الاثنين، 10 أبريل 2023

ج1وج2.جامع الآثار في السير ومولد المختار تصنيف الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي البقاء الشافعي المتوفى سنة 842 هـ

ج1وج2.جامع الآثار في السير ومولد المختار  1. تصنيف الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي البقاء الشافعي المتوفى سنة 842 هـ

تحقيق أبي يعقوب نشأت كمال دار الفلاح الطبعة الأولى

1431 هـ - 2010 م

  بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي

الحمد لله الذي أبدى محمدا صلى الله عليه وسلم أزكى العالمين عشيرا، وأطلعه فردا في المرسلين، ولم يجعل له نظيرا، وأرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، قرب أتباعه إليه زلفى، وقوّم به قوما عوجا، ورقق منهم جلفا، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، فوحدوا الله توحيدا خالصا خطيرا.

أحمده بجميع محامده كلها على مديد نعمه دقها وجلها حمدا يفرض لنا الكثير من نفلها.

وأشكره شكرا دائما غزيرا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، التامة كلمته، السابغة نعمته، العظيمة قدرته، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا معينا ولا وزيرا.

وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده المنعوت بالسيادة، ورسوله المبعوث بالسعادة، ونبيه المخصوص بالشهادة، القائم يوم القيامة مقاما محمودا كبيرا، صلى الله عليه وعلى آله السادة الأكرمين، وأصحابه العلماء العاملين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:


#62#

فإن قلوب المؤمنين وأفئدة المتقين وأرواح المحبين تحيا عند نشر الأحاديث النبوية، وتنير بسماع السيرة المحمدية، وتتشوق إلى وصف أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم الشريفة، وتتشوف إلى نعت أوصافه الجليلة المنيفة، وتتشرف ببث آدابه الجليلة اللطيفة، وترتاح في كل عام إلى سماع حديث مولده عليه أفضل الصلاة والسلام.


#63#

وقد صار ذلك [لهم] بدعة حسنة يهيمون بها في كل سنة، ويظهرون لذلك الفرح والسرور في شهر ربيع الأول دون بقية الشهور وذلك بـ (مكة) و (المدينة) و (مصر) و (الشام) وغيرها في بلاد الإسلام، لكن الناس متفاوتون في عمل ذلك، ومنهم من يسلك فيه أهدى المسالك، ومنهم من يهلك فيمن هو هالك، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، وكل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا.

وأول من أطلع لهم هذا الفعل الأسعد وفاز منه –إن شاء الله- بالأجر السرمد: الملك المظفر أبو سعيد كوكبري ابن الملك علي بن بكتكين بن محمد، فإنه أول ملك في العرب والعجم عمل وليمة لمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتفاله [بذلك] في كل مجمع، وما كان فيه يصنع لا يحاط به


#64#

أجمع، وقد ذكر أنه كان ينفق في المولد في كل عام ثلاثمائة ألف دينار على الخلع والطعام.

ولقد بلغنا عمن رأى تلك الوليمة السنية أنه كان مرة على المائدة خمسة آلاف شاة مشوية، وعشرة آلاف دجاجة على السماط، ومائة فرس للأكل لا للرباط، ومائة ألف إناء من أنواع الطعام، وثلاثون ألف صحن من الحلوى للخاص والعام.

وكان فيما بلغنا أن أهل تلك النواحي والبلاد (كالجزيرة) و (سنجار) و (نصيبين) و (الموصل) و (بغداد) من الفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية


#65#

والرؤساء والشعراء يسعون في كل سنة إلى إربل لحضور ذلك الوقت المفضل من مستهل المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.

ويأمر أبو سعيد في المحرم بإخراج القباب المزينات، كل قبة فيها أربع أو خمس من الطبقات، فتنصب من باب قلعة السلطان إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فإذا كان أول صفر زينت القباب الظاهرة بأنواع الزينة المليحة الفاخرة، ويحصل فيهن كل يوم فرح وسرور ربما أدى للوقوع في المحذور.

حتى إذا بقي للمولد يومان سيقت الأنعام إلى الميدان، ثم تنحر وتطبخ منها الأطعمة المختلفة [الألوان]، فإذا كان ليلة عمل المولد صلى أبو سعيد المغرب بالقلعة، ثم نزل وبين يديه شمع كثير منها أربع على كل بغل شمعة، يسند كل واحد رجل إليه، إلى أن يدخل الخانقاه، فتنصب بين يديه، ويأمر بالخلع، فيؤتى بها حين يصبح، ويجلس في الإيوان، ويقدم للصعاليك سماطا في الميدان، وسماطا ثانيا في الخانقاه للأعيان، ثم يقرأ القراء القرآن ويعظ الوعاظ بالألحان، ويخلع على كل إنسان ما يليق به من الخلع الحسان.


#66#

وإذا فرغوا وتهيأ كل لجمع شمله دفع إليه ما يليق به نفقة ومركبا وهدية إلى أهله.

وسنة يعمل المولد في ثامن شهره، وسنة في ثاني عشره.

وكان الملك أبو سعيد محبوبا إلى رعيته بحسن نيته، ولم يسمع لأمثاله بمثل سيرته، وكان له معروف في كل نوع من الأنواع، ولم ينقم عليه سوى حب السماع، والله يعفو عنا وعنه بكرمه.

وسمع الحديث من حنبل الرصافي وغيره من المحدثين، وسمع أهل بلده في ناس آخرين، منهم : المفيد عبد العزيز بن هلالة وآخرون من ذوي الجلالة، وكان مولده بقلعة الموصل في المحرم لمضي الثالث والعشرين، سنة تسع وأربعين وخمس من المئين، وتوفي بقلعة إربل في شهر الصيام وله ثمانون سنة وغالب عام، ودفن بإربل مدة معروفة، ثم حمل ليدفن بمكة، فدفن جوار مشهد الكوفة، ولأجله ألف المحدث الزاعم أنه ذو النسبين بين دحية


#67#

والحسين: أبو الخطاب عمر بن الحسن الجميل علي الداني كتابه "التنوير في مولد البشير النذير صلى الله عليه وسلم"، لكن لم يحرره ذلك التحرير، وفيه مما لا يتعلق بالمولد شيء كثير، وهو ممن لا يوثق بنقله، والله تعالى يسامحه وإيانا بفضله.

ولقد قال العلامة أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي ثم الدمشقي الشافعي الملقب أبا شامة: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا من هذا القبيل.

يعني: من قبيل البدع الحسنة المتفق عليها وعلى جواز فعلها


#68#

والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها حسبما ذكره – ما كان يفعل بمدينة إربل –جبرها الله- كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف و [إظهار] الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله، وشكرا لله سبحانه وتعالى على ما منّ به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.

ذكره العلامة أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" وكانت وفاته في رمضان سنة خمس وستين وستمائة، وله ست وستون سنة، رحمه الله .

ولما رأيت أحوال المؤمنين على ما وصفناه من الميل والمحبة لما ذكرناه ألفت هذا المختصر المعلم من أحوال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر مولده ومنشئه وصفاته وأخلاقه الشريفة ووفاته ليحصل لهم غاية مطلوبهم ويحصلوا خصال محبوبهم، ويزدادوا إيمانا ومحبة ويرتقوا بذلك أعلى رتبة، فالمرء مع من أحب.


#69#

&[طرق حديث المرء مع من أحب]&

ثبت من حديث أبي إسماعيل حماد بن زيد الأزدي البصري أحد الحفاظ الأعلام [عن ثابت]، عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم [ظ2ب] عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها» قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال: «أنت مع من أحببت». [قال أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أنت مع من أحببت»] قال أنس رضي الله عنه: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.

خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

كما رواه سعيد بن منصور وعارم أبو النعمان وعبد الأعلى بن حماد وأبو الربيع الزهراني، وغيرهم عن حماد. تابعه: جعفر بن


#70#

سليمان، وحسين بن واقد، وسلام بن أبي الصهباء، وعثمان بن مسلم، ويونس بن عبيد، عن ثابت.

وهو في "منسد أحمد بن حنبل" قال: حدثنا عفان، [حدثنا همام]، حدثنا قتادة، عن أنس. فذكره.

وعلقه البخاري في "صحيحه" عن شعبة.

وخرجه مسلم من حديثه وحديث هشام، كلاهما عن قتادة، عن أنس بنحوه.

ورواه قتيبة بن سعيد ومحمد بن عبيد بن حساب، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس.

وتابعهم همام بن يحيى عن قتادة.

ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال «ما أعددت لها؟» قال: [ما] أعددت لها من كبير صلاة ولا صوم


#71#

ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: «أنت مع من أحببت».

تابعه منصور عن سالم، وهو في "الصحيحين" لسالم.

والسائل: هو أبو موسى الأشعري، وقيل: [هو] أبو ذر، فالله أعلم.

وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ثم صلى ثم قال: «أين السائل عن الساعة؟» قال الرجل: أنا. قال: «ما أعددت للساعة؟». قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت». فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم [بها].


#72#

تابعه إسماعيل بن جعفر عن حميد نحوه، ورواه مسدد بن مسرهد في "مسنده" عن يحيى، عن حميد الطويل، عن أنس. فذكره.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" فقال: حدثنا أحمد بن خليد، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا أبو المليح، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له أعرابي فقال له: متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها من خير أحمد عليه نفسي، غير أني أحب الله ورسوله. قال: «فأنت مع من أحببت».

قال الطبراني: لم يرو أبو المليح عن الزهري، عن أنس غير هذا. اهـ

ورواه عبد الله بن الزبير الحميدي عن سفيان بن عيينة، عن الزهري.

تابعه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة؟ فقال: «ما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها من شيء، ولكني أحب الله ورسوله. قال: «المرء مع من أحب».


#73#

وحدث به مسلم في "صحيحه" عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، كلهم عن سفيان بنحوه.

ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أعددت لها؟»، فقال الأعرابي: ما أعددت لها كبيرا أحمد عليه نفسي، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنك مع من أحببت».

ورواه عبد الله بن محمد البغوي عن علي بن الجعد، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس.

[وحدث به الترمذي في "جامعه" عن أبي هشام الرفاعي، عن حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن، عن أنس] رضي الله عنه مرفوعا: «المرء مع من أحب وله ما اكتسب».

غريب من حديث الحسن عن أنس.

قاله الترمذي.


#74#

تابعهما قرة بن خالد ومحمد بن جحادة وغيرهم عن الحسن، منهم: يزيد بن يعفر فيما رواه أبو الحسن محمد بن الباهلي، حدثنا محمود بن خالد، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن راشد، حدثني يزيد بن يعفر، عن الحسن: أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما صلى قال: «أين السائل عن الساعة؟»، فقام الرجل، فقال: «أما إنها حق، فماذا أعددت لها؟»، قال: ما أعددت لها من كبير أجده، غير أني أحب الله وأحب رسوله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك مع من أحببت، ولك ما احتسبت».

تابعه محمد بن يونس الكديمي عن محمد بن راشد بنحوه.

ورواه القعنبي عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة.


#75#

عن أنس بنحوه.

ورواه عمر بن يونس عن محمد بن موسى الأنصاري، عن حفص بن عمر بن أبي طلحة، عن أنس.

ورواه يحيى بن عبد الحميد الحماني عن سليمان بن بلال، عن شريك، عن أنس.

تابعه يحيى بن محمد بن قيس عن شريك.

ورواه أحمد بن عصام عن أبي عاصم، عن عثمان بن سعد، عن أنس.


#76#

ورواه أبو ضمرة أنس بن عياض والأنصاري، وغير من ذكرناه عن أنس.

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا يزيد، أخبرنا محمد ابن عمرو، عن كثير بن خنيس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ ، قال: «وماذا أعددت للساعة؟»، قال: حب الله ورسوله. قال: «أنت مع من أحببت».

كثير هذا غير كثير بن خنيس الراوي عن عمرة بنت عبد الرحمن، فرق بينهما البخاري في "تاريخه الكبير".

وحدث أبو يحيى زكريا بن يحيى بن أسد المروزي، عن سفيان، عن الزهري، قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول الله، رجل يحب المصلين ولا يصلي إلا قليلا، ويحب الصائمين


#77#

ولا يصوم إلا قليلا، ويحب الذاكرين ولا يذكر إلا قليلا، ويحب المتصدقين ولا يتصدق إلا قليلا، ويحب المجاهدين ولا يجاهد إلا قليلا، وهو في ذلك يحب الله ورسوله والمؤمنين، قال: «هو يوم القيامة مع من أحب».

وللحديث شاهد من حديث: علي بن أبي طالب، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وأبي ذر، وأبي قتادة، وأبي سريحة حذيفة بن أسيد بن الأعوز –ويقال: الأغوس- الغفاري، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي، وصفوان بن عسال المرادي،


#78#

وصفوان بن قدامة -من أهل حمص- وابنه: عبد الرحمن، وصفوان بن قدامة المرادي، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وعروة بن مضرس، وأبي بدرة، ومعاذ بن جبل، وعائشة، رضي الله عنهم.

وطرقه جمة.

وقد صنف فيه الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الصوفي الأصفهاني مصنفا جمع فيه غالب طرقه سماه: "ذكر المحبين مع المحبوبين إذا وافقوهم في العقد والحال".


#79#

وروينا من حديث الحافظ أبي علي أحمد بن محمد البرداني، قال في كتابه في: "من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه": أخبرنا محمد بن علي بن الفتح الحربي، أخبرنا مبادر بن عبيد الله الصوفي، سمعت أبا الأزهر عبد الواحد بن محمد، سمعت الشيخ الصالح –قال الحافظ أبو علي: لعله ابن خفيف- يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام جالسا ومعه جماعة من الفقراء من هذه [الطائفة]، فإذا أنا بالسماء قد انشقت، وجبريل مع الملائكة بأيديهم الطشوت والأباريق، يصبون الماء على أيدي الفقراء، فغسلوها، فلما بلغوا إلي مددت يدي، فقال بعضهم لبعض: لا تصبوا الماء على يده؛ فليس منهم. فقلت: يا رسول الله، فإن كنت لست منهم فإني أحبهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب»، فصبوا الماء على يدي.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين في كتابه


#80#

"المواعظ": وأخبرنا محمد –يعني: ابن أخي ميمي- حدثنا أحمد –هو: ابن سعيد- البزار، حدثنا محمد –يعني: ابن جعفر بن داران- حدثنا خلف بن محمود أبو الطيب الفرغاني، حدثني فارس النجاد، قال: بلغني عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: رأيت في النوم جبريل عليه السلام قد نزل إلى الأرض، فقلت: لم نزلت في هذه الليلة؟ فقال: نزلت لأكتب المحبين. قلت: مثل من؟ قال: مثل: "مالك بن دينار" و "ثابت البناني" و "أيوب السختياني" فعد جماعة، فقلت: أنا فيهم؟ قال: لا. قلت: فإذا كتبتهم فاكتب تحتهم: محب المحبين. قال: فنزل الوحي: اكتبه أولهم.

وفي "الصحيحين" من حديث شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال [رسول الله صلى الله عليه وسلم]: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

تابعه عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.

ورواه أبو داود: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده».


#81#

وقال الزاهد أبو زرعة حيوة بن شريح التجيبي المصري أحد الأئمة: حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد: أنه سمع جده عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك». فقال له عمر: فإنه الآن، لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر».

انفرد البخاري بتخريجه.

تابعه ابن لهيعة عن زهرة به.

وحدث أبو الحسن علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري، عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني، إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل». ثم قال لي: «يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، [ومن أحبني] كان معي في الجنة».

خرجه أبو عيسى الترمذي في "جامعه" من حديث محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه –ووثقهما- عن علي بن زيد به.


#82#

و "علي بن زيد" هذا ولد وهو أعمى، وكان كثير الحديث. قاله ابن سعد في "الطبقات" وضعفه.

وذكر الترمذي أن عليا هذا صدوق، إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره.

ثم قال أبو عيسى: وقد روى عباد المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس، ولم يذكر فيه "سعيد بن المسيب".

قال أبو عيسى: وذاكرت به محمد بن إسماعيل –يعني: البخاري- فلم يعرفه، ولم يعرف لـ "سعيد بن المسيب عن أنس" هذا الحديث ولا غيره. اهـ

وقد جعلت هذا الجامع المختصر فصولا مبوبة لمعان مرتبة، وسميته "جامع الآثار في السير ومولد المختار" ساق الله إليه أفضل


#83#

الصلاة وأزكى التسليم، وجعل ما قصدته خالصا لوجهه الكريم، فهو [المولى] المولي لكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.


#84#

&فصل: في البشارات العظيمة بذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الله القديمة&

$من بشر به من الأنبياء والأحبار والعلماء وأنذر به من الكهان، وأعلم به من هواتف الجنان وهذا هو أحد الأقسام في الدلائل للنبوة والأعلام$

قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي رحمه الله: إن الله تعالى أعان خلقه على أوامره، وأغناهم عن نواهيه، وكان أنبياء الله –عليهم الصلاة والسلام- معانين على تأسيس النبوة بما يقدمه من بشائرها، ويبديه من أعلامها وشعائرها، ليكون السابق مبشرا ونذيرا، واللاحق مصدقا وظهيرا، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق، وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما هو حجة على أممهم، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم لما أطلعهم الله تعالى على غيبه؛ ليكون عونا للرسول وحثا على القبول.

قاله أبو الحسن في كتابه "أعلام النبوة".


#85#

$ذكره صلى الله عليه وسلم في القرآن$

فأما ما في القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد من الآيات الشريفات في البشارات المنيرات:

فمنها ما قال الله عز وجل: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}

وقال تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم}

وقال تعالى حكاية عن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام-:

{ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}

وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}

وقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} الآية

وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من


#86#

قبل لفي ضلال مبين}

وقال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} الآية

وقال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم} الآية

وقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل} الآية

وقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب} الآية

وقال تعالى فيما أخبر أنه كلم به موسى –عليه الصلاة والسلام- وخاطب به نبينا –عليه أفضل الصلاة والسلام-: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون . قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} الآية.


#87#

وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}

وقال تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} الآية

وقال تعالى: {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}

وقال تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما}

وقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}

وقال تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}

وقال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما . وينصرك الله نصرا عزيز}

وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . لتؤمنوا بالله ورسوله}

وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} الآيات

وقال تعالى: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى} الآيات


#88#

وقال تعالى: {وإذا قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} الآية

وقال تعالى: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم . هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}

وقال تعالى: {ن والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون} الآيات

وقال تعالى: {قم الليل إلا قليلا} الآيات

وقال تعالى: {يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر} الآيات

وقال تعالى: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى} السورة

وقال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} السورة

وقال تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} السورة

والآيات في ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن كثيرة، ومعانيها شريفة خطيرة.


#89#

$[معرفة أهل الكتاب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم]$

حدث شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي مولاهم النحوي المؤدب البصري في "تفسيره": عن قتادة في قوله تعالى: {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} قال: كتموا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم {يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}

وجاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي: آلائي عندكم وعند آبائكم. لما كان نجاهم به من فرعون وقومه {وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم} قال: بعهدي الذي أخذت من أعناقكم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاءكم، أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إخوانكم.

وخرج الشيخ الإمام –شيخ الإسلام- أبو بكر أحمد بن الحسين بن


#90#

علي البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" من حديث يوسف بن موسى، قال: حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم".

قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله عز وجل: {وكانوا من قبل يستفتحون} يعني: بك يا محمد {على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}


#91#

وخرجه أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة" –من تأليفه- ليوسف بن موسى القطان، حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس. فذكره بنحوه، وجعل مكان "سعيد بن جبير": "عنترة".

وروي معناه عن عطية، عن ابن عباس.

قاله البيهقي.

وخرجه أبو محمد بن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق الضحاك عن ابن عباس.

وقال آدم بن [أبي] إياس: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن


#92#

علي الأزدي قال: كانت اليهود تقول: "اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الذين يستفتحون به". أي: يستنصرون به على الناس.

وقال أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري –أحد الأئمة التابعين المخضرمين: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: "اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم"، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}.

وحدث محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري، عن رجال من قومه قالوا: ومما دعانا إلى الإسلام مع –رحمة الله وهداه: أنا كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا مما نسمع ذلك


#93#

منهم، فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله أجبنا حين دعانا الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في "البقرة": {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} إلى قوله: {الكافرين}.

وقال أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الهاشمي مولاهم الكوفي السدي: كانت العرب تمر بيهود، فيلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل!.

وحدث شيبان بن عبد الرحمن النحوي في "تفسيره" عن قتادة في قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} قال: هو الفرقان الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم من التوراة والإنجيل {معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} قال: كانت اليهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب، كانوا يقولون: "اللهم ابعث النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم"، فلما بعث الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة


#94#

ويستفتحون به كفروا به حين رأوه بعث من غيرهم حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن": ومعنى: {يستفتحون على الذين كفروا} قيل: فيه قولان، قال بعضهم: كانوا يخبرون بصحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: {وكانوا من قبل يستفتحون} يستنصرون بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} أي: ما كانوا [به] يستنصرون وبصحته يخبرون، كفروا به. فأعلم الله عز وجل أنهم كفروا وهم يوقنون أنهم متعمدون للشقاق وعداوة الله. اهـ

وقيل: هذه الآية الشريفة: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}: نزلت في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته ومبعثه في كتابهم كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان.

وروي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لأنا كنت أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني. فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وكيف ذلك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا يقينا، وأنا لا أشهد بذلك


#95#

على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء. فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام.

وحدث يزيد بن هارون، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: {قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} قال: عبد الله بن سلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن اليهود أعظم قوم عضيهة، فسلهم عني وخذ عليهم ميثاقا، أي: إن اتبعتك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل إليك، وأخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك، فأرسل إلى اليهود فقال: «ما تعلمون عبد الله بن سلام فيكم؟» فقالوا: خيرنا وأعلمنا بكتاب الله، سيدنا وعالمنا وأفضلنا. قال: «أرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل الله [علي]، تؤمنون بي؟»، قالوا: نعم. فدعاه فخرج عليهم عبد الله، فقال: «يا عبد الله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله، تجدوني مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي، وأن يتبعني من أدركني منكم؟» قال: بلى. قالوا: ما نعلم أنك رسول الله، وكفروا به، وهم يعلمون أنه رسول الله وأن ما قال حق، فأنزل الله عز وجل: {إن كان من عند الله}


#96#

يعني: الكتاب والرسول {وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} يعني: عبد الله بن سلام {وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}، ففي ذلك نزلت هذه الآية.

وجاء نحوه في تفسير الآية عن عوف، عن الحسن.

وعن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

وعن إسرائيل أيضا عن جابر، عن مجاهد وعطاء وعكرمة.

وصح من حديث أبي النضر، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [يقول] لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام.

قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}.


#97#

$[المثل المضروب في سورة النور]$

ومما حدث أبو الربيع سليمان بن داود العتكي الزهراني، عن يعقوب القمي، حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن شمر بن عطية: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لكعب الأحبار –رحمة الله عليه: حدثني عن قول [الله] {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري} إلى قوله: {نور على نور}. قال: أما قوله: {الله نور السماوات} فالله نور السماوات والأرض، {مثل نوره} مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم {كمشكوة} المشكاة: الكوة، ضربها مثلا لقمة المشكاة، {فيها مصباح المصباح في زجاجة} "الزجاجة": [صدره]، {الزجاجة كأنها كوكب دري} شبه صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدري، ثم رجع إلى المصباح –أي: قلبه- فقال: {يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية} لم تصبها شمس الشرق ولا شمس الغرب، {يكاد زيتها يضيء} [ولو لم تمسسه نار]: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء وهو لم تمسسه النار، ثم قال: {نور على نور}.

تابعه الهيثم بن جميل، عن يعقوب القمي.


#98#

وهذا جاء من تفسير ابن عباس في الآية فيما حدث به أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، عن بكر بن سهل، حدثنا عبد الغني بن سعيد، عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {الله نور السماوات والأرض}، يقول: هادي أهل السماوات وأهل الأرض، ثم انقطع الكلام، ثم استأنف، فقال عز وجل: {مثل نوره} يعني: نور محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان مستودعا في صلب أبيه عبد الله {كمشكاة}، يعني: كوة غير نافذة –بلسان الحبشة- {فيها مصباح} يعني بالمصباح: قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شبهه بالمصباح، في الضياء والنور لما به من الإيمان والنور والنبوة والحكمة، ثم ردد المصباح فقال: {المصباح في زجاجة} يعني: بالزجاجة: صدره صلى الله عليه وسلم، ثم ردد


#99#

في صدره، يعني: في الصفاء والحسن والنقاء مثل الزجاجة، ثم ردد الزجاجة {كأنها كوكب دري} يعني: في الصفاء والحسن، ويعني بـ "الدري": المضيء وهي: "الزهرة"، وليس في السماء نجم أضوأ من "الزهرة"، يريد: كما تضيء "الزهرة" لأهل الأرض كذلك جعلت قلبه في صدره، ثم قال: {يوقد من شجرة مباركة} يقول: استنار نور محمد صلى الله عليه وسلم من نور إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من ولده وعلى دينه ومنهاجه وسنته –وذكر بقيته.

وجاء هذا التفسير أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وذلك فيما حدث به أبو الشيخ الأصبهاني عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، عن علي بن إسحاق بن إبراهيم الضبي، حدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا علي بن ثابت، حدثنا الوازع بن نافع، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه: {كمشكاة} قال: "المشكاة": جوف محمد صلى الله عليه وسلم، و "الزجاجة" قلبه، و "المصباح": النور الذي في قلبه، {يوقد من شجرة مباركة} قال "الشجرة": إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" و "الأوسط"، فقال: حدثنا


#100#

أحمد بن منصور المدائني، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا علي بن ثابت، فذكره، وقال: لم يرو هذا الحديث عن سالم إلا الوازع بن نافع، تفرد به علي بن ثابت. قاله في "الأوسط".


#101#

$[ذكره صلى الله عليه وسلم، وبشائر به في التوراة وغيرها، وفضل أمته]$

وأما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وغيرها من كتب الله عز وجل فقد نطق به القرآن العظيم، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة والأخبار الحسنة المليحة.

$*[صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة]$

قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه": حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل،


#102#

ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: "لا إله إلا الله"، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا.

تابعه أبو عبد الله موسى بن داود [الضبي] الخلقاني، عن فليح.

و"فليح" لقب غلب عليه، واسمه: عبد الملك بن سليمان بن أبي المغيرة بن حنين المديني أبو يحيى، أخرج له في "الصحيحين" فارتفعت رتبته، مات سنة ثمان وستين ومائة.


#103#

وحديثه هذا رواه البخاري أيضا في التفسير من الصحيح، فقال: حدثنا عبد الله، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال بن أبي هلال، فذكره.

وحدث به علي بن المديني، فقال: حدثنا أبو داود وروح بن عبادة [القيسي، قالا: أخبرنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال، قال أبو داود: هلال بن هلال، قال روح: عن هلال عن عطاء بن يسار أخبره أن عبد الله بن عمرو بن العاص أخبره أن هذه الآية التي في الفرقان –يعني: القرآن- {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} قال: هي في التوراة: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ورحمة للأميين


#104#

أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الأمة العوجاء، أن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.

رواه علي بن غالب بن سلام السكسكي عن ابن المديني.

وعبد الله شيخ البخاري هذا مختلف في نسبه: فقال أبو علي بن السكن في روايته عن الفربري عن البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة –يعني: القعنبي-.

وذكر أنه القعنبي أيضا: أبو الوليد هشام بن أحمد القاضي.

وذكر أبو نصر الكلاباذي: أنه عبد الله بن صالح العجلي.


#105#

وذكر أبو مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء.

وقال عبد العزيز النخشبي: أظنه ابن رجاء.

وقال أبو علي الغساني: هو عبد الله بن صالح كاتب الليث.

وصوب هذا الحافظ أبو الحجاج المزي، وعضده برواية البخاري له في كتابه الذي ألفه في الأدب، ثم عقبه بحديثه عن محمد بن سنان عن فليح كما رواه في "صحيحه" بهذين الإسنادين، والبخاري مكثر عن كاتب الليث كما أن كاتب الليث مكثر عن عبد العزيز بن أبي سلمة، والعجلي ذكر له في "التاريخ" ترجمة


#106#

مختصرة جدا، ولم يرو فيها شيئا بل روى في "التاريخ" عن رجل عنه.

قال المزي: فهذا يؤكد أنه لم يلقه ولا وجدنا أيضا للعجلي رواية عن عبد العزيز بن أبي سلمة سوى حديثه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر «الظلم ظلمات يوم القيامة». اهـ

وحديث عبد الله بن عمرو المذكور رواه الليث وروح بن عباده وغيرهما، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة.

وخرجه الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في "سننه الكبرى" و "شعب الإيمان" و "دلائل النبوة".

ورواه أبو محمد القاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي الإمام اللغوي في كتاب "الدلائل في شرح غريب الحديث" وهو كتاب أمتع من كتاب أبي عبيد والقتيبي، كتبه أبو علي البغدادي بخطه، وكان يقول: لم يوضع بالأندلس مثله.


#107#

وهذا الكتاب جمعه قاسم وأبوه ثابت معا؛ لأن قاسما ابتدأه أولا وعاجلته المنية عن إتمامه؛ لأنه مع براعة علمه كان من أهل الورع والزهد، فأريد على قضاء سرقسطة فأبى، وأراده أبوه على ذلك فسأله أن يتركه ثلاثا لينظر في أمره فمات قبل انقضائها، فيرون أنه دعا لنفسه بالموت وكان موصوفا بإجابة الدعوة، وكانت وفاته سنة ثنتين وثلاثمائة فأكمل أبوه ثابت الكتاب بعده، وكان سماعهما واحدا ورحلتهما واحدة، وتوفي أبوه بعده سنة ثلاث عشرة وثلاث مائة، وقال الحميدي في "تاريخه": سنة أربع عشرة، فبذلك كان ثابت بن قاسم يروي الكتاب عن أبيه إجازة؛ لأنه كان حين وفاته صغيرا، ويرويه عن جده قراءة عليه؛ لأنه أدركه كبيرا فقرأه عليه.


#108#

لخصته بزيادة من "برنامج الحافظ أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي".

روى هذا الحديث أبو بكر محمد بن علي النقاش ومحمد بن عبد الله بن زكريا بن حيويه، قالا: أخبرنا أبو صالح القاسم بن الليث بن مسرور الرسعني، حدثنا المعافر بن سليمان هو الجزري الرسعني، حدثنا فليح، عن هلال بن علي، وذكر نحوه وفي آخره كما في رواية البيهقي: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار، فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا يقول بلغته: "أعينا عمومي وآذانا صمومي وقلوبا غلوفي".

وهذه الزيادة مذكورة أيضا بنحوها في رواية القاسم بن ثابت في "الدلائل".

وأبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وإن لم يكن من أهل الكتاب، فقد قرأ القرآن والتوراة.

قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا قتيبة، عن ابن لهيعة، عن واهب بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت فيما يرى


#109#

النائم كأن في إحدى إصبعي سمنا وفي الأخرى عسلا وأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «تقرأ الكتابين التوراة والفرقان» فكان يقرؤهما.

وخرجه أبو نعيم في "الحلية" من طريق أحمد بن حنبل.

وكان عبد الله قد أصاب فيما بلغنا يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما تجوز حكايته والتحديث به.

وكان يحدث بأشياء من التوراة أيضا، كما خرج أبو نعيم في "الحلية" من حديث قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مكتوب في التوراة: من تجر فجر، ومن حفر حفرة سوء لصاحبه وقع فيها.

وحدث به الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن بكير، عن الليث بنحوه.

وجنح بعض المتأخرين وتابعه بعض أصحابه إلى أن هذا الوصف المذكور في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن التوراة لا يريد


#110#

به التوراة المعينة [التي هي كتاب موسى عليه السلام، فإن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة] تارة، ويراد به الجنس تارة، فقوله: (أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة) إما أن يريد به جنس الكتب المتقدمة، وكلها يسمى توراة، ويكون هذا الوصف في بعضها، أو يريد به التوراة المعينة كتاب موسى عليه السلام.

قال بعض أصحابه: وعلى هذا فيكون هذا في نسخة لم ينسخ منها هذه النسخ، فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي وقف عليها شيخنا قال: ليس فيها هذا.

قلت: هذا كله يدور على أن التوراة لم تبدل لفظا وهذا خطأ فاحش واعتقاد شنيع، فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل ما لا يخفى، والتوراة التي بأيدي اليهود تخالف التوراة التي بأيدي السامرة، ومن وقف عليهما علم ما بينهما من التباين والتغيير والتناقض والتبديل.

والصحيح وهو الذي سبق الفهم إليه أنه أريد في هذا الحديث كتاب موسى الذي أنزل عليه، وقد جاء مصرحا بذلك، فزال اللبس والاشتباه، وبطل كل قول سواه، وذلك فيما أخبرناه أبو محمد عبد القادر بن أبي إسحاق الحريري الصالحي بقراءتي عليه بها، أخبرتنا فاطمة بنت أبي عمر أخبرنا أحمد بن أبي محمد النابلسي، أخبرنا إسماعيل بن علي الشروطي، أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحافظ، أخبرنا أبو الحسن عبد الدائم الهلالي، أخبرنا عبد الوهاب بن الحسن الدمشقي، أخبرنا


#111#

أبو بكر محمد بن خريم بدمشق قراءة عليه، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام: عن جده عبد الله بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خرج إليه فلقيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟»

قال: نعم.

قال: «فناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، هل تجد صفتي في كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه السلام»

قال عبد الله بن سلام: أنسب ربك يا محمد.

فأرتج على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل: {قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد} قال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى تستقيم به الملة المعوجة، حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلوفا.


#112#

وخرجه الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي في "مسنده" من حديث سعيد بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.

قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام.

وحدث به الإمام أبو يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي الفسوي الحافظ في كتابه "التاريخ والمعرفة" فقال: حدثنا أبو صالح حدثني الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن هلال بن أسامة فذكره بنحوه.

وأشار إليه البخاري في "صحيحه" فعلقه، فقال: وقال سعيد عن


#113#

هلال عن عطاء عن ابن سلام.

وأبو واقد صحابي مشهور اسمه: الحارث بن عوف بن أسيد، وقيل: عوف بن الحارث، وقيل: الحارث بن مالك.

وقال الوليد بن مسلم: حدثنا سلم حدثنا جعفر بن الزبير سمعت عبادة بن نسي الكندي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، نجدكم في كتاب الله: أمة حمادون، مولد نبيهم بمكة، وهجرتهم بطيبة وجهادهم بالشام، يأتزرون على أنصافهم، ويطهرون أطرافهم، أصواتهم بالليل] في المساجد كأصوات نحل في أقارها يأتون يوم القيامة غرا محجلين.

حدث به هشام بن عمار في كتابه "المبعث" عن الوليد.

وجاء نحوه عن كعب، حدث به يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده: محمد رسول الله، واسمه: المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عورا،


#114#

ويسمع به آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.

وخالفه وهب بن جرير، عن أبيه، [عن جده]، عن ابن إسحاق، وذلك فيما أخبرتنا به أم عمر كلثوم بنت الحافظ أبي المعالي محمد بن رافع السلامي، أخبرنا أبو الفضل عبد الرحيم بن إبراهيم وأنا في الرابعة شاهده أخبرنا [جدي: إسماعيل بن إبراهيم سماعا، أخبرنا أبو طاهر بن إبراهيم الدمشقي، أخبرنا هبة الله بن أحمد، أخبرنا] محمد بن مكي بن عثمان المصري، قدم علينا دمشق، قراءة عليه في شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وأربع مائة، أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد البغدادي في منزله بمصر سنة ست وتسعين وثلاثمائة، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي،


#115#

حدثنا أبو معمر، حدثنا يحيى بن محمد القطعي، حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن غيلان بن شرحبيل –أحد بني عبد الدار- عن أم الدرداء الأنصارية، عن أبي الدرداء قال: قلت لكعب: كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنا نجده موصوفا بها: محمد رسول الله، المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، أعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عميا، ويسمع به آذانا صما، وتقوم به ألسنا معوجة، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، يعين المظلوم ويمنعه، وينتصر للظالم من أن يستضعف.

لكن وجدته في "مغازي ابن إسحاق" التي رواها أبو الفضل [محمد ابن] يحيى بن الفياض الزماني، حدثنا وهب، حدثني أبي، عن [محمد بن] إسحاق، قال: حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل –أخو بني عبد الدار- عن أم الدرداء –فذكره كنحو رواية يونس.

وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ناجية، حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثني عمي: يعقوب، حدثنا أبي، عن الوليد بن


#116#

كثير، عن ابن حلحلة ، عن طلحة بن عبيد الله الخزاعي، أنه سمع أم سلمة –زوج النبي صلى الله عليه وسلم- تقول: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يوقد بالسيئة إذا سمعها، ولكن يطفئها بعثته، أعطيته مفاتيح ليفتح عيونا عميا، ويسمع آذانا وقرا، ويقيم ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله".

تابعه محمد بن رزق الله الكلوذاني، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن الوليد بن كثير المدني، عن محمد بن عمرو بن حلحلة: أن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أخبره أنه سمع أم سلمة- فذكره بنحوه.

وخرج أبو محمد الدارمي في "مسنده" من حديث معاوية بن صالح، عن أبي فروة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سأل كعب الأحبار:


#117#

كيف تجدون نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر إلى طابة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا بسخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون لله في كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يؤضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلواتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء.

ورواه هشام بن عمار في كتابه "المبعث" عن إسماعيل بن عياش العنسي، عن عبد الله بن دينار وغيره، عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة: محمد رسول الله، مولده بمكة..، فذكره بنحوه.

وخرج الحافظ أبو نعيم في كتابه "حلية الأولياء" من حديث خالد ابن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال: أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال لكعب الأحبار: أخبرني عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.


#118#

قال: أجدهم في كتاب الله أنه أحمد وأمته حمادون يحمدون الله على كل خير وشر، يكبرون الله على كل شرف، ويسبحون الله في كل منزل، نداؤهم في جو السماء، لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل على الصخر، يصفون في الصلاة كصفوف الملائكة، ويصفون في القتال كصفوفهم في الصلاة، إذا غزوا في سيبل الله كانت الملائكة بين أيديهم ومن خلفهم برماح شداد، إذا حضروا الصف في سبيل الله كان الله عليهم مظلا –وأشار بيده- كما تظل النسور على وكورها، لا يتأخرون زحفا أبدا حتى يحضرهم جبريل عليه السلام.

وقال أبو الحسن علي بن الخضر بن سليمان بن سعيد السلمي في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم": أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن العقب،


#119#

حدثنا جد أبو القاسم علي بن يعقوب، حدثنا أبو عبد الملك القرشي، حدثنا محمد بن عائذ، حدثنا سويد بن عبد العزيز، عن عبد الملك بن عمير، عن كعب الأحبار رحمه الله قال: إني لأجد في كتاب الله سطرين: [في] أحدهما: محمد رسول الله، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ومولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون، يحمدون الله عز وجل في السراء والضراء، ويكبرونه على كل شرف، ويوحدونه على كل منزلة، رعاة الشمس، يأتزرون الأنصاف، ويوضئون الأطراف، تسمع أصواتهم في جو السماء كدوي النحل، صفوفهم في قتالهم كصفوفهم في صلاتهم.

هكذا حدث به أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي الكاتب في كتابه "المغازي"، وقد سقط بين عبد الملك وكعب : رجل.

وخرجه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة الحافظ في كتابه "التاريخ" عن المنجاب بن الحارث، أخبرنا أبو المحياة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أخي كعب قال: قال كعب: إنا لنجد نعت النبي صلى الله عليه وسلم في سطرين من كتاب الله عز وجل، نجده في سطر: محمد رسول الله وأمته الحمادون .. .. وذكره بنحوه.


#120#

وأبو المحياة: يحيى بن يعلى بن حرملة الكوفي.

وخرجه الدارمي في "مسنده" من طريق عبد الملك بن عمير، عن ذكوان أبي صالح، عن كعب أنه قال:

في السطر الأول: محمد رسول الله، عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة الشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم، ويوضئون أطرافهم، وأصواتهم بالليل في جو السماء كصوت النحل.

ورواه بشر بن موسى، حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا شريك، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن كعب بنحوه.


#121#

ورواه الأعمش عن أبي صالح قال: قال كعب .. .. فذكره.

ورواه إسماعيل بن زكريا عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن كعب.

وجاء من حديث عطاء بن يسار عن كعب.

وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا مصعب بن عبد الله، حدثني الضحاك بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن أبي صالح السمان، أن كعبا قال: إنا نجد في كتاب الله محمدا، مولده بمكة.

وقال: حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا عبيدة بن حميد، حدثني الأعمش، عن أبي صالح قال: قال كعب: نجد محمدا صلى الله عليه وسلم في الكتب، مولده بمكة.


#122#

وقال حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، [حدثنا] عبد الملك ابن عمير قال: قال كعب: إني أجد في التوراة: عبدي أحمد المختار، مولده بمكة.

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا [سهل بن أبي سهل الواسطي، ثنا الجراح بن مخلد، ثنا إسماعيل بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن فروة، ثنا] أبي، عن أبي هارون: أن سنان بن الحارث حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صفتي: أحمد المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولا يكافئ بالسيئة، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وأمته الحمادون، يأتزرون على أنصافهم، ويوضئون أطرافهم، أناجيلهم في صدورهم، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال، قربانهم الذي يتقربون به إلي دماؤهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار».


#123#

وقال أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن سنين الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا محمد بن يعقوب التمار، حدثنا مسلمة بن عبد الصمد الحراني، حدثنا إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك، حدثنا إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك، حدثني خالد بن طليق الخزاعي، عن جده عمران بن الحصين قال: أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الكوفة، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، هل عندك علم في التوراة نقتدي به؟ قال: نعم يا أبا نجيد، إن أول ما أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

وقال الطبراني أيضا في "المعجم": حدثنا أحمد بن الحسن المضري الأبلي، حدثنا أبو عاصم ،


#124#

حدثنا جسر بن فرقد، حدثنا النهاس بن قهم القيسي، عن شداد أبي عمار، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما بلغ ولد معد بن عدنان أربعين رجلا وقعوا على عسكر موسى، فانتهبوه، فدعا عليهم موسى بن عمران عليه السلام فقال: يا رب، هؤلاء ولد معد قد أغاروا على عسكري، وهم قليل. وناجى فلم يجب، فدعا الله عليهم، فقال: يا رب، هؤلاء ولد معد بن عدنان قد أغاروا على عسكري، فأوحى الله إليه: يا موسى بن عمران، لا تدع عليهم، فإن منهم النبي الأمي النذير البشير بجنتي، ومنهم الأمة المرحومة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل، فيدخلهم الجنة بقول: لا إله إلا الله، لأن نبيهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المتواضع في هيئته المجتمع له اللب في سكوته، ينطق بالحكمة، ويستعمل


#125#

الحلم، أخرجته من خير جيل من أمته: قريش، ثم أخرجته من هاشم صفوة قريش، فهم خير من خير، إلى خير يصير، هو وأمته إلى خير يصيرون.

وروى الزبير بن بكار بإسناد له عن مكحول قال: أغار الضحاك بن معد على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد، عليهم دراريع الصوف، خاطمي خيلهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا وظفروا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى، إن بني معد أغاروا علينا وأنت نبينا، فادع الله عليهم. فتوضأ موسى عليه السلام وصلى، وكان إذا أراد حاجة من الله عز وجل صلى، ثم قال: يا رب، إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل، فقتلوا وسبوا وظفروا، وسألوني أن أدعوك عليهم.

فقال الله عز وجل: يا موسى، لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وإنهم ينتهون عند أول أمري، وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته.

قال: يا رب، ما بلغ من محبتك له؟ قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال: يا رب، ما بلغ من محبتك لأمته؟ قال: يستغفرني مستغفرهم فأغفر له، ويدعوني داعيهم فأستجيب له.


#126#

قال: يا رب، فاجعلهم من أمتي، قال: نبيهم منهم.

قال: يا رب، فاجعلني منهم، قال: تقدمت واستأخروا.

قال الزبير: وحدثني علي بن المغيرة قال: لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام، فدعا عليهم فلم يجب فيهم، ثم أغاروا، فدعا عليهم فلم يجب ثلاث مرات، فقال: يا رب، دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم؟ فقال: يا موسى، دعوتني على قوم فيهم خيرتي في آخر الزمان.

وقال أبو قتيبة سلم بن قتيبة: حدثني أبو مودود المديني، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد، وعيسى ابن مريم –صلى الله عليهما وسلم- يدفن معه.

قال: فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.

خرجه الترمذي لسلم وقال: هذا حديث حسن غريب. انتهى.

أبو مودود هذا: اسمه عبد العزيز بن أبي سليمان المديني.

وكان في عصره رجل آخر يقال له: أبو مودود –وهو بصري- سكن الري اسمه: فضة، روى عن سليمان التيمي وغيره. ولهم شيخ ثالث


#127#

يقال له: أبو مودود. واسمه: بحر بن موسى، بصري أيضا، روى عن الحسن، وعنه حفيده موسى بن زياد بن بحر، وغيره.

وأما عثمان بن الضحاك: شيخ أبي مودود، فقال أبو القاسم بن عساكر في "ألأطراف": هكذا قال عثمان بن الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان.

ورده الحافظ أبو الحجاج المزي، فقال في "الأطراف": هو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان. ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان. انتهى.

قلت: وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" على الصواب فقال: وقال لي الحزامي: حدثنا محمد بن صدقة، سمع عثمان بن الضحاك بن عثمان، أخبرني محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده: ليدفنن عيسى ابن مريم مع النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه.


#128#

قاله البخاري.

وخرجه أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة" ففال: حدثنا أبو العباس عبد الله بن الصقر السكري، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد الله بن نافع الصائغ، عن الضحاك بن عثمان، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، [عن أبيه] رضي الله عنه قال: الأقبر الثلاثة: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر رضي الله عنه، وقبر عمر رضي الله عنه، وقبر رابع يدفن فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام.

كذا ذكره، فأسقط منه "محمد بن يوسف".

وقال أبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي في


#129#

"مسنده": حدثنا أحمد بن شبويه المروزي، حدثني سليمان بن صالح، حدثني عبيد الله، عن نافع قال: قبر أبي بكر [رضي الله عنه] عند رجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر رضي الله عنه خلف [قبر] أبي بكر، وبقي ثم موضع قبر. قال عبيد الله : فسمعت رجلا يحدث عبد العزيز بن أبي داود قال: بلغنا عن كعب قال: موضع القبر لعيسى ابن مريم عليهما السلام.

وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: ذكر لنا أن موسى عليه السلام قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة، خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، أناجيلهم في صدورهم، يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقتلون فضول الضلالة حتى يقتل الأعور الكذاب، يأكلون صدقاتهم في بطونهم ويؤجرون عليها، إذا هم أحدهم بالحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإذا عملها كتب له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، فهم المستجيبون والمستجاب لهم، هم المشفعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي.

قال: تلك أمة أحمد.

قال: فنبذ الألواح وقال: رب اجعلني من أمة أحمد.


#130#

قال: فأعطاه الله تعالى خصلتين لم يعطوهما، قال الله: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}. قال: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.

تابعه محمد بن عائذ عن الوليد.

وقال هشام أيضا: وقال: حدثنا شعيب بن إسحاق، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بمثله، وزاد فيه: أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، أمة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها كتب له حسنة، وإذا عملها كتب عليه سيئة واحدة.

وخرج الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "التاريخ" عن جبارة بن المغلس، حدثنا الربيع بن النعمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن موسى عليه السلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون؛ فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون المشفوع لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم، يقرأونه ظاهرا،


#131#

فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم فيؤجرون عليها، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتب له عشر حسنات فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والآخر فيقتلون فرق الضلالة المسيح الدجال، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، فاجعلني من أمة أحمد قال: فأعطي عند ذلك خصلتين فقال: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} قال: قد رضيت يا رب».

وأنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد السعدي، أخبرنا أبو بكر بن أحمد [بن عبد الله] بن عبد الدائم سماعا، أخبرنا الحسين بن المبارك البغدادي، أخبرنا أبو زيد جعفر بن زيد


#132#

الحموي في كتابه "رسالة البرهان في نصرة القرآن" قال:

وأخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن عبيد الله بن نصر الفقيه بقراءتي عليه، أخبرنا الشيخ أبو القاسم علي بن البندار، أخبرنا أبو عبد الله عبيد الله بن حمدان العكبري إذنا، حدثنا أبو صالح محمد بن أحمد، حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن ذريح، [حدثنا] أبو محمد جبارة بن المغلس الحماني، حدثنا الربيع بن نعمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما قرأ موسى عليه السلام الألواح وجد فيها ذكر هذه [الأمة] فقال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون المشفوع لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني


#133#

أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها ظاهرا، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء –يعني: الغنائم- فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم ويؤجرون عليها، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، فإن عملها كتبت [له] عشرا، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والآخر فيقتلون فرق الضلالة المسيح الدجال، فاجعلها أمتي. قال: [تلك] أمة أحمد. قال: يا رب، فاجعلني من أمة أحمد. قال: فأعطي عند ذلك خصلتين؛ قال: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} قال: قد رضيت يا رب، [قد رضيت يا رب]».


#134#

ورواه أبو بكر محمد بن أبي زكريا يحيى بن أحمد الفقيه الهمداني، فقال: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا محمد بن إدريس، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني أبو سهيل، عن الحسن: أن موسى [عليه السلام] قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم السابقون الآخرون، فاجعلهم أمتي. قال: تيك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلهم [من أمتي]. قال: تيك أمة محمد صلى الله عليه وسلم [قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم السابقون المشفع لهم فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد] قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة القرآن في صدورهم، فاجعلهم من أمتي. قال: تلك أمة أحمد. [قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة يأكلون الصدقة في بطونهم ويؤجرون عليها، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد]. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بالحسنة كتبت له حسنة واحدة، فإذا عملها كتبت له عشر حسنات، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بسيئة ثم تركها لم تكتب، فإن عملها كتبت عليه سيئة [واحدة]، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد. قال: يا رب إني أجد في التوراة أمة يقرأون


#135#

الكتاب الأول ويقرأون الكتاب الآخر ويقتلون المسيح الدجال، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد. قال: يا رب، فاجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم [قال]: فعند ذلك أعطى الله تعالى موسى عليه السلام خصلتين؛ قال: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}. قال: فقال موسى عليه السلام: [قد] رضيت يا رب.

وخرجه الإمام الزاهد العارف أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب البخاري الكلاباذي في كتابه "معاني الأخبار" فقال: حدثنا محمد بن عبد الله أبو بكر الرازي، حدثنا أبو جعفر بن ذريح العكبري بها، أخبرنا أبو محمد الحماني بالكوفة، حدثنا الربيع بن نعمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام ..» وذكر الحديث بطوله نحوه.

ثم قال الإمام أبو بكر عقيبه: إن الكليم المعلى قدره الجليل خطره الرفيع ذكره الجلي نوره، فكان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ.


#136#

حدثنا الشريف أبو الحسن محمد بن علي الحسيني، حدثنا محمد بن أحمد بن سعيد بهمدان، حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا همام، حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما تجلى الله عز وجل لموسى بن عمران عليه السلام كان يبصر النملة [على الصفا] في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ».

فهذا المكلم الكريم على الله عز وجل لما رأى صفات أمة أحمد المحمودين وأكرم المولودين وحبيب رب العالمين اغتبطهم على ما أوتوا بقوله: هم الآخرون السابقون. اغتبطهم على ما في السبق [لا على السبق]، والذي في السبق هو التقريب، قال الله تعالى: {والسابقون السابقون . أولئك المقربون}، فكان اغتباطه إياهم على تقريب الحق لهم لا على السبق [الذي] هو صفتهم، اغتبطهم على قصد الحق لهم بتقريبهم منه وإدنائه إياهم، فاغتبطهم على ما منه إليهم لا على ما منهم إليه، لأن الشرف فيما منه دون ما منهم.


#137#

كذلك قوله: الشافعون المشفوع لهم. اغتبطهم على أنهم شافعون لا على أنهم مشفوع لهم، لأن الشفيع إنما يكون المختص المقرب الحبيب المحبب.

وخرج أبو الحسن علي بن الخضر بن سلمان بن سعيد السلمي [في كتابه] الدمشقي وفيه لين في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق عاصم بن علي، حدثنا ليث، أخبرني عبد الله مولى غفرة: أن موسى عليه السلام جعل كلما مرت به صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا رب، اجعلهم من أمتي قال: إني أعطيتهم غيرك، إنها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما كثر ذلك عليه قال: رب اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وروي نحوه مطولا فيما حدث به محمد بن أحمد بن البراء العبدي، عن عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، قال: وذكر وهب بن منبه: أن الله عز وجل لما قرب موسى نجيا قال: "رب، إني أجد في التوراة


#138#

أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. وذكر الحديث.

وقد جاء من حديث كعب الأحبار فيما خرجه الحافظ أبو نعيم أيضا في كتابه "حلية الأولياء" فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين بن سعد، عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري، عن أبيه:

أن كعب الأحبار رأى حبرا اليهودي يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت بعض الأمر. فقال له كعب: أنشدك لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني؟ قال: نعم. قال: أنشدك بالله، هل تجد في الكتاب المنزل أن موسى عليه السلام نظر في التوراة، فقال: رب، إني أجد أمة في التوراة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر، يقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال. فقال موسى: رب، اجعلهم أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى"؟ قال: الحبر: نعم.

قال كعب: فأنشدك بالله، [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: "رب، إني أجد أمة هم الحمادون رعاة


#139#

الشمس المحكمون، إذا أرادوا أمرا قالوا: نفعله إن شاء الله. فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى"؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: فأنشدك بالله، [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى عليه السلام نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم –وكان [الأول] يحرقون صدقاته بالنار، غير أن موسى كان يجمع صدقات بني إسرائيل، فلا يجد عبدا مملوكا ولا أمة إلا اشتراه ثم أعتقه من تلك الصدقة، وما فضل حفر له بئرا عميقة القعر فألقاه فيها ثم دفنه كي لا يرجعوا فيه – وهم المستجيبون والمستجاب لهم، الشافعون المشفوع لهم. قال موسى: فاجعلهم من أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: أنشدك بالله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غر محجلون من آثار الوضوء، فاجعلهم [من] أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: أنشدك بالله، [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى


#140#

نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإن عملها ضعفت له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة مثلها، فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى"؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: أنشدك بالله [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب، واصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما، فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: أنشدك بالله، تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد في التوراة أمة مصاحفهم في صدورهم، يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلا من برئ من الحسنات مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر. قال موسى: فاجعلهم من أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إليه ثلاث آيات


#141#

يرضيه بهن: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}، {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} إلى قوله: {دار الفاسقين}. وقال: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.

قال: فرضي موسى كل الرضا.

وخرج أبو نعيم في "الحلية" أيضا من حديث أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، حدثنا وهب بن السماك، عن عبد العزيز بن أبي رواد، قال: قال كعب الأحبار: قال موسى عليه السلام: إني لأجد في الألواح صفة قوم على قلوبهم من النور مثل الجبال الرواسي، تكاد الجبال والرمال أن تخر لهم سجدا من النور، فسأل ربه عز وجل وقال: رب، اجعلهم أمتي. قال الله عز وجل: يا موسى، إني اخترت أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلتهم أئمة الهدى، وهؤلاء طوائف من أمته.

قال: يا رب، فيما بلغوا هؤلاء حتى آمر بني إسرائيل فيعملوا مثل عملهم، وأبلغ نعتهم؟ قال: يا موسى، إن الأنبياء كادوا أن يعجزوا عما أعطيته أمة محمد صلى الله عليه وسلم يا موسى ، بلغوا أنهم تركوا الطعام الذي أحللت لهم رغبة فيما عندي، وكان عيشهم في الدنيا الفلق [من الخبز] والخلق من الثياب، أيسوا من الدنيا فأيست الدنيا منهم، أقربهم مني وأحبهم إلي أشدهم جوعا وأشدهم عطشا .. .. وذكر الحديث بطوله.


#142#

وخرج أيضا في "الحلية" من حديث معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي قال: انطلق موسى عليه السلام بوفادة إسرائيل، فناجاه ربه عز وجل فقال: إني أبسط لكم الأرض طهورا ومسجدا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا في الحمام أو مرحاض أو عند قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وإني أنزل عليكم التوراة تقرؤونها على ظهر ألسنتكم، رجالكم ونساؤكم وصبيانكم قالوا: لا نصلي إلا في كنيسة، ولا نجعل السكينة في قلوبنا، نجعل لها تابوتا تحمل فيه، ولا نقرأ كتابنا إلا نظرا. قال الله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} إلى قوله: {لعلكم تهتدون}. قال موسى: يا رب، فاجعلني نبيهم. قال: إن نبيهم منهم. قال: يا رب، أخرني حتى تجعلني منهم. قال: إنك لن تدركهم. قال موسى: يا رب، جئت بوفادة بني إسرائيل، فصارت الوفادة لغيرهم. قال الله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}. قال: فكان نوف البكالي يقول: احمدوا ربكم الذي شهد غيبتكم وأخذ بسهمكم، جعل وفادة بني إسرائيل لكم.

رواه جرير عن ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب مثله.


#143#

ورواه يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني حدثني نوف، فذكره بنحوه مختصرا.

وقال أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، من هذه الأمة المرحومة؟ قال: أمة أحمد، هم يرضون بالقليل من العطاء، وأرضى منهم بالقليل من العمل، وأدخلهم الجنة بأن يقولوا: لا إله إلا الله.

وحدث به أبو بكر بن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين، حدثنا يزيد بن هارون .. فذكره.

وقال أحمد بن عبيد بن ناصح: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثني عثمان بن الضحاك بن عثمان، عن زيد بن الهاد، عن ثعلبة بن أبي مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا مالك عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة –وكان من علماء اليهود- فقال: صفته في كتاب بني هارون الذي لم يبدل ولم يغير: أحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء، وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه،


#144#

ويغسل أطرافه، في عينه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، ليس بالقصير، ولا بالطويل، يلبس الشملة، ويجتزىء بالبلغة ويركب الحمار، ويمشي في الأسواق، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لقي من الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة، مولده مكة، ومنشؤه وبدء نبوته بها، ودار هجرته يثرب. بين لابتي حرة ونخل، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وهو الحماد يحمد الله على كل شدة ورخاء، سلطانه بالشام، وصاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديدا ثم يدال عليهم فيحصدهم حصدا، يكون له وقعات بيثرب منها له ومنها عليه ثم له العاقبة، معه قوم هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، قربانهم دماؤهم، ليوث النهار رهبان الليل، يرعب عدوه منه مسيرة شهر، مباشر القتال بنفسه حتى يجرح ويكلم، لا شرطة معه ولا حرس، الله يحرسه.

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، وجدت في التوراة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، ثلاثة أثلاث: فثلث بعمله، وثلث برحمة ربه، وثلث بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم -يعني: يدخلون الجنة- وقال عمر: والذي نفسي بيده، ما أبالي في أي الأثلاث دخلت الجنة.


#145#

ويحكى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رجلا من اليهود في بلاد اليمن بعث إلى كعب الأحبار رجلا فقال [له] إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة.

فقال كعب: هاتها. فقال: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيدا شريفا مطاعا، فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! قال كعب: أتراك راجعا إليه؟ قال: نعم. قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفر منك وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالذي رد موسى إلى أمه، وأسألك بالذي فرق البحر لموسى، وأسألك بالذي ألقى الألواح إلى موسى فيها علم كل شيء، ألست تجد في كتاب الله عز وجل أن أمة أحمد ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يدخلونها برحمة الله، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا؟ فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلني من أي الأثلاث شئت.

وقال أبو محمد بن حيَّان: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، حدثنا هدبة، حدثنا حماد بن سلمة، عن القاسم أن أبا مسلم الخولاني أسلم على عهد معاوية، فقيل له: ما منعك أن تسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم؟ فقال: إني وجدت هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف يحاسبون حسابا يسيرا، وصنف يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة، فأردت أن أكون من الأولين، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يحاسبون حسابا يسيرا، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة.


#146#

حدث به أبو نعيم في "الحلية" عن أبي محمد، وقال: كذا رواه، أسلم على عهد معاوية، [وإنما كان إسلامه في عهد أبي بكر] ولكن هاجر إلى الأرض المقدسة في أيام معاوية من قبل عمر، وسكنها. انتهى.

وهذه القسمة المذكورة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده": حدثنا محمد بن معمر، حدثنا الحجاج بن نصير، حدثنا أبو طلحة، عن غيلان، عن أبي بردة، عن أبيه رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشر هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنفا يدخلون الجنة بغير حساب، وصنفا يحاسبون حسابا يسيرا، وصنفا يجيئون على ظهورهم أمثال الجبال الراسية، فيسأل الله عنهم وهو أعلم بهم فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عباد من عبادك. قال: حطوها عنهم، واجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم برحمتي الجنة».

وعن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، أخبرنا سالم بن عبد الله، عن عبد الله قال: بينما رجلان يحدث أحدهما صاحبه وكعب الأحبار خلفهما يسمع لا يعلمان مكانه، إذ قال أحدهما لصاحبه: رأيت البارحة كل نبي


#147#

في الأرض، مع كل نبي منهم أربعة مصابيح: مصباح من بين يديه، ومصباح من خلفه، ومصباح عن يمينه، ومصباح عن شماله، ومع كل رجل ممن معه مصباح مصباح، إذا قام رجل منهم فأضاءت الأرض، في كل شعرة في رأسه مصباح، ومع كل رجل ممن معه أربعة مصابيح: مصباح من بين يديه، ومصباح من خلفه، ومصباح عن يمينه، ومصباح عن شماله. قلت: من هذا؟ قالوا: محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال كعب للمحدث: يا عبد الله، عمن تحدث؟ قال: عن رؤيا رأيتها البارحة. فقال كعب: والله، لكأنك نشرت التوراة وقرأت هذا فيها.

حدث به أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي الكاتب [في كتابه] "المغازي" عن الوليد، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان –فذكره.

وحدث به أبو القاسم الطبراني، عن محمد بن صالح النرسي، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن محبب أبو همام الدلال، حدثنا سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب الأحبار: أنه سمع رجلا يحدث عن رؤيا رآها في منامه، قال الرجل: رأيت الناس أجمعوا للحساب، ثم دعيت الأنبياء، مع كل


#148#

نبي من آمن من أمته، ولكل نبي منهم نوران يمشي بهما، ولمن اتبعه من أمته نور واحد يمشي به، حتى دعي محمد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لكل شعرة من رأسه ووجهه نور على خده يتبينه من نظر إليه، ولكل من اتبعه من أمته من مؤمن نوران كنور الأنبياء. فناشده كعب بالله الذي لا إله هو لرأيتها في منامك؟ فقال الرجل: نعم، والله، لقد رأيتها. فقال كعب: والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، إن هذا لصفة الأنبياء والأمم، لكأنما قرأها من التوراة.

وخرجه أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج"، فقال: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو عبد الرحمن العيشى [حدثنا حماد بن سلمة] حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا حدث قوما فيهم كعب، فقال: رأيت فيما يرى النائم كأن الأمم جمعت، فميز أهل الجنة وأهل النار، فكان لكل نبي نوران ولمن تبعه نور، وإذا محمد صلى الله عليه وسلم لكل شعرة من رأسه وجسده نور يتبعه من نظر إليه، ولمن تبعه من أمته نوران نوران مثل الأنبياء. قال: [فقال] له كعب: من حدثك بهذا؟ فقيل لكعب: إنما هي رؤيا رآها. فقال له كعب: آلله رأيتها فيما يرى النائم؟ قال: نعم. قال: فقال كعب: والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، إني أجد في التوراة نعت الأنبياء وأممهم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم وأمته كما رأيت.


#149#

-تابعهما ابن جريج عن موسى بن عقبة بنحوه.

وأخبرناه أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله الذهبي بقراءتي عليه، أخبرنا يحيى بن محمد المقدسي في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، أنبأنا الحسن بن يحيى المخزومي، أخبرنا عبد الله بن رفاعة سماعا، أخبرنا علي بن الحسن القاضي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن رزيق المخزومي المعروف بـ (الكوفي) قراءة عليه وأنا أسمع، حدثنا إسماعيل ابن يعقوب البغدادي المعروف بـ (ابن الجراب) إملاء سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سالم بن عبد الله يقول: قص رجل رؤيا رآها وكعب يسمع، قال: فقال: رأيت الأنبياء بعثوا وأتباعهم، ورأيت لكل نبي منهم نورين ولأتباعهم نورا نورا، ورأيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نورا عدد شعره، ولأمته لكل رجل منهم نورين [نورين قال]: قال كعب: أنت رأيت هذه الرؤيا؟ قال: نعم. قال: والذي نفس كعب بيده، إنه لفي كتاب الله عز وجل لكما رأيت.

وعلقه أبو الحسن علي بن أبي طالب القيرواني العابر في كتابه "رسالة البرهان في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام" فقال: وقال عبد الملك بن حبيب: حدثني عبد العزيز الأويسي، عن القاسم العمري، عن سالم بن عبد الله بن


#150#

عمر، عن أبيه: أنه وكعب الأحبار سمعا رجلا يحدث أنه رأى في المنام أن الناس جمعوا للحساب، ثم دعا الأنبياء مع كل نبي [أمته وأنه رأى لكل نبي] نورين يمشي بهما، ومن اتبعه من أمته مؤمنا فله نور واحد يمشي به حتى دعي محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا لكل شعرة في رأسه وجسده نور، وإذا لمن اتبعه نوران كنور الأنبياء. فقال كعب ولا يشعر أنها رؤيا: بالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت ما تقول؟ فقال الرجل: نعم، والله لقد رأيت ذلك. فقال كعب: والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق إن هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وصفة الأنبياء والأمم في كتاب الله، كأنك قرأتها من التوراة.

ويذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن موسى عليه السلام تمنى أن يكون في أيامه، فلم تسلم على يديه، ثم أدركت أبا بكر –رضي الله عنه وهو خير مني- فلم تسلم على يديه، ثم أسلمت في أيامي؟! قال: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فإني كنت أتثبت حتى أنظر كيف الأمر، فوجدته كيف هو في التوراة. فقال عمر: كيف هو في التوراة؟ [قال: رأيت في التوراة] أن سيد الخلق والصفوة من ولد آدم وخاتم النبيين يظهر من جبال فاران من منابت القرظ من الوادي المقدس، فيظهر التوحيد والحق، ثم ينتقل إلى الطيبة، فتكون حروبه بها وأيامه، ثم يقبض فيها ويدفن بها. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلي من بعده [الشيخ الصالح. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يموت متبعا. قال عمر: ثم ماذا؟ قال


#151#

كعب: ثم يلي] القرن الحديد قال عمر: واذفراه. وذكر الحديث.

وجاء تسمية "عمر" بذلك في التوراة من رواية الطبراني حدثنا علي بن المبارك، حدثنا زيد بن المبارك، حثنا محمد بن ثور، عن المنذر بن النعمان الصنعاني، عن وهب بن منبه قال: صفة عمر بن الخطاب في التوراة: "قرن من حديد" أو "أمين شديد".

وجاء عن يزيد بن هارون، أخبرنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن الأقرع مؤذن عمر: أن عمر رضي الله عنه مر على الأسقف، فقال: هل تجدونا في شيء من كتبكم؟ قال: نجد صفتكم وأعمالكم ولا نجد أسماءكم. قال: كيف تجدوني؟ قال: قرن من حديد قال عمر: قرن من حديد ماذا؟ قال: أمير المؤمنين أمير شديد. قال عمر. الله أكبر والحمد لله.

وخرجه أبو داود في "سننه" من حديث حماد بن سلمة، عن


#152#

الجريري بنحوه.

وفي الأثر الذي قدمناه: أن كعبا أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه.

قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا يزيد بن هارون وعفان بن مسلم قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قال العباس رضي الله عنه لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟ فقال كعب: إن أبي كتب لي كتابا من التوراة ودفعه إلي وقال: أعمل بهذا. وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على ولده أن لا أفض الخاتم، فلما كان الآن رأيت الإسلام يظهر ولم أر بأسا، فقالت لي نفسي: لعل أباك غيب عنك علما كتمك، فلو قرأته. ففضضت الخاتم، فقرأته فوجدت فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فجئت الآن مسلما.

وجاء أن كعبا أسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه محمد بن شجاع الثلجي في "السير" عن الواقدي قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن


#153#

نسطاس، عن عمر بن عبد الله العبسي قال: قال كعب: لما قدم علي رضي الله عنه اليمن لقيته، فقلت: أخبرني عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم، فقال: مم تتبسم؟ فقال: مما يوافق ما عندنا من صفته. فقلت: ما يجب وهي عندنا كما وصفت وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به، ودعوت من قبلنا من أحبارنا، وأخرجت إليهم سفرا، فقلت: هذا كان أبي يختمه علي ويقول: لا تفتحه حتى تسمع بنبي يخرج بيثرب. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه فقدمت في خلافة عمر رضي الله عنه ويا ليت أني تقدمت في الهجرة.

وحدث ابن سعد في "الطبقات": حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لأخطب يوما على الناس وحبر من أحبار يهود واقف في يده سفر ينظر فيه، فناداني، فقال: صف لنا أبا القاسم. فقال علي رضي الله عنه: رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالقصير ولا بالطويل البائن، وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط، هو رجل الشعر أسوده، ضخم الرأس، مشرب لونه بحمرة، عظيم الكراديس، شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة –وهو: الشعر الذي يكون في النحر إلى


#154#

السرة- أهدب الأشفار، مقرون الحاجبين، صلت الجبين، بعيد ما بين المنكبين، إذا مشى يتكفأ كأنما ينزل من صبب، لم أر قبله ولم أر بعده مثله.

قال علي: ثم سكت.

فقال لي الحبر: وماذا؟ قال علي: هذا ما يحضرني.

قال الحبر: في عينيه حمرة، حسن اللحية، حسن الفم، تام الأذنين، يقبل جميعا ويدبر جميعا.

قال علي: هذه والله صفته.

قال الحبر: وشيء آخر.

قال علي: وما هو؟

قال الحبر: فيه جنأ.

قال علي: هو الذي قلت لك، كأنما ينزل من صبب.

قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر آبائي، ونجده يبعث من حرم الله وأمنه وموضع بيته، ثم يهاجر إلى حرم يحرمه هو فيكون له حرمة كحرمة الحريم الذي حرم الله، ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوما من ولد عمرو بن عامر أهل نخل وأهل الأرض قبلهم يهود.

قال علي: هو هو، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#155#

فقال الحبر: فإني أشهد أنه نبي وأنه رسول [الله] إلى الناس كافة، فعلى ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله.

قال: فكان يأتي عليا فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام، ثم خرج علي والحبر هنالك حتى مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وهو مؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدق به.

وروى محمد بن إسحاق من حديث عدي بن عميرة أبي زرارة الكندي رضي الله عنه قال: كان بأرضنا حبر من اليهود يقال له: ابن شهلاء، فالتقيت أنا وهو، فقال: إني أجد في كتاب الله: أن أصحاب الفردوس قوم يعبدون الله ربهم، على وجوههم، لا والله، ما أعلم هذه الصفة إلا فينا معشر اليهود، وأجد نبيها يخرج من اليمن، لا نراه يخرج إلا منا.

قال عدي رضي الله عنه: فوالله ما لبثت حتى بلغنا: أن رجلا من بني هاشم قد تنبأ .. .. فذكرت حديث ابن شهلاء، فخرجت إليه، فإذا هو ومن تبعه يسجدون على وجوههم، ويزعمون أن إلههم في السماء.

حديث غريب، قاله الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما وجدته بخطه في كتابه "العلو للعلي الأعلى" عز وجل.


#156#

$*[من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم بالحلم في التوراة]:$

وقال محمد بن سعد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا جرير بن حازم، [حدثني] من سمع الزهري يحدث: أن يهوديا قال: ما كان بقي شيء من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة إلا رأيته، إلا الحلم، وإني أسلفته ثلاثين دينارا إلى أجل معلوم، فتركته حتى إذا بقي من الأجل يوم أتيته، فقلت: يا محمد، اقض حقي، فإنكم معاشر بني عبد المطلب مطل. فقال عمر: يا يهودي الخبيث، أما والله لولا مكانه لضربت الذي فيه عيناك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لك يا أبا حفص، نحن كنا إلى غير هذا منك أحوج: إلى أن تكون أمرتني بقضاء ما علي، وهو إلى أن تكون أعنته في قضاء حقه: أحوج».

قال: فلم يزده جهلي عليه إلا حلما.

قال: «يا يهودي، إنما يحل حقك غدا» ثم قال: «يا أبا حفص، اذهب به إلى الحائط الذي كان يسأل أول يوم، فإن رضيه فأعطه كذا وكذا صاعا، (وزده لما قلت له كذا وكذا [صاعا])، وإن لم يرضه فأعطه ذلك من حائط كذا وكذا».


#157#

فأتى به الحائط فرضي، فأعطاه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أمره من الزيادة، فلما قبض اليهودي تمره قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وأنه والله ما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر [إلا] أني قد كنت رأيت في رسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته كلها في التوراة إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم فوجدته على ما وصف في التوراة، وإني أشهد أن هذا التمر وشطر مالي في فقراء المسلمين.

فقال: فقلت: أو بعضهم. فقال: أو بعضهم. فأسلم أهل بيت اليهودي كلهم إلا شيخا كان ابن مائة سنة، فعسا على الكفر.

وقال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس –يعني: ابن بكير- الشيباني، عن عبد الرحمن بن الحسين الكناني،


#158#

قال: حدثني محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وحدثني الزهري، قالا: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن قومي أسلموا فزادهم الإسلام فقرا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل قد كان دفع إليه نفقته، فقال: قد أنفقت ما كان معي. قال يهودي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا رجل يعطيك ورقا يسلفك في تمر حائط كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نسمي لك حائطا، ولكن تسلفنا في تمر مسمى في كيل معلوم إلى أجل معلوم» فبايعه اليهودي، ثم حل ورقا معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادفعها إلى الأعرابي» قال: «الحق فأغث بها أهلك». أو قال: «قومك».

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضع الميت في قبره وحثوا عليه قام اليهودي، فقال: يا محمد، ألا تقضيني تمري، فوالله ما أعلمكم يا بني عبد المطلب إلا تمطلون الناس بحقوقهم.

فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله، لولا مجلسه لوجأت أنفك، وقال الزهري: "لوجأت خطمك".

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه يا عمر، أنت إلى غير هذا أحوج، إلى أن تأمره فيحسن طلبي وتأمرني فأحسن قضاءه، انطلق معه إلى حائط كذا وكذا» وهو الذي كان أراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يسميه له «فأدخله، فقل لفلان يكشف [له] عن الطعام فيريه إياه، فإن رضيه فمره فليوفه ماله، وكل له كذا وكذا صاعا بشتمك إياه».


#159#

فانطلق به عمر فأراه فرضي، فكان له ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال اليهودي لعمر: إنه لم يكن بقي شيء مما وجدنا في كتابنا مما وصف لنا موسى عليه السلام إلا وقد رأيناه من محمد صلى الله عليه وسلم إلا الحلم، فقد رأيته الآن منه، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأشهدك أن نصف مالي صدقة على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.

فقال له عمر: إنك قد حققت علي نصيحتك، إنه لا يسعهم كلهم، ولكن اجعله لمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعل.

ثم إن هذا اليهودي مات فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل سريره على عاتقه الأيمن، وحمل علي رضي الله عنه أيضا سريره على عاتقه الأيسر.

وخرج أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: وحدثنا الحسن [بن] محمد، حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن المتوكل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، حدثني أبي، عن جدي قال: قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: إن الله عز وجل لما أراد هدى زيد


#160#

ابن سعنة قال زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتان لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. فكنت أنطلق إليه لأخالطه فأعرف حلمه من جهله، فخرج يوما من الحجرات – يريد النبي صلى الله عليه وسلم- ومعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجاء رجل يسير على راحلته كالبدوي فقال: يا رسول الله ، إن قرية بني فلان أسلموا ودخلوا في الإسلام وحدثتهم : إن هم أسلموا أتتهم أرزاقهم رغدا، وقد أصابتهم سنة وشدة وقحوط من العيش، وإني مشفق أن يخرجوا من الإسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغنيهم به فعلت. فقال زيد بن سعنة: فقلت: أنا أبتاع منك بكذا وكذا وسقا، فبايعني وأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين دينارا فدفعها إلى الرجل وقال: «اعجل عليهم بها فأغثهم».


#161#

فلما كان قبل المحل بيوم أو يومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة بالبقيع ومعه أبو بكر وعمر في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا من الجدار جذبت بردائه جذبة شديدة، حتى سقط عن [عاتقه ثم أقبلت بوجه جهم غليظ، فقلت: ألا تقضيني يا محمد، فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل، ولقد كان لي بمخالفتكم علم.

قال زيد: فارتعدت فرائص عمر بن الخطاب رضي الله عنه كالفلك المستدير، ثم رمى ببصره، ثم قال: أي عدو الله أتقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصنع به ما أرى وتقول ما أسمع؟! فوالذي بعثه بالحق لولا ما أخاف فوته لسبقني رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في تؤدة وسكون، ثم تبسم وقال: «لأنا [وهو] أحوج إلى [غير] هذا أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقض حقه، وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما روعته».


#162#

قال زيد بن سعنة: فذهب بي عمر فقضى لي حقي وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت: ما هذا؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما روعتك.

فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟

فقلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟

قلت: الحبر. قال: فما دعاك أن تفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وتقول له ما قلت؟

قلت: يا عمر، إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتان لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرته عليه، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وأشهدكم أن شطر مالي -فإني أكثرها مالا- صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر: أو على بعضهم، فإنك لا تسعهم كلهم.

قلت: أو على بعضهم.

قال: فرجع عمر وزيد بن سعنة رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

فآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة.

ورواه متابعة لأبي زرعة: أبو الأحوص محمد بن الهيثم، قال:


#163#

حدثنا محمد بن [أبي] السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم فذكره بنحوه، وفي آخره بعد قوله: وشهد معه مشاهد كثيرة: (ثم توفي زيد في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر، يرحم الله زيدا).

تابعهما الحسن بن سفيان النسوي وأبو محمد خشنام بن بشر بن العنبر، عن ابن أبي السري.

وهو [في] "صحيح ابن حبان".

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" من طريق ابن أبي السري هذا وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهو من غرر الحديث، ومحمد بن أبي السري العسقلاني ثقة".


#164#

قلت: هو حافظ رحال، وقد جاء توثيقه عن يحيى بن معين أيضا، لكن قال أبو حاتم: لين الحديث، وقال ابن عدي: كثير الغلط.

مات ابن أبي السري هذا سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأبو السري اسمه المتوكل كما صرح به في رواية أبي الشيخ.

$*[إسلام عبد الله بن سلام اليهودي تصديقا لما في التوراة]$

وحدث ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن يحيى بن عبد الله، عن رجل من آل عبد الله بن سلام قال: كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم، وكان حبرا عالما قال: سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم [عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم] المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه صلى الله عليه وسلم وأنا في رأس نخل لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت.


#165#

قال: قلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به.

فقالت: يا ابن أخي، أهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟

قال: قلت لها: نعم.

قالت: فذاك إذن.

ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن اليهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم، ثم تسألهم عني كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني.

قال: فأدخلني بعض بيوته، فدخلوا عليه فكلموه وسألوه، فقال لهم: «أي رجل عبد الله بن سلام؟»

قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا.

قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر اليهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه. قالوا: كذبت، ثم وقعوا في.

فقلت: يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور.

قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي ابنة الحارث فحسن إسلامها.


#166#

والقصة مخرجة في الصحيحين بمعناها.

ولم أر لخالدة عمة ابن سلام ذكرا إلا في هذا الحديث، والله أعلم.

$*[إسلام النعمان السبائي تصديقا لما في التوراة]$

وذكر الواقدي أن النعمان السبائي رضي الله عنه وكان من أحبار يهود باليمن لما سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم إليه، فسأله عن أشياء، ثم قال: إني أبي كان يختم على سفر يقول: لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب، فإذا سمعت به فافتحه.

قال نعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنك خير الأنبياء، وأمتك خير الأمم، واسمك أحمد صلى الله عليه وسلم، وأمتك الحمادون، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم يتحنن الله عليهم كتحنن النسر على فراخه.

ثم قال لي: إذا سمعت به، فاخرج إليه، وآمن به وصدق به.


#167#

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا نعمان، حدثنا».

فابتدأ النعمان الحديث من أوله، ورؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يتبسم، ثم قال: «أشهد أني رسول الله».

قال: وهو الذي قتله الأسود العنسي، وقطعه عضوا عضوا، وهو رضي الله عنه يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، وأنك كذاب مفتر على الله. ثم حرقه بالنار.

$*[إقرار جماعة من اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم]$

وقال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": حدثنا علي بن محمد، عن أبي علي العبدي، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثت قريش النضر بن الحارث بن علقمة وعقبة بن أبي معيط وغيرهما إلى يهود يثرب وقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم،


#168#

فقدموا المدينة، فقالوا: أتيناكم لأمر حدث فينا، منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما، يزعم أنه رسول [الله] الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. قالوا: صفوا لنا صفته، فوصفوا لهم، فقالوا: فمن تبعه منكم؟ قالوا: سفلتنا. فضحك حبر منهم وقال: هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد، عن أبي معشر، عن يزيد بن رومان وعاصم بن عمر وغيرهما: أن كعب بن أسد قال لبني قريظة حين نزل بهم النبي صلى الله عليه وسلم في حصنهم: يا معشر يهود تابعوا [هذا] الرجل، فوالله إنه للنبي، وقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي كنتم تجدونه في الكتب، وإنه الذي بشر به عيسى، وإنكم لتعرفون صفته. فقالوا: هو به، ولكن لا نفارق حكم التوراة.

وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": وحدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا بكير بن معروف أنه سمع محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عم كان


#169#

إسلام ثعلبة وأسد القرظيين؟ قال: لا أدري. قال: فإنه قدم علينا رجل من يهود الشام يقال له: ابن الهيبان، وكنا إذا احتبس عنا المطر قلنا له: استسق لنا. فيقول: حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة صاعا من تمر أو مدين من شعير، ثم نخرج إلى حرتنا نريم حتى تمر الشراج وهو السيل، ففعل ذلك مرارا، ثم حضره الموت فقال: أتدرون ما الذي أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: ما ندري. قال: أطلب زمان نبي قد أظل هذه


#170#

البلدة مهاجره، وأنه يبعث بسفك الدماء، فلا يمنعنكم ذلك، فلما كان الليلة التي أنزل فيها بنو قريظة، فقال لهم بنو سعية: والله، إنه للرجل الذي تقدم إليه فيه ابن الهيبان، فنزلوا فأسلموا، فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأبناءهم ونساءهم.

وحدث به زياد بن عبد الله البكائي، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن حازم، عن ابن إسحاق.

وحدث به محمد بن سعد فقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد: أن إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ابن عمهم إنما كان عن حديث ابن الهيبان أبي عمير، قدم ابن الهيبان –يهودي من يهود الشام- قبيل الإسلام بسنوات، قالوا: وما رأينا رجلا لا يصلي الصلوات الخمس خيرا منه، وكان إذا حبس عنا المطر واحتجنا إليه نقول له: يا ابن الهيبان، اخرج فاستسق لنا.


#171#

فيقول: لا، حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة.

فنقول: وما نقدم؟

فيقول: صاعا من تمر أو مدين من شعير عن كل نفس.

فنفعل ذلك، فيخرج بنا إلى ظهر وادينا، فوالله إن نبرح حتى تمر السحاب فتمطر علينا، فيفعل ذلك بنا مرارا، كل ذلك نسقى، فبينا هو بين أظهرنا حضرته الوفاة.

فقال: يا معشر اليهود، ما الذي ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟

قالوا: أنت أعلم يا أبا عمير.

قال: إنما قدمتها أتوكف خروج نبي قد أظلكم زمانه وهذا البلد مهاجره، وكنت أرجو أن أدركه فأتبعه، فإن سمعتم به فلا تسبقن إليه، وذكر الحديث بنحو ما تقدم.

ويذكر أن كعب بن أسد اليهودي قال في كلام طويل: وقد دعوت قومي إلى الدخول مع محمد صلى الله عليه وسلم حين أوقع بني النضير فأبوا، والتوراة إني لأعلم أن محمدا نبي مرسل إلينا وإلى الناس كلهم، ولقد خبرنا بهذا ابن جواس وابن الهيبان وكل حبر عظيم من يهود بوادي القرى وتيماء وفدك وخيبر، ولكنا حسدنا العرب وقلنا: لا نكون أذنابا أبدا، ولقد قرأت في سفر من التوراة لم يبدل ولم يغير صفة محمد صلى الله عليه وسلم كما رأيت وجهه، ولكني لا أتبعه أبدا مخافة أن تعيرني يهود.


#172#

وقال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش –وكان من أصحاب بدر- رضي الله عنهم قال: كان لنا جار من يهود من بني عبد الأشهل، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت.

فقالوا: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون عند موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟

قال: نعم والذي يحلف به ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في داره يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا.

فقالوا له: ويحك يا فلان، ما آية ذلك؟

قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد. وأشار بيده إلى (مكة) و (اليمن).

قالوا: ومتى تراه؟ فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا. فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.

قال سلمة: فوالله، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله عز وجل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا فآمنا به وكفر بغيا وحسدا.

فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟


#173#

قال: بلى، ولكن ليس به.

وفي بعض طرقه عن سلمة قال: كان لنا جار من اليهود فخرج علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى غلسا لنا وأنا يومئذ أحدث القوم، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقالوا له: ما ترى أن ذلك كائن بعد الموت، وإن الناس يجمعون إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون بأعمالهم؟ قال: نعم.

قالوا: وما آية ذلك؟ فقال: نبي يبعث في ناحية من هذه الأرض. وأشار بيده إلى جهة مكة.

قالوا له: ومتى ترى ذلك كائنا؟ قال: عما قريب.

قال سلمة: فقل ما لبث حتى بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، واليهودي الذي أخبرنا به بين أظهرنا، فكذب به وآمنا.

فقلنا له: ويلك أتكفر بغيا وحسدا، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟

قال: بلى، ولكن لا أؤمن به.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: كان الزبير بن باطا وكان


#174#

من أعلم اليهود يقول: إني وجدت سفرا كان أبي يختمه علي، فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض القرظ، صفته كذا وكذا، فتحدث به الزبير بعد أبيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج عمد إلى ذلك السفر، فمحاه، وكتم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس به.

وروينا من طريق ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء [في] بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي –حيي بن أخطب- وعمي –أبو ياسر بن أخطب- مغلسين.

قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس.

قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم.


#175#

قالت: وسمعت عمي –أبا ياسر- وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله.

قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.

قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.

وروينا في "مغازي موسى بن عقبة" عن الزهري قال: كان بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثان يعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها، فأقبل عليهم قومهم وعلى تلك الأوثان فهدموها، وعمد أبو ياسر بن أخطب –أخو حيي بن أخطب وهو أبو صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم- فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه، وذلك قبل أن تصرف القبلة نحو المسجد الحرام، فقال أبو ياسر: يا قوم، أطيعوني، فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه.

فانطلق أخوه حيي حين سمع ذلك وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النضير، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه وسمع منه، فرجع إلى قومه، وكان فيهم مطاعا، فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا.

فقال له أخوه –أبو ياسر- يا ابن أم، أطعني في هذا الأمر ثم اعصني فيما شئت بعده، لا تهلك.

قال: لا والله، لا أطيعك، واستحوذ عليه الشيطان، فاتبعه قومه على رأيه.

وحدث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان ابن عسال رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: أذهب بنا إلى هذا النبي.

فقال له صاحبه: لا تقل: نبي؛ إنه لو سمعك كان له أربعة أعين.


#176#

فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود [أن] لا تعتدوا في السبت».

قال: فقبلوا يده ورجله، فقالا: نشهد أنك نبي.

قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني؟»

قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود.

خرجه الترمذي لشعبة وقال: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.

وعبد الله هو: ابن سلمة –بكسر اللام، صاحب علي رضي الله عنه، وروى أيضا عن: عمار وعمر.

قال العجلي ويعقوب بن شيبة: ثقة.

وقال أبو حاتم والنسائي: تعرف وتنكر.

وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.


#177#

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد –هو ابن أبي عبد الله بن أبي سيف القرشي- عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس فقال: «أخرجوا إلي أعلمكم»، فقالوا: عبد الله بن صوريا، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فناشده بدينه، وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المن والسلوى، وظللهم به من الغمام: "أتعلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟".

قال: اللهم، نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك ونعتك لبين عندهم في التوراة، ولكنهم حسدوك.

قال: «فما يمنعك أنت؟»

قال: أكره خلاف قومي، وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا روح وعفان المعنى، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال عفان: عن أبيه ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم لإدخال رجل [إلى] الجنة، فدخل الكنيسة فإذا هو بيهود، وإذا هو بيهودي يقرأ عليهم التوراة، فلما أتوا على صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض.


#178#

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لكم أمسكتم؟»

فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة، فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لوا أخاكم».

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" عن علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة. فذكره.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد، عن الصلت بن دينار، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي صخر العقيلي رضي الله عنه قال: خرجت إلى المدينة فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يمشي، فمر بيهودي معه سفر فيه التوراة يقرؤها على ابن أخ له مريض بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا يهودي، نشدتك، بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام وفلق البحر لبني إسرائيل أتجد في توراتك نعتي وصفتي ومخرجي؟» فأومأ برأسه: أن لا.

فقال ابن أخيه: لكني أشهد بالذي أنزل التوراة على موسى، وفلق البحر لبني إسرائيل، إنه ليجد نعتك وصفتك ومخرجك في كتابه، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا اليهودي عن صاحبكم».


#179#

وقبض الفتى فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأجنه.

وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" ولفظه: عن أبي صخر العقيلي صلى الله عليه وسلم قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يفري بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟»

فقال برأسه هكذا، أي: لا، فقال ابنه –يعني: الذي في النزع-: إي والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في التوراة صفتك ومخرجك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال: «أقيموا اليهودي عن أخيكم» وولي كفنه والصلاة عليه.

وخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "المحتضرين" عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت مرة إلى المدينة [جلوبة] في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغت من ضيعتي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ما يقول، فتلقاني بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود، وقد نشر التوراة يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، وذكر الحديث.


#180#

أخبرنا به المسند الكبير أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي بقراءتي عليه، أخبرنا البهاء أبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي قراءة عليه وأنت تسمع فأقر به، أخبرنا أبو الوفاء محمود بن إبراهيم بن سفيان بن منده في كتابه، أخبرنا أبو الخير محمد بن أحمد بن محمد بن الباغبان قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب بن منده، أخبرنا أبي الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده العبدي، أخبرنا أبو عمرو مولى بني هاشم ومحمد بن يعقوب، قالا: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن قدامة، حدثني رجل أعرابي قال: جلبت جلوبة إلى المدينة، فلما فرغت قلت: والله لآتين هذا الرجل –يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم فأسمع منه، فلقيني بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فجعلت أقفوهم، فبينما هو يمشي إذ مر على يهودي وبين يديه ابن له في الموت كأحسن الرجال، وهو ناشر التوراة يعزي بها نفسه، فقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا يهودي، أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجدون في التوراة صفتي ومخرجي؟»

فقال برأسه: لا.

فقال ابنه: بلى والذي بعثك بالحق إنا لنجد صفتك ومخرجك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيموا اليهودي عن أخيكم» وولي رسول الله صلى الله عليه وسلم كفنه وأجنه، وصلى عليه.


#181#

عبد الله بن قدامة هو أبو صخر العقيلي، فيما قيل.

ويرده ما رواه سالم بن نوح أبو سعيد البصري العطار عن الجريري، عن عبد الله بن قدامة، عن أبي صخر العقيلي، وذكر الحديث.

وحدث أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن أبيه وعمه أبي بكر، قالا: حدثنا أبو أسامة، حدثنا مجالد، أخبرنا عامر، قال: انطلق عمر رضي الله عنه إلى اليهود فقال: أنشدكم بالله عز وجل الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في كتبكم؟ قالوا: نعم.


#182#

وقال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي: قال ابن وهب: قال مالك: بلغني أن طائفة من اليهود نزلوا المدينة، وطائفة خيبر، وطائفة فدك، لما كانوا يسمعون من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه في أرض بين حرتين، ورجوا أن يكون منهم، فأخلفهم الله ذلك، وقد كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بأسمائه وصفاته.

وبلاغ مالك هذا حدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "التاريخ" عن المنجاب بن الحارث قال: أخبرنا محمد بن سليمان الأصفهاني عن عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بخت نصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل، فلما خرجوا من أرض الشام جعلوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن، يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم، ويرجون أن يلقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيتبعونه، حتى نزل من بني هارون ممن حمل التوراة يثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه جاء، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدرك من أدرك من أبنائهم فكفروا به وهم يعرفونه.


#183#

وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن نملة بن أبي نملة، عن أبيه قال: كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويعلمون الولدان بصفته واسمه ومهاجره إلينا، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسدوا وبغوا، وقالوا: ليس به.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا ابن أبي سبرة، عن مسلم بن يسار، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه قال: ما كان في الأوس والخزرج رجل أومن لمحمد صلى الله عليه وسلم من بني عامر كان بألف يهودي، ويسألهم عن الدين، فيخبرونه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبروه مثل ذلك، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى فأخبروه بصفته، فرجع وهو يقول: أنا على الحنيفية.

وأقام مترهبا ولبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم، يتوكف خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حسد وبغى ونافق وقال: يا محمد، أنت تخلط الحنيفية بغيرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بها بيضاء نقية، أين ما كان يخبرك به الأحبار من صفتي؟»

قال: لست بالذي وصفوا لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت».

فقال: ما كذبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكاذب أماته الله طريدا وحيدا».


#184#

فقال: متى؟ ثم خرج إلى مكة، فكان مع قريش يتبع دينهم، وترك الترهب، ثم حضر أحدا معهم كافرا، ثم انصرف معهم إلى مكة، فلما كان الفتح ورأى الإسلام قد ضرب بجرانه، ونفى الله الكفر وأهله، وخرج هاربا إلى قيصر، فمات هناك طريدا، فقضى قيصر بميراثه لكنانة بن عبد ياليل وقال: أنت وهو من أهل المدر.

وقال الإمام أبو هاشم محمد بن أبي محمد بن ظفر، الأندلسي الأصل، المكي المولد والمنشأ، الحموي الدار: وفي ترجمة أخرى –يعني للتوراة- "وإسماعيل قد سمعت دعاءك فيه، وباركت عليه وعظمته جدا جدا، وسيلد اثني عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة".

قال ابن ظفر: فهل كانت لإسماعيل أمة عظيمة؟! لكن الأمة العظيمة لولده محمد صلى الله عليه وسلم.


#185#

وقال نحوه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" حين ذكر نص التوراة المذكور، وأنه في السفر الأول منها: قال: وليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد صلى الله عليه وسلم.

قال ابن ظفر: وعلى أن في قولهم في الترجمة: "جدا جدا" إنما هو تفسير لقوله في التوراة: باللسان العبراني "[مؤيد]".

وقد اختلف في معنى هاتين الكلمتين:

فقيل: معناهما: (جدا جدا) أي: حقا حقا، ومنه: في دعاء القنوت: "إن عذابك الجد" أي: الحق.

وقيل: "الجد" الكثير هنا.

وقيل: معناهما: طيب.

وقيل: حمد حمد. وقيل غير ذلك.


#186#

ووجدتها بخط بعض من آمن من علماء اليهود "بمأدها" بزيادة باء موحدة مكسورة في الأولى، تليها ميم ساكنة، بعدها همزة مضمومة، وآخرها دال مهملة ساكنة، والكلمة الثانية بضم الميم الأولى أو الهاء، والباقي سواء.

وذكرها بعض المتأخرين "مأذ" بفتح الهمزة –وزان عمر- والذال.

وذكر ابن قتيبة أنها بكسر الميم والهمزة، وأن بعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة، وأن معناهما "محمد".

وذكر غيره أن التوراة باللغة العبرانية وهي قريبة من اللغة العربية، وكثيرا ما يكون الاختلاف بينهما في كيفيات أداء الحروف والنطق بها من التفخيم والترقيق والضم والفتح وغير ذلك؛ لأن العرب تقول: "لا" والعبرانيون يقولون: "لو" وتقول العرب: "عالم" والعبرانيون: "عولام"، وتقول العرب: "إله" والعبرانيون "إولوه".

وعلى هذا إذا نظرت في حروف "محمد" وفي حروف "مأذ مأذ" وجدت الكلمتين كلمة واحدة، فإن الميمين في "محمد" وفي "مأذ مأذ" والهمزة التي في "مأذ"، والحاء التي في "محمد" من مخرج واحد، والدال كثيرا ما نجد موضعها في العبرانية ذالا، فالعبرانيون يقولون: "إيحاذ" للواحد، والذال والدال متقاربتان، فيمن تأمل اللغتين وهذين الاسمين لم يشك أنهما واحد، ولهذا نظائر في اللغتين، مثل "موسى" في اللغة العربية و"موشى" في العبرانية؛ لأن فيها "من" للماء و"شاء"


#187#

للشجر؛ لأن موسى التقط من المائين الشجر، فالتفاوت الذين بين "موسى" و "موشى" في اللغتين كالتفاوت بين "محمد" و "مأذ مأذ" فيهما.

وذكر بعض مفسري التوراة بالعربية أن هاتين الكلمتين يتضمنان اسم السيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا اعتبر حروف اسم "محمد" وجد في هاتين الكلمتين، لأن ميمي "محمد" وداله بإزاء الميمين من الكلمتين، وإحدى الدالين وبقية اسم محمد وهي الحاء بإزاء بقية الكلمتين وهي الباء والألفان والدال الثانية؛ لأن "الحاء" في الحساب بثمانية من العدد، والباء باثنين، وكل ألف بواحد، والدال بأربعة، فصار المجموع ثمانية، وهي قسط الحاء من العدد الجمل، فتكون "بمأد مأد" قد تضمنتا بالصريح ثلاثة أرباع اسم "محمد"، والربع الآخر دل عليه بقية الكلمتين بحساب العدد المذكور، والله أعلم.

وقال أبو نصر أشموايل بن الرآب يهوذا بن آبون الفاسي وهو


#188#

بذلك عالم رحمه الله، واسمه بالعربية: السمؤال بن أبي البقاء يحيى بن عباس، فقال في كتابه "إفحام اليهود" فيما وجدته بخطه: قال الله تعالى في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة مخاطبا إبراهيم الخليل عليه السلام:

"وأما في إسماعيل، فقد قبلت دعاءك، ها أنا قد باركت فيه وأثمره وأكثره جدا جدا". ذلك قوله: "وليشماعيل شمعيتخا هنى بيراخي أوثو وهفريثي أوثو بـ بمأد مأد" فهذه الكلمة أعني بـ "مأد مأد" إذا عددنا حساب حروفها بالجمل كان اثنين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أيضا اثنان وتسعون، وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزا؛ لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته من التوراة كما عملوا بغيره.

فإن قالوا إنه قد يوجد في التوراة عدة كلمات مما يكون عدد حساب حروفه مساويا لعدد حساب حروف اسم زيد وعمرو وخالد وبكر، فلا يلزم من ذلك أن يكون زيد وعمرو وخالد وبكر أنبياء.

فالجواب: أن الأمر كما يقولون لو كان لهذه الآية أسوة بغيرها من كلمات التوراة؛ لكنا نحن نقيم البراهين والأدلة على أنه لا أسوة لهذه الكلمة بغيرها من سائر كلمات التوراة.


#189#

وذلك أنه ليس في التوراة من الآيات ما حاز به إسماعيل الشرف كهذه الآية، لأنها وعد الله لإبراهيم بما يكون من شرف إسماعيل.

وليس في التوراة آية أخرى مشتملة على شرف لقبيلة زيد وعمرو وخالد وبكر.

ثم إنا نبين أنه ليس في هذه الآية كلمة تساوى بـ "مأد مأد" التي معناها "جدا"، وذلك أنها كلمة المبالغة من الله سبحانه فلا أسوة لها بشيء من كلمات الآية المذكورة.

وإذا كانت هذه الآية أعظم الآيات مبالغة في حق إسماعيل وأولاده، وكانت تلك الكلمة أعظم مبالغة من باقي كلمات تلك الآية فلا عجب أن تتضمن الإشارة إلى أجل أولاد إسماعيل شرفا، وأعظمهم قدرا صلى الله عليه وسلم.

وإذ قد بينا أنه ليس لهذه الكلمة أسوة بغيرها من كلمات هذه الآية، ولا لهذه الآية أسوة بغيرها من آيات التوراة، فقد بطل اعتراضهم.

انتهى قول أبي نصر.

ونظير هذا التفسير الملغز بحروف الجمل الموجز ما جاء في القرآن المجيد إشارة إلى كلمة التوحيد، وذلك فيما رويناه من طريق المنذر بن محمد بن المنذر، حدثني أبي: محمد بن المنذر، حدثني عمي الحسين بن سعيد بن أبي الجهم، حدثني أبي، عن أبان بن تغلب في قوله عز وجل: {كهيعص}، فقال في تفسيرها: "لا إله إلا الله" من حساب الجمل على الحروف؛ لأن الكاف عشرون، والهاء خمسة، والياء عشرة، والعين سبعون، والصاد تسعون، وكذلك عدد حروف "لا إله إلا الله".


#190#

وكما صرح بهذه الكلمة في القرآن وألغزت في هذا المكان كذلك أفصح باسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة وأبهم في "مأد مأد" لأمر شاءه الله وارتضاه.

ولم يذكر أبو نصر: "وسيلد اثني عشر عظيما"، والاثنا عشر من ولد إسماعيل عليهم السلام وأسماؤهم معروفة عند علماء أهل الكتاب رويناهم من طريق زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق قال:

ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثنا عشر رجلا وهم: "نابت" وكان أكبرهم، و "قيذار" و "أذبل" و "منشي" و "مسمع" و "ماشى" و "دما" و "أذر" و "طيما" و "يطور" و "نبش" و "قيذما".

وقد وجدتها بخط النسابة العز محمد بن أحمد بن محمد بن عساكر، وذكر أنه نقلها في سنة ثماني عشرة وستمائة –يعني من نسخة خلف بن عبد الله بن هبة الله بن حريز السعدي- وذكر أنه نقلها شكلا ومعنى في سنة من خط الوزير أبي القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي المعتزلي كتبها بخطه في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قال: أسماء الاثني عشر من ولد إسماعيل عليه السلام من لفظ التوراة: "بنايون" وهو نابت، "قيذار" بإمالة القاف إلى الكسر، "إذبال" بالإمالة إلى الكسر، "مبسام" والسين بين السين والصاد، "مشماع" "دوما" "مشا" ممال إلى الكسر، "جذاذ" "ثيما" الياء بين الياء والألف، "يسطورنا"، "فيس" "قاذما" بإمالة القاف وكسرها.


#191#

$ذكر أخبار أخرى من التوراة فيها الإشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم$

وقد وجد في التوراة الإشارة إلى ذكره صلى الله عليه وسلم غير ما تقدم، فمن ذلك: ما في السفر الأول منها –وهي خمسة أسفار- في الفصل التاسع فيما حكاه بعض المفسرين المتأخرين وغيره في قصة هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال: يا هاجر، من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا فسميه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك، وولدك يكون وحشي البأس، وتكون يده فوق الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته.

قال: قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق، بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا منها لما بعث موسى، وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض، لم يكن لأحد عليهم يد، وكذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود وملك سليمان الملك الذي لم يؤت أحدا مثله، فلم تكن يد بني إسماعيل عليهم، ثم سلط الله عليهم بخت نصر ففعل بهم الأفاعيل، ولم تكن يد بني إسماعيل عليهم، ثم بعث الله المسيح، وخرب بيت المقدس الخراب الثاني، حيث أفسدوا في الأرض مرتين، ومن حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض   أمما، وكانوا تحت حكم الروم والفرس والقبط،


#192#

ولم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم، ولم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا الأميين، فلم تكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع، حتى بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم، دعا به إبراهيم لولد إسماعيل حيث قال: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}، فلما بعث صارت يد ولد إسماعيل فوق الجميع، فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمشركين، فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة: "وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به"، وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر.

وقال أبو نصر السمؤال بن يحيى الفاسي في كتابه "إفحام اليهود" فيما وجدته بخطه عندهم في السورة الأخيرة من التوراة وهي التي باركهم بها موسى هذه الآية، وذكرها بالعبرانية، ثم ذكر تفسيرها بالعربية، قال: إن الله من "سيناء" تجلى، وأشرق [نوره] من سيعير لهم، واطلع من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين، وهم يعلمون أن جبل سيعير


#193#

هو جبل الشراة الذين فيهم بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى عليه السلام، بل في هذا الجبل كان مقام عيسى عليه السلام، ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور، لكنهم لا يعلمون أن الجبل فاران هو جبل مكة.

وفي الإشارة إلى هذه الأماكن الثلاثة التي كانت مقام نبوة هؤلاء الأنبياء ما يقتضي للعقلاء أن يبحثوا عن تأويله المؤدي إلى اتباع مقالتهم.

فأما الدليل الواضح من التوراة على أن جبل فاران هو جبل مكة فهو: أن إسماعيل لما فارق أباه الخليل عليه السلام، سكن إسماعيل في برية فاران، ونطقت التوراة بذلك.

ثم ذكره بالعبرانية ثم قال: تفسيره: وأقام في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر.

فقد ثبت من التوراة أن جبل فاران مسكن بني إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت في الآية [التي] تقدم ذكرها إلى نبوة تنزل على "جبل فاران" لزم أن تلك النبوة على آل إسماعيل لأنهم سكان "فاران".


#194#

وقد علم الناس قاطبة أن المشار إليه بالنبوة من ولد إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث من مكة التي كان فيها مقام إسماعيل، فدل ذلك على أن جبال فاران هي جبال مكة، وأن التوراة أشارت في هذا الموضع إلى نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبشرت به.

قلت: وقد ذكر الله عز وجل هذه الأماكن الشريفة نظير ما ذكرها في التوراة، فقال تعالى: {والتين والزيتون . وطور سينين . وهذا البلد الأمين} فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله:

فالمراد بـ {والتين والزيتون} عند جماعة كثيرة من المفسرين: نبتها وأرضها، وهي أرض ببيت المقدس، فإنها أكثر البقاع تينا وزيتونا، وهي مظهر عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى ابن مريم عليهما السلام.

{وطور سينين} بالجبل الذي كلم الله عليه عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه، فهو مظهر نبوته.

و {البلد الأمين}: حرم الله وأمنه ومظهر خاتم أنبيائه ورسله وخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم.

فكما ذكر الله عز وجل هذه الأماكن الثلاثة العظيمة في القرآن، كذلك ذكرها بعينها في التوراة في قوله: (إن الله في سيناء تجلى، وأشرق من


#195#

سيعير، واطلع من جبال فاران).

وقد جاء بلفظ آخر فيما ذكره أبو محمد عبد الله بن قتيبة وغيره: "تجلى الله من طور سيناء، وأشرف من سيعير، واستعلن من جبال فاران".

قال ابن قتيبة: ليس بهذا خفاء على من تدبره، ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء: إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء، كالذي هو عند [أهل] الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعه "نصارى".

وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجبال فاران هي جبال مكة.

قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف أن فاران هي مكة.

فإن ادعوا أنها غير مكة، وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم.

قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران.

وقلنا: دلنا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه: فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح، أوليس "استعلن" و "علا" بمعنى واحد وهما: ظهر وانكشف؟! فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها؛ فبينوه.


#196#

حكاه ابن القيم عنه، ثم حكى عن شيخه أنه ذكر أن جبل حراء –الذي ليس حول مكة أعلى منه- حوله جبال كثيرة، وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم، والبرية التي بين: مكة وطور سيناء تسمى برية فاران.

قال: ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض، ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن.

وقال ابن القيم حين ذكر قوله تعالى: {والتين والزيتون}، فإنه تعالى أقسم بها تعظيما لشأنها وإظهارا لقدرته وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج، فبدأ بالعالي ثم انتقل إلى أعلى منه، ثم إلى أعلى منهما، فإن أشرف الكتب: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل. وكذلك الأنبياء الثلاثة عليهم الصلاة والسلام.

قلت: قال أبو عبد الله محمد بن سعد في كتاب "الطبقات": حدثنا علي بن محمد –يعني: ابن عبد الله بن أبي سيف القرشي- عن سليمان القافلاني، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام


#197#

بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر بأرض عذبة سهلة إلا قال: "أنزل ههنا يا جبريل؟" فيقول: لا. حتى أتى مكة فقال جبريل عليه السلام: انزل يا إبراهيم. قال: حيث لا ضرع ولا زرع؟! قال: نعم، ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك الذي تتم به الكلمة العليا.

وقال السمؤال أيضا فيما وجدته بخطه في "إفحام اليهود": إنهم لا يقدرون على أن يجحدوا هذه الآية من الجزء الثاني من السفر الخامس من التوراة.

ثم ذكر الآية بالعبرانية وفسرها بالعربية، فقال: تفسيره : نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به فليؤمنوا. وإنما أشار بهذا إلى أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم.

فإن قالوا: إنه من وسط إخوتهم وليس في عادة كتابنا أن يعني بقوله: "إخوتكم" إلا بني إسرائيل؟

قلنا: بلى، قد جاء في التوراة: "إخوتكم بني العيص" وذلك في الجزء الأول من السفر الخامس قوله.

ثم ذكره بالعبرانية ثم قال: تفسيره: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص المقيمين في سيعير، إياكم أن تطمعوا في شيء من أرضهم.

فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا


#198#

إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم.

وإن قالوا: إن هذا القول إنما أشير به إلى شموائيل النبي عليه السلام، لأنه قال: "من وسط إخوتهم مثلك"، وشموائيل كان مثل موسى، لأنه من أولاد ليوى، يعنون: من السبط الذي كان منه موسى.

قلنا لهم: فإن كنتم صادقين فأي حاجة بكم إلى أن يوصيكم بالإيمان بشموائيل، وأنتم تقولون: إن شموائيل لم يأت بزيادة ولا بنسخ، أأشفق من أن لا تقبلوه، لأنه إنما أرسل ليقوي أيديكم على أهل فلسطين، وليردكم إلى شرع التوراة، ومن هذه صفته فإنه أسبق الناس إلى الإيمان [به]؛ لأنه إنما يخاف تكذيبكم لمن ينسخ مذهبكم ويغير أوضاع ديانتكم، فالوصية بالإيمان به لا يستغني مثلكم عنه، ولذلك لم يكن بموسى حاجة إلى [أن] يوصيكم بالإيمان بنبوة "يرميا" و "يسعيا" وغيرهما من الأنبياء، وهذا دليل على أن التوراة أمرتهم في هذا الفصل باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وذكر أبو عبد الله ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى" قال: في التوراة في السفر الخامس: قال موسى لبني إسرائيل: لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين، فسيقيم لكم الرب نبيا من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي.

قال: ولا يجوز أن يكون هذا النبي الموعود به من أنفس بني إسرائيل


#199#

لما تقدم أن إخوة القوم ليسوا أنفسهم كما تقول: بكر وتغلب ابنا وائل، ثم تقول: تغلب إخوة لك، وبنو تغلب إخوة بني بكر. انتهى.

وقال محمد بن عبيد الله بن أبي داود المنادي: حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا صالح بن عمر، حدثنا عاصم –يعني: ابن كليب- عن أبيه، عن الفلتان بن عاصم قال: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ شخص بصره إلى رجل، فدعانا فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان، فجعل يقول: يا رسول الله، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أتشهد أني رسول الله؟».

قال: فجعل لا يقول شيئا إلا قال: يا رسول الله، فيقول: «أتشهد أني رسول الله؟»، فيأبى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أتقرأ التوراة؟» قال: نعم، [قال]: «والإنجيل؟» قال: نعم، [قال]: «والفرقان؟»، [قال: لا. قال]: «ورب محمد لو شئت لقرأته».


#200#

قال: «فأنشدك بالذي أنزل التوراة والإنجيل» وأشياء حلفه بها، «تجدني فيهما؟» قال: نجد مثل نعتك تخرج من مخرجك، كنا نرجو أن تكون فينا، فلما خرجت ربنا أنك هو، نظرنا إذا أنت لست به. قال: «من أين؟» قال: نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، وإنما أنتم قليل. قال: فهلل وكبر ثم قال: «والذي نفس محمد بيده، إني لأنا هو، إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين» يعني: ألفا.

وقال أبو نعيم في "الدلائل": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا العباس بن بكار الضبي، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال العباس رضي الله عنه:

خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب، فيهم: أبو سفيان بن حرب، فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان وبالنفر، ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثل ذلك، فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غداءك؟ فقلت: نعم.


#201#

فانصرفت أنا والنفر إلى بيته، فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني، فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟

فقلت: أي بني أخي؟

فقال أبو سفيان: إياي تكتم؟ وأي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد.

قلت: وأيهم على ذلك؟

قال: هو محمد بن عبد الله.

فقلت: قد فعل وخرج؟

قال: بلى، قد فعل، وأخرج كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان أخبرك أن محمدا قام بالأبطح، فقال: أنا رسول الله، أدعوكم إلى الله عز وجل.

فقال العباس: قلت: لعله يا أبا حنظلة صادق.

فقال: مهلا يا أبا الفضل، فوالله ما أحب أن تقول مثل هذا، إني لأخشى أن يكون على خير من هذا الحديث، يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة كل واحد منهما عامة، نشدتك يا أبا الفضل، هل سمعت ذلك؟

قلت: نعم، قد سمعت.

قال: فهذه والله شومتكم.

قلت: فلعلها.

قال: فما كان بعد ذلك إلا ليالي حتى قدم علينا عبد الله بن حذافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا الخبر في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يحدث فيه حبرا من أحبار اليهود.

فقال اليهودي: ما هذا الخبر؟ بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال.


#202#

قال أبو سفيان: صدقوا، أنا عمه.

قال اليهودي: أخو أبيه؟

قال: نعم.

قال: فحدثني عنه. قال: لا تسألني، ما أحب أن يدع هذا الأمر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه يغمص عليه ولا يحب أن يعيبه.

فقال اليهودي: ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى.

قال العباس: فتأدى إلي الخبر فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس في الغد وفيه أبو سفيان بن حرب والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله، فأخبرك أنه عمه، وليس بعد، ولكنه ابن عمه وأنا عمه، وأخو أبيه.

قال: أخو أبيه؟

قلت: أخو أبيه.

فأقبل على أبي سفيان، فقال: صدق؟

فقال: نعم صدق.

فقلت: سلني فإن كذبت فليرده علي.

فقال: نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة؟

قال: لا، وإله عبد المطلب، ولا كذب ولا خان، وإن كان اسمه عند قريش "الأمين".

قال: فهل كتب بيده؟

قال العباس: فظننت أنه خير له أن يكتب بيده، فأردت أن أقولها ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه يكذبني وراد علي، فقلت: لا يكتب.

فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.


#203#

قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل، إن يهود تفر من ابن أخيك.

قلت: قد رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقت، وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك؟.

قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في "كداء".

قلت: ما تقول؟

قال: كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا ينزل خيلا تطلع من "كداء".

قال العباس رضي الله عنه: فلما استفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرنا إلى الخيل وقد طلعت من "كداء" قلت: يا أبا سفيان، تذكر الكلمة؟

قال: إي والله، إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.

وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا أبو بكر الدينوري المفسر، حدثنا محمد بن أيوب القطان، ثنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن جده وهب قال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله مائتي سنة ثم مات، فأخذوا أرجله فألقوه على مزبلة، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: أن اخرج فصل عليه، قال: يا رب، بنو إسرائيل شهدوا عليه أنه عصاك مائتي سنة، فأوحى الله إليه: هكذا كان، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم


#204#

محمد صلى الله عليه وسلم قبله ووضعه على عينيه وصلى عليه، فشكرت ذلك له وغفرت ذنوبه وزوجته ستين حوراء.


#205#

$فصل في ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل$

وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا الفضل بن دكين، حدثنا يونس بن [أبي] إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح.

تابعه يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، وهو: ابن أبي إسحاق.

وخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ورواه أبو عثمان سعيد بن محمد بن أحمد البحراوي في كتابه "الأحاديث الألف مما يستفاد ويعز وجودها"، فقال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الله بن حمشاذ، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن


#206#

عبد الرحمن العسكري ببغداد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحارثي، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثني العيزار بن حريث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن سهل مولى عثيمة: أنه كان نصرانيا من أهل "مريس"، وكان يقرأ الإنجيل، فذكر أن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل: وهو من ذرية إسماعيل، اسمه: أحمد صلى الله عليه وسلم.

ورواه مطولا بزيادة، فقال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن سهل مولى عثيمة: أنه كان نصرانيا من أهل "مريس"، وأنه كان يتيما في حجر أمه وعمه، وأنه كان يقرأ الإنجيل.

قال: فأخذت مصحفا لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة أنكرت كثافتها حين مرت بي ومسستها بيدي، فنظرت فإذا فصول الورقة ملصق بغراء،


#207#

قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم أنه: لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه: أحمد.

قال سهل: فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم جاء عمي، فلما رأى الورقة ضربني وقال: ما لك ولفتح هذه الورقة وقراءتها؟!

فقلت: فيها نعت النبي أحمد.

فقال: إنه لم يأت بعد.


#208#

$فصل في ذكر البشارات العيسوية بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم$

أخبرنا عبد القادر بن أبي إسحاق الصالحي بقراءتي عليه بها، أخبرتك فاطمة بنت الفراء القدسي، أخبرنا أحمد بن أبي محمد النابلسي، أخبرنا إسماعيل بن علي الشروطي، أخبرنا إسماعيل بن أحمد أبو القاسم، أخبرنا عبد الدائم الهلالي، أخبرنا عبد الوهاب بن الحسن الدمشقي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه:

أن عيسى ابن مريم –عليه الصلاة والسلام- قال: رب، أنبئني عن هذه الأمة المرحومة؟

فقال: أمة "أحمد"، هم علماء حلماء، كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بـ: "لا إله إلا الله"، يا عيسى، هم أكثر سكان الجنة؛ لأنها لم تذل


#209#

ألسن قوم قط بـ "لا إله إلا الله" كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت لي رقابهم.

وبالإسناد إلى هشام: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، حدثنا زيد بن أسلم قال: في مناجاة موسى عليه السلام قال: رب، هذه الأمة التي أجدها في كتابي مرحومة؟ قال: تلك أمة "أحمد"، قال تعالى: أعطيهم القليل فيرضون به، فأرضى منهم من العمل بالقليل، وأدخلهم الجنة بـ "لا إله إلا الله".

وروي عن ابن إسحاق أنه قال: حدثني أهل العلم: أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: إن أحب الأمم إلى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل له: وما فضلهم الذي تذكر؟ قال: [لم] تذلل "لا إله إلا الله" على ألسن أحد من الأمم تذليلها على ألسنتهم.

وقال عبد الله بن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: تأتي أمة محمد صلى الله عليه وسلم علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء.

قال مالك: لذا هم صدر هذه الأمة.

وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث عبد الله بن


#210#

صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي حلبس يزيد بن ميسرة: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم -ما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها- يقول: «إن الله تعالى قال: يا عيسى، إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال: يا رب، كيف يكون هذا ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي".

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أم الدرداء إلا يزيد بن ميسرة، تفرد به معاوية بن صالح.

وهكذا قال أبو نعيم في "الحلية" حين خرجه عن الطبراني.

وخرجه أحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر أحمد بن (عمر) بن عبد الخالق المصري البزار في مسنديهما بنحوه.

وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا فيض البجلي، حدثنا


#211#

سلام بن مسكين، عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا ابن الطاهر البكر البتول، إني خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فسر لأهل سوران –بالسيريانية- بلغ من بين يديك أني أنا الله الحي القيوم الذي لا أزول، صدقوا النبي العربي صاحب الجمل والمدرعة والعمامة –وهي التاج- والنعلين والهراوة –وهي القضيب- الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأنجل العينين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ وريح المسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته –أي: سرته- تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا على بطنه شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر في صبب ذو النسل القليل.

وروى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي شيذلة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق –وفي رواية: لقد جئت


#212#

بالحق ونطقت بالصدق –والذي بعثك بالحق نبيا واختارك للمؤمنين وليا، لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، الحديث بطوله وفيه خبر قس بن ساعدة.

ورواه بطوله أبو داود سليمان بن سيف الحراني الحافظ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ببعض طرقه.

ابن البتول: عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، والتبتل: ترك النكاح والزهد فيه، والبتول: المرأة المنقبضة عن الرجال.

وقد جاء من بشارات عيسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو هاشم بن ظفر: ورأيت في ترجمة أخرى –يعني: من الإنجيل- أنه قال: الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، لا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب.


#213#

قال: فمن هذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق وتحريف الكلم عن مواضعه وبيع الدين بالثمن البخس من عرض الدنيا، وصدود الجهال عن سبيل الله وانتصابهم أربابا من دون الله، ومن ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر عن الغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى.

وهذا في إنجيل يوحنا الذي كتبه بالرومية.

وفي مواضع أخرى من الإنجيل: ابن البشر ذاهب والبارقليط من بعده، يحيي لكم الأسرار ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل.

وفي موضع آخر: سوف أذهب أنا ويأتي الذي بعدي ويجهدكم بدعواه، ولكن يسل السيف فتدخلونه طوعا وكرها.

وقال الإمام أحمد في كتابه "الزهد": حدثنا داود بن عمرو، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة


#214#

قال: ركض عمر رضي الله عنه فرسا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فانكشفت فخذه من تحت القباء، فأبصر رجل من أهل "نجران" شامة في فخذه، فقال: هذا الذي نجده في كتابنا يخرجنا من ديارنا.

وقال ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان، عن ابن البيلماني، عن كوز بن علقمة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من


#215#

أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه: "عبد المسيح".

والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه: "الأيهم".

و "أبو حارثة بن علقمة" أحد بني بكر [بن] وائل، وأسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم، حتى حسن علمه في دينهم فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.


#216#

فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من "نجران" جلس "أبو حارثة" على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له: "كوز بن علقمة" يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال له كوز: تعس الأبعد –يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال له حارثة: بل أنت تعست، فقال له: ولم يا أخي؟ فقال: والله إنه للنبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا كل ما ترى، (فأضمر) عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.

وكوز بن علقمة هذا ذكره الخطيب بالواو، وعقده مع كوز بن علقمة، وكذا ابن نصر ابن ماكولا في كتابه، واستدركه أبو موسى المديني على ابن منده في كتابه "المستفاد".

وابن منده ذكر الحديث في كتابه في الصحابة في ترجمة كوز بن علقمة الخزاعي، وذكره بالراء مكان الواو.


#217#

وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرئاسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي، فعثر فقال له ابنه: تعس الأبعد يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوه: لا تفعل؛ فإنه نبي واسمه في الوضائع –يعني: الكتب-، فلما مات لم يكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد [فيها] ذكر النبي صلى الله عليه وسلم [فأسلم] وحسن إسلامه فحج، وهو الذي يقول:

إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها

مخالفا دين النصارى دينها ...

وقد رواها ابن سعد على غير هذا الوجه فقال: أخبرنا علي بن محمد –يعني: ابن عبد الله بن أبي سيف القرشي-، عن أبي معشر،


#218#

عن محمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن عمارة بن غزية وغيرهما قالوا: قدم وفد نجران وفيهم أبو الحارث بن علقمة بن ربيعة وله علم بدينهم وكان أسقفهم وإمامهم وصاحب مدراسهم وله فيهم قدر، فعثرت به بغلته، فقال أخوه: تعس الأبعد –يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال أبو الحارث: بل تعست أنت، أتشتم رجلا من المرسلين؟! إنه الذي بشر به عيسى، وإنه لفي التوراة. قال: فما يمنعك من دينه؟ قال: شرفنا هؤلاء القوم وأكرمونا ومولونا، وقد أبوا إلا خلافه، فحلف أخوه ألا يثني له صعرا حتى يقدم المدينة فيؤمن به. فقال: مهلا يا أخي، فإنما كنت مازحا. قال: وإن، فمضى يضرب راحلته. وأنشأ يقول:

إليك تعدو قلقا وضينها .. .. الخ

قال: فقدم فأسلم.

وفي هذا الخبر قصة طويلة فيها سبب نزول آية المباهلة، رواها يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه، عن جده –قال يونس: وكان نصرانيا فأسلم-: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران، وذكره بطوله.

وروي عن عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه أنه كان غائبا عن الطائف حين حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم عنها جاء عروة فلقي غيلان بن سلمة، فقال له عروة: ألا ترى علو أمر محمد صلى الله عليه وسلم واتباع الناس له؟


#219#

قال غيلان: بلى قد رأيت، فماذا عندك في أمره؟

قال عروة: إن العرب يرون أن لنا رأيا ونهى، ولسنا كذلك إن لم نتبعه ونؤمن به.

قال غيلان: ما أحب أن يسمع أحد من ثقيف هذا القول منك، وإني لأخافها عليك وإن كنت سيدها.

قال عروة: والله ما ينبغي أن تجهل صدق مقالتي، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، وإني لمعتمده فمتبعه وذاكر لك أمرا لم أذكره لأحد قط.

قال غيلان: ما هو؟

قال عروة: قصدت نجران لتجارة قبل أن يظهر أمر محمد صلى الله عليه وسلم وخلافه قومه، فغورت تحت سرحة منتبذا من أصحابي، فإذا جاريتان تسوقان بهما إلى السرحة فحجزتا البهم في ناحية من ظلها، وجلستا وأنا مضطجع، فتناومت.

فقالت إحداهما للأخرى: من هذا فيما تقولين يا بنت الأكرمين؟

قالت الأخرى: هذا عروة بن مسعود سيد غير مسود مفيض جود وغصن منجود.

قالت: صدقت يا ابنة الأكرمين، فما عاقبة أمره؟

قالت الأخرى: يعيش زعيما، ويتبع نبيا كريما، ويتعاطى أمرا جسيما فيرتد عنه كليما.

قالت: يا ابنة الأكرمين؟ وما النبي؟

قالت الأخرى: داع مجاب، لأمر عجاب، يلقيه من السماء كتاب، ويقهر الألباب.

قال عروة: ثم أمسكتا عن القول فغشيني النوم، فما أيقظني إلا رغاء الإبل وأصحابي يتحملون، فإذا الجاريتان قد ذهبتا، فلما بلغت نجران


#220#

نزلت على أسقفها وكان لي صديقا.

فقال: يا أبا يعفور، هذا حين خروج نبي من أهل حرمكم يهدي إلى الحق.

قلت: ما هذا الذي تقول؟

قال: إي والمسيح، إنه لخير الأنبياء وآخرهم، فإن ظهر فكن أول من يؤمن به، وقد كتمت هذا عن ثقيف لما رأيت من شدتهم عليه، وكنت أمرأً منهم، وأما الآن فإني معتمده فمتبعه ومستكثر، فاكتم علي تحرصي هذا.

قال غيلان: إني فاعل ذلك، فانصرف راشدا.

فأتى عروة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه.

وروى القاضي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي الأخباري أحد الأعلام فقال: حدثنا معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة قال: [وحدثنا عبد الحميد بن أبي جعفر عن أبيه قال]: وحدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة [عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة]، عن جدته الشفاء.

قال: وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي.


#221#

قال: وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن جعفر بن عمرو بن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أهله، عن عمرو بن أمية –دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب لهم كتبا..، وذكر بقيته.

وفيه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي –وهو أحد الستة- إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه للإسلام، وكتب معه كتابا، قال شجاع رضي الله عنه: فانتهيت إليه وهو بـ"غوطة دمشق"، وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.

فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه: "مري" يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أحدثه عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه فيرق حتى يغلبه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، وأنا أومن به وأصدقه وأخاف من الحارث أن يقتلني.

قال: فكان يكرمني ويحسن ضيافتي.

وخرج الحارث يوما فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذن لي، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه ثم رمى به وقال: من ينتزع مني ملكي، أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته، علي بالناس، فلم يزل يفرض حتى قام وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى،


#222#

وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: أن لا تسير إليه واله عنه ووافني بـ "إيليا".

فلما جاءه جواب كتابه دعاني فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟

فقلت: غدا.

فأمر لي بمائة مثقال ذهبا، ووصلني مري –يعني: حاجبه- بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام.

فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «باد ملكه» وأقرأته من مري السلام وأخبرته، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق».

ومات "الحارث بن أبي شمر" عام الفتح.

قالوا: وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملا لقيصر على عمان من أرض البلقاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى هرقل والحارث بن أبي شمر، ولم يكتب إليه، فأسلم فروة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وأهدى له، وبعث من عنده رسولا من قومه يقال له: مسعود بن سعد، وذكر بقيته.

وفي رواية حدث بها ابن سعد عن علي بن محمد، عن عثمان بن عبد الرحمن الزهري، عن واصل بن عمرو الجذامي قال: كان فروة بن عمرو الجذامي عاملا للروم على عمان من أرض البلقاء، أو على معان، فأسلم وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث به مع رجل من قومه يقال له: مسعود بن سعد، وبعث إليه ببغلة وحمار وأثواب لين وقباء سندس مخوص بالذهب.


#223#

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو، أما بعد: قدم علينا رسولك، وبلغ ما أرسلت به، وخبر عما قبلك، وأتانا بإسلامك، وأن الله هداك بهداه، إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة».

وأمر بلالا فأعطى رسوله مسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشا.

وبلغ ملك الروم إسلام فروة فدعاه فقال له: ارجع عن دينك.

قال: لا أفارق دين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنك تعلم أن عيسى قد بشر به، ولكنك تضن بملكك.

فحبسه ثم أخرجه فقتله وصلبه، رضي الله عنه.

وروى أبو داود في "سننه" من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق إلى أرض النجاشي فذكر حديثه. قال النجاشي: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.

أبو بكر بن أبي الدنيا من حديث عثمان بن عبد الرحمن أن رجلا من أهل الشام من النصارى قدم مكة، فأتى على نسوة قد اجتمعن في يوم عيد، وقد غاب أزواجهن في بعض أمورهم، فقال: يا نساء تيماء، إنه


#224#

سيكون فيكم نبي يقال له "أحمد" فأيما امرأة منكن استطاعت أن تكون له فراشا فلتفعل، ومضى الرجل، فحفظت خديجة حديثه.

وقال أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسين العجلي السواق: حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم، حدثنا أبي، حدثنا عمر بن سعد، حدثني مسلم الملائي عن حبة، عن علي رضي الله عنه قال: لما نزل علي بالرقة بمكان يقال له: "البلخ" على جانب الفرات، فنزل راهب من صومعته فقال لعلي رضي الله عنه: إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى ابن مريم عليهما السلام أعرضه عليك؟

قال علي رضي الله عنه: نعم، فما هو؟

قال الراهب: بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما كتب إنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل الله، لا فظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، الذين يحمدون الله على كل نشز وفي كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم بالتكبير والتهليل، وينصره الله جل وعز على كل من ناوأه.. وذكر بقيته.


#225#

$فصل في الكتاب الذي كان في الكنز المذكور في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما}$

وهذا الكتاب قد جاء أنه كان مكتوبا في الكنز الذي في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} من رواية الحسين بن حماد الكوفي، حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال «لوح من ذهب فيه مكتوب: الذي قضى فيما قضى، وسطر فيما سطر، فقال: إني باعث في الأميين رسولا يتلو عليهم آياتي، ويدلهم على طريق الحكمة، ليس بالفظ ولا بالغليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يحمدون الله عز وجل على كل هبوط وصعود ونشوز».

أبو معشر هذا هو، نجيح بن عبد الرحمن السندي الهاشمي مولاهم المدني صاحب المغازي.

قال البخاري حين ذكره في "تاريخه الكبير": منكر الحديث.

لكن حسن حاله أحمد بن حنبل وقال: كان بصيرا بالمغازي.

وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه.


#226#

وقال الترمذي: وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، واسمه نجيح مولى بني هاشم، قال محمد –يعني البخاري-: "لا أروي عنه شيئا، وقد روى عنه الناس". انتهى.

والمشهور في تفسير الكنز ما ذكره المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: {وكان تحته كنز لهما} قال: لوح من ذهب فيه مكتوب: عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب؟ عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟ عجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟

وفي رواية: عجبا لمن يوقن بالحساب كيف يعمل السيئات؟ أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي.

قال الحسن بن [عرفة العبدي: حدثني كسر بن مروان الفلسطيني، عن أبين بن سفيان، عن أبي حازم، عن ابن][1] عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وكان تحته كنز لهما} قال: لوح من ذهب فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، عجب لمن يعرف الموت كيف يفرح، وعجب لمن يعرف النار كيف يضحك، وعجب لمن يعرف الدنيا وتحولها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجب لمن يؤمن بالقضاء والقدر كيف ينصب في طلب الرزق، وعجب لمن يؤمن بالحسنات كيف يفعل الخطايا، لا إله إلا الله محمد رسول الله.


#227#

وحدث به أحمد بن عيسى المصري، حدثنا رشدين بن سعد، عن أبي الحسن الشامي، عن أبي حازم فذكره بنحوه.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا علي بن الحسين، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا بشر بن المنذر أبو المنذر الأنصاري، عن الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش القتباني، عن يزيد بن حجيرة، عن أبي ذر رضي الله عنه يرفعه: «إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من ذهب مصمت، فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجبت ممن ذكر النار ثم ضحك، عجبت ممن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله».

وحدث به أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتابه في "فضل العلم" عن محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، فذكره بنحوه.


#228#

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا ولا يصح، وفي آخره قال أنس: والذهب لا يصدأ ولا يبلى.

ورواه عمرو بن جميع، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولفظه: قال: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، عجبت لمن يذكر [أن] الموت حق كيف يفرح، وعجبا لمن يذكر [أن] النار حق كيف يضحك، وعجبا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن، وعجبا لمن يرى الدنيا وتصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها؟!

إسناده واه.

وحدث به الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في أول كتابه في "فضل العلم" فقال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عبيد الأسدي، حدثنا علي بن عبيد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه عن جده يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قال في قوله


#229#

تعالى: {وكان تحته كنز لهما}: «إنه لوح من ذهب مكتوب فيه شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن محمدا رسول الله، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن تفكر في تقلب الليل والنهار ويأمن فجعاتها حالا فحالا».

وجاء من طريق يزيد بن يوسف الصنعاني –صنعاء دمشق- عن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعا بنحوه.

وروي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما من قوله.

لكن خرجه أبو أحمد السكري في كتابه "المواعظ" من حديث علي ابن موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين قال: وجد لوح تحت حائط مدينة من المدائن فيه مكتوب: أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي، عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن أيقن بالقدر كيف


#230#

يحزن، وعجبا لمن اختبر الدنيا كيف يطمئن إليها، وعجبا لمن أيقن بالحساب كيف يذنب.

وخرجه أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في كتابه "المواعظ والوصايا" من حديث زيد بن أخزم الطائي، حدثنا الحسن بن حبيب، حدثنا مسلمة بن محمد الحنفي، عن نعيم العنبري، سمعت الحسن يقول في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال: لوح من ذهب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبا لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.


#231#

وتابعه عبيد الله بن يوسف الجبيري، عن الحسن بن حبيب.

وجاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا أنه كان ذهبا وفضة.

قال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا يزيد بن يوسف الصنعاني، عن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وكان تحته كنز لهما}: كان ذهبا وفضة».

حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن أبي حصين، عن عكرمة: {وكان تحته كنز لهما} قال: [مالا].

حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن ابن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما {وكان تحته كنز لهما} قال: علم.


#232#

وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتابه "الديباج" فقال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمرو بن الجراح الغزلي الثقة الأمين الشيخ الصالح، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى {وكان تحته كنز لهما} قال: صحف علم.

تابعه ورقاء عن ابن أبي نجيح.

ورواه سلمة بن سليمان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا الربيع بن أنس {وكان تحته كنز لهما} فسمعنا أنه كان علما فورثنا ذلك العلم.

وروي نحوه عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وعطية وأبي مالك شيخ السدي.

وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبو عبد الله الظهراني، أخبرنا حفص بن عمر، أخبرنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال: ذلك العلم الذي في الكنز: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يأسف على الطلب، وعجبت لمن يرى تقلب الدنيا كيف يطمئن إليها.

وقال الختلي في "الديباج" أيضا: حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا قتيبة بن بسام، عن إسماعيل، عن ليث، عن مجاهد قال: كان الكنز لوحا من ذهب، في أحد جانبيه: لا إله إلا الله الواحد الصمد لم يلد


#233#

ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وكان في الجانب الآخر: عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم هو يطمئن إليها، وعجبا لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل.

والغلامان اليتيمان أخوان اسم أحدهما "أصرم" والآخر "صريم" واسم أبيهما "كاشح" وأمهما "دهناء" رواه أبو محمد عبد الله بن ثابت التوزي المقرئ فقال: حدثني أبي، حدثني الهذيل بن حبيب أبو صالح الدنداني، عن مقاتل بن سليمان، فذكره عن عدة من مشايخه لعطاء بن أبي رباح وعكرمة ونافع وابن سيرين والزهري وغيرهم.


#234#

$فصل فيما كان في صحف موسى من ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم$

وهذا المذكور أنه كان في الكنز جاء أنه في صحف موسى عليه السلام التي أنزلت عليه:

قال أبو الحسن علي بن الخضر بن سليمان بن سعيد السلمي في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم": أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن الشيباني يعني ابن عمر، حدثنا إبراهيم بن سنان، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو نعيم، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما كان في صحف موسى؟

قال: «كان فيها: عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح بالدنيا، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات، وعجبت لمن يرى زوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالجنة ولا يعمل لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله».

وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، حدثني أبي، عن جدي عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه.

فقال: «يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وتحيته ركعتان، فقم فصلهما»


#235#

فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة فيما الصلاة؟ قال: «خير موضوع فاستقل أو استكثر..» الحديث.

وفيه: قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى عليه السلام؟ قال: «كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت، ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا، ثم لا يعمل» الحديث.

خرجه بطوله أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" عن الحسن بن سفيان، والحسين بن القطان –واللفظ للحسن- قالوا: حدثنا إبراهيم بن هشام فذكره.

تابعهم أحمد بن حنبل في "مسنده" وجعفر الفريابي وأحمد بن أنس بن مالك وأبو جارية أحمد بن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه إبراهيم، وقد تكلم فيه.


#236#

ذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يحيى إلا ولده وهم ثقات، انتهى.

والحديث له طرق غير ما ذكرناه:

منها ما خرجه أبو الحسن أحمد بن عمير بن جوصا في جمعه "حديث أبي إدريس الخولاني"، فقال: أخبرني محمد بن الحسن بن قتيبة، أخبرنا محمد بن أبي السري، حدثني أبي المتوكل بن عبد الرحمن، حدثني عمر بن عبيد الله التميمي، عن محمد بن عبيد الله الفزاري، عن القاسم ابن محمد الثقفي، عن عائذ الله بن عبد الله أبي إدريس الخولاني فذكره بطوله.

ورواه من حديث محمد بن مصفى، حدثنا بقية بن الوليد، حدثني أبو زرعة شيخ من أهل فلسطين، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس.

ورواه من حديث عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي عبد الملك محمد بن أيوب وغيره، عن ابن عائذ، عن أبي ذر.


#237#

وحدث به آدم بن أبي إياس في كتابه "الثواب" عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن أبي عبد الملك، عن أبي عائذ، عن أبي ذر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

في هذه الرواية عن أبي عائذ، وفي التي قبلها عن ابن عائذ، وكلاهما وهم، والله أعلم، وصوابه: عن عائذ، وهو أبو إدريس الخولاني.

وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث منكر مركب من أحاديث، فالله أعلم.


#238#

ورواه من طريق إبراهيم بن عيينة، حدثنا إسماعيل بن رافع أبو رافع المدني وكان قدم علينا سنة تسع وثلاثين ومائة، عن سليمان بن موسى، عن مولى يزيد بن معاوية، عن عائذ الله –رجل من أهل الشام-، عن أبي ذر.


#239#

$[عود إلى ما أخبر به الأحبار والرهبان أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث في آخر الزمان]$

ويذكر عن أبي ذؤيب الزاهد قال: دخلت في سياحتي ديرا، فقلت للراهب القيم عليه: أعندك فائدة؟ قال: نعم يا عربي. قلت: وما هي؟ فأخرج لي ورقة فيها أربعة أسطر، وذكر أنها من الكتب المنزلة:

ففي السطر الأول منها: يقول الجبار عز وجل: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي.

والسطر الثاني: محمد المختار عبدي ورسولي.

والسطر الثالث: أمته الحمادون، أمته الحمادون، أمته الحمادون.

والسطر الرابع: رعاة الشمس، رعاة الشمس، رعاة الشمس.

وروى أبو سلمة سيار بن حاتم العنزي البصري، عن موسى بن سعيد الراسبي بن سعيد الراسبي، عن أبي معاذ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمان رضي الله عنه قال: كنت ممن ولد برامهرمز، وبها


#240#

نشأت، وأما أبي فمن "إصبهان"، وكان لأمي مال، فأسلمتني إلى الكتاب، إلى أن دنا مني فراغ كتاب الفارسية، ولم يكن في الغلمان أكبر مني ولا أطول، وكان ثم جبل فيه كهف في طريقنا، فمررت وحدي فإذا فيه رجل طويل عليه ثياب شعر، فدنوت منه.

فقال: يا غلام، تعرف عيسى ابن مريم؟ قلت: لا، ولا سمعت به.

قال: آمن به فإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول يأتي من بعده اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم، أخرجه الله من غم الدنيا إلى روح الآخرة ونعيمها.

قلت: ما نعيم الآخرة؟

قال: لا يفنى.

فلما قال أنها لا تفنى رأيت الحلاوة والنور يخرج من شفتيه، فعلق فؤادي، ففارقت أصحابي وقلت: لا أذهب ولا أجيء إلا وحدي، فعلمني التوحيد والإيمان بالبعث والقيام بالصلاة، ثم قال: إذا أدركت محمدا صلى الله عليه وسلم الذي يخرج من جبال تهامة فآمن به واقرأ عليه السلام مني.

الحديث بطوله في إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، حدث به أبو إسماعيل الترمذي وإسحاق بن إبراهيم بن جميل وغيرهما، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أبي زياد القطواني، حدثنا سيار بن حاتم العنزي، فذكره.


#241#

ورواه ابن إسحاق مطولا فقال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني سلمان الفارسي رضي الله عنه حديثه من فيه إلى في، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل "إصبهان" من أهل قرية منها يقال لها: "جي"، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في شأن له يوما فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطلعها، فأمرني ببعض ما يريد، ثم قال: لا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري.

فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحسب أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت فيهم وقلت: هذا والله خير من الذي


#242#

نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، فلم آتها، ثم قلت: لهم: أين أصل هذا الدين؟

فقالوا: بالشام.

قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله.

قال: فلما جئته قال: أي بني، أين كنت. ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟

قال: قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس.

قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.

فقلت له: كلا والله، إنه لخير من ديننا.

قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدا، ثم حبسني في بيته.

قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم.

قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلاهم فآذنوني بهم.

قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم، حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل هذا الدين علما؟

قالوا: الأسقف في الكنيسة.

قال: فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك؟ قال: فادخل


#243#

فدخلت معه، وكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها شيئا اكتنزه لنفسه ولم يعطه للمساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمع النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا.

فقالوا: وما علمك بذلك؟

قلت: أنا أدلكم على كنزه.

قالوا: فدلنا عليه.

قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ثم رموه بالحجارة، وجاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه.

قال: ويقول سلمان رضي الله عنه: فما رأيت رجلا –يعني: لا يصلي الخمس- أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه.

قال: فأحببته حبا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان، إني كنت معك فأحببتك حبا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله عز وجل، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟


#244#

فقال: أي بني، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه وقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا، بـ"الموصل" وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به.

قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب "الموصل"، فقلت له: يا فلان، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره.

فقال لي: أقم عندي.

قال: فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان، إن فلانا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟

قال: أي بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بـ "نصيبين"، وهو فلان، فالحق به.

فلما مات وغيب لحقت بصاحب "نصيبين"، فجئته فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي.

قال: فأقم عندي.

فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر قلت: يا فلان، كان أوصي بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟

قال: أي بني، ما أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بـ "عمورية"، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا، فلما مات وغيب لحقت بصاحب "عمورية"، وأخبرته خبري.


#245#

فقال لي: أقم عندي.

فأقمت عند خير رجل، ثم نزل به أمر الله عز وجل، فلما حضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ إلى من تأمر بي؟

قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض ذات حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.

قال: ثم مات وغيب، فمكثت بـ "عمورية" ما شاء الله عز وجل أن أمكث، ثم مر بي نفر من "كلب" تجارا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي؟ فقالوا: نعم.

فأعطيتموها وحملوني [حتى] إذا بلغوا بي "وادي القرى" ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدا، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن تكون البلد التي وصف لي صاحبي، ولم يلحق لي في نفسي، فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، فحملي إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام


#246#

لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه.

فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن مجتمعون بـ "قباء" على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.

فلما سمعتها أخذتني العرواء، حتى ظننت أني ساقط على سيدي.

قال: فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟

فغضب [سيدي] فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك؟ فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبت عما قال.

وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـ "قباء"، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو جاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.

فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «كلوا» وأمسك يده فلم يأكل.

قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة.

ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهي هدية أكرمتك بها. فأكل


#247#

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه.

فقلت في نفسي: هاتان ثنتان.

ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـ "بقيع الغرقد" قد تبع جنازة –يعني: رجل من أصحابه- عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى الرداء عن ظهره صلى الله عليه وسلم، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحول»، فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.

ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "بدر" و "أحد"، قال سلمان: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتب يا سلمان»، فكاتبت صاحبي على


#248#

ثلاث مائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعينوا أخاكم»، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاث مائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي»، ففقرت، وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي، فجعلنا نقرب الودى ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال، فأتي رسول الله بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟»، قال: فدعيت له، فقال: «خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان»، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: «خذها؛ فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك»، فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتقت فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخندق" حرا، ثم لم يفتني معه مشهد.


#249#

رواه عن ابن إسحاق جماعة، منهم: إبراهيم بن سعد –والسياق له- وأبو يحيى بكر بن سليمان الأسوازي، و [يحيى بن] زكريا بن أبي زائدة، وزفر بن قرة بن خالد، وزياد بن عبد الله البكائي، وسلمة بن الفضل، ويونس بن بكير.


#250#

خرجه الأئمة لابن إسحاق منهم: أحمد بن حنبل في "مسنده" والطبراني في "معجمه"، وأبو نعيم في "الحلية".

وحدث عبد الله بن عبد القدوس الرازي، عن عبيد المكتب، حدثني أبو الطفيل عامر بن واثلة، حدثني سلمان رضي الله عنه قال: كنت رجلا من أهل "جي"، وكان أهل قريتي يعبدون الخيل البلق، فكنت أعرف أنهم ليسوا على شيء، فقيل لي: إن الدين الذي تطلب إنما هو قبل المغرب، فخرجت حتى أتينا دافئ أرض الموصل، فسألت عن أعلم أهلها، فدللت على رجل في قبة أو في صومعة، فأتيته، وذكر قصة إسلامه بنحو ما تقدم.

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" من طريق عبد الله بن عبد القدوس هذا، وصحح إسناده.

وأنى له الصحة، وابن عبد القدوس ضعفوه.

لكن قال أبو نعيم في "الحلية": رواه الثوري عن عبيد المكتب مختصرا، ورواه السلم بن الصلت العبدي عن أبي الطفيل مطولا.


#251#

ثم ساق أبو نعيم حديثه من طريق ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثنا السلم بن الصلت العبدي، عن أبي الطفيل البكري، أن سلمان الخير حدثه قال: كنت رجلا من أهل "جي" مدينة بإصبهان، فبينا أنا إذ ألقى الله في قلبي: من خلق السموات والأرض؟ فانطلقت إلى رجل لم يكن يكلم الناس يتحرج، فسألته: أي الدين أفضل؟

فقال: ما لك ولهذا الحديث، أتريد دينا غير دين أبيك؟

فقلت: لا، ولكن أحب أن أعلم من رب السموات والأرض، فأي دين أفضل؟

قال: ما أعلم أحدا على هذا غير راهب بـ "الموصل"، قال: فذهبت إليه .. وذكر القصة بطولها.

وقد رويت من طرق، منها: ما خرجه الحاكم في "مستدركه" في "زيادات الفوائد" عن أبي العباس محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن زيد بن صوحان: أن رجلين من أهل الكوفة كانا صديقين لزيد بن صوحان أتياه ليكلم لهما سلمان أن يحدثهما حديثه كيف كان إسلامه؟ فأقبلا معه حتى لقوا سلمان وهو بالمدينة


#252#

أميرا عليها، وإذا هو على كرسي قاعد، وإذا خوص بين يديه وهو يسفه.

قالا: فسلمنا وقعدنا.

فقال له زيد: يا أبا عبد الله، إن هذين لي صديقان ولهما إخاء، وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان بدء إسلامك؟

قال: فقال سلمان رضي الله عنه: كنت [يتيما من "رامهرمز" وكان ابن دهقان "رامهرمز" يختلف إلى معلم يعلمه، فلزمته لأكون في كنفه]، وكان لي أخ أكبر [مني] وكان مستغنيا بنفسه، وكنت غلاما فقيرا، وكان –يعني: ابن الدهقان- إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه، فإذا تفرقوا خرج فتقنع بثوبه ثم صعد الجبل، وكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا.

قال: فقلت له: إنك تفعل كذا وكذا، فلم لا تذهب بي معك؟

قال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء.

قال: قلت: لا تخف.

قال: فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة ولهم صلاح.


#253#

ويذكرون الله عز وجل ويذكرون الآخرة، ويزعمون أنا عبدة النيران وعبدة الأوثان، وأنا على غير دين.

قال: قلت: فاذهب بي معك إليهم؟

قال: لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم، وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتل القوم، فيكون هلاكهم على يدي.

قال: قلت: لن يظهر مني ذلك فاستأمرهم.

فأتاهم فقال: غلام عندي يتيم فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم؟

قالوا: إن كنت تثق به.

قال: أرجو أن لا يجيء منه إلا ما أحب.

قالوا: فجىء به.

فقال لي: قد استأذنت القوم أن تجيء معي، فإن كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها، فائتني ولا يعلم بك أحد، فإن أبي إن علم بهم قتلهم.

قال: فلما كانت الساعة التي يخرج تبعته، فصعد الجبل، فانتهينا إليهم فإذا هم في برطيلهم –قال علي: وأراه [قال]: وهم ستة أو سبعة- قال: وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار ويقومون الليل، ويأكلون عند السحر ما وجدوا، فقعدنا إليهم فأثنى ابن الدهقان علي خيرا، فتكلموا فحمدوا الله وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء، حتى خلصوا إلى ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام فقالوا: بعث الله تعالى عيسى عليه السلام، وولد لغير ذكر،


#254#

بعثه الله تعالى رسولا، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والأعمى، فكفر به قوم وتبعه قوم، وإنما كان عبد الله ورسوله، ابتلى به خلقه.

قال: وقالوا قبل ذلك: يا غلام، إن لك ربا، وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا إليهما تصير، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة، لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين.

فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام انصرف وانصرفت معه، ثم غدونا إليهم، فقالوا مثل ذلك وأحسن، ولزمتهم، فقالوا لي: إنك غلام، وإنك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع، فصل ونم، وكل واشرب.

قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه، فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم فقال: يا هؤلاء، قد جاورتموني فأحسنت جواركم، ولم تروا مني سوءا، فعمدتم إلى ابني فأفسدتموه علي، قد أجلتكم ثلاثا، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا، فالحقوا ببلادكم فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء.

قالوا: نعم، ما تعمدنا مساءتك، ولا أردنا إلا الخير.

وكف ابنه عن إتيانهم، فقلت له: اتق الله، فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله، وأن أباك ونحن على غير دين، إنما هم عبدة النيران، لا يعبدون الله، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك.

قال: يا سلمان، هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بغيا عليهم، إن تبعت القوم طلبني أبي في الخيل وقد جزع من إتياني إياهم، حتى طردهم وقد أعرف أن الحق في أيديهم.


#255#

[قلت: أنت أعلم.

ثم لقيت أخي فعرضت عليه فقال: أنا مشتغل بنفسي في طلب المعيشة]، فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه، فقالوا: يا سلمان، قد كنا نحذر، فكان ما رأيت، فاتق الله، واعلم أن الدين ما أوصيناك به، وإن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله ولا يذكرونه، فلا يخدعنك [أحد] عن دينك.

قلت: ما أنا بمفارقكم.

قالوا: أنت لا تقدر أن تكون معنا، نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل [عند] السحر ما أصبنا وأنت لا تستطيع ذلك.

فقلت: لا أفارقكم.

فقالوا: أنت أعلم، قد أعلمناك حالنا، فإذا أتيت خذ مقدار حمل يكون معك حتى تأكله، فإنك لا تستطيع ما نستطيع نحن.

قال: ففعلت ولقيت أخي، فعرضت عليه [فأبى]، ثم أتيتهم [فتحملوا، فكانوا] يمشون وأمشي معهم، فرزقنا السلامة حتى


#256#

قدمنا "الموصل"، فأتينا بيعة "بالموصل"، فلما دخلوا احتفوا بهم وقالوا: أين كنتم؟

قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله، بها عبدة النيران، فطردونا [فقدمنا عليكم.

فلما كان بعد قالوا: يا سلمان، ههنا قوم في هذه الجبال هم أهل دين، وإنا نريد لقاءهم، فكن أنت ههنا مع هؤلاء، فإنهم أهل دين، وسترى منهم ما تحب.

قلت: ما أنا بمفارقكم.

قال: فخرجوا وأنا معهم، فأصبحوا بين جبال، وإذا صخرة وماء كثير في جدار، وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال، يخرج رجل رجل من مكانه، كأن الأرواح قد انتزعت منهم، حتى كثروا، فرحبوا بهم وحفوا وقالوا: أين كنتم؟ لم نركم؟

قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله، فيها عبدة نيران، وكنا نعبد الله، فطردونا].

فقالوا: ما هذا الغلام؟

فطفقوا يثنون علي، وقالوا: صحبنا من تلك البلاد، فلم نر منه إلا خيرا.

قال سلمان: فوالله إنهم لكذلك، إذ طلع عليهم رجل من كهف


#257#

جبل، [رجل طوال]، قال: فجاء حتى سلم وجلس، فحفوا به وعظموه وأصحابي الذين كنت معهم، وأحدقوا به.

فقال: أين كنتم؟

فأخبروه، فقال: ما هذا الغلام معكم؟

فأثنوا علي خيرا، وأخبروه باتباعي إياهم، ولم أر مثل إعظامهم إياه.

فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر من أرسل من رسله وأنبيائه، وما لقوا وما صنع بهم، ثم ذكر مولد عيسى ابن مريم عليهما السلام، وأنه ولد لغير ذكر، فبعثه الله عز وجل رسولا، وأجرى على يديه إحياء الموتى، وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، وأنزل عليه الإنجيل، وعلمه التوراة، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، فكفر به قوم؛ وآمن به قوم.

وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم، وأنه كان عبد الله أنعم عليه، فشكر ذلك له، ورضي عنه، حتى قبضه الله عز وجل، وهو يعظهم ويقول: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى، ولا تخالفوا فيخالف بكم.

ثم قال: من أراد أن يأخذ من هذا شيئا فليأخذ، فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء، فقام أصحابي الذين جئت معهم فسلموا عليه وعظموه، وقال لهم: الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا، واستوصوا بهذا الغلام خيرا.

وقال لي: يا غلام، هذا دين الله الذي تسمعني أقوله وما سواه الكفر.

قال: قلت: ما أنا بمفارقك.


#258#

قال: إنك لا تستطيع أن تكون معي. إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد، ولا تقدر على الكينونة معي.

وأقبل علي أصحابه، فقالوا: يا غلام، إنك [لا] تستطيع أن تكون معه.

قلت: ما أنا بمفارقك.

قال له أصحابه: يا فلان، إن هذا غلام ونخاف عليه.

قال: فقال لي: أنت أعلم.

قلت: فإني لا أفارقك، فبكى أصحابي الأولون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي.

فقال: يا غلام خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر، وخذ من الماء ما تكتفي به.

ففعلت، وتفرقوا، وذهب كل إنسان إلى مكانه الذي يكون فيه، وتبعته حتى دخل الكهف في الجبل، وقال: ضع ما معك وكل واشرب وقام يصلي، فقمت خلفه أصلي.

قال: وانفتل إلي فقال: إنك لا تستطيع هذا ولكن صل ونم وكل واشرب، ففعلت، فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا قال لي: خذ جرتك هذه وانطلق، فخرجت معه أتبعه، حتى انتهينا إلى الصخرة وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال، واجتمعوا إلى الصخرة ينتظرون خروجه، فقعدوا وعاد في حديثه نحو المرة الأولى، فقال: الزموا هذا الدين، ولا تفارقوا


#259#

ذكر الله، واعلموا أن عيسى ابن مريم عليهما السلام كان عبد الله، أنعم الله عليهم.

ثم ذكروني فقالوا له: يا فلان، كيف وجدت هذا الغلام.

فأثنى علي وقال خيرا، فحمدوا الله عز وجل، وإذا خبز كثير وماء كثير فأخذوا وجعل الرجل يأخذ ما يكتفي به، وفعلت، فتفرقوا في تلك الجبال، ورجع إلى كهفه ورجعت معه، فلبثنا ما شاء الله يخرج في كل يوم أحد ويخرجون معه، ويحفون به ويوصيهم [بما كان يوصيهم] به.

فخرج في أحد، فلما اجتمعوا حمد الله ووعظهم، وقال مثل ما كان يقول لهم، ثم قال لهم آخر ذلك: يا هؤلاء، إنه قد كبر سني ورق عظمي واقترب أجلي، وأنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا، ولا بد لي من إتيانه، فاستوصوا بهذا الغلام خيرا، فإنه رأيته لا بأس به.

قال: فجزع به القوم، فما رأيت مثل جذعهم، وقالوا: يا أبا فلان أنت كبير، وأنت وحدك، ولا نأمن أن يصيبك الشيء فتنأى عنا أحوج ما كنا إليك.

قال: لا تراجعوني لا بد من إتيانه، ولكن استوصوا بهذا الغلام خيرا، وافعلوا وافعلوا.

قال: فقلت: ما أنا بمفارقك.

فقال: يا سلمان، قد رأيت حالي وما كنت عليه، وليس هذا كذلك، أنا أمشي وأصوم والنهار وأقوم الليل ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولا غيره، وأنت لا تقدر على هذا.


#260#

قلت: ما أنا بمفارقك.

قال: أنت أعلم.

قال: فقالوا: يا أبا فلان فإنا نخاف على هذا الغلام.

قال: فهو أعلم، قد أعلمته الحال، وقد رأى ما كان قبل هذا.

قلت: لا أفارقك.

قال: فبكوا وودعوه.

وقال لهم: اتقوا الله وكونوا على ما أوصيتكم به، فإن أعش فعلي أرجع إليكم، وإن مت فإن الله حي لا يموت، فسلم عليهم وخرج وخرجت معه يمشي واتبعته يذكر الله ولا يلتفت ولا يقف على شيء حتى إذا أمسينا قال: يا سلمان، صل أنت ونم وكل واشرب، ثم قام هو يصلي (إلى أن انتهى) إلى بيت المقدس، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء إذا أمسى حتى انتهينا إلى باب المسجد، وإذا على الباب مقعد، فقال: يا عبد الله، قد ترى حالي فتصدق علي بشيء، فلم يلتفت إليه ودخل المسجد ودخلت معه، فجعل يتبع أمكنة من المسجد يصلي فيها، ثم قال: يا سلمان، إني لم أنم منذ كذا وكذا ولم أجد طعم النوم، فإن أنت جعلت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت، فإني أحب أن أنام في هذا المسجد وإلا لم أنم.

قال: قلت فإني أفعل.


#261#

قال: فانظر إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني إذا غلبتني عيني.

فنام، فقلت في نفسي: هذا لم ينم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك، لأدعنه ينام حتى يشتفي من النوم.

قال: وكان فيما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا، ويعلمني ويذكرني نحو ما يذكر القوم يوم الأحد، حتى قال فيما يقول: يا سلمان، إن الله عز وجل سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهمة، وكان رجلا أعجميا لا يحسن أن يقول: "تهامة" ولا "محمد"، علامته أن يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه.

قال: قلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه.

قال: ولو أمرك، فإن الحق فيما يأمر به، ورضى الرحمن فيما قال.

فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعا يذكر الله، فقال لي: يا سلمان، مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر الله، أين ما كنت جعلت لي على نفسك؟!

قلت: أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك، فأحببت أن تشتفي من النوم، فحمد الله وقام فخرج وتبعته، فمر بالمقعد، فقال المقعد: يا عبد الله، دخلت فسألتك فلم تعطني، وخرجت فسألتك فلم تعطني، فقام ينظر، هل يرى أحدا، فلم يره، فدنا منه فقال له: ناولني يدك فناوله، فقال: قم بسم الله، فقام كأنه نشط من عقال صحيحا لا عيب فيه، فخلى عن يده، فانطلق ذاهبا فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه.


#262#

فقال لي المقعد: يا غلام، احمل علي ثيابي حتى أنطلق فأبشر أهلي، فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي علي، فخرجت في أثره أطلبه، فكلما سألت عنه قالوا: أمامك، حتى لقيني ركب من كلب، فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم على بعيره، فجعلني خلفه، حتى أتوا بي بلادهم فباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها.

وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء، ثم أتيته فوجدت عنده ناسا، وإذا أبو بكر رضي الله عنه أقرب الناس إليه فوضعته بين يديه، فقال: «ما هذا»؟

قلت: صدقة. فقال للقوم: «كلوا».

ولم يأكل، ثم لبثت ما شاء الله، ثم أخذت مثل ذلك، فجعلته على شيء، ثم أتيته به، فوجدت عنده ناسا، وإذا أبو بكر رضي الله عنه أقرب القوم منه فوضعته بين يديه، فقال لي: «ما هذا»؟

قلت: هدية. فقال: «بسم الله»، فأكل وأكل القوم.

قال: قلت في نفسي: هذه من آياته، كان صاحبي رجلا أعجميا لم يحسن أن يقول: "تهامة"، قال: "تهمة"، وقال: أحمد.

فدرت خلفه صلى الله عليه وسلم ففطن لي فأرخى ثوبه، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته، ثم درت حتى جلست بين يديه، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: «من أنت»؟

قال: قلت: مملوك. قال: فحدثته حديثي، وحديث الرجل الذي كنت معه وما أمرني به. قال: «لمن أنت»؟


#263#

قلت: لامرأة من الأنصار، جعلتني في حائط لها. قال: «يا أبا بكر».

قال: لبيك. قال: «اشتره».

فاشتراني أبو بكر، فأعتقني، فلبثت ما شاء الله أن ألبث، ثم أتيته فسلمت عليه وقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله ما تقول في دين النصارى؟ قال: «لا خير فيهم، ولا في دينهم».

فدخلني أمر عظيم، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه، ورأيت ما رأيت، ثم رأيته أخذ بيد المقعد فأقامه الله على يديه، لا خير في هؤلاء ولا في دينهم؟!! فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله، فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علي بسلمان».

فأتى الرسول وأنا خائف، فجئت حتى قعدت بين يديه فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية، يا سلمان إن أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى، إنما كانوا مسلمين».

فقلت: يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لهو الذي أمرني باتباعك، فقلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه فأتركه؟ قال: نعم فاتركه، فإن الحق وما يحب الله فيما يأمرك به.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح عال في إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، ولم يخرجاه.

قلت: منعهما من تخريجه –والله أعلم- ضعف علي بن عاصم،


#264#

والانقطاع بين سماك وزيد بن صوحان، فإن سماكا لم يدركه حسبما جزم به الذهبي في "تاريخ الإسلام"، فأنا أستبعده، فسماك أدرك ثمانين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

$*[طرق حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه]:$

وجاء الحديث من طريق أخرى عن سماك مطولا بنحوه، فيما خرجه الطبراني قال: حدثنا أحمد بن داود المكي، حدثنا قيس بن حفص الدارمي، حدثنا مسلمة بن علقمة المازي، حدثنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن سلامة العجلي قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له: قدامة، فقال لي: أحب أن ألقى سلمان الفارسي فأسلم عليه، قال: فخرجنا إليه –وفي رواية- فوجدناه بالمدائن، وهو يومئذ على عشرين ألفا، ووجدناه على سرير يسف خوصا، فسلمنا عليه.

فقلت: يا أبا عبد الله، هذا ابن أخت لي قد قدم علي [من] البادية فأحب أن يسلم عليك. قال: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته.

قلت: نعم إنه يحبك، قال: أحبه الله.

فتحدثنا وقلنا: يا أبا عبد الله، ألا تحدثنا عن أصلك.


#265#

قال: أما أصلي، فأنا من أهل رامهرمز.

وذكر الحديث بنحو حديث سماك عن زيد بن صحوان.

ولحديث سلمان طرق، منها:

ما رواه أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة عن أبي صالح محمد بن بركة، حدثنا الحسن بن علي القطان حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثني أبو عبيد الله التيمي عن ابن لهيعة عن أبي قبيل قال: قيل لسلمان رضي الله عنه: أخبرنا عن إسلامك، فذكر القصة بطولها ومعناها.

ومن طرقها ما قال أبو بشر إسماعيل بن عبد الله سمويه العبدي، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد، حدثني أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، يرويه عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بعض هؤلاء في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصاري والصابئين} الآية، نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان، وكان سلمان رجلا من أهل جندقنيايور وذكر القصة بنحوها.


#266#

ورواها أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، عن أبي الحسن محمد بن محمود المروزي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدثنا عبد الله بن رجاء الغداني، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي قرة الكندي، عن سلمان قال: كان أبي من أبناء الأساورة، وكنت اختلفت إلى الكتاب، وكان معي غلامان إذا رجعا من الكتاب دخلا على قس، فدخلت معهما، فقال لهما: ألم أنهكما أن تأتياني بأحد؟!

قال: فكنت اختلف إليه حتى [كنت] أحب إليه منهما، فقال: يا سلمان، إذا سألك أهلك: من حبسك؟ فقل: معلمي، وإذا سألك معلمك: من حبسك؟ فقل: أهلي.

فقال لي: يا سلمان، إني أريد أن أتحول.

فقلت: أنا معك.

قال: فتحول وأتى قرية فنزلها، وكانت امرأة تختلف إليه، فلما حضر قال: يا سلمان، احتفر، قال: فاحتفرت، فاستخرجت جرة من دراهم، فقال: صبها على صدري، فصببتها، فجعل يضرب بها على صدري ويقول: ويل للقس، فمات.

قال: فنفخت في بوقهم ذلك فاجتمع القسيسون والرهبان فحضروه. قال: وهممت بالمال أن أحتمله، ثم إن الله عز وجل صرفني عنه، فلما


#267#

اجتمع القسيسون قلت: إنه قد ترك مالا، فوثب شباب من أهل القرية، فقالوا: هذا مال أبينا، كانت سريته تأتيه. فأخذوه، فلما دفن قلت: يا معشر القسيسين، دلوني على عالم أكون معه، وذكر القصة بنحوها.

وخرجها أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا أبو يزيد خالد بن النضر القرشي بالبصرة، حدثنا محمد بن المثنى، فذكرها بنحوها.

تابعه عمرو العنقزي عن إسرائيل.

ومن طرقها ما قال أبو الحسين زيد بن الحباب التميمي الكوفي، حدثني حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن سلمان رضي الله عنه قال، فذكر نحو حديث ابن عباس الذي قدمناه، وفيه: فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل، يعمل فيها سلمان حتى تدرك، فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر رضي الله عنه فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غرسها؟» قالوا: عمر، فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمت من عامها.

وحدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال:


#268#

حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا الحسين بن واقد، فذكره بنحوه.

وسيأتي بتمامه –إن شاء الله تعالى- في ذكر الموالي.

وفي هذه الرواية تصريح بشراء النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان، والمشهور كتابته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أداها عنه من سأله.

وقد رويت صورة الكتابة من حديث وهب بن كثير بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن سلمان الفارسي، حدثتني أمي، عن أبي، عن أبيه، عن عبد الرحمن، عن جده سلمان رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن يكتب هذا الكتاب بإملائه: هذا ما أفادني به محمد بن عبد الله رسول الله فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الأشهل اليهودي القرظي بغرس مائة نخلة وأربعين أوقية ذهبا، فقد برئ محمد بن عبد الله إلى عثمان بن الأشهل من ثمن سلمان أعتقه محمد، فليس لأحد عليه سبيل من بني قريظة، وولاؤه لمحمد وأهل بيته.

شهد على ذلك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، ومقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعويمر أبو الدرداء، وعبد الرحمن بن


#269#

عوف، وبلال مولى أبي بكر، وكتبه علي بن أبي طالب يوم الإثنين في ربيع الأول، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

وقال محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني: حدثنا رجل، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر، عن رجل من عبد القيس أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: حدثني من حدثه سلمان: قال سلمان رضي الله عنه إنه كان في حديثه حين ساقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صاحب عمورية قال له: إذا رأيت رجلا بكذا وكذا من أرض الشام بين غيضتين يخرج من هذه الغيضة في كل سنة مرة، ثم يخرج مثلها من العام القابل ليلة من السنة معلومة يتعرضه الناس، ويداوي الأسقام، يدعو لهم فيشفون، فأته فسله عن هذا الدين الذي تلتمس.

قال سلمان: فجئت حتى قمت مع الناس بين تينك الغيضتين، فلما كانت الليلة التي يخرج فيها من الغيضة خرج وغلبني الناس عليه، حتى دخل غيضة أخرى، وتوارى مني إلا منكبيه، فتناولته فأخذت بمنكبيه، فلم يلتفت إلي وقال: مالك؟ قلت: أسألك عن دين إبراهيم الحنيفية، فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك نبي يخرج من عند هذا البيت الذي بمكة، يأتي بهذا الدين [الذي] تسأل عنه، فالحق به، ثم انصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


#370#

«لئن كنت صدقتني يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم عليهما السلام».

وقد روي هذا عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين، حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال سلمان، فذكره بنحوه.

والرجل الذي لم يسمه ابن إسحاق قيل هو: الحسن بن عمارة ذاك المتروك الذي كذبه شعبة وغيره، والله أعلم.


#271#

وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي: حدثني محمد بن سعيد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن سهل بن حنيف، وعبد الملك بن عيسى الثقفي، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي، ومحمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، وغيرهم، كل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة.

قال: قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك، وأنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم: كيف خلصتم إلي من طائفكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟!

قالوا: لصقنا بالبحر، وقد خفناه على ذلك.

قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟

قالوا: ما تبعه منا رجل واحد.

قال: ولم ذلك؟

قالوا: جاءنا بدين مجدد لا تدين به الآباء، ولا يدين به الملك، ونحن على ما كان عليه آباؤنا.

قال: فكيف صنع قومه؟

قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خالفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن كثيرة تكون عليهم الدبرة ومرة تكون لهم.


#272#

قال: ألا تخبرونني وتصدقونني إلى ماذا يدعو؟

قالوا: يدعو إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة.

قال: وما الصلاة وما الزكاة، ألهما وقت يعرف وعدد ينتهى إليه؟

قالوا: يصلون في اليوم والليلة خمس صلوات، كلها لمواقيت وعدد قد سموه، ويؤدون من كل ما بلغ عشرين مثقالا نصف مثقال، وكل إبل بلغت خمسا: شاة.

قال: ثم أخبروه بصدقة الأموال كلها.

قال: أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها؟

قالوا: يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد، ويحرم الزنا والربا والخمر، ولا يأكل مما ذبح لغير الله.

فقال المقوقس: هذا نبي مرسل إلى الناس كافة، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة، حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومنقطع النحور، ويوشك قومه أن يدافعوه بالرماح.

قالوا: فقلنا: لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا معه.

قال المغيرة: فأنغض المقوقس رأسه وقال: أنتم في اللعب.

ثم قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو أوسطهم نسبا.


#273#

قال: كذلك المسيح والأنبياء عليهم السلام تبعث في نسب قومها فكيف صدق حديثه؟

قال: قلنا ما يسمى إلا الأمين من صدقه.

قال: انظروا في أمركم أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله؟!

قال: فمن تبعه؟ قلنا: الأحداث.

قال: هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله.

قال: فما فعلت يهود يثرب فهم أهل التوراة؟ قلنا: خالفوه فأوقع بهم فقتلهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه.

قال: هم قوم حسد حسدوه، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف.

قال المغيرة: فقمنا من عنده وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد صلى الله عليه وسلم وخضعنا له، وقلنا: ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه ونحن أقرباؤه وجيرانه ولم ندخل معه، وقد جاء داعيا إلى منازلنا.

قال المغيرة: فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكان أسقف من القبط هو رأس كنيسة أبي يحنس، كانوا يأتونه


#274#

بمرضاهم فيدعو لهم، لم أر أحدا قط يصلي الصلوات الخمس أشد اجتهادا منه.

فأتيته فقلت: أخبرني هل بقي أحد من الأنبياء؟

قال: نعم، وهو آخر الأنبياء.

ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد، وهو نبي مرسل، قد أمرنا عيسى ابن مريم باتباعه، وهو النبي الأمي العربي، أسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، ليس بالأبيض ولا بالآدم، يعفي شعره، ويلبس ما غلظ من الثياب، ويجتزئ بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه، ولا يبالي من لاقى يباشر القتال بنفسه، ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم وأولادهم، [هم] له أشد حبا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض حرم ويأتي إلى حرم، يهاجر إلى أرض سباخ ونخل، يدين بدين إبراهيم عليه السلام.

قال المغيرة: فقلت له: زدني في صفته.

قال: يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، ويخص مما لا يخص به الأنبياء قبله، كان النبي يبعث إلى قومه وبعث هو للناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى، ومن كان قبله مسددا عليهم، لا يصلون إلا في الكنائس والبيع.


#275#

قال المغيرة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك، وذكر الحديث، وفيه أن المغيرة جاء، فأسلم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع ذلك، فأعجبه أن يسمع أصحابه، قال: فكنت أحدثهم بذلك.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: قال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم، أنا.

فقال: أظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة رضي الله عنه: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟

قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة.

قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل؟

قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه، فإنه يدعو إلى الحق.

فأخبره طلحة بما قال الراهب.

فخرج أبو بكر بطلحة، فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم طلحة رضي الله عنه وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.


#276#

فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد ابن العدوية فشدهما في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تميم، وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة رضي الله عنهما القرينين.

وجاء من حديث أبي سعيد عبد الله بن شبيب الربعي قال: حدثني محمد بن عمر بن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، حدثتني أمي أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه قال: سمعت أبي جبير بن مطعم يقول: لما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم، وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم.

قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم.

فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور، فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم؟

فنظرت فلم أر صورته، قلت: لا أرى صورته.


#277#

فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير وإذا فيه تماثيل أكبر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى من صورته؟

فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقالوا لي: انظر هل ترى صفته؟ قلت: نعم.

قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.

قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟ قلت: نعم.

قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده.

خرجه الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله في "دلائل النبوة".

وخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" عن محمد غير منسوب، عن محمد بن عمر بن سعيد المذكور بنحوه، وفي آخره قال –يعني: الذي


#278#

أراه الصور –لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي.

وقال أبو بكر محمد بن حسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا عبد الله بن شبيب البصري، حدثنا محمد بن عمر الجبيري –من ولد جبير بن مطعم- حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيها، عن أبيه، فذكره.

ورواه الحافظ أبو عبد الله بن منده، عن محمد بن عبد الله بن أبي رجاء، عن موسى بن هارون.

وحدث به الطبراني عن موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس بن عمر وراق الحميدي، حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم من –ولد جبير بن مطعم- حدثتني أم عثمان بنت سعيد –وهي جدتي- عن أبيها فذكره.


#279#

وقال الطبراني: أخبرنا المقدام بن داود، وحدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عامر بن يحيى، عن علي بن رباح، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: كنت أكره أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ظننت أنهم سيقتلونه خرجت، فلحقت بدير من الديارات، فاجتمعت برئيس الدير، فقصصت عليه أمري.

فقال: تخاف أن يقتلوه؟ قلت: نعم,

قال: وتعرف شبهه لو رأيته مصورا؟ قلت: نعم.

قال: فأراه صورا مغطاة، فقلت: ما رأيت شيئا أشبه بشي من هذه الصورة به؛ كأنه طوله وجسمه وبعد ما بين منكبيه.

فقال: فتخاف أن يقتلوه؟ قلت: أظنهم قد فرغوا منه.

قال: لا والله لا يقتلوه وليقتلن من يريد قتله وإنه لنبي، وليظهرنه الله، وذكر بقية الحديث.

وقال إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد، أخبرنا نجيح أبو معشر، عن محمد بن كعب، عن


#280#

دحية بن خليفة قال: وجهني النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم بكتابه وهو بدمشق، فناولته كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقبل خاتمه، ووضعه تحت شيء كان عليه قاعدا، ثم نادى فاجتمع البطارقة وقومه وقام على وسائد بنيت له، وكذلك كانت فارس والروم، ولم يكن لها منابر، ثم خطب أصحابه، فقال: هذا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشرنا به المسيح من ولد إسماعيل بن إبراهيم.

قال: فنخروا نخرة.

قال: فأومأ بيده أن اسكتوا، ثم قال: إنما جربتكم كيف نصرتكم للنصرانية.

قال: فبعثه إلي من الغد سرا، فأدخلني بيتا عظيما فيه ثلثمائة وثلاث عشرة صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، قال: انظر أين صاحبك من هؤلاء؟

قال: فرأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ينطق، قلت: هذا.

قال: صدقت.

فقال: صورة من هذا عن يمينه؟ قلت: رجل من قومه يقال له أبو بكر الصديق.

قال: فمن ذا عن يساره؟ قلت: رجل من قومه يقال له عمر بن الخطاب.

قال: أما إنا نجد في الكتاب أن بصاحبيه هذين يتم الله هذا الدين.

قال: فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال: «صدق، بأبي بكر وعمر يتم الله هذا الدين ويفتح».


#281#

وقال موسى بن هارون: حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عبد الله بن شداد، عن دحية الكلبي رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر صاحب الروم بكتاب، فاستأذنت قلت: استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى قيصر، فقيل إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزعوا لذلك، فقال: أدخلوه، فأدخلني عليه وعنده بطارقة، فأعطيته الكتاب، فقرئ عليه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط الشعر، فقال: لا تقرأ الكتاب اليوم؛ لأنه بدأ بنفسه وكتب "صاحب الروم" ولم يكتب "ملك الروم".

قال: فقرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم قيصر فخرجوا من عنده، ثم بعث إلي، فدخلت عليه، فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف، فدخل عليه وكان صاحب أمرهم يصدرون عن قوله وعن رأيه.

فلما قرأ الكتاب قال: قال الأسقف: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر.

قال قيصر: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.

قال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي.

تابعه أبو جعفر محمد بن عثمان بن محمد بن أبي شيبة، ومطين،


#282#

عن يحيى بن عبد الحميد الحماني بنحوه.

ورواه الحسن بن سفيان وعبد الرحمن بن موسى السباك، عن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن جده، عن سلمة.

ورواه أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده، عن محمد بن عمرو بن البختري عن الحنيني محمد بن الحسين، عن مالك بن إسماعيل أبي غسان النهدي، عن يحيى بن سلمة أن في رواية السباك زيادة فيها كتاب هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه.

وإسناده واه.

وقال أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن السري ابن أخي هناد بن السري، حدثنا المنذر بن محمد بن المنذر القابوسي، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ الشجري المدني، حدثنا محمد بن إسحاق قال: وأخبرني


#283#

خالد بن يسار، عن رجل من أهل الشام قال: لما قدم على هرقل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أشراف الروم، فقال: يا معشر الروم، إني قد جاءني من هذا الرجل كتاب يدعوني إلى ما هو عليه، فهلموا فلندخل في دينه تسلم لنا دنيانا وآخرتنا.

قالوا: لا نكون تحت العرب أبدا.

قال: فإذا أبيتم فلنعطه الجزية فأكسر عني شوكته وأستريح من مؤنته وحربه.

قالوا: فنحن نعطي الصغار، ونحن أكثر الناس عددا وعدة، وأوسعه بلدا!! لا والله، لا يكون ذلك أبدا.

قال: فإذا أبيتم علي هذا، فهلموا فلنقاسمه أرضنا فنعطيه أرض سورية وأرض الشام.

قالوا: قد عرفت أن أرض سورية خير بلاد الشام والروم، وهي أرض الشام، لا والله لا نفعل ذلك أبدا.

قال: أما والله ليأتين عليكم ما تكرهون، ترون أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم في مدينتكم القسطنطينية، ثم قال لغلام له: ائتني ببغلتي.

فأتاه بها فركبها وركضها، حتى إذا مر بالدرب حول وجهه، فنظر إلى أرض الشام، فقال: عليك السلام يا أرض سورية، تسليم الوداع، ثم صار حتى دخل القسطنطينية، فكان آخر العهد –يعني به وأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله في قصبة من ذهب وأمسكها عنده، ثم كتب إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هرقل أمير الروم الذي يؤمن بعيسى ابن مريم عليه السلام –يعني وبالذي يؤمن به عيسى ابن مريم- سلام عليك يا رسول الله، فإنه قد جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله، وإنا نجد عندنا في الإنجيل بشر بك عيسى ابن مريم، وإني دعوت الروم


#284#

ليؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيرا لهم، ولوددت أني عندك فأغسل قدميك وأخدمك أيام حياتي.

فلما رجع دحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هرقل، وما قال وفعل، قرأ كتابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثبت ملكهم».

والحديث له طرق أخرى، وقد ذكرنا منها طريقا عند ذكر خاتم النبوة من هذا الكتاب.

وفي "الصحيح"من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب رضي الله عنهم حديث هرقل بطوله، وفيه قال هرقل بعد ذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الحديث:

قال: وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه .. .. الحديث.

قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عبد الله بن شداد، قال: قال أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه: إن أول يوم رغبت فيه في محمد صلى الله عليه وسلم ليوم قال قيصر في ملكه وسلطانه وحضرته ما قال –يعني قوله: لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه.

قال أبو سفيان: وحضرته يتحادر جبينه عرقا من كرب الصحيفة التي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم.


#285#

قال أبو سفيان: فما زلت مرعوبا من محمد صلى الله عليه وسلم حتى أسلمت، وفي رسالته: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلى آخر الآية، {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} إلى آخر الآية، {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى آخر الآية.

وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": حدثنا محمد بن إسحاق مولى ثقيف، حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم، حدثنا علي بن بحر، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا حميد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة؟».

فقال رجل من القوم: وإن لم أقتل؟

قال: «وإن لم تقتل».

فانطلق الرجل فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس، قد جعل له بساط لا يمشي عليه غيره، فرمى بالكتاب والبساط وتنحى، فلما انتهى قيصر إلى الكتاب أخذه، فقال لرأس الجاثليق: اقرأه.

فقال: ما علمي في هذا الكتاب إلا كعلمك، فنادى قيصر: من صاحب الكتاب، وهو آمن؟

فجاء الرجل، فقال: إذا أنا قدمت فأتني، فلما قدم أمر قيصر بأبواب قصره فغلقت، ثم أمر مناديا: "ألا إن قيصر قد اتبع محمدا وترك


#286#

النصرانية"، فأقبل جنده حتى تسلحوا وطافوا بقصره، فقال لرسول [رسول] الله صلى الله عليه وسلم قد ترى أني خائف على مملكتي، ثم أمر مناديا فنادى: ألا إن قيصر قد رضي عنكم، وإنما اختبركم لينظر كيف صبركم على دينكم، فانصرفوا.

وكتب قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث معه بدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذب عدو الله، ليس بمسلم وهو على النصرانية».

وقال سنيد بن داود المصيصي الحافظ في "تفسيره" وهو تفسير كبير كله بالأسانيد: حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فقرأ كتابه، وجمع الروم فأبوا عليه.

قال: فلما كان يوم الأحد لم يحضر أسقفتهم الكبير وتمارض، فأرسل إليه فأبى، ثم أرسل إليه فأبى، ثم أرسل إليه فأبى، ثلاث مرات، فركب إليه، فقال له: أليس قد عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟


#287#

قال: بلى، أليس قد رأيت ما ركبوا مني، فأنت أطوع فيهم مني، فتعال فادعهم.

قال: وتأذن لي في ذلك؟

قال: نعم.

قال: اذهب هو ذاك.

قال: فجاء بسواد إلى كنيستهم العظمى، فلما رأوه خروا له سجدا، الملك وغيره، فقام في المذبح، فقال: يا أبناء الموتى، هذا النبي الذي بشر به عيسى، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فنخروا ووثبوا إليه فعضوه بأفواههم حتى قتلوه.

قال: وجعلوا يخرجون أضلاعه بالكليتين حتى مات.

وقد جاءت تسمية هذا الشهيد رحمة الله عليه:

قال الذهبي في كتابه "تجريد أسماء الصحابة": ضغاطر الأسقف الرومي، أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسلية فقتلوه.

قلت: وقصته هي ما قال الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري: حدثنا أبو نعيم محمد بن عبد الرحمن الأديب المروذي، حدثنا عبدان بن محمد، حدثنا عمار، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق وحدثني بعض أهل العلم: أن هرقل قال لدحية بن خليفة


#288#

الكلبي رضي الله عنه حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وإنه الذي كنا ننتظره، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، لولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف، فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله أعظم في الروم مني، وأجوز قولا عندهم، وانظر ما يقول.

فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وبما يدعو إليه، فقال له ضغاطر: صاحبك والله نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتابنا باسمه، ثم دخل فألقى ثيابا كانت عليه سوداء، ولبس ثيابا بيضاء، ثم أخذ عصاه فخرج على الرومية وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم، إنه قد جاءنا كتاب من أحمد صلى الله عليه وسلم يدعونا فيه إلى الله عز وجل، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فضربوه حتى قتلوه، فلما رجع دحية إلى هرقل، فأخبره الخبر، قال: قد قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان والله أعظم عندهم وأجوز قولا مني.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا بكر بن سوادة، عن عبيد الله بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يذهب بكتابي إلى طاغية الروم وله الجنة؟».

فقام رجل من الأنصار يدعى عبيد الله بن عبد الخالق، فقال:


#289#

أنا أذهب به إلى الجنة وإن هلكت دون ذلك؟ قال: «نعم، لك الجنة إن بلغت وإن قتلت وإن هلكت، فقد أوجب الله تعالى لك الجنة».

فانطلق بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الطاغي، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له فدخل عليه فعرف طاغية الروم أنه قد جاء بالحق من عند نبي مرسل، ثم عرض عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الروم عنده، ثم عرضه عليهم، فكرهوا ما جاء به، وأمن به رجل منهم، فقتل عند إيمانه، ثم إن الرجل رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي كان من قبل الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «يبعثه الله تبارك وتعالى أمة وحده» لذلك المقتول.

ورواه يحيى بن عبد الله البابلتي: حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يذهب بكتابي إلى طاغية الروم وله الجنة؟» فقام رجل من الأنصار يقال له: عبيد الله بن عبد الخالق، فقال: أنا أذهب به، وذكر الحديث.

وخرج أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ من حديث عباد بن يزيد، عن موسى بن عقبة أن هشام بن العاص ونعيم بن عبد الله ورجلا آخر قد سماه بعثوا به إلى ملك الروم في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال: فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة، وإذا عليه ثياب سود، وإذا كل شيء


#290#

حوله أسود، فقال: لبست هذا نذرا ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها.

قلنا: [فاتئد حتى تمنع مجلسك] فوالله لنأخذنه منك، وملك الروم الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

قال: فأنتم إذا السمراء؟ قلنا: السمراء!

قال: لستم بهم، قلنا: ومن هم؟

قال: هم الذين يصومون النهار ويقومون الليل. قالوا: نحن والله هم.

قال: فكيف صومكم؟ قال: فوصفنا له صومنا.

قال: فكيف صلاتكم؟ قال: فوصفنا له صلاتنا.

قال: فالله يعلم، لقد غشيه سواد حتى صار وجهه كأنه قطعة طابق، وقال: قوموا.

فأمر بنا إلى الملك، فانطلقنا فلقينا الرسول بباب المدينة، فقال: إن شئتم أتيتكم ببغال، وإن شئتم أتيتكم ببراذين.

فقلنا: لا والله لا ندخل عليه إلا كما نحن.

قال: فأرسل إليه أنهم يأبون.

قال: فأرسل أن خل سبيلهم.


#291#

قال: فدخلنا متعممين متقلدين السيوف على الرواحل فلما كنا بباب الملك، إذا هو في غرفة له عالية، فنظر إلينا، قال: فرفعنا رؤوسنا، فقلنا: لا إله إلا الله، قال: فالله يعلم لنفضت الغرفة كلها، حتى كأنها عذق نفضه الريح.

قال: فأرسل إلينا أن هذا ليس لكم؛ أن تجهروا بدينكم علي، وأرسل أن ادخلوا، فدخلوا، فإذا هو على فراش إلى السقف، وإذا عليه ثياب حمر، وإذا كل شيء عنده أحمر، وإذا عنده بطارقة الروم، وإذا هو يريد أن يكلمنا برسول، فقلنا: لا والله لا نكلمه برسول، وإنما بعثنا إلى الملك، فإن كنت تحب أن نكلمك فأذن لنا أن نكلمك، فلما دخلنا عليه ضحك، وإذا هو رجل فصيح يحسن العربية، فقلنا: لا إله إلا الله، فالله يعلم لقد نفض السقف حتى رفع رأسه هو وأصحابه.

فقال: ما أعظم كلامكم عندكم؟ قلنا: هذه الكلمة.

قال: التي قلتموها قبل؟ قلنا: نعم.

قال: فإذا قلتموها في بلاد عدوكم [نقضت سقوفهم؟ قلنا: لا.

قال: فإذا قلتموها في بلادكم] نفضت سقوفكم؟ قلنا: لا، وما رأيناها فعلت هذا، وما هو إلا شيء غبرت به.

قال: ما أحسن الصدق! فما تقولون إذا افتتحتم المدائن؟ قلنا:


#292#

نقول: لا إله إلا الله والله أكبر.

قال: تقولون: لا إله إلا الله ليس معه شيء والله أكبر، أكبر من كل شيء. قلنا: نعم.

قال: فما منعكم أن تحيوني بتحية نبيكم؟ قلنا: إن تحية نبينا لا تحل لك، وتحيتك لا تحل لنا فنحييك بها.

قال: وما تحيتكم؟ قلنا: تحية أهل الجنة.

قال: وبها كنتم تحيون نبيكم؟ قلنا: نعم.

قال: وبها كان يحييكم؟ قلنا: نعم.

قال: فمن كان يورث منكم؟ قلنا: من كان أقرب قرابة.

قال: فكذلك ملوككم؟ قلنا: نعم.

قال: فأمر لنا بنزل كثير ومنزل حسن، فمكثنا ثلاثا، ثم أرسل إلينا فدخلنا عليه وليس عنده أحد، فاستعادنا كلامنا فأعدنا عليه، فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار، ففتح منها بابا فاستخرج منها خرقة حرير سوداء، فيها صورة بيضاء، فإذا رجل طوال أكثر الناس شعرا.

فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا آدم عليه السلام.

ثم أعاده وفتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم، له شعر كشعر القبط، أعظم


#293#

الناس إليتين، أحمر العينين.

فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا نوح عليه السلام.

ثم أعاده وفتح بابا آخر، فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء.

قال: فقلنا: النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟

قال: هذا والله محمد رسول الله، فالله يعلم أنه قام ثم قعد.

قال: آلله بدينكم إنه نبيكم؟ قلنا: آلله بديننا إنه نبينا، كأنما ننظر إليه حيا.

ثم قال: أما إنه كان آخر الأبواب ولكني عجلته؛ لأنظر ما عندكم، ثم أعاده.

وفتح بابا آخر، فاستخرج خرقة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل مقلص الشفتين، غائر العينين، متراكم الأسنان، كث اللحية عابس.

فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا موسى عليه السلام إلى جنبه رجل يشبهه غير أن في عينيه قبلا وفي رأسه استدارة، فقال: هذا هارون عليه السلام.

ثم رفعها وفتح بابا آخر، فاستخرج منه خرقة سوداء فيها صورة حمراء أو بيضاء، وإذا رجل مربوع أشبه من خلف بامرأة عجيزة وخلقا، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال هذا داود عليه السلام.


#294#

ثم عاد وفتح بابا آخر، واستخرج منه حريرة أو خرقة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا رجل راكب على فرس طويل الرجلين، كل شيء منه جناح يحف الريح، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا دانيال عليه السلام.

ثم عاد وفتح بابا آخر، أخرج منه حريرة أو خرقة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا صورة شاب يعلوه صفرة، صلت الجبين حسن اللحية، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال هذا عيسى ابن مريم عليهما السلام.

ثم أعاده فأمر بالربعة فرفعت، فقلنا: هذه صورة نبينا قد عرفناها، فإنا قد رأيناها، فهذه الصورة التي لم نرها كيف نعرف أنها هي؟ قال: إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه صورة نبي نبي، فأخرج إليه صورهم في خرق الحرير من الجنة، فأصابها ذو القرنين في خزانة آدم في مغرب الشمس، فلما كان دانيال صورها هذه الصور، فهي بأعيانها، فوالله لو تطيب نفسي في الخروج عن ملكي [ما باليت] أن أكون عبدا لأشدكم ملكا، ولكن عسى أن تطيب نفسي، قال: فأحسن جائزتنا وأخرجنا.


#295#

ورواه أبو موسى المديني بطوله في كتابه "طوالات الأخبار" فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم التاجر –إذنا إن لم أسمعه- أخبرنا إبراهيم بن الهيثم بن المهلب، حدثنا عبد العزيز بن إدريس، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن هشام بن العاص رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه ورجلا آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم يدعوه إلى الإسلام.

فخرجنا حتى قدمنا الغوطة، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، وإذا هو على سرير، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا: والله لن نكلم رسوله، وإنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لم نكلمه برسول.

فرجع إليه رسوله فأخبره ذلك، فأذن لنا، فقال: تكلموا، وكلمه هشام ودعاه إلى الإسلام، وإذا عليه ثياب سواد.

فقال له هشام: ما هذه التي عليك؟

قال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كله.

قلنا: مجلسك هذا، فوالله لنأخذنه منك وملك الملك الأعظم إن شاء الله تعالى، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون النهار ويفطرون بالليل،


#296#

فكيف صومكم؟ فأخبرناه فعلا وجهه سواد، وقال: قوموا، وبعث معنا رسولا إلى الملك.

فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة، فقال الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال.

قلنا: والله لا ندخل إلا عليها.

فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون، فدخلنا على رواحلنا مقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها، وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر، والله يعلم لقد تنقضت الغرفة حتى صارت كأنها عزق تصفقه الرياح.

فأرسل إلينا وقال: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل أن ادخلوا، فدخلنا عليه، وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه، فضحك وقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم! وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام.

فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيا بها لا تحل لنا أن نحييك بها.

قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك.

قال: فكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها.

قال: فكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها.

قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فما


#297#

تكلمناها –والله أعلم- لقد تنقضت الغرفة رأسه إليها.

قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حين تنقضت الغرفة كلما قلتموها في بيوتكم تنقض بيوتكم عليكم؟ قلنا: لا، ما رأينا فعلت هذا قط إلا عندك.

قال: وددت أنكم كلما قلتم تنقض بيوتكم عليكم أو كل شيء لكم وإني خرجت من نصف ملكي. قلنا: لم؟

قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة، وأن تكون من حيل الناس.

ثم سألنا عما أراد فأخبرناه، ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا، فقمنا، فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا، فأرسل إلينا ليلا، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه، ثم جاء بشيء كالربعة العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار، عليها أبواب ففتح بيتا وقفلا، فاستخرج حريرة سوداء فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الإليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليس له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرا.

ثم فتح لنا بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخد، شارع الأنف،


#298#

أبيض اللحية، كأنه يتبسم، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إبراهيم عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وبكينا، قال: فالله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: آلله بدينكم، إنه هو؟ قلنا: نعم آلله إنه لهو، كأنما ننظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إلينا، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم؛ لأنظر ما عندكم.

ثم عاد ففتح بابا آخر، واستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء، وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر عابس، متراكب الأسنان، مقلص الشفتين، كأنه غضبان، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى بن عمران عليه السلام وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مدهان الرأس عريض الجبين، في عينه قبل، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون بن عمران عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر، واستخرج حريرة بيضاء، وإذ فيها صورة رجل آدم سبط ربعه، كأنه غضبان، حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة، أجنأ، خفيف العارضين، حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا، قلنا: لا، قال: هذا إسحاق عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة تشبه صورة إسحاق، إلا أن على شفته السفلى خالا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب عليه السلام.


#299#

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه النور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيكم صلى الله عليه وسلم.

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة، كأنها صورة آدم عليه السلام كأن وجهه الشمس، قال: هل تعرفون هذا؟ ، قلنا: لا، قال: هذا يوسف عليه السلام.

ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة فيها صورة رجل آخر حمش الساقين، أخفش العينين، ضخم البطن، ريعة، متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود عليه السلام.

ثم طواها، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الإليتين، طويل الرجلين، راكب على فرس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود عليهما السلام.

ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شاب، شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى ابن مريم عليهما السلام.

قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنا رأينا صورة نبينا صلى الله عليه وسلم مثله، فقال: إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، وكان في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعت إلى دانيال عليه السلام، يعني فصورها دانيال في خرق من حرير –فهذه بأعيانها الصور التي صورها دانيال، ثم قال: أما


#300#

والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإن كنت عبدا لشركم ملكة حتى أموت، ثم أجازنا أحسن إجازة وسرحنا.

فلما قدمنا على أبي بكر رضي الله عنه حدثناه بما رأينا وبما قال لنا وبما أخبرناه، فبكى أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل.

ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}.

حديث هشام حسن غريب، لا أعرفه إلا من الوجه الذي ذكرته.

وقد رواه أبو بكر القفال الشافعي، عن الحسن صاحب الشاشي، عن إبراهيم بن الهيثم، وقال: عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، وهشام هو أخو عمرو بن العاص، وكان أصغر من عمرو رضي الله عنهما قاله أبو موسى المديني.

وخرجه البيهقي في "الدلائل" من طريق إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة –يعني: دمشق- فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، وإذا هو على سرير، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا، والله لا نكلم رسولا، إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول.


#301#

فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا، فقال: تكلموا، فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام، وإذا عليه ثياب سواد.

فقال له هشام: ما هذه التي عليك؟

فقال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام.

قلنا: ومجلسك هذا، فوالله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. وذكر الحديث بطوله.

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" بنحو ما تقدم، وزاد فيه صفة لوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ويوسف، وقال في آخره: فلما أتينا أبا بكر رضي الله عنه حدثناه بما رأيناه وبما قال لنا وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: مسكين، لو أراد الله عز وجل به خيرا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.

وحدث به الزبير بن بكار، فقال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه عن جده، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر في نفر من الصحابة إلى ملك الروم لأدعوه إلى الإسلام، فخرجنا نسير على رواحلنا حتى قدمنا دمشق، فإذا على الشام لهرقل جبلة، فاستأذنا عليه، فأذن لنا، فلما نظر إلينا كره مكاننا، وأمر بنا فأجلسنا ناحية، وإذا هو جالس على فرش له مع


#302#

السقف، وأرسل إلينا رسولا يكلمنا ويبلغه عنا، فقلنا: والله لا نكلمه برسول أبدا.

فانطلق الرسول فأعلمه ذلك، فنزل عن تلك الفرش إلى فرش دونها، فأذن لنا، فدنونا منه، فدعوناه إلى الله وإلى الإسلام، فلم يجب إلى خير، وإذا عليه ثياب سود، فقلنا: ما هذه المسوح؟ قال: لبستها نذرا لا أنزعها حتى أخرجكم من بلادكم.

قلنا له: تبا لك، لا تعجل، أتمنع منا مجلسك هذا، فوالله لنأخذنه وملك الملك الأعظم، خبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

قال: أنتم إذن السمراء. قلنا: وما السمراء؟

قال: لستم بهم. قلنا: ومن هم؟

قال: قوم يقومون الليل ويصومون النهار. قلنا: فنحن والله نصوم النهار، ونقوم الليل.

قال: فيكف صلاتكم؟ فوصفنا له. قال: فكيف صومكم؟ فأخبرناه وسؤناه به، وسألنا عن أشياء فأخبرناه، فيعلم الله لعلا وجهه سواد حتى كأنه مسح أسود، فانتهرنا وقال لنا: قوموا.

فخرجنا وبعث معنا أدلاء إلى ملك الروم، فسرنا، فلما دنونا من القسطنطينية قالت الرسل الذين معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فأقيموا حتى نأتيكم ببغال وبراذين.

قلنا: والله لا ندخل إلا على دوابنا.

فأرسلوا إليه يعلمونه، فأرسل أن خلوا عنهم، فتقلدنا سيوفنا، وركبنا رواحلنا فاستشرف أهل القسطنطينية لنا وتعجبوا، فلما دنونا إلى الملك في غرفة له، ومعه بطارقة الروم، فلما انتهينا إلى أصل الغرفة أنخنا ونزلنا وقلنا: لا إله إلا الله، فيعلم الله لنقضت الغرفة حتى كأنها عذق نخلة


#303#

تصفقها الرياح، فإذا رسول يسعى إلينا يقول: ليس لكم أن تجهروا بدينكم على بابي.

فصعدنا، فإذا رجل شاب قد وخطه الشيب، وإذا هو فصيح بالعربية، وعليه ثياب حمر، وكل شيء في البيت أحمر، فدخلنا ولم نسلم، فتبسم، وقال: ما منعكم أن تحيوني بتحيتكم؟ قلنا: إنها لا تحل لكم.

قال: فكيف هي؟ قلنا: السلام عليكم .. وذكر الحديث بنحو ما قبله، وقصة الربعة ذات البيوت، وفيه: فاستخرج صورة بيضاء، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما ننظر إليه حيا.

فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: هذه صورة نبينا صلى الله عليه وسلم.

فقال: آلله بدينكم إنه لهو؟ قلنا: نعم، آلله بديننا إنه لهو هو،

فوثب قائما فلبس مليا قائما، ثم جلس مطرقا طويلا، ثم أقبل علينا، فقال: أما إنه في آخر البيوت، ولكني عجلته لأخبركم، وأنظر ما عندكم، وذكر بقية صور الأنبياء إلى أن قال: قلنا: أخبرنا عن هذه الصور كيف صارت عندك هكذا؟ فقد علمنا أنهم كانوا كذا؛ لأنا رأينا صورة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي؟!

قال: إن آدم سأل ربه عز وجل أن يريه أنبياء ولده، فأنزل الله عز وجل إليه صورهم، فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم، من مغرب الشمس، فصورها دانيال في خرق الحرير، فلم نزل نتوارثها ملكا بعد ملك، حتى وصلت إلي، فهذه هي بعينها.

فدعوناه إلى الإسلام، فقال: أما والله لوددت أن نفسي سخت بالخروج من ملكي واتباعكم وأني مملوك لأسوأ رجل منكم خلقا وأشده ملكة، ولكن نفسي لا تسخو بذلك. فوصلنا وأجازنا وأحسن إلينا وأذن لنا، فانصرفنا.


#304#

ورواه بطوله أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم، فقال: حدثنا عبد الكريم بن عبد الله، حدثنا علي بن الحسن، حدثنا عبد الله، حدثنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما بعث الجنود نحو الشام -يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة- فقال: أوصيكم بتقوى الله، وأمرهم بأمور، وذكر الحديث.

وفيه: فلما وصلوا إلى الشام أرسل رسولا إلى هرقل، وهو في مدينة أنطاكية، فلما وصل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنطاكية، وهم على رواحلهم وهرقل ينظر إليهم من منظرة، والقوم ينظرون إليهم وسط مدينة أنطاكية، إلى أن أناخوا رواحلهم على باب الملك، حذاء المنظرة، ثم رفعوا أصواتهم وقالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، قال: فانتقض المنظر حتى سمع الناس صوت نقضه، فأرسل إليهم هرقل: إنه ليس لكم أن تظهروا دينكم على بابي، فإن كنتم رسلا فادخلوا.

قال: فدخل إليه المسلمون، فإذا هو على سرير من ذهب مفروش بالديباج الأحمر، وجميع ما في مجلسه مفروش بالحمرة، وعليه ثياب منسوجة، وعلى رأسه تاج من ذهب يلمع من الجوهر، وإذا هو يكبر بالعربية ليس بالفصيح.

قال: فوقف المسلمون بين يديه ولم يسلموا عليه، فتبسم، ثم قال: ما منعكم أن [تحيوني بما] تحيون به ملوككم.

وكان هشام بن العاص في القوم، فقال: أيها الرجل، إن تحيتنا إنما تجوز بيننا وليس يجوز لنا أن نحييك بها.


#305#

قال هرقل: ما تحيتكم؟ فقال هشام: تحيتنا السلام.

فقال هرقل: بذلك تحيون ملوككم؟ قال: نعم، بذلك نحيي ملوكنا.

فقال هرقل: كيف يرث الميت منكم؟ فقال هشام: يرث أقرب الناس إليه.

فقال: كيف صومكم وصلاتكم؟ فوصف له هشام بن العاص ذلك.

فقال هرقل: فما أعظم كلامكم؟ فقال هشام: أعظم كلامنا: لا إله إلا الله، والله أكبر.

قال: فانتقضت القبة من سقفها، حتى فزع هرقل من ذلك، ثم رفع رأسه، فنظر إلى السقف وقال: خبروني عن هذه الكلمة، أكلما قلتموها انتقضت سقوفكم؟ قال هشام: لا، وما رأينا هذا إلا عندكم، وما نظن هذا إلا لشيء وعظت به لتعتبر.

فقال هرقل: ما أحسن الصدق وأزين الحق! ولكن خبروني عن هذه الكلمة، أتقولونها إذا أردتم أن تفتحوا المدن والحصون؟ فقال هشام: نقولها ولا نعتمد إلا عليها.

قال: فأطرق هرقل ساعة، ثم إنه راطن بعض غلمانه بالرومية، وأقبل على هشام بن العاص وأصحابه فقال: إني قد أمرت لكم بمنزل فصيروا إليه يومكم هذا.

قال: فصار هشام والمسلمون في ذلك المنزل، وأمر لهم بطعام وعلوفة ما يصلحهم، فلما كان من غد بعث إليهم فدعاهم، فدخلوا إليه، وليس في مجلسه أحد، فأمرهم بالجلوس فجلسوا، ثم دعا بشيء على مثل الصندوق الصغير إلى الطول ما هو، وفيه بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح منها بابا، وذكر الحديث بطوله ومعناه.

وقال الإمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي في


#306#

المجلس الرابع والثلاثين من "أماليه": حدثنا أبو مسلم الأصبهاني –يعني: محمد بن علي بن طلحة- أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي، حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمرو بن مسرور القواس، حدثنا علي بن محمد المصري –إملاء- حدثنا أحمد بن عمرو بن نافع، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن عمر مولى غفرة: أن عبد الملك بن مروان دخل كنيسة من بعض كنائس الشام، فنظر إلى تماثيل مصورة، فسأل عنها، فقيل له: هذه صور الأنبياء، فطفقوا يخبرونه باسم نبي من أول الأنبياء إلى عيسى.

فقال لهم: أين صورة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ليس نجعل صوره في كنائسنا.

قال: فنظر على أثر عيسى تابوتا مطبقا، فقال عبد الملك: فما تحت هذا التابوت؟ قالوا: لا ندري.

فأمر بالتابوت فكسر، فإذا تحته صورة رجلين على كل واحد منهما إزار ورداء، فقال: من هذان؟ قالوا: لا ندري، ما نعرفهما.

قال: فمن يعرفهما؟ فأخبروه بواحد من كبرائهم، فأرسل إليه فسأله، فضحك، فاستحلفه عبد الملك وعزم عليه، فقال: هذه صورة محمد نبي العرب، وهذا صاحبه إلى جنبه، وقد كنا نكره أن تعرفوا هذا.

قال عبد الملك: ومن صاحبه في كتبكم؟

قالوا: أبو بكر الصديق، وإذا مكتوب على رؤوسها، فدعوا من يقرؤه، فإذا هو كما قالوا.

قال لهم عبد الملك: فما حملكم أن غطيتموها، ولم تظهروها كغيرها؟

قال: حسدا لكم معاشر العرب.


#307#

وذكر الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه في المعجزات فقال: وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي رحمه الله قال المفسرون وأصحاب الأخبار في قوله تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} أنزل الله تابوتا على آدم صلى الله عليه وسلم فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الأنبياء كلها، وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم من ياقوتة حمراء، وإذا هو قائم يصلي، وعن يمينه الكهل المطيع، مكتوب على جبينه: أول من يتبعه من أمته أبو بكر، وعن يساره الفاروق، مكتوب على جبينه: قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ورائه ذو النورين آخذ بحجزته، مكتوب على جبينه: بار من البررة، ومن بين يديه علي بن أبي طالب، شاهر سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيد بالنصر من عند الله، وذكر بقيته بطول مع ما اختصر منه الروياني في كتابه.

وجاء هذا عن كعب الأحبار، فيما علقه أبو موسى المديني في كتابه "طوالات الأخبار" عن كعب قال: لما أدرك إبراهيم عليه السلام الوفاة جمع أولاده وهم يومئذ ستة، ودعا بتابوت ففتحه وقال: أيها الأولاد، انظروا إلى هذا التابوت، قال: فنظروا في ذلك التابوت، فرأوا بيوتا بعدد الأنبياء كلهم، وآخر الأبيات بيت محمد صلى الله عليه وسلم من ياقوتة حمراء، فإذا هو قائم يصلي، وعن يمينه الكهل المطيع أبو بكر الصديق مكتوب على جبينه: هذا أول من يتبعه من أمته، وعن يساره الفاروق عمر بن


#308#

الخطاب مكتوب على جبينه: قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ورائه ذو النورين عثمان بن عفان، آخذ بحجزته، مكتوب على جبينه ثالث الخلفاء، ومن بين يديه علي بن أبي طالب سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيد بنصر الله، وحوله عمومته الخلفاء والنقباء والكبكبة الخضراء التي أحدقت بها سلسلة، وهم أنصار الله وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم يسطع نور من حوافر دوابهم يوم القيامة مثل نور الشمس في دار الدنيا رضي الله عنهم أجمعين.

وقال سعيد بن كثير بن عفير: حدثني عبد الحميد بن كعب بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن عمرو بن الحارث بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن ناعم بن أجيل، عن كعب بن عدي قال: أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم انصرفنا إلى الحيرة، فلما نلبث أن جاءتنا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتاب أصحابي وقالوا: لو كان نبيا لم يمت، فقلت: قد مات الأنبياء قبله، وثبت على الإسلام، ثم خرجت أريد المدينة، فمررت براهب كنا لا نقطع أمرا دونه، فعجت إليه، فقلت: أخبرني عن أمر أردته لقح في صدري منه شيء.

فقال: ائت باسمك من الأسماء، فأتيت بكعب، فقال: ألقه في هذا السفر –لسفر أخرجه- فألقيت الكعب فيه، فإذا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم


#309#

كما رأيته، وإذا بموته في الحين الذي مات فيه، فاشتدت بصيرتي في الإيمان، وقدمت على أبي بكر رضي الله عنه فأعلمته وأقمت عنده، وذكر بقيته.

وحدث به ابن منده في كتابه "معرفة الصحابة" عن أحمد بن مهران الفارسي، عن عبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير، عن أبيه، وعن عبد الرحمن بن أحمد، حدثني محمد [بن] موسى المصري، عن إبراهيم بن أبي داود: أنه كان في كتاب عمرو بن الحارث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن ناعما أبا عبد الله حدثه، عن كعب بن عدي، أنه قال: كان أبي أسقف الحيرة، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قال: هل لكم أن يذهب نفر منكم إلى هذا الرجل فتسمعوا من قوله، لا يموت غدا فتقولون: لو أن سمعنا من قوله، وقد كان على حق، فاختاروا أربعة فبعثوهم.

فقلت لأبي: ألا أنطلق معهم.

قال: ما تصنع؟

قلت: أنظر، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا نجلس إليه إذا صلى الصبح، فنسمع كلامه والقرآن، ولا ينكرنا أحد، فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى مات، فقالت الأربعة: لو كان أمره حقا لم يمت، انطلقوا، فقلت لهم: كما أنتم حتى تعلموا من يقوم مكانه فينقطع هذا الأمر أو يتم، فذهبوا، ومكثت أنا لا مسلما ولا نصرانيا.


#310#

فلما بعث أبو بكر جيشا إلى اليمامة ذهبت معهم، فلما فرغوا من مسيلمة ورجعوا مررت براهب، فرقيت إليه فدارسته، فقال لي: أنصراني أنت؟ قلت: لا.

قال: فيهودي؟ قلت: لا.

قال: ما بلغ علم أحد انقطع لهذا علمك. قال: فذكرت له محمدا صلى الله عليه وسلم.

قال: نعم هو مكتوب، قلت: فأرنيه.

قال: فأخرج شعرا ثم قال: ما اسمك؟ قلت: كعب.

قال: لا أدري ما كعب، أرني شبهه.

قال: فنزلت فالتمست كعبا حتى وجدته فجئت به فقلت: هذا اسمي.

قال: نعم، فأريد أتعرف صفته ونعته، ففتح فقرأت، فعرفت صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، فوقع في قلبي الإيمان فآمنت حينئذ وأسلمت، وذكر الحديث، وفي آخره: قال كعب: لقد وجدت في الإنجيل نعته كله.

قال ابن منده: قال أبو سعيد بن يونس –يعني: شيخه عبد الرحمن بن أحمد المذكور- وهو ابن يونس بن عبد الأعلى، هكذا وجدته في الدرج الرق السرعة القديم حدثني به محمد بن موسى، عن ابن أبي داود، عن كتاب عمرو. وهذا حديث غريب، لا يعرف إلا من هذا الوجه.

وقال أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس: حدثنا محمد بن علي المصري –إملاء- حدثنا حمدان بن عمرو بن نافع، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن عمر مولى غفرة: أن عبد الملك بن مروان دخل كنيسة من بعض كنائس الشام، فنظر إلى تماثيل مصورة، فسأل عنها، فقيل له: هذه صور الأنبياء، فطفقوا يخبرونه باسم من أول الأنبياء إلى عيسى عليهم السلام تابوتا مطبقا، فقال عبد الملك: فما تحت هذا التابوت؟


#311#

قالوا: لا ندري. فأمر بالتابوت فكسر، فإذا تحته صورة رجلين على كل واحد منهما إزار ورداء.

فقال: من هذا؟ قالوا: لا ندري، ما نعرفهما.

قال: فمن يعرفهما. فأخبروه بواحد من كبرائهم، فأرسل إليه فسأله، فضحك، فاستحلفه عبد الملك وعزم عليه.

فقال: هذه صورة محمد نبي العرب، وهذا صاحبه إلى جنبه، وقد كنا نكره أن تعرفوا هذا. قال له عبد الملك: ومن صاحبه في كتابكم؟

قالوا: أبو بكر الصديق.

وإذا مكتوب على رؤوسهما كتاب فدعوا من يقرؤه، فإذا هو كما قالوا: قال لهم عبد الملك: فما حملكم على أن غطيتموها ولم تظهروها كغيرها؟

قال: حسدا لكم معاشر العرب.

وقال أبو هاشم بن ظفر: وقرأت في ترجمة الإنجيل أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لما حبس ليقتل، بعث أناسا من أصحابه إلى المسيح عليه السلام وقال: قولوا له: أنت هو الآتي أو نتوقع غيرك؟ فأجابهم عيسى عليه السلام: بأن الحق اليقين أقول لكم: إن التوراة وكتب الله يتلو بعضها بعضا بالنبوة والوحي، فأما الآن فإن شئتم فاقتلوا، فإن "إيل" مزمع أن يأتي، فمن كانت له أذنان سامعتان فليسمع.


#312#

قال ابن ظفر: هذه ترجمة اختاروها ورضوها، و"إيل" هو الله سبحانه، ومن المضاف إليه جبرائيل وميكائيل وشبه ذلك، فإنها أسماء مضافة إلى اسم الله عز وجل كعبد الله، وقد قيل إن معنى جبر: عبد، ومجيء الله كناية عن مجيء كلامه ورسوله بوحيه، كما يقال: نادى السلطان في الناس بالأمان وجمع الرعية، وفعل كذا –أي: أمر من فعل ذلك- ولم يكن بعد المسيح رسول بكتاب إلا محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن الحسين البرجلاني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن الأقرع مؤذن عمر، أن عمر مر على الأسقف، فقال: هل تجدوني في شيء من كتبكم؟

قالوا: نجد صفتكم وأعمالكم ولا نجد أسماءكم. قال: كيف تجدوني؟

قالوا: قرن من حديد. قال عمر: قرن من حديد، وماذا؟

قال: أمين شديد. فقال عمر: الله أكبر والحمد لله.

قال: والذي بعدي؟ قال: رجل صالح.

وذكر بقيته، وقد تقدم نحوه عن التوراة.

وقال البيهقي في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق قال: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا


#313#

-وهو بمكة- وقريب من ذلك من النصارى، حين ظهر خبره في الحبشة، فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله، وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا أفاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.

فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا: خيبكم الله من ركب؛ بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم، أو كما قالوا لهم.

قالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لم نأل لأنفسنا إلا خيرا.

ويقال –والله أعلم: إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} إلى قوله: {لا نبتغي الجاهلين}.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا أبو صالح المروزي، سمعت حاتم بن عطاء، سمعت خالد بن ويدة –وكان رأسا في المجوس فأسلم- قال: كان كسرى إذا ركب ركب أمامه رجلان فيقولان له: ساعة بساعة أنت عبد ولست برب، فيشير برأسه: أي نعم.


#314#

قال: فركب يوما، فقالا له ذلك، فلم يشر برأسه، فشكياه إلى صاحب شرطته وأخبراه بذلك، فركب صاحب شرطته لمعاتبته، وكان كسرى قد نام، فلما وقع صوت حوافر الدواب في سمعه استيقظ، فدخل عليه صاحب شرطته، فقال: أيقظتموني ولم تدعوني أنام، إني رأيت أنه رقي بي فوق سبع سموات، فوقفت بين يدي الله عز وجل، فإذا رجل بين يديه عليه إزار ورداء، فقال لي: سلم مفاتيح خزائن الأرض إلى هذا، ألست المأمور بكذا فلم تغير، فالآن أردت أن أقوم فأستردها منه أيقظتموني.

قال: صاحب الإزار والرداء يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتابه "المجالسة": حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب قال: قرأت في زبور داود عليه السلام ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يجوز من البحر [إلى البحر] ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وأنه يخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، ويلحس أعداؤه التراب من تحت قدميه، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد؛ لأنه يخلص المضطهد ممن هو أقوى منه، ويرأف بالضعفاء والمساكين، ويصلى عليه في كل وقت، ويبارك عليه في كل يوم، ويدوم ذكره مع ذكر الله إلى الأبد.


#315#

وقال أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي: أخبرنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه قال: وذكر وهب بن منبه في قصة داود النبي عليه الصلاة والسلام، وما أوحي إليه في الزبور: يا داود، إنه سيأتي من بعدك نبي يسمى أحمد ومحمدا صادقا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني: ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة نورهم مثل نور الأنبياء.. وذكر بقيته.

خرجه بطوله البيهقي في "الدلائل" لابن البراء.

ومما ترجموه من المزامير قوله: لترتاح البوادي وقراها، ولتصير أرض قيذار مروجا، ولتسبح سكان الكهوف، ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب، ويذيعوا تسابيحه في الجو.

قال المترجم: فمن أهل البوادي من الأمم سوى أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ومن قيذار غير ولد إسماعيل جد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن سكان الكهوف وقلل الجبال سوى العرب؟!

قال أبو هاشم محمد بن ظفر: قرأت في زبور داود عليه السلام


#316#

ما ترجمه أهل الكتاب: قال داود عليه السلام: اللهم ابعث جاعل السنة تحيا، يعلم الناس أنه بشر.

قال: فظاهر هذا الكلام ومفهومه، أن داود عليه السلام أطلعه الله عز وجل على ما سيقوله النصارى في المسيح عليه السلام : بأنه إله معبود، فدعا الله سبحانه أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيعلمهم أن المسيح بشر.

وقال غير ابن ظفر: قوله في الزبور لداود: سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه لبشر.

قال المترجمون: فهذا إخبار عن المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم قبل ظهورهما بزمن طويل، يريد: ابعث محمدا حتى يعلم الناس أن المسيح بشر، ليس إلها، وأنه ابن البشر لا ابن خالق البشر، فبعث الله هادي الأمة وكاشف الغمة؛ يبين للأمم حقيقة أمر المسيح، وأنه عبد كريم ونبي مرسل، لا كما ادعته فيه النصارى، ولا كما رمته به اليهود.

وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" قال: من بشائر داود في الزبور: "فسبحان الله الذي هيكله الصالحون يفرح إسرائيل بخالقه وبيوت صلبون من أجل أن الله اصطفى له أمة، وأعطاه النصر،


#317#

وسدد الصالحين منه بالكرامة، ليسبحوه على مضاجعهم، فيكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذوات شفرتين؛ لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود، وأشرافهم بالأغلال.

قال: ومعلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو المنتقم بها من الأمم.

وقال ابن ظفر: وفي الزبور أيضا ما ترجموه أنه قال: فاضت الرحمة على شفتيك، من أجل ذلك أبارك عليك إلى الأبد، فتقلد السيف –وفي لفظ غير ابن ظفر: فتقلد أيها الجبار بالسيف- فإن بهاءك وحمدك الغالب، واركب كلمة الحق، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، والأمم يخرون تحتك.


#318#

قال ابن ظفر: فمن هذا الذي قرنت شريعته بهيبة يمينه، وخرت الأمم تحته، هل هو إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟!

وقال المترجمون لهذا غير ابن ظفر: فليس يتقلد السيف من الأنبياء بعد داود عليه السلام سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خرت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» وقد أخبر داود أن له ناموسا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار؛ إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور، وهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة، وأمته أشداء على الكافر، رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، بخلاف الأذلاء المقهورين المستكبرين الذين يذلون لأعداء الله تعالى ويتكبرون عن قبول الحق.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن حميد بن أبي البختري، عن الشعبي قال: في مجلة إبراهيم عليه السلام: إنه كان من ولدك شعوب وشعوب، حتى يأتي النبي الأمي الذي يكون خاتم الأنبياء.

المجلة: الصحيفة.

وقال ابن سعد أيضا: حدثنا علي بن محمد، عن أبي زكريا العجلاني، عن محمد بن كعب القرظي قال: أوحى الله عز وجل إلى يعقوب عليه السلام: إني باعث من ذريتك ملوكا وأنبياء، حتى أبعث النبي الحرمي الذي تبني أمته هيكل بيت المقدس، وهو خاتم الأنبياء، واسمه أحمد صلى الله عليه وسلم.


#319#

وقال ابن ظفر: ومن ذلك ما ترجمه السريانيون من كتاب شعيا عليه السلام أنه قال: قيل لي: قم نظارا فانظر ما ترى فأخبر به، فقلت: أرى راكبين مقبلين: أحدهما على حمار، والآخر على جمل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها.

قال: فهذه بشارة صريحة بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه راكب الجمل لا محالة، ولأن ملك بابل إنما ذهب بنبوته وعلى يد أصحابه، كما أن راكب الحمار هو المسيح عليه السلام.

وما ذكر ابن ظفر من "كتاب شعيا عليه السلام": رواه أبو بكر الدينوري في كتابه "المجالسة" فقال: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب قال: قرأت في كتاب شعيا: قيل لي: قم نظارا، فانظر ما ترى حتى تخبر به، قال: أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها السحرة.

وصاحب الحمار: المسيح عليه السلام، وصاحب الجمل: محمد صلى الله عليه وسلم.

ولم تزل في إقليم بابل ملوك يعبدون الأوثان من لدن إبراهيم إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وكان سقوطه على يدي محمد صلى الله عليه وسلم.

إسناده واه.


#320#

ومما ترجموه من نبوة شعيا عليه السلام ما نصه: عبدي الذي بشرت به –وفي لفظ: سرت به نفسي أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطي أحدا، مشفح، يحمد الله حمدا جديدا، يأتي من أقصى الأرض، ويفرح البرية وسكانها، يهللون الله على كل شرف، ويكبرون الله على كل رابية، لا يضعف ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوي الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ، أثر سلطانه، على كتفه علامة النبوة.

قال بعض العلماء: لا يخفى على من له أدنى ذوق أن هذه الصفات لنبينا صلى الله عليه وسلم وأمته.

وفي كتاب شعيا أيضا: عبدي وخيرتي، ورضا نفسي، أفيض عليه روحي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته، يفتح العيون العمي، ويسمع الآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطي غيره، لا يضعف، ولا يغلب،


#321#

ولا يميل إلى اللهو، ولا يسمع في الأسواق صوته، ركن للمتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ، ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجتي، وتنقطع به المعذرة.

قالوا: فمن وجد بهذا الوصف غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟! ولو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيا جمع هذه الأوصاف كلها –وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة- سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلا.

وقد صرح به في نبوة شعيا فيما ترجموه، وهو: إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد، يا قدوس الرب، اسمك موجود من الأبد.

قال المترجمون: فهل بقي بعد ذلك لزائغ مقال، أو لطاعن مجال.

وقوله: "يا قدوس الرب": يا من طهره الرب وأخلصه واصطفاه.

وروي عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى شعيا: إني مبتعث لذلك نبيا أفتح به آذانا صما وقلوبا غلفا، وأعينا عميا، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه [بالشام]، يعفو ويصفح ويغفر، رحيما بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل


#322#

السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء والصدق طبيعته، والعفو والمغفرة والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الحمالة، وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، توحيدا لي، وإيمانا بي، وإخلاصا لي، وتصديقا لما جاءت به رسلي، وهم رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت لي، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ويصفون في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي، هم أوليائي وأنصاري، وذكر بقية الأثر مطولا.

وشعيا هو ابن راموص، ابتعثه الله نبيا في بني إسرائيل، كانوا زمانا يطيعون الله، ثم كثرت فيهم الأحداث والبدع، فابتعث الله تعالى سخاريب ملك بابل، فأقبل إليهم حتى نزل بساحتهم، فتابوا إلى الله تعالى وأنابوا، فقبل الله منهم، وسلط على عدوهم الطاعون، فأصبحوا موتى وغنمهم عسكرهم جميعهم بجميع ما فيه، ولم يفلت منهم إلا سخاريب ملكهم وخمسة نفر معه، ثم أحدثوا بعد ذلك أحداثا،


#323#

ونبذوا كتاب الله، وتنافسوا الملك، فأمر الله شعيا أن يقوم فيهم مقاما بوحيه، فلما فعل قتلوه، فسلط الله عليهم عدوهم فشردهم وأفناهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، ونزع منهم الملك والنبوة، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم الذل والصغار إلى يوم القيامة.

وشعيا هو الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ووصفه وبشر بعيسى عليه السلام، قاله أبو محمد ابن قتيبة في كتابه "المعارف".

وقال ابن ظفر: ومن كتاب حزقيل عليه السلام ما ترجموه من قصة ذكر فيها ظهور اليهود وكثرتهم وكفرانهم النعم وتشبيههم بشجرة الكرم فقال: لم تلبث تلك الكرمة أقلعت بالسخطة ورمي بها إلى الأرض، فأحرقت السمائم ثم ثمرتها، فعند ذلك غرس غرس في البدو في الأرض المهملة العطشى فخرجت من أغصانه الفاضلة نار فأكلت تلك الكرمة، حتى لم يوجد فيها قضيب.

قال ابن ظفر: فلا شك أن أرض البدو المهملة هي أرض العرب، وغرس الله الذي غرسه فيها هو محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخزى الله به اليهود. انتهى.

حزقيل هو ابن بوذي الذي أصاب قومه الطاعون فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم.


#324#

قاله ابن قتيبة في "المعارف".

وقرأت على عبد القادر بن الأرموي، أخبرتك فاطمة بنت العز إبراهيم، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا إسماعيل الخزوي، أخبرنا إسماعيل بن السمرقندي، أخبرنا عبد الدائم بن الحسن، أخبرنا عبد الوهاب الكلابي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، أخبرنا إسماعيل بن عباس، حدثنا محمد بن مهاجر الأنصاري، عن العباس بن سالم قال: مكتوب في كتاب دانيال: أبشري يا أورشلم بعباد لي يأتوك من نحو تيماء، آدم جلودهم، بيض أسنانهم، يأتزرون على أنصافهم، ويوضئون أطرافهم ويطيلون، وينتعلون النعال، أناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، أسد بالنهار.

تابعه سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شراحيل الحافظ، عن إسماعيل بن عباس، إلا أنه جعله من قول ابن مهاجر.

وجاء أن دانيال عليه السلام سأله بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها، ثم أنسيها، فقال له دانيال: رأيت أيها الملك صنما عظيما قائما بين يديك، رأسه من ذهب، وساعداه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من الحديد، ورجلاه من الخذف، فبينا أنت تتعجب منه إذ


#325#

أقبلت صخرة فدقت ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا، ثم نسفته الرياح، وذهب وتحول ذلك الحجر إنسانا عظيما ملأ الأرض، فهذا ما رأيت أيها الملك.

فقال بخت نصر: صدقت، فما تأويلها؟

قال: أنت الرأس الذي رأسه من الذهب ويقوم بعدك ولدك، وهو الذي دابته من الفضة، وهو دونك، وتقوم بعده مملكة أخرى هي دونه وهي تشبه النحاس، وبعدها مملكة قوية مثل الحديد، وأما الرجلان اللذان رأيت من خذف: مملكة ضعيفة، وأما الحجر العظيم الذي رأيته دق الصنم ففته فهو نبي يقيمه إله الأرض والسماء بشريعة قوية، فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ الأرض، ومن أمته يدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا، فهذا تعبير رؤياك أيها الملك.

ولا يخفى على من له أدنى فهم أن وصف هذا النبي منطبق على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي جاء بشريعة قوية دق بها جميع ملوك الأرض، وسلطانه دائم إلى انقضاء الدنيا.

وتقدم في حديث هشام بن العاص حين بعث رسولا إلى ملك الروم مع صاحبيه أن دانيال عليه السلام كانت عنده صورة نبينا صلى الله عليه وسلم مصورة مع صور الأنبياء.

ودانيال فتح عليه قبره في زمن عمر رضي الله عنه لما فتحت السوس.

قال علي بن يعقوب بن أبي العقب: حدثنا محمد بن خريم، حدثنا حميد –يعني ابن زنجويه- قال: قال أبو عبيد: حدثنا حسان بن عبد الله، عن السري بن يحيى، عن قتادة قال: لما فتحت السوس


#326#

وعليهم أبو موسى الأشعري وجدوا دانيال في أبزن، وإذا إلى جنبه مال موضوع من شاء أن يستقرض منه إلى أجل، فإن أتى به إلى ذلك الأجل وإلا برص، قال: فالتزمه أبو موسى وقبله، وقال: دانيال ورب الكعبة، ثم كتب في شأنه إلى عمر، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أن كفنه وحنطه وصل عليه، ثم ادفنه كما دفنت الأنبياء، وانظر ماله فاجعله في بيت مال المسلمين، قال: فكفنه في قباطي وصلى عليه ودفنه.

وحدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا هدبة بن خالد القيسي، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن مطرف بن مالك أنه شهد فتح أهل السوس إذا أسنوا استخرجوه، فاستسقوا به، وأصبنا معه ريطتي كتان، وأصبنا معه ستين جرة مختومة، ففتحنا جرة من أدناها وجرة من أوسطها وجرة من أقصاها، فوجدنا في كل جرة عشرة آلاف، قال همام: أحسبه قال: واف، وأصبنا معه ربعة فيها ثياب، وكان معنا أجير نصراني يقال له: نعيم، فقال: أتبيعوني هذه الربعة وما فيها قلنا: إن لم يكن فيها ذهب أو ورق أو كتاب، قال: فالذي فيه كتاب الله تعالى، قال: فكره الأشعري ومن عنده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع ذلك الكتاب، فمن ثم كره بيع المصاحف؛ لأن الأشعري وأصحاب الأشعري كرهوا بيع ذلك الكتاب، فبعناه الربعة بدرهمين، ووهبنا له الكتاب.

قال همام: قال قتادة: وحدثني حسان أن أول من وقع عليه رجل من بني العنبر يقال له: حرقوص، فأعطاه الأشعري الريطتين وأعطاه مائتي


#327#

درهم، ثم إن الأشعري طلب إليه أن يرد عليه الريطتين فأبى، فشققها عمائم بين أصحابه، فكتب الأشعري في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر أنه نبي الله، دعا الله عز وجل أن لا يرثه إلا المسلمون، فصل عليه وادفنه .. .. الحديث، وفيه قصة في آخره.

وجاء عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما كان في الأوس والخزرج أوصف لمحمد صلى الله عليه وسلم من أبي عامر الراهب، كان يألف اليهود ويسائلهم عن الدين ويخبرونه بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء، فأخبروه بمثل ذلك، ثم خرج إلى الشام، فسأل النصارى، فأخبروه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وأن مهاجره يثرب، فرجع أبو عامر وهو يقول: أنا على دين الحنيفية وأقام مترهبا ولبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم عليه السلام، وأنه ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لم يخرج إليه، وأقام على ما كان عليه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسده وبغى ونافق.

وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد بم بعثت؟ قال: «بالحنيفية».

قال: أنت تخلطها بغيرها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتيت بها بيضاء، أين ما كان يخبرك الأحبار من اليهود والنصارى من صفتي».

فقال: لست بالذي وصفوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كذبت».

فقال: ما كذبت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكاذب أماته الله وحيدا طريدا».

قال: آمين.

ثم رجع إلى مكة فكان مع قريش يتبع دينهم، وترك ما كان عليه، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.


#328#

$[ما روي في معرفة زيد بن عمرو بن نفيل بالنبي صلى الله عليه وسلم]$

ويروى عن عامر بن ربيعة بن مالك العدوي رضي الله عنه سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول –قبل الإسلام-: أنا أنتظر نبيا من بني إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك، قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليس تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها شرقها وغربها أطلب [الدين الصحيح] دين إبراهيم، فكل من سئل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه بمثل ما نعته، ويقولون: لم يبق نبي غيره.

قال عامر رضي الله عنه: فلما أسلمت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بقول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وترحم عليه، وقال: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا».

حدث به ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، فذكره.


#329#

وقال يونس بن بكير: عن المسعودي، عن نفيل بن هشام، عن أبيه؛ أن جده سعيد بن زيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه زيد بن عمرو، فقال: يا رسول الله إن أبي زيد بن عمرو كان كما رأيت وكما بلغك، فلو أدركك آمن بك، فاستغفر له [قال: «نعم»، فاستغفر له، وقال]: «فإنه يجيء يوم القيامة أمة وحده».

وكان فيما ذكروا يطلب الدين، فمات في طلبه، وهو ما رواه يونس عن ابن إسحاق قال: وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد أجمع على الخروج من مكة، ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم،


#330#

وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده آذنت الخطاب بن نفيل، فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول: دين إبراهيم، ويسأل عنه، ولم يزل في ذلك، فيما يزعمون، حتى أتى الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى [لقي] راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية، فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم.

فقال له الراهب: إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم بعد [أن] درس علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظلك خروج نبي يبعث بأرضك التي خرجت منها بدين إبراهيم الحنيفية، فعليك ببلادك، فإنه مبعوث الآن، وهذا زمانه.

وقد كان –يعني زيدا- شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئا منهما، فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه، وذكر بقيته.


#331#

وقد وجد ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم وشهر في مواضع كثيرة من الكتب المتقدمة لا تكاد تحصر، وأشار إلى ذلك عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة ... ولا ضير ممن خصه الله بالحب

وقد تواتر عن كثير من علماء أهل الكتاب والأحبار والرهبان: أنه صلى الله عليه وسلم موجود في كتبهم، يعرفون صفته، ويتحققون نعته، ويقرون به، ويتوقعون ظهوره، ويوصون أهاليهم بالإيمان به، فمنهم من كان ذلك سبب إسلامهم، بل أعظم سبب إسلامهم، وهؤلاء منهم من كان عنده علم بصفته صلى الله عليه وسلم، ووجده مذكورا في الكتب وكان سبب هداه، ومنهم من أخبر بذلك وثبت عنده فآمن به واتبعه، وحمل الحسد آخرين على العناد فثبتوا على الكفر وماتوا عليه.

وكان أول من نوه بذكر نبينا صلى الله عليه وسلم وشهره في الناس: أبوه إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم.


#332#

ولم يزل ذكره في الناس مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه الشريف خاتم أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم حيث قام خطيبا في بني إسرائيل فقال: {إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.

$[ما روي في ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم عند التبابعة]$

وقد وقع ذكره صلى الله عليه وسلم عند التبابعة الذين دوخوا البلاد وضمضموا ممالك العباد.

قال الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه المؤلف في المعجزات وقال محمد بن إسحاق الإمام صاحب "المغازي" رحمه الله: سار تبع الأول إلى الكعبة وأراد هدمها، وكان من الخمسة الذين لهم الدنيا بأسرها، وخرج في مائة ألف وثلاثة وثلاثين ألفا من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، فكان الناس يعظمونه في كل بلدة يدخلها، وكان معه أربعة آلاف من العلماء والحكماء، فلما قرب من مكة لم يتحرك أهل مكة له.

فغضب ودعا الوزير وقال: كيف شأن أهل هذه البلدة الذين لم يهابوني؟

فقال: إنهم قوم عرب جاهلون وإن لهم بيتا يقال له: كعبة يفتخرون بها.

فتفكر في نفسه أن يأمر بهدم البيت، حتى يسمى خربة، ويقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم، فأخذه الله في الحال بالصداع وفتح من عينيه


#333#

وأذنه وأنفه وفمه ماء منتنا؛ حتى لا يصير عنده أحد طرفة عين.

فأمر بجمع الأطباء، فعجزوا وقالوا: هذا أمر سماوي لا نقدر عليه.

فاشتد الأمر عليه وعلى الناس، فجاء واحد من العلماء إلى وزيره وقال: إن صدقني الأمير في كلامه عالجته، فأخذ بيده وحمله إلى الملك، وخلا به فقال له: هل نويت في هذا البيت شيئا؟

فذكر ما نوى.

فقال: هذا الذي بك من ذلك، إن صاحب هذا البيت قوي يعلم ما في قلبك وما في الأسرار ، فأخرج من قلبك جميع ما هممت به.

ففعل وأخلص، فشفاه الله في الحال، وآمن بالله تعالى على دين إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، وخلع على الكعبة سبعة أبواب، وهو أول من كسا البيت، ودعا أهل مملكته وأمرهم بحفظها.

وخرج إلى يثرب وهي تبعة، فيها عين ماء ولا بناء فيها أصلا، فنزل على رأس العين مع عسكره، واجتمع العلماء، ورئيسهم ذلك العالم الذي أخبره بشأن الكعبة.

فقال أربعمائة نفر من العلماء من أربعة آلاف: لا نخرج من هذا الموضع، وإن ضربهم الملك وقتلهم، وخرجوا إلى الملك وأخبروه ببيعتهم.

فقال الوزير: لم اخترتم هذا؟

قالوا: لأنا قرأنا في الكتب: أن شرف الكعبة وشرف هذا الموضع بسبب نبي، يخرج يقال له: محمد صلى الله عليه وسلم، إمام الحق، صاحب القضيب والناقة، صاحب اللواء والمنبر، صاحب قول: لا إله إلا الله، مولده بمكة، وهجرته إلى ها هنا، فطوبى لمن أدركه وآمن به، ونحن على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا.


#334#

فهم الوزير أن يقيم معهم، فجاء الوزير إلى الملك وأخبره بقولهم، وأخبره أنه يريد المقام معهم.

فتفكر الملك أن يقيم هناك سنة رجاء أن يدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس أن يبنوا أربعمائة دار، لكل واحد منهم دار، واشترى لكل واحد منهم جارية وأعتقها وزوجها منه، وأعطى كل واحد منهم عطاء جميلا، وأذن لهم أن يقيموا، ولم يأذن للوزير أن يفارقه، وكتب كتابا وختمه بالذهب، ودفعه إلى العالم الناصح، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإن لم يدركه دفعه إلى أولاده، وكان في الكتاب.

"أما بعد، يا محمد، إني آمنت بك وبكتابك الذي ينزله الله عليه، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وبشرائع الإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة".

ودفعه إلى العالم، وتركهم في ذلك الموضع، وهو مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ألف سنة، والأنصار بالمدينة من أولاد أولئك العلماء.

ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أراد كل واحد أن ينزل في داره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوا ناقتي فإنها مأمورة» فبركت في دار أبي أيوب الأنصاري، وهو من أولاد العالم الناصح.

والأنصار كانوا ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وعلموا خروجه اختاروا ثقة يقال له: أبو ليلى، ودفعوا إليه الكتاب، وأخرجوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة على طريق مكة، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبيلة بني سليم.

فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، فدعاه، فقال: «أنت أبو ليلى؟».

قال: نعم.


#335#

قال: «ومعك كتاب تبع الأكبر».

فبقي متحيرا، وقال: هذا من العجائب، ولم يعرفه، فقال: من أنت؟ فإني لا أعرف في وجهك أثر السحر، وتوهم أنه ساحر.

فقال: «أنا محمد، وعليه السلام الكثير الجزيل من يومنا هذا إلى يوم القيامة، هات الكتاب».

ففتح الرجل رحله، وكان يخفي الكتاب، فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرأه.

فلما سمع كلام تبع قال: «مرحبا بالأخ الصالح» ثلاث مرات، وأمر أبا ليلى بالانصراف إلى المدينة، فرجع وبشر القوم، فأعطاه كل واحد عطاء على وجه البشارة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

وفي هذا الخبر دلائل النبوة من خمسة أوجه: قول العالم الناصح، واختيار العلماء المقام هناك، وكتاب الملك الذي كتب إليه، وترك البعير في باب دار أبي أيوب الأنصاري، ومعرفته صلى الله عليه وسلم بأبي ليلى، وبما جاء به من الكتاب.

قاله أبو المحاسن الروياني.

وقد خرج هذا بنحوه أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" واستنكره.

وتبع الأول: هو تبع بن الأقرن، فيما قاله أبو محمد ابن قتيبة، وهو تبع بن الأقرن بن شمر يرعش ابن أفريقيس بن أبرهة بن الحارث الرائش.

قيل: هو أحد من ملك الأرض كلها شرقها وغربها، وقيل: الذي ملك


#336#

الأرض من التبابعة هو أسعد أبو كرب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقيل: تبع الأول هو زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الحارث الرائش بن عدي بن صيفي، بن سبأ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم.

وقال بعضهم: تبع الأكبر هو شمر يرعش، وقال: ملك الأرض بأسرها، وعمر ألف سنة وستين سنة، وكانت عنده علوم من علوم الدهر من ذي القرنين وموسى والخضر وسليمان، وكانت العرب تضرب به المثل، ومن شعره:

طربت وما ذاك مني طرب ... ولكن بدا لي من ذا سبب

قتلت جموعا وأفنيتها ... وفي الأرض مني لاقوا أرب

ومنها:

وسوف إذا ما اقتضاني الردى ... يلي الملك بعدي رجال قشب

ويستلب الملك من حمير ... بحوش أسود عليها رهب

وينقلب الدهر عن وجهه ... ويفحا به الرأس تحت الذنب


#337#

إلى أن يلي الملك من هاشم ... نبي أمين كريم النسب

رسول من الله أتباعه ... على الحق منا رجال غلب

فلو مد عمري إلى عمره ... لفرجت عنه جميع الكرب

وعد بعضهم الحارث الرائش من التبابعة، وجعله أولهم.

وكان الملك في ولد حمير لا يعدو ملكهم اليمن، ولا يغزو أحد منهم حتى مضت قرون، وصار الملك إلى الحارث الرائش، وبينه وبين حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان خمسة عشر أبا فيما قيل.

ولقب "الرائش"؛ لأنه أول من غزا وأدخل المغانم اليمن، وراش الناس، وكان ملكه فيما قيل مائة سنة وخمسا وعشرين سنة.

وجاء عنه أنه أري في منامه كأن السماء ربت، والأرض ربت، والنجوم تساقطت، والجبال اهتزت، فقال: ما هذا الحديث العظيم والأمر الجسيم؟

فقيل له في منامه: هذا عند مولد السيد الأعظم والنبي المكرم، صاحب البيت والحرم، جامع المحامد أحمد.

قال: أفيصير ذلك؟


#338#

قيل له: نعم، نعم ورب البيت والحرم.

فانتبه وهو قلق، فأخبر به فأري فقال له: هذا رجل سيد يظهر بدين أهل أمانة، طوبى لمن لحقه، طوبى له، وكان ذلك على خاطره، ونشره في قومه، وبشره في قومه، وبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكره في شعر له ومنه:

ويملك بعد قحطان نبي ... تقي خبتة خير لأنام

يسمى أحمدا يا ليت أني ... أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري ... بكل مدجج وبكل رام

متى يظهر فكونوا ناصريه ... ومن يلقاه يبلغه سلامي

وحدث يونس بن بكير الشيباني في "المغازي" عن محمد بن إسحاق، قال: ثم إن تبعا أقبل من مسيره الذي كان سار يجول الأرض


#339#

فيه، حتى نزل على المدينة، فنزل بوادي قناة فحفر فيها بئرا، فهي اليوم تدعى "بئر الملك".

قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود، والأوس والخزرج، فنصبوا [له] فقاتلوه، فجعلوا يقاتلونه بالنهار، فإذا أمسى أرسلوا إليه الضيافة وإلى أصحابه، فلما فعلا ذلك به ليال استحيى، فأرسل إليهم يريد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له أحيحة بن الجلاح بن حريش بن جحجبا بن كلدة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وخرج إليه من يهود بنيامين القرظي.

فقال له أحيحة: أيها الملك نحن قومك.

وقال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر أن تدخلها، لو جهدت بجميع جهدك.

قال: ولم؟

قال: لأنها منزل نبي من الأنبياء يبعثه الله من قريش.

وجاء تبعا مخبر خبره عن اليمن أنه بعث عليها نار تحرق كل ما مرت به، فخرج سريعا وخرج معه بنفر من يهود فيهم بنيامين وغيره، وهو يقول:


#340#

إني نذرت يمينا غير ذي خلف ... أن لا أجوز وبالحجاز مخلد

حتى أتاني من قريظة عالم ... حبر لعمرك في اليهود مسود

ألقى إلي نصيحة كي أزدجر ... عن قرية محجورة بمحمد

ولقد تركت بها رجالا وضعا ... للنصر ينتظرون نورا مهتدي

هكذا روي.

قال ابن إسحاق: ثم خرج يسير حتى إذا كان بالدف من جمدان من مكة على ليلتين أتاه ناس من هذيل بن مدركة، وتلك منازلهم. فقالوا: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مملوء ذهبا وياقوتا وزبرجدا تصيبه وتعطينا منه.

فقال: بلى. فقالوا: هو بيت بمكة.

فراح تبع وهو مجمع لهدم البيت، فبعث الله عليه ريحا فقفعت يديه ورجليه، وشنجت جسده، فأرسل إلى من كان معه من يهود، فقال: ويحكم ما هذا الذي أصابني؟ قالوا: أحدثت شيئا؟

قال: وما أحدثت؟ قالوا: أحدثت نفسك بشيء؟


#341#

قال: جاءني نفر من أهل هذا المنزل الذي رحنا منه، فدلوني على بيت مملوء ذهبا وياقوتا وزبرجدا، ودعوني إلى تخريبه وإصابة ما فيه على أن أعطيهم منه شيئا، فنويت لهم بذلك، فرحت وأنا مجمع لهدمه.

قال النفر الذين كانوا معه من يهود: وذلك بيت الله الحرام، ومن أراده هلك.

فقال: ويحكم فما المخرج مما دخلت فيه؟

قالوا: تحدث نفسك أن تطوف به كما يصنع به أهله، وتكسوه وتهدي له.

فحدث نفسه بذلك، فأطلقه الله عز وجل، وقال في شعره:

بالدف من جمدان فوز مصعد ... حتى أتاني من هذيل أعبد

ذكروا لي البيت وقالوا كنزه ... در وياقوت وفيه زبرجد

فأردت أمرا حال ربي دونه ... والرب يدفع عن خراب المسجد

قال: ثم سار حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فأري في المنام أن يكسو البيت، فكساه الخصف، وكان أول من كساه، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر،


#342#

ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الوصائل –وصائل اليمن- وأقام بمكة ستة أيام فيما ذكر لي، ينحر بها للناس، ويطعم من كان بها من أهلها، ويسقيهم العسل.

قال: وكان تبع فيما ذكر لي أول من كساه، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه ميتة ولا دما ولا ميلاثا –وهي المحائض- وجعل له بابا ومفتاحا، وقال تبع من الشعر:

ونحرنا في الشعب ستة آلاف ... ترى الناس نحوهن ورودا

وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضدا وبرودا

وأقمنا به من الشهر ستا ... وجعلنا له به إقليدا

وأمرنا للجرهميين خيرا ... وكانوا لحافتيه شهودا

وأمرنا أن لا نريق حوالينا ... منيا ولا دما مفصودا


#343#

ثم سرنا نؤم قصد سهيل ... قد رفعنا لواءنا معقودا

وروى الواقدي بإسناد له عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بقناة، فبعث إلى أحبار يهود، فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهود.

فقال له شامول اليهودي، وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك، إن هذا البلد يكون مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكة، اسمه أحمد، وهذه دار هجرته، وذكر أشياء من شأنه في القتال، وقال: ثم تكون العاقبة له ويظهر، فلا ينازعه هذا الأمر أحد.

قال: وما صفته؟

قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يركب البعير، ويلبس الشملة، سيفه على عاقته، لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره.

وتبع هذا المذكور في هذا الحديث: تبع بن حسان بن كليكرب بن تبع بن الأقرن، وهو تبع الأصغر آخر التبابعة، وكان مهيبا، فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، وهو جد امرئ القيس الشاعر إلى معد وملكه عليهم وسار إلى الشام وملوكها غسان فأعطته القادرة،


#344#

واعتذروا من دخولهم في النصرانية، وصار إلى ابن أخيه الحارث بن عمرو، وهو بالمشقر من ناحية هجر فأتاه قوم كانوا وقعوا إلى يثرب ممن خرج مع عمرو بن عامر مزيقياء، وحالفوا اليهود بيثرب، فشكوا اليهود، وذكروا سوء مجاورتهم ونقضهم الشرط الذي شرطوه لهم عند نزولهم ومتوا إليه بالرحم.

فأحفظه ذلك، فسار إلى يثرب ونزل في سفح أحد، وبعث إلى اليهود فقتل منهم ثلاثمائة وخمسين رجلا صبرا وأراد خرابها.

فقام إليه رجل من اليهود قد أتت له مائتان وخمسون سنة، فقال: أيها الملك، مثلك لا يقتل على الغضب، ولا يقبل قول الزور، وأمرك أعظم من أن يطير بك نزق أو يسرع بك لجاج، وإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية.

قال: ولم؟

قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل، يخرج من عند هذه البنية –يعني: البيت الحرام.

فكف تبع ومضى يريد مكة، ومعه هذا اليهودي، ورجل آخر من اليهود عالم، وهما الحبران، فأتى مكة فكسا البيت وأطعم الناس، وهو القائل:

وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضدا وبرودا


#245#

ويقول قوم: إن القائل هذا هو تبع الأوسط.

وقال أبو القاسم ابن عساكر: ويقال اسم تبع هذا حسان بن تبع بن أسعد بن كرب الحميري.

وقال ابن قتيبة في ترجمة تبع بن كليكرب بن تبع: وهو أسعد أبو كرب وهو تبع الأوسط، ويقال: إن تبعا هذا هو الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم [وقال]:

شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم

فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم

وقال: رويت أبيات تبع التي منها هذا، فيما روي عن أبي سهل بن إسماعيل، عن أبيه قال: بلغني أن شافع بن كليب الكاهن، وكان قد عمر دهرا، وأنه أراد أن يظعن إلى أهله أتى تبعا للسلام عليه.

فقال تبع: ألا تخبرنا عما بقي من علمك.

قال: بقي منه علم صادق، يفوه به لسان ناطق.

قال تبع: هل يملك أحد من العرب ملكا يواطئ ملكي؟

قال: نعم.


#346#

فوثب تبع عن فرسه واستوى جالسا، ثم قال: ومن هو؟

قال: هو رجل بار مبرور أيد منصور، صفته في الزبور، يفرج الظلماء بالنور، قد فضلت أمته في الشهور، بملكهم آخر الزمان والدهور.

قال: وما اسمه؟

قال: محمد، طوبى لقومه يوم يجيء.

قال: وممن هو؟

قال: من قصي أحد بني لؤي.

فلم يزل تبع يسأل عن شأن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اشتهر عنده، ففي ذلك يقول:

شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم

له أمة سميت في الزبور ... وأمته هي خير الأمم

رسول أمين يولي الأمين ... دوين الشريف ودون الرحم

يسود قريشا بآبائها ... معانا يقوي ونسل العجم

فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم

[فظاهرته ثم كانفته ... وجليت عن صدره كل غم][2]

ليهنئ قريشا إذا جاءها ... فجاش بها بحرها ثم جم

وفي غير هذه الرواية بعد قوله:


#347#

فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم

وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت عن صدره كل غم

وألزمت طاعته كل من ... على الأرض من عرب أو عجم

ولكن قولي له دائما ... سلام على أحمد في الأمم

وكان إيمان تبع هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بسبعمائة سنة فيما قيل.

وأسعد أبو كرب هذا ذكره ابن الكلبي في الستة الذين ملكوا الأرض كلها، فإنه قال: لم يملك الأرض كلها إلا ثلاثة أبرار وهم: سليمان وذو القرنين وتبع وهو أسعد أبو كرب، وثلاثة أشرار وهم: النمرود وبخت نصر والضحاك.

قال أبو القاسم الطبراني في معجمه "الأوسط": حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة، حدثنا أحمد بن محمد بن [أبي] بزة المكي، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم».


#348#

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا مؤمل، تفرد به ابن أبي بزة.

قال الطبراني أيضا في المعجم المذكور من طريق ابن لهيعة من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعا به: تفرد ابن لهيعة.

وخرجه أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" زادها الله شرفا: حدثني جدي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن [أبي] يحيى، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى [عن] سب أسعد الحميري، وهو تبع، وكان هو أول من كسا الكعبة.


#349#

قال أبو القاسم ابن عساكر: وتبع لقب للملك الأكبر بلغة حمير.

أنبأنا الإمام القاضي أبو المحاسن يوسف بن موسى بن محمد بن أحمد بن أبي تلين الملطي الحنفي قدم علينا دمشق قال: أنبأنا الحافظ مغلطاي بن عبد الله قليج البكجري بالقاهرة في سلخ ذي القعدة سنة ستين وسبعمائة قال: "النجاشي" اسم لكل من ملك الحبشة، ويسميه المتأخرون "الهجري"، و"خاقان" لمن ملك الترك، و"قيصر" لمن ملك الروم، و"تبع" لمن ملك اليمن، فإن ترشح للملك سمي "قيلا" و"بطليموس" لمن ملك اليونان، "والفيطون" لمن ملك اليهود، هكذا قاله ابن خرداذبه، والمعروف سالخ، ثم رأس الجالوت، و"النمرود" لمن ملك الصابئة، و"دهن" و "فغفور" لمن ملك الهند، و"فور" لمن ملك السند، و"لغيور" لمن ملك الصين، و"الهياج" لمن ملك الزنج و"غانة" أيضا، و"الأصفر" لمن ملك علوا، و"رتبيل" لمن ملك الخزر، و"كابل" لمن ملك النوبة، و"ماجد" لمن ملك الصقالبة، و"شهرمان" لمن ملك خلاط، و"الأذفرنس" لأكبر ملوك الفرنج، و"فرعون" لمن ملك مصر والشام، و"العزيز" لمن ملكهما مع الإسكندرية، ويقال: "المقوقس" و"النعمان" لمن ملك العرب من قبل العجم، و"جالوت" لمن ملك البربر.

وفي بعض ما ذكره مغلطاي نظر، ومما فاته: "كسرى" لمن ملك الفرس، كما قاله أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتاب "المسالك والممالك".


#350#

وفاته "الأفشين" لقب لمن ملك أشروسنة، وهي بلدة كبيرة بما وراء النهر بين سيحون وسمرقند.

ومما ذكر مع هؤلاء "أمير المؤمنين" في الإسلام، أول ما تسمى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قال ابن دحية: وقد كان تسمى به قبله مسيلمة الكذاب، خرجه البخاري في قصة وحشي.

ورد هذا الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح، فوجدت بخط شيخ الإسلام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله: قال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح رحمه الله: ليس كما قال، فإنه ليس فيه أكثر من أن الصائحة صاحت لما أصيب مسيلمة: وا أمير المؤمنين، ولا يلزم من ذلك تسمية أو تسميته بذلك على ما لا يخفى، والله أعلم.


#351#

$[إخبار سيف بن ذي يزن بالنبي صلى الله عليه وسلم]:$

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده: أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف ذي يزن، حدثنا عمي: أبو رحي أحمد بن خنبش بن عبد العزيز، حدثني عمي: محمد بن عبد العزيز، حدثني أبي: عبد العزيز بن عفير، حدثني أبي: عفير بن عبد العزيز، حدثني أبي: عبد العزيز بن السفر، حدثني أبي: السفر بن عفير، عن أبيه، عن أبيه زرعة بن سيف ذي يزن الحميري رضي الله عنه قال:

لما ظهر جدي سيف على الحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنيه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، فأتاه وفد قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، وأسد بن عبد العزى، ووهب بن


#352#

عبد مناف، وقصي بن عبد الدار، فدخل عليه آذنه، وهو في رأس قصر له يقال له غمدان، وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت الثقفي:

فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دار منك محلالا

واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا

تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا


#353#

قال: والملك متضمخ بالعنبر، ينطف وبيص المسك من مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران مرتد بأحدهما متزر بالآخر عن يمينه الملوك، وعن شماله الملوك وأبناء الملوك والمقاول.

فأخبر بمكانهم، فأذن لهم فدخلوا عليه، فدنا منه عبد المطلب، فاستأذن في الكلام.

فقال: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك، فقد أذنا لك.

فقال: إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلا رفيعا باذخا شامخا منيعا، وأنبتك نباتا طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أطيب موطن، وأكرم معدن، وأنت –أبيت اللعن- ملك العرب ونابها وربيعها الذي به تخصب، وأنت أيها الملك ملك العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله، وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا، لكشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.

فقال له الملك: من أنت أيها المتكلم؟

قال: أنا عبد المطلب بن هاشم.

قال: ابن أختنا؟


#354#

قال: نعم.

قال: ادنه.

ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال: مرحبا وأهلا وناقة ورحلا – فأرسلها مثلا وكان أول من تكلم بها- ومستناخا سهلا وملكا ربحلا يعطي بعض عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم، انهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجرى عليهم الأنزال.

فأقاموا على ذلك شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الانصراف، ثم إن الملك انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب: إني مفض من سر علمي أمرا لو غيرك يكن لم أبح له به، ولكن رأيتك معدنه، فأطلعتك طلعة، فليكن عندك مطويا، حتى يأذن الله عز وجل: إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة


#355#

الوفاة: للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.

[فقال عبد المطلب: أيها الملك، مثلك سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر؟

قال: إذا ولد مولود بتهامة، غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة].

فقال له عبد المطلب: لقد أبت بخير ما آب أيها الملك بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياي ما ازداد به سرورا.

فقال له الملك: هذا حينه الذي يولد أو قد ولد، اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد ولدناه مرارا، والله عز وجل باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض، تخمد به النيران، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، وتكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.

فقال له عبد المطلب: عز جارك ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك سارني بإفصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح.


#356#

فقال له ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك لجده يا عبد المطلب غير كذب.

قال: فخر عبد المطلب ساجدا.

فقال له ابن ذي يزن: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟

قال: نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، وبه شفيقا، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.

فقال له الملك: إن الذي قلت لك لكما قلت، فاحفظ ابنك، واحذر عليه من اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله عز وجل لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تداخلهم النفاسة في أن تكون لك الرئاسة، فينصبون له الحبائل، ويبتغون له الغوائل، وهم فاعلون ذلك، أو أبناؤهم، غير شك، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أجعل يثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن في يثرب دار استحكام أمره، وأهل نصرته وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات


#357#

وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب كعبه، ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك.

ثم دعا بالقوم، فأمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد سود، وعشر إماء سود، وحلتين من حلل البرود، وخمسة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوء عنبرا، ومائة من الإبل، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك.

وقال: إذا كان الحول فأتني بما يكون منه.

فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول عليه الحول.

فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني أحد منكم بجزيل عطاء الملك وإن جل، فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره.

فإذا سئل: ما هو؟

قال: سيعلم ما أقول، ولو بعد حين.

وفيه يقول أمية بن عبد شمس وفي سيرهم إلى سيف ذي يزن:

جلبنا النصح تحمله المطايا ... على أكوار أجمال ونوق


#358#

مغلغلة مرافقها تعالي ... إلى صنعاء من فج عميق

تؤم بنا ابن ذي يزن وتفري ... ذوات بطونها أم الطريق

وترعى من مخائله بروقا ... مواصلة الوميض إلى بروق

فلما وافقت صنعاء حلت ... بدار الملك والحسب العتيق

هذا الإسناد متصل مشهور من حديث أولاده بحمص وعقبهم بها.

قاله أبو عبد الله ابن منده.

ونسب شيخه إبراهيم بن عبد الله الذي ذكره يخالف الإسناد الذي ساقه، من تأمل ذلك عرفه.

وقال أبو نعيم في "الدلائل": أخبرت عن أبي الحسين علي بن إبراهيم بن عبد الله بن [محمد بن] عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن، حدثني أبي أبو يزن إبراهيم، حدثنا عمي


#359#

أحمد بن محمد أبو رحي، حدثنا عمي محمد بن عبد العزيز، وذكر الحديث بطوله.

وقد خرجه أبو بكر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان"، فقال: حدثنا علي بن حرب، حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، حدثنا عمرو بن بكر، عن أحمد بن القاسم هو: الطائي، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ظهر سيف بن ذي يزن، وذكر الحديث بطوله بنحوه.

وحدث به أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" عن أبي الحسن محمد بن علي بن محفل، حدثنا عمر بن حماد الفقيه، حدثنا عمر بن محمد بن بحير السمرقندي، حدثنا أحمد بن عبد ربه الضبي، حدثنا عبد الرحمن بن نوح بن عبيد، حدثنا عمرو بن بكر، فذكره بنحوه.

ورواه أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، عن أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي، عن عمرو بن بكر بن بكار القعنبي.


#360#

تابعهما عبد الله بن شبيب، عن عمرو.

ورواه [أبو المعمر المسدد بن علي بن][3] عبد الله الأملوكي الحمصي، عن أبي بكر أحمد بن عبد الكريم بن يعقوب الحلبي المؤدب، عن أبي عمير عدي بن أحمد ابن عبد الباقي الأذني، عن عبد الله بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن عثمان بن حليم الأزدي، عن بكر بن بكار القعنبي، عن محمد بن السائب، فذكره.

كذا قال: "بكر بن بكار" أسقط عمرا، والمعروف الأول.

ورواه أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا في كتابه: "دلائل النبوة" عن أحمد بن عباد الحميري، حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، فذكره.

ورواه عبد الواحد بن أبي عمرو الأسدي ومزروع بن الكلبي، عن الكلبي.

ورواه أبو علي أحمد بن عثمان الأزهري الأصبهاني بإسناد فيه مجهولون إلى عبد الله بن عبد الغفار، عن مقسم، عن ابن عباس، عن أبيه، عن جده عبد المطلب، فذكر القصة.

وقد علقها أبو هاشم محمد بن أبي محمد بن ظفر في كتابه:


#361#

"أنباء نجباء الأبناء" بنحوها، ثم قال: ففيها هكذا يقول أكثر الرواة أنه سيف بن ذي يزن، وقد صححت عن من أثق به أنه معدي بن كرب بن سيف بن ذي يزن.

قلت: هذا التصحيح ضعيف، فقد اشتهر وتداول بين من ذكرنا من الأئمة ومن لم نذكره منهم أن صاحب هذه القصة سيف بن ذي يزن، والله أعلم.

ذكره أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد الشيرازي في كتابه "معرفة الألقاب": سيف بن ذي يزن النعمان بن قيس.

وابنه زرعة أسلم وكتب إليه رسول [الله صلى الله عليه وسلم كتابا] .. ..

[4]

إلى جزيرة كبيرة فيها شجر عظيم، ما رأيت شجرا أكبر منه، وله ورق، تغطي الورقة الفئام من الناس، يحمل شيئا مثل النبق وليس به، أحلى من التمر، لا عجم له، ونهر في الجزيرة جار عذب شديد الجريان، فأكلت من ذلك الثمر، وشربت من ذلك الماء، وقلت: لا أبرح من هذا الموضع أو يأتي الله بالفرج أو الموت، فلما أن أمسيت وغربت الشمس، وأقبل الليل بسواده، فإذا بقائل يقول مثل الرعد في الشدة: "لا إله إلا الله، الملك الجبار، العزيز، الغفار، محمد رسول الله الحبيب المصطفى المختار،


#362#

أبو بكر الصديق صاحب الغار، عمر الفاروق مفتاح الأمصار، عثمان بن عفان حسن الجوار، علي المرضي قاصم الكفار، أصحاب محمد المنتخبين الأخيار، وقاهم الله عذاب النار، على من سبهم لعنة الله ومأواه جهنم ولبئس القرار".

قال: فانخلع لذلك قلبي: وطار نومي، ثم هدأ الصوت، فلما أن كان في وسط الليل عاد الكلام، فلما أن أصحبت وطلعت الشمس إذا أنا بصورة رأس جارية في البحر تسبح لم أر أحسن وجها منها بشعر قد جللها، وإذا أنا بالصورة تقول: "لا إله إلا الله القريب المجيب، محمد رسول الله المصطفى الحبيب، أبو بكر الصديق الرفيق السديد، عمر الفاروق قرن من حديد، عثمان بن عفان المظلوم الشهيد، علي الرضي".

ثم لم تزل تدنو مني حتى قربت وخرجت عن الماء، فإذا رأسها رأس جارية، وعنقها عنق نعامة، وبدنها بدن سمكة، وساقها ساق ثور، فقالت لي: ما دينك؟ قلت: النصرانية. فقالت: ويحك، إن الدين عند الله الإسلام الحنيفية السمحة، أسلم وإلا هلكت، إنك قد حللت بجزيرة قوم صالحين مسلمين، لا ينجو منهم إلا من كان على دين محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته وهديه وسنته.

قال: فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .. وذكر باقي القصة بنحو ما تقدم.


#363#

وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا مجالد، عن عامر قال: انتهينا إلى أفنية جهينة، فإذا شيخ جالس في بعض أفنيتهم، فجلست إليه فحدثني قال: إن رجلا منا في الجاهلية اشتكى فأغمي عليه، فسجيناه وظننا أنه قد مات، وأمرنا بحفرته أن تحفر، فبينا نحن عنده إذ جلس، فقال: إني أتيت حيث رأيتموني أغمي علي.

فقيل لي أمك هبل

ألا ترى حفرتك تنتثل

وقد كادت أمك تثكل

أرأيت إن حولناها عنك بمحول

وقذفنا فيها القصل

الذي مشى وأجزل

أتشكر لربك وتصل

وتدع سبيل من أشرك فأضل

فقلت: نعم.

فانطلقت. فانظروا ما فعل القصل؟ قالوا: مر آنفا.

فذهبوا ينظرون فوجدوه قد مات، فدفن في الحفرة، وعاش الرجل حتى أدرك الإسلام.


#364#

ورواه ابن أبي الدنيا أيضا من طريق زياد بن عبد الله عن مجالد. ومن طريق عبيد الله بن عمرو الرقي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي. فذكر نحوه وفيه: قال: وزادني الحسن بن عبد العزيز في هذا الشعر [بيتا] آخر:

أتؤمن بالنبي المرسل

وقال الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد، حدثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، عن عمر بن الحكم بن رافع بن سنان –وهو عم عبد الحميد بن جعفر- قال: حدثنا بعض عمومتي وآبائي أنهم كانت عندهم ورقة يتوارثونها في الجاهلية، حتى جاء الله بالإسلام وهي


#365#

عندهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ذكروا له وأتوه بها مكتوب فيها : "بسم الله، وقول الحق، وقول الظالمين في تباب، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان، يسبلون أطرافهم ويأتزرون على أوساطهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، وفي عاد ما أهلكوا بالريح، وفي ثمود ما أهلكوا بالصيحة، بسم الله، وقوله الحق، وقول الظالمين في تباب" كأنه استقبل قصة أخرى، قال: فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرئت عليه لما فيها.


#366#

$[ذكر ما وجد من اسمه الشريف مكتوبا في الأزل في خواتم الأنبياء والأحجار والنبات والحيوان]$

وقد وجد اسمه صلى الله عليه وسلم منقوشا على الحجارة بالخط القديم، فمن ذلك:

ما روي عن طلحة بن مصرف بن عمرو اليامي قال: وجد في البيت كتاب في صخر منقور في الهدمة الأولى، فدعي رجل، فقرأه، فإذا فيه "عبدي المنتخب المتمكن المنيب المختار، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، لا يذهب حتى يقيم السنة عوجا ويشهد أن لا إله إلا الله، أمته الحمادون يحمدون الله بكل أكمة، يأتزرون على أوساطهم، ويطهرون أطرافهم".

حدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن عبد الله بن براد أبي عامر الأشعري، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن حريش بن أبي حريش، عن طلحة.

ويروى عن معمر، عن الزهري قال: أشخصني هشام بن عبد الملك إلى الشام، فلما كنت بالبلقاء وجدت حجرا مكتوبا عليه بالخط العبراني، فطلبت من يقرؤه، فأرشدت إلى شيخ، فانطلقت به إلى الحجر، فقرأه وضحك، قلت: مم تضحك؟ قال: أمر عجيب، مكتوب على هذا


#367#

الحجر: "باسمك اللهم، جاء الحق من ربك، لسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وكتبه موسى بن عمران بخط يده، وأراني والدي –رحمه الله وعفا عنه- حجرا قبل الفتنة في الجدار القبلي من جامع دمشق بين مقصورة الخضر ومصلى الخطيب، مكتوب فيه بالبياض في السواد: "محمد" كتابة بينة من جنس الحجر، لا صنع في ذلك للبشر، واحترق ذلك الحجر في الفتنة، والله أعلم.

ويحكى أيضا: أنه وجد أيضا على الحجارة القديمة مكتوب: "محمد تقي مصلح وسيد أمين".

ذكره القاضي عياض في "الشفا".

وقال أيضا: وذكر السمنطاري –وهو فيما أظن: عتيق بن علي الصقلي، مؤلف كتاب "دليل القاصدين"- أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد، على أحد جنبيه مكتوب: "لا إله إلا الله"، وعلى الآخر: "محمد رسول الله".

وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا محمد بن علي بن خنيس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سلمة، حدثنا محمد بن زيد الأيلي، حدثنا إسماعيل بن حبيب، عن أبي عصام الوراق، عن عبد الله بن الديلمي، عن وهب بن منبه أنه قال: بينما نبيكم صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا


#368#

نائم أو شبه نائم إذ أتي بلوزة أو شبه اللوزة، ففضها فإذا فيها ورقة خضراء مكتوب فيها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ما أنصف الله من خلقه من اتهمه في قضائه، أو استبطأه في رزقه".

وقال القاضي عياض: ذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا أحمر مكتوب عليه بالأبيض: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" .

وهذا الذي ذكره القاضي عياض عن الأخباريين رواه عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، حدثنا قريش بن أنس، عن كليب أبي وائل –رجل من المطوعة-قال: رأيت ببلاد الهند وردا أحمر فيه بياض: "محمد رسول الله".

ورواه أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر بن أبان العبدي اللتباني، فقال: حدثنا أبو العباس –يعني: محمد بن موسى البصري- حدثنا قريش بن أنس، حدثنا كليب أبو وائل –إمام مسجد المسارح- قال: غزونا في صدر هذا الزمان الهند، فوقعنا في غيضة، فإذا فيها


#369#

شجر عليه ورد أحمر مكتوب فيه بالبياض: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

ووجدت بخط أبي الحسن علي بن محمد النيسابوري الميداني، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن أحمد الكشي –بقراءتي عليه بقزوين في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة- فذكر أحاديث منها:

قال –يعني: الكشي: أخبرنا أبو الفضل منصور بن نصر، حدثنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان، حدثني محمد بن يونس، حدثنا قريش بن أنس، حدثنا قرة بن خالد السدوسي، عن نجيح السدوسي قال: غزونا في صدر الزمان بلاد هند، فوقعنا في غيضة فيها شجر عليه ورد أحمر مكتوب فيه بالبياض: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

وقال أبو علي الحسن بن عبد الله بن البنا في كتابه "فيما وجد على الأبنية والأحجار من طرائف الحكم والأشعار": أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن عمر العلاف المقري رحمه الله، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن إبراهيم الفامي، حدثنا أبو الحسين محمد بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الواعظ بالبصرة، حدثنا محمد بن جمعان، حدثنا أحمد بن محمد المدني، حدثنا محمد بن عزيز، عن الفضيل بن عياض، عن ابن السائب عن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما قال: كنت قاعدا أنا وجماعة من أصحابنا نتوقع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل تام الخلق، فوقف علينا ولم يسلم، فأضحكنا، قلنا له: يا أعرابي، رأيت


#370#

النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا اليوم؟ فقال: لا، ولكن رأيت صفته.

قال ابن عباس: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فابتدر إليه الأعرابي ومعه هدية تساوي ألوفا، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصير الهدية بين يديه.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين أقبلت؟ وأين تريد؟»، قال: كنت قاصدا إليك.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتيتني منافقا أو على دين من الأديان؟» قال: بل أنا على دينك يا محمد.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فلم تسميني محمدا، والمنافقون يسموني محمدا؟» فقال له الرجل –ثم أخرج من جيبه ورقتين: إحداهما: بيضاء، والأخرى: خضراء، فقال: يا نبي الله، إني رجل تاجر، كنت أختلف إلى بلاد الهند، فدخلت إلى بعض بساتينهم، فأصبت شجرة تزهو على الشجر، فقطعت من ورقها ورقة، وهي هذه الورقة فيها مكتوب: "لا إله إلا الله –محمد رسول الله"، وأتاني خادم الحديقة بهذه الورقة الخضراء وهي ورقة الموز، فقال لي: اقرأ إن كنت تحسن أن تقرأ، فرأيت مكتوبا عليها سطرين: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، من قبل وصيته اهتدى، ومن خالف وصيته ضل وغوى .. .. " وذكر الحديث بطوله.

وقال أبو الحسن بن البنا في الكتاب المذكور: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الحافظ، حدثنا محمد بن أحمد بن حمدويه الواسطي، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم، سمعت الحسن بن إسحاق ابن يزيد العطار، سمعت عبد الرحمن بن هارون يقول: كنا


#371#

خارجين من مصر إلى أفريقية في البحر، فركدت علينا الريح، فأرسينا إلى موضع يقال له: "البرطون" ، وكان معنا صبي صقلابي يقال له: "أيمن"، وكان معه شص يصداد به السمك، قال: فاصطاد به سمكة نحوا من شبر أو أقل، قال وكان على [صنيفته اليمنى مكتوب "لا إله إلا الله" ، وعلى قذالها] صنيفة أذنها اليسرى: "محمد رسول الله"، قال: وكان أبين من نقش على حجر، وكانت السمكة بيضاء والكتاب أسود، كأنه بحبر، قال: فقد قتلها في البحر، وامتنع الناس أن يصيدوا من ذلك الموضع حتى أوغلنا.

ورواه الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه في المعجزات، فقال: أخبرنا الشيخ العالم ناصر الطوسي رحمه الله بنيسابور،

أخبرنا أبو سعيد الصيرفي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا الحسن بن إسحاق العطار ببغداد، سمعت عبد الرحمن بن هارون يقول: كنا في البحر سائرين إلى أفريقية –وذكر القصة بنحوها.

ورواها أبو بكر الخطيب في "تاريخه" عن أبي سعيد المذكور وهو: أحمد بن موسى بن الفضل الصيرفي عن الأصم.


#372#

وجاء من حديث [محمد بن] أبي السري العسقلاني، حدثنا شيخ بن أبي خالد البصري، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان نقش خاتم سليمان بن داود: لا إله إلا الله، محمد رسول الله».

حدث به أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني والقاضي أبو صالح سهل بن إسماعيل بن سهل الطرسوسي، عن أبي العباس عبد الله بن وهب الغزي، عن ابن أبي السري.

تابعه خيثمة بن سليمان ومحمد بن إدريس بن حماد الأنطاكي، عن ابن أبي السري.

ورواه الحسن بن جرير الصوري، عن محمد بن أبي السري ونوح بن الهيثم ختن آدم العسقلاني، كلاهما عن شيخ، وهو تالف متهم بالوضع، وهذا من أباطيله. وفيما ذكرناه غنية عنه.


#373#

والأخبار والآثار بما سمع من هواتف الجنان، وذبائح الأوثان، وظهر على ألسنة الأصنام: من صفة نبينا محمد –عليه أفضل الصلاة والسلام- وإرساله إلى الأنام: كثيرة لا تحصى، وغزيرة لا تستقصى، اقتصرنا منه على ما ذكرناه، واكتفينا منها بما أوردناه، وبالله نستعين لا إله سواه.


#374#

&فصل في اختيار الله تعالى له، واجتبائه وتفضيله على الخلائق واصطفائه&

قال الله عز وجل: {وربك يخلق ما يشاء ويختار}.

خلق الله عز وجل المخلوقات، واختار منها ما شاء، وفضله على ما سواه، فاختار الله عز وجل من المخلوقات ذوات الأرواح، ثم اختار من ذوات الأرواح من بني آدم، ثم اختار من بني آدم العقلاء، ثم اختار من العقلاء المؤمنين، ثم اختار من العلماء الأنبياء.

ذكر نحوه أبو الفرج ابن الجوزي.

ولما كان أنبياء الله –عليهم الصلاة والسلام- صفوة عباده وخير خلقه كلفهم القيام بحقه، واستخلصهم من أكرم العناصر، وأمدهم بأكرم الأواصر، حفظا لنسبهم من قدح، ولمنصبهم من جرح؛ لتكون النفوس لهم أوطأ والقلوب لهم أصفى، فيكون الناس إلى إجابتهم، ولأوامرهم أطوع.

قاله أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" .

والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، ثم اختار من الأنبياء، والرسل وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا –صلى الله عليهم أجمعين.

والعدد المذكور للأنبياء والرسل الذين منهم على ما هو مذكور في حديث إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه، عن جده، عن


#375#

أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر رضي الله عنه وفيه: قلت: يا رسول الله، كم الرسل والأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا»، قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير».

الحديث خرجه أحمد بن حنبل في "مسنده"، وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه"، وتقدم.

وقال أبو توبة الربيع بن نافع: حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد ابن سلام: أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني أبو أمامة- رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وخمسة عشر».


#376#

هذا من أفراد معاوية، وفيه اختصار، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «الرسل ثلاثمائة وخمسة عشر».

وقيل في عدة الرسل غير ذلك.

ثم اختار الله عز وجل من الرسل أولي العزم، وهم خمسة مذكورون جميعا في سورتي الأحزاب والشورى:

قال الله عز وجل: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}.

وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.

وقد جمعت أسماء أولي العزم الخمسة في بيت واحد، فقلت:

أولو العزم نوح والخليل بن تارح ... وموسى وعيسى والحبيب محمد

وقال بعضهم: أولو العزم: إبراهيم، ثم محمد، فموسى، فعيسى، ثم نوح.

وفي تسمية أولي العزم وعدتهم خلاف، والمذكور المشهور.


#377#

ثم اختار الله من أولي العزم الخمسة: خليله إبراهيم وحبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم، ثم اختار منهما محمدا صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حمزة الزيات، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خير ولد آدم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم.

حدث به أبو بكر المروذي عن الإمام أحمد.

وخرجه أبو سعيد أحمد بن محمد بن الأعرابي في "معجمه" فقال: أخبرنا ابن الجنيد –هو: أبو جعفر محمد بن أحمد بن الجنيد، حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا حمزة الزيات- فذكره بنحوه.

واختار الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من سائر الأمم، قال الله عز وجل: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} ومعنى {كنتم}: أنتم.

قال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": أخبرني أبو عبد الله محمد بن الصنعاني بمكة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم بن معاوية، عن


#378#

أبيه، عن جده: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل».

وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقد تابع سعيد بن إياس الجريري بهزا في روايته عن أبيه، وأتى بزيادة في المتن، أخبرناه أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا سعيد بن مسعود ح.

وأخبرنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا محمد بن مسلمة، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الجريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم أكرمهم على الله عز وجل وأفضلهم».

وخرجه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق بنحوه، وقال: هذا حديث حسن، وقد روى غير واحد هذا الحديث عن بهز بن


#379#

حكيم نحو هذا، ولم يذكروا فيه: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.

وخرجه ابن ماجة في "سننه" من حديث إسماعيل ابن علية، عن بهز بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن محمد بن هارون الروياني في مسنديهما.

وحديث بهز، عن أبيه، عن جده: صحيح. قاله علي بن المديني والإمام أحمد.


#380#

أخبرنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله الحنبلي إجازة، قال: قرأت على الشيخ علي بن إسماعيل بن عباس بن قرقين، أخبرتك زينب بنت عمر بن كندي وأنت في الخامسة، أنبأنا أحمد بن ظفر ابن الوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، أخبرنا أبو الفضل محمد بن ناصر سماعا، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر، أخبرنا محمد بن الفضل الفراء، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن خروف إملاء، حدثنا الحسن بن علي بن موسى البغدادي، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الأولين والآخرين، وينزل في ظلل من الغمام» قال: «فيكون أول ما يقضى له: نوح النبي -عليه الصلاة والسلام- وقومه، يقول الله عز وجل لقوم نوح: ماذا أجبتم؟ قال: فيقول نوح: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وسرا وعلانية فكذبوني واتهموني، فيقول الله عز وجل لقوم نوح: ماذا تقولون؟ فيقولون: ربنا ما بلغنا الرسالة، وقد كان فينا حتى خرج قرن بعد قرن، ولقد كتم الرسالة فلم يدعنا ولم ينذرنا. فيقول الله عز وجل لنوح: ماذا تقول؟ فيقول: رب، لي بينة. فيقول: أئت ببينت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيأتيني نوح، فيقول: يا محمد، أنشدك الشهادة، فإن قومي قد كذبوني عند ربي عز وجل وجحدوا» قال صلى الله عليه وسلم:«فأبعث معه ركبا من أمتي فيشهدون


#381#

له». قال: «فينطلق الرهط حتى يقفوا على الرب عز وجل، فيقول الرب عز وجل: بما تشهدون؟ فيقولون: نشهد أن نوحا قد بلغ قومه الرسالة، ودعاهم ليلا ونهارا سرا وعلانية، فكذبوه واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا. فيقول الله عز وجل لقوم نوح: ما تقولون؟ فيقولون: ربنا، وكيف يشهد هؤلاء علينا ونحن أول الأمم وهم آخر الأمم؟ فيقول الله عز وجل للرهط: أجيبوهم. فيقول الرهط: ربنا، بعثت إلينا رسولا من أنفسنا فآمنا به وصدقنا بما أنزلت عليه من الكتاب، فكان فيما أنزلت عليه: أنك أرسلت نوحا إلى قومه فبلغهم الرسالة، ودعاهم ليلا ونهارا وسرا وعلانية، فكذبوه واتهموه». قال: «فيقرؤون سورة نوح، فيقول الله عز وجل لقوم نوح: أخصمهم. فيقوموا، فما من نبي يومئذ يكذبه قومه إلا يأتيني فيسألني الشهادة فأبعث معه رهطا من أمتي يشهدون له، وأنا عليكم شهيدا» ثم قرأ: {فكيف إذا جئنا} ثم قرأ: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.


#382#

فهذه الأمة –زادها الله شرفا- اختارها الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم اختار له من أمته أصحابه، ثم اختار منهم السابقين الأولين، ثم اختار منهم المهاجرين والأنصار، ثم اختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، ثم اختار منهم العشرة المشهود لهم في الجنة، ثم اختار منهم الأربعة: أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب –رضي الله عنهم أجمعين-، ثم اختار منهم أبا بكر رضي الله عنه.

ذكر نحوه ابن الجوزي أيضا.

فظهر بهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقات مطلقا، ولا يخرج من هذا الملائكة.

قال سلطان العلماء أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي الشافعي –رحمة الله عليه- في الإملاء الذي سماه: "بداية السول فيما سنح من تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم"، فيما أنبأنا به أبو المحاسن يوسف بن عثمان بن عمر بن مسلم العوفي وغيره، قالوا: أخبرنا الإمام أبو أحمد إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر المكي كتابة منها، قال: أنبأنا العلامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي قال: وكما فضله الله تعالى على أنبيائه ورسله –صلواته وسلامه عليهم- من البشر، فكذا فضله على من اصطفاه من رسله من أهل السماء وملائكته؛ لأن أفاضل البشر أفضل من الملائكة؛ لقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}. والملائكة من جملة البرية؛ لأن {البرية}: الخليقة مأخوذة من "برأ الله الخلق" أي: اخترعه وأوجده.


#383#

ولا تدخل الملائكة في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ (لأن هذا اللفظ مختص) بمن آمن من البشر، بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام عند الإطلاق.

فإن قيل: {البرية} مأخوذة من "البرى" وهو: التراب، والبشر مخلوقون من التراب، فكأنه قال: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البشر؟

فالجواب: من وجهين:

أحدهما: أن أئمة اللغة قد عدوا "البرية" في جملة ما ترك العرب الهمزة.

قلت: ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "غريب الحديث" عن أبي عبيدة قال: ثلاثة أحرف تركت العرب فيها الهمز وأصلها الهمز:

"البرية": الخلق، هم من "برأ الله الخلق".

و"النبي": وأصله من "النبأ"، و"قد نبأته": أخبرته.

و"الخابية" وأصلها الهمزة من "خبأت".

قال: وقال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب يهمزون "النبيء" و"البريئة"، وذلك أنهم يشبعون الكلام.


#384#

وقد صرح أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن" بأن "البرية" وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة وأصلها الهمز، قال: وأكثر القراءة والكلام: "البرية" بغير همز، وقد قرأ قوم بالهمزـ والاختيار ما عليه الجمهور.

وهو ترك الهمز فيها.

وقال مرة في "النبيين" و"الأنبياء" و"البرية": والأجود ترك الهمز.

وقال أبو عبيد الهروي: والعرب تترك الهمز في خمسة أحرف:

-"البرية"، وأصلها: برأت.

-و"النبوة" وأصلها: أنبأت.

-و"الذرية" وأصلها: ذرأت.

-و"الروية" وأصلها: روأت.

-والخابية" وأصلها: خبأت.

قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام: "والوجه الثاني وهو الأظهر:


#385#

أن نافعا قرأ بالهمز، وكلا القراءتين كلام الله، فإن كانت إحدى القراءتين قد فضلت {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} على سائر البشرية، فقد فضلتهم الأخرى على سائر الخلق".

قلت: وجاء عن معمر بن سهل الأهوازي، حدثنا عبيد الله بن تمام، عن خالد الحذاء، عن بشر بن شغاف، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شيء أكرم على الله من ابن آدم» قيل: يا رسول الله، ولا الملائكة؟ قال: «ولا الملائكة؛ الملائكة مجبورون مثل الشمس والقمر».


#386#

وقال وكيع بن الجراح في كتابه في "الزهد": حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.

وقد جاء مرفوعا فيما قال خيثمة بن سليمان، حدثنا أحمد بن محمد بن أبي الخناجر، حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من قتل رجل مؤمن، والمؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده».

وخرج أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم الهمداني في كتابه


#387#

"بهجة الأسرار" من طريق ابن وهب، أخبرنا ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتعجبون من منزلة الملائكة عند الله تعالى؟! فوالذي نفس محمد بيده، لمنزلة المؤمن عند الله تعالى أعظم من تلك، أقرؤوا إن شئتم: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية}.

ووجدت بخط الحافظ أبي علي البرداني مسألة عزيزة ذكر فيها أن الأولياء أفضل من الملائكة، وذكر أدلة ذلك من الكتاب والسنة، وذكر أقوال المخالفين والرد عليهم، صدر المسألة بقوله: الأنبياء أفضل من الملائكة المقربين، وكذلك الأولياء من المؤمنين، خلافا للمعتزلة.


#388#

وذكر بقية المسألة.

قال ابن عبد السلام: وإذا ثبت أن أفاضل البشر أفضل من الملائكة، فالأنبياء أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بدليل قوله تعالى بعد ذكر جماعة من الأنبياء: {وكلا فضلنا على العالمين}، فدلت هذه الآية على أنهم أفضل من البشر وأفضل من الملائكة؛ لأن الملائكة من العالمين، سواء كان مشتقا من "العلم" أو من "العلامة"، وإذا كانت الأنبياء أفضل من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء، فقد ساد سادات الملائكة [فصار أفضل من الملائكة] بدرجتين، وأعلى منهم برتبتين، لا يعلم قدر تلك الرتبتين، وشرف تلك الدرجتين إلا من فضل خاتم النبيين وسيد المرسلين على جميع العالمين. انتهى.


#389#

$[بعض الأحاديث الواردة في فضل النبي صلى الله عليه وسلم]$

وقد وردت أحاديث في فضائل نبينا صلى الله عليه وسلم وخصائصه يشق حصرها ويطول سردها، فمنها ما صح من حديث أبي هانئ حميد بن هانئ الخولاني المصري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي وهو عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء».

ومن جملة ما كتب في هذا الذكر وهي أم الكتاب: إن محمدا خاتم النبيين.

خرجه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن يزيد عن ابن هانئ نحوه.

وقال ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": وأخبرنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».


#390#

وخرجه الترمذي لمحمد بن مصعب وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

وخرجه أيضا من حديث الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثني شداد أبو عمار، حدثني واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وهو في "صحيح مسلم" للوليد عن الأوزاعي عن أبي عمار شداد عن واثلة –بمثله.

وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" للوليد بن مسلم، وزاد بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «واصطفاني من بني هاشم»: «فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع ومشفع».

وخرجه البخاري دون الزيادة التي في رواية ابن حبان في أول "تاريخه الكبير" فقال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم وشعيب بن إسحاق قالا: حدثنا الأوزاعي .. فذكره.


#391#

وحدث به الترمذي عن البخاري دون ذكر شعيب بن إسحاق.

وهو في "تاريخه الصغير".

وحدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا يزيد بن يوسف عن الأوزاعي .. فذكره.

تابعه أبو يعلى الموصلي عن منصور.

وممن رواه عن الأوزاعي: بشر بن بكر.

وواثلة رضي الله عنه كنيته: أبو الأسقع، كذا كناه مكحول فيما رواه معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول قال: دخلت على واثلة بن الأسقع، فقلت: يا أبا الأسقع حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر باقيه.

وكذلك كناه يونس بن ميسرة بن حلبس الجبلاني في أحد الطريقين، وكذلك كناه غيرهما.

وذكره كذلك الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج في كتابه "الكنى"، وأبو يوسف يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، وغير


#392#

واحد غيرهما.

وقيل: كنيته "أبو شداد" كناه أبو بكر ابن أبي عاصم في كتابه "الآحاد والمثاني" وقال: حدثنا الحسن بن علي، حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا روح بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لقيت واثلة بن الأسقع فسلمت عليه، فقلت: كيف أنت يا أبا شداد أصلحك الله؟ قال: بخير يا ابن أخي.

ويقال: كنيته: "أبو قرصافة"، قال البخاري في "تاريخه الكبير": ولا يصح، وقال في "تاريخه الصغير": كنيته "أبو قرصافة" وهو وهم، وإنما اسم أبي قرصافة: جندرة بن خيشنة.

الذي كنى عنه البخاري بقوله: "وقال بعضهم": هو خليفة بن خياط، والله أعلم، لأن موسى بن زكريا التستري قال: حدثنا خليفة بن خياط قال: واثلة بن الأسقع يكنى "أبا قرصافة".

وحدث شعبة عن أبي الفيض قال: فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع.


#393#

وقال أبو أحمد محمود بن غيلان في "تاريخه": سمعت أبا داود يقول عن شعبة بن محمد بن صاعد، عن عبيد الله بن موسى بن هارون البصري، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا عوف، عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اختار العرب، فاختار منهم كنانة –أو: النضر بن كنانة- ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم».

وحدث يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن سليمان بن حرب والحجاج بن منهال، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى اختار العرب، ثم اختار منهم كنانة –أو النضر بن كنانة-، ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم، [ثم اختارني من بني هاشم]».

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو النضر هاشم، عن ورقاء بن عمر اليشكري، عن عمرو ابن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اختار من الناس العرب، واختار


#394#

من العرب هذا الحي من مضر ولد النضر، واختار من ولد النضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم».

وحدث ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، حدثنا العلاء بن خالد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اختار العرب، ثم اختار من العرب كنانة، واختار من كنانة قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم».

وخرج من حديث أبي بكر بن عياش، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير العرب مضر، وخير مضر بنو عبد مناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترقا مذ خلق الله آدم إلا كنت من خيرهما".

وقال أبو ضمرة: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قسم الله الأرض نصفين، فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب».


#395#

هذا حديث مرسل.

وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي: وحدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح: أن عمرو بن قيس، حدثه أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اختار الله –تبارك وتعالى- من الناس العرب، واختار من العرب كنانة، واختار من كنانة النضر، واختار من النضر عبد مناف، واختار من بني عبد مناف هاشما، واختار من هاشم عبد المطلب، واختار من عبد المطلب عبد الله، واختار من عبد الله محمدا».

وما أحسن قول أبي طالب في هذا المعنى! كأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة الحسنى:

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها

وإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها

وقد ألم بهذا المعنى على التمام حسان بن ثابت شاعر الإسلام فقال:


#396#

لله فيما قد برأ وصفوة ... الصفوة الخلق بنو هاشم

صفوة الصفوة من هاشم ... محمد النور أبو القاسم

وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثني عيسى بن محمد، حدثنا بهلول، عن موسى بن عبيدة، حدثني عمرو بن عبد الله بن نوفل -من بني عدي بن كعب-، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال جبريل عليه السلام قلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد رجلا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم».

تابعه بكار بن عبد الله بن عبيدة الربذي، عن موسى بن عبيدة.


#397#

خرجه الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي في "شرح السنة" من حديث الحسن بن إسرائيل –وهو: النهرتيري-، حدثنا بكار بن عبد الله بن عييدة الربذي، عن عمه موسى بن عبيدة، أخبرني عمرو بن عبد الله بن المؤمل الجحدري، عن محمد بن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام: قال: قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم.

حدث به أبو نعيم في "الدلائل"، عن الحسن بن إسرائيل هذا.

تابعه أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي، [وذلك] فيما أخبرنا المسند الكبير أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي، حدثنا الحافظ أبو محمد القاسم بن محمد الإشبيلي من لفظه.

أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي وأبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد


#398#

المقدسي وأبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصوري، قالوا: أخبرنا أبو الفتوح داود بن أحمد بن محمد الوكيل، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبيد الله بن الرطبي ح.

وقال الواسطي والمقدسي أيضا: أخبرنا أبو علي الحسن بن إسحاق بن الجواليقي ح.

وأخبرنا أبو هريرة، أخبرنا أبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن أبي عبد الله بن المقر البغدادي وأبو الحسين محمد بن أحمد القطيعي ومحمد بن عبد الواحد بن المتوكل –قراءة على الأول وأنا شاهد في سادس عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وإجازة من الآخرين-، قالوا وابن الجواليقي: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبيد الله محمد بن الزاغوني، قال ابن المقر والقطيعي وابن المتوكل إجازة، وقال ابن الجواليقي: سماعا، زاد ابن المقر فقال: وأنبأنا أبو القاسم نصر بن نصر بن علي العكبري، قال هو وابن الرطبي وابن الزاغوني: أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن البري –هو: البندار، قراءة عليه ونحن نسمع- أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن الذهبي، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا الحسن بن إسرائيل، حدثنا بكار بن عبد الله بن عبيدة الربذي، عن عمه موسى بن عبيدة الربذي، أخبرني عمرو بن عبد الله بن المؤمل الجحدري، عن محمد بن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام قال: قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم.


#399#

ورواه يزيد بن عمرو الغنوي، حدثنا محمد بن يوسف الباهلي، حدثني أبي، عن يزيد بن أبي زياد، عن الزهري نحوه.

وهو في كتاب "السنة" لأبي بكر ابن أبي عاصم، و"المستدرك" للحاكم.

وخرجه أبو عبيد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتابه "نوادر الأصول" بزيادة، ولفظه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله عز وجل بعثني فطفت شرق الأرض وغربها، وسهلها وجبلها، فلم أر حيا خيرا من العرب، ثم أمرني فطفت في العرب، فلم أجد حيا خيرا من مضر، ثم أمرني فطفت في مضر، فلم أجد حيا خيرا من كنانة، ثم أمرني فطفت في كنانة، فلم أجد حيا خيرا من قريش، ثم أمرني فطفت في قريش، فلم أجد حيا خيرا من بني هاشم، ثم أمرني أن أختار من أنفسهم، فلم أجد فيهم نفسا خيرا من نفسك».

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا الحميدي، حدثنا محمد بن طلحة التيمي، حدثني عبد الرحمن بن سالم، عن أبيه، عن جده عويم بن ساعدة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «إن الله –تبارك وتعالى- اختارني واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا،


#400#

فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منهم يوم القيامة صرف ولا عدل».

وخرجه الحاكم في "مستدركه" للحميدي: حدثنا محمد بن طلحة التيمي، حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، عن أبيه، عن جده، عن عويم بن ساعدة .. فذكره وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وهو في كتاب "الحلية" لأبي نعيم من طريق الحميدي.

وقال أبو بكر بن عياش: حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وخصه –أو قال: بعثه- برسالة.

الأثر خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" لأبي بكر بن عياش.

وحدث به أحمد في "مسنده" عن أبي بكر هو: ابن عياش.

ورواه أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه "اتباع السنن والآثار" فقال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، فذكره بكماله.


#401#

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا أبو بكر بن عياش. فذكره بكماله.

[وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم ومحمد بن يزيد. فذكره].

وحدث به أبو الحسن محمد بن حامد بن السري –خال ولد السني- في كتابه "السنة" عن الحسن بن عرفة، عن أبي بكر بن عياش.

تابعه سفيان بن عيينة عن عاصم.

ورواه أيضا الطبراني وأبو نعيم في كتابه "الحلية" من طريق عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتدبه وانتخبه بعلمه، وذكر بقيته.

تابعه حمزة الزيات، عن عاصم ، عن أبي وائل.


#402#

خالفهم نصير بن [أبي] الأشعث، فرواه عن عاصم عن المسيب بن رافع ومسلم بن صبيح، عن عبد الله.

ورواه عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن شقيق عن عبد الله.

خالفه سفيان بن عيينة، فرواه عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الله.

وخرج أحمد بن عبد الله الحافظ أبو نعيم من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس بن عبد المطلب: قلت: يا رسول الله، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم وأنسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة نبتت في كبوة من الأرض. قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إن الله عز وجل حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم حين خلق القبائل جعلني من خير قبيلتهم، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم من حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم أبا وخيرهم نفسا».


#403#

قال أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين" في حديث العباس هذا: قال شمر: لم نسمع (الكبوة)، ولكن سمعنا (الكبا) و(الكبة) وهي: الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت.

وقال غيره: (الكبة) من الأسماء الناقصة، أصلها (كبوة) مثل (القلة) أصلها (قلوة)، و(ثبة) أصلها (ثبوة)، ويقال للربوة: كبوة.

وقال أبو بكر: (الكبا) جمع (كبة) وهي: البعر، ويقال: هي المزبلة. ويقال في جمع (كبة) و (لغة): (لغين) و(كبين). انتهى.

والحديث خرجه الترمذي من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بنحوه، وحسنه.

وخرجه مرة من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه سمع شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: «من أنا؟» فقالوا: أنت رسول الله –عليك السلام قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا».


#404#

حسنه الترمذي.

وخرجه أبو نعيم أيضا من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه: أن أناسا من الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نسمع من قومك، حتى يقول القائل منهم: إنما مثل محمد مثل نخلة نبتت في كبا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، من أنا:؟» قالوا: أنت رسول الله –عليك السلام-. قال: «أنا محمد بن عبد المطلب». قال: فما سمعته انتمى قبلها وبعدها قط، ثم قال: «ألا إن الله خلق خلقه ثم فرقهم فرقتين، فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا».

تابعه عبد الرحمن بن يونس، عن ابن فضيل، إلا أنه قال: عن عبد المطلب بن ربيعة.


#405#

وخرجه أيضا من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث ابن عبد المطلب، عن عبد المطلب بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب بنحوه.

وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي صحابي تحول إلى دمشق فنزلها ومات بها. قاله مصعب الزبيري.

وفي ترجمة عبد المطلب هذا خرج الحديث أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا جرير، عن يزيد ابن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق، فجعلني من خير خلقه، ثم جعلهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم بيوتا فجعلني من خيرهم بيتا».


#406#

وخرج الحاكم في "المستدرك" فقال: حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمري، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن واقد الصفار، حدثنا محمد بن ذكوان –خال ولد حماد بن زيد-، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنا لبفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت امرأة، فقال رجل من القوم: هذه ابنة محمد صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان: إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «ما بال أقوال تبلغني عن أقوام ؟! إن الله –تبارك وتعالى- خلق السموات سبعا، فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم».

قال الحاكم: وقد قيل في هذا الإسناد عن محمد بن ذكوان، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر. حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ومحمد بن أحمد بن أنس القرشي،


#407#

قالا: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا يزيد بن عوانة، عن محمد بن ذكوان.

قال عبد الله بن بكر: ولا أحسب محمدا إلا قد حدثنيه عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينا نحن جلوس بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بتمامه نحوه.

وخرجه الحافظ أبو نعيم في "الدلائل" من حديث عبد الله بن بكر السهمي وحماد بن واقد الصفار، قالا: حدثنا محمد بن ذكوان، عن عمرو بن دينار، عن [ابن] عمر رضي الله عنهما مرفوعا بنحوه.

وقال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد المهرجاني، حدثنا عبد العزيز بن معاوية، حدثنا أبو سفيان زياد بن سهل الحارثي، حدثنا عمارة بن مهران المعولي، حدثنا


#408#

عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق اختار العرب، ثم اختار من العرب قريشا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم، فأنا خيرة من خيرة».

قال الحاكم بعد أن ذكر عقب هذا روايته الحديث من طريق محمد بن ذكوان عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، فقال: قد صحت الرواية عن عمرو بن دينار، فإن كان عن سالم فهو غريب صحيح، وإن كان عن ابن عمر فقد سمع عمرو بن دينار من ابن عمر.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": وأخبرنا عارم بن الفضل السدوسي ويونس بن محمد المؤدب، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اختار العرب، فاختار منهم كنانة –أو النضر بن كنانة- ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم».

وحدث به يعقوب بن سفيان، عن سليمان بن حرب والحجاج بن منهال، قالا: حدثنا حماد بن زيد. فذكره مرسلا كذلك.

وقال ابن سعد: حدثنا أبو ضمرة المديني أنس بن عياض الليثي، حدثني جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قسم الله الأرض نصفين، فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة، فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني


#409#

هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب».

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث الحماني يحيى بن عبد الحميد، أخبرنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله: {وأصحاب اليمين} {وأصحاب الشمال}، فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين بيوتا، فجعلني في خيرهما بيتا، وذلك قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة . وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة . والسابقون السابقون}، فأنا من خير السابقين، ثم جعل البيوت قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، فذلك قوله تعالى: {شعوبا وقبائل}، فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله عز وجل ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا، فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله تعالى: {ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}».

وخرجه الحافظ أبو نعيم والبيهقي في كتابيهما "الدلائل" للحماني.


#410#

وحدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن يحيى بن عبد الحميد –هو: الحماني- بنحوه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا فخر»، الفخر: إظهار المكارم والمآثر، قيل: ولما كان من عادة من ذكر مناقب أن يذكرها افتخارا في الغالب، أراد صلى الله عليه وسلم أن يقطع وهم من يتوهم من الجهلة أنه ذكر ذلك افتخارا فقال: «ولا فخر».

وقد جاء التصريح بمعناه، وذلك فيما قال عبد بن حميد في "مسنده": حدثني ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد ومقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا –ولا أقوله فخرا-: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأحل لي المغنم ولا يحل لأحد قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتي إلى يوم القيامة وهي –إن شاء الله- نائلة لمن لم يشرك بالله شيئا».

وقيل: معنى «ولا فخر»، أي: لا أقوله من تلقاء نفسي فيكون افتخارا، وإنما أقوله بأمر، فيكون عبودية وائتمارا.

وقيل: «لا فخر» لأن من افتخر بشيء كان ابتداء افتخاره النظر إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان منهيا عن النظر إلى ما دون الحق سبحانه، لأن من نظر إلى شيء سكن إليه، والساكن إلى أمر محجوب عن غيره.

وقيل: معناه: لا فخر لي بهذه الأشياء، بل لها الفخر بي، وفخري بربي، فأنا أفتخر به لا بغيره.


#411#

وقد روي عن أبي محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري، قال: سئل الجنيد عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» قال: فقال لي الجنيد رضي الله عنه: هات، أيش وقع لك في هذا؟ فقلت: يعني بقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي: هذا إعطاؤه، وأنا لا أفتخر بالعطاء، لأن فخري بالمعطي. فقال لي الجنيد: أحسنت يا أبا محمد.

ومن الأحاديث الواردة في تفضيله صلى الله عليه وسلم: ما قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد الناس يوم القيامة، أنا سيد الناس يوم القيامة، أنا سيد الناس يوم القيامة» ثلاثا.

وله شاهد من حديث أنس وحذيفة وابن عباس وجماعة.

وقال أبو بكر سعيد بن يعقوب الطالقاني: حدثنا النضر بن شميل، أخبرنا أبو نعامة، حدثنا أبو هنيدة البراء بن نوفل، عن والان العدوي، عن حذيفة، عن أبي بكر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:


#412#

«فيقول عيسى: انطلقوا إلى سيد ولد آدم، انطلقوا إلى محمد».

وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن صالح، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر».

تابعه بكر بن مضر عن جعفر نحوه، وخرجه الدارمي في "مسنده".

وفي "جامع الترمذي" من حديث زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر».

خرجه ابن ماجه في "سننه" من حديث عبيد الله بن عمرو الرقي،


#413#

عن عبد الله بن محمد بن عقيل به.

وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث منصور بن أبي الأسود عن ليث، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولهم خروجا إذا بعثوا، وقائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا شافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الكرامة ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف علي ألف خادم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور».

وهو في "مسند الدارمي" لمنصور.

وخرجه الترمذي من حديث عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، ولا فخر».

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وخرجه البيهقي وغيره من الأئمة.


#414#

ورواه محمد بن فضيل، عن ليث، عن عبيد الله بن زحر، عن الربيع.

تابعه حيان بن علي العنزي عن ليث –وهو ابن أبي سليم- عن عبيد الله بن زحر، عن الربيع.

حدث به أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي في "معجمه" عن خلف ابن هشام البزاز، قال: حدثنا حبان بن علي العنزي. فذكره.

ورواه خلف بن هشام أيضا فقال: حدثنا عبيس بن ميمون، عن عسل بن سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.

و"عبيس" و"عسل" واهيان.

وفي كتاب "السنة" لأبي بكر بن [أبي] عاصم من حديث الطفيل ابن أبي عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين كلهم وخطيبهم وصاحب شفاعتهم، ولا فخر».

رواه عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل.

وفي بعض طرقه: عن أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

«إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر».


#415#

وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر، وما من نبي يومئذ –آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر»، قال الترمذي: وفي الحديث قصة، وهذا حديث حسن.

وقال محمد بن أيوب بن الضريس، حدثنا عبد الرحمن –هو ابن مبارك- حدثنا الفضيل بن سليمان النميري، حدثنا موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد ابن أخي عبادة بن الصامت، عن عبادة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لسيد الناس يوم القيامة غير فخر ولا رياء، وما من الناس من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، فأمشي ويمشي الناس معي، حتى آتي باب الجنة فأستفتح، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد. فيقول: مرحبا بمحمد. فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شكرا له، فيقول: ارفع


#416#

رأسك، قل تعط، واشفع تشفع» قال: «فيخرج من النار من قد احترق؛ برحمة الله وبشفاعتي».

إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت لم يدرك جد أبيه عبادة، وله في "سنن ابن ماجه" ستة أحاديث بهذا الإسناد –إسناد الفضيل إليه- ليس هذا الحديث منها.

وقال الليث: حدثني يزيد –هو ابن عبد الله بن الهاد- عن عمرو ابن أبي عمرو، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة، ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وآتي باب الجنة وآخذ بحلقتها، فيقولون: من هذا؟ فأقول: أنا محمد فيفتحون لي، فأدخل فأجد الجبار عز وجل مستقبلي، فأسجد له، فيقول: ارفع رأسك يا محمد، تكلم يسمع منك، وقل يقبل منك، واشفع تشفع». وذكر الحديث في الشفاعة.

خرجه الدارمي في "مسنده" من حديث الليث.

وهو في "مسند أحمد بن حنبل" و"سنن النسائي" لليث.


#417#

وقال البزار في "مسنده": حدثنا محمد بن صدران، حدثنا مبارك مولى عبد العزيز بن صهيب، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة، ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة، آدم فمن دونه تحت لوائي، آتي ربي عز وجل، فيقال لي: من؟ فأقول: أحمد. فيفتح لي، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، فأحمده بمحامد لم يحمدها أحد قبلي ولا بعدي، يلهمنيها ربي عز وجل».

قال البزار: و"مبارك" يروي عن مولاه عبد العزيز أحاديث أكثرها تروى عن غير أنس. انتهى.

وهو مبارك بن سحيم، له مشيخة معروفة عن عبد العزيز بن صهيب، قال البخاري، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان: منكر الحديث. زاد أبو زرعة: واهي الحديث، ما أعرف له حديثا صحيحا.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا علي بن زيد، عن أبي نضرة قال: خطبنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على منبر البصرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه ولا فخر».


#418#

تابعه سليمان بن حرب، عن حماد.

ورواه أبو النعمان عارم، عن حماد مختصرا.

ورواه هشيم وسفيان بن عيينة، عن علي بن زيد وهو ابن جدعان.

وروينا من حديث خلف بن خليفة، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: بلغني أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا سيد العرب. فقال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم، وأبوك سيد كهول أهل العرب، وعلي سيد شباب أهل العرب».

وقال أبو صالح أحمد بن منصور زاج الحنظلي: حدثنا عبد الله بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من تنشق عنه الأرض أنا، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع فينشق عنهم، ثم أنتظر أهل مكة فينشق، فأبعث بينهما».

وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى يحشروا بين الحرمين».

وقال المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا أبو موسى الفروي بالمدينة –يعني: هارون بن موسى- حدثنا عبد الله بن


#419#

نافع، عن عاصم بن عمر، عن أبي بكر بن محمد بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه.

فذكره مرفوعا بنحوه.

وخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من حديث سريج بن النعمان، حدثنا عبد الله بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم يأتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين الحرمين».

هكذا قال "عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عمر"، وإنما هو أبو بكر ابن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

خرجه على الصواب المفضل بن علي الجندي في كتابه "فضائل مكة" فقال: حدثنا أبو موسى الفروي، حدثنا عبد الله بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، عن سالم، عن أبيه. فذكره مرفوعا بنحوه.

وخرجه أبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي في "مسنده" فقال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا القداح، أخبرني القاسم بن عبد الله ابن عمر، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبعث يوم القيامة بين أبي بكر وعمر، ثم أذهب


#420#

إلى أهل البقيع الغرقد فيبعثوا معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى يأتوني، فأبعث بين أهل الحرمين».

وروي عن عبد الله بن أبي عمر وإبراهيم الغفاري، حدثنا عبد الله بن عمر ومالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبعث يوم القيامة بين أبي بكر وعمر، حتى أقف بين الحرمين: المدينة ومكة».

وهذا منكر، والأول أشبه.

وحدث أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن الأسدي الدالاني، عن المنهال ابن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري».

خرجه الترمذي لأبي خالد، وقال: هذا حديث حسن غريب.

وخرج الترمذي أيضا من حديث سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، قال: فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبا، إن الله عز وجل اتخذ من أهله خليلا، اتخذ إبراهيم خليلا. وقال آخر: ما ذا بأعجب من كلام موسى، كلمه الله تكليما.


#421#

وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم فسلم وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى نجي الله، وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته، وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر».

قال الترمذي: هذا حديث غريب.

وخرجه الدارمي في "مسنده" وأبو نعيم في "الدلائل" من حديث زمعة بن صالح وهو ضعيف، عن سلمة بن وهرام.

وقال عمرو بن عثمان الكلابي: حدثنا موسى بن أعين، عن معمر بن راشد، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بشر ابن شغاف، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأول شافع ومشفع، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، تحتي آدم فمن دونه».

خرجه أبو نعيم في "الدلائل" للكلابي هذا.


#422#

وخرجه له أيضا ابن حبان في "صحيحه"، وأبو بكر بن أبي عاصم في كتاب "السنة".

ورواه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، فقال: حدثنا شيبان بن فروخ أبو محمد الأيلي، حدثنا مهدي بن ميمون المغولي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بشر بن شعاف، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عنده في المسجد يوم الجمعة فقال: إن أعظم أيام الدنيا عند الله تعالى يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة، وإن أكرم خليقة الله تعالى أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يرحمك الله، فأين الملائكة؟ قال: فنظر إلي وضحك وقال: يا ابن أخي، هل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق السماء والأرض وخلق السحاب وخلق الجبال وسائر الخلائق التي لا تعصي الله عز وجل شيئا، وإن أكرم خليقة الله على الله عز وجل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وإن الجنة في السماء، وإن النار في الأرض. وذكر الحديث بطوله في الحشر.


#423#

وهو في مسند الحارث بن أبي أسامة المهدي بنحوه مختصرا.

ورواه أبو يعلى الموصلي في كتابه "التفسير المنثور".

وتقدم من طريق معمر بن سهل، عن عبيد الله بن تمام، عن خالد الحذاء، عن بشر بن شغاف، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا: «ما شيء أكرم على الله من ابن آدم» الحديث.

وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث ابن أبي السري، حدثنا مروان بن معاوية، عن يحيى اللخمي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لواء الحمد بيدي يوم القيامة، وأقرب الناس من لوائي العرب».

وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وطرق هذا الحديث متشعبة كثيرة، وشواهده جمة، ومن أجمعها ما رواه إسحاق بن بشر، وقد تركوه، عن عثمان بن عطاء، عن


#424#

أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسلت إلى الجن والإنس، وإلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم دون الأنبياء، وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا، ونصرت بالرعب أمامي شهرا، وأعطيت خواتم سورة البقرة وكانت من كنوز العرش وخصصت بها دون الأنبياء، وأعطيت المثاني مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل، وأنا سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عني وعن أمتي ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة، آدم وجميع الأنبياء من ولد آدم تحته ولا فخر، وبي تفتح الشفاعة يوم القيامة ولا فخر، وأنا سابق الخلق إلى الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا إمامهم، وأمتي بالأثر».

خرجه أبو نعيم في "الدلائل" لإسحاق بن بشر.

وجاء من حديث عمرو بن مرزوق، أخبرنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل».


#425#

وخرج البخاري في "صحيحه" عن سعيد بن النضر ومحمد بن سنان واللفظ له، عن هشيم، حدثنا سيار –هو أبو الحكم- حدثنا يزيد الفقير، حدثنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة».

وخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى عن هشيم نحوه.

تابعهم أبو الربيع الزهراني عن هشيم. ورواه حفص بن عمر وعمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن واصل، عن مجاهد، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت خمسا لم يؤتهن نبي من قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب على مسيرة شهر، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمتي من مات منهم لا يشرك بالله شيئا».

تابعه عمر بن ذر، عن مجاهد، خرجه أبو نعيم في "الدلائل" لهما.

وخرجه في "الحلية" من حديث: جرير، عن الأعمش، عن


#426#

مجاهد، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر بنحوه. ثم قال: وتفرد جرير بإدخال (عبيد) بين مجاهد وأبي ذر، عن الأعمش.

كذا قال في "الحلية"، وخالفه في كتابه "دلائل النبوة" فذكر أن معاوية ومندل بن علي وغيرهما، تابع جريرا على روايته.

قلت: ورواية جرير ومن تابعه أولى؛ لأن رواية مجاهد عن أبي ذر مرسلة. وقال الأعمش في رواية ابن إسحاق عنه: كان مجاهد يرى أن (الأحمر): الإنس و(الأسود): الجن.

والحديث عند مجاهد أيضا عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهم.

قال أبو عبد الرحمن المقرئ: حدثنا يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، حدثني خازم بن خزيمة البصري –من تيم الرباب- عن مجاهد أبي الحجاج المكي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فجئت ذات ليلة إلى المكان الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضطجع فيه، فلم أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مضجعه، فعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقامته الصلاة فتلفت


#427#

ورميت ببصري يمينا وشمالا، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي إلى شجرة فهويت نحوه، فإذا رجل قبلي أخرجه مثل الذي أخرجني، فقمت أنا وهو خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان بين ظهري صلاته سجد سجدة فظننت أن قد قبض فيها، فابتدرنا فجلسنا بين يديه أنا وصاحبي، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألنا فقال: «هل أنكرتم من صلاتي الليلة شيئا؟».

قلنا: نعم يا رسول الله، سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة حتى ظننا أن قد قبضت فيها.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أعطيت فيها خمسا لم يعطهن نبي قبلي: أني بعثت إلى الناس كافة أحمرهم وأسودهم، وكان النبي يبعث إلى أهل بيته وإلى أهل قريته، ونصرت على عدوي بالرعب مسيرة شهر أمامي وشهر خلفي، وأحلت لي الغنائم والأخماس ولا تحل لأحد قبلي، كانت الأخماس تؤخذ فتوضع فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أصلي منها حيث أدركتني الصلاة، وأعطيت دعوة ادخرتها شفاعة لأمتي يوم القيامة».

قال مجاهد: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال صاحبي لي وكان أفضل مني: نسيت أفضلها وأخيرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أرجو أنها لمن مات لا يشرك بالله شيئا».

وذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن صاحبه ذلك كان أبا ذر الغفاري رضي الله عنه.

تابعه مزاحم بن زفر عن مجاهد.


#428#

ويدل على أن أبا ذر كان مع أبي هريرة رضي الله عنهما تلك الليلة ما رواه المغيرة ابن سقلاب، عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كان أبو ذر إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال خليلي وفعل خليلي صلى الله عليه وسلم -وكان لا يسميه باسمه- قال: سرنا مع خليلي صلى الله عليه وسلم فآوانا الليل إلى منزل بتنا فيه إلى بعض، فلم أر خليلي صلى الله عليه وسلم على فراشه، فأفزعني ذلك فقمت أطلب أثره، فوافقت رجلا من القوم أفزعه الذي أفزعني، فطلبت بأثره، فدفعنا إليه ساجدا تحت شجرة، فقعدنا ننتظر انصرافه حتى تحدثنا بيننا: أن عينه قد غلبته، وائتمرنا أن نوقظه وذلك بسمعه، ثم أقبل علينا بوجهه صلى الله عليه وسلم فقال: «ماذا قلتما؟»، قالا: قلنا: يا رسول الله، فقدناك عن فراشك، فأفزعنا ذلك، فطلبنا أثرك، فدفعنا إليك ساجدا، فقعدنا ننتظر انصرافك، وطال علينا سجودك، حتى تحدثنا أن عينك قد غلبتك وائتمرنا أن نوقظك. قال: «لا، ولكن الله تعالى أعطاني خمس خصال لم يعطها أحد قبلي ..» وذكر الحديث، وفيه: «وأرسل إلى كل نبي يعرض عليه مسألة يسألها ربه، فتعجل كل نبي مسألته وأعطيها في الدنيا، وسألت ربي أن يؤخر لي مسألتي إلى يوم القيامة، ففعل ذلك بي، وجعلتها في أمتي، وهي بالغة إن شاء الله من مات وهو لا يشرك بالله شيئا».


#429#

وقال الحسن بن الطيب البلخي: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر ابن مضر، عن ابن الهاد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم: «لقد أعطيت الليلة خمسا: أولهن: فأرسلت إلى الناس كلهم، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت بالرعب على عدوي، ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم كلها، فكان من قبلي يعظمونها، كانوا يحرمونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كان يصلون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة: قيل لي: سل؛ فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله».

وروي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، عن محمد بن علي –يعني: ابن الحنفية، أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء». قلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال: «نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم».


#430#

خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" فقال: حدثناه أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي، حدثنا زهير –يعني: ابن محمد- عن عبد الله بن محمد –يعني: ابن عقيل- فذكره.

وله شواهد وطرق، منها ما قال قتيبة بن سعيد: حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على النبيين بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم إذ أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فجعلت في يدي، وأرسلت إلى الناس كافة، وأحلت لي المغانم، وختم بي النبوة».

وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: لم يجتمع الملك والنبوة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وموسى وداود وسليمان –صلى الله عليهم وسلم- وقال صلى الله عليه وسلم: «عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة آدم وذريته». قالوا: ومن كائن من أمتك؟ قال: «نعم، مثلوا لي فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها».

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط: حدثنا أحمد بن مسعود،


#431#

حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة حرمت على الأنبياء قبلي حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي».

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا ابن عقيل، ولا عن ابن عقيل إلا زهير، ولا عن زهير إلا صدقة، تفرد به عمرو بن أبي سلمة.

وروى سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها فيفتحها الله عز وجل».

وفي "صحيح مسلم" من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».


#432#

وخرجه أبو القاسم الطبراني وفيه: قال: «فيقوم فيقول الخازن: لا أفتح لأحد قبلك ولا أقوم لأحد بعدك».

قيل: قيام الخازن لنبينا صلى الله عليه وسلم إظهار لمزيتة وعلو مرتبته، ولا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمة الخازن، وهو كالملك عليهم، ويقيمه الله في خدمة عبده ورسوله حتى يمشي إليه ويفتح له الباب.

وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع من الجنة، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد».

وعن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة».

خرجهما مسلم في "صحيحه" للمختار بن فلفل، عن أنس رضي الله عنه.

وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

وحدث زائدة بن قدامة، عن المختار بن فلفل، عن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صدق نبي ما صدقت، إن من الأنبياء من لا يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد».


#433#

تابعه القاسم بن مالك المزني فيما رواه موسى بن هارون، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني القاسم بن مالك المزني، عن المختار ابن فلفل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، إن من الأنبياء لمن يأتي يوم القيامة ما معه مصدق غير واحد».

وتابعهما عبد الرحيم بن سليمان فيما حدث به موسى أيضا عن عبد الله بن عمر بن أبان عنه، حدثنا المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده الأنبياء فقال: «أنا أكثر الأنبياء يوم القيامة تبعا، إن من الأنبياء لمن يأتي يوم القيامة وما معه مصدق غير رجل واحد».

وحدث أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا محمد بن سليمان لوين، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن زكريا بن أبي زائدة [عن عطية العوفي] عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة».


#434#

وقال أبو القاسم البغوي أيضا: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي من أمتي يوم القيامة مثل الليل والسيل يحطم الناس حطمة واحدة، تقول الملائكة: لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم من أمته أكثر مما جاء مع سائر الأنبياء صلى الله عليهم وسلم».

وفي هذه الأحاديث الدلالة الصريحة بكثرة اتباع نبينا صلى الله عليه وسلم دون اتباع غيره من الأنبياء –صلى الله عليهم وسلم- فإن النبي منهم كان يأتي بالآية فتنقضي بموته فيقل من يتبعه، ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الكبرى وهي القرآن باقية بعده في كل عصر وأوان، فيؤمن بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من لا يحصى بالقرآن على ممر الزمان، ولأجل هذه الفضيلة العظمى والمزية العليا بكى موسى صلى الله عليه وسلم بكاء غبطة غبط بها نبينا صلى الله عليه وسلم، ولهذا هذه الأمة زادها الله شرفا ثلثا أهل الجنة.

خرج الترمذي من حديث أبي سنان ضرار بن مرة، عن محارب ابن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون صفا ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم».

قال الترمذي: هذا حديث حسن.


#435#

وخرجه ابن ماجه، وأحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" وقال: إسناده على شرط الصحيح.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده"، والقاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه "الشفاعة"، وابن حبان في "صحيحه" من طريق علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه مرفوعا به.

وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، أخبرنا سويد بن سعيد، حدثنا القاسم بن غصن، عن موسى الجهني، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منها ثمانون».

عزيز من رواية موسى بن عبد الله –ويقال: عبد الرحمن- الجهني، عن أبي بردة –واسمه: عامر-.

وجاء عن موسى الجهني، عن الشعبي مرسلا، حدث به أبو السري هناد بن السري التميمي الكوفي في كتاب "الزهد" –من تأليفه- عن


#436#

يعلى –يعني: ابن عبيد- الطنافسي، عن موسى الجهني، عن الشعبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أيسركم أن تكونوا نصف أهل الجنة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أمتي ثلثا أهل الجنة، وإن الناس يوم القيامة عشرون ومائة صف، أمتي من ذلك ثمانون صفا».

وهو في "مسند أحمد بن حنبل" وفي "معجم الطبراني الكبير" من حديث ابن مسعود وابن عباس، وفي إسناديهما مقال.

قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحارث بن حصيرة، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم وربع أهل الجنة، لكم ربعها ولسائر الناس ثلاثة أرباعها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فكيف أنتم وثلثها». قالوا: فذلك أكثر. قال: «كيف أنتم والشطر؟» قالوا: فذاك أكثر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف أنتم منها ثمانون صفا».

وله شاهد من حديث أبي هريرة ومعاوية بن حيدة، وأمثل هذه الطرق طريق بريدة التي تقدمت.

وخرج القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل في كتابه "الشفاعة" فقال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن


#437#

محمد بن عبد الرحمن بياع الملاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت : {ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم ثلث أهل الجنة» وقال: «ربع أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الباقي».

وهو في "معجم الطبراني" ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: {ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنتم ربع أهل الجنة، أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة».

وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن أبي مزاحم البغدادي، حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج البغدادي، حدثنا محمد بن نوح السراج، حدثنا إسحاق الأزرق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أمة إلا وبعضها في النار وبعضها في الجنة، إلا أمتي فإنها كلها في الجنة».


#438#

لم يروه عن عبيد الله إلا إسحاق. قاله الطبراني.

وقال الطبراني أيضا في "معجمه الأوسط" : حدثنا أحمد بن طاهر –يعني: ابن حرملة- حدثنا جدي حرملة، حدثنا حماد بن زياد البصري، حدثنا حميد الطويل وكان جارا لنا، سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أمتي أمة مرحومة متاب عليها، تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها ذنوبها باستغفار المؤمنين».

قال العلامة أبو محمد بن عبد السلام في "بداية السول فيما سنح من تفضيل الرسول" صلى الله عليه وسلم: وقد فضل الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم من وجوه، فذكرها، قال:

ومنها: أن الله تعالى يكتب لكل نبي من الأنبياء عليهم السلام من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها، وأمته شطر أهل الجنة.


#439#

قلت: وقد قدمنا آنفا أنهم ثلثا أهل الجنة، لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه الذي ذكرناه وأشرنا إلى غيره، وحديث "شطر أهل الجنة" مخرج في "الصحيحين" وغيرهما من كتب الأئمة.

قال أبو محمد ابن عبد السلام: قد أخبر الله تعالى أنهم خير أمة أخرجت للناس، وإنما كانوا خير الأمم لما اتصفوا به من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، فما من معرفة ولا حالة ولا عبادة ولا مقالة ولا شيء مما يتقرب به إلى الله تعالى مما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليه إلا وله صلى الله عليه وسلم أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة [لقوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة»] ولا يبلغ أحد من الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- إلى هذه المرتبة، وقد جاء في الحديث: «الخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله»، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجنة، وغيره من الأنبياء عليه السلام إنما نفع جزءا من أجزاء الشطر الآخر، كانت منزلته صلى الله عليه وسلم في القرب على قدر منزلته في النفع، فما من عارف من أمته إلا وله مثل أجر معرفته مضافا إلى معارفه صلى الله عليه وسلم، وما من ذوي حال من أمته إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجره على حاله مضموما إلى أحواله صلى الله عليه وسلم، وما من ذي


#440#

مقال يتقرب به إلى الله تعالى إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر ذلك القول مضموما إلى مقالته وتبليغ رسالته، وما من عمل من الأعمال المقربة إلى الله تعالى من صلاة وزكاة وعتق وجهاد وبر ومعروف وذكر وصبر وعفو وصفح إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر عامله مضموما إلى أجره على أعماله، وما من درجة علية ومرتبة سنية نالها أحد من أمته بإرشاده ودلالته إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجرها مضموما إلى درجته صلى الله عليه وسلم ومرتبته، ويتضاعف ذلك بأن من دعا من أمته إلى هدى أو سن سنة كان له أجر من عمل بذلك على عدد العاملين، ثم يكون هذا المضاعف لنبينا صلى الله عليه وسلم، لأنه دل عليه وأرشد إليه، ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام ولم يبك حسدا كما يتوهمه بعض الجهلة، وإنما بكى أسفا على ما فاته من مثل مرتبته صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس، فلكل نبي من الأنبياء عليهم السلام ثواب تبليغه إلى أمته، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ثواب التبليغ إلى كل من أرسل إليه، تارة لمباشرة الإبلاغ، وتارة بالسبب إليه، ولذلك تمنن –تعالى- عليه بقوله: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا}، ووجه التمنن: أنه تعالى لو بعث في كل قرية نذيرا لما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لقريته. انتهى.


#441#

وخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث زائدة، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صدق نبي ما صدقت، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد».

والحديث الذي ذكره أبو محمد بن عبد السلام في كلامه المتقدم: «الخلق عيال الله .. .. » رواه موسى بن عمير الأعمى عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله»، وفي لفظ: «فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله».

خرجه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "فضيلة المحتسبين في الإنفاق على البنات"، وقال: لم يروه عن إبراهيم النخعي إلا الحكم بن عتيبة، وهو حديث ثابت.

قلت: ليس بثابت، وإسناده واه جدا، لأن موسى بن عمير هو: أبو هارون الجعدي مولى آل جعدة بن هبيرة، رماه أبو حاتم الرازي بالكذب.

وضعفه ابن نمير وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم ابن حبان وأبو الحسن الدارقطني.

و(موسى) هذا غير (موسى بن عمير الأنصاري) الذي حدث عن أبيه، وروى عنه أبو الجحاف داود بن أبي عوف.


#442#

ولهم (موسى بن عمير) آخر وهو: العنبري، روى عن علقمة بن وائل، لكن ابن حبان جعل هذا و(الجعدي) واحد، وغيره فرق بينهما.

أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الفارقي بقراءتي عليه، أخبرنا الأمين محمد بن أبي بكر الحلبي حضورا، أخبرنا يوسف بن محمود الساوي سماعا، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الحاجب، أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال: حضرت باب الشماسية والمأمون يجري الخيل في الحلبة ومعه يحيى بن أكثم، فجعل ينظر في الناس ويجيل طرفه، وكنت في موضع أقرب منه، فسمعته يقول ليحيى: أما ترى؟! –يعني: كثرة الناس-! ثم قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إليه أنفعهم لعياله.


#443#

تفرد به عن المأمون أحمد بن إبراهيم، فيما قاله أبو نعيم.

تابعه أحمد بن جعفر بن سلم الختلي وأبو الفرج محمد بن سعيد بن عبدان وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري المالكي وغيرهم عن البغوي ونحوه.

وبالسند المتقدم إلى أبي القاسم البغوي رحمه الله.

وحدثناه شجاع ، بن مخلد وأحمد بن إبراهيم، قالا: حدثنا يوسف بن عطية. فذكر مثله.

وهذا حديث منكر، ووقع لنا عاليا، وله طرق واهية، ولا يصح شيء منها، والله أعلم.

ومن الأحاديث الواردة في فضل نبينا صلى الله عليه وسلم:

ما روي عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء.

قالوا: يا أبا عباس، بما فضله على أهل السماء؟

قال: لأن الله –سبحانه- قال لأهل السماء: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.

قالوا: فما فضله على الأنبياء؟

قال: لأن الله عز وجل يقول: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}.

وقال عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}، فأرسله الله سبحانه إلى الجن والإنس.


#444#

خرجه أبو القاسم الطبراني في "معجمه الكبير"، وأبو محمد الدارمي في "مسنده" واللفظ له، من حديث يزيد بن أبي حكيم، عن الحكم.

ورواه عباس بن عبد الله الترقفي عن حفص بن عمر –هو: العدني- عن الحكم.

وحدث به الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب البخاري الكلاباذي في كتابه "معاني الأخبار" عن بكر بن حمدان، حدثنا عبد الصمد بن الفضل، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر العدني بمكة، حدثنا الحكم بن أبان فذكره.

تابعهما محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن حفص بن عمر بنحوه.

وخرجه أبو حفص عمر بن شاهين في كتابه "دلائل النبوة" وهو آخر حديث فيه، فقال: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدثنا موسى بن عبد العزيز، حدثني الحكم بن أبان. فذكره.

وقال محمد بن الصباح الدولابي، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبي في قوله –تبارك وتعالى-: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله}، قال موسى عليه السلام: {ورفع بعضهم درجات} قال: محمد صلى الله عليه وسلم.


#445#

ورواه أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا علي بن جعفر الأحمر، حدثنا أحمد بن بشير، عن مجالد نحوه.

وقوله تعالى: {منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} التفضيل الأول صريح في أصل المفاضلة، والثاني في تضعيف المفاضلة بدرجات، ونكرها تنكير التعظيم، بمعنى: درجات أي درجات!.

قاله أبو محمد ابن عبد السلام في ذلك الإملاء: "بداية السول".

ومن هذه الدرجة ما خرجه أبو نعيم في "الدلائل" وغيره من الأئمة من حديث عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما خلق الله عز وجل وما ذرأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله عز وجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}.

وخرجه أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في "المجالسة" لعمرو.

وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لعمرك} قال: بحياتك يا محمد.


#446#

وحدث به أبو إسماعيل الترمذي عن مسلم بن إبراهيم، ثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما خلق الله –تبارك وتعالى- ولا ذرأ ولا برأ نفسا هي أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله عز وجل يحلف بحق أحد غيره فقال: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}.

وهذا الحديث له طرق، لكن مدارها على عمرو النكري، وفيه مقال.

وجاء من طريق غيره، رواه الحسين بن محمد بن علي الأزدي في جمعه وجوه قراءات وتفاسير عن أهل البيت، فقال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لعمرك} قال: وحياتك.

وأقسم بحياته، والإقسام بحياة المقسم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المقسم بها، وإن حياته صلى الله عليه وسلم بالجدير أن يقسم بها لما كان فيها من البركة العامة والخاصة، ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم.

قاله أبو محمد ابن عبد السلام في "بداية السول".

وقال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في كتابه "أحكام القرآن" في هذه الآية: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له: أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.


#447#

قالوا: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره.

قال: وهذا كلام صحيح، وما أدري ما الذي أخرجهم عن ذكر لوط عليه السلام إلى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وما الذي يمنع أن يقسم الله بحياة لوط عليه السلام ويبلغ به من التشريف ما شاء؟! فكل ما يعطيه الله عز وجل للوط ويؤتيه من شرف فلمحمد صلى الله عليه وسلم ضعفاه؛ لأنه أكرم على الله منه، أولا تراه قد أعطى لإبراهيم عليه السلام الخلة، ولموسى عليه السلام التكليم، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد صلى الله عليه وسلم أرفع، ولا يخرج من الكلام إلى كلام آخر لم يجر له ذكر لغير ضرورة. انتهى.

وهذا الذي ذكره ابن العربي حسن، لكن المفسرون تمسكوا بأثر ابن عباس –ترجمان القرآن- الذي تقدم ذكره، وهو الذي أخرجهم من ذكر لوط عليه السلام إلى ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

والمفسرون خصوصا المحدثون منهم لا يعدلون عن خبر في التفسير ولا أثر، لا سيما عن حبر الأمة وترجمان القرآن إلى غير ذلك.

وقال أبو محمد عبد الله بن جعفر بن الورد: حدثنا علي بن محمد –هو: ابن عبد الله الأنصاري- حدثنا أبو محمد عمرو بن سواد السرحي، سمعت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله يقول: ما أعطى الله عز وجل نبيا قط إلا وقد أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم أكبر منه. قال عمرو: فقلت له: قد أعطى عيسى عليه السلام أكبر منه، أنه يحيي الموتى؟ قال الشافعي: فالجذع قبل أن يجعل له المنبر حين حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم.


#448#

وحدث به أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم فقال: حدثني أبي، أخبرني عمرو بن سواد السرحي، قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم. فقلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى. فقال: أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم الجذع الذي كان يقف يخطب إلى جنبه حتى هيئ له المنبر، [فلما هيئ له المنبر] حن الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكثر من ذلك. انتهى.

فكل فضل أعطيه نبي من الأنبياء عليهم السلام فلنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك الحظ الجزيل والنصيب الجليل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الأولين والآخرين كما تقدم في تلك الأحاديث السابقة.

قال أبو محمد ابن عبد السلام في "بداية السول": و(السيد): من اتصف بالصفات العلية والأخلاق السنية، وهذا مشعر بأنه أفضل منهم في الدارين:

أما في الدنيا: فلما اتصف به من الأخلاق الشريفة.

وأما في الآخرة: فإن جزاء الآخرة مرتب على الأوصاف والأخلاق، فإذا فضلهم في الدنيا في المناقب والصفات؛ فضلهم في الآخرة في المراتب والدرجات. انتهى.


#449#

وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا ابن لهيعة، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن ربك وربي عز وجل يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: الله أعلم. قال: إذا ذكرت ذكرت معي».

خرجه ابن حبان في "صحيحه".

ورواه الوليد بن مسلم، والحسن بن موسى الأشيب، وأبو الأسود النضر بن عبد الجبار، عن ابن لهيعة.

تابعهم يحيى بن عبد الله بن بكير فقال: حدثني ابن لهيعة.

ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل عليه السلام: إن ربك عز وجل يقول لك: أتدري كيف رفعت لك ذكرك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: قال الله عز وجل: إذا ذكرت ذكرت معي».

وأخبرنا عبد القادر الأرموي بقراءتي عليه، أخبرتك فاطمة بنت العز بن أبي عمر، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا أبو الفضل


#450#

إسماعيل بن علي، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن السمرقندي، أخبرنا عبد الدائم بن الحسن، أخبرنا عبد الوهاب الكلابي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد، حدثنا خليد بن دعلج وسعيد ابن بشير، عن قتادة في قول الله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} قال: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد إلا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.

وحدث به حميد بن الربيع، عن سفيان، عن [ابن] أبي نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل: {ورفعنا لك ذكرك} قال: لا أذكر إلا وذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

وحدث به أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو محمد بن صاعد، ثنا أبو عبيد الله المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره بنحوه.

وقال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي،


#451#

حدثنا محمد بن ميمون الخياط، حدثنا سفيان قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي في هاتين الآيتين من ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل: {ورفعنا لك ذكرك} قال: لا أذكر إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله. وفي قول الله عز وجل: {وإنه لذكر لك ولقومك}، وقال: يقال: ممن هذا الرجل؟ فيقال: من العرب. فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش.

وثبت من حديث إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية البيت، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقول: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».

خرجاه في "الصحيحين" لإسماعيل، رواه عنه قتيبة –واللفظ له- وعلي بن حجر، ويحيى بن أيوب.

وهو في "الصحيح" أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

وقال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي في النبيين كمثل رجل


#452#

بنى دارا فأحسنها وأكلملها وأجملها، وترك منها موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون بالبناء ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع تلك اللبنة، وأنا في النبيين بموضع تلك اللبنة».

وحدث محمد بن سعد في "الطبقات" عن عمرو بن عاصم، حدثنا أبو هلال، عن قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث».

هذا مرسل.

وقد حدث به كذلك أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه"، عن عمه أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن سعيد، عن قتادة. فذكره بنحوه مرسلا.

ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.

وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني قتادة، عن الحسن، عن


#453#

أبي هريرة رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية –يعني: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأه قبلهم».

وحدث به محمد [بن محمد] بن سليمان الباغندي، عن هارون ابن محمد بن بكار بن بلال، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث»، قال: وذلك قول الله عز وجل: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}. فبدأ به صلى الله عليه وسلم.

ورواه أحمد بن سليمان بن حذلم، حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد، حدثنا أبو الجماهر –وهو محمد بن عثمان التنوخي-، حدثنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث».


#454#

وحدث به الوليد بن مسلم، عن خليد بن دعلج وسعيد، عن قتادة به.

وجاء من حديث أنس عن أبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أول الناس في الخلق، وآخرهم في البعث».

والمرسل أشبه.

وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" عن صالح بن مرداس أبي خزيمة، سمعت الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث»، ثم قرأ: {ومنك ومن نوح}.

وفي تفسير سفيان بن عيينة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم آخرا، وبدئ به أولا.

وخرج أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه" الشريعة" عن سعيد بن راشد، سألت عطاء: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم نبيا قبل أن يخلق؟ قال: إي والله، وقبل أن تخلق الدنيا بألفي عام.

عطاء هذا أظنه الخراساني.


#455#

وخرج الطبراني من حديث بقية بن الوليد، حدثني صفوان بن عمرو، عن حجر بن مالك الكندي، عن أبي مريم الكندي قال: أقبل أعرابي من بهز حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي شيء كان من أمر نبوتك أول؟ قال: «أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين


#456#

ميثاقهم» وتلا: {ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}.

«وبشر بي المسيح عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت لها منه قصور الشام».

فقال الأعرابي: هاء. وأدنى رأسه منه، وكان في سمعه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ووراء ذلك، ووراء ذلك» مرتين أو ثلاثا.

وقال أبو محمد دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": حدثنا موسى بن هارون وابن شيرويه وإبراهيم بن أبي طالب قالوا: حدثنا إسحاق بن راهويه، أخبرنا بقية بن الوليد، أخبرنا أبو بكر بن أبي مريم، حدثني سعيد بن سويد الكلبي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه:


#457#

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم}، وبشارة عيسى ابن مريم قومه: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}، ورؤيا أمي: رأت في منامها أنها وضعت نورا أضاءت منه قصور الشام».

ورواه عثمان بن سعيد الدارمي، عن أبي اليمان، عن أبي بكر بن أبي مريم.

ورواه أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا عمرو بن بشر بن السرح، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم بنحوه.


#458#

تابعه أبو اليمان، عن أبي بكر بن أبي مريم.

ورواه إسحاق بن منصور، حدثنا أبو المغيرة، أخبرنا أبو بكر بن أبي مريم، حدثنا سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية مرفوعا به.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "الدلائل": قصر أبو بكر بن أبي مريم في إسناده، فلم يذكر فيه عبد الأعلى بن هلال.

قلت: رواه معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال، وذلك فيما قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا الحسن بن سوار أبو العلاء الخراساني، حدثنا ليث بن سعد ح.

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" واللفظ له: حدثنا الحسن بن صالح، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية مرفوعا نحوه.

وفي هذا الإسناد زيادة "الليث" بين: (عبد الله بن صالح) و (معاوية بن صالح)، وعبد الله بن صالح سمع منهما، فيحتمل أن يكون سمعه أولا


#459#

من (عبد الله) ثم سمعه من (معاوية) عاليا.

وهكذا حدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى؛ فلم يذكر الليث. والله أعلم.

وخرجه الطبراني في "معجمه" فقال: حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا علي بن عياش الحمصي، حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، حدثني ابن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، فسأخبركم عن ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين، وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام».

وحدث به أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا علي بن الحسين بن سليمان بالفسطاط، حدثنا الحارث بن مسكين، حدثنا ابن وهب، قال: وأخبرني معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد،


#460#

عن عبد الأعلى بن هلال، عن العرباض بن سارية الفزاري، فذكره مرفوعا بنحوه.

وخرج أحمد بن حنبل في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه"، وصحح إسناده.

وخرج ابن سعد في "الطبقات"، وأحمد بن حنبل والروياني في "مسنديهما"، والطبراني في "معجمه الكبير" من حديث فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة رضي الله عنه: قال: قيل: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ فقال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام».

وهو في"شرح السنة" لأبي القاسم اللالكائي من حديث علي بن الجعد، عن فرج بن فضالة، وفيه: «وبشرى عيسى» مكان «وبشر بي عيسى».

ورواه أبو القاسم البغوي.

ووقع في "مسند الحارث بن أبي أسامة" "علقمة بن عامر" مكان


#461#

"لقمان بن عامر"، وهو تصحيف، والله أعلم.

وله شاهد من حديث أنس وأبي ذر وشداد بن أوس وغيرهم، رضي الله عنهم.

وقال هشام بن عمار في "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: «بين خلق آدم ونفخ الروح فيه».

وقال أيضا: حدثنا محمد بن شعيب القرشي، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، فذكره كذلك.

وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن الوليد بن شجاع، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.

تابعه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه"، فحدث به عن الوليد بن شجاع.

وخرجه الترمذي من طريق الأوزاعي موصولا كذلك.


#462#

ولفظه: قال: قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وخرجه الحاكم في "مستدركه" وصححه، وله طرق:

منها: ما رواه خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الطبري بـ(صور)، حدثنا حفص بن عمر البصري، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم منجدل في طينته».

ورواه أبو الطيب طاهر بن علي، حدثنا إبراهيم بن سلمة، حدثنا محمد بن شعيب، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: «بين خلق آدم ونفخ الروح فيه».

ورواه هشام بن عمار في "المبعث" فقال: حدثنا محمد بن شعيب القرشي، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عبيد الله أنه حدثه أن رسول الله


#463#

صلى الله عليه وسلم سئل: متى وجبت لك النبوة؟ قال: «رحمة ربي ودعوة أبي إبراهيم وآدم منجدل في الطين».

ومعنى الحديث:

أن الله تعالى أظهر نبوته صلى الله عليه وسلم للملائكة قبل تمام خلق آدم عليه السلام، وليس معنى الحديث أنه قدر ذلك الوقت أنه نبي، كما قال بعضهم، فإن ذلك التقدير والعلم كان أزليا قبل خلق آدم بجيمع الكائنات، فأي خصوصية تبقى لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك؟!

قال ذلك بقية المجتهدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي رحمه الله.

وقد سبقه إلى معناه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني فقال في "الدلائل" –بعد روايته الحديث الذي تقدم قبل-: ففي هذا الحديث الفضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم، ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه وقضائه من بعثه له صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.

قلت: ويعضد هذا ما رواه عبد الرحمن بن حمدان بن عبد الرحمن أبو محمد إملاء، قال: حدثنا هلال بن العلاء، حدثنا ابن نفيل، حدثنا


#464#

عمرو بن واقد، عن عروة بن رويم، عن الصنابحي قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ، متى خلقت نبيا؟ قال: «وآدم منجدل في الطين».

وقال عبد الرحمن بن حمدان أيضا: حدثنا عثمان بن خرزاذ، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا أبو معاوية، عن إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».

وحدث محمد بن سعد في "الطبقات" عن الفضل بن دكين أبي نعيم، حدثنا إسرائيل بن يونس، عن جابر –هو: الجعفي- عن عامر –يعني: الشعبي- قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: متى استنبئت؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق».

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" موصولا من حديث قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله، متى كتبت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».


#465#

وخرجه في "المعجم" أيضا من حديث يحيى بن كثير أبي النضر، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قلت: يا رسول الله، متى أخذ ميثاقك؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».

وقال الحافظ أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة": حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا حماد بن سلمة، حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن [ابن] أبي الجدعاء قال: قلت: يا رسول الله، متى جعلت نبيا؟ قال: «إذ آدم بين الروح والجسد».

وقال: حدثنا عمر بن حبيب الأنصاري، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».

قال: حدثنا الفريابي، عن سفيان، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، غير أنه قال: متى كنت نبيا.

وقال القاسم بن عيسى الواسطي: حدثنا هشيم، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن أبي الجدعاء قال: قال رجل: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».


#466#

تابعه حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء مثله.

خرجه البغوي في "معجمه" عن أبي يحيى الجحدري كامل بن طلحة عن حماد.

وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عفان بن مسلم وعمرو بن عاصم الكلابي، قالا: حدثنا حماد بن سلمة فذكره.

ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي: حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل قال: قلت: يا رسول الله، متى جعلت نبيا؟ قال: «إذ آدم صلى الله عليه وسلم بين الروح والجسد».

تابعه وهيب فيما رواه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبي وعمي أبو بكر، قالا: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.

ورواه القاضي إسماعيل أيضا مرسلا فقال: حدثنا عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن خالد، كلاهما عن عبد الله بن شقيق قال: قيل: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».

هذا حديث بديل، وقد ألزم الدارقطني الشيخين إخراج هذا الحديث في "الصحيح".


#467#

وله طرق غير هذه، منها:

ما قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن سنان أبو بكر العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبيا؟ قال: «كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد».

وخرجه أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" فقال: حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا محمد بن سنان العوقي. فذكره.

تابعهما أحمد بن إسحاق بن صالح وأحمد بن محمد بن عيسى القاضي ومحمد بن إسماعيل بن يوسف السلمي والحسن بن سلام السواق، عن العوقي. مثله.

ورواه أبو عمرو بن نجيد عن محمد بن أيوب الرازي به.

وحدث به شعيب بن حرب عن إبراهيم بن طهمان.

وقال ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا يحيى بن معين، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن منصور بن سعد، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله. فذكر مثل حديث محمد بن سنان العوقي عن إبراهيم بن طهمان.

وحدث به عن يحيى بن معين أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه".


#468#

تابعه مطين وزيد بن أخزم وعباس العنبري ويعقوب الدورقي، عن ابن مهدي.

وهو عند ابن مهدي أيضا عن الثوري، عن بديل، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ فقال الناس: مه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد».

رواه سليمان الشاذكوني عن ابن مهدي.

و(ميسرة) صحابي يعد في أعراب البصرة، قال ابن القاص –فيما بلغنا عنه-: واسم (ميسرة): عبد الله بن أبي الجