أحب إليَّ منها.
وقال عياض: الأشبه عندي في الجمع أن تكون إنَّما أنكرت صلاة الضحى المعهودة حينئذ
عند الناس على الذي اختاره جماعة من السلف من صلاتها، ثمان ركعات فإنه صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم إنما كان يصليها أربعًا كما قالت ويزيد ما شاء.
وقال القرطبي: يمكن أن يقال: إن الذي أنكرت ونفت أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
فعلَه اجتماع الناس لها في المسجد يصلونها كذلك
%ج 2 ص 152%
وهو الذي قال فيه عمر: إنه بدعة. ويحتمل أن يقال: إن عائشة لم يكن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يأتيها في كل وقت لاسيما وقت الضحى، وإنما لها يوم من تسعة مع
كثرة أسفاره وشغله بنوائب المسلمين ومصالحهم.
وزعم الطبري في «التهذيب» أن النفي عن عائشة وهم؛ لأنه روي عنها أنه كان صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يصليها كما في «الصحيح».
(1/380)
وقال
بعضهم: يحتمل قولها: ما رأيته يسبح سبحة الضحى، يعني مواظبًا ومعلنًا بها لأنه
يجوز أن يصليها بحيث لا تراه، وقد روي عن عائشة أنها كانت إذا صلتها أغلقت على
نفسها الباب.
ولما بلغ ابن مسعود صلاة أصحابه إياها في المسجد قال: إن كنتم لا بد فاعلين ففي
بيوتكم.
وكان أبو مِجْلِز يصلي الضحى في بيته، قال: وكان مذهب السلف ? الاستتار بها وترك
إظهارها للعامة لئلا يرونها واجبة.
وفي قولها: (وإنِّي لأستحبُّها) دليل على أنها صلاة مندوب إليها مرغب فيها.
وقد وري عنها أنها قالت: لو نشر لي أبواي ما تركتها.
وعند الحاكم: رأى أبو بكرة ناسًا يصلون الضحى فقال: إنكم لتصلون هذه وما صلاها
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا عامة أصحابه.
وقال: لم يصحَّ من وجه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ولو صح لكان معناه ما ذكر في
حديث عائشة.
ورواه أبو محمد الدارمي في «مسنده» عن صدقة بن الفضل، أخبرنا معاذ بن معاذ،
حدَّثنا شعبة حدَّثنا الفضل بن فضالة عن عبد الرحمن بنحوه.
ومن حديث عبيد الله بن رواحة قال: أخبرني أنس بن مالك: «أنه لم ير رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يصلي صلاة الضحى إلا أن يخرج في سفر أو يقدم من سفر»، قال
الحاكم: عبيد الله مجهول لا يعرف.
وعن أبي هريرة قال: «ما رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى الضحى إلا
يومًا واحدًا».
قال الحاكم كيف نعارض بهذا الأخبار الصحيحة ووصيته أبا هريرة؟!
والذي يحكم على هذه الروايات كلها حديث علي وجبير: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم كان يصلي الضحى».
قال ابن بطال: سُئِلَ ابن عمر عنها فقال: «بدعة، ونعمت البدعة».
وفي لفظ: «ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى».
وعند ابن التين: ذكر ابن عمر: «أن
%ج 2 ص 153%
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا يصليها وعن أبي بكر وعمر».
(1/381)
قال:
يحتمل قوله «بدعة» لأنها نافلة، والأفضل في النوافل أن تُصلَّى في البيوت فقال:
«بدعة» بالنسبة إلى صلاتها في المسجد، أو يحتمل أن يكونوا هؤلاء المقول فيهم هذا
كانوا [يصلوها] جماعة في المسجد فقال: بدعة صلاتها بجماعة أو إظهارها في المسجد
وعن الشعبي: الصلاة التي صلاها النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند الفتح لم تكن
صلاة الضحى، وإنما كانت من أجل الفتح، وكذا فعله خالد بن الوليد لما فتح الحيرة.
قال الطبري: وذهب بعض الناس إلى أن الضحى تُصلَّى في بعض الأيام دون بعض كما تقدم
من حديث أبي سعيد وغيره، وكان ابن عباس يصليها يومًا ويدعها عشرة أيام، وكان ابن
عمر لا يصليها، وإذا جاء مسجد قباء في كل سبت صلاها.
وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويصلون ويدعون.
وقال سعيد بن جبير: إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها مخافة أن أراه حتمًا عليَّ.
وسيأتي الكلام عليها بعدُ إن شاء الله تعالى.
واختلف الناس في التطوع في السفر؛ فروى ابن عمر عند البخاري عنه صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «أنه كان يسبح على راحلته».
وقال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وابن عباس وأنس وأبي ذر
وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.
قال ابن بطال: وهو الصحيح الذي لا ريب فيه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه
كان يتنفل في السفر.
روى الترمذي عن أبي بُسرة الغفاري عن البراء بن عازب قال: «صحبت رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم ثمانية عشر شهرًا سفرًا فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس
قبل الظهر».
قال: وفي الباب عن عمر، وحديث البراء غريب، وسألت محمدًا عنه فلم يعرفه إلا من
حديث الليث، ولم يعرف اسم أبي بسرة، ورآه حسنًا.
وعن عطية العَوْفي عن ابن عمر قال: «صليت مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الظهرَ
في السفرِ ركعتين وبعدها ركعتين» وقال: هذا حديث حسن.
(1/382)
وقد
رواه ابنُ أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر قال: «صليت مع النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم
%ج 2 ص 154%
في الحضر والسفر في الحضر الظهر أربعًا، وبعدها ركعتين، وصليت معه في السفر الظهر
ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين».
قال: وهو حديث حسن، وسمعت محمدًا يقول: ما روى ابن أبي ليلى حديثًا أعجب إلي من
هذا.
وقال البيهقي: روى ابن عباس قال: «سنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعني
صلاة السفر ركعتين، وسنَّ صلاة الحضر أربعًا، فكما الصلاة قبل صلاة الحضر وبعدها
حسن، وكذلك الصلاة في السفر قبلها وبعدها».
بَابُ الجَمْعِ فِي السَّفَرِ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ
1107 - 1108 - وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ الحُسَيْنِ المُعَلِّمِ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَةِ الظُّهْرِ
وَالعَصْرِ، إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ وَيَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ
وَالعِشَاءِ». [خ¦1107 - 1108]
حديث ابن عباس عند الستة.
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو علي الحافظ، حدثني محمد بن
عَبْدُوس، حدَّثنا أحمد بن حفص بن راشد، حدثني أبي، حدَّثنا إبراهيم بن طهمان، عن
الحسين المعلم فذكره.
قال البخاري:
وَعَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ: «كَانَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَةِ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ فِي السَّفَرِ».
(1/383)
قال
الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في كتابه «مجموع حديث يحيى بن أبي كثير»: أخبرنا أبو
علي الموصلي، حدَّثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي، حدَّثنا عبد الله بن
معاذ، عن معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن حفص بن عبيد الله عن أنس: «كان رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر».
قال:
وَتَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ المُبَارَكِ، وَحَرْب بن شداد، عَنْ يَحْيَى، عَنْ
حَفْصٍ [عَنْ أَنَس] «جَمَعَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
قال الإسماعيلي: أخبرني الحسن بن سفيان، حدَّثنا محمد بن مثنى، حدَّثنا عثمان بن
عمر، حدَّثنا علي - يعني ابن المبارك - عن يحيى عن حفص عن أنس: «أن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم كان يجمع بين المغرب والعشاء في سفره».
وقال أبو نعيم في «المستخرج»: حدَّثنا أبو أحمد، حدَّثنا الحسن بن سفيان فذكره.
وأما حديث حرب فخرجه البخاري في كتابه مسندًا.
وفي «معجم ابن جُميع» عن أحمد بن زكريا، حدَّثنا هشام بن علي، حدَّثنا الربيع بن
يحيى حدَّثنا سفيان عن ابن المنكدر وعن جابر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
%ج 2 ص 155%
جمع بين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، جمع بينهنَّ من غير علة ولا سفر
للرخص».
بَابٌ: هَلْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ؟
ذكر فيه حديث ابن عمر:1109 - قَالَ سَالِمٌ: «فكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَفْعَلُهُ
إِذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ يُقِيمُ المَغْرِبَ، [فَيُصَلِّيهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ
يُسَلِّمُ، ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ العِشَاءَ]، فَيُصَلِّيهَا
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ» الحديث. [خ¦1109]
قال ابن بطال: قوله (يُقِيمَ) يحتمل أن يكون معناه: بما تقام به الصلوات في
أوقاتها من الأذان والإقامة، ويحتمل أن يريد الإقامة وحدها على ما جاء في الجمع
بعرفة والمزدلفة من الاختلاف في إقامتها.
(1/384)
وقال
ابن المنذر: يؤذن ويقيم، فإن أقام ولم يؤذن أجزأَهُ، ولو تركهما لم يكن عليه
إعادة، وإن كان مسيئًا بتركه ذلك.
وقال السَّفَاقُسي: ذكر بعض المخالفين أنه كان يقيم للمغرب خاصة، والله تعالى
أعلم.
قوله في:
باب يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى الْعَصْرِفِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍيعني الحديث المذكور
مسندًا قبل
بَابُ صَلاَةِ القَاعِدِذكر حديث عائشة وأنس وقد تقدما أول الصلاة.
1115 - حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، [أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ،
سَمِعْتُ أَبِي، حدَّثنا الحُسَيْنُ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ
بْنُ حُصَيْنٍ وزاد إسحاق أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، سَمِعْتُ أَبِي، حدَّثنا
الحُسَيْنُ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وكان
مبسورًا] أنه: سَأَل رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صَلاَةِ
الرَّجُلِ قَاعِدًا، قال: فَقَالَ: «إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَمَنْ
صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ
نِصْفُ أَجْرِ القَاعِدِ». [خ¦1115]
وقال في:
بَابُ إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍوَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ لَمْ
يَقْدِرْ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى القِبْلَةِ، صَلَّى حَيْثُ دار وَجْهُهُ
1117 - حدَّثنا عَبْدَانُ، حدَّثنا عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ طَهْمَانَ، عن
حُسَيْنُ المعلم، [عن يحيى] عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ
تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». [خ¦1117]
وقال في:
بَابُ صَلاَةِ القَاعِدِ بِالإِيمَاءِ
(1/385)
1116
- حدَّثنا أَبُو مَعْمَرٍ، وحدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ، قَالَ: حدَّثنا حُسَيْنٌ
المُعَلِّمُ، بلفظ: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى
قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ القَائِمِ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ
أَجْرِ القَاعِدِ». [خ¦1116]
قال الترمذي: لا نعلم أحدًا روى عن حسين المعلم نحو رواية إبراهيم بن طهمان: «سألت
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن
%ج 2 ص 156%
صلاة المريض»، وفيه: «فعلى جنب».
وقد روى أبو أسامة وغير واحد عن حسين المعلم نحو رواية عيسى بن يونس بلفظ: «من
صلَّى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلَّى نائمًا فله
نصف أجر القاعد»، قال أبو عيسى: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم في صلاة
التطوع.
وقال ابن حبان في «صحيحه»: هذا إسناد قد توَّهم من لم يُحكِم صناعة الأخبار، ولا
تفقَّه في صحيح الآثار أنه منفصل غير متصل، وليس كذلك فإن عبد الله بن بريدة [ولد]
في السنة الثالثة من خلافة عمر، فلما وقعت فتنة عثمان خرج بريدة [بولديه] عبد الله
وسليمان فسكن البصرة، وبها إذ ذاك عمران بن حصين وسمرة بن جندب فسمع منهما.
وقوله: (وزاد إسحاق عن عبد الصمد) زعم الكَلاباذي وغيره أنه إسحاق بن إبراهيم،
فإنه هو وابن منصور رويا عن عبد الصمد.
وقال الإسماعيلي: ترجم البخاري بـ (صَلاَةِ القَاعِدِ بِالإِيمَاءِ)، وذكر حديث
عبد الوارث وهو تصحيف، وذلك أنا روينا عن القاسم عن الزعفراني عن عفان عن عبد
الوارث هذا الحديث: «نائمًا»، وقال فيه: قال عبد الوارث: والنائم المضطجع، فرجع
التصحيف في «نائمًا» فقال: «بإيماء».
قال الإسماعيلي: والمعنى على جنب، وسائر الأحاديث يفسره، وتفسير عبد الوارث يوضح
الأمر، وهذا في التطوع، فيها حديث إبراهيم: (فَعَلَى جَنْبٍ)، وكأن نسق الكلام لو
كان المعنى الإيماء أن يقول: ومن صلى مومئًا، كما قال في قائم أو قاعد، والمومئ قد
يكون قاعدًا.
(1/386)
وزعم
ابن بطال أن النسائي غلط في حديث عمران، وترجمه: باب صلاة النائم، فظن أن قوله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ومن صلى نائمًا» وإنما هو من صلى بإيماء، والغلط فيه
ظاهر لأنه ثبت عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه أمر المصلي إذا غلبه النوم أن
يقطع صلاته، وبين معنى ذلك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، انتهى.
كأن أبا الحسن حمل النوم على ظاهره، وهو غير جيد، وإنما يحمل على الاضطجاع، وهو
يدفع ما توهمه.
روى السراج من حديث الحسين بسند البخاري: «وصلاة النائم على النصف من صلاة
القاعد»، والثالث: المضطجع، فقد تبيَّنَ لك أنه النائم، رواه عن ابن راهويه، عن
عيسى بن يونس عنه.
وقال الترمذي: اختلف أهل العلم في صلاة المريض إذا لم يستطع أن يصلي جالسًا، فقال
بعضهم: يصلي مستلقيًا على
%ج 2 ص 157%
قفاه ورجلاه إلى القبلة، وقال الثوري في هذا الحديث: من صلى جالسًا فله نصف
القائم، قال: هذا للصحيح ولمن ليس له عذر، فأما من كان له عذر من مرض أو غيره فصلى
جالسًا فله مثل أجر القائم.
وقد روي في بعض الحديث مثل قول سفيان.
وعند الدارقطني من حديث الحسين العُرَني بسند عن علي بن أبي طالب عن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: «يصلي المريض قائمًا إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدًا، فإن
لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدًا صلى
على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقيًا ورجلاه مما تلي
القبلة».
وعن ابن عمر بسند لا بأس به: «يصلي المريض مستلقيًا على قفاه، تلي قدماه القبلة».
(1/387)
وقال
الخطابي: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخَّص في صلاة التطوع نائمًا كما رخصوا
فيها قاعدًا، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم تكن من
كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد إذا اعتبره بصلاة المريض
نائمًا إذا لم يقدر على القعود، فإن التطوع مضطجعًا للقادر على القعود جائز كما
يجوز للمسافر أن يتطوع على راحلته، فأما من جهة القياس فلا يجوز أن يصلي مضطجعًا
كما يجوز أن يصلي قاعدًا؛ لأن القعود شكل من أشكال الصلاة، وليس الاضطجاع من شيء
من أشكال الصلاة.
قال أبو سليمان: كنت تأولت هذا الحديث على أن المراد صلاة التطوع إلا أن قوله: «من
صلى نائمًا» يفسد هذا التأويل؛ لأن المضطجع لا يصلي التطوع كما فعل القاعد، فرأيت
الآن أن المراد المريض المُفْتَرِض الذي يمكنه أن يتحامل فيقوم مع مشقَّة، فجعل
أجر القاعد على النصف من أجر القائم ترغيبًا له في القيام مع جواز قعوده، وكذلك
المضطجع الذي لو تحامل لأمكنه القعود مع شدة المشقة.
وزعم ابن التين أن في رواية الأَصِيلي: «بإيماء»، ويدل عليه أن البخاري بوَّب
عليه: (باب صَلاَةِ القَاعِدِ بِالإِيمَاءِ).
والباسور: بالباء الموحدة مثل الناسور، وهو الجرح الغاذُّ، أعجمي، يقال: تنسَّر
الجرح تنقض، وانتشرت مدته، وقال أبو جعفر بن الحَشَا في «شرح ألفاظ المنصوري»:
ناصور بالصاد ويقال بالسين عربيان، وهو القرحة الفاسدةُ
الباطنِ التي لا تقبل البرء ما دام فيها ذلك الفساد حيث كانت من البدن، أما
الباسور: بالباء الموحدة والسين؛ فهو ورم المقعدة وباطن الأنف.
بَابُ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا، ثُمَّ صَحَّ، أَوْ وَجَدَ خِفَّةً، تَمَّمَ مَا
بَقِيَ
وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ شَاءَ المَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا أو
رَكْعَتَيْنِ قَاعِدًا.
(1/388)
هذا
التعليق رواه الترمذي في «جامعه» عن محمد بن بشار، حدَّثنا ابن أبي عدي، عن أشعث
بن عبد الملك عن الحسن قال: إن شاء الرجل صلَّى التطوع قائمًا وجالسًا ومضطجعًا.
وقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا هشيم عن مغيرة وعن يونس عن الحسن أنهما قالا: يصلي
المريض على الحالة التي هو عليها.
وقال السَّفَاقُسِي: قول الحسن ما له وجه؛ لأنَّه قال: (إِنْ شَاءَ)، وفرض القيام
لا يسقط عمن قدر عليه إلا أن يريد: أن يشاء بكلفة كبيرة.
1118 - حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ
اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ
حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا، حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ
قَامَ، فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ يركَعَ.
[خ¦1118]
وفي أَبِي سَلَمَةَ، عَنْها: كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ،
فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِينَ آيَةً - أَوْ أَرْبَعِينَ
آيَةً - قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ ركَعُ، ثُمَّ سَجَدَ يَفْعَلُ
فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَضَى صَلاَتَهُ نَظَرَ:
فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ.
وفي حديث عمرة عند مسلم: «يقرأ وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام قدر ما يقرأ
الإنسان أربعين آية».
وفي حديث علقمة بن وقاص: «كان يقرأ فإذا أراد أن يركع قام فركع».
وفي حديث عبد الله بن شَقِيق: «كان يصلي قاعدًا بعدما حطمه البأس».
زاد ابن مسعود الدمشقي: «يقرن بين السُّوَرِ من المُفَصَّل».
وفي حديث أبي أسامة: «لم يمت صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى كان كثيرٌ من صلاته وهو
جالس».
(1/389)
وفي
لفظٍ لعروة: «لما بَدَّنَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وثَقُلَ كان أكثرُ
صلاته جالسًا».
عند مسلم عن حفصة: «ما رأيتُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي في سبحته
قاعدًا حتى كان قبل وفاته بعام أو اثنين، فكان يصلي في سبحته قاعدًا، وكان يقرأ
بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها».
وعن جابر بن سمرة: «أن النبي صلى الله
%ج 2 ص 159%
عليه وسلم لم يمت حتى صلى قاعدًا».
وعند النسائي عن أم سلمة: «لم يمت صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى كان أكثرُ صلاته
قاعدًا إلا المكتوبة، وكان أحبُّ العمل إليه أدومَه وإن قلَّ».
وعن عائشة رضي الله عنها: «رأيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي متربِّعًا».
وقال: لا أعلم أن أحدًا روى هذا الحديث إلا أبا داود الجفري، وهو ثقة، ولا أحسب
إلا أن هذا الحديث خطأ.
قال ابن بطال: الترجمة في صلاة الفريضة وهذا الحديث في النافلة، ووجه استنباط
البخاري منه حكم الفريضة: هو أنه لما جاز في النافلة القعود لغير علة مانعة من
القيام، وكان سيدنا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقوم فيها قبل الركوع، كانت
الفريضة التي لا يجوز القعود فيها إلا لعدم القدرة فيها على القيام أولى أن يلزم
القيام فيها إذا ارتفعت العلة المانعة.
وقال ابن المُنَيِّر: فإن قلت: ما وجه دخول الترجمة في الفقه ومن المعلوم ضرورةً
أن القيام إنما يسقط لمانع منه، فإذا جاءت الصحة وزال المانع وجب الإتمام قائما؟
قلت: إنما أراد دفع خيال من تخيل أن الصلاة لا تتبعَّض، فإما قائمًا كلها يستأنف
إذا صح القيام، وإما جالسًا كلها إذا استصحبتَ العلة [فيهن] بهذا الحديث أن النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يحافظ على القيام في النافلة ما أمكنه، ولما أسنَّ
تعذَّرَ عليه استيعابُها بالقيام فبعضها، فكذلك الفريضة إذا زال المانع لا
يستأنفها بطريق الأولى.
(1/390)
ذهب
أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن المريض إذا صلى مضطجعًا أو قاعدًا ثم وجد قوَّةً أنه
يقوم فيما بقي من صلاته، ويبني على ما مضى منها، وهو قول الشافعي ومالك، وقال محمد
بن الحسن: يستأنف الصلاة.
فإن صلى بعض صلاته نائمًا ثم قدر على الركوع والسجود استأنف عند أبي حنيفة
وصاحبيه.
فإن افتتح الصحيحُ بعضَ صلاته قائمًا ثم حدث به مرض فعجز عن القيام فعند أبي حنيفة
والثوري ومالك والشافعي يبني عليها قاعدًا، ونقل ابن بطال عن أبي يوسف ومحمد أن
صلاته تبطل إلا أن يتمادى قائمًا. فينظر في الذي قاله!.
وأما الجلوس: فعن أبي حنيفة يقعد كما يقعد في حال
%ج 2 ص 160%
القراءة كما يقعد في سائر الصلاة وإن شاء تربع وإن شاء احتبى.
وعن أبي يوسف: يحتبي، وقيل: يتربَّع إن شاء، وعن محمد: يتربَّع، وعن زفر: يقعد كما
يقعد في التشهد، قيل في «شرح الهداية»: عليه الفتوى.
وعن أبي حنيفة في صلاة الليل: يتربع من أول الصلاة إلى آخرها.
وقال أبو يوسف: إذا جاء وقت الركوع والسجود يقعد كما يقعد في تشهد المكتوبة، وعنه:
يركع متربِّعًا.
وإذا أراد الركوع ثنى رجل اليسرى وافترشها، وهو مخيَّر بين أن يركع من قعود وبين
أن يقوم عند آخر قراءته.
وعند الرافعي: الافتراش أفضل في قول، والتربع أفضل في قول، وقيل: ينصب ركبته
اليمنى كالقارئ يجلس بين يدي المقرئ.
وعند مالك: يتربع، وعن أحمد: يقعد متربعًا في حال القيام ويثني رجله في الركوع
والسجود.
ثم إن القعود في حقه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كالقيام في حال القدرة تشريفًا له
وتكريمًا وتخصيصًا.
بَابُ التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:
79]
روينا عن أبي عبيدة في كتاب «المجاز»: فتهجد به أي: اسهر بصلاة. يقال: تهجدت أي
سهرت، وهجدت: أي نمت.
(1/391)
وفي
«الموعب» لابن التَّيَّاني عن صاحب «العين»: هجد القوم هجودًا ناموا، وتهجدوا
استيقظوا لصلاة أو لأمر، قال تعالى: {فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79]. أي انتبه
بعد النوم واقرأ القرآن.
وقال قُطرُب: التهجد القيام.
وقال كُراع: التهجد صلاة الليل خاصة.
وعن الأصمعي: هجد يهجد هجودًا نام، وبات متهجدًا: أي ساهرًا.
وفي «معاني القرآن العظيم» للزَّجَّاج: هجَّدته إذا نوَّمته.
وفي «المحكم»: هجد يهجد هجودًا، وأهجد نام، والهاجد والهَجود: المصلي بالليل،
والجمع هُجود وهُجد.
وفي «الجامع»: الهاجد النائم، وقد يكون الساهر، من الأضداد، فأما التهجد فأكثر ما
يستعمل في السَّهر، وأكثر الناس على أن هجد نام.
قال عياض: ذكر بعض السلف أنه يجب على الأمة من قيام الليل ما يقع عليه الاسم، ولو
قدر حلب شاة.
قال النووي: هذا غلط ومردود، وقيام الليل أمر مندوب إليه وسنة متأكدة.
قال أبو هريرة في «صحيح مسلم»: أفضل الصلاة بعد المفروضة
%ج 2 ص 161%
صلاة الليل.
فإن قسمت الليل نصفين فالنصف الآخر أفضل، وإن قسمت أثلاثًا فالأوسط أفضها، وأفضل
منه السدس الرابع والخامس لحديث ابن عمرو في صلاة داود صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ويكره أن يقوم كل الليل لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعبد الله بن عمرو: «بلغني
أنك تقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصلي وأنام، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
فإن قيل: ما الفرق بينه وبين صوم الدهر غير أيام النهي فإنه لا يكره عند الشافعية؟
قيل: له صلاة كلِّ الليل تضرُّ بالعين وبسائر البدن، بخلاف الصوم فإنه يستوفي في
الليل ما فاته من أكل النهار، ولا يمكنه نوم النهار إذا صلى الليل كله لما فيه من
تفويت مصالح دنياه وعياله، وأما بعض الليالي فلا يكره إحياؤها مثل العشر الأواخر
من رمضان وليلتي العيد.
وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]
النافلة زيادة.
(1/392)
قال
بعضهم: إنما خصَّ سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأنها كانت فريضة عليه
ولغيره تطوع فقال تعالى: أقمها نافلة لك، ذكره ابن بطال عن ابن عباس.
ومنهم من قال بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلةً أي تطوعًا.
وذكر في كونها نافلة: إن الله تعالى غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل
طاعة يأتي بها سوى المكتوبة تكون زيادة في كثرة الثواب، فلهذا سُمِّيَ نافلة بخلاف
الأمة فإن لهم ذنوبًا محتاجة إلى الكفارات، فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد
ونوافل في حق سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا في حق غيره.
وأما الذين قالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة عليه قالوا: معنى كونها نافلة له على
التخصيص؛ أي: أنها فريضة لك زائدة على الصلوات الخمس، خُصصتَ بها من بين أمتك.
1120 - حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثنا سُفْيَانُ، حدَّثنا
سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ
قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ
فِيهِنَّ، وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ
الحَمْدُ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ
حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ
حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ،
%ج 2 ص 162%
اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ
أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ
وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ،
وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ - أَوْ: لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ -».
[خ¦1120]
(1/393)
قَالَ
سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: «وَلاَ حَوْلَ وَلاَ
قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».
وَقَالَ عَلِيُّ بْن خَشْرَم قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي
مُسْلِمٍ سَمِعَهُ مِنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم.
وفي لفظ: «وما أنت أعلم به مني أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر».
وفي لفظ: «اللهمَّ لك الحمدُ أنت رب السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات
والأرض».
وعند مسلم: «كان إذا قام صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الليل كبَّر ثم قال: اللهمَّ
لك الحمد أنت قيَّام السموات والأرض» هذا الحديث خرَّجه الستة.
قال أبو نعيم الأصبهاني في «المستخرج»: قال سفيان: كنت إذا قلت له - يعني لعبد
الكريم - آخرَ حديث سليمان: «ولا إله غيرك»، قال: «ولا حول ولا قوة إلا بالله»،
قال سفيان: وليس هذا في حديث سليمان الأحول.
ومقصود البخاري بهذه الزيادة: تبيين أن سليمان سمعه من طاوس، وفي نسخة: سمعته من
طاوس.
وعلي بن خشرم: لم يذكره أحد في رجال البخاري، إنما ذكر في رجال مسلم، فينظر.
وعند السراج: «يعني صلَّى ستَّ ركعات».
قوله: (قَيِّمُ) بحذف أنت قيم، وفي بعض النسخ: (أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ)، وهو
القيام وقرأ بها عمر بن الخطاب، والقيوم في الآية الكريمة كذا وقائم وقوام.
قال ابن عباس: القيوم الذي [لا] يزول.
وقال غيره: هو القائم على كل نفس، ومعناه: مدبر أمرِها.
وقيل: قيَّام على المبالغة من قام بالشيء إذا هيَّأَ له ما يحتاج إليه.
وقيل: قيِّم السماوات والأرض: خالقهما وممسكهما أن تزولا.
وقرأ علقمة: «الحي القيم»، وأصله قيوم، على وزن فيعل، مثل صيت، وهو قول البصريين،
وقال الكوفيون: أصل قيمٍ قويم.
وقال ابن الأنباري: أصل القيوم القيووم، فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن
جُعِلَتَا ياءً مشددة، وأصل القيام القيوام.
(1/394)
قال
الفراء: وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال، يقولون للصواغ: صياغ. ذكره النووي
وغيره، انتهى.
%ج 2 ص 163%
والذي قاله ابن الأنباري في الكتاب «الزاهر»: قال قتادة: هو القائم على خلقه
بأحوالهم وأعمالهم وأرزاقهم.
وقال الكلبي: هو الذي لا بديل له.
وقال أبو عبيدة: القيوم القائم على الأشياء.
وقرأ عمر بن الخطاب: «القيم»، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود، وروي عن علقمة.
وأما القيم: فإن الفراء وسيبويه اختلفا فيه، فقال سيبويه: أصله فيعل. وأنكر ذلك
الفراء وقال: ليس في أبنية العرب فيعل.
وقوله: (نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) يعني منورهما، وقرئ: ?الله نوَّر السماوات
والأرض? بفتح النون والواو المشددة.
وقال ابن عباس: هادي أهلها.
وقيل: منزه في السماوات والأرض من كل عيب، ومبرَّأ من كل ريبة.
وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد وشمس الزمان.
وقال أبو العالية: مزين السماوات والأرض بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض
بالأنبياء والعلماء والأولياء.
وقوله: (الحَقُّ) معناه المحقق وجوده، وكل شيء صحَّ وجوده وتحقق فهو حق، ومنه قوله
تعالى: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1] أي الكائنة يقينًا بغير شك، وهذا وصف لله تعالى
بالحقيقة والخصوصية، ولا ينبغي لغيره.
وقوله: (ومُحمَّدٌ حَقٌّ) وإن كان داخلًا في النبيين صلوات الله عليهم أجمعين،
كقوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، بعد قوله جلَّ وعزَّ:
{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 98].
والإنابة: الرجوع؛ أي: رجعت إلى مناديك. وقيل: رجعت إليك؛ أي: فوَّضت إليك.
(وَبِكَ خَاصَمْتُ): أي بما أعطيتني من البراهين والقوة خاصمت من عاند فيك وكفر،
وقمعته بالحجة والسيف.
وقوله: (حَاكَمْتُ): أي من جحدَ الحقَّ حاكمتُه إليك، وجعلتك الحاكم بيني وبينه لا
غيرك مما كانت الجاهلية تتحاكم إليه من أصنامها وكهانها وشبه ذلك.
(1/395)
وسؤاله
المغفرة مع أنه مغفور له للتواضع والخضوع والإجلال، أو لتعليم الأمة.
الباب الذي بعده تقدم في ذكر المساجد، والباب الآخر تقدم في الوتر.
بَابُ تَرْكِ القِيَامِ لِلْمَرِيضِ
1124 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ، حدَّثنا سُفْيَانُ، عَنِ الأَسْوَدِ، سَمِعْتُ
جُنْدَبًا، يَقُولُ: «اشْتَكَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَلَمْ يَقُمْ
لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ». [خ¦1124]
وفي لفظ:
1125 - «احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، فَقَالَتِ
امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ فلانه، فَنَزَلَتْ:» وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ
إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى» [الضحى: 2]. [خ¦1125]
وفي لفظ: فقالت امرأة: يا رسول الله ما أرى صاحبك إلا قلاك. فنزلت: {مَا وَدَّعَكَ
رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3].
وفي لفظ: «فقال المشركون: لقد وُدِّع محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
وفي كتاب الواحدي من حديث هشام بن عروة عن أبيه: «أبطأ جبريل على النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم فجزع جزعًا شديدًا، فقالت خديجة رضي الله عنها: قد قلاك ربك لما
يرى من جزعك، فنزلت السورة». انتهى.
وكأنه غير صحيح لما علم من ثباتها وصحة يقينها.
قال الواحدي: وعن خولة خادم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أن جروًا دخل تحت
السرير، فمكث النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا
خولة ما حدث في بيتي؟ جبريل لا يأتيني. قالت خولة: فقلت: لو هيأت البيت وكنسته.
قالت: فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذ شيء ثقيل، فإذا جرو ميت، فألقيته خلف
الجدار. قالت: فجاء رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يرعد فقال: يا خولة دثريني.
فأنزل الله تعالى والضحى».
زاد ابن إسحاق: «فقال النبي لجبريل صلى الله عليهما وسلم: ما أخرك؟ فقال: أما علمت
أنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة».
(1/396)
وعند
الحاكم من حديث عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم:
«لما نزلت تبت جاءت امرأةُ أبي لهب فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ فقال: ما هجوتك،
ما هجاك إلا الله تعالى، ومكث رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيامًا لا ينزل
عليه الوحي فأتته فقالت: يا محمد، ما أرى ربك إلا قد قلاك. فنزلت السورة».
وقال: هذا إسناد صحيح، إلا أني وجدت له علة، ثم قال: أخبرناه الصفار، حدَّثنا أحمد
بن مهران، حدَّثنا عبيد الله بن موسى، حدَّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن يزيد بن
زيد قال: لما نزلت تبت. الحديث.
وفي «تفسير سنيد بن داود» أن القائل ذلك للنبي
%ج 2 ص 165%
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ويشبه أن يكون غير جيد
لأن السورة مكية.
قال أبو العباس الضرير في كتابه «مقامات التنزيل»: لا اختلاف فيها.
عند الطبري من حديث جندب: «فقالت امرأة من أهله أو من قومه». الحديث.
وفي «تفسير ابن عباس» رواية إسماعيل بن أبي زياد الشامي: «أبطأ الوحيُ عن النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربعين يومًا، فقال كعب بن الأشرف: قد أطفأ الله نور محمد
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وانقطع الوحي عنه، فهبط جبريل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
بعد الأربعين يومًا فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبطأك عني؟ فنزلت:
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]، وأنزل سورة الضحى.
وتكذيبًا لكعب: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:
8]».
وفي «المعاني» لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء، و «الإيضاح تفسير القرآن العظيم»
لأبي القاسم إسماعيل بن محمد الجوزي: قيل سبب نزولها أن الوحي كان تأخر خمسة عشر
يومًا فتكلم الكفار. الحديث.
ونقله أبو عبد الله بن النقيب عن ابن عباس وعن ابن جريج: اثنا عشر يومًا.
وقيل: خمسة وعشرون يومًا.
(1/397)
وزعم
أبو عبد الله بن علي بن عسكر أن القائلةَ ذلك إحدى عماته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وزعم ابن إسحاق أن سبب تأخر جبريل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن المشركين لما سألوه
عن ذي القرنين والروح وعدهم بالجواب إلى غد، ولم يستثن، فنزل عليه بعد بطئه سورة
والضحى، وبجواب سؤاله وبقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ
غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله} [الكهف: 23، 24].
قال القرطبي: ولا معارضة بين هذا وبين قول جندب لجواز أن يكون جوابًا عن ذينك
الشيئين كائنًا من كان.
وعند الإسماعيلي خبر أبي نعيم عن سفيان، وجه القراءة فيه: (ودعَك) بالتخفيف، ووجه
القراءة في رواية وكيع عن سفيان: (ودَّعك) بالتشديد.
وعند أبي نعيم الأصبهاني: فلم يقم ليلتين ولا ثلاثًا.
قال ابن التين: معنى التشديد: ما هو آخر عهدك بالوحي، والتخفيف معناه: ما تركك
والمعنى واحد.
ومعنى سجى: استوى، رواه ورقاء في «تفسيره» عن أبي نَجيح عن مجاهد.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا أبي وأبو
%ج 2 ص 166%
زرعة، قالا: حدَّثنا سهل بن عثمان، حدَّثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود -
يعني ابن عبد الرحمن العطار - عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: إذا سجى إذا أظلم.
قال: وحدَّثنا أبو زرعة، حدَّثنا صفوان بن صالح، حدَّثنا الوليد، حدَّثنا سفيان بن
رَزين عن عطاء الخرساني عن عكرمة قال: إذا سجى إذا سكن الخلق.
وقال الطبري: أولى الأقوال عندي بالصواب أن معناه: إذا سكن بأهله وثبت بظلامه، كما
يقال: بحر ساج؛ إذا كان ساكنًا، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
فَمَا ذَنْبُنا إنْ جاشَ بَحْرُ ابنِ عَمِّكم ... وَبحْرُكَ ساجٍ ما يُوَارِي
الدَّعامِصَا
وقال الراجز:
يا حَبَّذَا القَمْرَاءُ وَاللَّيْلُ السَّاجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ
النَّسَّاجْ
وأنشد المبرد لجرير:
ولقد رَمتك يوم رحض بأعينٍ ينظرن من خَلَل الستور سواج
وقال الراعي يعني المرِّي:
(1/398)
حتى
أضاء سراجٌ دونه بقرٌ حمر الحواصل عِينٌ طَرفها ساج
رجع إلى الطبري وعن الحسن: سجى: جاء.
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: سجى بمعنى ذهب.
بَابُ تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَى صَلاَةِ اللَّيْلِ
وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ
وَطَرَقَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا لَيْلَةً
لِلصَّلاَةِ
هذا التعليق ذكره في هذا الباب نفسه مسندًا، فقال:
1127 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، أَخْبَرَهُ:
أَنَّ عَلِيًّا أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلَةً، وَقَالَ: «أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟» فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ
يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ
شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
?وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا? [الكهف: 54]. [خ¦1127]
قال الدارقطني: رواه الليث عن عقيل عن الزهري، عن علي بن حسين، عن الحسن عن علي،
قال ذلك أبو صالح كاتبه
%ج 2 ص 167%
وقتيبة بن سعيد. ويقال: إنه كذا في كتاب الليث، فقيل له: إن الصواب الحسين بن علي،
فرجع إلى الصواب.
ورواه معمر، عن الزهري، عن علي بن حسين مرسلًا.
وكذلك رواه مسعر، عن عقبة بن قيس، عن علي بن الحسين، والصواب ما رواه شعيب ومن
تابعه، وكذا قاله أبو بكر بن أبي شيبة قبله، والله أعلم.
(1/399)
1129
- حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ
القَابِلَةِ، فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ
وِالرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، وَلَمْ
يَمْنَعْنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ
عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ». [خ¦1129]
خشيته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو مخافته أن يسوِّيَ الله عزَّ وجلَّ بينه وبينهم
في صلاة الليل؛ لأن قيام الليلِ كان فرضًا عليه على ما ذكره ابن عباس؛ إذ المعهود
في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة فرضها ونفلها، ويحتمل أن يكون
خشي من مواظبتهم على صلاة الليل أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيًا.
وقال ابن التين: فإن قيل: كيف يجوز أن يكتب عليهم صلاة الليل وقد اكتملت الفرائض؟
قيل: صلاة الليل كانت مكتوبة على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأفعاله التي
تتصل بالشريعة واجب على الأمة الاقتداء به فيها، وكان أصحابه إذا رأوه يواظب على
فعل في وقت معلوم يقتدون به ويرونه واجبًا، فالزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم من
جهة وجوب الاقتداء بفعله لا من جهة ابتداء فرض زائد على الخمس.
أو يكون أن الله تعالى لما فرض الخمسين وحطها إلى خمس بشفاعته صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم، فإذا عادت الأمة فيما استوهبت والتزمت متبرِّعة ما كانت استعفت منه لم
يستنكر ثبوته فرضًا عليهم، وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ فريقًا من النصارى، وأنهم
ابتدعوها {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]. فخشي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أن يكونوا مثلهم،
(1/400)
%ج 2
ص 168%
فقطع العملَ شفقةً على أمته.
حديث عائشة رضي الله عنها تقدم في كتاب الجمعة.
وقوله: (طَرَقَهُ) أي أتاه ليلًا، وقد تقدَّم معناه أول الصلاة.
والجدال: المبالغة في المناظرة.
وتعجَّبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار
بهذا، ولهذا ضرب فخذيه.
وقيل: قاله تسليمًا لعذرهما، وأنه لا عتب عليهما.
وقد روى بلال وأبو أمامة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند ابن زنجويه بسند
جيد: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم». وهما عند الترمذي أيضًا، وصحح
الحاكم حديث أبي أمامة، وعند أبي أحمد بن عدي بسند فيه ضعف عن سلمان مثلُ حديثهما.
بَابُ: [قِيَامِ] النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «حَتَّى تَفَطَّرَت قَدَمَاهُ»
حديث عائشة هذا خرَّجه في التفسير مسندًا في سورة الفتح، وسيأتي إن شاء الله تعالى
هو وحديث المغيرة المذكور هنا هناك.
وفي «الشمائل» عن أبي هريرة: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصلي حتى ترم
قدماه» الحديث.
وفي «المعجم الصغير» للطبراني عن ابن مسعود: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يصلي من الليل حتى ترم قدماه فقيل له» الحديث.
قال البخاري: (الفطر: الشقوق انشقت).
هذا اللفظ ذكره أبو عبيدة في «المجاز»، والفراء في «المعاني»، والزجاج، وهو قول
ابن عباس، حكاه إسماعيل بن أبي زياد في «التفسير».
بَابُ مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ
(1/401)
1131
- حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثنا سُفْيَانُ، حدَّثنا عَمْرُو بْنُ
دِينَارٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قَالَ لَهُ: «أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ تعالى صَلاَةُ دَاوُدَ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ
نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا،
وَيُفْطِرُ يَوْمًا». [خ¦1131]
وفي لفظ: «إن لِزَورك عليك، وإن لزوجك عليك حقًا، قلت: وما صوم داود؟ قال: نصف
الدهر».
وفي لفظ: «يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى. قال: لا
تفعل».
وفي
%ج 2 ص 169%
لفظ: قال: «فإنك لا تستطيع ذلك، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن
لعينك عليك حقًا، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشرَ
أمثالها، فإذا ذلك صيام الدهر كله، فشددت فشدد عليَّ، فقلت: يا رسول الله، إني أجد
قوة، قال: صم صيام نبي الله داود، ولا تزد عليه».
وفي لفظ: «هو أفضل الصيام، فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، قال:
فكان عبد الله بعدما كبر يقول: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم».
وفي لفظ: «بلغ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أني أسرد الصوم وأصلي الليل،
فإمَّا أرسل إلي وإما لقيته .. وكان نبي [الله] داود صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا
يفر إذا لاقى، فقال: من لي بهذا يا نبي الله؟! قال عطاء: لا أدري كيف ذكر صيام
الأبد، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا صام من صام الأبد مرتين».
وفي لفظ: «اقرأ القرآن في كل شهر، قال: إني أطيق أكثر، فما زال حتى قال: ثلاث».
وفي لفظ [خ:1153]: «إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ له العين، وَنَفِهَت
النفس».
(1/402)
وفي
لفظ: «ذكر له صومي، فدخل عليَّ، فألقيت له وسادة من أدم حشوها ليف، فجلس على
الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه فقال: أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قال فقلت:
يا رسول الله! قال: خمسة، قلت: يا رسول الله! قال: سبعة، قلت: يا رسول الله، قال:
تسعة، قلت: يا رسول الله! قال: أحد عشر، ثم قال: لا صوم فوق صوم داود».
وفي لفظ: «وهو أعدل الصيام».
وفي لفظ: «لأن أكونَ قبلتُ الثلاثةَ أيام التي قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
لكان أحبَّ إلي من أهلي ومالي».
وفي لفظ: «قلت: يا رسول الله، لم أرد بذلك إلا الخير».
وفي رواية: «فإنه - يعني داود - كان أعبد الناس»، وفيه: «اقرا القرآن في كل شهر،
قلت: أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في عشرين، قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك،
قال: فاقرأه في عشر، قال: قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في سبع ولا تزد،
فقال لي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنك لا تدري لعلك يطول بك
%ج 2 ص 170%
عمر، قال عبد الله: فصرت إلى ما قال لي».
وعند مسلم: «وإن لولدك عليك حقًا».
وفي رواية: «فصم من كل جمعة ثلاثة أيام».
وفي رواية: «لا صام من صام الأبد ثلاثًا».
وفي رواية: «فإن لعينك عليك حظًا، ولنفسك حظًا، ولأهلك حظًا».
وفي رواية: «إذا أراد أن يتقوَّى أفطر أيامًا وصام مثلهن، كراهية أن يترك شيئا
فارق عليه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» يعني عبد الله.
وفي لفظ: «أنكحني امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها، فتقول:
نِعْمَ الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشًا، ولم يفتش لنا كنفًا منذ أتيناه، فلما طال
ذلك عليه ذكر ذلك للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: القني به»، هكذا خرجه
الأئمة الستة.
عطاء هذا اختُلِفَ فيه؛ فأبو العباس الطَّرْقي يزعم أن النسائي رواه من طريق حماد
عن عطاء بن السائب.
وغيرُه يزعم أنه ابن أبي رباح، فينظر.
(1/403)
على
أن عطاء بن السائب له رواية في هذا الحديث عن أبيه عن ابن عمرو، ورواه أيضًا عن
عبد الله بن عمرو نفسه من غير واسطة.
قال البزار: حدَّثنا يوسف بن موسى، عن عبد العزيز بن نُمَير، حدَّثنا الحجاج بن
أرطأة، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن عمرو فذكره.
قال: وحدَّثنا يوسف بن موسى، حدَّثنا سلمة بن الفضل، حدَّثنا إسماعيل بن مسلم، عن
عطاء عن عبد الله بن عمرو به.
وقال الطبراني: حدَّثنا محمد بن إسحاق بن راهويه، حدَّثنا أبي عن أبي معاوية عن
حجاج، عن عطاء بن السائب، عن ابن عمرو.
قال: وأخبرنا محمد بن إسحاق، حدَّثنا أبي، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي عن عطاء
عن عبد الله، فذكره.
ولما ذكر البزار حديث عمرو بن أوس المبتدأ به أول الباب قال: هذا الحديث لا نعلمه
يروى بهذا اللفظ عن ابن عمرو إلا بهذا الإسناد.
وعند النسائي: قال عبد الله: «كنت رجلًا مجتهدًا، فتزوجت، فجاء أبي إلى المرأة
فقال لها: كيف تجدين بعلك؟ فقالت: نِعْمَ الرجل، رجلٌ ما ينام، وما يفطر، فوقع
بيني وبين أبي، فقال: زوَّجتك امرأة من المسلمين ففعلت بها ما فعلت، فلم أبالِ ما
قال لما أجد من القوة إلى أن بلغ ذلك النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال .. »
الحديث.
زاد البزار: «إن لكل عمل شِرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى،
ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك».
وعند النسائي: «صم يومًا ولك أجر ما بقي، قال: إني
%ج 2 ص 171%
أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك،
قال: صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل
الصيام عند الله صوم داود».
(1/404)
وفي
لفظ: «صم من كل عشرة أيام يومًا ولك أجر تلك التسعة، فقلت: إني أطيق أقوى من ذلك،
قال: فصم من كل ثمانية أيام يومًا ولك أجر تلك التسعة، فقلت: إني أطيق أقوى من
ذلك، قال: فصم من كل سبعة أيام ولك أجر تلك الثمانية، قلت: إني أطيق أقوى من ذلك،
حتى قال: فصم يومًا وأفطر يومًا».
وفي لفظ: «صم يومًا ولك أجر عشرة أيام، قال: قلت: زدني يا رسول الله، قال: فصم
يومين ولك تسعة، قال: قلت: زدني، قال: صم ثلاثة أيام ولك ثمانية أيام».
وفي لفظ: «أدلك على صوم الدهر؛ ثلاثة أيام من كل شهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك،
قال: فصم خمسة أيام، قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم عشرًا، قلت: إني أطيق
أكثر من ذلك».
وفي لفظ: «لما ذكر له صيام داود صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ومن لي بهذا يا رسول
الله».
قال القرطبي: من لا بصيرة عنده ظن أن حديث عبد الله مضطرب، وليس كما ظن؛ فإنه إذا
تتبع ألفاظه وضمَّ بعضها إلى بعض انتظمت فصوله وتناسبت؛ إذ ليس فيه اختلاف تناقض؛
بل يرجع اختلافه إلى أن بعضهم ذكر ما سكت عنه غيره، وفصل بعضٌ ما أجمله غيره.
وقال ابن التين: المعنى فيه: المؤمن لم يتعبد بالصيام خاصة؛ بل تعبد بالحج
وبالجهاد وغيرهما، فإذا استفرغ جهده بالصوم خاصة انقطعت قوته وبطلت العبادات،
فأُمِرَ أن يستبقي قوته للعبادات، وبيَّن ذلك في قوله: (وَلاَ يَفِرُّ إِذَا
لاَقَى)، وقوله: (لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ)، يعني بصوم الأيام المنهي عنها،
وإلا فهو أفضل.
وقوله: (لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) يحتمل أن يكون هذا للمخاطب لما علم من حاله
ومنتهى قوته، وأن ما هو أكثر يضعفه عن فرائضه ويقعد به عن حقوق نفسه، يوضحه أنه
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يمنع حمزة بن عمرو عن سرد الصوم.
وقال ابن التين: استدلَّ من منع صوم الدهر بخمسة أشياء:
الأول:
%ج 2 ص 172%
قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (ولا تَزِدْ) ولم يكن ينهى عن فعل الأفضل.
(1/405)
الثاني:
قوله (صُمْ وأَفْطِرْ) ولم يكن ليأمر بالأدنى.
الثالث: قوله: (لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ).
الرابع: دعاؤه على من صام الأبد.
الخامس: قوله: (لا صَامَ ولا أَفْطَرَ) يريد أنه لم يكتب له أجر الصائم.
وذهب جماعة الفقهاء إلى جواز صومه إلا الأيام المنهي عنها خلافًا لأهل الظاهر.
وقال المهلب: هذا يدل أن داود صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينام أول الليل ثم يقوم في
الوقت الذي ينادي فيه الله جلَّ وعزَّ: هل من سائل؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح
به من نصب القيام في بقية الليل، وهذا هو النوم عند السحر على ما بوَّب له
البخاري.
قال: وإنما صارت هذه الطريقة أحب إلى الله عزَّ وجلَّ من أجل الأخذ بالرفق على
النفس خشية السآمة والملل الذي هو سبب إلى ترك العبادة، والله تعالى يحب أن يديم
فضله ويوالي إحسانه أبدًا، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ الله لا يملُّ
حتى تملُّوا» يعني لا يقطع المجازاة على العبادة حتى تقطعوا أنتم العمل، فأخرج لفظ
المجازاة بلفظ الفعل؛ لأن الملل غير جائز على الله جلَّ وعزَّ، ولا هو من صفاته،
ويدل عليه حديث عائشة:
(1/406)
1132 - «أَحَب العملِ إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدَّائِمُ»، قال مسروق: مَتَى يَقُومُ؟ قَالَتْ: «إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ». [خ¦1132] ثم قال: حدَّثنا مُحَمَّدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ. نسب ابن السكن محمدًا هذا فقال: ابن سلَّام. وقال الجيَّاني: وفي كتاب أبي ذر عن الحموي: محمد بن سالم. وكذا قال أبو الوليد في كتاب «الجرح والتعديل»، ثم قال: وسألت عنه أبا ذر فقال لي: أراه ابن سلام وسهى فيه الحموي، ولا أعلم في طبقة شيوخ البخاري محمد بن سالم. وقوله في «باب حق الضيف»: [1974] حدَّثنا إسحاق أخبرنا هارون. قال أبو علي الجياني: لم ينسبه أبو نصر ولا غيره من شيوخنا، ورواه أبو نعيم الأصبهاني في «مستخرجه» عن أبي أحمد، حدَّثنا عبد الله بن شيرويه، قال: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - أخبرنا هارون فذكره. وقوله: (هَجَمَتْ عينُكَ) قال أبو عمرو: غارت. صاحب «العين»: تهجم هجمًا، وهجومًا، والهجم: الغلبة، والكثير إهجام. الأصمعي: انهجمت عينه دمعت، ذكره في «الموعب».وقال القرطبي: يحتمل أن يكون معناه: هجمت العين عليه بغلبة%ج 2 ص 173%النوم لكثرة السهر السابق، فينقطع عما التزم، فيدخل في ذمِّ من ابتدع رهبانية ولم يرعها، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يا عبدالله! لا تكن مثل فلان؛ كان يقوم الليل، فترك قيام الليل».والزُّوَر: مصدر يقام مقام الاسم، كقوله: صوم، أي صائم، ونوم: أي نائم. وقيل: زور جمع زائر، مثل: شارب وشرب، وراكب وركب، ولا يثنى ولا يجمع. ذكره ثعلب. وعن الزمخشري: الزور الكثير الزيارة. وقال القزاز: هم القوم الزوَّار، ذكرانًا أو إناثًا، وهو الضيف.
(1/407)
وقوله: (إنَّ لِزَوجِكَ عَلَيكَ حَقًّا) هذه هي اللغة العليا، وكان الأصمعي يضعف غيرها، وإنَّ ذا الرمة في قوله: أذو زوجة في المصر أم ذو قرابة فأنت في البصرة العام ثاوياغير حجة، فقيل له: فما تقول في قول الفرزدق: وإنَّ الذي يسعى ليُفسد زوجتي كساعٍ إلى أسدِ الشّرى يستميلهافلم يُحر جوابًا، كذا ذكره ابن السَّيِّد وغيرُه. وفي «المحكم»: وهي زوجه وزوجته، وأباها الأصمعي بالهاء. وزعم الكسائي عن القاسم بن معن أنه سمعه من أزد شنوءة بغير هاء، والكلام بالهاء، إلا أن القرآن العظيم جاء بالتذكير: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] هذا كله قول اللِّحْياني. قال بعض النحويين: الزَّوج يضعُه أهل الحجاز للمذكر والمؤنث وضعًا واحدًا، تقول المرأة: هذا زوجي، ويقول الرجل: هذه زوجي، وبنو تميم يقولون هي: زوجته. وجمع الزوج: أزواج وزُوَجه، وقد تزوَّج امرأة وزوَّجه إياها وبها، وأبى بعضهم تعديته بالباء. وفي «الجامع»: ولا تقول تزوجت بامرأة، فأما قوله جلَّ وعزَّ: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] فمعناه: قرناهم بهن، وهو من قوله جلَّ وعزَّ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] أي وقرناءهم، والله تعالى أعلم. وقال يونس: ليس في كلام العرب تزوجت بامرأة. وفي «المعاني» للفراء: تزوجت بامرأة. وفي «الكتاب المنتهى»: زوجة قليل في الكلام.
(1/408)
قال الشاعر:%ج 2 ص 174%من منزلي قد أخرجتني زوجتيوقال أبو حاتم: قرأنا على الأصمعي قبل هذا - يعني قبل إنكاره على ذي الرمة - لأفصح الناس، وهو أبو ذؤيب الهذلي: تبكي بناتي شجوهن وزوجتي والطامعون إليَّ ثم تصدعواولم ينكره، وأنشده أيضًا أبو حاتم: زوجة أشمط مرهوب بوادره قد صار في رأسه التحويص والقزعوالجمع: زوجات، قال الشاعر: يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم أن ليس رحل إذا استرخت عرى الذنبوقوله: (صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ مِنْ كلِّ شَهْر) قال القرطبي: جاء في حديث صحيح رواه جرير بن عبد الله عند النسائي فيه تخصيص الأيام البيض بالذكر، بقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر؛ أيام البيض؛ صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة».روينا هذا اللفظ عن متقني شيوخنا برفع «أيام» و «صبيحة»، ترفع على إضمار المبتدأ؛ كأنه قال: هي أيام بيض، عائدًا إلى ثلاثة أيام، و «صبيحة»: يُرفَع على البدل من أيام، ومن خفض فيها فعلى البدل من الأيام المتقدمة. وعلى التقديرين فهذا الحديث مقيد لمطلق الثلاثة الأيام التي صومها كصوم الدهر، على أنه يحتمل أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عين هذه الأيام لأنها وسط الشهر وأعدله كما قال: «خير الأمور أوساطها».واختُلِفَ في أي الشهر أفضل للصوم؛ فقالت جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، منهم عمر، وابن مسعود وأبو ذر أن صوم أيام البيض أفضل. وقال النخعي: آخر الشهر أفضل. وقال آخرون: أول الشهر أفضل، منهم الحسن. وقالت عائشة: أول يوم من السبت والأحد والإثنين في شهر، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس. واختار بعضهم الإثنين والخميس. وفي حديث ابن عمر مرفوعًا: «يصوم ثلاثة من كل شهر، أول%ج 2 ص 175%اثنين والخميس الذي بعده والخميس الذي يليه».
(1/409)
وقال
السَّفَاقُسِي: صيام ثلاثة من الشهر حسن ما لم يعيِّن أيامًا من الشهر، مثل قصد
أيام البيض، فقد كرهه مالك، وقال: ما هذا ببلدنا، وقال: الأيام كلها لله، يوضحه ما
روى مسلم عن عائشة: «كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ولا
يبالي من أي أيام الشهر كان يصوم».قال: واختلف القائلون بإباحة تعمد صومها على
أربعة أقوال في تعيينها: قال ابن حبيب: كان أبو الدرداء يصوم أول يوم، واليوم
العاشر، ويوم عشرين. قال: وأخبرني حبيب أن هذا كان صوم مالك. وقال سحنون: يصوم
أوله. وفي الترمذي محسنًا: قال أبو ذر: قال لي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر».وقال الشيخ أبو
إسحاق: أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر، ويوم أحد عشر، ويوم أحد وعشرين. وسيأتي
زيادة إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام. بَابُ مَنْ تَسَحَّرَتقدم في وقت الفجر.
بَابُ طُولِ القِيَامِ فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ 1135 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيْلَةً،
فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ» قُلْنَا: وَمَا
هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم. [خ¦1135]
قال ابن بطال: فيه دليل على طول القيام في صلاة الليل؛ لأن ابن مسعود كان جلدًا
قويًا، محافظًا على الاقتداء بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما همَّ بالقعود
إلا عن طول كثير.
وقد اختلف العلماء: هل الأفضل في صلاة التطوع طول القيام أو كثرة الركوع والسجود؟
فروي عن ثوبان عند مسلم: «أفضل الأعمال كثرة السجود» قاله النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم.
ولما سأله ربيعة بن كعب مرافقته في الجنة قال: «أَعنِّي على نفسك بكثرة السجود».
(1/410)
وعند
ابن ماجه عن عبادة بن الصامت وأبي فاطمة مرفوعًا:
%ج 2 ص 176%
«ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله تعالى له بها حسنة، ورفع له بها درجة، زاد
عبادة قال: فاستكثروا من السجود».
وعن أبي ذر أنه كان لا يطيل القيام ويكثر الركوع والسجود، وقال لما سُئِلَ عن ذلك:
سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها
درجة، وحط عنه بها خطيئة».
وروي عن عمر أنه رأى فتى قد أطال صلاته فقال: لو عرفته لأمرته أن يطيل الركوع
والسجود، فإني سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «إذا قام العبد يصلي
أتي بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقه، فكلما ركع وسجد تساقطت عنه».
والذين ذهبوا إلى أن طول القيام أفضل احتجوا بحديث عبد الله المذكور، وبما رواه
أبو سفيان عن جابر من عند مسلم: «سئل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أي الصلاة
أفضل؟ قال: طول القنوت».
وعند أبي داود عن عبد الله بن حُبْشيٍّ الخَثْعَمي «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم سُئِلَ [أي] الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت».
وهو قول النخعي والحسن وأبي مِجْلَز، وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأشهب.
ثم ذكر البخاري بعده حديث حذيفة:
(1/411)
1136 - «أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ». [خ¦1136] قال ابن بطال: وهذا الحديث لا مدخل له في هذا الباب لأن شوص الفم لا يدل على طول القيام ولا قصرها، كما لا يدلُّ قوله: «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» أنه أراد طول الصلوات دون القصار. قال: وهذا الحديث يمكن أن يكون من غلط الناسخ فكتبه في غير موضعه، أو أن البخاري أعجلته المنية عن تهذيب كتابه وتصفحه، وله فيه مواضع مثل هذا تدل على أنه مات قبل تحرير الكتاب. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون أراد أن حذيفة روى في مسلم: «صليت مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المئة، فمضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى» الحديث. فكأنه لما قال: يتهجد، وذكر حديثه في السواك، وكان يتسوك حين يقوم من النوم ولكل صلاة، ففيه إشارة إلى طول القيام، أو يحمل%ج 2 ص 177%على أن في الحديث إشارة من جهة أن استعمال السواك حينئذ يدل على ما يناسبه من إكمال الهيئة والتأهب للعبادة، وذلك دليل طول القيام؛ إذ النافلة المخففة لا يتهيأ لها هذا التهيؤ الكامل، انتهى. لقائل أن يقول: مراد البخاري أن طول القيام والقراءة الخفية ينشأ عنهما اللازم، المحتاج إلى السواك لتعليم الأمة، والله تعالى أعلم. بَابٌ: كَيْفَ كَانَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ وَكَمْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ؟ ذكر حديث ابن عمر:1137 - كَيْفَ صَلاَةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: «مَثْنَى مَثْنَى». [خ¦1137] وقد تقدم في الوتر.
(1/412)
1138 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ، حدَّثنا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَسَلَّمَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» يَعْنِي بِاللَّيْلِ. [خ¦1138] عند الترمذي: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة».وعند أبي داود: «منها ركعتي الفجر».وقد جاء في الصحيح في مَبِيتِ ابن عباس عنده صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنه صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح».فبين في هذا الحديث أن الثلاث عشرة منها الوتر والفجر. وفي رواية: ذكر الركعتين ست مرات ثم أوتر ثم اضطجع، وذكر بعد الاضطجاع ركعتي الفجر. وفي «الموطأ»: «ثلاث عشرة حاشى ركعتي الفجر».وفي النسائي من حديث يحيى بن الجزَّارِ عنه: «كان يصلي من الليل ثمان ركعات، ويوتر بثلاث».قال أبو عمر: روي في هذا الخبر أنه: «كان يسلِّمُ في كل ركعتين من صلاته تلك»، وروي غير ذلك. وقوله: (صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) يقضي على كل ما اختلف فيه من ذلك. وجاء في رواية عن كريب عنه: «أنه اضطجع بعد الوتر، وقبل ركعتي الفجر».وفي رواية: ذكر الركعتين ست مرات، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج إلى الصلاة. فعلى هذا يكون خمس عشر ركعة، وهذا رواه مالك عن مخرمة، عن كريب، ولم يختلف عن مالك في إسناده ومتنه. وأكثر ما روي عنه في ركوعه في صلاة الليل ما روي عنه في هذا الخبر عن ابن عباس، وليس في عدد الركعات%ج 2 ص 178%من صلاة الليل حد محدود عند أحد من أهل العلم، وإنما الصلاة خير موضوع.
(1/413)
1139 - حدَّثنا إِسْحَاقُ، أخبرنا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلاَةِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: «سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، سِوَى رَكْعَتِي الفَجْرِ». [خ¦1139] وفي حديث:1140 - القَاسِمِ عنها: «يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الفَجْرِ». [خ¦1140] هذا الحديث أخرجه الستة. وفي لفظ: «كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، كانت تلك صلاته يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة».وفي لفظ: «ما كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا قالت فقلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر قال: إن عيني تنامان ولا ينام قلبي».وفي لفظ: «صلى العشاء ثم صلى ثمان ركعات وركعتين جالسًا بين النداءين، ولم يكن يدعهما أبدًا».وعند مسلم: «كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين، يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه».وفي لفظ: «يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها».وفي لفظ: «يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله جلَّ وعزَّ، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول فتلك تسع».وفي لفظ: «كان إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين».
(1/414)
وعند أبي داود من رواية ابن زرارة بن أوفى، وتكلم بعضهم في سماعه. وخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث زرارة، عن سعد بن هشام، عنها: «يصلي العشاء ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم ينام حتى يبعثه الله فيسبغ الوضوء%ج 2 ص 179%ويصلي ثمان ركعات، لا يقعد في شيء منها إلا في الثامنة، ولا يسلم ويقرأ في التاسعة ثم يقعد فيدعو ويسلم تسليمة واحدة، ثم يقرأ وهو قاعد بأم الكتاب، ويركع وهو قاعد، ثم يدعو ثم يسلم وينصرف، فلم تزل تلك صلاته حتى بدن فنقص من التسع ثنتين فجعلها إلى الست والسبع، وركعتيه حتى قبض على ذلك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».وعند أحمد: «كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة، ولا أنقص من سبع».وعند النسائي من حديث يحيى بن الجزار عنها: «كان يصلي من الليل تسعًا، فلما أسنَّ صلى سبعًا».وعند مسلم: عن أبي هريرة يرفعه: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح بركعتين خفيفتين».وعن زيد بن خالد يرفعه: «صلى من الليل ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة».وعند أبي داود بسند لا بأس به عن الفضل بن عباس قال: «بتُّ عند رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأنظر كيف يصلي من الليل، فقام فتوضأ وصلى ركعتين، قيامه مثل ركوعه، وركوعه مثل سجوده، ثم نام ثم استيقظ فتوضأ ثم استنثر ثم قرأ خمس آيات من آل عمران، ولم يزل يفعل هكذا حتى صلى عشر ركعات، ثم قام يصلي بسجدة واحدة فأوتر بها» الحديث. ورواه الترمذي: من حديث شعبة عن عبد ربه بن سعيد، فجعله من مسند المطلب بن ربيعة. وذكر البخاري أن حديث شعبة هذا أخطأ فيه في مواضع. قال: وحديث الليث - يعني المتقدم - أصح من حديث شعبة.
(1/415)
وعند ابن ماجه قال الشعبي: سألت ابن عباس وابن عمر عن صلاة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالليل فقالا: «ثلاث عشرة، منها ثمان ويوتر بثلاث».وعند أبي قرة موسى بن طارق السَّكْسَكِي، حدث ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن مولى للأنصار عن جابر بن عبد الله: «أنه رأى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى في سفر ثلاث عشرة ركعة بعد العشاء».ورواه ابن أبي شيبة عن أبي خالد%ج 2 ص 180%الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن رجل عن جابر مطولًا. قال ابن عبد البر: وأهل العلم يقولون إن الاضطراب عنها في الحج والرضاع وصلاة النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالليل وقصر صلاة المسافر لم يأت ذلك إلا منها رضي الله عنها؛ لأن الرواة عنها حفاظ، وكأنها أخبرت بذلك في أوقات متعددة. قال القرطبي: إنما يتأتى الاضطراب لو أنها أخبرت عن وقت مخصوص أو كان الراوي عنها واحدًا. وقال عياض: يحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة منهن الوتر في الأغلب، وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرًا في بعض الأوقات بحسب اتساع الوقت وضيقه بطول قراءة أو نوم أو بعذر مرض أو غيره أو عند كبر السن أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول القيام وتارة لا تعدهما. وفي هذه الأحاديث أن قيام الليل سنة مسنونة، ودلالة أنه يجوز أن يقال: رمضان، من غير ذكر شهر. وعند الجماعة سوى مالك أنه صلاة رمضان فيما نقله عياض عنهم، وعن الجمهور عشرون ركعة سوى الوتر، ونقله ابن رشد عن داود. وعن ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستًا وثلاثين ركعة والوتر ركعة. وعن الأسود بن يزيد: أنه كان يقوم بأربعين ركعة، ويوتر بسبع. وفي قولها: (يُصلِّي أَرْبعًا لا تَسَلْ عَنْ حُسنِهنَّ وطُولِهنَّ، ثمَّ يُصلِّي ثلاثًا) يَستدِلُّ به من يرى مطلوبية التنفل بأربع ركعات بسلام واحد، ويأت الوتر ثلاث ركعات، لولا ما جاء في رواية أبي داود بسند صحيح: «يسلم من كل ثنتين ويوتر بواحدة».
(1/416)
بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِاللَّيْلِ ونَوْمِهِ، وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِوَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ .. إلى قوله ... سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 7] وَقَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ .. } إلى قوله: {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} قال أبو بكر الأُدْفوي: للعلماء في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2] أقوال: منها: أن قوله: {قُمِ اللَّيْلَ} ليس معناه الفرض، يدل على ذلك بعده قوله جلَّ وعزَّ: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل: 3] وليس كذا يكون الفرض، وإنما هو ندب. قال: وقيل حتم. قال: والقول الثالث: أن يكون فرضًا على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحده،%ج 2 ص 181%روي ذلك عن ابن عباس. قال: وقال ابن سيرين والحسن: صلاة الليل فريضة على كل مسلم، ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ، انتهى. في «المصنف»: حدَّثنا هشيم، أخبرنا أبو عامر المزني، عن الحسن قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صلوا من الليل أربعًا، صلوا ولو ركعتين».وحدَّثنا هشيم أخبرنا يونس عن الحسن قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «رحم الله رجلًا قام من الليل فأيقظ أهله» الحديث. وحدَّثنا هشيم أخبرنا أبو الأشهب عن الحسن أنه قال: «صلوا من الليل ولو قَدرَ حَلْبِ شاة».وحدَّثنا أبو أسامة عن هشام عن محمد أنه كان يستحبُّ ألا يَترُكَ الرجل قيام الليل، ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ. انتهى. فينظر، كأن هذا اللفظ لا يدل على فريضة ولا وجوب؛ لكن روينا في كتاب «الثواب» لآدم من حديث ابن لهيعة، عن مخرمة عن أبي الأخنس، عن ابن عباس ذكروا قيام الليل عند النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «صلوا نصفه أو ثلثه أو ربعه، فواق ناقة أو حلب شاة».فلو صح لكان فيه شائبة من الوجوب. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: أحسبهما قالا ذلك لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].
(1/417)
وفي «تفسير ابن عباس»: «قُمِ اللَّيلَ، قُمِ اللَّيلَ كلَّه إلا قليلًا منه، فاشتدَّ ذلك على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى أصحابه وقاموا الليل كله، ولم يعرفوا ما حد القليل، فأنزل الله تعالى: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل: 3] فاشتدَّ ذلك أيضًا على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى أصحابه، فقاموا الليل كله حتى انتفخت أقدامهم، وذلك قبل الصلوات الخمس، ففعلوا ذلك سنة فأنزل الله تعالى ناسختها فقال: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] يعني قيام الليل من الثلث والنصف».وفي «المعاني» للفراء: اجتمع القراء على تشديد المزمل والمدثر، وكان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس، فلما فرضت الخمس نسخت هذا كما نسخت الزكاة كل صدقة وصوم رمضان كلَّ صوم. وفي «تفسير الجوزي»: كان الرجل يسهر طوال الليل مخافة أن يقصر فيما أمر به من قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، فشق عليهم ذلك، فخفف الله تعالى عنهم بعد بسنة ونسخ وجوب التقدير بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} أي%ج 2 ص 182%صلوا ما تيسر من الصلاة ولو قدر حلب شاة، ثم نسخ وجوب قيام الليل بالصلوات الخمس بعد سنة أخرى، فكان بين الوجوب والتخفيف سنة، وبين الوجوب والنسخ بالكلية سنتان. وفي كتاب «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس: الذي أخبرنا به جماعة من شيوخنا عن أشياخهم عن أبي الطاهر الثَّغْري الحافظ، أخبرنا به محمد بن بركات النَّحْوي بمصر، أخبرنا طاهر بن أحمد بن بَابَشاذ، أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم الحَوْفي، أخبرنا أبو بكر الأدفوي، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النَّحَّاس، قال ابن بركات: وقد رأيت الحَوْفي قال: وأما سورة المزمل فمكية سوى آيتين منها، فإنهما نزلتا بالمدينة، وهما قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل:20] إلى آخرها فيها موضعان.
(1/418)
فقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} جاز أن يكون ندبًا وحضًّا، وأن يكون حتمًا وفرضًا، غير أن بابه أن يكون حتمًا وفرضًا، إلا أن يدل دليل على غير ذلك، والدلائل تقوي أنه كان حتمًا وفرضًا، وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض؛ لأن قيامه ليس مخصوصًا به في وقت دون وقت، وأيضًا فقد جاء التوقيف بما سنذكره، وجاز أن يكون هذا حتمًا وفرضًا على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحده، وجاز أن يكون عليه وعلى أمته، فجاء التوقيف بأنه كان عليه وعلى المؤمنين ثم نسخ. فذكر حديث عائشة الذي عند مسلم قالت: «إنَّ الله تعالى افترضَ القيام في أول: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى أصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله عزَّ وجلَّ اثني عشر شهرًا، ثم أنزل التخفيف في أخرها فصار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة».وعن ابن عباس: «لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في شهر رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة».وفي رواية عطاء الخراساني عنه: «لما قَدِمَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينة نسختها هذه الآية الكريمة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20] إلى آخرها».وقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن موسى بن إبراهيم الخزرجي المعروف بابن الحصار في كتابه «الناسخ والمنسوخ» الذي أخبرنا به أبو محمد النصري، عن أبي عبد الله القرطبي عنه قال: وأما سورة المزمل فمكية%ج 2 ص 183%باتفاق. قال: وزعم بعض الناس أن المنسوخ طول القيام، وأن القيام اليسير لم ينسخ، واحتج بقوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، قال أبو الحسن: والآية محتملة، والمعتمد على قول عائشة فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة.
(1/419)
وقد زعم الفقيه: أبو بكر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم ينسخ عنه فرض قيام الليل، وظاهر القرآن العظيم والحديث يدلَّان على تسوية الجميع. وقد قيل: إنَّ آخرَ السورة نزل حين افترض الله تعالى الصلوات الخمس بمكة - شرَّفها الله تعالى - وقد اختلف في وقت فرض الصلوات من بعد البعث بستة أشهر إلى قبل الهجرة بستة أشهر، وأصحَّ ما في ذلك حديث ابن عباس: أن ذلك كان قبل الهجرة بعام، والله تعالى أعلم. وقال ابن عباس: نشَأَ قام بالحبشة. هذا التعليق رواه عبد بن حميد الكَّجِّي في «تفسيره» بسندٍ صحيحٍ عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال: هو بكلام الحبشة نشأ قام. وأخبرنا عبد الملك بن عمرو عن رافع بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، سُئِلَ ابن عباس: عن قوله تعالى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} فقال: أي الليل قمت فقد أنشأت. وفي كتاب «الإعراب» لابن أبي خيثمة: ومن خطِّ الصُّولي حدَّثنا أبي وعبد الله بن محمد، قالا: حدَّثنا وكيع، عن إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير: قال هو بلسان الحبشة إذا قام نشأ. وفي «تفسير ابن عباس» رواية إسماعيل بن أبي زياد: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ساعات الليل. وفي تفسير عبدٍ عن أبي ميسرة قال: هو بكلام الحبشة نشأ قام. وعن أبي مالك: قيام الليل بلسان الحبشة ناشئة. وعن قتادة والحسن وأبي مِجْلَز: كل شيء بعد العشاء ناشئة. وقال مجاهد: إذا قمتَ من الليلِ تُصلِّي فهو ناشئة، وفي رواية: أي ساعة تهجَّد فيها. وقال معاوية بن قرة: هي قيام الليل. وعن عاصم: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} مهموزة الياء، {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6] بنصب الواو وجزم الطاء من معنى المواطأة.
(1/420)
وفي «المعاني» للفراء: وقد اجتمع القرَّاء على نصب الواو من وَطِئَ، وقرأ بعضهم: {هِيَ%ج 2 ص 184%أَشَدُّ وَطْئًا} بكسر الواو ومده، يريد أشد علاجًا ومواطأة، وأما الوَطء فلا وَطء، لم يروه عن أحد من القرَّاء. وفي «المعاني» للزجاج: وطأ أي أشد مواطأة للقلب، ومن قرأ: {وَطْئًا} بالفتح فمعناه أبلغ في القيام وأبين في القول، ويجوز أن يكون أشد. وفي «المجاز» لأبي عبيدة: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} آناء الليل، ناشئةً بعد ناشئةً. وفي «المنتهى» لأبي المعالي: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أول ساعاته، ويقال: أول ما ينشأ من الليل من الطاعات وهو النَّشيئة. وفي «المحكم»: الناشئة أوَّل النهار والليل، وقيل: الناشية والناشئة إذا نِمتَ من أول الليل نومة ثم قمتَ. وفي كتاب الهروي: كل ما حدث بالليل وبدأ فهو ناشئ وقد نشأ، والجمع ناشئة. وفي «تفسير عبد» عن قتادة: {أَشَدُّ وَطْئًا} أثبت في الخير. {وَأَقْوَمُ قِيلًا}: أحفظ في الحفظ. وعن مجاهد: {وَطْئًا} مواطأة للقول، وفراغًا للقلب، وفي رواية: أن يواطئ سمعُك وبصرُك وقلبُك بعضه بعضًا، {وَأَقْوَمُ قِيلًا} أثبت للقراءة. وعن الحسن: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} أبلغ في الخير وأمنع من هذا العدو. وقوله: {سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 7] قال ابن عباس في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه: السبح الفراغ للحاجة والنوم. وعن أبي مالك ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة: سبحًا طويلًا، فراغًا طويلًا. وفي كتاب الفراء: يقول لك في النهار ما تقضي حوائجك، وقد قرأ بعضهم: {سبخا} بالخاء، والتسبيخ: توسعة القطن والصوف. قال أبو عبيد الله السِّمَّري: حضرَ مجلسَ الفرَّاء يومَ أَمْلَى علينا هذا أبو زياد الكلابي، فسأله الفراء عن هذا الحرف فقال: أهل باديتنا يقولون: اللهم سبخ عنه، للمريض ونحوه والملسوع. وقال الزَّجَّاج: القراءة بالحاء غير معجمة، وقد قرئت بالخاء معجمة.
(1/421)
1141 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنه لاَ يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنه لاَ يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لاَ تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، وَلاَ نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ» تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ. [خ¦1141] أما متابعةُ سليمان فذكر خلف أنه ابن بلال، وقال البخاري في كتاب الصوم في باب ما يذكر من صوم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وقال سليمان عن حميد%ج 2 ص 185%فذكره. وأما قول المزِّي: إن البخاري قال عقب حديث محمد بن جعفر: وقال سليمان. فغير جيد إنما فيه ما قدمنا. ومتابعة أبي خالد سليمان بن حيان الأحمر فذكرها البخاري مسندةً في باب ما يذكر من صوم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإفطاره، فقال: حدثني محمد حدَّثنا أبو خالد الأحمر، أخبرنا حميد سألت أنسًا .. الحديث. وأمَّا ما ذكره المزي أن حديثَ سليمان بن حيان الأحمر في الصوم وفي الصلاة عن محمد، وهو ابن سلام، عن أبي خالد فغير جيد، إنما في البخاري ما أنبأتك به هنا، قال: متابعة. وفي الصوم: رواه عن محمد عنه فينظر، والله تعالى أعلم. وقال الإسماعيلي: وقال يوسف القاضي، حدَّثنا محمد بن أبي بكر، حدَّثنا يحيى بن سعيد وحميد: سُئِلَ أنس عن صوم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكره، ثم قال: ووافقه المعتمر بن سليمان. بَابُ عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ
(1/422)
1142 - حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ مكان كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ». [خ¦1142] عند ابن زنجويه في كتاب «الفضائل» من حديث ابن لهيعة عن أبي عُشَّانة، سمع عقبة بن عامر يقول عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يقوم أحدكم من الليل يعالج طهوره، وعليه عقد، فإذا وَضَّأَ يده انحلت عقدة، فإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، فإذا مسح رأسه انحلت عقدة، فإذا وضأ رجليه انحلت عقدة».ومن حديث ابن لهيعة أيضًا عن أبي الزبير عن جابر سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «ليس في الأرض نفسٌ من ذكر أو أنثى إلا وعلى رأسه حرير معقدة، فإن استيقظ فتوضأ انحلت عقدة، وإن استيقظ وصلَّى حلَّت العقد كلها وإن لم يصل، ولم يتوضأ أصبحت العقد كما هي».
(1/423)
قرأت على أبي النور الجَوْدَري%ج 2 ص 186%عن أبي الحسن علي بن محمود بن أحمد المحمودي، أخبرنا الحافظ أبو الطاهر قراءة عليه، أخبرنا أبو مسعود السُّودَرْجاني، حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحبال، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن إبراهيم قراءة عليه، أخبرنا أبو موسى عيسى بن إبراهيم، أخبرنا آدم بن أبي إياس العسقلاني بجميع كتاب «الثواب» تأليفه، حدَّثنا الربيع بن صبح، عن الحسن: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما من عبد ينام إلا وعلى رأسه ثلاث عقد، فإذا هو تعارَّ من الليل فسبح الله تعالى وحمده وهلَّله وكبَّره حُلَّت عقدة، وإن عزم الله له فقام وتوضأ وصلى ركعتين حُلَّت العقد كلها، وإن لم يفعل شيئًا من ذلك حتى يصبح أصبح والعقد كلها كما هي».اختلف العلماء في هذا العقد: فقيل: هو على الحقيقة بمعنى السحر للإنسان ومنعه من القيام. قال القرطبي: فشبه فعل الشيطان بالنائم بفعل السواحر. وقيل: هو من عقد القلب وتصميمه، فكأنه يوسوس في نفسه ويحدثه بأنه عليك ليلًا طويلًا، فيتأخر عن القيام. قال ابن بطال: رأيت لبعض من فسَّرَ هذا الحديث العقد الثلاث هي الأكل والشرب والنوم، وقال: ألا ترى أنه من أكثر من الأكل والشرب أنه يكثر نومه لذلك، فالله أعلم بصحة هذا التأويل. وقد استبعد بعضهم هذا القول لقوله في الحديث: «إذا هو نام» فجعل العقد حينئذ. وقال ابن قُرْقُول: هو مَثَلٌ واستعارة من عقد بني آدم، وليس المراد العقد نفسها، ولكن لما كان بنو آدم يمنعون بعقدهم ذلك تصرف من يحاول فيما عقده، كان هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يحب من ذكر الله تعالى والصلاة. قال القرطبي: إنما خص العقد بالثلاثِ لأن أغلب ما يكون انتباه النائم في السحر، فإن اتفق له أن يستيقظ ويرجع إلى النوم ثلاث مرات لم تنقض النومة الثالثة في الغالب إلا والفجر قد طلع. انتهى. قد أسلفنا أربع عقد فينظر في كلامه.
(1/424)
وقوله: (يَضْرِبُ على كُلِّ عُقْدَةٍ) يريد يضرب بالرقاد، ومنه قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ} [الكهف: 11].قوله: (عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ) هو مرفوع بالابتداء، أو على الفاعل بإضمار فعل؛ أي: بقي عليك. قال%ج 2 ص 187%القرطبي: كذا الرواية ووقع في بعض النسخ «عَليكَ ليلًا طويلًا» على الإغراء، والأول أولى من جهة المعنى؛ لأنه أمكن في الغرور من حيث إنه يخبره عن طول الليل، ثم يأمره بالرقاد بقوله: (فَارْقُدْ)، وعلى الإغراء ليس فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذ يكون قوله (فَارْقُدْ) ضائعًا. وقال أبو عمر: في هذا الحديث دليل أن ذكر الله تعالى يطرد به الشيطان، وكذلك الوضوء والصلاة، قال: ويحتمل أن يكون الذكر الوضوء والصلاة لما فيهما من معنى ذكر مختص بهما من الفضل في طرد الشيطان، ويحتمل أن يكون سائر أعمال البر كذلك. وزعم ابن قُرْقُول أنه اختلف في الآخرة منها فقط، وقع في «الموطأ» لابن وضَّاح: «انحلَّتْ عُقَدُهُ» على الجمع، وكذا ضبطناه في البخاري، وفي غيرهما: «عُقْدَة» وكلاهما صحيح، والجمع أوجه، لاسيما وقد جاء في مسلم في الأولى عقدة، وفي الثانية عقدتان، وفي الثالثة انحلت العقد. وفي بدء الخلق: «انحلت عقده كلها».قال ابن التين: أراد بالصلاة هنا الفريضة، وقيل: النافلة، واحتج من قال النافلة بما في الحديث الذي يأتي بال الشيطان في أذنه. وقوله: (أَصْبَحَ نَشِيطًا) معناه لسروره بما وفقه الله الكريم له من الطاعة ووعده به من الثواب، ومع ما زال من عقد الشيطان وتثبيطه. قوله: (وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ) وذلك لما عليه من العقد.
(1/425)
قال أبو عمر: زعم قوم أن في هذا الحديث ما يعارض قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يقولن أحدكم خبثت نفسي»، وليس كذلك؛ لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك لنفسه كراهة لتلك الكلمة، والحديث الثاني أصبح خبيث النفس ذمًا لفعله، وعتبًا له، ولكل واحد من الحديثين وجه، وليسا بمتعارضين. قال النووي: ظاهر الحديث أن من لم يجمع بين الأمور الثلاثة: الذكر والوضوء والصلاة، فهو داخل فيمن يصبح خبيث النفس. وأنكر المازري على البخاري تبويبه، وقال: الذي في الحديث يعقد على قافية رأسه وإن صلى بعده،%ج 2 ص 188%وإنما تنحل عقده بالذكر والوضوء والصلاة. قال: ويُتأوَّلُ كلام البخاري أنه أراد استدامة العقد إنما يكون على من ترك الصلاة، وجعل من صلى وانحلت عقده كمن لم يعقد عليه لزوال أثره، والله تعالى أعلم. قال ابن التين: فإن قيل: إن أبا بكر وأبا هريرة كانا يوتران أول الليل ثم ينامان. قيل: أراد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي ينام ولا نية له في القيام، وأما من تنفل ما قدر له ونام بنية القيام فلا يدخل في ذلك، بدليل قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما من امرِئٍ يكون له صلاة بليلٍ يغلبه عليها نومٌ إلا كُتِبَ له أجر صلاته، وكان نومه صدقة».1143 - حديث سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ: «أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ القُرْآنَ، فَيَرْفِضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ». [خ¦1143] يأتي إن شاء الله تعالى، يأتي في آخر كتاب الجنائز. وزعم الإسماعيلي أنه لا يدخل في هذا الباب، قال: وليس رفض القرآن ترك الصلاة بالليل، انتهى. وهو غير جيد؛ لأن في الحديث كما سقناه: «وينام عن الصلاة المكتوبة»، وفي آخر الحديث: «رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل حتى نسيه ولم يعمل به بالنهار» فأي مناسبة أكثر من هذا؟ وقوله: (قَافِيَة رَأسِهِ) يعني قفاه، وقافية كلِّ شيء آخره، ذكره الأزهري وغيره.
(1/426)
بَابُكذا في أكثر النسخ بغير ترجمة وفي بعضها: إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ 1144 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ، حدَّثنا أَبُو الأَحْوَصِ، حدَّثنا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَجُلٌ، فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ، مَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقَالَ: «بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ». [خ¦1144] وفي صفة إبليس: «في أذنيه».قال القرطبي: يصح بقاؤه على ظاهره إذ لا إحالة فيه، وفلعه به ذلك استهانة، ويحتمل أن يحمل على التوسع فيكون معناه: أن الذي ينام الليل كله ولا يستيقظ عند أذان المؤذن ولا تذكير المذكرين كأن الشيطان سدَّ أذنيه ببوله. ويحتمل أن يكون معناه: أن الشيطان استولى عليه واستهان به، حتى لقد اتخذه كالكنيف المعدِّ%ج 2 ص 189%لإلقاء البول فيه. فإن قيل: هل للشيطان بول حقيقة؟ قلنا قال الله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56].وفي الحديث: «إنه يأكل ويشرب» فأي مانع من أن يكون له بول حقيقة إذا كان يطمث ويأكل ويشرب؟ وقال ابن قتيبة: تقول العرب بال في كذا إذا أفسده. وقال الخطابي: هو مثل ضربه له حين غفُلَ عن الصلاة، كمن ثقل سمعه وبطل حسه لوقوع البول الضار في أذنه، وخص البول بالذكر إبلاغًا في التنجيس، وخص الأذن لأنها حاسة الانتباه. بَابُ الدُّعَاءِ والصَّلاَةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِوَقَالَ اللَّهُ جلَّ وعزَّ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] أَيْ: مَا يَنَامُونَهذا القول الذي قاله البخاري قاله إسماعيل بن أبي زياد في «تفسيره» عن ابن عباس وأبو عبيدة في «المجاز».وفي كتاب «العين»: هجع الرجل يهجع هجوعًا، وهو النوم بالليل دون النهار، ورجل هاجع من قوم هجع وهجوع، وامرأة هاجعة من نسوة هجع وهواجع وهاجعات.
(1/427)
وفي «المحكم»: قد يكون الهجوع بغير نوم، قال زهير بن أبي سُلْمَى: قفر هجعت بها ولست بنائم وذراعُ ملقيةِ الجران وساديوقوم هُجَّع وهُجُوع، ونساء هُجَّعٌ وهُجُوع وهَواجِعُ، وهَوَاجعات جمع الجمع. وفي «الجامع» للقزاز: هاجعون. وفي «أفعال ابن طريف»: قال أبو عمرو: الهاجع كل نائم. وفي «الكامل»: التَّهْجَاعُ النومة الخفيفة. قال أبو قيس بن الأسلت: قد عصّت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع 1145 - حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ فيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». [خ¦1145] هذا الحديث خرجه الستة. وعند مسلم: «ثلث الليل الأول».وفي لفظ: «شطر الليل أو ثلث الليل الآخر».وقال الترمذي: أصح الروايات:%ج 2 ص 190% «حين يبقى ثلث الليل الآخر».وعند الدارقطني في كتاب «النزول»: «حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارئ من صلاة الصبح».وفي رواية: «حين يبقى نصف الليل الآخر».وفي رواية: «إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه».وفي رواية: «فلذلك كان أصحاب رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفضلون صلاة آخر الليل على أوله».وفي رواية: «إذا مضى ثلث الليل أو نصف الليل».وفي رواية: «ألا سَقِيم يَستَشْفِي فيُشفَى».وفي رواية: «من ذا الذي يَستَرْزِقُني فأرزقه، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه».وفي رواية: «نادى منادٍ من السماء: من ذا الذي يدعوني» الحديث. وفي لفظ: «من يقرض غير عديم ولا ظلوم».وفي لفظ: «ثم يبسط يديه فيقول: من يقرض غير عديم».
(1/428)
وفي لفظ: «ينزل ربُّنا عزَّ وجلَّ كل ليلة إلى السماءِ الدُّنيا فيقول أنا الملك أنا الملك ثلاثًا، من يسلني» الحديث. وفي لفظ: «هبط إلى هذه السماء، ثم أمر بأبواب السماء ففتحت، ثم يقول: هل من مستغيث أغيثه، هل من مضطر أكشف عنه ضره» الحديث. وفي حديث علي بن أبي طالب: «إن الله عزَّ وجلَّ ينزل في كل ليلة جمعة من أول الليل إلى آخره إلى السماء الدنيا، وفي سائر الليالي في الثلث الآخر من الليل، فيأمر ملكًا ينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، ويا طالب الشر أقصر».رواه من حديث إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، قال: حدثني عمُّ أبي الحسينُ بن موسى، عن أبيه، عن جده جعفر، عن أبيه، عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي. ورواه بسند صالحٍ من حديث ابن إسحاق، حدَّثنا عمِّي عن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه عنه، ولفظه: «هبط الله جلَّ وعزَّ إلى سماءِ الدنيا فلم يزل هنالك حتى يطلع الفجر».وفي حديث جبير بن مطعم بسند صحيح: «ينزل الله تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا».وفي حديث جابر بن عبد الله ورواه من حديث سلمة بن أسلم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عنه بلفظ: «ألا عبدٌ من عبادي يدعوني فأستجيب له، أو ظالم لنفسه فيدعوني فأغفر له، أو مُقَتَّر عليه فأرزقه، ألا مظلوم يَستنصرني فأنصره، ألا عان يدعوني فأفك عنه».وحديث ابن مسعود من حديث إبراهيم الهَجَري عن الأحوص عنه.%ج 2 ص 191%وحديث أبي سعيد من رواية جرير عن منصور عن أبي إسحاق عن الأغر. وفي حديث عامر الجهني من رواية علي بن المبارك: حدَّثنا يحيى بن أبي كثير حدَّثنا هلال بن أبي ميمونة أن عطاء بن يسار حدثه عنه بلفظ: «إذا مضى ثلث الليل - أو قال: نصف الليل - ينزل الله عزَّ وجلَّ فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدًا غيري» الحديث.
(1/429)
قال الدارقطني: وراه جماعة منهم الدَّستوائي، والأوزاعي، وأبان العطار، عن يحيى عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء عن رفاعة بن عرابة الجهني عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو المحفوظ. وفي حديث عمرو بن عنبسة: «وسألت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما ساعة أقرب إلى الله عزَّ وجلَّ من ساعة؟ قال: يا عمرو، لقد سألت عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، إن الرب تعالى يتدلى من جوف الليل فيغفر إلا ما كان من الشرك والبغي».وفي حديث عثمان بن العاص الثقفي من رواية علي بن زيد عن الحسن عنه: «ينادي منادٍ كل ليلة: هل من داعٍ فأستجيبَ» الحديث. وفي حديثِ أبي الدرداء من حديث زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب، عن فضالة بن عبد الله الأنصاري عنه: «إن الله عزَّ وجلَّ ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل، فيفتح الذكر في الساعة الأولى الذي لم يره غيره، فيمحو الله ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن، فيقول: طوبى لمن دخلك، ثم ينزل في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا بملائكته» الحديث. وفي حديث علي بن عاصم: أخبرنا عثمان الليثي عن عبد الحميد بن يزيد بن سلمة، عن أبيه عن جدِّه، سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «يهبط الله عزَّ وجلَّ ثلثَ الليل إلى سماء الدنيا، فيبسط يده ألا داع» الحديث. أخبرنا بجميع كتاب «النزول» أبو العباس أحمد بن محمد، أخبرنا الحافظ يوسف بن خليل سماعًا عليه، أخبرنا أبو القاسم ذاكر بن كامل بن غالب الخفاف، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي الدوري، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الملك بن بشران، قراءة عليه، أخبرنا الدارقطني، وذكر نزوله جلَّ وعزَّ في ليلة نصف شعبان عن أبي بكر الصديق من حديث الصعب بن أبي ذئب عن القاسم بن محمد عن أبيه أو عمه عنه. وعن معاذ من طريق جيدة. وعن أبي ثعلبة الخُشَني بسند%ج 2 ص 192%صالح. وعن عائشة من رواية الحجاج بن أرطأة. وعن أبي موسى الأشعري من رواية ابن لهيعة.
(1/430)
وعن أم سلمة رواه عن أبي بكر النيسابوري، حدَّثنا محمد بن إسحاق، حدَّثنا شجاع بن الوليد، حدَّثنا سليمان بن مهران عن أبي صالح عنها أنها قالت: «يوم ينزل الله جلَّ وعزَّ فيه إلى السماء الدنيا، قيل أي يوم هو؟ قالت: يوم عرفة».وروينا في كتاب اللَّالَكَائي من حديث زيد أبي أُنَيسة، عن طارق بن عبد الرحمن، قال: سمعت سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس يقول: «إن الله تعالى ينزل في شهر رمضان كل ليلة إذا ذهب الثلث الأول من الليل فيهبط إلى سماء الدينا» الحديث. وقال: رواه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عشرون نفسًا. وقال ابن الجوزي: وفي الباب عن النواس بن سمعان. وفي كتاب «الردة وعذاب القبر» لأحمد بن حنبل بسند صحيح عن عبد الرحمن بن البَيْلَماني أنه قال: ما من ليلة إلا وينزل الله تعالى إلى السماء، وما من سماء إلا وله فيها كرسي، فإذا نزل إلى السماء خرَّ أهلها سجودًا حتى يرجع، فإذا لقي السماء الدينا تَأطَّطت ورعدت من خشية الله تعالى، وهو باسط يديه» الحديث. وأما قول عياض وغيره: الذي عليه شيوخ أهل الحديث والذي تظاهرت عليه الأخبار: «ثلث الليل» إن أراد بذلك حديث أبي هريرة فغير جيد؛ لأن الدارقطني ذكر أن في رواية محمد بن عمرو بن علقمة ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة: «نصف الليل»، وكذا في حديث سعيد بن أبي سعيد، وسعيد بن مرجانة، وأبي صالح السمان، وحبيب بن أبي ثابت عن الأغر عن أبي هريرة. وإن أراد غيره فكذلك أيضًا؛ لأن في حديث أبي سعيد الخدري: «النصف»، وفي لفظ: «الشطر»، وحديث جابر ورفاعة بن عرابة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كذلك. وجمع عياض بين الروايتين بأن النزول يكون في النصف، والقول في الثلث.
(1/431)
وقال النووي: يحتمل أن يكون سيدنا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلم بأحد الأمرين فأخبر به، ثم أعلم بالآخر في وقت آخر فأخبر، فسمع أبو هريرة الخبرين فنقلهما جميعًا، وسمع أبو سعيد خبر الثلث الأول فقط فأخبر به مع أبي هريرة كما في مسلم. انتهى. قد أسلفنا أن أبا سعيد أيضًا روى النصف، والذي%ج 2 ص 193%يظهر من هذا أن هذا بحسب المطالع، فقوم عندهم نصف الليل، وهو عند آخرين ثلث، وعند آخرين ثلثا، والله تعالى أعلم. وزعم أبو بكر بن فُورَك أن بعض أهل النقل رواه له عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يُنزل» بضم الياء، ويذكر أنه ضبطه عمَّن سمع منه من الثقات الضابطين. وقال القرطبي: قيَّده بعض الناس بضم الياء، يعدى إلى مفعول محذوف، أي ينزل الله عزَّ وجلَّ ملكًا، قال: والدليل على صحة هذا ما في النسائي: «ثم يأمر مناديًا يقول» الحديث. وزعم ابن بطال أنه ترجم لهذا الحديث: «باب الدعاء نصف الليل»، قال: وليس في الحديث نصف الليل. انتهى كلامه. قد بيَّنا أن نصف الليل في بعض طرقه، فلا إيراد عليه إذًا. وأورد بعضهم أن التبويب في الصلاة والدعاء، وليس في الحديث صلاة، ويجاب: بأنا قد قدمنا قوله في الحديث: «حتى ينصرف القارئ من صلاة الصبح».بَابُ مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُوَقَالَ سَلْمَانُ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، قَالَ: قُمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صَدَقَ سَلْمَانُ».
(1/432)
هذا التعليق أخبرنا به المسند المعمر: صالح بن مختار الأَشْنَوي الصوفي، رحمه الله تعالى، قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم قراءة عليه، أخبرنا أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي، أخبرنا الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني، أخبرنا أبو محمد السمرقندي الحافظ بنيسابور، أخبرنا عبد الصمد بن نصر، أخبرنا أبو العباس البَخْتَري، حدَّثنا أبو حفص البختري حدَّثنا محمد بن بشار حدَّثنا جعفر بن عون حدَّثنا أبو العُمَيس عن عون بن أبي جُحَيفة عن أبيه قال: آخى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فلما جاء أبو الدرداء قرَّب إليه طعامًا وقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل%ج 2 ص 194%حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم، ثم ذهب يقوم فقال له: نم، فنام، فلمَّا كان عند الصبح قال له سلمان: قم الآن، فقاما فصليا، فقال: إن لنفسك عليك حقًا، وإن لربك عليك حقًا، وإن لضيفك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتيا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكرا ذلك له فقال: «صدق سلمان».ولما خرَّجه أبو عيسى عن بندار قال: هذا حديث صحيح، وخرجه البخاري أيضا مسندًا في كتاب الأدب من صحيحه.
(1/433)
1146 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ، وسُلَيْمَانُ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ وَيَقُومُ آخِرَهُ، فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَت له حَاجَةٌ، اغْتَسَلَ وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ». [خ¦1146] قال الإسماعيلي: هذا حديث يغلط في معناه الأسود، فإن الأخبار الجياد: كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وأمر بذلك من سأله. بَابُ قِيَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهحديث عائشة تقدم في باب كيف كانت صلاته، والثاني تقدَّم في: الصلاة قاعدًا ووجد خفة. بَابُ فَضْلِ الصلاة عند الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِوَفَضْلِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الوُضُوءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ 1149 - حدَّثنا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ لِبِلاَلٍ: «عِنْدَ صَلاَةِ الفَجْرِ يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ» فقَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ ولا نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ. [خ¦1149] زعم أبو مسعود الدمشقي وأبو العباس الطرقي وأبو بكر الحميدي أن مسلمًا أخرجه في الفضائل، فينظر في مسلم فإني لم أره، والله تعالى أعلم.%ج 2 ص 195%والذي رأيتُ أن النسائي خرَّجه عن محمد بن عبد الله المَخْرَمي عن أبي أسامة. وفي «صحيح أبي بكر الإسماعيلي»: «حفيف نعليك».
(1/434)
وعند الحاكم على شرط الشيخين: «يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي» الحديث. وخرَّجه ابن خزيمة في «صحيحه» بلفظ: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدَثٌ إلا توضأت عندها، فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا. والدَّفُّ: بفتح الدال المهملة وتشديد الفاء، قال ابن سِيدَه: الدَّفيف: سَيرٌ لَيِّن، دَفَّ يَدِفُّ دَفيفًا. ودفَّ الماشي: جدَّ على وجه الأرض، ودفَّ الطائر وأدف ضرب جنبيه بجناحيه، وقيل: هو إذا حرك جناحيه ورجلاه في الأرض. وزعم أبو موسى المديني في «المغيث» أن حديث بلال هذا: «سمعت دَفَّ نعليك» أي حفيفهما وما يحس من صوتهما عند وطئهما، ذكره صاحب «التتمة» بالذال المعجمة، وأصله السير السريع، وقد يقال: دف نعليك بالدال المهملة، ومعناهما قريبان، انتهى. يؤيد هذا ما رواه الإسماعيلي ورواه ابن السَّكَن: «دُوي نعليك». بضم الدال المهملة يعني الصوت. وقد يستدل بقوله: (لَمْ أَتَطَهَّرْ فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أو نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ) من يرى أن كل صلاة لها سبب تصلى، وإن كانت في الأوقات المكروهة. بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي العِبَادَةِ
(1/435)
1150 - حدَّثنا أَبُو مَعْمَرٍ، حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ، حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَإِذَا حَبْلٌ لزينب مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا الحَبْلُ؟» قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لاَ حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ». [خ¦1150] ذكر الحميدي هذا الحديث في أفراد البخاري، وهو غير جيد لثبوته في «صحيح مسلم» في كتاب الصلاة، ورواه عن شيبان عن عبد الوارث وعن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير عن ابن عُليَّة عن عبد العزيز. وفي «سنن أبي داود» من رواية هارون بن عباد عن ابن عُليَّة: أن التي مدَّ لها الحبل هي حمنة بنت جحش.%ج 2 ص 196%وقال ابن الجوزي: وقيل: إنها أم المؤمنين ميمونة. وفيه جواز التنفل في المسجد؛ لأن في بعض طرقه: أن الحبل كان به. وفيه كراهة الاعتماد على اليدين في الصلاة. وسيأتي حكمه عن قريب إن شاء الله تعالى في باب استعانة اليد.1151 - وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» قُلْتُ: فُلاَنَةُ لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ، تذكر مِنْ صَلاَتِهَا، فَقَالَ: «مَهْ عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا». [خ¦1151] هذا التعليق رواه في كتاب الإيمان مسندًا عن محمد بن مثنى، عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام عن أبيه ولفظه: «أحب الدين إلى الله أدومُه».وقال أبو نعيم الأصبهاني: حدَّثنا أبو بكر بن خلاد، حدَّثنا محمد بن غالب حدَّثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك.
(1/436)
وقال
الإسماعيلي: أخبرنيه موسى حدَّثنا يونس حدَّثنا ابن وهب حدَّثنا مالك به. ورواه
مسلم في «صحيحه» عن محمد بن مسلم عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة
فذكره. وقد جاء مبينًا في غيرِ ما روايةٍ: أن هذه المرأة اسمها الحولاء بنت
تُوَيْت. بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ
يَقُومُهُ
1152 - حدَّثنا عَبَّاسُ بْنُ الحُسَيْنِ، حدَّثنا مُبَشِّرُ، عَنِ
الأَوْزَاعِيِّ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ،
حدَّثنا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو
سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ
كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ». [خ¦1152]
وَقَالَ هِشَامٌ: حدَّثنا ابْنُ أَبِي العِشْرِينَ، حدَّثنا الأَوْزَاعِيُّ،
حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ الحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو
سَلَمَةَ مِثْلَهُ.
هذا التعليق رواه الإسماعيلي في «مستخرجه» عن ابن أبي حسان ومحمد بن محمد، قالا:
حدَّثنا هشام بن عمار، حدَّثنا عبد الحميد بن أبي العشرين، حدَّثنا الأوزاعي
فذكره.
وقال أبو نعيم: حدَّثنا أبو الحسين محمد بن المظفر، حدَّثنا محمد بن خُرَيم،
حدَّثنا هشام به.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وسأله عنه: الناس يقولون يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة
لا يدخلون بينهما عمر، قال: وأحسب أن بعضَهم قال يحيى عن
%ج 2 ص 197%
محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة، عن عبد الله عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال: وتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ.
يعني تابع ابنَ أبي العشرين، وهي مذكورة في «صحيح مسلم»، قال: حدَّثنا أحمد بن
يوسف حدَّثنا عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي.
(1/437)
ورواها
البيهقي من غير طريق عبد الله بن محمد بن أبي مريم وأحمد بن عيسى التنيسي، كلاهما
عن عمرو بن سلمة.
وعند الدارقطني: رواه عن الأوزاعي ابنُ المبارك ومبشر بن إسماعيل والوليد بن مسلم
ويحيى بن عبد الله البَابلُتِّي، وعيسى بن يونس وعمر بن عبد الله الدمشقي، وشعيب
بن إسحاق والوليد بن مزيد، فقالوا: يحيى عن أبي سلمة من غير واسطة.
ورواه عنه عن يحيى عن عمر بن الحكم بشر بن بكر، عند النسائي وعقبة بن علقمة عند
الإسماعيلي كرواية ابن أبي العشرين.
الباب الذي بعده تقدم حديثه.
بَابُ فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى
1154 - حدَّثنا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عن
الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ
أَبِي أُمَيَّةَ، [حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ]، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم أنه قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ
أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ
اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ
صَلاَتُهُ». [خ¦1154]
في «سنن ابن ماجه»: عن الوليد بن مسلم حدَّثنا الأوزاعي.
ولما خرَّجه أبو عيسى قال: حديث حسن غريب صحيح، وجُنَادة صحابي.
وقال الفِرَبْري: أجريت هذا الدعاء على لساني عند انتباهي من النوم ثم نمت فجاءني
جاءٍ فقرأ هذه الآية: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى
صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 24].
(1/438)
وقال
ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه يوسف بن عدي عن عَثَّام عن هشام عن
أبيه عن عائشة يرفعه: «كان إذا تعارَّ من الليل قال: لا إله إلا الله الواحد
القهَّار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار».
فقالا: هذا خطأ إنما
%ج 2 ص 198%
هو هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول هذا، هكذا رواه جرير، وقال أبو زرعة:
حدَّثنا يوسف بن عدي بهذا الحديث، وهو منكر.
قوله (تَعَارَّ) قال ابن سِيدَه: عَرَّ الظَّليمُ، يَعِرُّ عِرَارًا، وَعارَّ
معارَّةً عِرَارًا، صاح، والتَّعارُّ: السهر والتقلب على الفراش ليلًا مع كلام،
وهو من ذلك.
وفي «الموعب»: يقال منه: تَعَارَّ يَتَعَارُّ، ويقال: لا يكون ذلك إلا مع كلام
وصوت.
وقال يعقوب: لا يقال عَرَّ الظَّليمُ.
وقال ابن التين: ظاهر الحديث أن (تَعَارَّ) استيقظ؛ لأنه قال تعار، فقال: فعطف
القول بالفاء على تعار.
وقيل: تعارَّ تقلب في فراشه، ولا يكون إلا يقظة مع كلام يرفع به صوته عند انتباهه
وتمطية، وقيل: الأنين عند التمطي بأثر الانتباه.
وعن ثعلب فيما حكاه الزاهد: اختلف الناس في تعار، فقال قوم: انتبه، وقال قوم:
تكلم، وقال قوم: علم، وقال بعضهم: تمطَّى وأنَّ.
1155 - حدَّثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي الهَيْثَمُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ، سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ، وَهُوَ يَقُصُّ قائما يقول فِي قَصَصِهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ
اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ أَخًا لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ»
يَعْنِي بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ.
[خ¦1155]
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ ... إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ
الفَجْرِ سَاطِعُ
أَرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا
قَالَ وَاقِعُ
(1/439)
يَبِيتُ
يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ
المَضَاجِعُ
تَابَعَهُ عُقَيْلٌ، وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ
سَعِيدٍ، وَالأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قال ابن بطال: القائل (إِنَّ أَخًا لَكُمْ لاَ يَقُولُ الرَّفَثَ) هو سيدنا محمد
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه دلالة أن حسن الشعر كحسن الكلام محمود،
وأن قوله: «لأن يمتلأَ جوفُ أحدكم قيحًا حتى يَرِيهِ، خير له أن يمتلئ شعرًا»،
يعني الحديث المشهور المروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة عند البخاري،
وابن أبي وقاص عند مسلم، وأبو الدرداء عند
%ج 2 ص 199%
ابن أبي عدي، وأبو سعيد والدرداء محمول على شعر فيه باطل وهَجْر.
وقد ذكر أبو القاسم البغوي في «معجمه» حديثًا يبيِّنُ فيه الشعر الجائز من غيره:
أن مالك بن عمير قال: يا رسول الله، إن الشعر يجيش في صدري فما تأمرني؟ فقال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: «قل الشعر في زوجك، في أمتك، في جملك، في ناقتك، وما سوى ذلك
فهو شعر» يعني الممنوع منه، رواه عن محمد بن أبي ميسرة، حدَّثنا يعقوب الزهري
حدَّثنا أبو صخر واصل بن يزيد السلمي حدَّثنا أبي وعمومتي عن جدي مالك بن عمير
فذكره مطولًا.
حديث ابن عمر تقدَّم في نوم الرجال في المسجد.
(1/440)
بَابُ المُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الفَجْرِحديث عَائِشَةَ تقدم عن قرب، وفيه: «كان لا يدع أربعًا قبل الظهر، وركعتين قبل صلاة الغداة».وفي لفظ: «لم يكن على شيءٍ من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر».وفي لفظ: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها».وفي لفظ: «كان يصلِّي ركعتي الفجر ويخفِّفهما».وعن حفصة عند الشيخين: «إذا طلعَ الفجر صلَّى ركعتين».وفي لفظ: «لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين».وعن أبي هريرة عند أبي داود بسند ليس بالقوي قاله أبو محمد الإشبيلي، وضعَّفه أيضًا ابن القطان: «لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل».وعند أبي عبد الرحمن النسائي بسند ضعَّفه ابن القطان: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمر بالركعتين قبل صلاة الفجر».وعند الترمذي: «من لم يصلِّ ركعتي الفجر فليصليهما بعدما تطلع الشمس».وعند الحاكم على شرط الشيخين: «من نسي ركعتي .. » الحديث. وخرَّجه أيضًا ابن خزيمة في «صحيحه» وابن حبان. وعند أبي داود من حديث أبي زيادة الكندي عن بلال يرفعه: «لو أصبحت أكثر مما أصبحت لركعتهما وأحسنتهما وأجملتهما؛ يعني ركعتي الفجر».وعن قيس بن قَهْدٍ ورآه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين فقال: يا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن، فسكت صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال الترمذي: ليس هذا الحديث%ج 2 ص 200%بمتَّصل. وخرَّجه ابن خزيمة في «صحيحه» ولفظه: «ما هاتان الركعتان؟ قال: يا رسول الله، ركعتا الفجر، لم أكن صلَّيتهما، فهما هاتان، قال: فسكت عنه».وعن ابن عمر يرفعه: «لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين» وقال: حديث غريب. وفي «المصنف» عن عمر: «لهما أحبُّ إليَّ من حُمُر النَّعَم».وعن عائشة وابن عمر: «حافظوا على ركعتي الفجر فإن فيهما الخير والرغائب».وحدَّثنا معاذ عن أشعث: كان الحسن يرى الركعتين قبل الفجر واجبتين.
(1/441)
قال
القرطبي: وهذا قول شاذ لا أصل له، والذي عليه جماعة العلماء أنهما سنة. وقال
بعضهم: هما من الرغائب. وقال ابن رشد في «القواعد»: اتفقوا على أنهما سنة. بَابُ
الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ
1160 - حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حدَّثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي
أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: «كَانَ
النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ
اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ». [خ¦1160] قال الإسماعيلي: وقال الليث عن
خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الأسود. هذا الحديث أخبرنيه الكاغدي،
حدَّثنا أبو زرعة، حدَّثنا يحيى بن بكير حدَّثنا الليث. ولما روى البيهقي حديث
عائشة هذا من طريق معمر عن الزهري عن عروة بزيادة: «حتى يأتيه المؤذن» قال: أخرجه
البخاري. قال: وكذلك رواه عمرو بن الحارث والأوزاعي ويونس بن يزيد وابن أبي ذئب
وشعيب عن الزهري، وكذلك قاله أبو الأسود عن عروة عن عائشة، وخالفهم مالك بن أنس
فيما رواه يحيى بن يحيى بذكر الاضطجاع بعد الوتر. قال البيهقي: والعدد أولى بالحفظ
من الواحد، ويحتمل أن يكونا محفوظين فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر، وقد قال
محمد بن يحيى الذهلي: الصواب الاضطجاع بعد الركعتين. وفي كتاب «التمييز» لمسلم بن
الحجاج: وَهِمَ مالك في ذلك، وخولف فيه عن الزهري، ثم ذكر جماعة رووا الاضطجاع بعد
الركعتين. وقال أبو عمر: ذهب قوم إلى أن الاضطجاع سنة، واحتجوا بحديث ابن شهاب:
«إذا ركع ركعتي الفجر اضطجع».قال: هكذا قال كل من روى هذا الحديث عن ابن شهاب إلا
مالك بن أنس. وعند مسلم: «إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبيَّن له%ج 2 ص
201%الفجر وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن».
(1/442)
استدلَّ من قال بوجوب الاضطجاع - وهو ابن حزم - بما روي عن أبي هريرة قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» خرجه ابن خزيمة عن بشر بن معاذ حدَّثنا عبد الواحد بن زياد حدَّثنا الأعمش عن أبي صالح عنه. وقال الترمذي وخرجه من هذه الطريق وأبو علي الطوسي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وخرَّجه أيضا ابن حبان في «صحيحه»، وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فقال: ما أفعله أنا، وإن فعله رجل ثم سكت -كأنه لم يعبه إن فعله- قيل: لِمَ لَمْ تأخذ به؟ قال: ليس فيه حديث يثبت. قلت: حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة؟ قال: رواه بعضهم مرسلًا. وقال أبو طالب: قلت لأبي عبد الله حدَّثنا أبو الصلت عن أبي كُدَينة عن سهيل عن أبي هريرة: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اضطجع بعد ركعتي الفجر»، فقال: شعبة لا يرفعه. قلت: فإن لم يضطجع عليه شيء؟ قال: لا، عائشة ترويه، وابن عمر ينكره. وقال المَرُّوذي: قال أبو عبد الله: حديث أبي هريرة ليس بذاك. قلت: إن الأعمش يحدث به عن أبي صالح عنه؟! قال: عبد الواحد وحدَه يحدث به. وفي «علل الخلال»: قال إبراهيم بن الحارث: سئل أبو عبد الله عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فقال: ما أفعله، وإن فعله رجل فحسن. وقال ابن العربي في «العارضة»: حديث أبي هريرة معلول لم يسمعه أبو صالح منه، وبين الأعمش وأبي صالح كلام. وقال الحافظ المنذري: قيل: إن أبا صالح لم يسمع هذا الحديث من أبي هريرة. وقال البيهقي: الأولى في رواية أبي هريرة حكاية فعله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي رواه محمد بن إبراهيم عن أبي صالح سمعت أيا هريرة يحدث مروان بن الحكم: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يفصل ركعتيه من الفجر، وبين الصبح بضجعة على شقه الأيمن».قال المنذري: ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الضجعة إنما كان يفعلها راحة لطول قيام، انتهى.
(1/443)
مستدلين بما روته عائشة:%ج 2 ص 202% «إن كنت نائمة اضطجع، وإن كنت مستيقظة حدثني صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».وبما رواه الأثرم من غيرِ ما وجهٍ عن ابن عمر أنه أنكرها وقال: هي بدعة. وعن إبراهيم وأبي عبيدة وجابر بن زيد أنهم أنكروها أيضًا. وفي «المصنف» بسند صحيح عن سعيد بن المسيب: رأى عمر رجلًا اضطجع بعد الركعتين فقال: احصبوه. وعن إبراهيم قال عبد الله: ما بال الرجل إذا صلَّى الركعتين يتمعَّك كما تتمعَّك الدابة أو الحمار إذا سلم فصل. قال ابن حزم: صح ذلك. يعني إنكاره أمر عبد الله، انتهى. وكذا قاله ابن المسيب، وقال إبراهيم: هي ضجعة الشيطان. وروى ابن القاسم عن مالك: لا بأس بها إن لم يرد بها أن يفصل بينهما. كأنه لمح ما روى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أن أبا موسى ورافع بن خديج وأنسًا كانوا يضطجعون. وحدَّثنا هشيم أخبرنا غيلان بن عبد الله قال: رأيت ابن عمر فصلى ركعتي ثم اضطجع. وهو أثر ضعيف. وسئل أبو هريرة عن الاضطجاع فقال: لا يصلي حتى يضطجع. وكان ابن سيرين وعروة يضطجعان، وحكاه في «المحلى» عن سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، وأبي موسى الأشعري، وأصحابه، وأبي رافع. انتهىإنما هو رافع بن خديج كما سبق، قال: وأبي الدرداء. وأما حديث ابن عباس: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع» فرواه البيهقي من حديث مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عنه. وقال: رواه غيره عن شعبة، عن موسى، عن سعيد عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منقطعًا، وقد روى كريب عن ابن عباس ما دلَّ على أن اضطجاعه كان بعد الوتر، وقد يحتمل في ذلك ما احتمل برواية مالك المذكورة قبل.
(1/444)
وقال
عياض: حديث مالك وابن عباس أن الاضطجاع كان قبل ركعتي الفجر، وهو رد لما ذهب إليه
من قال إنها سنة، وذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنها بدعة ولم يقل أحد في الاضطجاع
قبلهما أنه سنة فكذا بعدهما، يؤيده قول عائشة: «إن كنت مستيقظة حدثني وإلا
اضطجع».قال القرطبي: هذه ضجعة استراحة، وليست بواجبة عند الجمهور ولا سنة، فكذا
بعدهما ولا سنة. وفي «المعرفة»: أشار الشافعي إلى أن الاضطجاع للفصل بين النافلة
والفريضة، وسواء أكان ذلك الفصل%ج 2 ص 203%بالاضطجاع أو التحديث أو التحول عن ذلك
المكان أو غيره، والاضطجاع غير متعين لذلك. وهذا يدفع قول النووي: الاضطجاع الصحيح
أنه سنة. واضطجاعه على شقه الأيمن لئلا يستغرق في النوم؛ لأن القلب في جهة اليسار،
فيكون إذ ذاك معلقًا، فلو نام على يساره استراح القلب ودخله النوم. وفي قولها:1168
- فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي. [خ¦1168]
يرد على من قال: يكره الكلام بعد طلوع الفجر حتى يصلي الصبح إلا ما كان من ذكر
الله تعالى، حكاه أبو عيسى عن بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
قال: وهو قول أحمد، وإسحاق.
وحكاه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وابن عمر، وجابر بن
زيد.
وفي «سنن أبي داود» ما يشعر أن اضطجاعه كان بعد الوتر، قالت: «كان إذا قضى صلاته
من آخر الليل نظر، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإن كنت نائمة أيقظني وصلى، ثم اضطجع
فإذا جاءه المؤذن لصلاة الصبح صلى ركعتين خفيفتين ثم يخرج إلى الصلاة». رواه من
حديث ابن عيينة عن أبي النضر سالم، عن أبي سلمة.
قال البيهقي: هذا بخلاف رواية الجماعة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
قال: ورواه مالك خارج «الموطأ» عن سالم فذكر الحديث عقيب صلاة الليل.
وقال الحميدي: كان سفيان يشك في حديث أبي النضر ويضطرب فيه.
وقد تقدم في باب من انتظر الإقامة طرف منه وحديث عائشة تقدم أيضًا.
(1/445)
بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَىوَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَأَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِيِّ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ: «مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلَّا يُسَلِّمُونَ فِي كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنَ صلاة النَّهَارِ».هذا التعليق.1162 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ، حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي المَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي%ج 2 ص 204%أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قال: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قال: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي» قَالَ: «وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ». [خ¦1162] عند أبي داود: «ثم رضني»، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.
(1/446)
وفي «صحيح ابن حبان» وأستاذِه ابن خزيمة عن أبي أيوب: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: اكْتُم الخِطبة، ثم توضأ فأحسن وضوءك، ثم صلِّ ما كتب الله لك، ثم احمد ربك ومجِّده، ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، فإن رأيت لي في فلانة - يسمِّيها باسمها - خيرًا في ديني ودنياي وآخرتي، وإن كان غيرها خيرًا لي منها في ديني ودنياي وآخرتي، فاقضِ لي بها أو فاقدرها لي».وعند الترمذي: عن ابن أبي أوفى قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء، ثم ليصلِّ ركعتين، ثم ليثنِ على الله تعالى، وليصل على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضى إلا قضيتها، يا أرحم الراحمين».وقال: هذا حديث حسن غريب، وفي إسناده مقال. قوله: (فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ) قال ابن العربي: فيه تسمية ما يتعين فعله من العبادات فرائض، ولا يسمى به المندوب، وإن كان فيه معنى الفرض، وهو التقدير لكنه أمر خص به المكتوب حتمًا في لسان الشرع. قال: و (أَسْتَخِيرُكَ) أستفعل في لسان العرب على معان؛ منها: سؤال الفعل، فتقدير الكلام: أطلب منك الخير فيما هممت به، والخير هو كل معنى زاد نفعه على ضره. و (أَسْتَقْدِرُكَ): معناه أسألك هبة الخير والقدرة.%ج 2 ص 205%قال: وفيه دلالة أن العبد لا يكون قادرًا إلا مع الفعل لا قبله، خلافا للقدرية، فإن الباري جلَّ وعزَّ هو خالق العلم بالشيء للعبد، والهم به، والقدرة عليه، والفعل مع القدرة، وذلك كله موجود بقدرة الله تعالى.
(1/447)
وقوله:
(وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ): كل عطاء الله فضل، فإنه ليس لأحد عليه حق، فكل ما
يهب فهي زيادة مبتدأة من عنده، لم يقابلها منا عوض في الماضي والمستقبل، خلافًا للمبتدعة
الذين يقولون: يجب على الله أن يبتدأ العبد بالنعمة. وقوله: (تَقْدِرُ وَلاَ
أَقْدِرُ) فيه تصريح بمعتقد أهل السنة. وقوله: (أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ) أي:
أريد أمرًا مستأنفًا لا يعلمه إلا أنت. والرضا: سكون النفس إلى القضاء والقدر.
وقوله: (وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي) فيه حجة على
القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يخلق الشر، تعالى عما يفترون. حديث أبي
قتادة تقدم في باب: إذا دخل أحدكم المسجد. وحديث أنس تقدم في: الصلاة على الحصير.
وحديث ابن عمر تقدم في الجمعة. وحديث جابر فيها أيضًا. ودخول الكعبة يأتي. وقول
أبي هريرة وعتبان تقدم في الضحى وغيره مسندًا. وحديث عائشة تقدم قريبًا، وكذا
الأبواب بعده. بَابُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ
حديث ابن عمر تقدم.
(1/448)
1182 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ، حدَّثنا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الغَدَاةِ». [خ¦1182] تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَعَمْرٌو، عَنْ شُعْبَةَ. ابن أبي عدي: هو محمد بن إبراهيم، وعمرو هو ابن مرزوق. الترجمة في الركعتين قبل الظهر، والحديث أربع، فينظر في دخول هذا الحديث في هذا الباب. وسائر طرق حديث عائشة الصحاح: «أربع قبل الظهر»، حاشى ما عند الترمذي مصححًا من حديث عبد الله بن شقيق عنها: «كان يصلي قبل الظهر ركعتين».والذي في مسلم من حديثه عنها: «أربعًا» كما رواه البخاري قبل، وكذا رواه أيضًا عنه الترمذي بعد. ولما خرجه النسائي أدخل بين محمد بن المنتشر وعائشة مسروقًا من طريق صحيحة، وكأن البخاري أراد بالمتابعة التامة السلامة من هذه الشائبة. قال النسائي: حدَّثنا ابن مثنى%ج 2 ص 206%حدَّثنا عثمان بن عمر بن فارس، حدَّثنا شعبة عن إبراهيم بن محمد، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة بلفظ: «كان لا يدع أربع ركعات قبل الظهر وركعتين قبل الفجر».قال النسائي: وهذا الحديث لم يتابعه أحد على قوله: «عن مسروق»، خالفه محمد بن جعفر وعامة أصحاب شعبة. وأخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحكم، حدَّثنا محمد، حدَّثنا شعبة، عن إبراهيم بن محمد: أنه سمع أباه، أنه سمع عائشة، الحديث. وقال الإسماعيلي: قال لنا المَنِيعي: روى هذا الحديث وكيع عن الثوري عن ابن المنتشر عن أبيه سمعت عائشة. قال: وهو وهم، فحدَّثنا هو قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله المخرمي، وأحمد بن منصور، قالا: حدَّثنا عثمان بن عمر، حدَّثنا شعبة، عن إبراهيم بن محمد، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة.
(1/449)
قال الإسماعيلي: قد ذكر سماع ابن المنتشر من عائشة غيرُ واحد، فإن وكيعًا رواه عن شعبة فقال فيه: سمعت، من رواية عثمان وأبي كريب وكذا قال غندر عن شعبة. قلت: فالحمل في ذلك على عثمان بن عمر، فإن يحيى بن سعيد لم يكن ليحمل هكذا إن شاء الله تعالى، وقد جاء به غندر ووكيع، وكفى بهما. وتابع يحيى: ابنُ المبارك، ومعاذ بن معاذ، وابن أبي عدي، ووهب بن جرير. انتهىلقائل أن يقول: تصريح أولئك بسماعه من عائشة لا ينفي دخول مسروق بينهما؛ لاحتمال أن يكون أولًا رواه بواسطة، ثم سمعه بغير واسطة، فأدى ما سمعه عنه شعبة في الحالتين؛ لأن الطريق في كل منهما صحيحة، والله أعلم. وعند الترمذي من حديث المغيرة بن زياد، عن عطاء بن أبي رباح، عنها، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة دخل الجنة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر».قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه، ومغيرة تكلم بعض أهل العلم من قبل حفظه. وقال النسائي: هذا خطأ، ولعله أراد عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة، فصحف. وعند ابن ماجه: «كان يصلي أربعًا قبل الظهر يطيل فيهن القيام، ويحسن فيهن الركوع والسجود».وحديث أم حبيبة رواه ابن خزيمة في «صحيحه»، والترمذي وصححه: «من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير فريضة بني له بيت في الجنة؛ أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين%ج 2 ص 207%بعد المغرب، وركعتين قبل الفجر».وفي لفظ لابن خزيمة من حديث محمد بن أبي حنين، عن أم حبيبة، وعند السراج من حديث محمد بن عبد الله الشعيثي، عن أبيه، عن عنبسة عنها: «من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» وخرجه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح. وعند السراج: «من صلى في يوم وليلة».وفي لفظ: «من صلى ثنتي عشرة ركعة من صلاة النهار».
(1/450)
وفي لفظ: «من صلى ثنتي عشرة ركعة نافلة بالنهار والليل».وحديث أبي أيوب عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء» رواه أبو داود من حديث عبيدة بن معتب، وقال: هو ضعيف. ورواه أبو جعفر الطبري في كتاب «التهذيب» عن عبيد الله بن سعد الزهري، حدَّثنا عمي، حدَّثنا شريك، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن علي بن الصلت، عنه. وقال ابن خزيمة: لست أعرف علي بن الصلت، ولا أدري من أي بلاد الله هو، ولا أفهم ألقي أبا أيوب أم لا؟ ولا يحتج بمثل هذه الأسانيد عِلْمِي إلا معاند أو جاهل. وقد تقدم ذكره في: «الصلاة مثنى مثنى».وحديث عبد الله بن السائب: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح»، قال الترمذي: حديث حسن غريب. وحديث علي: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي قبل الظهر أربعًا، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعًا، يفصل بينهن بالتسليم»، وقال: حديث حسن. وفي «مسند أحمد»: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي ست عشرة ركعة، يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا صلاة العصر ركعتين، وكان يصلي إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا لصلاة الظهر أربع ركعات، وكان يصلي قبل الظهر أربع ركعات، وبعده ركعتين، وقبل العصر أربع ركعات، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم»، وخرَّجَه ابن خزيمة مختصرًا. وحديث البراء تقدم في الضحى. وعند سعيد بن منصور في كتاب «السنن» فيه زيادة:%ج 2 ص 208% «من صلى قبل الظهر أربعًا كان كأنما يتهجد من ليله، ومن صلاهنَّ بعد العشاء كان كمن قام ليلة القدر».وحديث عمر بن الخطاب قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهنَّ من صلاة التهجد، وليس شيء إلا يسبح تلك الساعة» الحديث، قال الترمذي: غريب.
(1/451)
وحديث ابن عمر عند ابن خزيمة: «رحم الله امرًا صلَّى قبل».قال القرطبي: اختلف العلماء هل للفرائض رواتب مسنونة أو ليس لها؟ فقال الجمهور: هي سنة مع الفرائض، وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا رواتب في ذلك ولا توقيت، عدا ركعتي الفجر، حماية للفرائض، ولا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن ذلك. قال: وذهب العراقيون من أصحابنا إلى استحباب الركوع بعد الظهر وقبل العصر وبعد المغرب. وقال الطبري: من روى أربعًا رآه يفعل ذلك في كثير من أحواله، ورآه ابن عمر وغيره يصلي ركعتين في بعض أحواله، فأخبر كلٌّ بما رأى فلا خُلْفَ بين الروايتين، والصلاة بعد الزوال وقبل الظهر كانت تعدل بصلاة الليل في الفضل، روي هذا عن جماعة من السلف. بَابُ الصَّلاَةِ قَبْلَ المَغرِبِ
(1/452)
1183 - ذكر حديث ابن بريدة: حدثني عَبْدُ اللَّهِ المُزَنِيُّ، يرفعه: «صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ». [خ¦1183] الحديث المتقدم في باب: «كم بين الأذان والإقامة».وعند الإسماعيلي: قال محمد بن عبيد بن حساب، عن عبد الله المزني، كنيته ونسيته، لا أدري ابن مغفل أو ابن معقل. وقال البيهقي: رواه حَيَّان بن عبيد الله، عن عبد الله بن بريدة، وأخطأ في إسناده، وأتى بزيادة لم يتابع عليها، فقال: حدثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب».أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن إسماعيل، قال: حدَّثنا أبو بكر بن خزيمة على أثر هذا الحديث: حَيَّان بن عبيد الله قد أخطأ في هذا الإسناد؛ لأن كَهْمَس بن الحسن وسعيد الجريري وعبد المؤمن العَتَكِي رووا الخبر عن ابن بريدة عن ابن مغفل، لا عن أبيه، وهذا علمي من الجنس الذي كان الشافعي يقول: أخذ طريق المجرة، فهذا الشيخ لما رأى أخبار ابن بريدة عن أبيه توَّهم أن هذا الخبر هو أيضًا عن أبيه، ولعله رأى العامة لا تصلي%ج 2 ص 209%قبل المغرب، توهم أنه لا يصلى قبل المغرب، فزاد هذه الكلمة في الخبر. وازداد علمنا بأن هذه الرواية خطأ أن ابن المبارك قال في حديثه عن كَهْمَس: وكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين، فلو كان ابن بريدة قد سمع من أبيه عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الاستثناء الذي زاده حَيَّان: «ما خلا صلاة المغرب» لم يكن يخالف خبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. انتهى. حيَّانُ هذا: ذكره ابن حبان في كتاب «الثقات»، ولما خرج البزار حديثه هذا في كتاب «السنن» قال: مشهور ليس به بأس. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. روى عنه أبو داود، وعبيد الله بن موسى، ومسلم بن إبراهيم، وموسى بن إسماعيل، ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم: هو مجهول، مع هذا، ويشبه أن يكون ظنه حيان بن عبيد الله المَروزي، فإن ذاك جهل.
(1/453)
وقال عبد العزيز بن إبراهيم بن بَزِيزَة: قال أبو عمر الطلنكي: هذه الزيادة ضعيفة، وقد صححها بعض الحفاظ، وروينا عن ابن شاهين أنه استدلَّ على نسخ عموم حديث ابن مغفل بهذا الحديث. ويزيده وضوحًا ما رواه أبو داود في «سننه» من حديث شعبة، عن أبي شعيب، عن طاوس: سُئِلَ ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب فقال: ما رأيت أحدًا على عهد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصليهما. وسنده صحيح وإن كان ابن حزم قال: لا يصح لأنه عن أبي شعيب أو شعيب، ولا يُدرَى من هو؟ فغير جيد؛ لأن ابن أبي حاتم ذكر وكيعًا أيضًا وابن أبي غنية رويا عنه، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبي: صالح، وقال ابن معين: شعبة يهم فيه، يقول: أبو شعيب، وإنما هو شعيب، وذكره أبن حبان في كتاب «الثقات»، وكذلك ابن خُلْفُون، وزاد: روى عنه عمر بن عبيد الطَّنَافسي، وموسى بن إسماعيل التَّبُوذَكي. وأما احتجاج ابن حزم بحديث قال من عند مسلم عن أنس: «كنا على عهد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نصلي ركعتين بعد غروب الشمس، قلت: أكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي ركعتين بعد غروب الشمس؟ قال: كان يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا»، فزعم أبو محمد بن عطية أن هذا ليس في مسلم بهذا اللفظ، ولا في كتب الحديث. وقال المهلب بن أبي صفرة: فعلها كان في أول%ج 2 ص 210%الإسلام ليتبين خروج الوقت المنهي عنه لمغيب الشمس، ثم التزم الناس المبادرة بالمغرب لئلا يتباطؤوا عن وقت فضيلة المغرب. ورد هذا النووي بأن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، وعلم التاريخ. وقال ابن العربي: اختلف الصحابة ? فيها، ولم يفعلها أحد بعدهم. وقال سعيد بن المسيب: ما رأيت فقيهًا يصليهما إلا سعد بن أبي وقاص. وذكر ابن حزم: أن عبد الرحمن بن عوف كان يصليهما، وكذا أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وجابر، وخمسة آخرون من أصحاب الشجرة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
(1/454)
وقال حبيب بن مسلمة: رأيت الصحابة يهبُّون إليهما كما يهبُّون إلى صلاة الفريضة. وسئل عنهما الحسن فقال: حسنتان لمن أراد بهما وجه الله تعالى. وقال ابن بطال: وهو قول أحمد وإسحاق. وفي «المغني»: ظاهر كلام أحمد أنهما جائزتان وليستا سنة، قال الأثرم: قلت لأحمد: الركعتين قبل المغرب؟ قال: ما فعلته قط إلا مرة حين سمعت الحديث. قال: وفيهما أحاديث جياد - أو قال: صحاح - عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابه والتابعين، إلا أنه قال: لمن شاء، من شاء صلى، وقال: هذا شيء ينكره الناس، وضحك كالمتعجب، وقال: هذا عندهم عظيم. وقد تقدم في باب الصلاة إلى الأسطوانة حديث أنس: «كان المؤذن إذا أذن قام ناس من الصحابة يبتدرون السَّوَارِي، حتى يخرج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهم كذلك يصلون ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليها».وعند أبي داود من حديث المختار بن فُلْفُل، عن أنس قال: «صليت الركعتين قبل المغرب على عهد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال المختار: قلت: أرآكم رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: نعم رآنا فلم يأمرنا ولم ينهنا».وعند البيهقي عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب قال: كان المهاجرون لا يركعونهما، وكانت الأنصار تركعهما. ومن حديث مكحول عن أبي أمامة: كنا لا ندع الركعتين قبل المغرب في زمان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وخرج البخاري في هذا الباب حديث:1184 - مَرْثَدَ بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قلت لعُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الجُهَنِيَّ: أَلاَ أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ: «إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ%ج 2 ص 211%صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ؟ قَالَ: «الشُّغْلُ».
(1/455)
[خ¦1184] ولما أخرجه النسائي ذكر أن أبا تميم هذا هو الجَيْشَاني، عبد الله بن مالك، وكذا في «صحيح الإسماعيلي» وغيره. وعند ابن بطال: قال النخعي: لم يصلهما أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، وقال إبراهيم: وهي بدعة، قال: وكان خيار الصحابة بالكوفة علي وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبو مسعود فأخبرني من رمقهم كلهم فما رأى أحدًا يصلي قبل المغرب. قال: وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي. وفي «شرح المهذب»: لأصحابنا فيهما وجهان؛ أشهرهما: لا تستحب، والصحيح عند المحققين استحبابهما. والله تعالى أعلم. بَابُ صَلاَةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةًذَكَرَهُ أَنَسٌ، وَعَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمحديث أنس ذكره مسندًا في باب الصلاة على الحصير، وحديث عائشة ذكره. وحديث عتبان تقدم في باب المساجد في البيوت. وبَابُ التَّطَوُّعِ فِي البُيوتِ تقدم في كراهة الصلاة في المقابر. وقوله:1187 - تَابَعَهُ عَبْدُ الوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ. [خ¦1187] يعني تابع وُهيبًا، وهو تعليق رواه مسلم عن ابن مثنى عن عبد الوهاب، والإسماعيلي قال: حدَّثنا الحسن، حدَّثنا ابن مثنى وابن خلاد، قالا: حدَّثنا عبد الوهاب حدَّثنا أيوب فذكره. وعند الطبري من حديث عبد الرحمن بن سابط، عن أبيه، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «نوِّروا بيوتكم بذكر الله تعالى، وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورًا كما اتخذها اليهود والنصارى» الحديث. وعن جابر قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته، فإن الله جلَّ وعزَّ جاعل في بيته من صلاته خيرًا» رواه مسلم. قال ابن بطال: روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا لا يتطوعون في المسجد، روي ذلك عن حذيفة والسائب بن يزيد والربيع بن خشيم وسويد بن غفلة.
(1/456)
وقال آخرون: هذا الحديث إنما ورد في الفريضة، و (مِنْ) للتبعيض؛ كأنه قال: اجعلوا بعض صلاتكم المكتوبة في بيوتكم ليقتدي بكم%ج 2 ص 212%أهلكم، ومن لا يخرج منهم إلى المسجد، ومن صلى في بيته جماعة فقد أصاب سنة الجماعة وفضلها. روى حماد عن إبراهيم قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، ولهما التضعيف خمسًا وعشرين درجة. انتهى. هذا لعمري جيد لولا ما روى زيد بن ثابت في «الصحيحين» مرفوعًا: «صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة».بَابُ فَضْلِ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ
(1/457)
1188 - 1189 - حدَّثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حدَّثنا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ المَلِكِ عَنْ قَزَعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ من أبي سَعِيدٍ وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً أربعا يحدث بهن عن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي قَالَ: «لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلَّا مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ، وَلاَ صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ الفِطْرِ وَالأَضْحَى، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ وَلاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ، إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي». [خ¦1188 - 1189] عند مسلم عن قَزَعَةَ قلت: «أنت سمعت هذا من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: فأقول على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما لم أسمع؟».وزعم الدارقطني أن سويد بن عبد العزيز رواه عن يزيد بن أبي مريم، عن قَزَعَةَ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وقال محمد بن شعيب بن شابور، عن يزيد، عن قَزَعَةَ، عن ابن عمرو، وأبي سعيد الخدري. ورواه طَلْق بن حبيب، عن قَزَعَةَ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. قال أبو الحسن: والصحيح قول من قال: قَزَعَة عن أبي سعيد. وينظر في مناسبة هذا الحديث بالترجمة، فإنه ليس فيه صلاة، ولقائل أن يقول: الصلاة من لوازمه لأنه لا يشد رحله إلا لأن يصلي غالبًا. قوله: (آنَقْنَنِي) بمعنى أعجبنني، والله أعلم. وذكر البخاري بعده حديث أبي هريرة من روايته: عن ابْنِ يُوسُفَ، عن مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَن الأَغَرِّ، عَنْه: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى».
(1/458)
هو عند مسلم: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء».قال ابن التين: أضاف%ج 2 ص 213%ابن مسلمة إليهنَّ رابعًا، وهو مسجد قباء، يشدُّه ما ذكره أبو زيد عمر بن شبة في كتاب «أخبار المدينة» عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من غير ما طريق: إن الصلاة فيه كعمرة. قال: وحدَّثنا عبد الصمد، حدَّثنا صخر بن جويرية، عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، قالت: سمعت أبي يقول: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل. وقال أنس بن مالك: سبحان الله ما أعظم حق هذا المسجد، لو كان على مسيرة شهر كان أهلًا أن يُؤتَى، الحديث. قال أبو غسان: ومما يقوي هذه الأخبار ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة قول عبد الرحمن بن الحكم: فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباءمن اللاتي سوالفهن غِيدٌ عليهن الملاحة والبهاءوقال عمر بن الخطاب: لو كنت بأُفُقٍ من الآفاق لضربنا إليك أكباد الإبل. وعند أحمد عن جابر عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق».وعند ابن حبان، عن بصرة بن أبي بصرة: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد؛ إلى المسجد الحرام، ومسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس، يشك أيهما قال».وحديث عبد الله بن عمر عند ابن ماجه بمثله. وعند أبي القاسم في «أوسط معاجمه»: حدَّثنا محمد بن العباس المؤدب، حدَّثنا سريح بن النعمان، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن كلثوم بن جبر، عن خيثم بن مروان - يعني المذكور في «ثقات ابن حبان» - عن أبي هريرة يرفعه: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد؛ مسجد الخيف، ومسجد الحرام، ومسجدي هذا».وقال: لم يروه عن كلثوم إلا حماد بن سلمة، ولم يُذْكَرْ مسجدُ الخيفِ في شد الرحال إلا في هذا الحديث.
(1/459)
وهو لعمري سند جيد لولا قول البخاري: لا يتابع خيثم في ذكر مسجد الخيف، ولا يُعرَفُ له سماع من أبي هريرة. وفي كتاب «العلم» المشهور لأبي الخطاب: روي حديث موضوع رواه محمد بن خالد الجَنْدي، عن المثنى بن الصباح، مجهول عن متروك، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده يرفعه: «لا%ج 2 ص 214%تُعمَلُ الرحال إلا إلى أربعة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى، وإلى مسجد الجَنْد».قوله: (مسْجِد الحَرَامِ) من إضافة الموصوف إلى صفته عند الكوفيين، وتقديره عند البصريين مسجد المكان الحرام، والمكان الأقصى، وسمي أقصى لبعده عن المسجد الحرام. وقد اختلف العلماء في شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة، كالذهاب إلى قبور الصالحين، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك: فقال الشيخ أبو محمد الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها، واختاره القاضي حسين. قال النووي: والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد الرحال إلى الثلاثة خاصة. وقال ابن بطال: النهي من إعمال المطي إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير هذه الثلاثة، قال مالك: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا براحلة فإنه يصلي في بلده؛ إلا أن ينذر ذلك في أحد هذه الثلاثة فعليه السير إليها. وبنحوه قاله الخطابي، قال: هذا لفظه لفظ الخبر، ومعناه الإيجاب فيما نذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك فيها، يريد أنه لا يلزمه الوفاء بشيء من ذلك غير هذه الثلاثة، فإن نذر أن يصلي في أحد هذه المساجد قال أبو حنيفة: لا يلزمه بل يصلي حيث شاء، وقال أحمد يلزمه، وعن الشافعي كالمذهبين.
(1/460)
1190
- حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
رَبَاحٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم قَالَ: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ
فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ». [خ¦1190]
قال أبو عمر: لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث في «الموطأ»، ورواه محمد بن
سلمة المخزومي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس، وهو غلط فاحش وإسناد مقلوب، لا يصح فيه
عن مالك إلا حديثه في «الموطأ»، يعني المذكور آنفًا.
قال: وقد روي عن أبي هريرة من طرق متواترة كلها صحاح ثابتة.
وعند مسلم: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة أو كألف صلاة فيما سواه إلا أن
تكون في المسجد الحرام فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد».
قال الدارقطني: ورواه عبد الرحمن
%ج 2 ص 215%
بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن الأغر، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرسلًا،
ورواه ابن المبارك عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وعائشة رضي
الله عنهما.
وروى هذا اللفظ ابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وهو رد
لما قاله النسائي: لا أعلم رواه عن نافع عن ابن عمر غير موسى الجهني.
وقال الدارقطني: رواه عن نافع أيضًا عبد الله بن عمر، وعبد الله بن نافع، ورواه
موسى بن عقبة عن سالم ونافع.
وفي حديث موسى عند ابن عبد البر زيادة: «إلا المسجد الحرام فإنه أفضل منه بمئة
صلاة»، وسنده صحيح.
وفي حديث عطاء عن ابن عمر: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما غيره من
المساجد إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل».
(1/461)
وعند
النسائي عن ابن راهويه وابن رافع، حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، سمعت
نافعًا، حدَّثنا إبراهيم بن عبد الله بن معبد، أن ابن عباس حدثه عن ميمونة، قال
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما
سواه إلا مسجد الكعبة».
قال النسائي: ورواه الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة لم يذكر ابن عباس.
وقال الدارقطني: قال بعضهم عن ابن عباس عن ميمونة، ولم يثبت، ورواية الليث هي
الصواب.
وهو في مسلم: «أن امرأة اشتكت فقالت: إن شفاني الله تعالى لأصلين في بيت المقدس،
فلما برأت تمهدت للخروج، فقالت لها ميمونة» الحديث.
وعند أحمد بسند صالح عن سعد بن أبي وقاص سمع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يقول: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».
وعند ابن ماجه من حديث عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن جابر، أن
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما
سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة فيما سواه».
وعند البزار: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه».
قال: فحسبت ذلك على هذه الرواية فغلبت صلاة واحدة في المسجد الحرام عمر خمس وخمسين
سنة وستة أشهر وعشرين ليلة، وصلاة يوم وليلة فيه عمر مئتي سنة وسبع وسبعين سنة
وتسعة أشهر وعشر ليال.
%ج 2 ص 216%
وعند الدارقطني روى الزِّنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن
الزبير، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يعني مثل حديث جابر.
قال: وكذلك قاله حبيب المعلم، والمثنى بن الصباح، والربيع بن صبيح، عن عطاء، عن
ابن الزبير، وهو في كتاب أحمد بن حنبل بسند حسن.
(1/462)
وعند
ابن أبي خيثمة: حدَّثنا سليمان بن حرب، حدَّثنا حماد بن زيد، عن حبيب المعلم، عن
عطاء، عن ابن الزبير يرفعه: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد
إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمئة
صلاة».
قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد إلا لمتعسف لا يعرج على قوله في
حبيب.
قال: وزعم بعضهم أنه حديث معلول للاختلاف فيه على عطاء، وليس ذلك بعلة؛ لأنه يحتمل،
ولا يبعد أن يكون عند عطاء فيه عدة مشايخ؛ لأنه كان يعنى بأمر الحج فحدث عن كل بما
يحمله عنه.
وقال القرطبي: رواه عبد بن حميد وقال فيه: «أفضل من صلاة في مسجدي بمئة ألف صلاة».
قال القرطبي: وهذه الرواية منكرة، لم تشتهر عند الحفاظ، ولا خرجها أصحاب الصحيح.
وقال ابن أبي خيثمة: قال علي: حدَّثنا هشيم، أخبرنا الحجاج، عن عطاء، عن ابن
الزبير قال: الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
بمئة ضعف.
وقال أبو عمر: حدَّثنا أحمد بن قاسم، حدَّثنا ابن أبي دلهم، حدَّثنا ابن وضاح،
حدَّثنا حامد بن يحيى، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا زياد بن سعد أبو عبد الرحمن
الخراساني، وكان ثبتًا في الحديث، إملاء أخبرني سليمان بن عتيق، سمعت ابن الزبير
على المنبر يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف
صلاة فيما سواه من المساجد.
وفي حديث إسحاق بن إسماعيل عن سفيان: صلاة في المسجد الحرام خير من مئة ألف صلاة
فيما سواه - يعني من المساجد - إلا مسجد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي «العلل الكبير» للترمذي: حدَّثنا أبو كريب، حدَّثنا أبو مصعب، عن إسرائيل، عن
إبراهيم بن مهاجر، عن جابر العلاف، عن ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها، قال
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه».
(1/463)
وسألت
محمدًا عنه فقال: لا أعرف جابرًا إلا بهذا الحديث.
وعند الطحاوي عن أبي ذر: سألت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقلت: الصلاة في
مسجدك أفضل أم الصلاة في بيت المقدس؟ فقال: «صلاة في مسجدي مثل أربع صلوات في مسجد
بيت المقدس».
%ج 2 ص 217%
قال ابن عبد البر: اختلفوا في تأويله ومعناه، فقال أبو بكر عبد الله بن نافع
الزبيري صاحب مالك: معناه أن الصلاة في مسجد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضل
من الصلاة في الكعبة بدون ألف درجة، وأفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة،
وقال بذلك جماعة من المالكيين، ورواه بعضهم عن مالك.
وقال عامة أهل الفقه والأثر: إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة فيه على
ما ذكرناه من النصوص في موضع الخلاف.
ولم يُرْوَ قولهم من وجه ضعيف ولا قوي ولا مسندًا ولا موقوفًا، فيكون معارضًا له
مع ما قدمنا من أن أميري المؤمنين عمر وابن الزبير قالاه على المنبر، ولم يَرُدَّ
أحدٌ قولَهما، وهم القوم لا يسكتون على ما لا يعرفون، وعند بعضهم يكون هذا
كالإجماع.
وعلى قول ابن نافع يلزم أن يقال: إن الصلاة في مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمئة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان كذا لم
يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف، فإن حدَّ ابن نافع لم
يكن لقوله دليل ولا حجة، وكل قول لا يعضده حجة ساقط.
قال أبو عمر: وتأول بعضهم قول عمر أن الصلاة في مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم خير من تسعمئة صلاة في المسجد الحرام، وهو تأويل لا يعضده أصل.
وزعم بعض المتأخرين أن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمئة صلاة، ومن
غيره بألف صلاة، واحتج بحديث ابن الزبير المذكور عن عمر، ولا حجة فيه؛ لأنه مختلف
في إسناده وفي لفظه، وأثبت منه ما رواه زياد بن سعد، عن سليمان بن عتيق المذكور
قبل، وفيه خلاف ما تأوَّلوه.
(1/464)
وروي
عن أبي الدرداء: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه من
المساجد، وصلاة في مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألف، وفي بيت المقدس
بخمسمئة».
وعن جابر بن عبد الله مثله سواء.
وقال ابن مسعود: ما للمرأة أفضل من صلاة بيتها إلا المسجد الحرام.
وهذا تفضيل منه للصلاة فيه على الصلاة في مسجد الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛
وقد قَالَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابه: «صلاة أحدكم في بيته أفضل من
صلاة في مسجدي إلا المكتوبة».
وقد اتفق مالك، وسائر العلماء على أن صلاة الفرض يبرز لها في كل بلد إلا بمكة
%ج 2 ص 218%
شرفها الله تعالى، فإنها تصلى في المسجد الحرام.
قال: وهذا عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وجابر يفضلون مكة ومسجدها، وهم
أولى بالتقليد من غيرهم.
وقال القرطبي: اختلف في استثناء المسجد الحرام: هل ذلك أنه أفضل من مسجده أو هو
لأن المسجد الحرام أفضل من غير مسجده صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنه أفضل المساجد
كلها، وهذا الخلاف في أي البلدين أفضل؟
فذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة، وحملوا الاستثناء
على تفضيل الصلاة في مسجد المدينة بألف صلاة على سائر المساجد كلها، إلا المسجد
الحرام فبأقل من الألف، واحتجوا بما قَالَ عمر: صلاة في المسجد الحرام خير من مئة
صلاة فيما سواه.
ولا يقول عمر هذا من تلقاء نفسه، فعلى هذا تكون فضيلة مسجد المدينة على المسجد
الحرام بتسعمئة وعلى غيره بألف.
وذهب الكوفيون والمكيون وابن وهب وابن حبيب إلى تفضيل مكة.
ولا شك أن المسجد الحرام مستثنى من قوله: «من المساجد» وهي بالاتفاق مفضولة،
والمستثنى من المفضول مفضول إذا سكت عليه، فالمسجد الحرام مفضول، لكنه يقال: مفضول
بألف؛ لأنه قد استثناه منها، فلابد أن يكون له مزية على غيره من المساجد ولم
يعينها الشرع، فيتوقف فيها، أو يعتمد على قول عمر.
(1/465)
ويدل
على صحة ما قلناه قوله: «فإني آخر الأنبياء، ومسجدي آخر المساجد» فربط الكلام بفاء
التعليل مشعر بأن مسجده إنما فضل على المساجد كلها؛ لأنه متأخر عنها، ومنسوب إلى
نبي متأخر عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في الزمان، فتدبره.
وقال عياض: أجمعوا على أن موضع قبره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضل بقاع الأرض، وأن
مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض، واختلفوا في أفضلهما ما عدا موضع القبر؛ فمن ذهب
إلى تفضيل مكة احتج بحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، سمع رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم يقول - وهو واقف على راحلته بمكة-: «والله إنك لخير الأرض، وأحب أرض
الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت»، صححه ابن حبان والحاكم والترمذي
والطوسي في آخرين.
وعند أحمد عن أبي هريرة - بسند جيد - قال: وقف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
بالحَزْوَرَةِ
%ج 2 ص 219%
فقال: «علمت أنك خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله عزَّ وجلَّ» الحديث.
وعن ابن عباس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمكة: «ما أطيبك من بلد وأحبك
إليَّ» الحديث، قال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وعند أبي داود: حدَّثنا أحمد بن صالح، حدَّثنا عنبسة، حدثني يونس وابن سمعان عن
ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال بالمدينة ورفع
يديه حتى رُئِيَ بياض إبطيه: «اللَّهمَّ أنت بيني وبين فلان وفلان - لرجال سماهم -
فإنهم أخرجوني من مكة، وهي أحبُّ أرض الله إليَّ» الحديث.
أنبأنا به جماعة من شيوخنا الشاميين، عن الحافظ محمد بن عبد الواحد، أخبرنا أبو
القاسم سعيد أبو محمد بن عطاف ببغداد، أن إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي،
أخبرهم قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الصَّرِيفِيني، حدَّثنا محمد بن عمر بن علي
بن خلف بن زنبور، أخبرنا ابن أبي داود.
(1/466)
قال
أبو عمر: وقد روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، لكن المشهور عن
أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة.
واختلفوا: هل يراد بالصلاة هنا الفرض أو هو عام في النفل والفرض؟
وإلى الأول ذهب الطحاوي، وإلى الثاني ذهب مطرف المالكي، وقال النووي: مذهبنا يعمُّ
الفرض والنفل جميعًا.
قال الطحاوي: فوقفنا بهذه الأحاديث على أنها قد نسخ بعضها بعضًا، فطلبنا تصحيحها
وما الناسخ من المنسوخ، فوجب بذلك أن يكون أول الأحكام كانت في ذلك ما أتى في فضل
مسجد المدينة على ما سواه من المساجد سوى المسجد الحرام، وأنه لا فضل فيه للصلاة
على غيره، وبإعمال المطي إلى المساجد الثلاثة - زاده الله تعالى - بما رواه أبو ذر،
ثم زاد عزَّ وجلَّ أن جعله كخمسمئة صلاة، ثم زاد الله تعالى فجعل صلاة فيه كألف
صلاة، وجعلها كالصلاة في مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ثم إن الصلاة في هذه المساجد ترجع إلى الثواب ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن
الفوائت، حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة صلاة لم يجزه عنها وهو أمر
لا خلاف فيه.
والفضيلة مختصة بنفس مسجده الذي كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصلي فيه دون ما زيد
فيه بعده فينبغي للمصلي أن يحرص على ذلك.
وذكر البخاري إتيان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قباء ماشيًا وراكبًا، وفي
%ج 2 ص 220%
لفظ: «فيصلي ركعتين».
وفي لفظ: «كان يأتيه كل سبت فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه وكان
يزوره راكبًا وماشيًا».
وفي لفظ: «إن ابن عمر كان لا يصلي الضحى إلا يوم قدم مكة فإنه كان إذا قدمها طاف
بالبيت ثم صلى ركعتين خلف المقام ويوم يأتي مسجد قباء قال: وكان يقول إنما أصنع
كما رأيت أصحابي يصنعون، ولا أمنع أحدًا أن يصلي في أي ساعة شاء من ليل أو نهار،
غير أن لا يتحروا طلوع الشمس ولا غروبها».
ذكر ابن سِيدَه في «المحكم» و «المخصص»: أن قباء بالمد، ولم يحك غيره.
(1/467)
وكذا
ذكره يعقوب بن السكيت، وابن ولَّاد، وصاحب «المنتهى»، والجوهري، والمطرزي في
آخرين.
وقال ابن سِيدَه: يصرف ولا يصرف.
وعند البكري: من العرب من يذكره ويصرفه، ومنهم من يؤنثه ولا يصرفه.
وقال ابن الأنباري وقاسم في كتاب «الدلائل»: وقد جاءت قبا مقصورة، وأنشدا:
ولأبغينكم قبا وعوارضا ... ولأقبلن الخيل لابة ضرغد
وهذا وهم منهما؛ لأن الذي في البيت إنما هو «قنا» بنون بعد القاف، وهو جبل في ديار
بني ذبيان، كذا أنشده الرواة الموثوق بروايتهم ونقلهم في هذا البيت.
وذكر ابن قُرْقُول أنه على ثلاثة أميال من المدينة، وأصله اسم بئر هناك، وأنكر
السكري القصر فيه، ولم يحك فيه أبو علي سوى المد، وذكر في «الموعب» عن صاحب
«العين» قصره.
وقال ياقوت: هو قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة، به أثر بنيان،
وهناك مسجد التقوى.
وقال الرَّشَاطي: بينها وبين المدينة ستة أميال، ولما نزل بها رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم وانتقل إلى المدينة اختط الناس بها الخطط واتصل البنيان بعضه
ببعض حتى صارت مدينة.
قال النووي وغيره: مجيئه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقباء كل سبت دليل على جواز
تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة والمداومة على ذلك، وهو الصواب، وكره ابن
مسلمة ذلك، ولعله لم يبلغه هذا الحديث، انتهى.
ذكر ابن شبة في «أخبار المدينة» تأليفه: حدثني عبد العزيز بن سمعان، عن ابن
المنكدر، عن جابر: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأتي قُبَاء
%ج 2 ص 221%
صبيحة سبع عشرة من رمضان».
وحدَّثنا محمد بن يحيى، حدَّثنا الدَّرَاوَرْدِي، عن شريك بن عبد الله: «[كان]
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأتي قباء يوم الاثنين».
وأصل مذهب مالك كراهة تخصيص [شيء] من الأوقات بشيء من القرب، قال القرطبي: إلا ما
ثبت به توقيف.
(1/468)
[وفي]
«أخبار المدينة» لابن شبة: قال الواقدي: عن مجمع بن يعقوب، عن سعيد بن عبد الرحمن
بن [رقيش] قال: كان مسجد قباء في موضع الأسطوانة المخلقة الخارجة في رحبة المسجد.
قال عبد الرحمن: فحدثني نافع أن ابن عمر كان إذا جاء قُبَاء صلى إلى الأسطوانة
المخَلَّقة، يقصد بذلك مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأول.
وقال أبو مسلمة بن عبد الرحمن: إن ما بين الصومعة إلى القبلة والجانب الأيمن عند
دار القاضي زيادة زادها عثمان ?.
وقال عروة: كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها: لَيَّة، وكانت تربط حمارًا لها
فيه، فابتناه سعد بن خيثمة ? مسجدًا.
وقال أبو غسان: طوله وعرضه سواء، وهو ست وستون ذراعًا، وطول ذرعه في السماء تسع
عشرة ذراعًا، وطول رحبته التي في جوفه خمسون ذراعًا، وعرضها ست وعشرون ذراعًا،
وطول منارته خمسون ذراعًا، وعرضها تسع أذرع، وشبر في تسع أذرع وفيه ثلاثة أبواب
وثلاث وثلاثون أسطوانًا، ومواضع قناديله لأربعة عشر قنديلًا.
قال: وأخبرني من أثق به من الأنصار من أهل قباء أن مصلَّى رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم في مسجدهم بعد صرف القبلة كان إلى حرف الأسطوان المخلق كثير منها
المقدمة إلى حرفها الشرقي، وهي دون محراب المسجد على عين المصلي فيه.
وقال أبو جعفر الداودي: إن إتيان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مسجد قباء يدل أن
ما قرب من المساجد الفاضلة التي في المصر لا بأس أن يؤتى ماشيًا وراكبًا، ولا يكون
فيه ما نهى أن تعمل المطي إليه.
وقال بعضهم: إتيانه مسجد قباء ومسجده أفضل؛ لتكثر المواضع التي يتقرب إلى الله
فيها.
قال ابن التين: وهذا كما قال مالك أن التنفل في البيوت أحب إلي منه في مسجد النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلا للغرباء، فإن تنفلهم في مسجده أحبُّ إلي.
وقال ابن رشد: كان يأتي مسجد قباء لمواصلة الأنصار، والاجتماع بهم، لا لأجل صلاة؛
لأن الفريضة في مسجده أفضل،
%ج 2 ص 222%
والنافلة في بيته أفضل.
(1/469)
وقال
الطحاوي: قوله: «كان يأتي مسجد قباء ليصلي فيه» ليس من كلام النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم، فيحتمل أن يكون الراوي قاله من عنده؛ لعلمه أن النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم لا يجلس فيه حتى يصلي، على أن هذا الحرف - وهو قوله: «فيصلي فيه» -
انفرد به واحد من الرواة، وعسى أن يكون وهمًا؛ لأن الجماعة أولى بالحفظ من الواحد.
وثبت أن مسجد التقوى الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
روي ذلك في حديث أبي سعيد مرفوعًا، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال السُّهَيلي: ويمكن أن يكون كلًا منهما - يعني مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم ومسجد قباء - أسس على التقوى، غير أن قوله سبحانه {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ}
[التوبة: 108] يرجح حديث من قال: مسجد قباء؛ لأنه أُسِّسَ قبل مسجد النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم، غير أن اليوم قد يراد به المدة والوقت، وكلا المسجدين أسس على
هذا من أول يوم، أي من أول عام من الهجرة، وقد سبق ذكر قباء قبل أيضًا.
بَابُ فَضْلِ مَا بَيْنَ القَبْرِ وَالمِنْبَرِ
(1/470)
1195 - حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «مَا بَيْنَ قبري وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ». [خ¦1195] زاد في حديث:1196 - عُبَيْدِ اللَّهِ عن خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أو أبي سعيد. [خ¦1196] قال أبو عمر: كذا روى عن مالك رواة «الموطأ» كلهم فيما علمت على الشك إلا معن بن عيسى وروح بن عبادة فإنهما قالا: عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعًا، على الجمع لا على الشك، ورواه ابن مهدي عن مالك فجعله عن أبي هريرة وحده ولم يذكر أبا سعيد جميعًا. قال: والحديث محفوظ لأبي هريرة بهذا الإسناد، ورواه عبيد الله بن عمر عن خبيب بهذا الإسناد. قال أبو العباس أحمد بن عمر الداني في كتابه «أطراف الموطأ»: تابع العمريَّ في ذلك جماعة، وهكذا قاله البخاري. قال أبو عمر: ذكر محمد بن سَنْجَر: حدَّثنا محمد بن سليمان القرشي البصري، عن مالك، عن ربيعة، عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر، قال: أخبرني أبي أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «وضعت منبري على ترعة من ترع الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة».قال أبو عمر: لم يتابع محمدَ بنَ سليمان أحدٌ على هذا الإسناد عن مالك، ومحمد هذا ضعيف. زاد الدارقطني%ج 2 ص 223%في «الغرائب»: وقولهم «منبري رواتب في الجنة»، وقال: تفرد به محمد بن سليمان. قال أبو عمر: وفي هذا الباب حديث منكر رواه عبد الملك بن زيد الطائي، عن عطاء بن زيد مولى سعيد بن المسيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما بين قبري ومنبري وأسطوانة التوبة روضة من رياض الجنة».قال أبو عمر: هذا حديث موضوع، وضعه عبد الملك.
(1/471)
وروى أحمد بن يحيى الكوفي: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة».قال أبو عمر: هذا إسناد خطأ. وعند النسائي عن سهل بن سعد مرفوعًا: «منبري على تِرْعَةٍ من تِرَعِ الجنة».وعند الطبراني عن سعد بن أبي وقاص: «ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة».وعند الضياء المقدسي عن أبي بكر الصديق من رواية ابن أبي سبرة يرفعه: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة».وفي «مسند الهيثم بن كليب الشاشي»: عن جابر وابن عمر نحوه. قال القرطبي: الصحيح من الرواية: «بيتي»، وروي: «قبري» مكان «بيتي»، وجعل بعض الناس هذا تفسيرًا لقوله: «بيتي»، والظاهر بيت سكناه. والتأويل الآخر جائز؛ لأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دفن في بيت سكناه. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يريد به: أن العمل الصالح في ذلك يؤدي بصاحبه إلى الجنة كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ارتعوا في رياض الجنة يعني حلق الذكر والعلم؛ لأنها مؤدية إلى الجنة».قال ابن بطال: ويكون معناه التحريض على زيارة قبره صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصلاة في مسجده. قال ابن التين: وقيل: إنها الآن روضة من رياض الجنة، على الحقيقة. قال: وأنكر بعضهم هذا. قال: وقولهم: إن العمل في تلك البقعة يؤدي إلى رياض الجنة يحتمل وجهين: الأول: أن اتباع ما يتلى فيه من القرآن والسنة يؤدي إلى رياض الجنة، فلا يكون فيها للبقعة فضيلة إلا لمعنى اختصاص هذِه المعاني دون غيرها. والثاني: أن يريد أن ملازمة ذلك الموضع بالطاعة يؤدي إليها؛ لفضيلة الصلاة فيه على غيره. وقال الخطابي: معنى الحديث تفضيل المدينة وخصوصًا البقعة التي بين البيت%ج 2 ص 224%والمنبر، يقول: من لزم طاعة الله في هذه البقعة آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة، ومن لزم عبادة الله عند المنبر سقي في الجنة من الحوض.
(1/472)
قال أبو عمر: وقد استدل أصحابنا على أن المدينة أفضل من مكة - شرَّفها الله تعالى - بهذا الحديث، وركَّبوا عليه قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها».قال أبو عمر: وهذا لا دليل فيه؛ لأنه أراد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذمَّ الدنيا والترغيب في الآخرة، فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها. قال عياض: ذكر أكثر العلماء أن المراد هذا المنبر بعينه يعيده الله تعالى على حوضه، قال: وهذا هو الأظهر. وقيل: إن له هناك منبرًا على حوضه. قال القرطبي: وللباطنية في هذا الحديث من الغلوِّ والتحريف ما لا ينبغي أن يلتفت إليه. قال أبو عمر: والإيمان بالحوض عند جماعة العلماء واجب الإقرار به، وقد نفاه أهل البدع من الخوارج والمعتزلة؛ لأنهم لا يصدقون بالشفاعة ولا بالحوض ولا بالدجال، نعوذ بالله من بدعهم. وسيأتي إن شاء الله تعالى أحاديث الحوض في الموضع الذي ذكره البخاري، وأنها متواترة يجب الإيمان بها، سقانا الله تعالى منه وجميع من يؤمن به. فضل القدس تقدم. بَابُ اسْتِعَانَةِ اليَدِ فِي الصَّلاَةِ، إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلاَةِوَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ. وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِي الصَّلاَةِ وَرَفَعَهَا. كذا في نسخة السماع: (وَرَفَعَهَا)، وفي نسخة: «أو رفعها».وقال ابن قُرْقُول: «أو رفعها» لعَبدُوس والقاسم على الشك، وعند النسفي وأبي ذر والأَصِيلي: (وَرَفَعَهَا) من غير شك. قال: وهو الصواب. وَوَضَعَ عَلِيٌّ ? كَفَّهُ عَلَى رُصْغِهِ الأَيْسَرِ. قال ابن التين: كذا وقع في البخاري بالصاد. وقال الخليل: هو لغة في الرسغ. وقال غيره: صوابه بالسين، وهو حد مفصل الكف في الذراع، والقدم في الساق. وفي «المحكم»: الرسغ: مجتمع الساقين والقدمين.
(1/473)
وقيل: هو مفصل ما بين الساعد والكتف، والساق والقدم، وكذلك هو من كل دابة، والجمع أرساغ. حديث ابن عباس ونومه عند ميمونة ذكره هنا لقول ابن عباس:1198 - «فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي». [خ¦1198] وقد%ج 2 ص 225%تقدم في غير موضع؛ لأن البخاري خرجه في اثني عشر موضعًا. قال البخاري: إِلَّا أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا. هذا من كلام البخاري، وكان ينبغي أن يكون من صلة الباب عند قوله: من أمر الصلاة. قاله الإسماعيلي. قال ابن بطال: اختلف السلف في الاعتماد في الصلاة والتوكي على الشيء، فقالت طائفة: لا بأس أن يستعين في الصلاة بما شاء من جسده وغيره. ذكر ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه كان يتوكأ على عصا، وعن أبي ذر مثله. وقال عطاء: كان أصحاب محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتوكؤون على العصي في الصلاة. وأوتد عمرو بن ميمون وتدا إلى الحائط فكان إذا سئم القيام في الصلاة أو شق عليه أمسك بالوتد يعتمد عليه. وقال الشعبي: لا بأس أن يعتمد على الحائط. وكره ذلك غيرهم، روى أبو بكر عن الحسن أنه كره أن يعتمد على الحائط في المكتوبة إلا من علة، ولم ير به بأسًا في النافلة ونحوه. قال مالك: وكرهه ابن سيرين في الفريضة والتطوع. وقال مجاهد: إذا توكأ على الحائط ينقص من صلاته بقدر ذلك. وقد تقدم حديث الحولاء في باب ما يكره من التشدد في العبادة. قال ابن التين: قوله: (يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِي صَلاَتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ جَسَدِهِ) يريد إلا الاختصار؛ للنهي في الصحيحين عنه، لأنه فعل الجبابرة، وقيل: فعل اليهود في صلاتهم. قال: والعمل في الصلاة على ثلاثة أضرب: يسير جدًا كالغمز وحك الجسد والإشارة، فهذا لا ينقض عمده ولا سهوه، وكذلك التخطي إلى الفرجة القريبة. الثاني: أكثر من هذا يبطلها عمده دون سهوه، كالانصراف من الصلاة. الثالث: المشي الكثير والخروج من المسجد، فهذا يبطل الصلاة عمده وسهوه.
(1/474)
قال
ابن بطال: والاستعانة باليد في الصلاة في هذا الحديث هي وضع النبي صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم يده على رأس ابن عباس وفتل أذنه، فاستنبط البخاري منه أنه لما جاز
للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يختص بغيره؛ فاستعانته بها في أمر نفسه
ليتقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتاج إلى ذلك أولى. انتهى. في «مسند أحمد»
عن ابن عمر: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يجلس الرجل%ج 2 ص 226%في
الصلاة وهو يعتمد على يده».وعند أبي داود: «رأى رجلًا يتَّكِئُ على يده اليسرى وهو
قاعد في صلاته، فقال: لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يُعذَّبون».وفي رواية:
«هكذا صلاة المغضوب عليهم».باب مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ
1199 - حدَّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ، حدَّثنا ابْنُ فُضَيْلٍ، حدَّثنا الأَعْمَشُ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ
عَلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، فَيَرُدُّ
عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ،
فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، وَقَالَ: «إِنَّ فِي الصَّلاَةِ لشُغْلًا». [خ¦1199]
وقال في باب: من سمى قومًا أو سلم في الصلاة على غيره: «ويسلم بعضنا على بعض».
قال ابن بطال: قوله: «من سَمَّى قومًا» يريد ما كانوا يفعلونه أولًا من مواجهة
بعضهم بعضًا بالخطاب قبل أن يأمرهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتشهد، فأراد
البخاري أن يعلمك أنه لم يأمرهم بإعادة تلك الصلاة التي سلم بعضهم فيها على بعض.
عند أبي داود: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة،
ورد علي السلام».
(1/475)
1200
- حدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ
الحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي
زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ لِحَاجَتِهِ،
حَتَّى نَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] «فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ».
[خ¦1200]
وفي لفظ: «ويسلم بعضنا على بعض».
وعند مسلم: «ونهينا عن الكلام».
وعند الترمذي: «كنا نتكلم خلف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصلاة، يكلم
الرجل منا صاحبه إلى جنبه».
وكتب لأبي عمرو عن زيد بن أرقم في الصحيحين غير هذا الحديث الواحد، أخبرنا أبو علي
الكردي قراءة علينا من لفظه، أخبرنا ابن اللبي، وأنا حاضر، أخبرنا ابن
اللِّحْياني، أخبرنا ابن السراج أخبرنا ابن ... قال أخبرنا ابن .... أخبرنا يحيى
بن جعفر، حدَّثنا محمد بن عبيد، حدَّثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبيل،
عن أبي عمرو، عن زيد قال: «كنا في عهد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كنا في
الصلاة فأراد أحدنا حاجة إلى أحد فسارَّه» الحديث.
وقع لنا عاليًا، فإني من طريق البخاري سمعته من أبي الوقت.
ولفظ هذين الحديثين مصرِّح بالنسخ، وأن المراد بالقنوت السكوت هنا؛ لقوله له «حتى»
التي هي للغاية، والفاء تشعر
%ج 2 ص 227%
بتعليل ما سبق.
قال شيخنا القُشَيْري رحمه الله تعالى: الأرجح من هذا حمله على ما أشعر به كلام
الراوي، فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون سبب النزول والقرائن المحتفة به، وقد
قالوا: إن قول الراوي الصحابي نزلت هذه الآية في كذا تتنزل منزلة المسند.
(1/476)
وقوله:
(فنُهِينَا عنِ الكلامِ وأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ) يقتضي أن كلَّ ما يُسمَّى كلامًا
فهو منهي عنه، وما لا يسمى كلامًا فمن أراد إلحاقه به كان ذلك بطريق القياس.
وأجمع العلماء على أن الكلام عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك أو
شبهه مبطل للصلاة، وأما الكلام لمصلحتها فقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد:
تبطل الصلاة.
وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك وطائفة قليلة، واعتبر الشافعيون ظهور حرفين وإن لم
يكونا مفهمين.
واختلفوا في النسخ متى كان؟
فقال ابن حبان: توهم من لم يحكم صناعة العلم بأن نسخ الكلام في الصلاة كان
بالمدينة لحديث زيد، وليس كذلك؛ لأن الكلام في الصلاة كان مباحًا إلى أن رجع ابن
مسعود من عند النجاشي فوجد الإباحة قد نسخت، وكان بالمدينة مصعب بن عمير يقرئ
المسلمين، وكان الكلام بالمدينة مباحًا كما كان بمكة شرفها الله تعالى، فلما نسخ
ذلك بمكة تركه الناس بالمدينة، فحكى زيد ذلك الفعل لأن نسخ الكلام كان بالمدينة.
وهو لعمري كلام جيد؛ لولا ما في كتاب الترمذي عن زيد: «كنا نتكلم خلف النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت».
وأهل العلم كلهم يقولون: إن سورة البقرة مدنية خصوصًا هذه الآية.
وقال الخطابي: نسخ الكلام كان بعد الهجرة بمدة يسيرة.
وحمل بعضهم على هذا حديث ابن مسعود على مجيئه في المرة الثانية من الحبشة لا
الأولى، وحمل بعضهم حديث زيد على أنه إخبار عن الصحابة المتقدمين، كما يقول
القائل: قتلناكم وهزمناكم، يعنون: الآباء والأجداد.
ورد قول الخطابي بتعذر التاريخ، وليس جيدًا؛ لأن في حديث جابر المخرج عند مسلم:
«بعثني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حاجة ثم أدركته وهو يصلي فسلمت عليه
فأشار إلى فلما فرغ قال إنك سلمت آنفا وأنا
%ج 2 ص 228%
أصلي فهو الذي منعني أن أكلمك».
(1/477)
وخرَّجه
أيضًا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي لفظ: «كان ذلك وهو منطلق إلى بني
المصْطَلِق»، فهذا فيه بيان ما أشكل على من رد كلام أبي سليمان، ويرد ما قاله
أيضًا ابن حبان.
وفيه إشكال على قول أبي حنيفة حيث قال: المصلي إذا سلم عليه [لا يرد] بلفظ ولا
بإشارة بكل حال، وكأنه اعتمد ما قاله النخعي وعطاء والثوري: إذا سلم على المصلي
يرد بعد السلام.
فإنْ ردَّ السلام بلسانه بطلت صلاته عند أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور،
وهو مروي عن أبي ذر وعطاء والنخعي والثوري.
وعن أبي حنيفة يردُّ في نفسه، وعند محمد بعد السلام، وقال أبو يوسف: لا في الحال
ولا بعد الفراغ.
وقد اختلف العلماء في هذا:
قال عياض: قال جماعة من العلماء: يرد السلام في الصلاة نطقًا، منهم أبو هريرة وجابر
وسعيد بن المسيب والحسن وقتادة وإسحاق.
وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وجماعة: يرد إشارة لا نطقًا.
وعند الشافعي: أنه لا يسلم على المصلي، فإن سلم عليه لم يستحق جوابًا.
وعن مالك روايتان: كراهة السلام، والثانية جوازه.
وفي كتاب «الصلاة» لأبي نعيم الدكيني: حدَّثنا شريك عن ابن عون قال: رأيت القاسم
يرد السلام في التطوع. وحدَّثنا كامل أبو العلاء حدَّثنا حبيب بن أبي ثابت قال كان
ابن عباس إذا سلم عليه الرجل في الصلاة أخذ بيده.
أما الصلاة الوسطى: في التفسير والجهاد من كتاب البخاري عن علي: «أن رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال يوم الخندق: ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا كما
شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس».
وفي لفظ: «بطونهم».
وعند مسلم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ثم صلاها بين المغرب والعشاء».
وعند عبد الله بن أحمد فيما زاده في «المسند» عن أبي إسحاق الترمذي: حدَّثنا
الأشجعي عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبيدة عنه: كنا نراها الفجر، فقال النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: «هي صلاة العصر» يعني الوسطى.
(1/478)
وعند
الدارقطني من حديث الحارث عنه: «أربع حفظتهن عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: أن الصلاة الوسطى هي العصر» الحديث.
وعند مسلم عن ابن مسعود: حبس المشركون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صلاة
العصر حتى غابت الشمس فقال: «حبسونا عن الصلاة الوسطى» الحديث.
وعند
%ج 2 ص 229%
أبي داود الطيالسي والسراج في «مسنديهما» من حديث محمد بن طلحة عن زيد: «صلاة
الوسطى صلاة العصر».
وفي «المعاني» للفراء هي في قراءة عبد الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وعلى
الصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ولذلك آثرت القراء الخفض، ولو نصب على الحث عليها بفعل
مضمر كان وجهًا.
وعند مسلم عن أبي يونس مولى عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفًا، وقالت:
إذا بلغت هذه الآية فآذني {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}، فلما بلغتها أذنتها،
فأملت علي: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وصلاة العصر}
وقالت: سمعتها من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قرأت على المسند العلامة أبي محمد البصري، أخبركم الإمام شمس الدين أبو بكر محمد
بن إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، أخبرنا أبو البركات داود بن أحمد بن ملاعب،
أخبرنا أبو الفضل محمد بن عمر الأرموي، أخبرنا أبو جعفر بن المسلمة، أخبرنا أبو
عمرو عثمان بن محمد بن القاسم الآدمي، أخبرنا العلامة أبو بكر عبد الله بن أبي
داود سليمان بن الأشعث السجستاني، أخبرنا أحمد بن حباب، حدَّثنا مكي، حدَّثنا عبد
الله - يعني قاضي مصر - عن أبي هبيرة، عن قبيصة بن ذؤيب قال: في مصحف عائشة رضي
الله عنها: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَ صلاة
العصر}.
وفي كتاب ابن حزم: روينا من طريق ابن مهدي عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري عن
القاسم عنها، فذكرته بغير واو.
قال أبو محمد: فهذه أصح رواية عن عائشة رضي الله عنها وأبو سهل ثقة. انتهى
(1/479)
وفيه
رد لما قاله أبو عمر: لم يختلف في حديث عائشة في ثبوت الواو.
قال: على تقدير صحته يجاب عنه بأشياء منها:
أنه من أفراد مسلم، وحديث علي متفق عليه.
الثاني: أن من أثبت الواو امرأة، ومسقطها جماعة كثيرة.
الثالث: موافقة مذهبها لسقوط الواو.
الرابع: مخالفة الواو للتلاوة، وحديث علي ? موافق.
الخامس: حديث علي يمكن فيه الجمع، وحديثها لا يمكن فيه الجمع إلا بترك غيره.
السادس: معارضة روايتها برواية البراء بن عازب من عند مسلم: نزلت هذه الآية
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وصلاة العصر} فقرأناها ما شاء الله
%ج 2 ص 230%
ثم نسخها الله، فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}
[البقرة: 238]، فقال رجل: هي إذن صلاة العصر، فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت،
وكيف نسخت. رواه مسلم.
وفي «المزكيات»: حدَّثنا ابن عَبْدُوس، حدَّثنا عثمان بن سعيد حدَّثنا إبراهيم بن
أبي الليث حدَّثنا الأشجعي عن الثوري عن الأسود عن شقيق عنه: قرأنا مع النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم أيامًا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصلاة العصر}، ثم
قرأنا: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فلا أدري أهي هي
أم لا.
[السابع]: تكون الواو زائدة كما زيدت عند بعضهم في قوله جلَّ وعزَّ: {وَكَذَلِكَ
نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} [الأنعام:
105].
وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:25].
وقال الأخفش في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}
[الزمر: 73] أن الجواب فتحت، ومنه قول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقف ذي ركام عقيقل
(1/480)
وزعم
بعض محققي النحاة أن العطف هنا من باب التخصيص والتفضيل والتنويه، كقوله تعالى:
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}
[البقرة: 98].
وكقوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68].
وكقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ
نُوحٍ} [الأحزاب: 7] الآية.
فإن قيل: قد حصل التخصيص في العطف وهو قوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} فوجب
أن يكون العطف الثاني، وهو قوله {وصَلَاة العَصْر} مغايرًا له؟
فيجاب: أن العطف كما قلتم، والثاني للتأكيد والبيان لما اختلف اللفظان، كما تقول:
جاءني زيد الكريم والعاقل، فتعطف إحدى الصفتين على الأخرى [ومنها حديث] الحسن عن
سمرة بن جندب عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنه قال في الصلاة الوسطى صلاة
العصر».
رواه الترمذي، وقال: قال محمد بن إسماعيل قال: علي بن المديني: حديث الحسن عن سمرة
صحيح وقد سمعه منه.
قال أبو عيسى: وحديث سمرة في الصلاة الوسطى حديث حسن. كذا رأيته في عدة نسخ من
الجامع. وذكر الشيخ المجد عنه أنه صححه.
وعند أحمد: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سئل عن صلاة الوسطى، قال: هي صلاة
العصر».
وفي لفظ: قال:
%ج 2 ص 231%
«{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} وسماها لنا أنها هي
العصر».
وعند الحاكم محسنًا من حديث خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة يرفعه:
«وأمرنا أن نحافظ على الصلوات كلهن، وأوصانا بالصلاة الوسطى، ونبأنا أنها صلاة العصر».
وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها من كتاب «التمهيد» بسند صحيح، وقال في
«الاستذكار»: اختلف في رفعه وفي ثبوت الواو فيه: «أنها أمرت كاتبها بكتب مصحف فإذا
بلغ هذه الآية يستأذنها فلما بلغها أمرته بكتب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَاة الوسطى
وَصَلَاةِ العصر} ورفعته إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
(1/481)
ورواه
هشام عن جعفر بن إياس عن رجل حدثه عن سالم عنها، ولم يثبت الواو قال: {الصَّلَاة
الوسطى صَلَاةِ العصر}.
وعن أبي بصرة الغفاري قال: «صلى بنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاة العصر
بالمُخَمَّص وقال: «إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها
كان له أجره مرتين».
أخبرنا به الإمام القدوة موسى بن علي بن يوسف الحنفي بالقبطي رحمه الله تعالى،
قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا مسند وقته عبد اللطيف بن الصيقل عن أبي الحسن الجمال
أخبرنا أبو الحسن بن أحمد أخبرنا الحافظ أحمد بن عبد الله حدَّثنا أبو بكر بن خلاد
حدَّثنا الحارث بن أبي أسامة حدَّثنا قتيبة حدَّثنا الليث عن خير بن نعيم عن أبي
هريرة عن أبي تميم الجيشاني عنه.
رواه مسلم عن زهير عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب
عن خير، فكأني من حيث العدد سمعته طريق مسلم من الفراوي، وبين وفاته ومولدي مئة
[وتسع] وخمسون سنة ولله الحمد، وإذا رويته بالإجازة فكأني سمعته من عبد الغافر
الفارسي، وبين وفاتيهما اثنتان وثمانون سنة.
وعن ابن عباس قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم الخندق: «شغلونا عن الصلاة
الوسطى، ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارًا».
رواه الطبراني من حديث ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم، وسعيد بن جبير عنه، ولفظه:
«اللهم من شغلنا عن الصلاة الوسطى». وصححه
%ج 2 ص 232%
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَاةِ الوُسْطَى وَصَلَاةِ العَصْرِ} بلا واو.
وقال الطبري في «تفسيره»: حدَّثنا علي بن مسلم الطوسي، حدَّثنا عباد بن العوام، عن
بلال بن خباب، عن عكرمة عنه: «حبس المشركون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صلاة
العصر في غزاة حتى تمسى بها، فقال: اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارًا كما حبسونا
عن الصلاة الوسطى».
في لفظ: «قال يوم الأحزاب: شغلونا على الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».
(1/482)
وروينا
في كتاب «المصاحف» لابن أبي داود من حديث أبي إسحاق عن عبيد بن مريم سمع ابن عباس
قرأ هذا الحرف: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَاةِ الوُسْطَى وَصَلَاةِ
العَصْرِ}.
وفي كتاب ابن حزم من هذه الطريق بغير واو، ثم قال: كذا قاله وكيع.
وحديث ابن عمر المذكور عند أبي عبد الله محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني، حدَّثنا
إبراهيم بن عامر بن إبراهيم، حدَّثنا أبي حدَّثنا يعقوب القمي، عن عنبسة بن سعيد
الرازي، عن ابن أبي ليلى، وليث، عن نافع عنه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه
قال: «الموتور أهله وماله من وتر صلاة العصر الوسطى في جماعة، وهي صلاة العصر».
وفي «تفسير أبي جعفر»: حدَّثنا محمد بن عبد الحكم، حدَّثنا أبي وشعيب بن الليث، عن
يزيد بن الهاد، عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يرى لصلاة العصر فضيلة للذي
قاله رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها ويرى أنها الصلاة الوسطى.
وعن أبي هريرة قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صلاة الوسطى صلاة العصر»،
خرجه ابن خزيمة في «صحيحه».
وعن ابن المثنى حدَّثنا سليمان بن أحمد الواسطي، حدَّثنا الوليد بن مسلم أخبرني
صدقة بن خالد حدَّثنا خالد بن دهقان عن خالد بن سيلان عن، كُهَيل بن حَرْملة،
سُئِلَ أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال: «اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن
بفناء بيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة
بن ربيعة بن عبد شمس فقال: أنا أعلم لكم ذلك فقام فاستأذن على رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم فدخل عليه ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر».
وقال أبو موسى المديني في كتاب «الصحابة»: أبو هاشم
%ج 2 ص 233%
هذا له حديثان حسنان.
وعن أم حبيبة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال يوم الخندق: «شغلونا عن
الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس».
(1/483)
قال
أبو جعفر: حدَّثنا به ابن المثنى حدَّثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن أبي
الضحى عن شُتَيْر بن شَكَل عنها.
وعن رجل من الصحابة قال: «أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير إلى النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم أسأله عن الصلاة الوسطى فأخذ أصبعي الصغيرة فقال: هذه الفجر،
وقبض التي تليها فقال: هذه الظهر ثم قبض الإبهام، فقال: هذه المغرب ثم قبض التي
تليها فقال: هذه العشاء ثم قال أي أصابعك بقيت فقلت: الوسطى فقال: أي الصلاة بقيت؟
قلت: العصر، قال: هي العصر».
رواه أبو جعفر عن أحمد بن إسحاق، حدَّثنا أبو أحمد، حدَّثنا عبد السلام مولى أبي
نصير حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسًا عند عبد العزيز بن مروان،
فقال: يا فلان اذهب إلى فلان فقل له: أيش سمعت من رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في الصلاة الوسطى، فقال: رجل جالس: أرسلني. فذكره
وعن أبي مالك الأشعري قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصلاة الوسطى صلاة
العصر رواه أبو جعفر عن محمد بن عوف الطائي، حدَّثنا محمد بن إسماعيل بن عياش
حدَّثنا أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عنه.
وعن أم سلمة: «قالت لكاتب يكتب لها مصحفًا إذا كتبت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ
والصَّلَاةِ الوُسْطَى} فاكتبها {العصر}».
ذكره ابن أبي داود في كتاب «المصاحف» عن إسحاق بن إبراهيم حدَّثنا سعيد بن الصلت
حدَّثنا عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: قالت أم سلمة، فذكره.
ورواه ابن حزم من طريق وكيع عن داود بن قيس عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «شغلونا عن صلاة العصر
التي غفل عنها سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلم حتى توارت بالحجاب» الحديث.
ذكره إسماعيل بن أبي زياد الشامي في «تفسيره» عن أبان عن أنس به.
(1/484)
وفي
«تفسير النقاش» عنه: ما اختلفوا - يعني الصحابة - في شيء ما اختلفوا في الصلاة
الوسطى وشبك بين أصابعه.
وفي «كتاب أبي محمد الفارسي» من طريق
%ج 2 ص 234%
إسماعيل بن إسحاق عن محمد بن أبي بكر عن محبوب أبي جعفر عن خالد بن مهران عن أبي
قلابة قال في قراءة أبي بن كعب: {صَلَاةِ الوُسْطَى صَلَاةِ العَصْرِ}.
قال: وليست هذه الرواية بدون تلك؛ يعني التي فيها الواو، فقد اختلف على أُبَيٍّ في
ذلك.
وعن الحسن قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي
العصر»، رواه أبو جعفر عن يعقوب بن إبراهيم، حدَّثنا ابن علية، عن يونس عنه.
وعن الربيع قال: ذكر لنا أن المشركين شغلوهم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى غابت
الشمس، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس».
قال أبو جعفر: حدثت عن عمار بن الحسن، حدَّثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عنه.
وبه قال أبو هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأم سلمة وابن
عباس وأبي بن كعب، وروي أيضًا عن أبي أيوب الأنصاري ويونس والحسن وقتادة والزهري
وعَبِيدة السَّلماني.
وهو قول سفيان بن سعيد وأبي حنيفة وأحمد والشافعي وأصحابهم فيما حكاه أبو عمر،
وعبد الله بن عباس على اختلاف عنه، وداود وجميع أصحابهم، وهو قول إسحاق بن راهويه
ومشهور أهل الحديث.
قال ابن حزم: ولا يصح عن علي ولا عن عائشة غير هذا أصلًا.
زاد ابن المنذر: زيد بن ثابت وأبا سيعد الخدري والضحاك بن مزاحم والسائب بن يزيد
وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وسمرة والنخعي وعبيد بن بريم وزر بن حبيش ومحمد بن
سيرين وسعيد بن جبير ومحمد بن السائب الكلبي ومقاتلا. ذكره الطبري والثعلبي.
وقال أبو الحسن الماوردي: هو مذهب جمهور التابعين.
وقال أبو عمر: وهو قول أكثر أهل الأثر.
وقال ابن عطية: عليه جمهور الناس.
وقال أبو جعفر الطبري: الصواب من ذلك ما تظاهرت به الأخبار من أنها العصر.
(1/485)
ومنهم
من قال: هي صلاة الظهر جانحًا إلى حديث زيد بن ثابت: «كان رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحابه منها، فنزلت
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقال: إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين».
صححه ابن حزم وقال: إسناده مختلف فيه.
وهو عند أبي داود عن ابن مثنى حدَّثنا غندر حدَّثنا شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن
الزبرقان يعني ابن
(1/486)
[بَابُ] مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِتقدم في باب من دخل ليؤم فجاء الإمام الأول. وكذا حديث سهل [1201] وأبي هريرة. وبَابُ مَنْ سَمَّى قَوْمًاتقدم قبل في النهي عن الكلام. بَابُ مَنْ رَجَعَ القَهْقَرَى فِي صَلاَتِهِ، أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ َنزل بِهِرَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. هذا الحديث تقدم مسندًا في باب: «ما يجوز من التسبيح في الصلاة»، وفي غيره. وفي قوله: (رَوَاهُ سَهْلٌ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) فيه نظر؟ وذلك أنه إنما شاهد الفعل وهو التقدم من سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتأخر من أبي بكر، والله تعالى أعلم. وقول البخاري:1205 - حدَّثنا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أخبرنا عَبْدُ اللهِ، قَالَ يُونُسُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَنَس. [خ¦1205] هو من أفراد البخاري، كذا في روايتنا: (قَالَ يُونُسُ)، وفي رواية: «عن يونس»، ورواه الإسماعيلي، عن أبي يعلى، أخبرنا أحمد بن حميد المَروَزي، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا معمر ويونس، عن الزهري.
(1/487)
بَابُ إِذَا دَعَتِ الأُمُّ%ج 2 ص 240%وَلَدَهَا فِي الصَّلاَةِ 1206 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَةٍ، فقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فقَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، فقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فقَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، فقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ! فقَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، فقَالَتْ: اللَّهُمَّ لاَ يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وُجُوهِ المَيَامِيسِ، وَكَانَ يأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، فقَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ! مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: رَاعِي الغَنَمِ». [خ¦1206] كذا خرجه مسندًا معلقًا، وقد أسنده في كتاب المظالم، وأحاديث الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه عن مسلم بن إبراهيم، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، والصبي الذي قالت أمه ورأت رجلًا له شارة: اللهم اجعل ابني مثله، فنزع الثدي من فمه وقال: اللهم لا تجعلني مثله» الحديث بطوله.
(1/488)
وفيه: «وكان جريج رجلًا عابدًا، فاتخذ صومعة، فكان بها، وفيه قالت أمه في اليوم الثالث: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومِسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجًا رضي الله عنه وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمثَّل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جُريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فتوضأ وصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعة من ذهب؟ قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا».وعند الإسماعيلي: أخبرنا أبو بكر المَرْوَزي، حدَّثنا عاصم بن علي، حدَّثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة الحديث، وفيه: «لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة، فعرف%ج 2 ص 241%أن ذلك يصيبه، فلما مروا به على بيت الزواني خرجن يضحكن، فتبسم، فقالوا: لم يضحك حتى مر بالزواني».وقال أبو نعيم: حدَّثنا أبو بكر بن خَلاد، حدَّثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، حدَّثنا يحيى بن بكير، قال: حدَّثنا الليث، عن جعفر. وخرجه مسلم في «صحيحه» من حديث حميد بن هلال، عن أبي رافع الصائغ، عن أبي هريرة بلفظ: «فجاءت أمه، قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة بصفة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين دعته، كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه» الحديث. وفي «حواشي» الدمياطي: روى الليث بن سعد، عن يزيد بن حَوشَب، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «لو كان جريج لو كان فقيهًا عالمًا لعلم أن إجابة أمه خير من عبادة ربه تعالى».
(1/489)
وفي «التنبيه» لأبي الليث السمرقندي: «أن المرأة لما قالت: أحبلني جريج، وكانوا يعظمون الزنا، وأرسل إليه الملك وهو في الصلاة، فنادوه فلم يكلمهم فهدموا الصومعة، وجيء به إلى الملك، فحلف أنه ما فعل، فلم يصدقه، فقال: ردوني إلى أمي، فقال: يا أماه! إنك دعوت عليَّ فاستجيب لك، فادعي الله أن يكشف عني، فقالت: اللهم! إن كان إنما أخذته بدعوتي فاكشف عنه، فجيء بالصبي إلى جريج فوضع يده على رأسه وقال: بحق الله الذي خلقك، لتخبرنا من أبوك؟ فقال: الراعي، فلما سمعت المرأة ذلك اعترفت».قال: وفي رواية أخرى: «أن المرأة كانت حاملًا لم تضع حملها بعد، فقال لها الملك: أين أصابك؟ قال: تحت الشجرة التي عند صومعته، فقال جريج: أخرجوا إلى تلك الشجرة، فقال: يا شجرة! أسألك بحق الذي خلقك أن تخبريني بمن زنا بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها: راعي الضأن، ثم طعن بإصبعه في بطنها وقال: يا غلام! من أبوك؟ فنادى من بطنها: راعي الضأن».وفي كتاب «البر والصلة» لعبد الله بن المبارك من حديث الحسن أن اسمه كان جُرَيًا، وأنهم لما أحاطوا به قال: بالله لما أنظرتموني ليالي أدعو الله عز وجل، فأنظروه ليالي الله أعلم كم هي، فأتاه آت فقال له: إذا اجتمع الناس فتوضأ فاطعن في بطن المرأة وقل: أيتها السَّخْلة من أنت ومن أبوك؟ %ج 2 ص 242%فإنه سيقول: راعي الغنم، فلما أصبح طعن في بطنها وقال: أيتها السخلة! من أبوك؟ قالت: أبي راعي الغنم، قال: الحسن: ذكر لي أن مولودًا لم يتكلم في بطن أمه إلا هذا وعيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال عبد الملك بن حبيب: كانت صلاته نافلة، وإجابة أمه أفضل من النافلة. وقال الداودي: فيه أن من دعته أمه وهو في صلاة لا يخشى فواتها أن يجيبها ثم يعود إلى صلاته.
(1/490)
وذكر بعضهم أن الكلام لم يكن ممنوعًا في شريعة جريج، كما كان مباحًا في أول الإسلام، فأما الآن فلا يجوز للمصلي إذا دعته أم أو غيرها أن يقطع صلاته؛ لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».وقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن محمد بن المنكدِر عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا دعتك أمك في الصلاة فأجبها، وإذا دعاك أبوك فلا تجبه».ورواه الأوزاعي أيضًا عن مكحول. وعن مجاهد: يجيبهما معًا، والفقهاء على خلاف مرسل ابن المنكدِر. وقال القرطبي: يتمسك به من قال: أن الزنا يُحرِّم كما يحرِّم الوطء الحلال، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في «المدونة»، وفي «الموطأ» عكسه: لا يحرم الزنا حلالًا. ويستدل به أيضًا أن المخلوقة من ماء الزاني لا يحل للزاني أمها، وهو المشهور، وقال ابن الماجِشون: أنها تحل، ووجه التمسك على المسألتين: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنا للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة، فكانت تلك النسبة صحيحة، فيلزم على هذا أن يجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة من التوارث والولايات وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على ألا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة؛ لأنا نجيب عن ذلك: بأن ذلك موجب ما ذكرنا، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنا، فإن أحكام الأمومة والبنوة جارية عليهما، فما انعقد عليه الإجماع من الأحكام أنه لا يجوز بينهما استثنيناه، ونفي الثاني على أصل ذلك الدليل. انتهى. لقائل أن يقول: المراد عين هذا الصغير، من ماء من أنت؟ وسماه أبًا مجازًا، أو يكون في شرعهم أنه يلحقه.
(1/491)
وهذا الحديث يدل على صحة كرامات الأولياء رحمهم الله تعالى، وهو قول جمهور أهل السنة والعلماء%ج 2 ص 243%خلافًا للمعتزلة، وقد نُسب لبعض العلماء إنكارها، والذي نظنه بهم أنهم ما أنكروا أصلها؛ لتجويز العقل، ولما وقع في الكتاب العزيز والسنة وأخبار صالحي هذه الأمة بما يدل على وقوعها، وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها فيمن ليس موصوفًا بشروطها، ولا هو أهل لها. وقد تقع الكرامة باختيار الولي وطلبه، كما في حديث جريج، وهو الصحيح عند جماعة المتكلمين، ومنهم من أنكر ذلك. وفيه: أن الكرامة قد تكون بخوارق العادات، ومنعه بعضهم وادَّعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه، قال بعض العلماء: هذا غلط من قائله وإنكار للحس؛ بل الصواب جريانها بقلب الأعيان، وإحضار الشيء من المعدوم ونحوه. وفي هذا رد لما ذكره عياض من أن بعضهم قال: الوضوء مختص بهذه الأمة، وكذا في حديث سارة من عند البخاري: «لما أرادها الكافر أنها توضأت وصلَّت»، قال ابن بطال: والذي خصت به الأمة من بين سائر الأمم الغرة والتحجيل. وتكلم في المهد أيضًا مبارك اليمامة، كلم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ذكره في «الدلائل».قال القرطبي: وعن ابن عباس: شاهد يوسف كان في المهد. وعن الضحاك تكلم في المهد أيضًا يحيى بن زكريا. وفي حديث صهيب أنه لما خَدَّدَ الأخدود تقاعست امرأة عن الأخدود فقال لها صبيها وهو يرتضع منها: يا أمه! اصبري فإنك على الحق. قال القرطبي: إن قيل: قوله: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، فذكر الأولين ظاهره يقتضي الحصر، ويجاب: بأن أولئك لا خلاف فيهم والباقون مختلف فيهم، أو يقال: أنه قاله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك أولًا ثم أطلعه الله على غيرهم بعد. والمَيامِيس: الزواني والفاجرات، الواحدة مُومِسة، والجمع مُومِسات ومَيامِيس، وجاء هنا مَيامِيس. قال ابن الجوزي: قال لنا ابن الخشاب: ليس بصحيح.
(1/492)
وقال ابن قَرقُول: المُومِسات: المجاهرات بالفجور، وبالياء رويناه عن جميعهم، وكذا ذكره أصحاب العربية، ورواه الضحاك: المُياميس: بالضم. قال القَزاز: وقد يقال: للخَدَمِ مُومِسات. وقوله: (يَا بَابُوسُ): قال القَزاز: هو الصغير، ووزنه فاعُول، فاؤه وعينه من جنس واحد%ج 2 ص 244%وهو قليل، وقيل: هو اسم عجمي، وقيل: هو عربي، وقال الداودي: هو اسم الولد. بَابُ مَسْحِ الحَصَا فِي الصَّلاَةِ 1207 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حدَّثنا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ، قَالَ: «إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً». [خ¦1207] هذا حديث خرجه الستة، وهذا من العمل القليل المعفو عنه. وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمسحون الحصا لموضع سجودهم مرة واحدة، وكرهوا ما زاد عليها. روي ذلك عن ابن مسعود وأبي ذر وأبي هريرة، وهو قول الأوزاعي والكوفيين. وعن أبي ذر: «تركها خير من حمر النعم».وليس لمُعَيقِيب في الصحيحين غير هذا الحديث الواحد. البابان بعده تقدما، الأول في باب السجود على الثوب في شدة الحر، وحديث عائشة في الصلاة على الفراش، وحديث أُبي تقدم في الكسوف. بَابُ إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ فِي الصَّلاَةِوَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ وَيَدَعُ الصَّلاَةَ.
(1/493)
1211 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حدَّثنا شُعْبَةُ، حدَّثنا الأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: «كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا ـ قَالَ شُعْبَةُ: وهُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ ـ فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الخَوَارِجِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّ غَزَوَاتٍ ـ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ ـ وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّي إِنْ أَرجِعَ مَعَ دَابَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَمْضِيْ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقُّ عَلَيَّ». [خ¦1211] هذا الحديث تفرد به البخاري عن الجماعة، وعند الإسماعيلي: «كنا نقاتل الأزارِقة مع المهلب بن أبي صُفرة، فبينا أبو برزة يصلي إذ فلت المقود من يده، فمضت الدابة في قبلته، فانطلق أبو برزة حتى أخذها، ثم رجع القهقرى، فقال رجل كان يرى رأي الخوارج» الحديث، وفيه: «فقلت للرجل ما أرى الله إلا مخزيك؛ تسب رجلًا من الصحابة!». (الأَهْوَازِ): قال ابن التِّيَّاني في «الموعِب»: قال صاحب%ج 2 ص 245% «العين»: الأهواز: سبع كور بين البصرة وفارس، لكل كُورَة منها اسم، وتجمعها الأهواز، ولا تفرد واحدة منها بهوز. وفي «المحكم»: ليس للأهواز واحد من لفظه. وقال ابن خُرْدَاذْبُهْ: هي بلاد واسعة متصلة بالجبل وأصْبِهان. وقال البَكْري: بلد يجمع سبع كور، كُورَة الأهواز وجندي سابُور والسوس وسُرَّق ونَهْر بين ونهر تَيْرى.
(1/494)
وقال ابن السَّمْعاني: يقال لها الآن سوق الأهواز، قال جرير: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ونهر تَيْرى فما تعرفكم العربوفي «الكامل» لأبي العباس المبرد: إن الخوارج تجمعت بالأهواز مع نافع بن الأزرق سنة أربع وستين، فلما قتل نافع وابن عُبيس رئيس المسلمين من جهة ابن الزبير، ثم خرج إليهم حارثة بن بدر، ثم أرسل إليهم ابن الزبير عثمان بن عبيد الله، ثم تولى القَباع، فبعث إليهم المهلب وكل من هؤلاء الأمراء يمكثون معهم في القتال حينًا فلعل ذاك انتهى إلى سنة خمس. وهو يعكر على من قال: إن أبا برزة توفي سنة ستين، وأكثر ما قيل سنة أربع. فينظر، والله تعالى أعلم. قال ابن بطال: لا خلاف بين الفقهاء أن من أفلت دابته وهو في الصلاة أنه يقطع الصلاة ويتبعها، وقال مالك: من خشي على دابته الهلاك، أو على صبى رآه في الموت فليقطع صلاته. وروى عنه ابن القاسم في مسافر أفلتت دابته وخاف عليها، أو على صبي، أو أعمى أن يقع في بئر أو نار، أو ذكر متاعًا يخاف أن يتلف؛ فذلك عذر يبيح له أن يستخلف، ولا يجوز أن يفعل هذا أبو برزة دون أن يشاهده من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. حديث عائشة [1212] تقدم في الخوف. بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ البُصَاقِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلاَةِوَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْروٍ: «نَفَخَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ».هذا التعليق تقدم مسندًا من عند الترمذي مصححًا، وإنما مرَّضه البخاري لأنه من رواية عطاء بن السائب عن أبيه. وبقية الأحاديث تقدم ذكرها في المساجد. وذكر ابن بطال أن العلماء اختلفوا في النفخ في الصلاة، فكرهه [11/ أ] %ج 2 ص 246%طائفة ولم توجب على من نفخ إعادة، رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس والنَّخَعي، وهي رواية علي بن زياد عن مالك أنه قال: أكره النفخ في الصلاة، ولا يقطعها كما يقطع الكلام، وهو قول أبي يوسف وأشهب وأحمد وإسحاق.
(1/495)
وقالت طائفة: هو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة، روي عن سعيد بن جبير، وهو قول مالك في «المدونة».وفيه قول ثالث: وهو أن النفخ إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام ويقطع الصلاة، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومحمد. والقول الأول أولى؛ لحديث ابن عمرو. قال: ويدل على صحة هذا أيضًا اتفاقهم على جواز النفخ والبصاق في الصلاة، وليس في النفخ من النطق بالفاء والهمزة أكثر مما في البصاق من النطق بالفاء والتاء اللتين فيهما من رمي البصاق، ولمَّا اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة جاز النفخ فيها؛ إذ لا فرق بينهما في أن كل واحد منهما بحروف، ولذلك ذكر البخاري حديث البصاق في هذا الباب ليستدل على جواز النفخ؛ لأنه لم يسند حديث ابن عمرو، واعتمد على الاستدلال من حديث النخامة والبصاق، وهو استدلال حسن. يخدش في هذا حديث إسناده جيد، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من نفخ فقد تكلم».وفي «المصنف» عن ابن جُبير: «ما أبالي نفخت في الصلاة أو تكلمت، النفخ في الصلاة كلام».وكان إبراهيم يكرهه، وكذا ابن أبي الهُذيل ومكحول وعطاء وأبو عبد الرحمن والشعبي وأم سلمة ويحيى بن أبي كثير، وعن ابن عباس بسند صحيح: «النفخ في الصلاة يقطع الصلاة».وقال ابن التين: «يحتمل نفخه سهوًا، أو تنفس صُعَداء، وبدر ذلك منه في شدة الخوف على أمته، أو يحتمل النفخ بنفسه».الباب الذي بعده: تقدم في باب عقد الثياب. والذي بعده تقدم في باب ما يُنهى من الكلام في الصلاة. والذي بعده تقدم في باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول. بَابُ الخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ
(1/496)
1219 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حدَّثنا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «نَهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ الخَصْرِ فِي الصَّلاَةِ». [خ¦1219] وفي لفظ: «نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ [12/أ] %ج 2 ص 247%مُخْتَصِرًا».قال أبو داود: يعني يضع يده على خاصرته، وهو مروي عن عائشة؛ لأنه من فعل الجبارين والمتكبرين، وقيل: من فعل اليهود، وقيل: من فعل الشيطان، وقيل: إن إبليس لعنه الله تعالى هبط من الجنة هكذا، وعن عائشة: «هكذا أهل النار في النار».وقيل: المختصر: أن يصلي الرجل وبيده عصًا يتوكأ عليها، مأخوذ من المِخْصَرة، ذكره الهَروي. وقيل: لا يتمُّ ركوعها ولا سجودها، كأنه يختصرها. وقيل: أن يقرأ فيها من آخر السورة آية أو آيتين ولا يتم السورة في فرضه، قاله أبو هريرة، ومنه اختصار السجدة؛ وهو أن يقرأ السجدة فإذا انتهى إلى السجدة جاوزها. وقيل: يختصر الآيات التي فيها السجدة في الصلاة، فيسجد فيها، وكرهه ابن عباس وعائشة والنخعي، وهو قول مالك والأوزاعي والكوفيين. وقال ابن عباس في بيان المختصر: إن الشيطان يحضر ذلك. بَابُ تفْكِرُ الرَّجُلِ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِوَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ. هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن حفص، عن عاصم، عن أبي عثمان النهدي، عنه بلفظ: «إني لأجهز جيوشي وأنا في الصلاة».حديث عقبة [1221] تقدم في باب: من صلى بالناس فذكر حاجة. وحديث أبي هريرة [1222] تقدم في الأذان. وقول أبي سلمة يأتي قريبًا في السهو. وقول الرجل لأبي هريرة: (لا أدري ما قرأ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)، يدل أنه كان مفكرًا في الصلاة، فلذلك لم يدر ما قرأ به النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال المهلب: الفكر في الصلاة أمر غالب لا يمكن الاحتراز منه؛ لما جعل الله تعالى للشيطان من السبيل.
(1/497)
روى
ابن أبي شيبة عن حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قال عمر: «إني لأحسب جزية
البحرين وأنا في الصلاة».وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من صلى ركعتين لا يحدث
فيهما نفسه»، ولم يقل: لا تحدثه نفسه؛ لأنه ليس في مقدوره أن نفسه لا تحدثه. مَا
جَاءَ فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الفَرضِ
1225 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِّ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَن الأَعْرَجِ، عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم قَامَ مِنَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ لَمْ يَجْلِسْ
بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ
ذَلِكَ». [خ¦1225]
تقدم هذا الحديث في باب: من لم ير التشهد الأول واجبًا.
وفي «مسند السراج» من حديث ابن إسحاق، عن الزهري: «الظهر أو العصر».
ومن حديث أبي معاوية عن يحيى مثله.
ومن حديث سفيان عن الزهري: «إحدى صلاتي العشي».
وفي «صحيح» ابن خزيمة من حديث سفيان عن الزهري ويحيى بن سعيد، أخبرنا الأعرج عن
ابن بحينة، الحديث، وفيه: «نظن أنها العصر».
وعند ابن عدي قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اسجدوا في السهو قبل التسليم»،
ورده إسماعيل بن أبان الغَنَوي.
وقد اختلف العلماء في سجود السهو؛ فقالت طائفة: قبل السلام مطلقًا في الزيادة
والنقصان متمسكين بهذا الحديث، وهو الصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
قال الترمذي: كان الشافعي [يقول]: هذا ناسخ لغيره من الأحاديث، يعني حديث ابن
بحينة، ويَذكر أنه آخر فعل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وروي عن أبي هريرة والزهري ومكحول وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والسائب القاري
والأوزاعي والليث بن سعد، وزعم أبو الخطاب أنها رواية عن أحمد بن حنبل.
(1/498)
وتمسكوا
أيضًا بحديث رواه الترمذي مصححًا له من حديث ابن إسحاق عن مكحول عن كُريب عن ابن
عباس عن عبد الرحمن بن عوف: سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «إذا سها
أحدكم في صلاته»، وفيه: «وليسجد سجدتين قبل أن يسلم»، وقال: روي هذا عن ابن عوف من
غير هذا الوجه.
ورواه الزهري عن عبيد الله عن عبد الله عن ابن عباس عن عبد الرحمن مرفوعًا، وقال
الحاكم: صحيح الإسناد.
ورواه أيضًا من حديث عبد الرحمن بن ثابت عن مكحول مرفوعًا بلفظ: «من سها في صلاته
في ثلاث أو أربع فليتم، فإن الزيادة خير من النقصان»، وصحح إسناده.
ومن حديث محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن مكحول عن كريب وقال: صحيح على شرط مسلم،
وشاهد حديث عبد الرحمن.
ورواه أبو علي الطوسي في «الأحكام» عن يعقوب بن إبراهيم، حدَّثنا ابن علية،
حدَّثنا محمد بن إسحاق، حدثني مكحول أن
%ج 2 ص 249%
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال، الحديث، قال محمد: قال لي حسين بن عبد
الله: هل أسنده لك؟ قلت: لا، قال: لكنه حدثني أن كُريبًا حدثه عن ابن عباس قال:
جلست مع عمر فقال: يا ابن عباس! إذا اشتبه على الرجل في صلاته فلا يدري أزاد أم
نقص؟ قلت: والله يا أمير المؤمنين ما سمعت في ذلك شيئًا، فقال: والله ما أدري،
فبينا نحن كذلك إذ جاء عبد الرحمن بن عوف فذكره» وقال: هذا حديث حسن غريب.
وقال البيهقي: ورواه المُحاربي بمثل رواية ابن علية فصار وصل الحديث لحسين بن عبد
الله وهو ضعيف، ثم ذكر من روايته عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول
نحو رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب عن ابن عباس عن عبد الرحمن.
ومن حديث ثور بن يزيد عن مكحول كذلك موصولًا.
وقال الدارقطني: رواه حماد بن سلمة عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلًا.
ورواه ابن علية وعبد الله بن نمير والمُحاربي عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلًا.
(1/499)
وعن
ابن إسحاق عن حسين عن مكحول عن كريب عن ابن عباس عن عبد الرحمن، فضبط هؤلاء
الثلاثة عن ابن إسحاق المرسل والمتصل.
قال: ورواه الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس، حدث به عنه إسماعيل بن مسلم المكي
وبحر السقاء.
ورواه محمد بن يزيد الواسطي عن ابن إسحاق عن الزهري، قاله إسماعيل بن هود عنه.
ورواه إسحاق بن بهلول عن عمار بن سلام عن محمد بن يزيد الواسطي عن سفيان بن حسين،
وكلاهما وهم.
ورواه أحمد بن حنبل عن محمد بن يزيد على الصواب، عن إسماعيل بن مسلم - وهو ضعيف -
عن الزهري، فرجع الحديث إلى إسماعيل بن مسلم.
وروينا في «معجم الإسماعيلي»: حدَّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم، حدَّثنا محمد بن
راشد، أملى علينا يحيى بن آدم، حدَّثنا الحسن بن عياش ويزيد بن عبد العزيز عن
إسماعيل بن مسلم فذكره.
وبحديث خرجه مسلم عن محمد بن أبي خلف، عن موسى بن داود عن سليمان بن بلال عن زيد
بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«إذا شك أحدكم في صلاته» الحديث، وفيه: «فليسجد سجدتين قبل أن يسلم».
قال الدارقطني: رواه يحيى بن راشد والوليد بن مسلم عن مالك عن زيد متصلًا، وأرسله
%ج 2 ص 250%
أصحاب «الموطأ» فلم يذكروا أبا سعيد.
ورواه الدَّرَاوَرْدِي وعبد الله بن جعفر وابن أبي ميسرة عن زيد عن عطاء مرسلًا.
وأسنده أبو قتادة الحراني عن الثوري، والقول قول الماجِشون وسليمان بن بلال وابن
عجلان.
وعند البيهقي من رواية بحر بن نصر عن ابن وهب أخبرنا مالك وداود بن قيس وهشام بن
سعد أن زيد بن أسلم حدثهم عن عطاء أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: الحديث.
قال: إلا أن هشامًا بلغ به.
قال: ورواية بحر كأنها أصح، وقد وصل الحديث جماعة عن زيد مع سليمان وهشام محمد بن
عجلان وفُليح ومحمد بن مُطرِّف.
وخرج الحاكم حديث ابن عجلان مرفوعًا مطولًا وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه
بهذه السياقة.
(1/500)
وخرج
ابن خزيمة في «صحيحه» حديث ابن عجلان وهشام ويحيى بن محمد بن قيس المدني وعبد
العزيز الماجِشون موصولًا.
وعند الترمذي محسنًا: «إذا صلى أحدكم فلم يدرِ أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو
جالس».
وبحديث رواه النسائي بسند صحيح من طريق ابن عجلان عن محمد بن يوسف مولى عثمان عن
أبيه - وإن كان قال فيه النسائي: ليس بمشهور، فقد ذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال
الدارقطني: لا بأس به - أن معاوية سها فسجد سجدتين وهو جالس بعد أن أتم الصلاة
وقال: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من نسي شيئًا من صلاته
فليسجد مثل هاتين السجدتين».
ولما ذكره البيهقي في «المعرفة»: أن معاوية صلى بهم، فنسي فقام وعليه جلوس فلم
يجلس، فلما كان آخر صلاته سجد سجدتين قبل السلام، وقال: «هكذا رأيت رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صنع».
قال أبو بكر: كذا في كتابي، وكذلك فعله عقبة بن عامر الجُهني وقال: «السنة الذي
صنعت».
وقال الشافعي: أخبرنا مُطرِّف بن مازن، عن معمر، عن الزهري قال: «سجد رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سجدتي السهو قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام»،
وذكر أن صحبة معاوية متأخرة.
وقال أبو بكر الطُّرطُوشي: لا يصح هذا عن الزهري؛ لأن مطرفًا غير قوي، وقال داود:
وكذلك سجدهما ابن الزبير وقام من ثنتين قبل التسليم، وهو قول الزهري.
قال البيهقي: وقد اختلف فيه عن عبد الله بن الزبير، وعند أحمد: «صلى ابن الزبير
المغرب اثنتين
%ج 2 ص 251%
ونهض يستلم الحجر، فسبح القوم، فقال: ما شأنكم؟ فصلى ما بقي وسجد سجدتين، قال
عطاء: فذكر ذلك لابن عباس فقال: ما أماط عن سنة نبيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
(2/1)
وبحديث
رواه أبو داود، عن حجاج، عن ابن أبي يعقوب، عن يعقوب عن أبيه، عن ابن إسحاق قال:
حدثني الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
فذكر حديث السهو المخرج عند الستة، وفيه زيادة: «فليسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم
ليسلم».
وذكرها البيهقي أيضًا من رواية ابن أخي الزهري، عن الزهري، ومن رواية يعقوب بن
إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدَّثنا سلمة بن صفوان الزُّرَقي، عن أبي سلمة،
عن أبي هريرة بلفظ: «فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ثم يسلم».
قال: ورواه الدَّسْتَوائي والأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة دون هذه
الزيادة، ومن طريق عمر بن يونس، عن عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي
سلمة، عن أبي هريرة وفيه: «فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم».
وقال الدارقطني: رواه شَيبان وعلي بن المبارك وهشام والأوزاعي وغيرهم عن يحيى، ولم
يذكروا فيه التسليم قبل ولا بعد، وكذا قال الزهري عن أبي سلمة.
ورواه ابن إسحاق عن سلمة وقال فيه: «ثم يسلم» كما قال عكرمة عن يحيى، وهما ثقتان،
وزيادة الثقة مقبولة.
ورواه فُليح، عن سلمة بن صفوان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وقال فيه: «وليسلم ثم
يسجد سجدتين وهو جالس»، وهذا خلاف ما رواه ابن إسحاق.
وبحديث رواه ابن عباس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إذا شك أحدكم في
صلاته» الحديث، وفيه: «فإذا فرغ فلم يبق إلا أن يسلم فليسجد سجدتين وهو جالس ثم
يسلم»، رواه الدارقطني من حديث عبد الله بن جعفر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن
يسار، عنه.
وبحديث رواه من طريق عبد المهيمن بن عباس، عن أبيه، عن جده، عن المنذر بن عمرو ـ
وكان من النُّقباء ـ: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سجد سجدتي السهو قبل
التسليم».
(2/2)
وبحديث
رواه أبو عبيدة، عن أبيه ـ ولم يسمع منه ـ عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قال: «إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث أو أربع»، وفيه: «وتشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت
جالس
%ج 2 ص 252%
قبل أن تسلم، ثم تشهدت أن تسلم أيضًا، ثم تسلم»، أخرجه أبو داود، وقال: رواه عبد
الواحد بن زياد عن خُصيف ولم يرفعه، ووافق عبد الواحد أيضًا سفيان وشريك وإسرائيل،
واختلفوا في الكلام في متن الحديث ولم يسندوه.
وقال البيهقي: هذا غير قوي، ومختلف في رفعه ومتنه.
وبحديث عقبة بن عامر: «أنه قام وعليه جلوس، فقال الناس: سبحان الله! فلم يجلس ومضى
على قيامه، فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين وهو جالس، فلما سلم قال: إني سمعتكم
آنفًا، ولكن السنة التي صنعت»، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وخرجه ابن حبان في «صحيحه».
وقال ابن أبي حاتم في كتاب «العلل»: رواه الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن
شِماسة، كذا عن عقبة، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورواه المقرئ، عن
حَيْوَة، عن يزيد، عن ابن شِماسة قال: «صلى عمرو بن العاص» فذكره، قال أبو زُرْعة:
هذا خطأ؛ إنما هو عقبة بن عامر.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إلى أن السجود يكون بعد السلام في الزيادة
والنقص، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار وابن عباس
وابن الزبير وأنس بن مالك والنخعي وابن أبي ليلى والحسن البصري، مستدلين بحديث ذي
اليدين المذكور قبل في باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
وبحديث ابن مسعود المخرج عند الستة، وقد تقدم في باب: ما جاء في القبلة.
وبحديث عمران بن حصين من عند مسلم، وقد تقدم في حديث ذي اليدين.
وتشكك ابن القطان في اتصاله، ورجَّح انقطاعه فيما بين ابن سيرين وعمران، قال: وإن
كان قد سمع منه أحاديث فيغلب على الظن أنه لم يسمع منه هذا، واستدل على ذلك بكلام
طويل.
(2/3)
وبحديث
مصعب بن شيبة، عن عتبة بن محمد بن الحارث، عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم قال: «من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم».
قال النسائي: مصعب منكر الحديث، وعتبة - وقيل: عقبة - ليس بمعروف.
وقال الأَثْرَم عن أبي عبد الله: حديث ابن جعفر لا يثبت.
وقال البيهقي: إسناده لا بأس به.
وخرجه
%ج 2 ص 253%
ابن خزيمة في «صحيحه» وقال: الصحيح عتبة لا عقبة، عِلْمي.
وكأن قولهما أقرب إلى الصواب؛ لأن مصعبًا احتج به مسلم، وقال يحيى بن معين: ثقة،
وقال العِجْلي: مدني ثقة، وذكره أبو نعيم وأبو موسى في آخرين في جملة الصحابة بعد
أن نصوا على الاختلاف في ذلك.
وأما عتبة، فقال ابن عيينة: لا بأس به، وذكره ابن حبان في «الثقات».
وبحديث رواه أبو محمد الدارمي وأحمد في «مسنديهما» عن يزيد بن هارون، عن المسعودي،
عن زياد بن عِلاقة قال: «صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس،
فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو
وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، قال الدارمي: قال يزيد:
يصححونه.
ورواه الترمذي عن الدارمي وقال: حديث حسن صحيح.
وقال أبو داود: حدَّثنا عبيد الله بن عمر الجُشَمي، حدَّثنا يزيد بن هارون، فذكره
بلفظ: «فلما أتم صلاته وسلم سجد سجدتي السهو، فلما انصرف قال: رأيت رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصنع كما صنعت».
قال أبو داود: وكذا رواه ابن أبي ليلى عن الشعبي عن المغيرة يرفعه.
قال: ورواه أبو العُميس عن ثابت بن عبيد قال: «صلى بنا المغيرة، مثل حديث زياد،
وفعل سعد بن أبي وقاص مثل فعل المغيرة، وعمران بن حصين، والضحاك بن قيس، ومعاوية
بن أبي سفيان، وابن عباس أفتى بذلك، وعمر بن عبد العزيز».
وقال البيهقي في «المعرفة»: وروي عن المغيرة في هذه القصة: «أنه سجدهما بعد
التسليم»، وإسناد حديث ابن بحينة أصح. انتهى.
(2/4)
في
هذا كله رد لما كره ابن الأثير في «جامع الأصول» في باب السجود قبل التسليم من عند
أبي داود عن المغيرة: «فلما أتم صلاته سجد قبل التسليم ثم سلم، ويشبه أن يكون
وهمًا؛ لأنه ليس في كتاب ابن داسه وابن العبد واللؤلؤي والرملي عن أبي داود إلا ما
ذكرته أولًا، وليس في حديث المغيرة عند غيره شيء مما ذكره، فينظر.
وعند أبي داود من رواية جابر بن يزيد يرفعه: «إذا قام الإمام من الركعتين، فلم
يستتم قائمًا فليجلس، فإذا استتم قائمًا فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو».
وبحديث ثوبان أن رسول الله صلى الله
%ج 2 ص 254%
عليه وسلم قال: «لكل سهو سجدتان بعدما تسلم».
في سنده إسماعيل بن عياش، ولكنه رواه عن الشاميين، وروايته عنهم جيدة، لكن الأثرم
حكى عن أبي عبد الله: أن حديث ثوبان لا يثبت، فلا أدري بما أعله؟ لأنه هو أحد من
يرجح حديثه عن أهل الشام، والله أعلم.
وبحديث رواه ابن ماجه بسند صحيح عن علي بن محمد وأبي كريب وأحمد بن سنان قالوا:
حدَّثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: «أن رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم سها فسلم في الركعتين، فقال له رجل يقال له ذو اليدين: يا رسول الله!
أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فتقدم فصلى ركعتين ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو».
وخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» عن أبي كريب، حدَّثنا أبو أسامة بلفظ: «فقام فصلى ثم
سجد سجدتين».
وفي حديث سليمان بن بلال عنده، عن عمر بن محمد، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله
أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إذا صلى أحدكم فلا يدري كم صلى ثلاثًا
أم أربعًا؛ فليركع ركعة يحسن ركوعها وسجودها ثم يسجد سجدتين».
قال محمد بن يحيى: وجدت هذا الحديث في موضع آخر من كتاب أيوب بن سليمان بن بلال
موقوفًا.
وبحديث رواه قتادة عن أنس عند الطَّحاوي في الرجل يهم في صلاته لا يدري أزاد أم
نقص، قال: «ليسجد سجدتين بعد السلام».
(2/5)
وعند
أبي بكر، عن أبي معاوية، عن زياد بن سعد، عن ضَمْرة بن سعد، عنه: «أنه سجد سجدتي
السهو بعد السلام».
وعند السراج: حدَّثنا عبيد الله بن سعيد، حدَّثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي
عَروبة، عن قتادة عنه: «إذا وهم الرجل في صلاته فلم يدرِ كم صلى، قال: ينتهي إلى
وهمه ويسجد سجدتين».
وبحديث قال أبو داود فيما تقدم أنه سلم المغيرة رواه سعد بن أبي وقاص في «صحيح»
ابن خزيمة، والحاكم على شرط الشيخين ولفظه: «أنه نهض في الركعتين، فسبحوا به،
فاستتم، ثم سجد سجدتي السهو حين انصرف، ثم قال: أكنتم تروني أجلس؟ إنما صنعت كما
رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصنع».
وبحديث رواه عمر بن عبيد الله بن أبي الوَقَّاد: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم صلى لهم بمنى المغرب، فسلم في الركعتين، فسبح به الناس، فقام فصلى الركعة
الثالثة وسلم، ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد السلام».
قال أبو حاتم
%ج 2 ص 255%
في كتاب «العلل»: ابن أبي الوقَّاد تابعي.
وقال الحازمي: طريق الإنصاف أن نقول: أما حديث الزهري الذي فيه دلالة على النسخ
ففيه انقطاع، فلا يقع معارضًا للأحاديث الثابتة، وأما بقية الأحاديث في السجود قبل
السلام وبعده قولًا وفعلًا، فهي وإن كانت ثابتة صحيحة وفيها نوع تعارض؛ غير أن
تقديم بعضها على بعض غير معلوم برواية موصولة صحيحة، والأشبه حمل الأحاديث على
التوسع وجواز الأمرين.
وقد قال الشافعي في القديم مع ما حكيناه عنه من سجود السهو بعد السلام تشهد ثم سلم،
ومن سجد قبل السلام أجزأه التشهد الأول، وفي قوله: هذا تجويز للسجود بعد السلام
وقبله.
وقد روى أحمد بن إسحاق القاضي عن أبيه قال: حدَّثنا الشافعي وذكر حديث ذي اليدين
وسجدهما رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الزيادة بعد التسليم وفي النقصان
بعد التسليم فذهبنا إلى ذلك بالحديثين جميعًا.
(2/6)
قال:
وقد ذهبت طائفة إلى أن السهو إذا كان في النقصان كان السجود قبل السلام، وإذا كان
في الزيادة كان بعد السلام، وإليه ذهب مالك، ونفر من أهل الحجاز وأبو ثور.
وقالت طائفة أخرى: الحيطة في هذا أن يتبع ظواهر الأخبار على الأحاديث:
إن نهض من ثنتين سجد قبل السلام على حديث ابن بحينة.
وإذا شك فرجع إلى اليقين سجد قبل السلام على حديث أبي سعيد.
وإذا سلم من ثنتين سجد بعد السلام على حديث أبي هريرة.
وإذا شك فكان ممن يرجع إلى التحري سجد بعد السلام على حديث ابن مسعود.
وكل سهو يدخل عليه سوى ما ذكرناه يسجد قبل السلام سوى ما رُوي عن النبي صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمي من أصحاب
الشافعي وأبو خَيثمة.
وقال أهل الظاهر: لا يسجد إلا في المواضع الخمسة التي يسجد فيها سيدنا رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقط، وغير ذلك إن كان فرضًا أتى به، وإن كان ندبًا فليس
عليه شيء، وكذا قاله ابن سيرين وقتادة، وهو قول غريب عن الشافعي.
وجمهور العلماء على أن التطوع كالفرض، وفي «شرح الهداية»
%ج 2 ص 256%
: لو سجد للسهو قبل السلام جاز عندنا.
قال القُدوري رحمه الله: هذا في رواية الأصول، قال: وروي عنهم أنه لا يجوز؛ لأنه
أدَّاه قبل وقته.
وفي «الهداية»: هذا الخلاف في الأولوية، وكذا قاله الماوَرْدي في «الحاوي»، وأبو
عمر بن عبد البر وغيره.
وقوله في حديث ابن بحينة: (قام وقام معه الناس) يدل على أن الجلوس في التشهد الأول
والتشهد فيه ليسا واجبين؛ إذ لو كانا كذلك لما جبرا بالسجود، وبه قال أبو حنيفة
والشافعي ومالك.
وقال أحمد في طائفة قليلة: هما واجبان، وإذا سها فيهما جبرهما بالسجود على مقتضى
الحديث.
وقوله: (كَبَّرَ) فيه مشروعية التكبير فيه، وهو أمر مجمع عليه، وهذا ينبني على أن
التكبيرات في الصلاة هل هي سنة أو واجبة؟
(2/7)
فمذهب
أبي حنيفة أنها كلها سنة إلا تكبيرة الإحرام فإنها واجبة، وهو قول الجمهور، وفي
«شرح الهداية»: يأتي بتسليمتين، وبه قال الثوري وأحمد.
وفي «المحيط»: ينبغي أن يسلم واحدة عن يمينه، وهو قول الكرخي، وبه قال النخعي.
وفي «البدائع»: يسلم تلقاء وجهه، وعن أحمد في رواية، وأهل الظاهر أنها ـ أعني
التكبيرة ـ واجبة.
وقوله: (ثُمَّ سَلَّمَ) الصحيح من مذهب الشافعي أنه يسلم ولا يتشهد، وكذا في سجود
التلاوة، ويسلم ولا يتشهد كصلاة الجنازة.
مذهب أبي حنيفة: يتشهد ويسلم، وعند أحمد: إن كان السجود بعد السلام تشهد وسلم.
وعن ابن سيرين وابن المنذر: فيهما تسليم بغير تشهد، قال ابن المنذر: التسليم فيهما
ثابت من غير وجه، وفي ثبوت التشهد نظر.
وقال ابن عبد البر: لا أحفظه مرفوعًا من وجه صحيح، وعن عطاء: هو مخير، إن شاء فعل،
وإن شاء لم يفعل.
وعن الأوزاعي: إذا سها سهوين سجد أربع سجدات، وعن ابن أبي ليلى: يتكرر السجود بعدد
السهو.
(2/8)
بَابُ إِذَا صَلَّى خَمْسًا 1226 - حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ». [خ¦1226] وفي لفظ: «فلما%ج 2 ص 257%سلم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثنى رجليه، واستقبل القبلة، وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه وقال: إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكني إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب وليبن عليه، ثم ليسجد سجدتين».وفي لفظ: «أنه زاد أو نقص من الصلاة».وفي لفظ: «فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين».وفي لفظ: «ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين».وعند ابن خزيمة: «فأيكم سها في صلاته، فلا يدري كم صلى فليسلم ثم ليسجد سجدتي السهو».وعند مسلم: «سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام».وعند السراج في لفظ لم يذكر في أوله: «فلم يسلم في ولا في آخره، ثم ليسلم».وفي لفظ: «أيكم شك في صلاته فلينظر أي ذلك الصواب فليبن عليه».وعند الدارقطني بسند صحيح عن ابن مسعود: «أنه سجد سجدتي السهو بعد التسليم، وحدث أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سجدهما بعد التسليم».وفي «مسند أبي قرة»: ذكر سفيان عن جابر أنه حدثهم عن عبد الرحمن بن الأسود عن ابن مسعود: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى الظهر أو العصر خمسًا ثم سجد سجدتين فقال: هذه السجدتان لمن ظن منكم أن قد زاد أو نقص».
(2/9)
ومن حديث أبي عبيدة عنه موقوفًا في «المصنف»: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر أكثر ظنه، فليبن عليه، فإن كان أكثر ظنه أنه صلى ثلاثًا فليركع ركعة وليسجد سجدتين، وإن كان ظنه أربعًا فليسجد سجدتين».وفي حديث الحجاج عن الحكم عن أبي وائل عنه: «يتحرى أو يسجد سجدتين».وقال الشافعي فيما بلغه عن أبي معاوية وحفص عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تكلم ثم سجد سجدتي السهو بعد الكلام».قال الشافعي: وذلك أنه إنما ذكر السهو بعد الكلام، فلما استيقن أنه سها سجد، ونحن نأخذ بهذا، وهم لا يأخذون به، وهذا الحديث من أحسن حديث للعراقيين يروونه ثم يخالفونه إلى غير أمر ولا حجة. اختلف%ج 2 ص 258%العلماء فيمن قام إلى الخامسة؟ فذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنه إن سها عن القعدة وقام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة ويسجد للسهو، فإن قيد الخامسة بسجدة بطلت صلاته إن لم يكن قعد في الرابعة مقدار التشهد، فإن كان قعد وقام إلى الخامسة ضم إليها ركعة أخرى وتمت صلاته، وكانت الركعتان له نافلة ويسجد للسهو، ويحملون حديث ابن مسعود على ذلك؛ لأن الراوي قال: صلى الظهر خمسًا ولا ظهر بدون ركنه وهي القعدة الآخرة. قال في «المبسوط»: قام إلى الخامسة على ظن أن هذه القعدة هي الأولى، والصحيح أنهما لا ينوبان عن سنة الظهر؛ لأن نزوعه فيهما لم يكن عن قصد، وإن كان في العصر لا يضم إلى الخامسة ركعة أخرى، بل يقطع؛ لأن التنفل بعد العصر مكروه، وروي عن محمد أنه يضيف إليها ركعة أخرى، وكذا روى الحسن عن أبي حنيفة وهو الصحيح؛ لأن الكراهة إنما تقع إذا كان التنفل بعده عن قصده، فإن لم يقعد قدر التشهد لا يتابعه القوم، ولكن ينتظرونه قعودًا حتى يعود فيسلموا معه، فإن قيد الخامسة بسجدة سلم القوم.
(2/10)
وفي «شرح المهذب»: هذا الحديث دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو أن من زاد في صلاته ركعة ناسيًا لم تبطل صلاته؛ بل إن علم بعد صلاته فقد مضت صلاته صحيحة ويسجد للسهو إن ذكر بعد السلام بقريب، وإن طال فالأصح عندنا أنه لا يسجد للسهو، وإن ذكر قبل السلام عاد إلى القعود سواء أكان في قيام أو ركوع أو سجود أو غيره، ويتشهد ويسجد للسهو ويسلم، والزيادة على وجه السهو لا تبطل الصلاة، سواء قلت أو كثرت إذا كانت من جنس الصلاة، فسواء زاد ركوعًا أو سجودًا أو ركعة أو ركعات كثيرة ساهيًا فصلاته صحيحة في كل ذلك ويسجد للسهو استحبابًا لا إيجابًا. وقال عياض: إن زاد دون نصف الصلاة لم تبطل صلاته؛ بل هي صحيحة، ويسجد عند مالك للسهو، وإن زاد النصف فأكثر؟ من أصحابه من أبطلها، ومنهم من قال: إن زاد ركعتين بطلت، وإن زاد ركعة فلا، ومنهم من قال: لا تبطل مطلقًا. وقال ابن قدامة: متى قام إلى الخامسة في الرباعية أو الرابعة في المغرب أو الثالثة في الصبح لزمه الرجوع متى ما ذكر، فجلس، وإن كان قد تشهد عَقيب الركعة التي تمت بها صلاته سجد للسهو وسلم، وإن كان ما تشهد تَشهد وسجد للسهو%ج 2 ص 259%ثم سلم. إذا سلم في ركعتين؟ تقدم في: هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس؟.بَابُ مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِوَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. هذا رواه أبو بكر في المصنف بسند صحيح عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن وأنس: «أنهما سجدا سجدتي السهو بعد السلام، ثم قاما ولم يسلما».وعند ابن قدامة وابن بطال وابن عبد البر وغيرهم: وقال أنس والحسن وعطاء: «ليس فيهما تشهد ولا تسليم».وَقَالَ قَتَادَةُ: لاَ يَتَشَهَّدُ. هذا التعليق يرجح ما نقله هؤلاء الأئمة؛ لأن قتادة تقدمت روايته عن شيخيه، والأشبه أنه لم يخالفهما. فينظر. حديث الباب تقدم، وكذا الذي بعده في حديث ذي اليدين.
(2/11)
وحديث
[1231]: (إِذَا نُوْدِيَ بِالصَّلاَةِ): تقدم في التفكر في الصلاة قريبًا. وقوله:
بَابُ الإِشَارَةِ فِي الصَّلاَةِقَالَهُ كُرَيْبٌ: عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. هذا التعليق تقدم مسندًا في باب: ما يصلى بعد
العصر من الفوائت. وحديث سهل [1234] تقدم في باب: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام
الأول. وحديث أسماء [1235] تقدم في الكسوف. وحديث عائشة [1236] تقدم في الإمامة،
عند الدارقطني بسند فيه ضعف عن عمر قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ليس
على من خَلَفَ الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه السهو، وإن سها من
خلف الإمام فليس عليه سهو، والإمام كافيه».وعند أحمد عن أبي هريرة قال رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا إغْرار في صلاة ولا تسليم»، قال أحمد: يعني: أن لا
يسلم فينصرف وهو شاك. وعند ابن خزيمة عن ابن عباس: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم سمى سجدتي السهو المرغمتين، فإن سها في سجدتي السهو فلا سهو عليه»، قاله
النخعي والحكم وحماد ومغيرة وابن أبي ليلى والبستي والحسن بن أبي الحسن رضي الله
عنهم. بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم إلى يوم الدين
كِتَابُ الجَنَائِزِ
بَابُ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّه
%ج 2 ص 260%
هذا الكلام بعض حديث رواه أبو داود عن مالك بن عبد الواحد المِسْمَعي، عن الضحاك
بن مخلد، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عُريب، عن كثير بن مرة الحضرمي،
عن معاذ بن جبل، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من كان آخرَ كلامه لا
إله إلا الله دخل الجنة»، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
ولأبي زُرْعة عند وفاته فيه حكاية.
وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال بلى: ولكن ليس مفتاح
إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك.
(2/12)
هذا
القول وقع في حديث مرفوع إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ذكره البيهقي عن معاذ
بن جبل أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له حين بعثه إلى اليمن: «إنك
ستأتي أهل كتاب، فيسألونك عن مفتاح الجنة، فقل: شهادة أن لا إله إلا الله، ولكن
مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك».
وفي «سيرة ابن إسحاق»: «لمَّا أرسل العلاء بن الحضرمي، إذا سئلت عن مفتاح الجنة،
فقل: مفتاحها لا إله إلا الله».
وفي «مسند» أبي داود الطيالسي: حدَّثنا سليمان بن معاذ الضبي، عن أبي يحيى
القتَّات، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«مفتاح الجنة الصلاة».
وذكر أبو نعيم الأصبهاني في كتابه «أحوال الموحدين الموقنين»: «أن أسنان هذا
المفتاح هي الطاعات الواجبة من القيام بطاعة الله تعالى وتأديتها، والمفارقة
لمعاصي الله تعالى ومجانبتها».
وفي كتاب ابن التين وغيره عن عبد الصمد بن معقل قال: «كان وهب بن منبه جالس في
مجلس ابن عباس رضي الله عنهما فسئل: أليس يقول: إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟
قال: بلى، وجدته في التوراة، ولكن اتخذوا له أسنانًا، فسمع ذلك ابن عباس فقال:
أسنانه والله عندي، أولها: شهادة أن لا إله إلا الله وهو المفتاح، والثاني: الصلاة
وهو الفطرة، والثالث: الزكاة وهي الطهور، والرابع: الصوم وهو الجنة، والخامس: الحج
وهي الشريعة، والسادس: الجهاد، والسابع: الأمر بالمعروف وهو الألفة، والثامن: الطاعة
وهي العصمة، والتاسع: الغسل من الجنابة وهي السريرة وقد خاب من لا سر له، هذا
والله أسنانها».
حدثنا موسى بن
%ج 2 ص 261%
(2/13)
إسماعيل،
حدَّثنا مهدي بن ميمون، حدَّثنا واصل الأحدب، عن المعرور، عن أبي ذر قال رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أتاني آت من ربي عز وجل، فأخبرني ـ أو قال: بشرني ـ أنه
من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن
زنى وإن سرق».
وفي حديث الأسود عن أبي ذر في كتاب اللباس: «أتيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وعليه ثوب أخضر وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال: لا إله إلا
الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق،
قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رَغْم أنف أبي ذر»، وكان أبو ذر
إذا حدث بهذا يقول: وإن رَغِم أنف أبي ذر، قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو
قبله إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غفر له.
وهو يوضح ما استبعد من أنه ليس موافقًا للتبويب الذي فيه من كان آخر كلامه؛ لأن
فيه: ثم مات على ذلك، والله تعالى أعلم.
وعند الترمذي مصححًا: «أتاني جبريل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبشرني: أنه من مات ولا
يشرك بالله شيئًا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم».
وفي رواية: «قال أبو ذر: يا رسول الله! وإن سرق وإن زنى، ثلاث مرات، وفي الرابعة:
قال: على رغم أنف أبي ذر».
ويجمع بين اللفظين بأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاله مستوضحًا، وأبو ذر قاله
مستبعدًا؛ لأن في ذهنه قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يزني الزاني حين يزني
وهو مؤمن»، وما في معناه، وفيه حجة للسنيين أن أصحاب الكبائر من أمتنا لا يقطع لهم
بالنار، وأنهم إن دخلوها خرجوا منها.
قال ابن بطال: من مات على اعتقاد لا إله إلا الله، وإن بَعُدَ قوله لها عن موته
إذا لم يقل بعدها خلافها حتى مات [فإنه يدخل الجنة].
وذكر بعضهم حديث أبي ذرفي باب تلقين الميت، وذكر معه حديث أبي هريرة: «لقنوا
موتاكم: لا إله إلا الله»، رواه مسلم.
(2/14)
وعن
عبد الله بن جعفر عند ابن ماجه مثله زاد: «الحليم الكريم سبحان الله رب العرش
العظيم، الحمد لله رب العالمين».
وعند مسلم عن عثمان يرفعه: «من مات [وهو] يعلم (ق/27) [أنه]
%ج 2 ص 262%
لا إله إلا الله دخل الجنة».
حدثنا عمر بن حفص، حدَّثنا أبي، حدَّثنا الأعمش، حدَّثنا شقيق، عن عبد الله قال:
قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار. قال:
وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة».
وفي لفظ: «قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلمة، وقلت أخرى، قال: من مات
يجعل لله ندًا دخل النار، وقلت: لا، من مات لا يجعل لله ندًا دخل الجنة».
وفي رواية وكيع وابن نمير لمسلم بالعكس: «من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة،
وقلت أنا: من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار».
وهذا يرد قول من قال: إن ابن مسعود سمع إحدى الحكمين فرواه وضم إليه الحكم الآخر
قياسًا على القواعد الشرعية، والذي يظهر أنه نسي مرة وهي الرواية الأولى، وحفظ مرة
وهي الأخرى، فرواهما مرفوعين، كما فعله غيره من الصحابة.
ودخول المشرك النار دخول تأبيد، كاليهودي والنصراني والمجوسي وعَبَدة الأوثان.
(2/15)
بَابُ الأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ 1239 - حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنِ الأَشْعَثِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ البَرَاءِ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ القَسَمِ أو المُقْسِمِ، [وَرَدِّ السَّلاَمِ]، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَنَهَانَا عَنْ: آنِيَةِ الفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ عَنْ خَوَاتِيْمِ الذَّهَبِ أَوْ عَنْ تَخَتُّمِ، وَعَنِ المَيَاثِرِ، وَالحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالقَسِّيِّ، وَالإِسْتَبْرَقِ، وَإِنْشَادِ الضَّالِّ». [خ¦1239] وفي لفظ: «وعن الشرب في آنية الفضة، فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة».وقال: «إبرار المقسم»، من غير شك. وفي لفظ: «ورد السلام» بدل: «إفشاء السلام». «ونهانا عن خاتم الذهب أو حلقة الذهب».في لفظ: «عن المياثر الحمر».هذا الحديث خرجه البخاري في عشرة مواضع من كتابه. وقد روى عيادة المريض عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جماعة من الصحابة: أبو موسى عند البخاري: «عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني».وثوبان: «إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرْفَة الجنة حتى يرجع، قيل: يا رسول الله! وما خُرْفَة لجنة؟ قال: جناها»، رواه%ج 2 ص 263%مسلم. وأبو هريرة: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني؟ قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ [قال]: أما علمت أن فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده».وعند ابن ماجه بسند صحيح: «خمس من حق المسلم على المسلم: رد التحية، وإجابة الدعوة، وشهود الجنازة، وعيادة المريض، وتشميت العاطس إذا حمد الله تعالى».
(2/16)
وعلي بن أبي طالب: «ما من مسلم يعود مسلمًا إلا ابتعث الله له سبعين ألف ملك يصلون عليه أي ساعة من النهار كانت حتى يمسي، وأي ساعة من الليل كانت حتى يصبح».حسنه بلفظ: «ما من مسلم يعود مسلمًا غُدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح».وقال أبو داود: أسند عن علي من غير وجه صحيح. وقال البزار: لا نعلم رواه إلا علي من غير وجه صحيح. وعند ابن ماجه من حديث الحارث [عن علي ? قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم]: «للمسلم على المسلم ستة: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه»، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه؛ لأن جماعة من الرواة أوقفوه على الحكم بن عتيبة ومنصور عن ابن أبي ليلى من حديث شعبة عنهما، وأنا على أصلي في الحكم فيمن أتى بالزيادة. وعند ابن أبي الدنيا: «من عاد مريضًا ابتغاء مرضاة الله تعالى، وتنجز موعود الله، ورغبة فيما عند الله وَكَلَ به» الحديث. وفي «المصنف» من حديث الحارث عنه مرفوعًا: «للمسلم على المسلم يعوده إذا مرض».وعند ابن أبي الدنيا: «إذا عاد الرجل أخاه في الله مشى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له، وكان يخوض في الرحمة حتى إذا دخل غرق فيها».وأبو أمامة: «من تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته أو يده، ويسأله [كيف] هو؟»، رواه أحمد بسند ضعيف. وجابر بن عبد الله: «من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها»، رواه أحمد. وعند الحاكم صحيحًا: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعودني، ليس براكب بغل ولا بِرْذَوْن».%ج 2 ص 264%وأبو مسعود: «للمسلم على المسلم أربع خلال: يشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشهده إذا مات، ويعوده إذا مرض»، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وأبو سعيد: «عودوا المريض واتبعوا الجنائز»، صححه ابن حبان البُسْتي.
(2/17)
وعبد الله بن عمر: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من يعود منكم سعد بن عبادة؟ فقام وقمنا معه ونحن بضعة عشر» الحديث، رواه مسلم. وأنس: «عاد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غلامًا يهوديًا كان يخدمه».وعند أبي داود بسند لا بأس به: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم عاد [أخاه] المسلم محتسبًا بُوعِد من جهنم سبعين خريفًا».والمُسيَّب بن حَزْن: «لما احتضر أبو طالب جاءه رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» الحديث، رواهما البخاري. وأسامة بن زيد قال: «خرج رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعود عبد الله بن أُبيٍّ في مرضه الذي مات فيه» الحديث، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وزيد بن أرقم قال: «عادني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من وجع بعيني»، ضعفه ابن الجوزي، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وله شاهد صحيح من حديث أنس قال: «عاد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زيد بن أرقم من رمد كان به».وسعد بن أبي وقاص قال: «اشتكيت بمكة شرفها الله تعالى، فجاءني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعودني ووضع يده على جبهتي»، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وجابر بن عبد الله يرفعه: «إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة، حتى إذا قعد عنده قرت فيه»، قال ابن عبد البر: حديث مدني صحيح محفوظ، وفي لفظ: «فإذا جلس عنده استنقع في الرحمة، فإذا خرج خاض الرحمة حتى يرجع إلى بيته».ذكر هذه الزيادة البزار وقال: ولا أحفظ لحديث جابر غير هذا الإسناد، ولا له في عيادة المريض غير هذا، إلا ما رواه ابن المنكدر عنه: «كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعودني ليس براكب بغلًا ولا برذونًا» يعني المذكور عند البخاري في كتاب المرض. وابن عباس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من عاد أخاه المسلم%ج 2 ص 265%فقعد عند رأسه» الحديث، قال: صحيح على شرط البخاري.
(2/18)
وابن عمرو: «إذا عاد أحدكم مريضًا فليقل: اللهم اشف عبدك» الحديث، قال: صحيح على شرط مسلم. قرأت على الإمام الفقيه يوسف بن عمر الحنفي رحمه الله تعالى، عن أبي عمرو عثمان بن أبي حامد محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، أخبرنا الإمام أبو الفضل محمد بن يوسف بن علي الغزنوي، أخبرنا الإمام أبو المعالي أحمد بن علي بن علي السمين، أنبأنا المبارك بن عبد الجبار الصيرفي، أخبرنا أبو بكر محمد بن علي الخياط، أخبرنا أبو عبد الله بن دوست العلاف، أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي، أخبرنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدَّثنا أبو محمد الأزدي، حدثني شعيب بن راشد، عن عمرو بن خالد، عن أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان قال: «عادني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: شفى الله سقمك، وغفر ذنبك، وعافاك في دينك وجسدك إلى مدة أجلك».وأم سليم: «قالت: مرضت، فعادني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقال: أبشري يا أم سليم، فإنك إن تخلصي من وجعك هذا تخلصين منه كما يخلص الحديد من النار من خبثه»، ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب «المرض والكفارات» من حديث جعفر بن سليمان، عن أبي يسار القَسْمَلي، حدَّثنا جبلة بن أبي سليمان عنها. وجابر بن عَتيك عند أبي داود: «عاد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عبد الله بن ثابت» الحديث. وأبو أيوب: قال: «عاد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلًا من الأنصار فأكب عليه فسأله» الحديث. وعثمان ?: قال: «دخل عليَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعودني وأنا مريض، فقال: أعيذك بالله الأحد الصمد» الحديث، وسنده جيد. وفاطمة الخزاعية: قالت: «عاد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم امرأة من الأنصار، فقال: كيف تجدينك؟ قالت: بخير» الحديث. وكعب بن مالك: «من عاد مريضًا خاض في الرحمة، فإذا جلس استنقع فيها»، في سنده أبو مِعشَر نَجيح.
(2/19)
وعائشة: قال [31/أ] %ج 2 ص 266%رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «العيادة سنة عودوا غِبًّا، فإن أغمي على مريض فحتى يفيق» رواه سيف في كتاب «الردة» عن سعيد بن عبد الله، عن عبيد الله بن عبيد، عن أبيه، عنها. وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده: «من عاد مريضًا فلا يزال في الرحمة» الحديث. وعمر بن الخطاب: قال: «يا رسول الله! ما لنا من الأجر في عيادة [المريض]؟ فقال: إن العبد إذا عاد المريض خاض في الرحمة إلى حَقْوَيْهِ».أخبرنا به الشيخ تقي الدين الإسنوي قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الدائم قراءة عليه، أخبرنا أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي، أخبرنا الإمام أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني، أخبرنا عبد الرزاق بن عبد الكريم، أخبرنا أبو بكر بن مردويه، حدَّثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم، حدَّثنا عبد الله بن مليح البخاري، حدَّثنا أسباط بن اليسع، حدَّثنا حفص بن داود الرِّبْعي، حدَّثنا عبد الواحد بن عبد الملك البخاري، حدَّثنا عباد بن كثير، عن ثابت، عن أنس بن مالك، عنه وعثمان بن أبي العاص: «جاءني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعودني من وجع اشتد بي» الحديث. وأبو عبيدة بن الجراح: «من عاد مريضًا أو أماط أذى من الطريق فحسنته بعشر أمثالها»، رواه ابن أبي شبة في «المصنف».قال الداودي: اتباع الجنائز يحمله بعض الناس عن بعض، وهو واجب على ذي القرابة الخاصة والجار، وكذا في عيادة المريض. قال ابن التين: لا أعلم أحدًا من الفقهاء ذكر هذه التفرقة إلا أن يريد بقوله واجب التأكيد، والذي يقوله غيره أنه أمر ندب، وعند الجمهور من فروض الكفاية. وقال ابن قدامة: سنة، وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يصلي عليها ثم ينصرف، قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك، وقال أبو داود: [رأيت أحمد] ما لا أحصي صلى على الجنازة، ولم يتبعها إلى القبر، ولم يستأذن.
(2/20)
الثاني: يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن، لحديث: «ومن شهدها حتى تدفن».الثالث: أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له، ويسأل له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، كذا روي عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما ذكره رواه أبو داود، وروي عن ابن عمر: «أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن [31/ب] %ج 2 ص 267%أول البقرة وخاتمتها. ومن آداب العيادة: أن لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاثة أيام؛ لحديث مسلمة بن علي عند ابن ماجه حدَّثنا ابن جريج، عن حميد، عن أنس: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث».وأن يسرع القيام؛ لما روى عمر بن عبيد عن شيخ من البصرة عن سعيد بن المسيب قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أفضل العيادة سرعة القيام».وأن العيادة أول مرة سنة، وما زاد فنافلة، قاله ابن عباس عند ابن أبي الدنيا. وأن يعوده على وضوء، ذكره أبو داود من حديث أنس.1240 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حدَّثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ». [خ¦1240] تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أخبرنا مَعْمَرٌ، وَرَوَاهُ سَلاَمَةُ، عَنْ عُقَيْلٍ. زاد مسلم: «وينصح له إذا غاب أو شهد، وإذا استنصحك فانصحه».ومن حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث»، وأعله بروح بن غُطيف. وعند ابن شاهين من رواية عباد بن كثير، أخبرني ابن لأبي أيوب، حدثني أبي، عن جدي، وحدثني به أبي عن أنس: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا فقد الرجل انتظره ثلاثة أيام، ثم يسأل عنه، فإن كان مريضًا عاده».
(2/21)
وعند أبي القاسم من رواية عباد عن ثابت عن أنس نحوه. وفي «الإحياء» للغزالي: قال بعضهم: عيادة المريض بعد ثلاث. وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب «المرض» أن هذا مروي عن النعمان بن أبي عياش الزرقي. ومتابعة معمر، رواها مسلم عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ومحمد، هذا هو الذُّهْلي، نص عليه غير واحد. وقوله: (حَقُّ المُسْلِمِ): لفظة (حَقُّ) تقتضي الوجوب حيث وقعت، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من حق الإبل أن تحلب على الماء»، أي أن ذلك حق المواساة لا أن ذلك فرض لاتفاق أئمة الفتوى على أنه لا حق في المال سوى الزكاة. وقال أبو هريرة: «حق على المسلم أن يغتسل%ج 2 ص 268%يوم الجمعة، وأن يستاك، وأن يمس من طيب أهله»، وليس شيء من ذلك عنده فرضًا. ولا بد في اتباع الجنائز منية، فلو مشى في حاجة لم يكن متبعها. قالوا: ولا بأس بحضور القاضي الجائر. ويحضر العبد وإن كان ... تعطيل منافع السيد. وفي «التهذيب» للبرادعي: تتبع المرأة جنازة ولدها ووالدها وزوجها وأختها، ويكره أن تتبع غير هؤلاء؛ لحديث فاطمة رضي الله عنها من عند ابن حبان: «لو بلغت معهم الكُدى» الحديث. بقية حكم الحديث يأتي في كتاب المرض. بَابُ الدُّخُولِ عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ المَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ
(2/22)
1241 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أخبرنا عَبْدُ اللهِّ، أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: «أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللهِّ، لاَ يَجْمَعُ اللهُّ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا المَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا». [خ¦1241] قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ، وَعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى، [فَقَالَ: اجْلِسْ، فَأَبَى]، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ، فَمَالَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّه تعالى فَإِنَّ اللَّه حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللهُّ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} إِلَى {الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. وَاللهِّ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ ?، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا. كذا هذا الحديث في جميع نسخ البخاري التي رأيت، وكذا ذكر في المستخرجين هنا. وفي كتاب «المغازي»: ابنُ شهاب، عن أبي سلمة عنها.
(2/23)
وذكره الحُميدي في كتاب «الجمع بين الصحيحين» من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فقط. وكذا ذكره الحافظ أبو عبد الله محمد بن حسين المعروف بابن أبي أحد عشر في كتابه «الجمع بين الصحيحين»، فقال: باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه وتقبيله، البخاري: حدَّثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني سليمان بن بلال، عن هشام، قال: أخبرني عروة، عن عائشة فذكره، وفيه نظر؟ من حيث إن البخاري لم يخرج%ج 2 ص 269%هذا الحديث في هذا الباب كما ذكره؛ إنما خرجه في فضل أبي بكر بطوله، وهو الذي ساقه الحُميدي، لكنه لم يذكره من رواية أبي سلمة، والله تعالى أعلم. وروينا عن الحسن بن عرفة، حدَّثنا عُبيس بن مرحوم، عن أبي عمران الجَوني، عن يزيد بن بابَنوس، عن عائشة: «أن أبا بكر دخل على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاته، ووضع يده على صدغه وقال: «وانبياه، واخليلاه، واصفياه».قولها: (مُسُجَّى)، أي مغطى. و (الحِبَرَة): على وزن عنبة، من اليمن موشى، وقال الداودي: هو ثوب أخضر. وكأن أبا بكر في تقبيله النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يفعله إلا قدوة به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لما روى الترمذي مصححًا: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فأكب عليه فقبله، ثم بكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه».وفي «التمهيد»: «لما توفي كشف النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الثوب عن وجهه، وبكى بكاء طويلًا، وقبل بين عينيه، فلما رفع على السرير قال: طوبى لك يا عثمان، لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها».وفي النسائي: «قبل أبو بكر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومئذ بين عينيه»، بسند صحيح. وقوله: (لاَ يَجْمَعُ اللهُّ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ) قال الداودي: لم يجمع الله عليك شدة بعد هذا الموت؛ لأن الله تعالى قد عصمك من أهوال القيامة. قال: وقيل: لا يموت موتة أخرى في قبره كما يحيى غيره في القبر فيسأل ثم يقبض.
(2/24)
وقال ابن التين: أراد بذلك قول من قال: لم يمت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقيل: أراد موته وموت شريعته، يدل عليه قوله: (فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا).وهذه من المسائل التي ظهر فيها ثاقب رأي أبي بكر، وبارع فهمه، وحسن انتزاعه من القرآن، وثبات نفسه، وكذلك كانت مكانته عند الأمة لا يساويه فيها أحد، ألا ترى حين تكلم مال الناس إليه وتركوا غيره من المتكلمين، وذلك لما رأوا من فعل نبيهم به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعظيم منزلته عنده. وقول عمر: «إن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يمت»، تأول ذلك في قوله عز وجل: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، وظن أنه يبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، وأن الله%ج 2 ص 270%تعالى من علينا وعليهم بطول حياته، ذكره الطبري عن ابن عباس أن عمر قال ذلك له. وقول أبي بكر لعمر: (اِجْلِسْ) لأن الإنسان إذا كان في شدة غيظه قائمًا فيجلس ليسكن غيظه عنه، وإن كان قاعدًا فليقم، جاء ذلك في حديث، وكان عمر إذ ذاك في شدة دهشه وحزنه، ووفق الله تعالى أبا بكر لقراءته الآية الكريمة. وكانت غيبة أبي بكر يومئذ لأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان ذلك اليوم صالحًا، أو لأنه كان مشتغلًا بالتجهيز مع أسامة.
(2/25)
1243 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ أُمَّ العَلاَءِ، امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: «اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللهِّ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ: لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُّ، فَقَالَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّه أَكْرَمَهُ؟ قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِّ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللهُّ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، وَاللهِّ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ، وَاللهِّ مَا أَدْرِي، وَأَنَا رَسُولُ اللهِّ، مَاذا يُفْعَلُ بي. قَالَتْ: فَوَاللهِّ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا». [خ¦1243] وفي كتاب الهجرة والتعبير: «قالت أم العلاء ذلك: فَنِمْتُ، فأُريت لعثمان عينًا تجري، فجئت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبرته، فقال: ذاك عمله يجري له» انتهى. وقال يحيى بن بكير: قال الليث: قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا قبل أن تزل عليه سورة الفتح، وذلك أن عثمان توفي في أول مقدمهم المدينة. وزعم الطبراني أن أم العلاء هذه امرأة زيد بن ثابت، وزعم ابن الأثير أن المرأة المقول لها: «وما يدريك؟» هي أم السائب زوجة عثمان، وقيل: أم العلاء الأنصارية، وقيل: أم خارجة بن زيد.
(2/26)
قال: روى يوسف بن مِهران عن ابن عباس: «لما مات عثمان قالت زوجته: هنيئًا لك الجنة، فنظر إليها رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نظر المُغْضَبِ وقال: ما يدريك؟ فقالت: يا رسول الله! فارسك وصاحبك، فقال» الحديث، فيحتمل أن يكون كلٌّ منهما قالت ذلك، والنسخ في هذا بيِّن؛ لأن سورة الأحقاف ... : {وَمَا أَدْرِي%ج 2 ص 271%مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] مكية، وسورة الفتح مدنية، أو يكون قوله لها لكونها شهدت على غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، أو يكون قبل أن تخبر أن أهل بدر من أهل الجنة. قال: المهلب: في هذا أنه لا يُقْطَعُ على أحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، ولكن يرجى للمحسن ويخاف على غيره. وزعم بعضهم أن هذا يعارض قوله في أبي جابر في الحديث الذي بعد هذا: «ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه»، ولا تعارض بينهما؛ لأن هذا إخبار من لا ينطق عن الهوى، وذاك كلام أم العلاء وليسا بالسواء. وقولها: (اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ) لأن المهاجرين لما هاجروا إلى المدينة لم يمكنهم استصحاب أموالهم فدخلوا المدينة فقراء، فاقتسمتهم الأنصار بالقرعة في نزولهم عليهم وسكناهم في منازلهم. وقولها: (فَطَارَ لَنَا) أي حصل وقدر في نصيبنا وسهمنا. وقولها: (غُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) هذا مع ما قدمناه من حديث عائشة: «أنه أكبَّ عليه فقبَّله»، موافق لما ترجم البخاري به. وقوله: (مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بي) قال الداودي وغيره: قد روي في هذا الحديث: «ما يفعل به» وهو الصواب. قال ابن الجوزي: على الرواية الأولى يكون المعنى: لا أدري ما يجري عليَّ في الدنيا من قتل أو جرح وغير ذلك، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين غير أنه لا ينطبق على المراد بالحديث إلا أن يكون ذكره من جنس المعاريض.
(2/27)
أو يكون المراد: يرجع إلى أمر الآخرة، قال ابن عباس: «لما نزلت هذه الآية نزل بعدها: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].قال البخاري: وَقَالَ نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ: «مَا يُفْعَلُ بِهِ». وَتَابَعَهُ شُعَيْبٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَمَعْمَرٌ. انتهى. قول نافع رواه الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا، حدَّثنا الحسن بن عبد العزيز الجردي، حدَّثنا عبد الله بن يحيى المعافري، حدَّثنا نافع بن يزيد، عن عُقيل به. ومتابعة شعيب: ذكرها البخاري مسندة في الشهادات. ومعمر: ذكرها أيضًا مسندة في التعبير.1244 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدَّثنا غُنْدَرٌ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدَ بْنَ المُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ%ج 2 ص 272%: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي، وَيَنْهَوْنِي، وَالنَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لاَ يَنْهَانِي، وَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «تَبْكِينَ أَوْ لاَ تَبْكِينَ، مَا زَالَتِ المَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ». [خ¦1244] قال البخاري: تَابَعَهُ ابْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرًا. انتهى. هذه المتابعة لينفي ما وقع في نسخة ابن ماهان في «صحيح مسلم» عن عبد الكريم، عن محمد بن علي بن حسين عن جابر ... محمد بن المنكدر، فبيَّنَ البخاري أن الصواب ابن المنكدر، كما رواه شعبة، وشيده برواية أبي بكر بن عياش. وقول جابر: (فَجَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ) وقول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه الدخول على الميت الذي بوَّب له البخاري. وقتل عبد الله كان يوم أحد، وكان المشركون مثلوا به، جدعوا أنفه وأذنيه. وعمته اسمها فاطمة.
(2/28)
وقولها: (تَبْكِينَ) وفي موضع آخر: «لم تبكي، أو لا تبكي»، قال القرطبي: قد صحت الرواية بـ «لم» التي للاستفهام، وفي مسلم: «تبكي» بغير نون؛ لأنه استفهام لمخاطب عن فعل غائبة. قال القرطبي: ولو خاطبها بالاستفهام خطاب الحاضرة قال: لِمَ تبكين بالنون، وفي رواية: «تبكيه أو لا تبكيه» وهو إخبار عن غائبة، ولو كان خطاب الحاضرة لقال: تبكينه أو لا تبكينه بنون فعل الواحدة الحاضرة. ومعنى هذا: أن عبد الله مكرم عند الملائكة صلى الله عليهم وسلم، وإظلاله بأجنحتها لاجتماعهم عليه، وتزاحمهم على المبادرة بصعود روحه ?، وتبشيره بما أعد الله له من الكرامة، أو أنهم أظلوه من الحر لئلا يتغير، أو لأنه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وروى بقي بن مخلد عن جابر: «لقيني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ألا أبشرك أن الله أحيا أباك وكلمة كفاحًا، وما كلم أحدًا قط إلا من وراء حجاب» الحديث. وفيه: فضيلة عظيمة له لم تسمع لغيره من الشهداء في دار الدنيا. وهذا القول يرد قول جماعة من الشكاكة؛ لأنهم قالوا: هذا العموم يلزم منه دخول جميع الناس كلهم فيه في الآخرة. و (السُّنُحِ): بسين مهملة مضمومة، ونون مثلها، ثم حاء مهملة، وهي منازل بني الحرث بن الخزرج، وبينها وبين منزل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ميل. وزعم ابن قَرقُول: أن أبا ذر كان يقوله بإسكان النون، والله أعلم. [بَابُ] الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَى أَهْلِ المَيِّتِ بِنَفْسِهِقال المهلب: الصواب أن يقول: باب الرجل ينعى إلى الناس الميتَ بنفسه.1245 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حدَّثنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا».
(2/29)
[خ¦1245] وفي موضع آخر: «نعى لنا النجاشي صاحب الحبشة اليوم الذي مات فيه، فقال: استغفروا لأخيكم».هذا الحديث خرجه الستة في كتبهم. وقال أبو عمر: روى مكي بن إبراهيم وحُباب بن جبلة هذا الحديث عن مالك فقالا: عن نافع عن ابن عمر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كبر على النجاشي أربعًا»، قال: ولا أعلم أحدًا حدث به كذا عن مالك غيرهما. وروى عن أبي يعلى الموصلي قال: سمعت سهل بن زَنْجَلَة الرازي يسأل ابن أبي سَمينة عن حديث ابن عمر هذا فقال: منكر. قال الدارقطني: ورواه عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن سعيد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل مرسلًا، لم يذكر أبا هريرة. وزعم أيضًا أن عثمان بن صالح رواه عن ابن لهيعة عن عُقيل عن الزهري عن سعيد، وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة، قال: ولم يتابع على هذا القول. وروى من حديث زَمْعة بن صالح، حدَّثنا ابن شهاب ويحيى بن سعيد عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: «أصبحنا ذات يوم عند رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إن أخاكم أصحمة النجاشي الحبشي قد توفي فصلوا عليه، فوثب ووثبنا معه، حتى جاء المُصلَّى، فقام وصففنا وراءه فكبر أربع تكبيرات».وقال: خالفه عبد الله بن عبد العزيز الليثي فرواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب عن عمر بن الخطاب ?: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى على النجاشي فكبر أربعًا».وقال ابن أبي حاتم: سألت أبا زُرْعة عن حديث رواه مكي عن مالك عن نافع عن ابن عمر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كبر على النجاشي أربعًا؟» قال: هذا خطأ. وفي «الواضحة» لابن حبيب عن مُطَرِّف عن مالك عن ابن شهاب عن ابن المسيب: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نعى النجاشي»، وفيه: «وكبر أربع تكبيرات وسلم».
(2/30)
قال أبو عمر: وهذا غير معروف%ج 2 ص 274%في هذا الحديث عن مالك من رواية مطرف وغيره، وإنما آخر الحديث عن أصحاب ابن شهاب مالك وغيره: «فكبر أربع تكبيرات»، إلا أنه لا خلاف علمته بين العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفقهاء في السلام من صلاة الجنازة، وإنما اختلفوا هل هي واحدة أو اثنتان؟ فجمهور العلماء على تسليمة واحدة، وهو أحد قولي الشافعي، وقالت طائفة: تسليمتين، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وهو قول الشعبي، ورواية عن إبراهيم، وممن رُوِيَ عنه واحدة: عمر وابنه وعلي وابن عباس وأبو هريرة وجابر وأنس وابن أبي أوفى وواثلة وسعيد بن جبير وعطاء وجابر بن زيد وابن سيرين والحسن ومكحول وإبراهيم في رواية. وفي «المستدرك» من حديث أبي أمامة بن سهل أخبره رجال من الصحابة في الصلاة على الجنازة: «يكبر الإمام، ثم يصلي على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث، ثم يسلم تسليمًا خفيًا حين ينصرف، والسنة أن يفعل من ورائه مثل ما فعل أمامه»، وقال: صحيح على شرطهما، وليس في التسليمة على الجنازة أصح منه. وشاهده حديث أبي هريرة: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى على جنازة فكبر أربعًا».ويسلم تسليمة، فأما التسليمة الواحدة على الجنازة فقد صحت الرواية فيها عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة وابن أبي أوفى أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة، وسيأتي شيء من هذا في باب سنة الصلاة. وعن جابر: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى على النجاشي فكبر أربعًا»، روياه في كتابيهما. وعن عمران: «أن أخًا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه، يعني النجاشي»، رواه مسلم.
(2/31)
وفي كتاب ابن ماجه بسند يحسنه الترمذي ويصححه ابن خزيمة عن إبراهيم بن المنذر، عن إبراهيم بن علي الرافعي - القائل فيه ابن معين: لا بأس به، والمخرج حديثه في «صحيح الحاكم» - عن كثير بن عبد الله بن عوف، عن أبيه، عن جده: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كبر على النجاشي خمسًا».وشاهده من عند ابن أبي شيبة من حديث مولى لحذيفة عنه: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كبر على جنازة خمسًا».وشاهده أيضًا حديث زيد بن أرقم من عند مسلم. وفي ابن ماجه بسند جيد عن أبي الطفيل عن أبي حارثة أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه».وبسند جيد أيضًا عن المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أبي الطفيل، عن%ج 2 ص 275%حذيفة بن أسيد: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خرج بهم فقال: صلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: من هو؟ قال: النجاشي».وعند الجُوزَقاني من حديث سعيد بن المرزبان عن أنس: «كبر على النجاشي خمسًا»، وضعفه به. وعند ابن أبي شيبة بسند لا بأس به عن جرير قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا علي، فاستغفروا له».وعن سلمة بن الأكوع قال: «صلى بنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصبح ثم قال: إن النجاشي قد مات هذه الساعة، فاخرجوا بنا إلى المصلى، فصلى عليه بالبقيع»، ذكره السهيلي. وعن أنس: «لما جاءت وفاة النجاشي إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قام وقمنا معه، فصلى عليه، فقالوا: صلى على عِلْجٍ مات! فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199]. الآية»، ذكره أبو عمر في «الاستذكار». (النَّجَاشِيُّ): والنجاشي كلمة للحبش، تسمي بها ملوكها، قال ابن قتيبة: هو بالنبطية، ذكره ابن سيده.
(2/32)
وفي «الجامع» للقزاز: أما النِّجاشي بكسر النون فيجوز أن يكون من نجش، أوقد كأنه يطريه ويوقد فيه، قاله قُطْرُب، وكذا ذكره في «الواعي».وفي «الجمهرة»: أما النجاشي فكلمة حبشية يسمون ملوكهم بها. وفي «الفصيح» لأبي عمر غلام ثعلب: النجاشي بالفتح، وفي «المعلم المشهور» لأبي الخطاب، مشدَّد الياء، قالوا: والصواب تخفيفها. وفي «المثنى» لابن عُديس: النجاشي والنجاشي، بالفتح والكسر المستخرج للشيء، والنجاشي بالكسر كلمة للحبش تسمي به ملوكها. وفي «سير ابن إسحاق»: اسمه أصحمة، ومعناه عطية. وقال أبو الفرج: في كتاب مسلم وغيره أصحمة بن أبجر، بفتح الهمزة وسكون الصاد وفتح الحاء المهملتين. قال: ووقع في «مسند ابن أبي شيبة» في هذا الحديث تسميته صحمة، بفتح الصاد وإسكان الحاء، وقال: هكذا قال لنا يزيد بن هارون، وإنما هو صمحة، بتقديم الميم على الحاء، قال: وهذان شاذان. انتهى. أخبرني غير واحد من نبلاء الحبشة أنهم لا ينطقون بالحاء على صرافها، وإنما يقولون في اسم الملك: أصمخة، بتقديم الميم على الخاء المعجمة، وذكر السهيلي أن اسم أبيه: بجري، يعني بغير همزة. وذكر مقاتل بن سليمان في كتابه «نوادر التفسير» الذي قرأته على الإمام نور الدين بن الصلاح، عن الإمام أبي عبد الله محمد بن خاص، بَلْه عن الإمام أبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي، قال: أخبرنا الإمام علي بن أبي سعيد الأرحى، أخبرنا أبو الخطاب%ج 2 ص 276%محفوظ الكَلْوَاذَاني، أخبرنا أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الصَّيْرَفي، أخبرنا أبو حفص عمر بن إبراهيم الكتاني، أخبرنا أحمد بن محمد بن المؤمل الصوري، أخبرنا أبو القاسم الحسين بن ميمون المفسر، حدَّثنا أبو صالح الهذيل بن حبيب الدَّنْدَاني، عنه: اسمه مكحول بن صَصِه.
(2/33)
وفي كتاب «الطبقات» لابن سعد: لما رجع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الحديبية في ذي الحجة سنة ستٍّ أرسل إلى النجاشي سنةَ سبع في المحرم عمرَو بنَ أمية الضمري، فأخذ كتاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض تواضعًا، ثم أسلم، وكتب إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، وأنه أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وتوفي في رجب سنة تسع منصرفه من تبوك. ووقع في «صحيح مسلم»: كتب صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى النجاشي، وهو غير النجاشي الذي صلى عليه؟ وكأنه وهم من بعض الرواة، أو أنه عبر ببعض ملوك الحبشة عن الملك الكبير، أو يحمل على أنه لما توفي قام مقامه آخر فكتب إليه. والنجاشي: اسم لكل من ملك الحبشة، والمتأخرون يلقبونه الآن: الأبجري. وزعم الجاحظ أن من ملك إفريقية يلقب بجرجير. وذكر لنا الشيخ جمال الدين محمد بن محمد بن يوسف بن العلاء؛ عرف قديمًا بمحتسب غزة هاشم بسوق الكتبيين بالقاهرة: أنه قرأ على ابن واصل في تاريخه «مفرج الكروب» أن من ملك مدينة خلاط يسمى: شَومان. وقال لي الملك غياث الدين محمود الهندي - قدم علينا حاجًا في شهود سنة سبع وأربعين -: كل من مَلَكَ السندَ يُسمَّى: غور، ومن مَلَكَ الهندَ يسمى: مخفور ودهمن. وفي «الأوسط» للمسعودي وغيره: وخاقان لمن ملك الترك، وقيصر لمن ملك الروم، وتبع لمن ملك اليمن، فإن ترشح للملك سمي قَيلًا، وفرعون لمن ملك مصر والشام، فإن أضيف إليهما الإسكندرية سمي العزيز، ويقال المقوقس. وزعم القشيري في كتابه «التيسير في التفسير» أن فرعون بلغة القبط: التمساح. وقال أبو عبيدة والجاحظ: وبغيور لمن ملك الصين، والهياج لمن ملك الزنج. وقيل: فاته ورُتبيل لمن ملك الخزر، وكابُل لمن ملك النوبة، وماجد لمن ملك الصَّقالِبة، وبَطْلَيُوس لمن ملك اليونان.
(2/34)
قال ابن دحية في «فوائد المشرقين والمغربين»: جمعه بطالمة، بالميم، والفِطْيَون%ج 2 ص 277%لمن ملك اليهود، هكذا قاله ابن خُرْدَاذْبُهْ، والمعروف: مالخ، ثم رأس الجالوت، والنمروذ: لمن ملك الصابئة، وكسرى: لمن ملك العجم، والإخشيد لمن ملك فَرْغانة، والنعمان: لمن ملك العرب من قِبَلِ العجم، وجالوت: لمن ملك البربر. وهذا الحديث يتضمن أمورًا: الأول: عدد التكبير والصلاة على القبر، وسيأتي ذكرهما في باب التكبير على الجنازة وسنة الصلاة عليها، والصلاة في المسجد، وسيأتي في بابه. وأما الصلاة على الغائب: قال أبو عمر: أكثر أهل العلم يقولون: إن ذلك مخصوص بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأجاز بعضهم الصلاة على الغائب إذا كان في اليوم الذي دفن فيه أو قرب ذلك، ودليل الخصوص في هذه المسألة واضحة لا يجوز أن يشترك فيها مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحد؛ لأنه أحضر روح النجاشي بين يديه فصلى عليه، أو رفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس، وقد روي أن جبريل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاه بروح جعفر أو بجنازته، وقال: قم فصل عليه، وهذا وما كان مثله يدل على الخصوصية. قال المهلب: ومما يدل على الخصوصية أنه لم يصلِّ على أحد من المسلمين ومتقدمي الأنصار والمهاجرين الذين ماتوا في أقطار البلدان، وعلى هذا جرى عمل المسلمين؛ لأن الصلاة عليها من فروض الكفاية يقوم بها من صلى على الميت في البلد الذي يموت بها، و لم يكن بحضرة النجاشي مسلم يصلي عليه.
(2/35)
وأما قول الحسن الذي رواه عنه في «المصنف» عن حفص عن أشعث عنه: «إنما دعا له» يعني: ولم يصلِّ، وكأنه استند إلى ما سلف عند البخاري، وإلى ما حديث جرير السابق: «أن النجاشي قد مات فاستغفروا» فيشبه أن يكون غير جيد؛ لأن الرواة ذكروا الصلاة والتكبير والصفوف، فيحمل الاستغفار على أنه قاله بعد صلاته عليه، وقد روى موسى بن عبيدة الرَّبَذي: «أن جبريل رفع إلى النبي صلى الله عليهما وسلم أصحمة حتى رآه وصلى عليه».ومنع أبو حنيفة ومالك الصلاة على الغائب. وأجازها الشافعي وأحمد بن حنبل، وفي رواية عنه كقول أبي حنيفة. قال النووي: فإن كان الميت في البلد فالمذهب أنه لا يجوز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده، وقيل: يجوز. وفي الرافعي: ينبغي أن لا يكون بين الإمام والميت أكثر من مئتي ذراع أو ثلاث مئة تقريبًا، واستدل%ج 2 ص 278%بقوله: «خرج إلى المصلى»، على أن الجنازة لا يصلى عليها في المسجد؛ لأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبر بموته في المسجد، وخرج بالمسلمين إلى المصلى. ويستدل به أيضًا على إباحة النعي، وهو بفتح النون وكسر العين المهملة وتشديد الياء، وقيل: بسكون العين وتخفيف الياء، لغتان، والتشديد أشهر، كذا ذكره النووي، والذي في «المحكم» النعي الدعاء بموت الميت والإشعار به، نعاه ينعاه نعيًا ونُعيانًا، والنعي المنعي والناعي، قال: قام النعيُّ فأَسْمَعا ونَعى الكريمَ الأَرْوَعاوفي «الصحاح»: النعي خبر الموت، وكذلك النعي، على فَعيل. وفي «الواعي»: النعي على فَعيل، هو نداء الناعي، والنعي أيضًا هو الرجل الذي ينعى، والنعي الرجل الميت، والنعي الفعل، ويجوز أن يجمع النعي نعايا، مثل: صفا وصفايا، وبنحوه ذكره الهَروي وغيره. وجاء في كراهة النعي حديث حذيفة المحسَّن عند الترمذي: «إذا مت فلا تؤذوا بي أحدًا، إني أخاف أن يكون نعيًا، فإني سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهى عن النعي».
(2/36)
وعن ابن مسعود قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إياكم والنعي، فإن النعي من عمل الجاهلية»، قال عبد الله: والنعي أذان بالميت، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. قال البيهقي: ويروى النهي أيضًا عن ابن عمر وأبي سعيد وسعيد بن المسيب وعلقمة وإبراهيم النخعي والربيع بن خُثيم. وفي «المصنف»: وأبي وائل وأبي ميسرة وعلي بن الحسين وسويد بن غفلة ومُطرِّف بن عبد الله ونصر بن عمران أبي جمرة. ويجاب عن حديث النجاشي أنه لم يكن نعيًا؛ إنما كان مجرد إخبار بموته، فسُمِّيَ نعيًا لتشبهه به في كونه إعلامًا، وكذا القول في جعفر بن أبي طالب وأصحابه. وأما قول ابن بطال: إنما نعى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النجاشي وصلى عليه لأنه كان عند بعض الناس على غير الإسلام فأراد إعلامهم بصحة إسلامه؛ فغير جيد؛ لنعيه جعفرًا وأصحابه. وحمل بعضهم النهي على نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وشبهها. وأيضًا فحذيفة لم يجزم بكون الإعلام نعيًا، إنما قال: «أخاف أن يكون نعيًا».وقال ابن عبد البر: الإعلام بالجنازة أقوى من حديث حذيفة، وقد أجمعوا أن شهود%ج 2 ص 279%الجنائز خير، وأجمعوا أن الدعاء إلى الخير من الخير، وكان أبو هريرة ? يمر بالمجالس فيقول: «إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته».فإن قيل: إن ابن عمر كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس ثم خرج به؟ قيل: قد روي عنه خلاف ذلك في جنازة رافع بن خَديج، وقالوا له: أرسلنا إلى قباء ليشهدوا جنازته، قال: نعم ما رأيتم. وفي «المهذب» لأبي إسحاق: يكره نعي الميت والنداء عليه للصلاة وغيرها، وذكر الصيدلاني وجهًا أنه لا يكره، وقيل: لا يستحب، وقال بعضهم: يستحب ذلك للغريب لا لغيره، وبه قال ابن عمر، وقال ابن الصبَّاغ: يكره النداء ولا بأس بتعريف أصدقاءه به، وهو قول أحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: لا بأس به.
(2/37)
بَابُ الإِذْنِ بِالجَنَازَةِوَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَلاَ آذَنْتُمُونِي».هذا التعليق تقدم مسندًا في باب: كنس المسجد.1247 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حدَّثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعُودُهُ، فَمَاتَ بالمدينة، فَدَفَنُوهُ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي؟ قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ وَكَانَتِ الظُلْمَةُ، فَكَرِهْنَا أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ». [خ¦1247] وفي لفظ: «أتى على قبر منبوذ، فصفهم وكبر أربعًا».وفي لفظ: «فصفَّنا خلفَه، قال ابن عباس: وأنا فيهم».وفي لفظ: «دفن، أو دفنت البارحة». (أَبُو مُعَاوِيَةَ): روى عنه المحمدان، ابن المثنى وابن سلام شيخا البخاري. ولما ذكر البيهقي هذا الحديث من جهة شعبة وجرير وابن إدريس عن الشَّيْباني قال: هذا حديث رواه الثوري وعبد الواحد بن زياد وزائدة بن قدامة وأبو معاوية وهشيم وغيرهم عن أبي إسحاق نحو رواية هؤلاء، وخالفهم هُريم بن سفيان، فرواه عن الشعبي فقال: «بعد موته بثلاث»، قال: وروي عن إسماعيل بن زكريا عن الشَّيْباني فقال: «صلى على قبر بعد ما دفن بليلتين».ورواه بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان عن الشيباني: «صلى على قبر بعد%ج 2 ص 280%شهر».وقال الدارقطني: تفرد بهذا بشر بن آدم، وخالفه غيره عن أبي عاصم، وهو العباس بن محمد فقال: «صلى على قبر بعد ما دفن».قال: وكذلك رواه وكيع وعبد الرزاق والفِرْيابي والجماعة عن سفيان.
(2/38)
قال البيهقي: وقد رويناه عن إسماعيل بن أبي خالد وأبي حسين عن الشعبي دون هذه الزيادة، وروى إبراهيم بن طَهْمان عن أبي إسحاق عن عامر عن ابن عباس قال: «كنت مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ مر بقبر حديث عهد بدفن فقال: من هذا؟ قالوا: فلان، قال: فنزل فصف أصحابه خلفه فصلى عليه وأنا فيمن صلى».قال البيهقي: وروي في ذلك عن أبي هريرة وأنس، قال: وروى في هذا عن يزيد بن ثابت أخي زيد، قال: «خرجنا مع النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى البقيع، فرأى قبرًا جديدًا، فسأل عنه، فذكر له، فعرفه، فقال: ألا آذنتموني؟ قيل: يا رسول الله! كنت قائلًا فكرهنا أن نؤذيك، قال: لا تفعلوا، لا أعرفن ما مات منكم ميت ما دمت بين أظهركم إلا آذنتموني، فإن صلاتي عليهم رحمة، ثم أتى القبر فصلى عليه وكبر أربعًا». انتهى. هذا الحديث خرجه ابن حبان في «صحيحه» من رواية عثمان بن حكيم عن خارجة بن زيد عن عمه يزيد، وهو يحتاج إلى تأمل؟ فإن يزيد بإجماع استشهد باليمامة سنة ثنتي عشرة، وخارجة توفي سنة مئة وسنه سبعون سنة، فأنى له السماع منه، أو إدراك زمنه؟ لكن ذكر شيخنا العلامة أبو محمد ... في كتابه «أنساب الخزرج» أن خارجة روى عن أبيه عن أخيه هذا الحديث من غير أن يذكر له إسنادًا، وعلى تقدير أن يُذكر سنده لا يخلص ابن حبان؛ لأنه لم يذكره إلا بإسقاط زيد من السند، وقد تقدم في كنس المسجد فينظر. قال البيهقي: وروي فيه عن عامر بن ربيعة وبُريدة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثم ذكر من حديث سعيد بن سنان عن علقمة عن ابن بُريدة عن أبيه: مر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قبر جديد فقال: من هذا؟ فقال أبو بكر: هذه أم مِحْجَن، وكانت مولعة بلقط القذى من المسجد، قال: فصف أصحابه فصلى عليها.
(2/39)
ومن جهة الأوزاعي، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، أن بعض الصحابة أخبره: «أن مسكينة من أهل العَوالي طال سقمها، فكان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسأل عنها, وأمرهم أن لا يدفنوها حتى يؤذنوه، فتوفيت ليلًا فاحتملوها، فأتوا بها مع الجنائز، فوجدوه قد نام بعد صلاة العشاء، فصلوا عليها، فلما أصبح سأل عنها، فأُخبر، فقال: انطلقوا، فانطلقوا حتى قاموا على قبرها، فصفوا وراءه كما يصف للصلاة%ج 2 ص 281%على الجنائز، فصلى عليها وكبر أربعًا».ذكر ابن حبان في كتاب «الصحابة» أن اسمها: الخرقاء، وكانت سوداء. وعن سعيد بن المسيب: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى على أم سعد بعد موتها بشهر»، ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: وهو مرسل صحيح. ورواه سويد عن يزيد بن زُريع عن شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس موصولًا بلفظ: «لو صليت على أم سعد؟ فصلى عليها وقد أتى لها شهر، وكان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غائبًا»، وقال: ينفرد به سويد بن سعيد، والمشهور عن قتادة عن سعيد مرسلًا. وقد حكى أبو داود عن أحمد بن حنبل، وذكر حديث سويد هذا: لا يحدث بمثل هذا. وروى من حديث سعيد بن قتادة: «أن البراء بن مَعْرور قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلما حضرته الوفاة أوصى بثلث ماله للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأوصى أن يوجه إلى القبلة، فقدم النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينة بعد سنة، فصلى عليه هو وأصحابه».قال: كذا وجدته في كتابي، والصواب: «بعد شهر».قال: وهو مرسل. قال: ورويناه عن الدراوَرْدي عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن أبيه موصولًا دون التأقيت. حديث الدَّرَاوردي خرجه الحاكم وقال: صحيح، ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غير هذا الحديث.
(2/40)
وذكر السهيلي أنه قد روي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنه صلى على قبر بعد ما دفن»، عن سهل بن حُنيف وعبادة بن الصامت، قال: وحديثه مرسل. انتهى. ورواه أيضًا عقبة بن عامر وحديثه عند البخاري: «صلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات».وعند أبي داود: «صلاته على الميت».وأبو سعيد الخدري: وحديثه عند ابن ماجه من حديث ابن لهيعة: «صلى على قبر مسكينة، فكبر والناس من خلفه».وعمران بن حصين: ذكره الطبراني في «الأوسط» عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، حدَّثنا بشر، عن يونس بن عبيدة، عن محمد بن سيرين، عن أبي المهلب، عن أبي قِلابة، عنه، وقال: لم يروه عن يونس عن محمد%ج 2 ص 282%إلا بشر بن المفضل وعبد الله بن عمر، وقال: لم يروه عن نافع إلا فُليح بن سليمان، تفرد به الحسن بن محمد بن أعين. قال البيهقي: رواه أيوب، عن نافع قال: «قدم ابن عمر بعد وفاة عاصم بن عمر بثلاث، فأتى قبره فصلى عليه».وروي: «أن عبد الرحمن بن أبي بكر دفن بمكة فقدمت عائشة فصلت على قبره وذلك بعد شهر».وعند ابن التين من حديث جابر: «لما دُفِنَ الرجل ليلًا نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يدفن أحد ليلًا حتى يصلى عليه»، قال: وهذا دليل أنه دفن بغير صلاة. قال الداودي: يحتمل أن يكون سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نوى الصلاة عليه واعتقدها فأراد أن يفي بما نوى. وفي «المصنف» عن القاسم: «صلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ميت بعد ما دفن»، و «أمر علي بن أبي طالب قَرَظَة بن كعب بالصلاة على قبر»، وسندهما صحيح. و «أمر ابن مسعود سلمان بن ربيعة بذلك»، وسنده صحيح. وعن يحيى بن أبي كثير أنه بلغه: «أن أنسًا صلى على جنازة بعد أن صلى عليها»، وكذا فعله أبو موسى وبشير بن كعب، وسنده لا بأس به. وأمر ابن سيرين بالصلاة على القبر، وكرهه إبراهيم النخعي والحسن، والسند إليهما صالح.
(2/41)
وذكر عبد الله بن وهب في كتاب «الفتن والملاحم» من تصنيفه: أخبرنا مسلمة بن علي وبشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: «أقبل عبد الله بن سلام إلى قبر عمر بن الخطاب فقال: إن تكن الصلاة سبقتني عليك، فلن يسبقني الثناء عليك».حدثنا يونس بن يزيد، عن زيد بن أسلم: «لما توفي عمر جاء رجل فقال: إن تكونوا سبقتمونا بالصلاة عليه» الحديث. وهذا قول أبي حنيفة ومالك والثوري، قال أبو عمر والأوزاعي والحسن بن حي والليث بن سعد، قال ابن القاسم: «قلت لمالك: فالحديث الذي جاء أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى على قبر امرأة؟ قال: قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل».وبالقول الأول قال الشافعي وعبد الله بن وهب صاحب مالك وابن عبد الحكم وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود بن علي، وسائر أصحاب الحديث. قال أحمد بن حنبل: رويت الصلاة على القبر عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ستة وجوه حسان كلها. قال أبو عمر: وقد ذكرنا من ثلاثة أوجه حسان لتتمة تسعة. وذكرت في كتاب «الزهر الباسم» سبعة آخرين رووه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لتكملة ستة عشر صحابيًا. قال أبو عمر: وأجمع الذين رأوا الصلاة على القبر جائزة أنه%ج 2 ص 283%لا يصلى عليه إلا بقرب ما يدفن، وأكثر ما قالوا في ذلك شهر. وقال أبو حنيفة: لا يصلى على قبر مرتين، إلا أن تكون الذي صلى عليها غير وليها، فيعمد وليها الصلاة عليها إن كانت لم تدفن، فإن دفنت أعادها على القبر. بَابُ فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَقَالَ اللهُّ عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].1248 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ، حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُّ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ».
(2/42)
[خ¦1248] عند النسائي: «من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة، فقامت امرأة فقالت: أو اثنان؟ قال: واثنان، قالت المرأة: يا ليتني قلت واحدًا».قال ابن قُرْقُول: ذكر الداودي أنه روي: «لم يبلغوا الخبث» أي فعل المعاصي، قال: وهذا لا يعرف، إنما هو الحنث، بالحاء المهملة والنون. و (الحِنْث): قال أبو المعالي في «المنتهى»: بلغ الغلام الحنث أي بلغ مبلغًا تجري عليه الطاعة والمعصية. وفي «المحكم»: الحنث، الحلم. وقال الإسماعيلي: يقال في البالغ احتسب، وفي الصغير افترط، وكذا ذكره في «المنتهى».قال يعقوب: احتسب فلان ابنًا أو بنتًا إذا ماتا وهما كبيران، وإن ماتا صغيران قيل: افترط، وكذا ذكره ابن التَّيَّاني وابن سيده والقزاز والأزهري في آخرين. على أن لقول البخاري وجهًا يخرج عليه وهو قول أبي المعالي وابن دريد: احتسب فلان بكذا أجرًا عند الله تعالى، فسواء على هذا أكان كبيرًا أو صغيرًا فهو قد احتسبه عند الله تعالى، وقد جاء الفَرَط أيضًا في الكبير على ما نورده بعد من الحديث.1249 - 1250 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حدَّثنا شُعْبَةُ، حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، كَانُوا لَها حِجَابًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ». [خ¦1249 - 1250] وَقَالَ شَرِيكٌ: عَن ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: «لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ».كذا ذكره هنا، وقال في كتاب العلم: وعن عبد الرحمن بن الأصبهاني سمعت أبا حازم عن أبي هريرة وقال: «ثلاثة لم يبلغوا الحنث».
(2/43)
والتعليق عن شريك رواه عنه ابن أبي شيبة عنه: حدَّثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، قال: أتاني أبو صالح يعزيني عن ابن لي فأخذ يحدث عن أبي سعيد وأبي هريرة: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابًا من النار، قال: فقالت امرأة: يا رسول الله! قدمتُ اثنين؟ قال: ثلاثة%ج 2 ص 284%ثم قال: واثنين واثنين»، قال أبو هريرة: الفَرَط: من لم يبلغ الحنث.1251 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حدَّثنا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «لاَ يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلاَثَةٌ مِنَ الوَلَدِ فَيَلِجَ النَّارَ، إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ». [خ¦1251] وعند مسلم: «جاءت امرأة بصبي لها فقالت: يا رسول الله! ادع الله له، فلقد دفنت ثلاثة، فقال: دفنت ثلاثة؟ قالت: نعم، قال: لقد احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شديد من النار».وفي لفظ: «صغارهم دَعَامِيصُ الجنة يتلقى أحدهم أباه فيأخذ بثوبه أو بيده، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة».وفي كتاب «الترغيب والترهيب» لأبي الفضل: «يكونون على باب من أبواب الجنة فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يجيء آباؤنا، فيقال لهم الثانية، فيقولون: حتى يجيء آباؤنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم بفضل رحمة الله تعالى».وعند النسائي: «ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث؛ إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يدخل أبوانا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم».
(2/44)
وفي حديث جابر بن سمرة قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من دفن ثلاثة فصبر عليهم واحتسبهم، وجبت له الجنة، فقالت أم أيمن: أو اثنين؟ فقال: أو اثنين، فقالت: أو واحدٌ؟ فسكت، ثم قال: يا أم أيمن! من دفن واحدًا فصبر عليه واحتسبه وجبت له الجنة»، رواه الطبراني في «معجمه الأوسط» عن أبي مسلم، حدَّثنا عبد العزيز بن الخطاب، حدَّثنا ناصح بن عبد الله، عن سماك، عنه، وقال: لم يروه عن سماك إلا ناصح. وعن عتبة بن عبد السلمي يرفعه: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء دخل»، رواه ابن ماجه بسند صحيح. وعند الترمذي من حديث أبي محمد مولى عمر بن الخطاب، عن أبي عبيدة، عن أبيه يرفعه: «من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حصنًا حصينًا%ج 2 ص 285%من النار، فقال أبو ذر: قدمت اثنين؟ قال: واثنين، فقال أبي بن كعب: قدمت واحدًا، قال: وواحدًا»، وقال: هذا حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. انتهى. أبو عبيدة بينت في كتاب «تهذيب الكمال» تحسينَ الترمذي حديثه عن أبيه، وتصحيح الحاكم له، فلو لم يكن للحديث إلا هذه العلة المذكورة لزالت بذلك، ولكن أبو محمد الراوي عنه مجهول، فالحديث معلول به لا بغيره، والله تعالى أعلم. وعنده أيضًا عن ابن عباس سمع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من كان له فَرَطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة. فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: ومن كان له فرط يا موفقة. قالت: فمن لم يكن له فرط؟ قال: أنا فرط أمتي أن يصابوا بمثلي»، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن بارِق، وقد روى عنه أيضًا غير واحد من الأئمة. انتهى. عبد ربه قال فيه أحمد: لا بأس به، وأثنى عليه الفَلاس وغيره، وذكره ابن شاهين وابن خَلَفُون في كتاب «الثقات»، وباقي من في السند ثقات.
(2/45)
وعن ابن مسعود: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خطب النساء فقال: ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة إلا أدخلها الله الجنة. فقالت امرأة: يا رسول الله! وصاحبة الاثنين؟ قال: وصاحبة الاثنين في الجنة».وعند أبي نعيم الحافظ: حدَّثنا أبو بكر الطلحي، حدَّثنا أحمد بن حماد بن سفيان، حدَّثنا عمرو بن عمرو الأودي، حدَّثنا حفص الأسدي، عن علي، عن أرقم، عن علقمة، عنه يرفعه: «من مات له ولد، فصبر أو لم يصبر، سَلَّم أو [لم] يسلم لم يكن له جزاء إلا الجنة».وعنده أيضًا بسند جيد عن أبي موسى يرفعه: «إذا قبض ولد العبد المسلم قال الله تعالى للملائكة عليهم السلام ـ وهو أعلم ـ: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما قال: ـ وهو أعلم ـ؟ فيقولون: ربنا حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا له بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد».وعند الكَجِّي بسند جيد عن جابر يرفعه: «من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم، دخل الجنة، قلنا: واثنان؟ قال: واثنان. قال: وأظن والله أعلم لو قال وواحد قال: وواحد».%ج 2 ص 287%قدم ثلاثة من صلبه لم يبلغوا الحنث فهم له ستر من النار، قال شرحبيل: أنت سمعت هذا من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: نعم، والذي لا إله إلا هو».وعن معاذ بن جبل عند أبي عيسى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أوجب صاحب الثلاثة، قال معاذ: وذو الاثنين يا رسول الله؟ قال: وذو الاثنين».زاد ابن ماجه: «والذي نفسي بيده إن السِّقط، ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبته».وعن أم سليم أم أنس بن مالك قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته، قالها ثلاثًا. قيل: يا رسول الله! واثنان؟ قال: واثنان»، رواهما أبو عبد الله أحمد بن حنبل في «مسنده» بأسانيد جياد.
(2/46)
وعنده أيضًا من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه: «أن رجلًا كان يأتي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومعه ابن له، فقال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتحبه؟ قال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، فلما توفي قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أما تحب ألا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أله خاصة أم لكلنا؟ قال: لكلكم».رواه عن وكيع حدَّثنا شعبة عنه، وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث ثابت صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وعن بُريدة يرفعه: «ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد إلا أدخلها الله تعالى بهم الجنة. فقال عمر: يا رسول الله! واثنان؟ قال: واثنان»، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وفي «الحدائق» لأبي الفرج البغدادي: وفي حديث أبي برزة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «واثنان؟ قال: واثنان».وعن أبي ذر عند النسائي بسند صحيح: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من أولادهما لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته».وعن رجل له صحبة عند ابن أبي شيبة بسند فيه ضعف: «قالت امرأة: يا رسول الله! مضى لي ثلاثة، فقال: أمنذ أسلمت؟ قالت: نعم. قال: جنة حصينة من النار».وعن علي بسند فيه ضعف أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إن السقط ليُراغِم ربه أن يدخل أبواه النار، حتى يقال له: أيها السقط المراغم ربه! ارجع، فإني أدخلت أبويك الجنة، قال: فيجرهما بسرره حتى يدخلهما [50/ ب] %ج 2 ص 288%الجنة».وعن الحارث بن أنس بسند لا بأس به أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ما من مسلمين يموت لهما أربعة أفراط إلا أدخلهما الله الجنة. قالوا: يا رسول الله! وثلاثة؟ قال: وثلاثة. قالوا: واثنان؟ قال: واثنان».
(2/47)
وعن أبي أمامة بسند صالح قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما من مؤمنين يموت لهما ثلاثة من الأولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم».وعن عائشة بسند صحيح: «من قدم ثلاثة من الولد صابرًا محتسبًا حجبوه من النار بإذن الله تعالى».وعن عقبة بن عامر الجُهني من عند ابن زَنْجُويه بسند فيه ضعف قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله وجبت له الجنة».ورويناه في كتاب «أحوال الموحدين» لأبي نعيم الأصبهاني بسند جيد يرجع إلى ابن زنجويه. وعن عمر مولى غفرة أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «من لم يكن له فرط لم يدخل الجنة إلا تفريدًا، قالوا: وما الفَرَط يا رسول الله؟ قال: والده، ولده، أخوه، أخ يؤاخيه في الله عز وجل، ومن لم يكن له فرط فأنا فرطه».وعن ثوبان مولى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسند ضعيف: «ليدخلن الجنة متقعس ومدلٌّ، أما المتقعس فذراري المؤمنين، ينشرون يوم القيامة، تقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة، فيتقعسون ويقولون: حتى يدخلها آباؤنا» الحديث. وذكر الترمذي أن أبا ثعلبة الأشجعي له حديث واحد في هذا، يعني الحديث الذي في كتاب «الموحدين» لأبي نعيم من طريق مِندَل بن علي، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن عمر بن نَبْهان، عنه. وفي «الموطأ» عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي النضر السلمي قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنَّة من النار، فقالت امرأة: يا رسول الله! أو اثنان؟ قال: أو اثنان».وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «والنفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسرره إلى الجنة»، رواه أبو داود الطيالسي في «مسنده» عن هشام عن قتادة عن راشد عنه.
(2/48)
وفي كتاب «الترغيب» لأبي الفضل الجوزي بسند صالح عن أم مبشر: «أن رسول الله%ج 2 ص 289%صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: يا أم مبشر! من هلك له ثلاثة من الولد فصبر واحتسب أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم. قالت: أو اثنين؟ قال: أو اثنين يا أم مبشر».وفي هذه الأحاديث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة لا محالة؛ لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم من أجلهم استحال أن يُرحموا من أجل من ليس بمرحوم، ألا ترى إلى قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «بفضل رحمته إياهم».وقد أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في الجنة، إلا فرقة شذت من المجبرة، قال ابن عبد البر: جَعلتهُم في المشيئة، وهو قول مهجور مردود شاذ؛ لما أسلفنا من الأحاديث، ولما روى أبو هريرة من عند مسلم: «صغاركم دعاميص الجنة».وذكر أبو محمد في «النوادر»، والقاضي في «شرح الرسالة» الإجماع في أولاد المؤمنين، وزعم غيرهما أن الإجماع إنما هو في أولاد الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وذهبت طائفة من العلماء إلى الوقف في أطفال المسلمين والمشركين أن يكونوا في جنة أو نار، منهم عبد الله بن المبارك وحماد بن سلمة وإسحاق بن راهويه؛ لحديث أبي هريرة: «سئل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الأطفال؟ فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين»، كذا قال: الأطفال، ولم يخص طفلًا من طفل. وقال الطبراني في «معجمه الأوسط»: روي أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لعائشة في أطفال المشركين: «إن شئت دعوت الله تعالى أن يسمعك تضاغيهم في النار».وقال سمرة: قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أولاد المشركين هم خدم أهل الجنة».وروي عنه أنه سئل عنهم فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، فرجع الأمر إلى قول رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الله أعلم بما كانوا عاملين»، فمن سبق علم الله تعالى فيه أنه لو كبر أمن هم الذين قال: «هم خدم أهل الجنة»؛ فقد صحت معاني الأحاديث الثلاثة، وهو قول أهل السنة.
(2/49)
فإن قيل: كيف بالحديث الذي أخبركم به الإمام المسند أبو الحسن علي بن شبل الحميري، أخبرنا العلامة عبد اللطيف بن عبد المنعم، عن المشايخ الجلة: اللَّبَّان والكراني والداراني، أخبرنا أبو علي الحداد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو محمد بن فارس، حدَّثنا أبو بشر يونس بن حبيب، قال: حدَّثنا أبو داود الطيالسي، حدَّثنا قيس بن الربيع، عن يحيى بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتي بصبي من الأنصار ليصلى عليه، فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءًا قط، ولم يدر به، فقال:%ج 2 ص 290%يا عائشة! أولا تدرين أن الله تبارك وتعالى خلق الجنة وخلق لها أهلًا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلًا، [خلقها لهم] وهم في أصلاب آبائهم».وبحديث سلمة بن يزيد الجُعْفي قلت: «يا رسول الله! إن أُمنا ماتت في الجاهلية, وإنها وأدت أختًا لنا لم تبلغ الحنث في الجاهلية, فهل ذلك نافع أختنا؟ فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أما إن الوائدة والموؤدة فإنهما في النار, إلا أن تدرك الإسلام».وبما روى بقية، عن محمد بن يزيد الأَلْهاني قال: سمعت عبد الله بن قيس، سمعت عائشة سألت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذراري المسلمين قال: «هم مع آبائهم، قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، وسألته عن ذراري المشركين، فقال: مع آبائهم، قلت: بلا عمل، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين».ومن حديث أبي عُقيل صاحب بقية، عن بقية، عن عائشة عند أبي داود الطيالسي قالت: «سألت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أطفال المشركين» الحديث. فيقال: هذا معارض بأمور: الأول: ضعف رواتها، قيس بن الربيع وأبو عُقيل، وبقية متكلم فيه.
(2/50)
الثاني: على تقدير الصحة يعارضها ما في الصحيح من حديث سمرة حديث الرؤيا: «وأما الرجل الذي في الروضة فإبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأما الولدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة، قيل: يا رسول الله! وأولاد المشركين، قال: وأولاد المشركين».وفي لفظ: «وأما الشيخ في أصل الشجرة فإبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصبيان حوله أولاد الناس».وعن أبي هريرة على شرط الشيخين عند الحاكم يرفعه: «أولاد المؤمنين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم صلى الله عليه وسلامه حتى يردهم إلى آبائهم يوم القيامة».وعند أبي عمر في «التمهيد» حديث مرتب مفسر يقضي على ما روي في الأحاديث، فإن ذلك كان في أحوال ثلاثة، عن عائشة أن خديجة رضي الله عنهما سألت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أولاد المشركين فقال: «هم مع آبائهم، ثم سألته بعد ذلك فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم بعد ما استحكم الإسلام ونزلت: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قال: هم على الفطرة».يؤيده ما ذكر محمد بن سنجر في «مسنده»: حدَّثنا هَوذة، حدَّثنا عوف، عن خنساء بنت معاوية، قالت: حدثني عمي قال: «قلت: يا رسول الله! من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة،%ج 2 ص 291%والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة».وعن أنس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سألت ربي في اللاهين ـ يعني الأطفال من ذرية البشر ـ أن لا يعذبهم فأعطانيهم».وروى الحجاج بن بصير عند الطبراني عن المبارك بن فَضالة، عن علي بن زيد، عن أنس يرفعه: «أولاد المشركين خدم أهل الجنة».ورواه الحكيم في «نوادر الأصول» عن أبي طالب الهَروي، حدَّثنا يوسف بن عطية، حدَّثنا أنس بلفظ: «كل مولود من ولد كافر أو مسلم فإنهم إنما يولدون على فطرة الإسلام كلهم» الحديث.
(2/51)
وفي حديث عياض بن حمار المُجاشِعي من عند مسلم أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في خطبته: «إن الله تعالى أمرني أن أعلمكم، وقال: إني خلقت عبادي كلهم حنفاء، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وأَمَرَتْهم أن يشركوا بي، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم».الثالث: لما ذكر أبو عمر حديث سلمة بن يزيد قال: هذا صحيح من جهة الإسناد، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على جواب السائل في غير مقصوده، فكانت الإشارة إليها. قال: وقوله: «الشقي من شقي في بطن أمه، وأن الملَك ينزل فيكتب شقي أم سعيد» مخصوص، وذلك أن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد وهو في بطن أمه ولم يشق، بدليل الأحاديث والإجماع. وقوله: «إن الله خلق النار وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم» ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار، وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به، وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه، ويعارض حديث معاوية بن قرة. انتهى. هذا الحديث ليس ضعيفًا لكونه في «صحيح مسلم» ولا معارضًا لما ساقه وسقناه حتى يرد بالإجماع؛ لأن الله تعالى كتب شقاءهم وهم في الأصلاب، والمعنى أنهم يتركون فيعملون بعمل الأشقياء، لا أنهم يموتون صغارًا، وهذا واضح ولله الحمد. قال أبو عمر: وقد روينا عن علي بن أبي طالب ولا مخالف له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أنهم فسروا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 38 ـ 39] قال: هم أطفال المسلمين. انتهى كلامه. وفيه نظر، لما ذكره عبد الله بن عباس في تفسيره رواية إسماعيل بن أبي زياد التاجي قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 38 ـ 39] قال: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، واستخرجوا ... %ج 2 ص 292%لم يرتهنوا بما كسبوا.
(2/52)
وبما رواه عبد بن حميد في «تفسيره» عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان بن سعيد، عن الأعمش، عن عثمان، عن زاذان، عن علي بن أبي طالب قال: «هم أولاد المشركين».قال أبو عمر: وقال آخرون: الأطفال يمتحنون في الآخرة اعتمادًا على ما روى عطية عن أبي سعيد يرفعه: «الهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود، يقول المولود: رب لم أدرك العقل، قال: فيرفع لهم نار ويقال: ردوها وادخلوها، قال: فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا لو أدرك العمل».وروى عبد الوارث عن أنس قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يؤتى يوم القيامة بأربعة: المولود، وفيه: فيبرَز لهم عينٌ من النار، فيقال: ردوها» الحديث. ومن حديث أبي إدريس عن معاذ يرفعه، وروي أيضًا عن الأسود بن سريع وأبي هريرة وثوبان بأسانيد صالحة من أسانيد الشيوخ إلا ما روى عبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفًا لم يرفعه، وليس فيها ذكر المولود، وإنما هم أربعة، كلهم يدلي يوم القيامة بحجَّته: أصم وأبكم وأحمق ورجل مات في الفترة ورجل هَرِم. وقوله: (مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِم) شرط ذلك الإسلام؛ لأنه لا نجاة للكافر يموت أولاده، وإنما ينجو من النار بالإيمان والسلامة من المعاصي، أو المغفرة. قال ابن التين: ويحتمل أن يكون ذلك لأن أجره على مصابه يكفر عنه ذنوبه فلا تمسه النار التي يعاقب بها أهل الذنوب، ففي هذا تسلية للمسلمين في مصابهم بأولادهم. وفي قوله: (تَحِلَّةَ القَسَمِ) يريد قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وقال ابن بطال: العرب إذا أرادت تقليل الشيء وتقصير مدته شبهوه بتحليل القسم، فيقولون: ما يقوم فلان عند فلان إلا تحلة القسم، ومعناه لا تمسه إلا قليلًا.
(2/53)
وتوهم ابن قتيبة أنه ليس بقسم، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه زَبَّان بن فائِد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من حرس ليلة من وراء عورة المسلمين متطوعًا لم ير النار تمسه إلا تحلة القسم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}».وقال الخطابي: موضع القسم: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِين} [مريم: 68].وقيل: إن العرب تحلف%ج 2 ص 293%وتضمر القسم، كقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]. أي: وإن منكم والله، فأضمر «والله».قال أبو عمر: ظاهر قوله: «فتمسه النار» يدل على أن الورود الدخول؛ لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة، روي عن ابن عباس وعلي: «أن الورود الدخول»، وكذا رواه أحمد بن حنبل عن جابر. وروي أن الورود المرور على الصراط، روي ذلك عن كعب الحبر وابن مسعود والسُّدِّي. وروي عن ابن عباس أن هذا خطاب للكفار. وعن مجاهد أنه قال: «الحُمَّى حظُّ المؤمنِ من النار»، وعن أبي هريرة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نحوه. الورود للمؤمنين: أن يروا النار ثم ينجو منها الفائزون، ويصلاها من قدر عليه. قال: ويحتمل أن يكون تحلَّة القسم استثناء منقطع، فيكون المعنى: لكن تحلَّة القسم؛ أي لا تمسه النار أصلًا، كلامًا تامًا، ثم ابتدأ: إلا تحلة القسم لا بد منها لقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}.قال: والوجه عندي في هذا الحديث وشبهه أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر. وقوله في الباب بعد للمرأة التي رآها عند القبر تبكي: (اتَّقِي اللَّه وَاصْبِرِي)، فيه دليل على تواضعه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكونه لم ينتهرها لما ردت عليه، بل عذرها بمصيبتها. ودليل على جواز زيارة النساء القبور؛ إذ لو لم يجز لما سكت عن ذلك صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
(2/54)
وقوله:
(اتَّقِي اللَّه) أراد أن لا يجتمع عليها مصيبتان، مصيبة الهلاك ومصيبة فقد الأجر
بالجزع.
بَابُ غُسْلِ المَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالْماءِ وَالسَّدْرِ
وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ ابْنًا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ، وَصَلَّى
وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
روى هذا التعليق مالك في «موطئه» عن نافع: «أن ابن عمر حنط ابنًا لسعيد بن زيد
وحمله، ثم دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ».
وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه: «أن ابن عمر كفن ميتًا
وحنطه ولم يمس ماء».
وعن أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عمر: أغتسل من
غسل الميت؟ قال: لا».
وعن عبَّاد بن العوام، عن حجَّاج، عن سليمان بن ربيع، عن سعيد بن جبير قال:
«غَسَّلتْ أمي ميتة فقالت لي: سَلْ، عليَّ غسل؟ فأتيت ابن عمر فسألته فقال: أنجسًا
غسلت؟ ثم أتيت ابن عباس فسألته فقال مثل ذلك: أنجسًا غسلت؟».
وحدثنا عباد، عن
%ج 2 ص 294%
حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «ليس على غاسل الميت غسل».
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: المُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا.
هذا التعليق رواه أبو بكر عن ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: «لا
تنجسوا موتاكم، فإن المؤمن ليس ينجس حيًا ولا ميتًا».
وذكره الحاكم من حديثه مرفوعًا: «لا تنجسوا موتاكم، فإن المسلم ليس بنجس حيًا ولا
ميتًا»، وقال: صحيح على شرطهما.
ومن حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عنه قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«ليس عليكم من غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم»،
وقال: صحيح الإسناد على شرط البخاري.
وفيه رفض لحديث مختلف فيه على محمد بن عمرو بأسانيد: «من غسل ميتًا فليغتسل».
وَقَالَ سَعْدٌ: لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ.
(2/55)
هذا
التعليق رواه ابن أبي شيبة، عن يحيى بن سعيد القطان عن الجَعْد، عن عائشة بنت سعد
قالت: «أوذن سعد بجنازة سعيد بن زيد وهو بالبقيع، فجاء وغسله وكفنه وحنطه، ثم أتى
داره فصلى عليه، ثم دعا بماء فاغتسل، ثم قال: لم أغتسل من غسله، ولو كان نجسًا ما
غسلته، ولكني اغتسلت من الحر».
وعن إبراهيم قال عبد الله: «إن كان صاحبكم نجسًا فاغتسلوا منه».
وعن عائشة بسند صحيح: «ليس على غاسل الميت غسل».
وعن بكر بن عبد الله بسند صحيح، حدثني علقمة بن عبد الله: «أن أبي غسله أربعة من
الصحابة، فلما فرغوا توضؤوا وصلوا».
وغسل ابن مغفل وعائذ بن عمرو وأبو برزة فلم يغتسلوا، وما زادوا على أن توضؤوا.
وعن الشعبي بسند صحيح: «إن كان صاحبكم نجسًا فاغتسلوا منه».
وفي كتاب ابن المنذر وغيره وهو قول القاسم وسالم والحسن، وبه قال أبو حنيفة
والشافعي وأحمد وإسحاق.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المُؤْمِنُ لاَ يَنْجُسُ».
هذا تقدم مسندًا في كتاب الطهارة.
وكأن البخاري ... يريد بهذه الآثار رد ما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن
الحجامة، وغسل الميت».
وهو حديث خرجه ابن خزيمة في «صحيحه» وقال البيهقي: رواته كلهم ثقات، وذكره الحاكم
في «مستدركه»، وقال في «تاريخ بلده»: قال يحيى بن محمد الذُّهْلي: لا نعلم فيمن
غسل ميتًا فليغتسل حديثًا ثابتًا، ولو ثبت للزِمَنَا
%ج 2 ص 295%
استعماله.
وعن أبي هريرة في «صحيح ابن حبان» قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من غسل
الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ»، وقال الترمذي: حديث حسن، وقد روي عن أبي هريرة
موقوفًا.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا خطأ، إنما هو موقوف لا يرفعه الثقات، وقال أبو
داود في «سننه»: هذا منسوخ.
وفي لفظ عند أحمد: «من غسلها الغسل، ومن حملها الوضوء».
(2/56)
وعن
أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الغسل من الغسل، والوضوء
من الحمل».
قال محمد بن عبد الواحد المقدسي: رواه حرملة بن يحيى عن ابن وهب عن أسامة بن زيد
الليثي. انتهى.
هذا سند على شرط مسلم.
وعند ابن أبي حاتم في «العلل»: سألت أبي عن حديث رواه محمد بن منهال عن يزيد بن
زُريع عن معمر عن أبي إسحاق عن أبيه عن حذيفة قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«من غسل ميتًا فليغتسل» قال أبي: هذا غلط، ولم يبين غلطه.
وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: «أن عليًا لما غسل أباه أمره النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أن يغتسل».
وعن مكحول قال: «سأل رجل حذيفة عن غسل الميت، فعلمه وقال: إذا فرغت فاغتسل».
وعن الحارث عن علي: «من السنة من غسل ميتًا اغتسل».
وعن أبي إسحاق: «أن رجلين من أصحاب علي وعبد الله غسلا ميتًا فاغتسل صاحب علي ولم
يغتسل الآخر».
وعن أبي قِلابة بسند صحيح: «أنه كان إذا غسل ميتًا اغتسل».
وعند ابن المنذر، وهو قول ابن المسيب وابن سيرين والزهري، وهي رواية ابن القاسم عن
مالك، وذكر ابن حبيب عن مالك: أن حديث الغسل من غسل الميت ضعفه بعضهم.
وقال ابن العربي: قالت جماعة أهل الحديث: هو حديث ضعيف.
وروى الدارقطني حديثًا صحيحًا عن ابن عمر: «فمنا من اغتسل، ومنا من لم يغتسل».
وقال ابن التين: وحمله بعضهم على الاستحباب لا الوجوب.
وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه، وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه.
(2/57)
1253 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِّ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ: اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا ـ أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ ـ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ وَقَالَ: أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ. تَعْنِي إِزَارَهُ. [خ¦1253] وفي لفظ%ج 2 ص 296%قال أيوب: وحدثتني حفصة مثل حديث محمد، وكان في حديثها: «اغسلنها وترًا، ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن، وابدؤوا بميامنها، ومواضع الوضوء، قالت أم عطية: ومشطناها ثلاثة قرون، نقضنه ثم غسلنه، فألقيناها خلفها».وفي لفظ لمسلم: «لما ماتت زينب بنت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» الحديث. قال ابن عبد البر: كانت وفاتها سنة ثمان، قال: وروت حفصة هذا الخبر عن أم عطية بأكمل لفظ وهو أصل السنة في غسل الموتى، ليس يروى عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غسل الميت حديث أعم منه ولا أصح، وعليه عول العلماء في ذلك، وهو أصلهم في هذا الباب. وزعم بعضهم أن هذه المتوفاة أم كلثوم، يعني المتوفاة سنة تسع، وفيه نظر لما أسلفناه. وقال القرطبي: لا خلاف أن غسل الميت مشروع ومعمول به في الشريعة، لكن اختلفوا في حكمه، فقيل الوجوب، وقيل: سنة مؤكدة، والقولان عندنا. وقال في «شرح المهذب»: هو بإجماع المسلمين فرض كفاية. ثم إذا أرادوا غسله وضعوه على سريره عرضًا كالقبر، وهو قول أبي حنيفة على شقه الأيمن، وقيل: كما تيسر باعتبار ضيق المكان وسعته، وعند غيرهم: يوضع مستقبل القبلة كما في صلاة المريض بالإيماء.
(2/58)
والواجب في الغسل مرة واحدة عامة لسائر البدن، والثلاث مأمور به ندبًا، وعند أبي حنيفة: سنة، فإن حصل به الإنقاء بثلاث لم تشرع الزيادة، إلا ابن حزم فإنه قال: الثلاثة فرض. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدًا قال بمجاوزة سبع غسلات في غسل الميت. وذهب أبو حنيفة: أن بعد الثلاث إن خرج منه شيء غسل ذلك الموضع وحده ولا يعاد غسله، وإلى هذا ذهب المزني وأكثر أصحاب مالك، وقال ابن القاسم: إن رضي فحسن، وإنما هو الغسل، وقال الشافعي: يعاد غسله، وقال أحمد: يعاد إلى سبع ولا يزاد عليها، فإن خرج منه شيء بعد ما كفن رفع ولم يلتفت إلى ذلك، وهو قول إسحاق. قال ابن المنذر: السنة الغسل بالماء والسدر غسلًا، ولا معنى لطرح ورقات من السدر في الماء، كما تفعل العامة، وأنكرها أحمد ولم تعجبه، والجمهور على أن الغسلة الأولى تكون بالماء، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بماء فيه كافور. وعن ابن سيرين أنه كان%ج 2 ص 297%يأخذ الغسل عن أم عطية، فيغسل بالماء والسدر مرتين، والثالثة بالماء والكافور. ومنهم من ذهب إلى أن الغسلات كلها بالماء والسدر مرتين والثالثة، وهو قول أحمد مستدلًا بحديث أم عطية: «بماء وسدر»، وبغيره من الأحاديث، ولما غسلوا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غسلوه ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر، ذكره أبو عمر. قال: ومنهم من يجعل الأولى بالماء والسدر، والثانية بالماء القَراح، والثالثة بالكافور، وأعلم التابعين بالغسل ابن سيرين ثم أيوب بعده. وعن بعض الشافعية: لا يعتدُّ بالغسل بالماء والسدر من الثلاث. وعن بعضهم: إذا غسل بعد ذلك بالماء القراح وزال منه أثر السدر أو الخطمي ففي الاعتداد بهذه الغسلة وجهًان: أحدهما تحسب من الثلاث، والثاني لا تحسب. وشرع الكافور لتطييب الرائحة، وتصليب البدن وتبريده، وقيل: شرع لأجل الملائكة صلى الله عليهم وسلم.
(2/59)
وقال أبو حنيفة: لا يستحب، وبه قال إبراهيم، وإنما الكافور عنده في الحنوط، إلا في شيء من الماء، كذا ذكره غير واحد، وخطَّأَ ذلك السروجي. وأما إنكار النووي على صاحب «المهذب» قوله: «لما روت أم سليم أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: فإذا كان في آخر غسله من الثلاث أو غيرها فاجعلي فيه شيئًا من كافور، قال: والمشهور في كتب الحديث أن هذا من رواية أم عطية لا أم سليم، وقد بحثت عنه فلم أجده عن أم سليم، ولعله جاء في رواية غريبة عنها» فغير جيد؛ لأن حديث أم سليم رواه أبو القاسم الطبراني من طرق منها، قال: حدَّثنا أبو زُرْعة الدمشقي، حدَّثنا آدم، حدَّثنا شَيبان، وحدثنا الحسن بن إسحاق التُّستَري، حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، وحدثنا الحسن بن موسى الأشيب، حدَّثنا شَيبان، عن ليث، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن حفصة بنت سيرين، عن أم سليم أم أنس بن مالك قالت: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فذكرته مطولًا. وهو سند حسن، ولولا ما تكلم به في ليث لكان صحيحًا، وقد أشار إليه الترمذي والطوسي لما ذكرا حديث أم عطية، ولما ذكره ابن أبي حاتم في كتاب «العلل» مطولًا قال: قال أبي: هذا حديث كأنه باطل، يشبه أن يكون كلام ابن سيرين. قال أبو محمد: ليس لأم سليم عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غسل الميت شيء، والحديث عن أم.%ج 2 ص 298%والحَقو والحِقو والحَقوة والحِقاء كله الإزار، كأنه سمي بما يلاث عليه، والجمع أَحْقٍ وأحْقاء وحِقِي وحِقاء، ذكره ابن سيده. وأخذ الحسن والثوري والشعبي من هذا الحديث أن النساء أحق بغسل المرأة من زوجها وأنه لا يغسلها إلا عند عدمهنَّ، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأكثر العلماء على جواز ذلك، وأجمعوا على غسل الزوجة زوجها لأنها في عدته. وقول البخاري في الباب بعد هذا: حدثنا محمد، حدَّثنا عبد الوهاب، نسب ابن السكن محمدًا هذا ابن سلام.
(2/60)
وقوله
في: بَاب نَقْضِ شَعَرِ المَرْأَةِوَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ بِنَقْضِ
شَعَرُ المَرْأَةِ. وفي نسخة: «المَيِّتِ»، رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»، عن حفص،
حدَّثنا أشعث، عن محمد أنه كان يقول: «إذا غسلت المرأة ذؤب شعرها ثلاثة ذوائب ثم
جعل خلفها».وقوله:1260 - حدثَنَا أَحْمَدُ، حدَّثنا ابْنُ وَهْبٍ. [خ¦1260] أحمد
هذا هو أحمد بن المصري فيما نسبه ابن السكن، وقال الجياني: وقيل: أحمد بن عيسى
التستري، ورواه أيضًا عن ابن وهب حرملة. وقوله: وَقَالَ الحَسَنُ: الخِرْقَةُ
الخَامِسَةُ تَشُدُّ بها الفَخِذَيْنِ، وَالوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ. هذا
التعليق رواه. وقوله في: بَابٌ: يُجْعَلُ شَعَرُ المَرْأَةِ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ
1262 - وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ سُفْيَانُ: نَاصِيَتَهَا وقدمها. [خ¦1262]
قول وكيع رواه الإسماعيلي، عن محمد بن علويه، حدَّثنا عمرو بن عبد الله، حدَّثنا
وكيع، عن سفيان، ورواه أيضاً من حديث المُحاربي عن سفيان، ومن حديث عبد الله بن
صالح، حدَّثنا هارون بن عبد الله، حدَّثنا قَبيصة، حدَّثنا سفيان، عن هشام، ورواه
الفِرْيابي عن سفيان.
وعند أبي حنيفة: ترسل شعرها على ثدييها من غير تسريح ولا ظفر، قال: وأم عطية لم
تفعله بأمر من سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ذكره أحمد.
الظفر والتسريح وتكفين الميت واجب هو الصحيح عند أبي حنيفة، وقيل: سنة، وقال
النووي: فرض كفاية بالإجماع.
ويقدم على الدَّين، قال في «شرح الهداية»: إلا إذا كانت التركة عبدًا جانيًا أو
مرهونة فإنهما يقدمان على التكفين.
والكفن يكون من رأس المال، إلا ما روي عن خِلاس بن عمرو أنه من ثلث التركة.
%ج 2 ص 299%
وقال طاوس: إن كان المال قليلًا فمن الثلث، وإلا فمن رأس المال، فإن كفن في ثوب
واحد فهو الواجب ويكون مسيئًا.
ويكره أن يكون أقل من ثلاثة أثواب للمرأة، وثوب واحد للرجل للضرورة.
(2/61)
وقال
أبو عمر: وأجمعوا أنه لا يكفن في ثوب يصف ما تحته.
بقية الأبواب تقدم ذكرها.
بَابُ الثِّيَابِ البِيضِ لِلْكَفَنِ 1264 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ،
حدَّثنا عَبْدُ اللهِّ، أخبرنا هِشَامُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ
رَسُولَ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُفِّنَ فِي ثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ
يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلاَ
عِمَامَةٌ». [خ¦1264] وفي لفظ قال لها أبو بكر ـ يعني وهو أمامه ـ: «أي يوم توفي
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين
الليلة، ونظر إلى ثوب عليه كان يمرض فيه به ردع من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا
وزيدوا عليه ثوبين، فكفنوني فيهما، قلت: إن هذا خَلَق، قال: إن الحي أحق بالجديد
من الميت، إنما هو للمهلة فلم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودفن قبل أن
يصبح».هذا الحديث خرجه الستة، وعند مسلم: «أما الحلة فإنما شبه على الناس فيها
أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن في ثلاثة أثواب، فأخذها عبد الله بن
أبي بكر فقال: أحبسها عَلِّي أكفن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيه
لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها».وفي لفظ: «أدرج في حلة يمانية كانت لعبد الله بن
أبي بكر، ثم نزعت عنه وكفن في ثلاثة أثواب يمانية».وعند أبي داود: «كفن في ثوبين،
وبرد حبرة، قالت عائشة: أتوا بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه».ومن حديث يزيد بن
أبي زياد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: «كفن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في
ثلاثة أثواب، حلة نجرانية، وقميصه الذي مات فيه».وفي رواية عثمان بن أبي شيبة:
«ثلاثة أثواب، حلة حمراء وقميصه الذي مات فيه».وعند ابن ماجه عن ابن عمر بسند فيه
عمرو بن أبي سلمة: «كفن في ثلاثة رِياط بيض سُحولية».
(2/62)
وعند ابن سعد عن الشعبي: «كفن في ثلاثة أثواب برد يمانية غلاظ: إزار ورداء ولفافة».وعند أحمد عن الحسن بن موسى الأشيب، عن حماد بن سلمة، عن ابن عُقيل، عن محمد ابن الحنفية، عن أبيه: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كفن في سبعة أثواب».قال أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الجُوزَقاني: هذا حديث منكر، تفرد ابن عُقيل به، وقال أبو محمد بن حزم: هذا وهم من الأشيب أو من ابن عُقيل. وعند الحاكم في «الإكليل» ما يشده من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله. ورواه ابن سعد عن عفان، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن ابن إسماعيل، فأخرج الأشيب من الوهم الذي قاله أبو محمد. وعند البزار: «كفن في سبعة: ثلاث سُحولية وقميصه وعمامته وسراويل والقطيفة التي جعلت تحته».ومن حديث مرة بن شرحبيل عن ابن مسعود: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما ثقل قلنا: فيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم، أو في يمانية، أو في ثياب مصر».وفي «شرف المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» التصنيف الكبير من حديث يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس: «كفن في ثوبين سحوليين أبيضين».وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: «كفن في برد نجراني ورِيْطَتين».وفي حديث الزهري عن أبي سلمة عن عائشة: «كفن في ثلاثة أثواب، ثوبين سحوليين وبرد حبرة».وعن جعفر بن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده: «كفن في ثلاثة أثواب صَحارِيين وبرد حبرة أدرج فيها إدراجًا».وروي عن أيوب عن نافع عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زر عليه قميصه الذي كفن فيه»، قال ابن سيرين: وأنا زررت على أبي هريرة، قال ابن عون: وأنا زررت على ابن سيرين، قال الأصمعي: فذكرت ذلك لحماد بن زيد فقال: وأنا زررت على ابن عون. وفي «الطبقات» عن أبي إسحاق: «قلت لجماعة من بني عبد المطلب: في أي شيء كفن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالوا: في ثلاثة أثواب، ليس فيها قباء ولا قميص ولا عمامة».
(2/63)
كِتَابُ البُيُوعِوَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].انتهى باقي الكلام على هذه الآية الكريمة عن قريب. بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ جلَّ وعزَّ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله وَاذْكُرُوا اللَّه كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية [الجمعة: 11].وَقَوْلِهِ جلَّ وعزَّ: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِإِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].سورة الجمعة مدنية في قول الجميع. وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ} قال ابن التين: جماعة أهل العلم على أنه إباحة بعد حظر، وقيل: هو أمر على بابِه، وقال الداوودي: هو على الإباحة لمن كان له كفاف أو لا يطيق التكسب، وفرض على من لا شيء له ويطيق التكسب. وقال غيره: من يعطف عليه بسؤال أو غيره ليس طلب الكسبِ عليه بفريضة. وقال ابن المنير: جميع ما ذكره البخاري في هذا الباب من الآيات ظاهر في إباحة التجارة، إلا قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} فإنها عتب على التجارة وهي أدخل فيالنهي منها في الإباحة لها، لكن مفهوم النهي عن تركِه قائمًا اهتمامًا بها تُشعر أنها لو خلتْ من المعارِض الراجحِ لم يدخل في العتب؛ بل كانت حينئذ مباحة. وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} قال الثعلبي: أي لكن إذا كانت تجارة، استثناء منقطع، أي إلا التجارة فإنها ليست بباطل، وقرأ أهل الكوفة «تجارةً» بالنصب وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالرفع، واختاره أبو حاتم. و {عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} يرضى كلُّ واحدٍ منهما بما في يديهم. قال أكثر المفسرين: هو أن يُخيِّرَ كلُّ واحد من البائعين صاحبَه بعد عقد البيع عن تراضٍ، والخيار بعد الصفقة، ولا يحل لمسلم أن يغشَّ مسلمًا.
(1/1)
والبيع ضد الشراء، والبيع الشراء أيضًا، باعه الشيء وباعه منه جميعًا منهما، وابتاع الشيء اشتراه، وأباعه عرضه للبيع، وبايعه مبايعةً وبياعًا عارضه بالبيع. والبَيِّعان: البائع والمشتري، وجمعه: باعة عند كراع. والبيع اسم المبيع والجمع بيوع، والبياعات الأشياء المبتاعة للتجارة، ورجل بيوع جيد البيع، وبياع كثيرة، ذكره سيبويه فيما قاله ابن سيده. وذكر النووي في «شرح ألفاظ التنبيه» أن الزَّجَّاج حكى عن أبي عبيدة: أباع بمعنى: باع، قال: وهو غريب شاذ. انتهى. في «الجامع» أبعته أبيعه إباعةً إذا عرضته للبيع، يقال: بعته وأبعته بمعنى واحدٍ. وقال ابن طريف في باب فعل وأفعل باتفاق: معنى باع الشيء وأباعه عن أبي زيد وأبي عبيدة. وفي «الصحاح»: والشيء مبيع ومبيوع، والبياعة السلعة، ويقال: بِيْعَ الشيء، على ما لم يسم فاعله، إن شئت كسرت الباء وإن شئت ضممتها، ومنهم من يقلب الياء واوًا فيقول: بوع الشيء. وقال الشافعي: في قوله جلَّ وعزَّ: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] أربعة أقوال: أحدها: أنه عامة، فإن لفظها لفظ عموم يتناول كلَّ بيع، ويقتضي إباحة جميعها إلا ما خصه الدليل. قال في «الأم»: وهذا أظهر معاني الآية الكريمة. وقال صاحب «الحاوي»: والدليل لهذا القول أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن بيوع كانوا يعاودونها ولم يبيِّن الجائز، فدلَّ على أن الآية تناولت إباحةَ جميع البيوع إلا ما خُصَّ منها، وبيَّن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المخصوص. القول الثاني: أنَّ الآية مجملةٌ لا يعقل منها صحة بيعٍ من فساده إلا ببيان من سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. القول الثالث: يتناولهما جميعًا، فيكون عمومًا دخله التخصيص، ومجملًا لحقه التفسير لقيام الدلالة عليهما.
(1/2)
القول الرابع: أنها تناولت بيعًا معهودًا، ونزلت بعد أن أحلَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيوعًا وحرَّم بيوعًا، فقوله: {أَحَلَّ اللهُّ البَيْعَ} أي البيع الذي بيَّنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من قبل وعرفه المسلمون منه، فتناولت الآية بيعًا معهودًا، ولهذا دخلت الألف واللام لأنهما للعهد، وأجمعت الأمة على أن المبيع بيعًا صحيحًا يصير بعد انقضاء الخيار ملكًا للمشتري. قال الغزالي: أجمعت الأمة على أن البيع سبب لإفادة الملك.
(1/3)
2047 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَتَقُولُونَ مَا بَالُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ! وَإِنَّ إِخْوَتِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ صَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ، وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَتِي مِنَ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرًا مِسْكِينًا مِنْ مَسَاكِينِ أَهْلِ الصُّفَّةِ، أَعِي حِينَ يَنْسَوْنَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ: «لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حِيْنَ أَقْضِيَ مَقَالَتِي هَذِهِ، ثُمَّ يَجْمَعَ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ، إِلَّا وَعَى مَا أَقُولُ»، فَبَسَطْتُ النَّمِرَةً ـ أَوْ قَالَ: الكِسَاءَ ـ حَتَّى إِذَا قَضَى رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّممَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ». [خ 2047] موضع التبويب قوله: «سَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ» كذا عند أبي الحسن، وفي رواية أبي ذر بالصاد. قال الخليل: كلُّ صادٍ تجيء قبل القاف وكل سين تجيء بعد القاف فللعرب فيه لغتان: سين وصاد، لا يبالون اتصلت أو انفصلت بعد أن يكونا في كلمة، إلا الصاد في بعضٍ أحسن، والسين في بعضٍ أحسن.
(1/4)
2048 - حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِّ، حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: «لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ آخَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدُ: إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالًا، فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي، وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا، فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ؟ قَالَ: سُوقُ بَنِي قَيْنُقَاعٍ، قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَزَوَّجْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَمَنْ؟ قَالَ: امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: كَمْ سُقْتَ؟ قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ـ أَوْ نَوَاةَ ذَهَبٍ ـ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ». [خ 2048] وفي لفظ: «فقال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَهْيَمْ، قال: تزوجت».وذكره في فضائل الأنصار عن إسماعيل بن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: «لما قدموا المدينة» الحديث.
(1/5)
وظاهره الإرسال؛ لأنه إن كان الضمير في جدِّهِ يعود إلى إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، فيكون الجد فيه: إبراهيم بن عبد الرحمن، وإبراهيم لم يشهد أمرَ المؤاخاة؛ لأنه توفي بعد التسعين بغير خلاف وعمره خمس وسبعون سنة، وعلى تقدير صحة قول من قال: ولد في حياته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم تصح له رواية عنه، وأمر المؤاخاة كان حين الهجرة، وإن عادالضمير إلى جدِّ سعد بن إبراهيم فيكون على هذا سعد روى عن جدِّهِ عبد الرحمن، وهذا لا يصح؛ لأن عبد الرحمن توفي سنة اثنتين وثلاثين، وتوفي سعد سنة ست وعشرين ومئة، عن ثلاث وسبعين سنة. ولكن الحديث المذكور هنا متصل؛ لأن إبراهيم قال فيه: قال عبد الرحمن بن عوف، يوضح ذلك ما رواه أبو نعيم الحافظ، عن أبي بكر الطلحي، حَدَّثنا أبو حسين الوادعي، حَدَّثنا يحيى بن عبد الحميد، حَدَّثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن عبد الرحمن بن عوف قال: «لما قدمنا المدينة» الحديث. وكذا ذكره أبو العباس الطَّرْقي وأصحاب الأطراف، ورواه مسلم في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن ابن عوف، وهو في «الموطأ» عن حميد عن أنس: أن عبد الرحمن بن عوف، وقال الدارقطني: أسنده روح بن عبادة فقال: عن مالك عن حميد عن أنس عن عبد الرحمن بن عوف، وتفرد به. وهذه المؤاخاة ذكرها ابن إسحاق في أول سنة من سني الهجرة بين المهاجرين والأنصار. قال أبو الفرج: ولها سببان: أحدهما: أنه أجراهم على ما كانوا أَلِفُوا في الجاهلية من الحِلْف، فإنهم كانوا يتوارثون به فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا حِلْفَ في الإسلام» وأثبت المؤاخاةَ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا فُطِمَ عمَّا يألفه عُلِّلَ بجنسه. الثاني: أن المهاجرين قدموا محتاجين إلى المال وإلى المنزل، فنزلوا على الأنصار، فأكَّدَ هذه المخالطة بالمؤاخاة، ولم يكن بعدَ بدرٍ مؤاخاة؛ لأن الغنائم استُغْنِيَ بها.
(1/6)
وقال القرطبي: هي مفاعلة من الأخوة، ومعناها: أن يتعاقد الرجلان على التناصر والمواساة حتى يصيرا كالأخوين نسبًا كما قال أنس، وقالوا: إن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آخى بين الصحابة مرتين: مرة بمكة قبل الهجرة، وأخرى بعد الهجرة. قال ابن عبد البر: والصحيح المؤاخاة في المدينة بعد بنائه المسجد، فكانوا يتوارثون بذلك دون القراباتحتى نزلت: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].وقيل: كان ذلك والمسجد يبنى. وقيل: بعد قدومه المدينة بخمسة أشهر. وفي «تاريخ ابن أبي خيثمة» عن زيد بن أوفى أنها كانت في المسجد، وكانوا مئة: خمسون من المهاجرين، وخمسون من الأنصار. وفي الحديث: أن التجارة والصناعةَ أولى بنزاهة الأخلاق من العيش بالصدقات أو الهبات. وقينقاع: بقاف مضمومة ثم ياء آخر الحروف، ثم نون مضمومة، وتكسر وتفتح، بطن من يهود. والمرأة التي تزوَّجها عبد الرحمن هي ابنة أبي الحيسر أنس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل. قال الزبير: ولدت له القاسم وأبا عثمان عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف. وقوله: (وَضَر) بواو مفتوحة ثم ضادٌ معجمة، هو التلطخ بخلوق أو طيب له لون، وقد صرح به في بعض الروايات بأنه أثر زعفران. فإن قيل: جاء النهي عن التزعفر فما الجمع بينهما؟ قيل له: كان يسيرًا فلم ينكره. وقيل: إن ذلك علق من ثوب المرأة من غير قصد. وقيل: كان في أول الإسلام أن من تزوَّج لبس ثوبًا مصبوغًا لسروره وزواجه. وقيل: كانت المرأة تكسوه إياه. وقيل: إن هذا غير معروف. وقيل: إنه كان يفعل ذلك ليعان على الوليمة. وقال ابن عباس: أحسن الألوان الصفرة، قال جلَّ وعزَّ: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِيْنَ} [البقرة: 69] قال: فقرَنَ السرورَ بالصفرة، ولما سئل عبد الله عن الصبغ بها قال: «رأيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصبغ بها، فأنا أصبغ بها وأحبها».
(1/7)
وقال أبو عبيد: كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه، وقيل: يحتمل أن ذلك كان في ثوبه دون بدنه. ومذهب مالك جوازه، وحكاه عن علماء بلده، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك للرجال، وحديث الباب يخدش في قولهم، وذكره البخاري في كتاب النكاح في باب: «كَيْفَ يُدْعَى لِلْمُتَزَوِّجِ» كقوله: بارك الله لك ردًا على ما كانت العرب تقوله قال: بالرفاه والبنين، ولما قيل ذلك لعُقيل بن أبي طالب قال: «لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بارك الله لك وبارك عليك» رواه النسائي. وعند الترمذي عن أبي هريرة: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير» وقال: حسن صحيح. وعن خالد بن سعد ... عن معاذ ولم يسمع منه: «أنَّ النبي شهد إملاكَ رجل من الأنصار، فقال: على الألفة والخير والطير الميمون والسعة في الرزق, بارك الله لكم».وقوله: (مَهْيَمْ) بميم مفتوحة وهاء ساكنة وفتح الياء التالية ثم ميم، هي كلمة يمانية معناها: ما هذا؟ وما أمرك؟ ذكره الهروي وغيره. وقوله: (نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ) قال أبو عبيد: النواة زنة خمسة دراهم، قال الخطابي: ذهبًا كان أو فضة. وعن أحمد بن حنبل: زنة ثلاثة دراهم. وقيل: وزن نواة التمرة من ذهب. وفي الترمذي عن أحمد: زنة ثلاثة دراهم وثلث. وقيل: النواة ربع دينار. والوليمة في العرس مستحبة، وبه قال الشافعي، وفي رواية عنه واجبة، وهو قول داود، ووقتها بعد الدخول، وقيل: عند العقد، وعن ابن حبيب استحبابها عند العقد وعند الدخول وأن لا تنقص عن شاة. قال القاضي: الإجماع أنه لا حد لقدرها المجزئ، وكرهت طائفة الوليمة أكثر من يومين، وعن مالك أسبوعًا.
(1/8)
وعند الحاكم حديث ظاهره يعارض هذا، وهو عن عمرو بن ثعلب قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إن من أشراط الساعة أن تظهر الفتن وتفشوا التجارة»، وقال: صحيح على شرطهما، وعن ابن مسعود مرفوعًا: «إياكم وهيشات الأسواق»، وقال: صحيح على شرطهما، وكأن المراد ألا يجعلها الرجل ديدنه فيشتغل بها عن الجهاد والعلم وشبهها. حديث ابن عباس تقدم في الحج.
(1/9)
بَابٌ: الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشتبهَاتٌ 2051 - حَدَّثَنِا مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ. [خ 2051] وحدثَنَا عَلِيُّ، حَدَّثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثنا أَبُو فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ. وحَدَّثَنَي عَبْدُ الله بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ. وحدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ، عن النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى الله مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».وفي لفظ: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ».هذا الحديث خرجه الستة، وعند مسلم: «ومن وقع في الشُّبهاتِ وقع في الحرام».وعند أبي داود عن الشعبي: سمعت النعمان ولا أسمع أحدًا بعده يقول: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إن الحلال بيِّنٌ وإن الحرام بيِّنٌ وبينهما مشتبهات، وأحيانًا يقول: مشتبهة، وسأضرب لكم في ذلك مثلًا، إن الله حَمَى حِمىً، وإن حِمى الله ما حرَّم، وإنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر».
(1/10)
وسفيان الذي روى عنه محمد بن كثير هو الثوري، ذكره أبو نعيم وغيره، قال أبو نعيم: وهذا لفظ الثوري، وجمع البخاري بين ابن عون وأبي فروة ظنًا أن الروايتين في إسناد واحد، وساق الحديث بلفظ الثوري. وفي كتاب الإسماعيلي لما قال: «إلا وإن في الجسد مضغة» قال: قال فلان يعني أحد رواته: لا أدري هذا من لفظ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أم لا؟ وروى ابن حذلم في «جزئه» من جهة عبد الله بن رجاء عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر يرفعه: «الحلال بيِّنٌ والحرام بيِّنٌ، وبين ذلك مشتبهات، فدَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ».وعند الجوزي من حديث العلاء بن ثعلبة الأسدي، عن أبي مليح، عن واثلة قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «استفتِ لنفسِك نفسَك، قلت: كيف لي بذلك؟ قال: تدع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك، وإن أفتاك المفتون، قلت: وكيف لي بذلك؟ قال: تضع يدك على قلبك، فإن الفؤاد يسكن للحلال ولا يسكن للحرام، وإن الوَرِعَ المسلمَ يضع الصغيرةَ مخافة أن يقع في الكبيرة».قالابن التين: التوقُّف عند الشبهات واجب حتى يستبين. وقال القرطبي: أقل مراتب الحرام أن يستويَ فعلُه وتركه فيكون مباحًا، وما كان كذلك لم يتصوَّر فيه الورع من حيث هو متساوي الطرفين، فإنه إن ترجَّح أحد طرفيه على الآخر خرج عن كونه مباحًا، فحينئذ يكون تركه راجحًا على فعله وهو المكروه، أو فعله راجحًا على تركه وهو المندوب. وفيه دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها. قال أبو سليمان: قوله: «لا يَعلَمُها كثيرٌ من النَّاس» معناه أنها تشتبه على بعض الناس دونَ بعضٍ، والعلماء يعرفونها؛ لأن الله تعالى جعل عليها دلائل عرفها بها، لكن ليس كلُّ أحد يقدر على تحقيق ذلك، ولهذا قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يعلمها كثير من الناس» ولم يقل: لا يعلمها كل الناس، والله أعلم.
(1/11)
وقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى) هو مَثَلٌ يحتمل أن صاحبَه يقع في الحرام ولا يدري. وقال الخطابي: إذا اعتادها قادته إلى الوقوع في الحرام، فيتجاسر عليه فيواقعه عالمًا ومتعمدًا لخفة الزاجر عنده ولما قد ألفه من المساهلة. وقوله: (يُوْشِكُ) هو بضم الياء وكسر الشين المعجمة، أي يسرع ويقرب ويدنو، وماضيه أوشك، هذا هو الصواب، ومن العلماء من زعم أنه لم يستعمل منه ماض، وكتب اللغة والحديث على إثبات أوشك واستعماله. في «المحكم»: يوشك أن يكون الأمر، ويوشك الأمر أن يكون، ولا يقال: أوشك. وفي «الجامع» للقزاز: الوشك السرعة، وفيه ثلاث لغات: الوَشك والوِشك والوُشك، وأنكر بعضهم كسر الواو، ومن قال: يوشك بفتح الشين فقد أخطأ. وفي «الصحاح»: والعامة تقول: يوشَك، بفتح الشين، وهي لغة رديئة، ويقول: وشك ذا خروجًا بالضم، وعجبت وشك ذلك الأمر؛ أي: من سرعته، وقد أوشك يوشك إيشاكًا أي أسرع السير، وواشك يواشك وشاكًا مثل أوشك، يقال: إنه مواشك مستعجل أي مسارع، وعن ثعلب: هذا يقال بهذا اللفظ، ولا يقال فيه: أوشك. وقوله: (أَلاَ وَإِنَّ فِيالجَسَدِ مُضْغَةً) فيه دلالة على إصلاح القلب ورياضةِ النفس، واستدلَّ ابن بطال بهذا الحديث على أن القلب فيه العقل، وأن ما في الرأسِ هو من سبب القلب. وللعلماء في هذه المسألة خلاف، فذهب الشافعي إلى ما قاله ابن بطال، وذهب أبو حنيفة إلى أنه في الرأس. قال أبو زكريا: استدلَّ بعض أصحابنا بهذا الحديثِ، وبأنَّه لو حَلَفَ لا يأكلُ لَحْمًا فأكلَ قَلْبًا حنث، وقيل: لا يحنث، وهو الصحيح؛ لأنه يُسمَّى لحمًا عرفًا. والمضغة: القطعة من اللحم قدر ما يمضغه الماضغ. وقوله: (صَلَحَتْ) بفتح اللام في الماضي، ومضارعه يصلُح بضم اللام، وكذلك فسد، وعن القرطبي: صلُح وفسُد بضم العين فيهما، إذا صار الصلاح أو الفساد هيئةً لازمة له.
(1/12)
و
(القلبُ): مصدرُ قلبتُ الشيءَ أقلبه قلبًا إذا رددتَه على يديه، وسُمِّيَ هذا
العضو بذلك لسرعة الخواطر فيه وترددها. وفي «المخصص»: جمع القلب قلوب وهو الفؤاد،
وجمعه أفئدة، وهو الجَنَان والجأش
بَابُ تَفْسِيرِ المُشَبَّهَاتِوَقَالَ حَسَّانُ بنُ أَبِي سِنَانٍ: مَا رَأَيْتُ
شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ الوَرَعِ، دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ. هذا
التعليق أخبرنا به الإمام المسند ضياء الدين موسى الخطيب قراءة عليه، أخبرنا عبد
اللطيف الحرَّاني قراءة عليه، عن اللَّبَّان والحَمَّال، أخبرنا أبو علي، وأنبأنا
به عاليًا أبو الحسن البخاري، عن جماعة من الأصبهانيين، عن أبي عليٍّ، قال: أخبرنا
أبو نعيم، حَدَّثنا محمد بن جعفر، حَدَّثنا محمد بن أحمد بن عمرو، حَدَّثنا عبد
الرحمن بن عمر رُسْتَه، قال: أخبرنا زهير بن نُعيم البابي، قال: «اجتمع يونس بن
عبيد وحسان بن أبي سنان يعني أبا عبيد الله عابد أهل البصرة فقال يونس: ما عالجت
شيئًا أشدَّ عليَّ من الورع، فقال حسان: لكن أنا ما عالجتُ شيئًا أهونَ عليَّ منه،
قال يونس: كيف؟ قال حسان: تركت ما يَريبني إلى ما لا يَريبني فاسترحت».وبالإسناد
إلى أبي نعيم الحافظ قال أبو بكر بن مالك: حَدَّثنا عبد الله بن أحمد، حدثني الحسن
بن عبد العزيز الجَرَوي، قال: كتب إلينا ضمرة، عن عبد الله بن شَوذب، قال: قال
حسان بن أبي سنان: «ما أيسر الورعَ، إذا شككتَ في شيء فاتركه».ولفظة: (دَعْ مَا
يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ) رويناها عن سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم من حديث الحسن بن علي، وقيل له: «ما حفظتَ من رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم؟ قال: دعْ ما يَريبك إلى ما لا يريبك»، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال
الحاكم: صحيح الإسناد. وشاهده حديثُ أبي أُمَامَةَ: «أنَّ رجلًا سألَ النبيَّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما الإيمانُ؟ قال: إذا سرَّتك حسنتُك وساءتك سيئتك فأنت
مؤمن.
(1/13)
قال: يا رسول الله! ما الإثم؟ قال: إذا حاك في صدرك شيءٌ تدعه».وفي كتاب «الربا» لمحمد بن أسلمَ من حديثِ ابن لَهيعةَ عن يزيد عن سويد بن قيس، عن عبد الرحمن بن معاوية بن جريج، أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لمن سأله عمَّا يحلُّ له: «ما أنكر قلبك فدعه».وذكر البخاري حديث: 2052 - عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ: «أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَزَوْجَهُ بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَذَكَرَ ذلك لِلنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقَالَ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ!». [خ 2052] وعند الترمذي: «فجاءت امرأة سوداء، فقالت: إني أرضعتكما، وهي كاذبة، فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: دعها عنك».ذهب جمهور العلماء إلى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفتاه بالتحرُّز من الشبهة، وأمره بمجانبة الرِّيبة خوفًا من الإقدام على فرجٍ يخاف أن يكون الإقدام عليه ذريعة إلى الحرام؛ لأنه قد قام دليل التحريم بقول المرأة، لكن لم يكن قاطعًا ولا قويًا لإجماع العلماء على أن شهادة امرأةٍ واحدةٍ لا تجوز في مثل ذلك، لكنه أشار عليه بالأحوط يدلُّ عليه أنَّه لما أخبره أعرضَ عنه، فلو كان حرامًا لما أخَّره وأعرضَ عنه؛ بل كان يجيبه بالتحريم، فلما كرَّر عليه مرَّة بعد أخرى أجابه بالورع. واسم الزوجة: غنية بنت أبي إِهَاب، ذكره الزبير.
(1/14)
2053 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ الله! ابْنُ أَخِي كَانَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، وقَالَ عَبْدُ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، والوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. ثم قال: لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّه عزَّ وجلَّ». [خ 2053] وذكره الطحاوي من حديث عروة عن عكرمة عن عبد الله بن زَمْعة: «أنَّه خاصم رجلًا إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وَلَدٍ وُلِدَ على فراش أبيه، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة»، قال: والأول أولى؛ لموافقة الجماعة، ولأن عبد الله بن زمعة لا يُعلَمُ له حديث عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سوى حديث الوليد، وعبد الله بن زمعة الذي روى عنه عروة أَمْرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باستخلاف أبي بكر عن الصلاة، وحديث عاقر الناقة ليس هو بابن زمعة أخي سودة، إنما هو عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب. وذكر ابن منده عتبةَ بن أبي وقاص في الصحابة.
(1/15)
قال أبو نعيم: وهو الذي شجَّ وجهَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكسر رَباعيته يوم أحد، وما علمت له إسلامًا، ولم يذكره أحد من المتقدمين في الصحابة، وقيل: إنه مات كافرًا. وروى معمر عن عثمان الجزري عن مقسم أن عتبةَ لما كسر رباعيته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا عليه فقال: «اللهم! لا تحوِّل عليه الحول حتى يموت كافرًا»، فما حال عليه الحول حتى مات كافرًا. وذكر الزبير أنا أصاب دمًا في قريش فانتقل إلى المدينة قبل الهجرة، فاتخذ بها منزلًا ومالًا ومات في الإسلام، وأوصى إلى أخيه سعد وأمه هند بنت وهب بن الحارث بن زهرة. والولد المنازَعُ فيه هو: عبد الرحمن بن زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فِهر، هذا هو الصحيح في نسبه، وكانت أمه من موالي اليمن، ولعبد الرحمن هذا عقبٌ بالمدينة، وله ذكر في الصحابة. قال الخطابي: كان من عادات أهل الجاهلية مخارجة الولائد، وإلزامهنَّ ضرائب معلومة في كل يوم، وساداتهنَّ مع ذلك لا يمتنعون من الإلمام بهنَّ، وإذا حملت الجارية استلحقَه سيِّدُها إذا ظنَّ أن الولد منه، فإن اشتبه أمرُه عليه دعا القافة، وكان حكم الإسلام الولد لصاحبالفراش، فحكم فيه وألحق الولد بزمعة، ثم ينظر إلى شبه المولود بعتبة، والشبه مع عدم الفراش نوع من الدلالة، وبه تحكم القافة، فأشار صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سودة بالاحتجاب منه، فلا يدخل عليها دخول الإخوة إلى الأخوات، وذلك من باب الورع في الباطن، وفي حكم الظاهر حكم لها بإخوته حتى لو مات لكانت ترثه إن لم يكن هناك من يحجبها.
(1/16)
قال ابن الجوزي: فإن مات السيد ولم يكن ادعاه ولا أنكره، فادعاه وارثه لحق به، إلا أنه لا يشارك مستلحقيه في ميراثهم إلا أن يُستلحَقَ قبل القسمة، فإن كان السيد قد أنكره لم يُلحَقْ به بحال، فكان سعد بن أبي وقاص يقول: هو ابن أخي، يشير إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، وكان عَبد يقول: هو أخي ولد على فراشه، يشير إلى ما استقرَّ عليه الحكم في الإسلام، فقضى به رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إبطالًا لحكم الجاهلية. وفي قوله لسودة: (احْتَجِبِي مِنْهُ) دليل على أن من فجر بامرأة حرمت على أولاده، وهو مذهب أحمد، وذلك أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لما رأى الشبه لعتبة علم أنه من مائه، فأجراه في التحريم مجرى النسب فأمرها بالاحتجاب منه. وعند الشافعي ومالك لا يحرم عليهم، وحملوا قوله: (احْتَجِبِي مِنْهُ) على الاستحباب والتنزه. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون ذلك لتغليظ أمرِ الحجاب في حقِّ سودة، ولذلك قال في حفصة وعائشة في حقِّ ابن أم مكتوم: «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟»، وقال لفاطمة بنت قيس: «انتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم تضعين ثيابك عنده» فأباح لها ما منعه لأزواجه. وقول عبد: (أَخِيْ) تمسَّك به الشافعي على أن الأخ يجوز أن يستلحق الوارث نسبًا لمورثه بشرط أن يكون حائزًا للإرث، أو يستلحقه كل الورثة، وبشرط أن يمكن كون المستَلْحَقِ ولدًا للميت، وبشرط أن لا يكون معروف النسب من غيره، ويشترط أن يصدقه المستلحق إن كان بالغًا عاقلًا. قال النووي: وهذه الشروط كلها موجودة في هذا الولد الذي ألحقه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزمعة حين استلحقه عبد، قال: وتأول أصحابنا هذا تأويلين: أحدهما: أن سودةَ أخت عبد استلحقته معه ووافقته في ذلك حتى يكون كل الورثة مستَلحِقِينَ. والتأويل الثاني: أن زمعة مات كافرًا فلم ترثه سودة لكونها مسلمة، وورثه عبد.
(1/17)
وقال مالك: لا يَستلحِقُ إلا الأبُ خاصة؛ لأنه لا ينزل غيره في تحقيق الإصابة منزلته. قال القرطبي: وقد اعتُذِرَ عن مالك لذلك الظاهر بوجهين: أحدهما: أن الحديث ليس نصًّا في أنه ألحقه به، بمجرِّد نسبة الأخوة، فلعل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علم وطء زمعة تلك الأمة بطريقٍ اعتمدها من اعتراف أو غيره فحكم بذلك باستلحاق الأخ. والثاني: أن حكمه به لم يكن بمجرد الاستلحاق بالفراش، ألا ترى إلى قوله: (الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ)، وهذا تقعيد قاعدة، فإنه لما انقطع إلحاق هذا الولد بالزاني لم يبق إلا أن يلحق بصاحب الفراش إذ قد جاز الأمر بينهما. قال الطحاوي: وقد جعل بعض الناس دعوى سعدٍ المذكور في هذا الحديث دعوى ادعاها لأخيه من أمه لغيره لا تزويج بينهما، والذي قال من ذلك ليس كما قال؛ لأن سعدًا أعلم من أن يَدعي! دعوى لا معنى لها. ووجه دعواه أن أولاد البغايا في الجاهلية قد كانوا يلحقونهم في الإسلام بمن ادَّعاهم، وقد كان عمر بن الخطاب يحكم بذلك على بُعدِهِ من الجاهلية، فكيف في عهد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع قربه من الجاهلية، فإنَّما ادَّعى سعد ما كان يحكم له به لأنه بمنزلة أخيه في ذلك الذي قد توفي بعهده إليه فيه، لولا أن عبد بن زمعة قابلَ دعواه بدعوى توجب عتاقة للمدعي فيه؛ لأنه كان يملك بعضه بكونه ابن أمة أبيه، فلما ادَّعى أنه أخوه عتق منه حظُّه، فكان ذلك هو الذي أبطل دعوى سعد فيه؛ لا لأنها كانت باطلة، ولم يكن من سودة تصديق لأخيها عبد على ما ادَّعاه من ذلك، فألزمه رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أقرَّ به في نفسه، وخاطبه بقوله: (الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) ولم يجعل ذلك حجة عليها وأمرها بالحجاب منه إذ لم يجعله أخاها، وكيف يجوز أن يجعله أخاها ويأمرها بالاحتجاب؟ وهو قدأنكر على عائشة احتجابَها من عمها من الرضاعة.
(1/18)
ولا اختلاف بين المسلمين أن من مات وبيده عبد فادَّعى بعض بني المتوفَّى أنه أخوه أنه لا يثبت له بتلك الدعوى نسبٌ من المتوفى، وأنه يدخل مع المدعي في ميراثه عند أكثر أهل العلم، وإن كان ما يدخل به مُختَلَفًا في مقداره، ولا يدخل في قول آخرين في شيء مما بيده، منهم الشافعي، وحكى أنه قول جماعة من المدنيين. قال الطحاوي: وقد روي عن عبد الله بن الزبير أنه قال: «كانت لزمعة جارية يطؤها، وكان يظن برجل يقع عليها، فمات زمعة وهي حامل، فولدت غلامًا كان يشبه الرجل الذي يظن بها، فذكرته سودةُ لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أما الميراث فله، وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس بأخ لك» ففي هذا الحديث نفيُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يكون المدعي أخًا لسودة. واحتمل قوله: «أما الميراث فله» أن يكون المراد به الميراث الذي وجب له في حصة عبد بإقراره به، لا فيما سواه من تركة زمعة. قال أبو عمر: في هذا الحديث الحكم بالظاهر، إذ حَكَمَ للولد بالفراش ولم يلتفت إلى الشبهة، وكذلك حكم في اللعان بظاهر الحكم ولم يلتفت إلى ما جاءت به على النعت المكروه. قال القرطبي: قوله: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ) هكذا الرواية بإثبات ياء النداء، و «عبد» منادى مفرد، يريد به عبدَ بن زمعة، ولاشك في هذا، وقد وقع لبعض الحنفية «عبد» بغير ياء، يفسر به، وفرَّ بذلك عما لزمهم من إلحاق الولد من غير اشتراط ولدٍ متقدم، وقالوا: إنما ملكه إياه لأنه ابن أمة أبيه لا أنه ألحقه بأبيه. قال القرطبي: هذه غفلة عن الرواية واللسان، أما الرواية: فقد ذكرناها، وأما اللسان: فلو سلمنا أن الرواية بغير ياء، فالمخاطب عبد بن زمعة، وهو بلا شك منادى إلا أن العرب تحذف حرف النداء من الأسماء الأعلام، كما قال جلَّ وعزَّ: {يُوْسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29] وهو كثير، و «عبد» هنا اسم علم يجوز حذف حرف النداء منه.
(1/19)
واحتج بعض الحنفية ومن وافقهم بهذا الحديث على أن الوطء بالزنا له حكم الوطء بالنكاح في حرمة المصاهرة، وبهذا قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد. وقال مالك والشافعي وأبوثور وغيرهم: لا أثر للوطء من الزنا؛ بل للزاني أن يتزوج بأم المزني بها وبنتِها، وجوَّز الشافعي نكاح البنت المتولدة من مائه بالزنا. وفي هذا الخبر دلالة أن حكم الحاكم لا يُحِلُّ الأمر في الباطن؛ لأمره سودة بالاحتجاب. ثم إن الأمة عند الشافعي ومالك تصير فراشًا بالوطء، ولا تصير فراشًا بمجرد الملك حتى لو بقيت في ملكه سنين لم يطأها وأتت بأولاد ولم يُقِرَّ بوطئها لا يلحقه أحد منهم، فإذا وطئها صارت فراشًا، فإذا أتت بعد الوطء بولد أو أولاد لمدة الإمكان لحقوه. وعند أبي حنيفة لا تصير فراشًا إلا إذا ولدت ولدًا فاستلحقه، فما أتى بعد ذلك يلحقه إلا أن ينفيَه، قال: فلو صارت فراشًا بالوطء لصارت بعقد الملك كالزوجة. وزعم المازَري أن بعضَ الحنفية قال: إنما أمر سودة بالاحتجاب منه لما جاء في بعض الروايات: «احتجبي منه، فإنه ليس لك بأخ» قال: وهذه الزيادة لا تعرف في هذا الحديث، بل هي زيادة باطلة مردودة، وكذا قاله المنذري والنووي وغيرهما. انتهى. هذه الزيادة رواها النسائي في «سننه» بسند صحيح عن إسحاق بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير مولىً لهم، عن عبد الله بن الزبير قال: «كان لزمعة جارية» الحديث، وفيه: فقال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الولدُ للفراش، واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ».يوسف: ذكره ابن حبان في كتاب «الثقات»، وصحَّح حديثه الحاكم، وباقي مَنْ في السند لا يُسأَلُ عنهم. وقوله: (لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ) أي الخيبة له، ولا حقَّ له في الولد، وعادةُ العرب تقول ذلك وتريد به ليس له إلا الخيبة.
(1/20)
وقيل:
إن الحجر هنا يريد أنه يُرجَمُ بالحجارة، وهو ضعيف؛ لأنه ليس كلُّ زانٍ يُرجَم،
وإنما يرجم المحصن خاصَّة، ولأنه لا يلزم من رجمه نفيُ ولدِه، والحديث إنما وردَ
في نفي الولد عنه. وقوله: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ) يجوز في (عبد) ضم
الدال وهو الأفضل، وفتحها إتباعًا لنون (بن)، وزَمعة: بفتح ميمه، وتسكن، وهو
المشهور. حديث عدي تقدم في الطهارة، وذكره هنا لقوله: 2054 - «إِنَّمَا سَمَّيْتَ
عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ». [خ 2054] ويأتي الكلام عليه إن شاء
الله تعالى في كتاب الصيد. بَابُ مَا يُتَنَزَّهُ عنه مِنَ الشُّبُهَاتِ 2055 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ
فِي الْطَّرِيْقِ فَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لَأَكَلْتُهَا». [خ
2055]
وَقَالَ هَمَّامٌ، قَالَ أَبُوْ هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم قَالَ: «أَجِدُ تَمْرَةً سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي».
هذا التعليق رواه البخاري مسندًا في كتاب اللقطة عن محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد
الله، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة يَرفعه: «إنِّي لأنقلبُ إلى أهلي، فأجد
التمرة ساقطةً على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقةً، فألقيها».
وعند الحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم تضوَّرَ ذاتَ ليلة، فقيل له ما أسهركَ؟ قال: إني وجدتُ تمرةً ساقطةً
فأكلتُها، ثمَّ ذكرتُ تمرًا كان عندنا من تمرِ الصدقة، فلا أدري أَمِنْ ذلك كانت
التمرةُ، أو مِنْ تمرِ أهلي؟ فذلك أسهرني» وقال: صحيح الإسناد.
وعند الترمذي عن عطية السعدي يرفعه: «لا يبلغُ العبدُ أن يكون من المتَّقين حتى
يدَعَ ما لا بأسَ به حذرًا مما بأس به» قال الترمذي: حديث حسن غريب.
(1/21)
في
هذه النسخة: (مَسْقُوطَةٍ) وهي مفعولة بمعنى فاعلة، كقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ
وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61]، أي آتيًا، وكذا قوله عزَّ وجلَّ: {حِجَابًا
مَسْتُورًا} [الإسراء: 45]؛ أي ساترًا. انتهى.
يشكل على هذا أنَّ البناء للمفعول لا يكون لأمرِ الفعل المتعدِّي، وهو هنا قاصر.
فينظر.
قال المهلب: إنما ترك النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكل التمرة تنزُّهًا عنها،
لجواز أن يكون من تمر الصدقة، وليس على غيره بواجب أن يتتبَّع الجوازات؛ لأنَّ
الأشياء مباحة حتى يقوم الدليل على الحظر، فالتنزه عن الشبهات لا يكون إلا فيما
أَشكَلَ أمرُه ولا يُدرَى أحلال هو أم حرام، واحتمل المعنيين ولا دليل على أحدهما،
ولا يجوز أن يحكم على من أَخَذ مثل ذلك أنه أخذ حرامًا؛ لاحتمال أن يكون حلالًا،
غير أنَّا نستحبُّ من باب الورع أن نقتدي بسيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فيما فعل في التمرة، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لوَابِصة بن معبد:
«البر ما اطمأنت إليه نفسك، والإثم ما حاك في الصدر».
كذا ذكره عن وابِصة، والمعروف أنه قال هذا للنواس بن شهاب، فينظر.
وقال ابن عمر: «لا يبلغ أحد حقيقةَ التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر».
وقال أبو الحسن القابسي: إن قال قائل: إذا وجد التمرة في بيته فقد بلغت محلَّها
وليست من الصدقة؟ قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقسم
الصدقةَ ثم ينقلب إلى أهله، فربما علقت تلك التمرةُ بثوبِه فسقطت على فراشه فصارت
شبهة.
وقال غيره: فيه تحريم قليلِ الصدقة وكثيرِها على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
كما أسلفناه قبلُ.
(1/22)
وفي
هذا الحديث: أن أموالَ المسلمين لا يحرم منها إلا ما له قيمة ويتشاحُّ في مثله، وأما
التمرة واللّبابة من الخبز أو التَّينة أو الزَّبيبة وما أشبهها فقد أجمعوا على
أخذها ورفعها من الأرض وإكرامها بالأكل دون تعريفها استدلالًا بقوله: «لأكلتها»
وأنها مخالفة لحكم اللُّقطة.
قال الخطابي: وفيه أنَّه لا يجب على آخذها التَّصدق بها؛ لأنه لو كان سبيلُها
التصدق لم يقل: «لأكلتها».
وفي «المدوَّنة»: يتصدَّق بالطعام تافهًا كان أو غير تافه أعجبُ إليَّ إذا خُشيَ
عليه الفساد بوطء أو شبه.
وعن مطرف: إن أكلَه غَرِمَهُ وإن كان تافهًا.
وهذا الحديث حجةٌ عليه، قال: وإن تصدق به فلا شيء عليه.
وحديث أنس وحديث أبي هريرة يدلُّ أنهما واقعتان؛ لأن أحدَهما وجد تمرة في الطريق،
والأخرى على فراشه.
بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوَسْوَاسَ منَ الشُّبُهَاتِ
2056 - حديث عبد الله بن يزيد تقدم في الطهارة، وقال بأثره هنا: [خ 2056]
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: «لاَ وُضُوءَ إِلَّا مَا
وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ».
ابن أبي حفصة هذا: هو أبو سلمة، محمد بن أبي حفصة ميسرة البصري، خُرِّجَ حديثه في
«الصحيحين» وغيرهما.
2057 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ المِقْدَامِ، حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ، حَدَّثنا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَائِشَةَ: «أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا
بِاللَّحْمِ لاَ نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ أَمْ لاَ؟ فَقَالَ
رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سَمُّوا اللَّه جلَّ وعزَّ عَلَيْهِ
وَكُلُوهُ». [خ 2057]
قال: وعند الدارقطني من حديث مالك عن هشام عن أبيه عنها: «أن أناسًا من أهل
البادية يأتون بأجبان أو بلُحْمَانٍ لا ندري أسمَّوا الله عليها أم لا؟ فقال صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: سمُّوا
عليها ثم كلوا».
(1/23)
قال
أبو الحسن: تفرد به عبد الوهاب بن عطاء عن مالك متَّصلًا، وغيره يرويه عنه مرسلًا
لا يذكرُ عائشةَ.
وقال أبو عمر: لم يُختَلَفْ عن مالكٍ في إرسال هذا الحديث فيما علمتُه، وقد أسندَه
جماعة عن هشام.
قال ابن أبي شيبة: حَدَّثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن هشام، عن أبيه، عن جدِّه، عن
عائشة، وقال حَوثرة بن محمد: حَدَّثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه عن عائشة
فذكرته.
قال: وفي هذا الحديث من الفقهِ أنَّ ما ذبحه المسلم ولم يُعرَفْ هل سمَّى اللهَ
عزَّ وجلَّ عليه أم لا؟ أنه لا بأس به، وهو محمول على أنه قد سمَّى اللهَ تعالى
عليه؛ إذ المؤمنُ لا يُظنُّ به إلا الخير، وذبيحته وصيدُه أبدًا محمولةٌ على
السلامة حتى يصحَّ فيه غير ذلك، من تعمُّدِ تركِ التسمية ونحوه.
وقد قيل في معنى هذا الحديث: إن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنما أمرهم بأكلها
في أولِ الإسلام قبل أن ينزل عليه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
الله عَلَيْه} [الأنعام: 121].
قال ابن التين: هذا القول ذكره مالك في «الموطأ»، وقد رُوِيَ ذلك مُبيَّنًا في
حديث عائشة من أنَّ الذَّابحين كانوا حديثي عهدٍ بالإسلام ممَّن يصح أن لا يعلموا
أنَّ مثل هذا شرع، وأمَّا الآن فقد بانَ ذلك حتَّى لا تجدَ أحدًا لا يعلمُ أن
التسميةَ مشروعة، ولا يُظَنُّ بالمسلمين تَعَمُّدُ تركِها.
وأما الساهي فليسمِّ إذا ذَكَر، ويسمِّ الآكلُ لما يُخشَى من النسيان لها.
قال مالك: بلغني أنَّ ابنَ عباس سُئِلَ عن الذي نَسِيَ أن يُسمِّيَ الله عزَّ
وجلَّ على ذبيحته، قال: «يسمي اللهَ ويأكلُ ولا بأس عليه»، وقال مالكٌ مثلَه.
(1/24)
قال
أبو عمر: ومما يدلُّ على بطلانِ قول من قال: إن ذلك كان قبل نزول: {وَلَا
تَأكُلُوا} أن هذا الحديث كان بالمدينة، وأنَّ أهل باديتها هم الذين أُشير إليهم
بالذِّكر في الحديث، ولا يختلف العلماءُ أن الآيةَ نزلت في الأنعام بمكَّة، وأن
الأنعام مكية. انتهى كلامه.
وفيه نظر: لما ذكره أبو العباس الضرير في كتابه «مقامات التنزيل» والثعلبيُّ
وغيرهما: أنَّ في الأنعام آياتٍ ست مدنيات نزلنَ بها، فإطلاق أبي عمر كلامَه بأنها
- يعني كلها - مكية غير جيد.
قال أبو عمر: وأجمع العلماء على أنَّ التسمية على الأكل إنما معناها التبرُّك، لا
مدخل لها في الذكاة
بوجهٍ من الوجوهِ؛ لأنَّ الميت لا يدركه ذكاة.
واستدلَّ جماعةُ العلماء على أن التسمية ليست بواجبة فرضًا بهذا الحديث لما أمرهم
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأكلِ لحم ذبيحة الأعراب بالبادية؛ إذ يمكن أن
يُسمُّوا، ويمكن أن لا يسموا لجهلهم، ولو كان الأصل أن لا يؤكل من ذبائح المسلمين
إلا ما صحَّت التسمية عليه لم يجز استباحة شيء من ذلك إلا بيقينٍ من التسمية؛ إذ
الفرائض لا تُؤدَّى إلا بيقين، والشك والإمكان لا يُستباحُ به المحرمات.
قالوا: وأما قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله
عَلَيْه}،فإنما خرج على تحريم الميتة وتحريم ما ذبح على النصب وأهلَّ به لغير
الله.
روينا عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «خاصمت اليهود إلى
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل ما قتل الله؟
فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْه}
الآية.
(1/25)
قال
أبو عمر: كذا في الحديث «اليهود»، وإنما هو «المشركون»؛ لأن اليهود لا يأكلون
الميتة، ثم ذكرَ عن وكيع عن أبيه عن ابن عباس في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الله عَلَيْه} قال: «خاصمهم المشركون
فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه» الحديث.
قال أبو عمر: المخاصمة التي ذكر الله جلَّ وعزَّ هي التي قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ
لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]
يريد قولهم: ما قتل الله تعالى.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والحسن بن حيٍّ: إنْ تَرَكَ التسميةَ عمدًا
لم تؤكل ذبيحته ولا صيده، وهو قول إسحاق، ورواية عن أحمد بن حنبل، قالوا: تارك
التسمية عمدًا متلاعب بإخراج النَّفْس عن شريطتها، وقد أجمعوا أن من شرائط الذبيحة
والصيد التسميةَ، فمن استباحَ ذلك غيَّر شريطتَه عامدًا، دخل في الفسق الذي قال
تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}.
وقال الشافعي وأصحابه: تؤكل الذبيحةُ والصيدُ في الوجهين جميعًا، تعمَّد ذلك أو
نسيه، وهو قول ابن عباس وأبي
هريرة.
وقال أبو ثور وداود: من تركَ التسمية عامدًا أو ناسيًا لم تؤكل ذبيحته ولا صيده.
قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا من السلف روي عنه هذا المذهب إلا محمد بن سيرين
والشعبي على خلاف عنه، ونافع.
قال ابن الجوزي: في قوله: (سَمُّوا أنتم وَكُلُوا) ليس يعني أنه يجزئ عمَّا لم
يُسمَّ عليه؛ ولكن لأنَّ التسمية على الطعام سنة.
قال ابن التين: إقرارُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم على هذا السؤال وجوابه
لهم بما جاوبَهم يدلُّ على اعتبار التسمية في الذبائح.
(1/26)
وقال
ابن بطال: وإنما لم يدخل الوسواس في حكمِ الشبهاتِ المأمورِ بإخفائها لقوله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسَها ما لم تعمل به أو
تكلم»، فالوسوسة ملغاة مُطَّرحة لا حكم لها ما لم تستقرَّ وتثبت.
وحديث ابن زيد محمول عند الفقهاء على المستبيح الذي يعتريه ذلك كثيرًا، بدليل
قوله: «شكا إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»؛ لأن الشكوى إنما تكون من
علَّة، فإذا كثر الشكُّ في مثل ذلك وجب إلغاؤه واطِّراحه؛ لأنه لو أوجب صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم له حكمًا لما انفكَّ صاحبُه من أن يعود إليه مثل ذلك التخيل
والظن، فيقع في ضيق وحرج، وكذا حديث عائشة؛ لأنه لو حمل ذلك الصيد على أنه لم
يُذكَر اسم الله عليه لكان في ذلك أعظم الحرج، والمسلمون لا يُظَنُّ بهم ترك
التسمية، فضعفت الشبهة فيه، فلذلك لم يحكم بها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال: فإن قيل: فما معنى قوله: (سَمُّوا الله وَكُلُوا)؟ قيل: هذا منه أخذ بالحزم
في ذلك خشية أن يَنسى الذابح التسميةَ، وإن كانت التسميةُ عند الأكلِ غير واجبة.
وقال ابن التين: هو على الاستحباب.
وقيل: أن يستفتحوا بها أكْلَ ما لم تعرفوا أذكَروا اسمَ الله تعالى عليه أم لا؛
إذا كان الذابح ممن تصحُّ ذبيحته إذا سمَّى.
الباب الذي بعده تقدم.
بَابُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ المَالَ
2059 - حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثنا سَعِيدٌ
المَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ،
أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ». [خ 2059]
عند الحاكم من حديث الحسن عن أبي هريرة يرفعه: «يأتي على الناس زمانٌ لا يبقى فيه
أحدٌ إلا أكلَ الرِّبا، فإن لم يأكلْه أصابه من غباره» وقال: إن صح سماع الحسن من
أبي هريرة فهذا حديث صحيح.
(1/27)
قال
ابن بطال: هذا يكون لضعفِ الدِّين وعمومِ الفتن، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا»، وروي عنه أنه قال: «من بات كالًا من عمل
الحلال بات والله عنه راض، وأصبح مغفورًا له، وطلب الحلال فريضة على كل مؤمن»،
ذكره الجوزي في كتاب «الترغيب والترهيب» من حديث داود بن علي بن عبد الله بن عباس،
عن أبيه، عن جدِّه ابن عباس مرفوعًا مختصرًا.
وقال ابن التين: أخبر بهذا تحذيرًا؛ لأنَّ فتنة المالِ شديدة، وقد دُعِيَ أبو
هريرة إلى طعام، فلما أكلَ لم يرَ نكاحًا ولا ختانًا ولا مولودًا، قال: «ما هذا؟
قيل خفضوا جارية. فقال: هذا طعام ما كنا نعرفه، ثم قاءه، وقال: يقال: أول ما ينتن
من الإنسان بطنه».
أخبرنا المسندُ المعمَّرُ صالحُ بن مختار الصوفي قراءة عليه، أخبرنا ابن عبد
الدائم بن نعمة قراءةً عليه، أخبرنا أبو الفرج يحيى بن محمود الثقفي سماعًا، عن
أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل سماعًا، قال: أخبرنا عمر بن أحمد السِّمْسار،
أخبرنا أبو علي بن محمد بن عمر بن مسلم، حَدَّثنا عبيد الله بن بشر بن صالح،
حَدَّثنا أبو سعيد الكندي، حَدَّثنا أبو خالد الأحمر، قال: سمعت الثوري يقول: «كان
أقوام يدعون إلى الحلال فلا يقبلونه، وإنهم لفي جهدٍ يقولون: نخاف منه على
أنفسنا».
ومن حديثِ إسماعيل بن عياش، حَدَّثنا حميد الطويل، عن أنس يرفعه: «إنَّ مثل هذا
الدين كمثل شجرة ثابتة: الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصيام عروقها، والتآخي في
الله جلَّ وعزَّ نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله ثمرتها، فكما لا
تكمل هذه الشجرة إلا بثمرة
طيبة لا يكمل الإيمان إلا بالكفِّ عن محارم الله».
وعن عتبةَ بن يزيد قال: «قال عيسى ابن مريم صلوات الله عليه وسلامه: ابنَ آدم
الضعيف! اتَّقِ الله حيثما كنت، وكل كسرتك من حلال».
(1/28)
وروى
ابن عباس عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «من نبت لحمُه من سحتٍ
فالنَّار أولى به».
ومن حديث أبانَ بن أبي عيَّاش عن أنس قال: «قلت: يا رسول الله! اجعلني مستجاب
الدعوة، قال: يا أنس! أطبْ كسبَكَ تستجاب دعوتك، فإن الرجل ليرفع إلى فيه اللقمة
من حرام فلا يستجاب له دعوة أربعين يومًا».
وعن أبي حُمَيدٍ قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يحلُّ لامرئ أن يأخذً
عصا أخاه بغير طيب نفسه» قال: وذلك لشدَّة ما حرَّم الله تعالى من مال المسلم على
المسلم.
بَابُ خروج من التِّجَارَةِ
وَقَوْلِ الله عزَّ وجلَّ: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10].
2062 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، حَدَّثنا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ،
أخبرنا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: «أَنَّ
أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ،
وَكَأَنَّهُ كَانَ مَشْغُولًا، فَرَجَعَ أَبُو مُوسَى، وفَرَغَ عُمَرُ فَقَالَ:
أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ ائْذَنُوا لَهُ، قِيلَ: قَدْ
رَجَعَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: لتَأْتِينِي عَلَى
هذا بِالْبَيِّنَةِ، فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسِ الأَنْصَارِ، فَسَأَلَهُمْ،
فَقَالُوا: لاَ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَصْغَرُنَا أَبُو سَعِيدٍ
الخُدْرِيُّ، فَذَهَبَ بِأَبِي سَعِيدٍ، فَقَالَ عُمَرُ: أَخَفِيَ عَلَيَّ هذا مِنْ
أَمْرِ رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ أَلْهَانِي الصَّفْقُ
بِالأَسْوَاقِ، يَعْنِي الخُرُوجَ إِلَى التِجَارَةٍ». [خ 2062]
وعند مسلم: «جاء أبو موسى إلى عمر فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فلم
يأذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف،
فقال: ردُّوه عليَّ، فقال: يا أبا موسى! ما ردَّك؟ كنا في شغل،
(1/29)
قال:
سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «الاستئذان ثلاثًا، فإن أُذِنَ لك،
وإلا فارجع، قال: لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلتُ وفعلتُ، فذهب أبو موسى. فقال
عمر: إن وجدَ بيِّنة تجدوه عند المنبرِ عشيَّة، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه، فلما
أن جاء عمر بالعشي وجدَه، قال: يا أبا موسى ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم، أُبيُّ
بن كعب، قال: عدل، قال: يا أبا الطفيل ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يقول ذلك يا ابن الخطاب، فلا تكن عَذابًا على أصحاب رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئًا، فأحببت أن أثبت».
وعند أبي داود: «فقال عمر: لأبي موسى: إني لم أتهمْك، ولكن الحديث عن رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شديد».
وفي «الموطأ»: «أما إنِّي لم أتهمْك، ولكن خشيت أن تقولَ النَّاس على رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
قال أبو عمر: وقال بعضهم في هذا الحديث: «كلنا سمعه».
قال: وقد روى قومٌ هذا الحديثَ عن أبي سعيد عن أبي موسى، وإنما هذا من النَّقَلَةِ
لاختلاط الحديث عليهم، ودخول قصة أبي سعيد مع أبي موسى في ذلك كأنهم يقولون عن أبي
سعيد في قصة أبي موسى.
وفيه: إيجاب الاستئذان والاستئناس، وهو الاستئذان أيضًا في قوله جلَّ وعزَّ: {لَا
تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27].
وقال بعض أهل العلم: الاستئذان ثلاث مرات، مأخوذ من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58].
قال: يريد ثلاث دفعات، قال: فورد القرآن في المماليك والصبيان، وسنَّةُ رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الجميع.
(1/30)
قال
أبو عمر: ما قاله هذا ـ وإن كان له وجه ـ فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير
الآية الكريمة، والذي عليه
جمهورهم في قوله: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} أي ثلاثة أوقات، ويدل على صحة هذا القول
ذِكْرُه فيها: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ
الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ}.
وفيه: أن الرجل العالم قد يجد عند من هو دونَه في العلم ما ليس عندَه إذا كان طريق
ذلك العلم السمع، وإذا جاز هذا على عمر فما ظنُّك بغيره بعده، وقد قال ابن مسعود:
«لو أنَّ علمَ عمر وُضِعَ في كفة ووُضِعَ علم أحياء أهل الأرض في كفَّة أخرى لرجح
علم عمر عليهم».
قال أبو عمر: زعم قومٌ أن مذهب عمر لا يقبل خبر الواحد، وليس كما زعموا؛ لأن عمر
قد ثبت عنه خبر الواحد وقبوله وإيجاب الحكم به، أليس هو الذي نشد الناس بمنى: «من
كان عنده علم عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدية فليخبرنا».
وكان رأيه أن المرأة لا ترث من دية زوجها لأنها ليست من عصبته الذين يعقلون عنه،
فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: «كتبَ إليَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم أن ورِّث امرأة أَشْيَم من دية زوجها».
وكذلك نَشَدَ الناسَ في دية الجنين فقال حَمَلُ بن النابغة: «إنَّ رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم قضى فيه بغرَّةٍ، عبد أو وليدة، فقضى به عمر».
ولا يشك ذو لبٍّ ومن له أقلُّ منزلة من العلم أن موضع أبي موسى من الإسلام ومكانه
من الفقه والدين أجلُّ من أن يرد خبره ويقبل خبر الضحاك وحَمَل، وكلاهما لا يقاس
به في حال، وقد قال له عمر في «الموطأ»: «إني لم أتهمك» فدلَّ ذلك على اجتهاد كان
من عمر في ذلك الوقت لمعنى الله أعلم به.
(1/31)
وقد
يحتمل أن يكون عمر عندَه في ذلك الحينِ ممَّن ليست له صحبة من أهل العراق أو
الشام، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم لقرب عهدهم بالإسلام، وخَشِيَ عليهم أن
يختلقوا الكذب على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند الرغبة أو الرهبة أو
طلبًا للحجة لقلَّة علمهم، فأراد عمر أن يريَهم أن من فعل شيئًا ينكر
عليه، ففزع إلى الخبر عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليثبت له بذلك فعله
وجب التثبت فيما جاء به إذ لم يعرف حاله حتى يصح قوله، فأراهم عمر ذلك، ووافق أبو
موسى، وإن كان عنده معروفًا بالعدالة غير متهم؛ ليكون ذلك أصلًا عندهم، وللحاكم أن
يجتهد بما أمكنه.
وكان عمر قد استعمل أبا موسى، وبعثه سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
ساعيًا وعاملًا على بعض الصدقات، وهذه منزلة رفيعة في الثقة والأمانة.
وزعم أبو عيسى الترمذي أن عمرَ إنما أنكر على أبي موسى قوله: «الاستئذان ثلاث
مرات، فإن أذن لك وإلا فارجع»، وذلك أن أبا زُميل روى عن ابن عباس قال: حدثني عمر
بن الخطاب قال: «استأذنت على رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثلاثًا فأذن لي»،
وقال: حديث حسن غريب.
قال أبو عمر: وفيه دلالة على أن طلب الدنيا يمنع من استفادة العلم، وأنه كلَّما
ازداد المرء طلبًا لها ازداد جهلًا، وقلَّ علمه، ومِن هذا قول أبي هريرة: «أمَّا
إخواننا المهاجرون فكان يشغلهم الصَّفْقُ بالأسواق».
وروى عُقيل عن ابن شهاب أنه قال: «إنما تُسَنُّ التسليمات الثلاث؛ لأن النبيَّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتى سعدَ بنَ عبادة فقال: السلام عليكم، فلم يردوا، ثم
قال: السلام عليكم، فلم يردوا، ثم قال: السلام عليكم، فلم يدروا، فرجع صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم، فلما فَقَدَ سعدٌ صوتَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عرف أنه قد
انصرف، فخرج سعد في إثره حتى أدركه، فقال: وعليك السلام يا رسول الله، إنما أردنا
أن نستكثر من تسليمك» الحديث.
(1/32)
وروى
حماد بن سلمة، عن أيوب وحبيب، عن محمد، عن أبي هريرة قال رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «رسول الرَّجل إلى الرجل إذنه».
ومن أحسن حديثٍ يروى في كيفية الاستئذان ما رواه سَلَمة بن كُهيل عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس: «استأذن عمر على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: السلام على
رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟».
وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير، عن عمرو مولى آل عمر أنه حدثه أنه
دخل على عبد الله بن عمر بمكة قال: «فوقفتُ على الباب، فقلت: السلام عليكم، ثم
دخلت، فنظر في وجهي، ثم قال: اخرج، قال: فخرجت، ثم قلت: السلام عليكم، أأدخل؟ قال:
ادخل الآن».
وقال عطاء: قال سمعت أبا هريرة يقول: «إذا قال الرجل: أأدخل ولم يسلم؛ فلا تأذن له
حتى يأتي بمفتاح، قلت: السلام؟ قال: نعم».
ومن حديث إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي الزبير والوليد بن أبي المغيث، عن جابر قال
نبي الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له».
وروى عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «كان الناس ليس لبيوتهم ستر
ولا حجاب، فأمرهم الله جلَّ وعزَّ بالاستئذان، ثم جاءهم الله بالستور والخير، فلم
أر أحدًا يعمل بذلك بعد».
وأنكر رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على جابر حين دقَّ الباب فقال: «من هذا؟
قلت: أنا، قال: أنا! فكرهه».
والسنة: أن يسلم ويستأذن ثلاثًا؛ ليجمع بينهما، واختلفوا: هل يستحبُّ تقديم السلام
ثم الاستئذان؟ أو تقديم الاستئذان ثم السلام؟ وقد صحَّ حديثان في تقديم السلام.
فذهب جماعة إلى قوله: السلام عليكم، أأدخل؟
وقيل: يقدم الاستئذان.
واختيار الماوردي في «الحاوي»: إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله
قدَّم السلام، وإلا قدم الاستئذان.
(1/33)
وأما
إذا استأذن ثلاثًا فلم يؤذن له، فظن أنه لم يسمعه، ففيه ثلاثة مذاهب، أظهرها: أنه
ينصرف ولا يعيد الاستئذان، الثاني: يزيد فيه، الثالث: إن كان بلفظ الاستئذان
المتقدِّم لم يعده، وإن كان بغيره أعاده.
وقوله: (أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ) يعني الخروج إلى التجارة.
وقوله: (أَلْهَانِي) قال المهلب: من قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ
لَهْوًا انْفَضُّوُا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] فقرن التجارة باللهو، فسماها عمر
لهوًا مجازًا؛ أراد: شغلَهم البيع والشراء عن ملازمة النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم في كل أحيانه، حتى حضر من هو أصغر منِّي ما لم أحضره من العلم.
وذكر البخاري:
[بَاب] التِّجَارَةِ فِي البَحْرِ
وحديثه تقدم في أواخر كتاب الزكاة، وقال هنا:
(وَالفُلْكُ: السُّفُنُ، الوَاحِدُ وَالجَمْعُ سَوَاءٌ)
قال ابن سيده: سميت سفينة لأنها تسفن وجه الماء، أي: تقشره، فعيلة بمعنى فاعلة،
والجمع: سفائن وسفُن وسفين.
وقال ابن التين: والفلك جمع، وواحدته فَلَك بفتح اللام، مثل أُسد وأَسد.
وقال الفراء: والفلك يذكر ويؤنث.
قال البخاري:
(وَقَالَ مَطَرٌ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الله العظيم فِي القُرْآنِ
إِلَّا بِحَقٍّ، ثُمَّ تَلاَ: {وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14]).
قال ابن بطال: استدلال مطر الوراق بالآية حسن؛ لأن الله تعالى سخر البحر لعباده
لابتغاء فضله من نعمه التي عدَّدها لهم، وأراهم في ذلك عظيمَ قدرته، وسخَّر الرياح
باختلافها لحملهم وردِّهم، وهذا من عظيم آياته، ونبَّههم على شكره عليها بقوله:
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُوْنَ}.
وفيه ردٌّ لقول من منعَ ركوب البحر إبَّان ركونه، وهو قول يُروى عن عمر بن الخطاب،
وإذا كان الله قد أباح ركوبه للتجارة، فركوبه للحج والجهاد أجوز.
(1/34)
وأما
إذا كان ركوبه إبان ارتجاجه فالأمة مجمعة على أنه لا يجوز ركوبُه؛ لأنه تعرض
للهلاك، ولم يزلِ البحر يُركَبُ في قديم الزمان، ألا ترى ما ذكر في هذا الحديث أنه
ركب زمن بني إسرائيل.
قال الداودي: إنما ذكر هذا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُتَأسَّى به، فلا وجه لقول
من منع ركوبه. انتهى.
الذي ذكره ابن عبد الحكم وغيرُه عن عمر من منع ركوبه إنما كان لشدَّةِ شفقته على المسلمين،
وإلا لَمَّا حفر عمرُو بن العاص البحرَ ووصلَه إلى عمر خرج إليه، واستبشر بما حمل
إليه من الميرة وغيرها، وكان ذلك عن إذنه.
قال البخاري:
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَمْخَرُ السُّفُنُ الرِّيحَ، وَلاَ تَمْخَرُ الرِّيحَ مِنَ
السُّفُنِ إِلَّا الفُلْكُ العِظَامُ.
قال ابن التين: يريد أن السفن تمخر من الريح، وإن صفرت، أي تصوِّت، والريح لا
تمخر، أي لا تصوِّت من كبار الفلك؛ لأنها إذا كانت عظيمةً صوَّت الريح، فأسقط
مجاهد في، فيقرأ الفلكَ بالنصب، وفي خفضه قول آخر.
وقول البخاري في:
بَابُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الجمعة: 11].
2064 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ. [خ 2064]
فذكر حديث قدوم دَحيةَ، وقد تقدم في كتاب الصلاة.
قال المزي: محمد هذا هو ابن سلام.
وقال ابن المنير: إنما ذكر الآية في هذه الترجمة لمنطوقها، وهو الذم، وتقدم ذكرها
في باب الإباحة لمفهومها، وهو تخصيص ذمها بحالةِ اشتُغِلَ بها عن الصلاة والخطبة.
بَابُ التِّجَارَةِ فِي البَرِّ
وَقَوْلِهِ: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله}
[النور: 37].
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ القَوْمُ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ، وَلَكِنَّهُمْ
إِذَا نَابَهُمْ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الله، لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ
عَنْ ذِكْرِ الله، حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى الله.
ذكر البخاري فيه:
(1/35)
2060
- عَنْ أَبِي المِنْهَالِ، قَالَ: «كُنْتُ أَتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ، فَسَأَلْتُ
البَرَاءَ بنَ عَازِبٍ وَزَيْدَ بنَ أَرْقَمَ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالاَ: كُنَّا
تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَسَأَلْنَاهُ
عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ به، وَإِنْ كَانَ
نَسَاءً فَلاَ يَصْلُحُ». [خ 2060]
اختُلِفَ في هذا التبويب، هل هو البَر بفتح الباء، أو البُر بضمها، أو البز
بالزاي، وبكلها جاءت النسخ، ولم أر مُتقِنًا ضبطها، فينظر فيها وفي المناسبة
للباب.
وزعم ابن بطال: أن التجارة في البر ليس في الباب ما يقتضي تعيينَها من بين سائر
التجارات، غير أن قوله: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ} يدخل في
عمومه جميع أنواع التجارات من البر وغيره.
وذكر قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] [البقرة: 267].
وفي بعض النسخ: «كلوا من طيبات ما كسبتم»، والأول التلاوة، وكأنَّ الثاني من طغيان
القلم.
2065 - «إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ
كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا بِمَا كَسَبَ،
وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا».
وحديث أبي هريرة:
2066 - «إِذَا أَنْفَقَت منْ كَسْبِ زَوْجِهَا، عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، فَلَهُ
نِصْفُ أَجْرِهِ».
قال ابن التين: الحديثان غير متناقضين؛ وذلك أن قوله: (لها نِصْفُ أَجْرِهِ)، يريد
أن أجر الزوج وأجرَ مناولة الزوجة يجتمعان فيكون للزوج النصف وللمرأة النصف، فذلك
النصف هو أجرها كله، والنصف الذي للزوج هو أجره كله، وعلى هذا تتخرَّج رواية أبي
الحسن: «فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ» أينصف أجرها. انتهى.
(1/36)
الحديثان
غير محتاجين إلى جمع؛ لأن في الأول: كان لها أجرها بما أنفقت، والثاني: إذا أنفقت
من غير أمره فله نصف أجره، فالأول: لم يعين أجرها ولا مقدارَه، وفي الثاني: للزوج
نصف أجره لكونه لم يأذن، فلو أذن لاستوفى أجرَه كلَّه.
وقال المنذري: هو على المجاز، أي أنهما سواء في المثوبة، كلُّ واحد منهما له أجر
كامل، وهما اثنان فكأنهما نصفان.
وقيل: يحتمل أن أجرهما مثلان، فأشبه الشيء المنقسم بنصفين، وأن نيَّةَ هؤلاء
وإخراجهم الصدقة ماثلت قدرَ ما خرج من مال الآخر بغير يده، أو يكون ذلك فضل من
الله إذ الأجور ليست بقياسٍ ولا هي بحسب الأعمال، وذلك من فضله العميم جلَّ وعزَّ.
بَابُ مَنْ أَحَبَّ البَسْطَ فِي الرِّزْقِ
2067 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الكِرْمَانِيُّ، حَدَّثنا
حَسَّانُ، حَدَّثنا يُونُسُ، قَالَ مُحَمَّدٌ، عَنْ أَنَسِ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ،
أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ». [خ 2067]
محمد الراوي عن أنس: هو الزهري، وحسان: هو ابن إبراهيم الكِرماني.
وروينا في كتاب «الترغيب والترهيب» للحافظ أبي موسى المدني في حديث قال: هو حسن
جدًا عن عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إني رأيت
البارحة عجبًا! رأيت رجلًا من أمتي أتاه ملك الموت صلى الله عليه وسلم ليقبض روحه،
فجاءه بِرُّ والديه فردَّ ملك الموت عنه» الحديث.
وعن أبي هريرة يرفعه: «برُّ الوالدين يزيد في العمر»، رواه من حديث عثمان بن عبد
الرحمن الوقاصي، عن سهيل، عن أبيه، عنه.
وفي حديث داود بن المحبر، عن عباد، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة وأبي سعيد أن
رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ابنَ آدم! اتَّقِ ربك، وبِرَّ والديك،
وصِلْ رحمَك، يُمَدُّ لك في عمرك ويُيسَّرُ لك يسرُك، وتجنَّب عسرك، وييسر لك في
رزقك».
(1/37)
ومن
حديث داود بن عيسى بن علي، عن أبيه، عن ابن عباس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «إن صلة الرحم تزيد في العمر».
قال أبو موسى: وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأبي أُمامة،
ومعاوية بن حيدة، وأم سلمة رضي الله عنهم أجمعين.
ومن حديث زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه قال رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ بَرَّ والديه طوبى له، زادَ الله في عمره».
ومن حديث عبد الله بن الجَعْد عن ثوبان قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«لا يزيد في العمر إلا بِرُّ الوالدين، ولا يزيد في الرزق إلا صلةُ الرحم».
ومن حديث إبراهيم الشامي، عن الأوزاعي، عن محمد بن علي بن حسين، أخبرني أبي، عن
جدِّي، عن علي: «أنه سأل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قوله عزَّ وجلَّ:
{يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] فقال: هي الصدقة على وجهها،
وبرُّ الوالدين، واصطناع المعروف، وصلة الرحم تحوِّلُ الشقاء سعادة، ويزيد في
العمر، وتقي مصارع السوء».
زاد محمد بن إسحاق العُكَّاشي عن الأوزاعي: «يا علي! من كانت فيه خَصلة واحدة من
هذه الأشياء أعطاه الله تعالى الثلاث خصال».
وروي عن عمر وابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله بن رِئاب نحوه.
ومن حديث عكرمة بن إبراهيم، عن زائدة بن أبي الرقاد، عن موسى بن الصباح، عن عبد
الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «إن الإنسان
ليصل رحمَه وما بقي من عمره إلا ثلاثةُ أيام فيزيدُ الله تعالى في عمره ثلاثين
سنة، وإنَّ الرجلَ ليقطعَ رحمَه وقد بقيَ من عمره ثلاثون سنة فيَنْقُصُ الله تعالى
عمرَه حتى لا يبقى فيه إلا ثلاثة أيام»، قال: هذا حديث حسن لا أعرفه إلا بهذا
الإسناد.
(1/38)
ومن
حديث إسماعيل بن عياش، عن داود بن عيسى قال: «مكتوب في التوراة: صِلَةُ الرحم وحسن
الخلق وبِرُّ القرابة تَعمر الديار وتُكثِرُ الأموال وتزيد في الآجال وإن كان
القوم كفارًا».
قال أبو موسى: يُروَى هذا من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعًا عن التوراة.
قال أبو الفرج البغدادي: فإن قيل: أليس قد فُرِغَ من الأجل والرزق؟ فالجواب من
خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون المراد بالزيادة توسعةَ الرزق وصحةَ البدن، فإنَّ الغنى يُسمَّى
حياة، والفقرَ موتًا.
الثاني: أن يُكتَبَ أجلُ العبد مئةَ سنة، ويجعل تركيبه تعمير ثمانين سنة، فإذا وصل
رحمَه زادَه الله في تركيبه فعاش عشرين سنة أخرى، قالهما ابن قتيبة.
الثالث: أن هذا التأخيرَ في الأجلِ ممَّا قد فُرِغَ منه، لكنه علق الإنعام به بصلة
الرحم فكأنه كتب أن فلانًا يبقى خمسين سنة، فإن وَصَلَ رَحِمَهُ بقي ستين سنة.
الرابع: أن تكون هذه الزيادة في المكتوب، والمكتوب غير المعلوم، فما علمه الله
تعالى من نهاية العمر لا يتغيَّر، وما كتبه قد يُمحَى ويثبت، وقد كان عمر بن
الخطاب يقول: «إن كنتَ كتبتني شقيًا فامحني»، وما قال: إن كنت علمتني؛ لأن ما
عَلِمَ وقوعَه لا بد أن يقع.
ويبقى على هذا الجواب إشكال، وهو أن يقال: إذا كان المحتومُ واقعًا فما الذي أفاده
زيادةُ المكتوب ونقصانه؟
فالجواب: أن المعاملات على الظواهر، والمعلوم الباطن خفيٌّ لا يُعلَّقُ عليه حكم،
فيجوز أن يكون المكتوب يزيد وينقص ويمحى ويثبت، ليبلغ ذلك على لسان الشرع إلى
الآدمي، فيعلم فضيلة البر وشؤم العقوق.
ويجوز أن يكون هذا مما يتعلق بالملائكة صلوات الله عليهم وسلامه، فتُؤمَرُ
بالإثباتِ والمحوِ، والعلم الحَتْم لا يطَّلعون عليه، ومن هذا إرسال الرسل إلى من
لا يؤمن.
الخامس: أن زيادة الأجل تكون بالبركة فيه وتوفيق صاحبه لفعل الخير وبلوغ الأغراض،
فينال في قصر العمر ما يناله غيرُه في طويله.
(1/39)
وزعم
عياض أن المراد بذلك بقاء ذكره والجميل بعد الموت على الألسنة، فكأنه لم يمت، قال
سابق التبريزي:
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
وقال آخر: إن الثناء هو الخلد.
وذكر الحكيم الترمذي كلامًا لا أعلم معناه: وهو أن المراد بذلك قلة المقام في
البرزخ.
قال عياض: لا خلاف أن صلةَ الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة،
والأحاديث تشهد لهذا، ولكن الصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجرة،
وصلتها بالكلام ولو بالسلام.
ويختلف ذلك باختلاف القدرة والحاجة، فمنها واجب، ومنها مستحب، ولو وصل بعض الصلة
ولم يصل غايتَها لا يسمَّى قاطعًا، ولو قصر عما يقدر عليه وينبغي له لم يسمَّ
واصلًا.
واختلفوا في حدِّ الرحم التي تجب صلتُها، فقيل: في كل رحم محرَّم بحيث لو كان
أحدُهما ذكرًا والآخر أنثى حرُمتْ عليه مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام
وأولاد الأخوال، واحتجَّ هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في
النكاح ونحوه، وجواز ذلك في بنات الأعمام والأخوال.
وقيل: هو عامٌّ في كل رحم من الأرحام في الميراث يستوي فيه المحرم
وغيرُه، ويدل عليه قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ثم أدناك أدناكَ». انتهى.
يدل على هذا: «إذا افتتحتم مصر فإن لهم ذمة ورحمًا»، وحديث: «إنَّ من البرِّ أن
يصلَ الرجل أهل ودِّ أبيه» مع أنه لا محْرَميَّة.
وفي الحديث الحضُّ على صلة الرحم.
وفيه دليل على فضل الكفاف، قالهم الداودي.
وفيه اختيار الغنى على الفقر.
وقوله: (يُنْسَأَ) مهموز، أي يؤخر.
والأثر: مفتوح الهمزة والثاء: الأجل، والله تعالى أعلم، وسيأتي له تكملة في كتاب
الرقاق.
بَابُ شِرَاءِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِالنَّسِيئَةِ
(1/40)
2068
- حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثنا
الأَعْمَشُ، قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ
فَقَالَ: حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا
مِنْ حَدِيدٍ». [خ 2068]
وفي لفظ: «على ثلاثينَ صاعًا من شَعير».
هذا الحديث خرَّجه البخاري في أحدَ عشر موضعًا من كتابه.
وفي حديث:
2069 - أَنَسٍ: «أَنَّهُ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِخُبْزِ
شَعِيرٍ، وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ، وَلَقَدْرَهَنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دِرْعًا
بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ»،
وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صَاعُ بُرٍّ،
وَلاَ صَاعُ حَبٍّ، وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ». [خ 2069]
وعند الترمذي من حديث ابن عباس: «رَهَنَ درعَه بعشرينَ صاعًا من طعام أخذَه لأهله»
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وعند النسائي: «ثلاثينَ صاعًا من شعير لأهله».
وعند ابن أبي شيبة: «أخذها رزقًا لعياله».
ومن حديث شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بطعام».
وفي «مصنف ابن السكن»: «بوسق شعير»، ذكره ابن الطَّلَّاع.
وروى زيد بن أسلم: «أن رجلًا جاء إلى النبي يتقاضاه، فأغلظ له، فقال للرجل: انطلق
إلى فلان فليَبِعْنا طعامًا إلى أن يأتينا شيءٌ، فأبى اليهوديُّ إلا برهن، فقال:
اذهب إليه بدرعي».
وقيل: إنما أخذ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشعير لضيف طرقه، ثم فداها أبو
بكر.
وعند البزَّار عن ابن عباس قال: «استسلف رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من رجلٍ
من الأنصار أربعين صاعًا» الحديث.
وروينا في «مسند الشافعيِّ»: أن اليهودي يكنى أبا الشَّحم.
(1/41)
قال
ابن بطال: العلماء مجمعون على جواز البيع بالنسيئة، قال ابن عباس: هو في كتاب الله
جلَّ وعزَّ: {يَا أَيُّهَا الْذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمَّىً فَاكْتُبُوْهُ} [البقرة: 282].
وفي هذا الحديث: جوازُ معاملة من يخالط ماله الحرام، وقال الخطابي: يظن أن أكثر
ماله حرام ومبايعته؛ لأن الله تعالى أخبر أن اليهود أكَّالون للسُّحت.
وفيه: الرهن في الحَضَر، ومنَعَه مجاهدٌ في الحضر، وقال: إنما ذكر الله الرهن في
السفر، وتبعه داود بن علي، وفعلُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان بالمدينة، ولم
يمنعه الله إنما ذكر وجهًا من وجوهه وهو السفر.
وقال زفر والأوزاعي: يمتنع الرهن في السلم، وهذا الحديث حجة عليهما. انتهى.
في «المصنف» من حديث أبي عياض: أن علي بن أبي طالب كان يكره الرهن والقَبِيلَ في
السلم.
وكرهه ابن عمر وابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير وشُريح وسعيد بن المسيب، والإسناد
إليهم لا بأس به.
وفي الحديث: جواز رهنِ آلة الحرب عند أهل الذمة، قال ابن التين: وذلك أن من
أَمِنْتَه فأنت آمن منه، بخلاف الحربي، وفعل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك
بيانًا للجواز.
وقيل: لم يكن هناك طعام فاضل عن حاجة صاحبه إلا عنده، فلذلك رهنه عنده، وترك الرهن
عند الصحابة.
قال ابن الجوزي: وقوله: «ما أصبح لآل محمد إلا صاعٌ» شرح حال لا شكوى، وفائدة ذلك
من وجهين:
أحدهما: تعليم الخَلْقِ على الصبر، فكأنه قال: أنا أكرم الخلق على الله وهذه حالي،
فإذا ابتليتم أنتم فاصبروا.
والثاني: إعلام الناس بأن البلاء يليقُ بالأخيارِ ليفرح المبتلى.
وفيه: قبول هدية ما تيسر، وإهداء ما تيسر، وقد دُعِيَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى
خبز شعير وإهالة سَنِخة فأجاب، ذكره البيهقي عن الحسن مرسلًا.
(1/42)
وفيه
مباشرة الشريف والعالم شراء الحوائج بنفسه، وإن كان له من يكفيه، لأن جميع
المؤمنين كانوا حريصين على كفاية النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَه، وما يحتاج
إلى التصرف فيه رغبة منهم في رضاه وطلب الأجر والثواب.
والإِهَالَةُ: قال الداودي: هي الأَلْية.
والسَّنِخَة: بالسين المهملة والخاء معجمة بينهما نون مكسورة، المتغيرة الرائحة من
طول الزمان، من قولهم: سنِخ الدهن بكسر النون، تغيَّر.
وروي: «زَنِخة» بالزاي.
وفي «المحكم»: الإهالة ما أذيب من الشحم والزيت، وقيل: كل دهن أؤتدم به إهالة،
واستأهل أخذ الإهالة، أنشد ابن قتيبة لعمرو بن أسوى بن عباس قال:
لا بَلْ كُلي يا مَيَّ، واسْتَأْهِلي إنَّ الذي أَنْفَقْتُ منْ مالِيَهْ
وفي «الكتاب الواعي»: الإهالة ما أُذِيبَ من شحم الأَلْية.
وفي «الصحاح»: الإهالة الوَدَك.
وفي «الموعب»: الإهالة، الأَلْية يذيبها ونحوها تؤخذ فتقطع ثم تذاب فتلك الإهالة،
وهي الجَميلة والجُمال أيضًا.
وعند الهَرَوي: الإهالة الدسم ما كان.
بَابُ كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ
2070 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ
يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
«لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ
حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤنَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ
المُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا المَالِ، وَيَحْتَرِفُ
لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ». [خ 2070]
هذا موقوف، وهو مما تفرد به البخاري، وهو هنا خاصة.
وحديث:
2071 - عَائِشَة: «كَانَ الصَّحَابَةُ عُمَّالًا لأَنْفُسِهِمْ، فَكَانَ لَهُمْ
أَرْوَاحٌ». [خ 2071]
تقدم في كتاب الجمعة.
وقال هنا: «حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثنا عَبْدُ الله بْنُ يَزِيدَ»،
قال الجياني: هو محمد بن يحيى الذُّهْلي.
(1/43)
وقال
في آخره: «رَوَاهُ هَمَّامٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ».
وهو تعليق رواه أبو نعيم، عن إبراهيم بن محمد بن حمزة، حدثني أبو القاسم بن عبد
الكريم، حَدَّثنا أبو زُرْعة، حَدَّثنا هُدْبة، حَدَّثنا همام، عن هشام، عن أبيه،
عن عائشة: «كان القوم خدَّامَ أنفسهم، وكانوا يروحون إلى الجمعة، فأمروا أن
يغتسلوا».
وحديث:
2072 - ثَوْرِ بن يزيد، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ المِقْدَامِ: «مَا أَكَلَ
أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ
نَبِيَّ الله دَاوُدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ
يَدِهِ». [خ 2072]
تفرَّد بإخراجه البخاري دون أصحاب الكتب، وزعم الإسماعيلي أن سندَه منقطع، بين
خالد والمقدام: جبير بن نفير فينظر.
وفي الإسرائيليات: «سمع داود يومًا قائلًا يقول: نعمَ العبد داود، لو كان يأكل من
عمل يده، فدعا الله فعلَّمه صنعة الحديد».
وعند ابن ماجه من حديث إسماعيل بن عياش، عن بَحير بن سعد، عن خالد بن مَعدان، عن
مقدام بن معدي كرب قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ما من كَسْبِ الرجل
أطيب من عمل يديه، وما أنفق الرجل على نفسه وولده وخادمِه فهو صدقة».
وعند الحاكم عن أبي بردة ـ يعني ابن نِيار ـ: «سُئِلَ رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: أي الكسب أطيب وأفضل؟ قال: عمل الرجل بيده، وكلُّ بيع مبرور» , وعن البراء
بن عازِب نحوه، وقال: صحيح الإسناد.
وعن رافع بن خَديج مثله.
وحديث أبي هريرة مرفوعًا:
2073 - «أَنَّ دَاوُدَ كَانَ لاَ يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». [خ 2073]
تفرد به أيضًا البخاري، وعند الإسماعيلي زيادة وهي: «خفف على داود القرآن، فكان يأمر
بدوابه لتسرح، فكان يقرأ القرآن قبل أن تسرح، وإنه كان لا يأكل إلا من عمل يده».
وحديث:
2075 - الزُّبَيْرِ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حبلَهُ» تقدم. [خ 2075]
(1/44)
ومثله
حديث أبي هريرة عند البخاري.
وعند النسائي عن عائشة: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه».
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: «إن أطيبَ ما أكلتم من كسبكم» رواه
أبو داود.
قوله: الحرفة والاحتراف الكسب، واحترف احترافًا أنمى ماله وصلح.
وقوله: (شُغِلْتُ) أي أنه لما شُغِلَ بأمر المسلمين احتاج أن يأكل هو وأهلُه من
بيت مال المسلمين لاشتغاله عن الاحتراف لأهله.
قوله: (وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيْهِ) أي يتَّجر لهم حتى يعود عليهم من
ربحه بقدر ما أكلَ.
قال ابن بطال: وليس بواجب على الإمام أن يتَّجِرَ في مال المسلمين بقدر مؤنته، إلا
أن يتطوَّع بذلك كما تطوَّع أبو بكر؛ لأن مؤنته مفروضة في بيت مال المسلمين بكتاب
الله تعالى؛ لأنه رأس العاملين عليها.
وفي «الطبقات» عن حُمَيد بن هلال: لما ولي أبو بكر قال الصحابة: افرضوا للخليفة ما
يُعينُه، قالوا: نعم، برداه إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهرُه إذا سافر،
ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يُستخلَفَ، فقال أبو بكر: رضيت.
وعن ميمون قال: لما استُخلِفَ أبو بكر جعلوا له ألفين، فقال: زيدوني فإنَّ لي
عيالًا، فزادوه خمسمئة، قال: إما أن تكون ألفين فزاده خمسمئة، أو كانت ألفين
وخمسمئة، فزاده خمسمئة.
قال ابن التين: يقال: إن أبا بكر ارتزق في كل يوم شاةً، وكان شأن الخليفة أن يطعم
من حضره قصعتين كل يوم غدوةً وعشاءً، ولما حضرت أبا بكر الوفاةُ حسب ما أنفق من
بيت المال فوجده سبعة آلاف درهم، فأمر بماله غير الرباع فأدخل في بيت المال، فكان
أكثر مما أنفق، قالت عائشة: فربح المسلمون عليه، وما ربحوا على غيره.
وقال ابن بطال: كان داود صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يعمل القِفاف ويأكل منها. انتهى.
المشهور أنه كان يعمل الدروع، وقد ذكره ربنا جلَّ وعزَّ في الكتاب العزيز.
وقوله: (أَحْبُلَهُ) قال ابن التين: كذا سمعناه، وفي بعض الروايات: «حبله».
(1/45)
وفي
هذه الأحاديث: أن الأكل مما عملته الأيدي أفضل المأكل، وكان سيدنا محمد صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يأكل من سعيه الذي بعثه الله عليه في القتال، وكان يعمل طعامه
بيده ليأكل من عمل يده.
وقوله: (لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ) يدل على الكفاف، وكراهة السؤال.
قال ابن المنذر: إنما فضل عمل اليد على سائر المكاسب إذا نصح العامل، جاء ذلك
مبينًا في حديث رواية المَقْبُري عن أبي هريرة قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«خير الكسب يد العامل إذا نصح».
وروي عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أن زكريا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان
نجارًا».
وذكر معمر عن سليمان أنه كان يعمل الخوص، فقيل له: «أتعمل هذا وأنت أمير المدائن!
قال: أحبُّ أن آكل من عمل يدي».
بَابُ السُّهُولَةِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالبَيْعِ
وَمَنْ طَلَبَ حَقًّا فَلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ
2076 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثنا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ
مُطَرِّفٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ: أَنَّ رَسُولَ
الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «رَحِمَ الله رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ،
وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى». [خ 2076]
وعند الترمذي من حديث زيد بن عطاء، عن ابن المنكدر، عنه: «غفر الله لرجل كان
قبلكم، كان سهلًا إذا باع، وسهلًا إذا اشترى، وسهلًا إذا اقتضى»، وقال: حديث حسن
غريب صحيح من هذا الوجه.
قال الداودي: يحتمل قوله: (رَجُلًا) أنه يريد الخبر أو الدعاء، قال: والظاهر أنه
للدعاء. انتهى.
حديث الترمذي يدل على الخبر.
قال ابن التين: في قوله: (إِذَا اقْتَضَى) جاء في رواية: «وإذا قضى» وفي أخرى ـ
يعني ما رواه يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن نافع، عن ابن عمر وعائشة
يرفعانه ـ: «خُذْ حقَّك في عفافٍ وافيًا أو غيرَ وافٍ».
(1/46)
وقال
ابن بطال: فيه الحض على المسامحة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحَّة، وذلك
سبب إلى وجود البركة؛ لأنَّ سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يحضُّ
أمته إلا على ما فيه النفع لهم في الدنيا والآخرة.
وقوله: (إِذَا اقْتَضَى) فيه حض على ترك الضيق على الإنسان عند طلب حقه وأخذ العفو
منه.
ثم ذكر البخاري بعد هذا: بَابُ مَنْ أَنْظَرَ مُوسِرًا
2077 - حَدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثنا زُهَيْرٌ، حَدَّثنا مَنْصُورٌ،
أَنَّ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ حَدَّثَهُ أن
النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «تَلَقَّتِ المَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ
كَانَ قَبْلَكُمْ، قَالُوا: ما عَمِلْتَ مِنَ الخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: كُنْتُ
آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ المُوسِرِ، قَالَ:
فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ». [خ 2077]
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله: قَالَ أَبُو مَالِكٍ، حَدَّثنا رِبْعِي قال: «كُنْتُ
أُيَسِّرُ عَلَى المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ».
هذا التعليق رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي سعيد الأشج، حَدَّثنا أبو خالد الأحمر،
عن أبي مالك سعد بن طارق، عن ربعي، عن حذيفة قال: «أتي الله بعبد من عباده آتاه
الله مالًا، فقيل له: ماذا عملت في الدنيا؟ قال: ولا يكتمون الله حديثًا، قال: يا
رب! آتيتني مالًا، وكنت أبايع الناس، وكان من خُلُقي الجواز، فكنت أتيسَّرُ على
الموسر، وأنْظِرُ المعسر، فقال الله تبارك وتعالى: أنا أحقُّ بذا منكَ، تجاوزوا عن
عبدي. فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود الأنصاري: كذا سمعناه من في رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم».
قال خلف في «الأطراف»: عقبة بن عامر وهم، لا أعلم أحدًا قاله غيره ـ يعني الأشج ـ،
والحديث إنما يحفظ من حديث عقبة بن عمر، وأبي مسعود.
(1/47)
وذكر
الدارقطني أن الوهم من أبي خالد الأحمر، قال: وصوابه عقبة بن عمر، وأبو مسعود،
قال: كذا رواه أبو مالك ونعيم بن أبي هند وعبد الملك بن عمير، عن ربعي عن حذيفة.
وقول النووي: الصواب عقبة بن عتبة بن عمر وأبو مسعود، كذا رواه أصحاب أبي مالك،
وتابعهم نعيم وعبد الملك ومنصور وغيرهم عن ربعي عن حذيفة، فقالوا في آخر الحديث:
وقال عقبة بن عمر وأبو مسعود.
وقد ذكر مسلم في هذا حديث منصور ونعيم وعبد الملك غير جيد؛ لأن حديث منصور ليس فيه
ذكر لعقبة، إنما رواه عن ربعي عن حذيفة فقط، والله أعلم.
قال البخاري:
وَتَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ.
هذه المتابعة رواها البخاري في الاستقراض مسندةً فقال: حَدَّثنا مسلم بن إبراهيم،
عن شعبة، عن عبد الملك.
قال البخاري:
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ: عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ: «أُنْظِرُ
المُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِرِ».
هذا التعليق أيضًا رواه مسندًا في الاستقراض عن موسى بن إسماعيل، عن أبي عَوانة،
حَدَّثنا عبد الملك، عن ربعي، قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة: ألا تحدثنا ما سمعت
من رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: إني سمعته يقول: «إن مع الدجال إذا
خرج ماءً ونارًا، فأما الذي يَرَى الناسُ أنها نارٌ فماءٌ بارد، وأما الذي يَرَى الناسُ
أنه ماءٌ باردٌ فنارٌ تحرقُ، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى أنها نار، فإنه
عذب بارد».
قال حذيفة: وسمعته يقول: «إن رجلًا كان فيمن كان قبلكم أتاه المَلَكُ ليقبض روحه،
فقيل له: هل عملت من خير؟ قال: ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئًا غير أني
كنت أبايع الناس في الدنيا وأجازيهم، فأنظر الموسرَ وأتجاوز عن المعسر، فأدخله
الله الجنة».
وسمعته يقول: «إن رجلًا حضره الموت، فقال: إذا متُّ فأحرقوني واذروني في البحر»
الحديث، قال: فقال عقبة: أنا سمعته يقول ذلك: «وكان نباشًا».
قال البخاري:
(1/48)
وَقَالَ
نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ: «فَأَقْبَلُ مِنَ المُوسِرِ،
وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِرِ».
هذا التعليق رواه مسلم عن علي بن حُجر، وإسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن المغيرة،
عن نعيم به.
ثم ذكر البخاري حديث:
2078 - الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله، سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ
النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ،
لَعَلَّ اللَّه أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ الله جلَّ وعزَّ عَنْهُ». [خ
2078]
وعند الحاكم على شرط مسلم: «خُذْ ما تيسَّر، واترك ما عَسُرَ، وتجاوز لعل الله أن
يتجاوز عنا»، وفيه: «فقال الله تبارك وتعالى: قد تجاوزت عنك».
وعند مسلم من حديث حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد الملك بن عُمير، عن ربعي قال:
حدثني أبو اليَسَر قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من أنظر مُعسِرًا، أو
وضع له؛ أظلَّه الله في ظلِّ عرشه».
وقال الحاكم: رواه زيد بن أسلم وحنظلةُ بن قيس أيضًا عن أبي اليَسَر.
وعند ابن أبي شيبة: حَدَّثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن أبي
اليَسَر، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنحوه.
وحدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود قال رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم: «حوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان
رجلًا موسرًا يخالط الناس، فيقول لغلمانه: تجاوزوا عن المعسر، فقال الله جلَّ وعزَّ
لملائكته: لنحن أحق بذلك منه، تجاوزوا عنه».
وحدثنا يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخَطْمي، عن محمد بن كعب، عن
أبي قتادة، سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «من نفَّسَ عن غريمِه أو محا
عنه كان في ظلِّ العرشِ يوم القيامة».
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
(1/49)
بَابُ
إِذَا بَيَّنَ البَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا
وَيُذْكَرُ عَنِ العَدَّاءِ بنِ خَالِدٍ قَالَ: «كَتَبَ لِي النَّبِيُّ صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم: هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله مِنَ العَدَّاءِ
بْنِ خَالِدٍ، بَيْعَ المُسْلِمِ المُسْلِم، لاَ دَاءَ وَلاَ خِبْثَةَ وَلاَ
غَائِلَةَ».
هذا التعليق خرجه أبو عيسى عن ابن بشار، عن عباد بن ليث صاحب الكرابيسي، عن عبد
المجيد بن وهب، قال: قال لي العدَّاء بن خالد بن هَوذة: «ألا أقرئك كتابًا كَتَبَه
لي رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قلت: بلى، فأخرج لي كتابًا: «هذا ما اشترى
العدَّاء بن خالد بن هَوذة من محمد رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، اشترى منه
عبدًا أو أمة» الحديث، وقال: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عباد بن ليث.
وقال الدارقطني: لم يروه غيره. انتهى كلامهما.
وفيه نظر من حيث أن أبا عمر رواه من حديث عثمان الشَّحَّام عن أبي رجاء العُطارِدي
قال: قال لي العدَّاء: «ألا أقرئك كتابًا كتبه لي رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فإذا فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العدَّاء بن خالد بن
هَوذة من محمد رسول الله: اشترى منه عبدًا أو أمة ـ شكَّ عثمان ـ بياعة المسلم، أو
بيع المسلم المسلمَ، لا داءَ ولا غائلة ولا خِبْثة».
قال ابن العربي: في حديث العداء ثمان فوائد:
الأولى: البَداءة باسمِ الناقص قبل الكامل في الشروط، والأدنى قبل الأعلى، بمعنى:
أنه الذي اشترى، فلما كان هو الذي طلب أخبر عن الحقيقة كما وقعت، وكتب حتى يوافق
المكتوب المقولَ ويذكر على وجهه في المنقول. انتهى.
يرد هذا القول ما ذكره البخاري في تعليقه من تقديم الأعلى على الأدنى.
الثانية: في كتب سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك له، وهو ممَّن يؤمن
عهده ولا يجوز أبدًا عليه نقضه لتعليم الأمة؛ لأنه إذا كان هو يفعله فكيف غيره؟
انتهى.
(1/50)
وهو
لا يتأتى على ما ذكره البخاري.
الثالثة: أن ذلك على الاستحباب؛ لأنه باع وابتاع من اليهود من غير إشهاد، ولو كان
أمرًا مفروضًا لقام به قبل الخلق. انتهى.
جماعة ذهبوا إلى وجوب الإشهاد، ورأوا أن الآية مجملة، وأيضًا فابتياعه من اليهود
كان برهن، وقد قال جلَّ وعزَّ: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
[البقرة: 283].
الرابعة: يكتب الرجل اسمه واسم أبيه وجده حتى ينتهي إلى جدٍّ يقع به التعريف
ويرتفع الاشتراك الموجِب للإشكال عند الاحتياج إليه. انتهى.
هذا يتأتَّى إذا كان الرجل غيرَ معروف، أما إذا كان معروفًا فلا يحتاج إلى ذكر
أبيه، فإن لم يكن معروفًا وكان أبوه معروفًا لم يحتج إلى ذكر الجد، كما جاء في
البخاري من غير ذكرِ جدِّ العدَّاء.
الخامسة: لا يحتاج إلى ذكر النسب إلا إذا أفاد تعريفًا أو دفع إشكال.
السادسة: قوله: «هذا ما اشترى العداء بن خالد من رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم اشترى منه» فكرر لفظ الشري، وقد كان الأول يكفي، ولكنه لما كانت الإشارة
بهذا إلى المكتوب ذكر الاشتراء في القول المنقول.
السابعة: قوله: (عَبْد) ولم يصفه، ولا ذكر الثمن، ولا قبضه، ولا قبض المشتري،
واقتصر على قوله: (لاَ دَاءَ)، وهو ما كان في الجسد والخِلْقة، (وَلاَ خِبْثَةَ)،
وهو ما كان في الخلق، (وَلاَ غَائِلَةَ)، وهو سكوت البائع على ما يعلم من مكروه في
البيع، وهو الذي قصد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى كتبه ليبيِّنَ كيف يجب أن
يكون على المسلم في بيعه، فأما تلك الزيادات فإنما أحدثها الشروطيون لما حدَثَ من
الخيانة في العالم.
قال: قوله: (بَيْعَ المُسْلِمِ المُسْلِمَ)، ليبيِّن أن الشراء والبيع واحد، قال:
وقد فرق بينهما أبو حنيفة، وجعل لكل واحد حكمًا منفردًا.
(1/51)
وقال
غيره: فيه تولي الرجل البيع بنفسه، وكذا في حديث اليهودي، وكرهه بعضهم لئلا يسامح
ذو المنزلة فيكون نقصًا من أجره، وجاز ذلك للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعصمته
في نفسه.
قال البخاري:
وَقَالَ قَتَادَةُ: الغَائِلَةُ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةُ، وَالإِبَاقُ.
ذكر الأزهري وغيرُه: أن الغائلة هنا معناها لا حيلة على المشتري في هذا البيع،
يقال: غالت فلانًا بها ماله، يقال: أغالني فلان إذا احتال عليَّ بحيلة يتلف بها
مالي، يقال: غالت فلا أغول، إذا أذهبته.
ولما سأل الأصمعي سعيدَ بن أبي عروبة عن الغائلة أجاب كجواب قتادة سواء، ولما سأله
عن الخِبْثة قال: بيع عهد المسلمين.
وقال الخطابي: (خِبَثَةَ) على وزن خيرة، قيل: أراد بها الحرام كما عبَّر عن الحلال
بالطيِّب، قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]،
والخبثة: نوع من أنواع الخبيث، أراد أنه عبد رقيق لا أنه من قوم لا يحل سبيهم.
قال ابن التين: ضبطناه في أكثر الكتب بضم الخاء، وكذلك سمعناه، وضُبط في بعضها
بالكسر.
قال البخاري:
وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّي آرِيَّ خُرَاسَانَ
وَسِجِسْتَانَ، فَيَقُولُ: جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ، جَاءَ اليَوْمَ مِنْ
سِجِسْتَانَ، فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً.
هذا التعليق رواه أبو بكر، عن هُشَيم، عن مغيرة، عنه بلفظ: «قيل: إن ناسًا من
النَّخَّاسين أصحاب الدواب يسمي أحدهم إصطبل دوابِّه خراسان وسِجِستان، ثم يأتي
السوق فيقول: جاءت من خراسان وسجستان، فكره ذلك إبراهيم».
ورواه دِعْلِج، عن محمد بن علي بن زيد، حَدَّثنا سعيد بن قيس، حَدَّثنا هشيم،
ولفظه: «إن بعض النَّخَّاسين يسمي آريه خراسان».
وقال ابن قُرقُول: (آرِيَّ) كذا قيده جُلُّ الرواة، ووقع للمَروَزي: «أَرَى» بفتح
الهمزة والراء، على مثال: دعا، وليس بشيء.
ووقع لأبي ذر: «أُرى» بضم الهمزة، وهو أيضًا تصحيف.
(1/52)
والآري:
مربط الدابة، ويقال: معلفها، قاله الخليل، قال الأصمعي: هو حبل يدفن في الأرض،
ويترك طرفه تربط به الدابة، وأصله من الحبسِ والإقامةِ، من قولهم: تآرى بالمكان
إذا أقام به، قال الراعي:
وقد فخروا بحملهم عليه ... ..............
............ على بعد وخير فوارس للخيل فينا
وعند التاريخي عن الشعبي وزيد بن وهب وغيرهما: «أمر سعد بن أبي وقاص أبا الهيَّاج
الأسدي والسائب بن الأقرع أن يقسما للناس ـ يعني الكوفة ـ فاختطوا من رواء السهام،
فكان المسلمون يعلفون إبلهم ودوابهم في ذلك الموضع حول المسجد فسموه الآري».
ومعنى ما أراد البخاري: أن النخاسين كانوا يسمون مرابط دوابِّهم بهذه الأسماء
ليدلِّسوا على المشتري بقولهم: كما جاء من خراسان أو سجستان يعنون مرابطها، فيحرض
عليها المشتري، ويظن أنها طرية الجلب.
وأرى أنه نَقَصَ في الأصل بعد لفظه: «آري» لفظة: «دوابهم».
وقال ابن التين: ضُبِطَ في بعض الكتب بفتح الهمزة وسكون الراء، وفي بعضها بالمد
وكسر الراء وتشديد الياء.
قال:
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لاَ يَحِلُّ لِامْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ
أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَّا أَخْبَرَهُ.
هذا التعليق الموقوف ذكره ابن ماجه مسندًا فقال: حَدَّثنا ابن بشار، قال: حَدَّثنا
وهب بن جرير، حَدَّثنا أبي، سمعت يحيى بن أيوب يحدِّث عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد
الرحمن بن شُماسة، عن عقبة بن عامر، سمعت رسول الله صلَّى
اللهُ عليه وسلَّم يقول: «المسلم أخو المسلم, لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا وبه
عيب إلا بيَّنه له».
وعنده أيضًا من حديث مكحول وسليمان بن موسى عن واثلة سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم يقول: «من باع بيعًا لم يبينه لم يزل في مقتِ الله، ولم تزل الملائكة
تلعنه».
وعند الحاكم صحيح الإسنادِ: «لا يحل لأحد أن يبيعَ شيئًا إلا بيَّن ما فيه، ولا
يحل لمن علم ذلك إلا بينه».
(1/53)
وفي
لفظ صحيح الإسناد: «عهدة الرقيق أربع ليال».
وفي لفظ: «لا عهدة فوق أربع».
وفي كتاب «الربا» تصنيف محمد بن أسلم قاضي سمرقند قال: حَدَّثنا علي بن إسحاق،
أخبرنا موسى بن عمير، عن مكحول، عن أبي أُمامة قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم: «أيُّما مسلمٍ استرسلَ إلى مسلم فغبنه، كان غبنُه ذاك ربًا».
وحديث الباب يأتي في باب كم يجوز الخيار.
بَابُ بَيْعِ الخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ
2080 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثنا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: «كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الجَمْعِ، وَهُوَ
الخِلْطُ مِنَ التَّمْرِ، وَكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لاَ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ، وَلاَ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ».
[خ 2080]
قال ابن بطَّال: فقه هذا الباب أن التمر كلَّه جنسٌ واحد رديئُه وجيِّدُه، لا يجوز
التفاضل فيشيء منه، ويدخل في معنى التمرِ جميعُ الطعام، فلا يجوز في الجنسِ الواحد
منه التفاوت ولا النسيئة بإجماع، فإذا كانا جنسين جاز فيهما التفاضل ولم تجز
النسيئة، هذا حكم الطعام المقتات كله عند مالك.
وعند الشافعي: الطعام كله المقتات وغير المقتات.
وعند أبي حنيفة: الطعام المكيل والموزون.
قال: وفي الحديث أيضًا من لم يعلم بتحريم الشيءِ فلا حرج عليه حتى يعلمه، والبيع
إذا وقع محرمًا فهو مردود؛ لقوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من عمل عملًا ليس عليه
أمرنا فهو رَدٌّ».
و (الجَمْعِ): هو الخلط من التمر، قال الأصمعي: هو كل لون من التمر لا يعرف اسمه،
وقيل: هو نوع رديء، وقيل: هو المختلط.
وعن المطرِّز: هو نخل الدَّقْل، يعني: تمر الدُّوم، كذا ذكره عياض.
وقال ابن قُرقُول: هو تمرٌ من تمرِ النخل رديءٌ يابس.
والذي في «المغرب» للمطرِّز: الجمع: الدَّقْل، لأنه يجمع من تمر خمسين نخلة،
والخلط من التمر ألوان مجتمعة.
(1/54)
وفي
«الموعب» يقال: ما أكثر الجمع، وفي أرض بني فلان للنخل الذي يخرج من النوى ولا
يعرف.
وأما قول ابن عباس: «لا ربا إلا في النسيئة» فقد ثبت رجوعه عنه.
وذكر أبو بكر الأثرم في «سننه»: «قلت لأبي عبد الله: التمر بالتمر وزنًا بوزن؟
[قال: لا]، ولكن كيلًا بكيل، إنما أصل التمر الكيل.
قلت لأبي عبد الله: صاع تمر بصاع واحد التمرين يدخل في المكيال أكثر؟ فقال: إنما
هو صاع بصاع، أي جائز».
بَابُ مَا قِيلَ فِي اللَّحَّامِ وَالجَزَّارِ
2081 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثنا أَبِي، حَدَّثنا الأَعْمَشُ،
حدثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ
يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ، فَقَالَ لِغُلاَمٍ لَهُ قَصَّابٍ: اجْعَلْ لنا طَعَامًا
يَكْفِي خَمْسَةً، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الجُوعَ،
فَدَعَاهُمْ، فَجَاءَ مَعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
إِنَّ هَذَا قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فَأْذَنْ لَهُ،
وَإِنْ شِئْتَ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَ، فَقَالَ: لاَ، بَلْ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ». [خ
2081]
وفي رواية: «قد اتبعنا»، ولمَّا رواه النسائي من حديث شعبة عن الحكم، عن أبي وائل
قال: هذا خطأ، وليس هذا من حديث الحكم إنما هو من حديث الأعمش.
قال القرطبي: اللحام هو الجزار والقصاب، على قياس قولهم: عطار وتمار للذي يبيع
ذلك.
وقوله: (خَامِسَ خَمْسَةٍ) أي أحد خمسة، وفيه دليل
على ما كانوا عليه من شدَّة العيش ليتوفَّر لهم الأجر، وهذا التابع كان ذا حاجة
وفاقة وجوع.
(1/55)
واستئذان
صاحب الدعوة بيان لحاله وتطييب لقلب المستأذن، ولو أمره بإدخاله معهم لكان له ذلك،
فإنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد كان أمرهم بذلك، وقال: «من كان عنده طعام اثنين
فليذهب بثالث، أو رابع فليذهب بخامس»، والوقت كان وقتَ فاقةٍ وشدَّة، وكانت
المواساة واجبة إذ ذاك، ومع ذلك فاستأذن صاحبَ المنزل تطييبًا لقلبه وبيانًا
للمشروعيَّة في ذلك، إذ الأصل أن لا يتصرف في ملك أحدٍ إلا بإذنه.
ويستحبُّ لصاحب الطعام أن يأذن له إن لم يترتب على حضوره مفسدة.
قال ابن التين عن الداودي: جائز أن يقول: خامس خمسة، وخامس أربعة.
وعن المهلَّب: إنما صنع طعام خمسةٍ لعلمه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيتبعه
من أصحابه غيرُه.
وفيه: من الأدبِ أن لا يُدخِلَ المدعوُّ مع نفسِه غيرَه.
وفيه: كراهية طعام الطفيلي؛ لأنه غير مأذون له.
وقيل: إنما استأذن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرجل؛ لأنه لم يكن بينه وبين
القصاب من المودَّة ما كان بينه وبين أبي طلحة، إذ قام هو وجميع من معه، وقد قال
الله تعالى: {أَوْ صَدِيْقِكُمْ} [النور: 61].
وبوَّب البخاري هذا في كتاب الأطعمة: «باب الرجل يتكلف الطعام لإخوانه».
قال ابن المنير: ولم يترجم لذلك بحديث أبي طلحة، والسِّرُّ في ذلك أن هذا قال
لغلامه: «اصنع لي طعامًا لخمسة» فكان نيته في الأصالة التحديد، ولهذا لم يأذن
النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للسادس حتى أذن له أبو شعيب، وقد عرفت أن التحديد
ينافي البركة، والاسترسال الذي يعلمه أبو طلحة يلائم البركة، والتحديد في الطعام
حال المتكلف.
أو علم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أبا طلحة لا يكره ذلك، أو يقول: إنما أطعم
هؤلاء من بركته لا من طعام أبي طلحة، أو يقول: إنه لما أرسله إليه لم يبقَ له فيه
حق، والذي دعا إلى منزله في العرف إذا بقي شيء يكون لصاحب المنزل فلذلك استأذنه.
وفيه: الحكم بالدليل لقوله: (إِنِّي عَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الجُوعَ).
(1/56)
وفيه:
أكل الإمام والعالم والشريفِ طعام الجزَّار. قال ابن بطال: وإن كان في الجزارة شيء
من الضعة؛ لأنه يمتهن فيها نفسه، وأن ذلك لا ينقصه ولا يسقط شهادته إذا كان عدلًا.
البابان تقدما.
بَابُ آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلَّا
كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ... } ثم ذكر
الآية إلى قوله: {خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
قال الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري: حَدَّثنا أبو مَيْسَرة،
حَدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير
في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} قال: «يُبعَثُ يوم القيامة
مجنونٌ يُخنَقُ».
وحدثنا زكريا، حَدَّثنا إسحاق، قال: وحُدِّثتُ عن أبي حيَّان: «آكل الربا يُعرَفُ
يوم القيامة كما يُعرَفُ المجنون في الدنيا».
وعن إسحاق، قال: حَدَّثنا عمرو، عن أسباط، عن السُّدِّي: «المسُّ: الجنون».
وفي كتاب أبي الفضل الجوزي من حديث أبان عن أنس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
«يأتي آكل الربا يوم القيامة مُخبَّلًا يجر شِقَّه، ثم قرأ: {لَا يَقُوْمُوْنَ
إِلَّا كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}
[البقرة: 572].
وفي «الكشاف»: المعنى أنهم يقومون يومئذٍ مُخبَّلينَ كالمصروع يُعرَفون بذلك عند
أهل الموقف.
وقيل: يخرج الناس من الأجداث يوفضون إلا أكلةَ الربا، فإنهم ينهضون ويسقطون
كالمصروع؛ لأن أكل الربا رَبَا في بطونهم فأثقلهم، فعجزوا عن الإيفاض.
قال ابن المنذر: حَدَّثنا علي بن عبد العزيز، حَدَّثنا الأثرم، عن أبي عبيدة:
«المسُّ من الشيطان والجن، وهو اللَّمَم».
وفي كتاب «التفسير» لابن أبي حاتم عن سعيد عن ابن عباس: «آكل الربا يُبعَثُ
يوم القيامة مجنونًا يُخنَقُ».
(1/57)
قال:
وروي عن عوف بن مالك والربيع بن أنس ومقاتل مثلُ ذلك.
وفي كتاب «الربا» لمحمد بن أسلم السمرقندي: حَدَّثنا علي بن إسحاق، عن يوسف بن
عطية، عن ابن سمعان، عن مجاهد، عنه في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّه وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 872]. قال: «فمن كان من أهل الربا فقد حارَبَ
اللهَ، ومن حارب الله فهو عدوٌّ لله ولرسوله».
وحدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا يحيى بن المتوكِّل، حَدَّثنا أبو عبَّاد، عن أبيه، عن
جدِّه، عن أبي هريرة يرفعه: «الرِّبا اثنان وسبعون حُوبًا، أدناها بابًا بمنزلةِ
الناكح أمه».
وقال الماوردي: أجمعَ المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من الكبائر، وقيل: إنه
كان محرمًا في جميع الشرائع.
وعن الحُوفي: لما سووا بين البيع والربا قال لهم: هذا لا يحل، ليست الزيادة في وجه
البيع نظير الزيادة في وجه الربا؛ لأني أحللت البيع وحرمت الربا، والأمر أمري
والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأتعبَّدهم بما أريد، ليس لأحد أن يفرِّق في
حكمي، ولا أن يخالف أمري.
وأيضًا إن ما ذكروا معارض للنص بالقياس، وهذا مدفوع؛ لأن النصَّ لا يُعارَضُ
بالقياس.
وذكر القفال الفرقَ بين الربا والبيع فقال: من باع ثوبًا يساوي عشرةً بعشرين يعني
فالثوب مقابل العشرين، فلما حصل التراضي على هذا المقابل صار كلُّ واحد منهما
مقابلًا للآخر في المالية، فلم يكن أخذًا من صاحبه بغير عوض، أما إذا باع العشرة
بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن عوضه هو
الإمهال في مدة الأجل؛ لأن الإمهال ليس مالًا ولا شيئًا يشار إليه حتى يجعل عوضًا
عن العشرة الزائدة، فظهر الفرق بين الصورتين.
(1/58)
وفي
«تفسير ابن النقيب»: اختلفوا في هذه الآية، فقيل: إنها من عموم القرآن العظيم الذي
خُصَّ، وهو الصحيح، وقيل: إنها من المجمل، وقيل: إنها داخلة في العموم والمجمل،
فيكون عمومًا دخلَه التخصيص، ومجملًا لحقَه التفسير؛ لاحتمال عمومهما وإجمالهما.
واختُلِفَ في عقد الربا، هل هو مفسوخ لا يجوز بحال؟ أو بيع فاسد
إذا أزيل فساده صح بيعه؟
فجمهور العلماء على أنه بيع مفسوخ، وقال أبو حنيفة: هو بيع فاسد، إذا أزيل عنه ما
يفسده انقلب صحيحًا.
ثم ذكر البخاري حديث عائشة المذكور قبل في كتاب الصلاة:
2084 - «لَمَّا أنزلَتْ آخِرُ سورة البَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الخَمْرِ». [خ 2084]
وقال ابن التين: قال أبو عبد الله: (بَابُ آكِلِ الرِّبَا وَكَاتِبِهِ
وَشَاهِدِهِ) ولم يأت على الكاتب والشاهد بشيءٍ.
وقال ابن بطال: أكل الربا من الكبائر، متوعد عليه، وأما شاهداه وكاتبه فإنما ذكروا
مع آكله، لأن كلَّ من أعانَ على معصية فهو شريك في إثمها بقدر سعيه وعملِه إذا
عملها، فكان يلزم الكاتب ألا يكتب ما لا يجوز، والشاهد أن لا يشهد إلا على جائز
إذا علموا ذلك، فكل واحد له حظ من الإثم، ألا ترى أن النبي صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم لم يشهد لبشر لما تبين له إيثاره للنعمان.
وقد روى معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لعن
آكلَ الربا وموكله وشاهدَه» فسوَّى بينهم في الإثم، ولهذا ترجم البخاري بهذه
الترجمة. انتهى كلامه.
ولقائل أن يقول: كأنَّ البخاري أرادَ بالترجمة ما رواه الترمذي من حديث ابن مسعود:
«لعنَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آكلَ الرِّبا وموكلَه وشاهديه وكاتبَه»
وقال: حسن صحيح، وخرَّجه ابن حبان في «صحيحه» بزيادة: «إذا علموا به».
وفي مسلم عن جابر نحوه.
(1/59)
ومن
حديث الحارث بن سويد عن ابن مسعود يرفعه: «آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبُه إذا
علموا ذلك ملعونون على لسانِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ القيامة».
وعند محمد بن أسلم السمرقندي في كتاب «الربا» من حديث أبي إسحاق، عن الحارث، عن
عليٍّ قال: «لعن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صاحب الربا وآكلَه وكاتبَه
وشاهدَه والمحلَّ والمحلل له».
وهذه الأحاديث أشهر وأسند مما ذكره مرسلًا.
وحديث سمرة تقدم.
بَابُ مُوكِلِ الرِّبَا
لِقَوْلِ الله جلَّ وعزَّ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 278].
قرأتُ على المسند أبي النون الجَودري، عن النهري، عن أبي الفضل ... ، عن أبي الحسن
علي بن أحمد المفسِّر، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن جعفر، أخبرنا أبو
عمرو بن حمدان، أخبرنا أبو يعلى، حَدَّثنا أحمد بن الأخنس، حَدَّثنا محمد بن فُضيل،
حَدَّثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: «بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني
عمرو بن عوف من ثَقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، كانت بنو المغيرة يُربون
لثَقيف، فلما أظهر الله جلَّ وعزَّ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مكة وضعَ
يومئذ الربا كلَّه، فأتى بنو عمرو وبنو المغيرة إلى عتَّاب بن أُسَيدٍ وهو على مكة
فقال بنو المغيرة: ما جُعلنا أشقى الناس بالربا، وضع عن الناس غيرنا، فقال بنو
عمرو: صولحنا على أن لنا ربانا، فكتب عَتَّابٌ في ذلك إلى رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم فنزلت هذه الآية والتي بعدها: {فَأْذَنُوْا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِّ
وَرَسُوْلِهِ} [البقرة: 279]».
(1/60)
وقال
عطاء وعكرمة: «نزلت في العبَّاس بن عبد المطلب وعثمان بن عفَّان، وكانا قد أسلفا
في التَّمر، فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي إن
أنتما أخذتما حظَّكما كلَّه، فهل لكما أن تأخذا النَّصف وتؤخِّرا النصفَ وأضعف
لكما؟ ففعلا، فلما حلَّ الأجلُ طلبا الزيادة، فبلغَ ذلك النبيَّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّم، فنهاهما عن ذلك، وأنزل الله جلَّ وعزَّ هذه الآية، فسمعا وأطاعا وأخذا
رؤوس أموالهما».
وقال السُّدِّيُّ: «نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية
يُسلِفان بالربا، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمة في الربا، فأنزل الله جلَّ
وعزَّ هذه الآية، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ألا إن كل ربا من ربا
الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب».
وفي «تفسير مقاتل»: «نزلت فِي أربعة
إخوة من ثَقيف: مسعود وحبيب وربيعة وعبد ياليل، كانوا يداينون بني المغيرة بن
مخزوم».
وفي «تفسير الطبري» عن السدي: «نزلت في العباس ورجل من بني المغيرةِ وكانا
شريكين».
وقال البخاري:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رسول الله صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم.
هذا التعليق رواه مسندًا في التفسير فقال: حَدَّثنا قبيصة، حَدَّثنا سفيان، عن
عاصم، عن الشعبي، عنه: «آخر آية نزلت آية الربا».
قال ابن التين عن الداوودي: رُوِيَ عن ابن عباس: «آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوْا
يَوْمًا تُرْجَعُوْنَ فِيْهِ إِلَى اللهِّ} [البقرة: 280]. قال: فإمَّا أن يكون
وهم من الرواية لقربها منها، أو غير ذلك». انتهى.
هاتان الآيتان نزلتا جملةً، فصحَّ أن يقال لكلٍّ منهما آخر آية.
وقال مقاتل: توفِّيَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد نزولها بسبع ليال.
وقال ابن جريج: بتسع.
وعند ابن الجوزي عن ابن عباس: بأحد وثمانين يومًا.
(1/61)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق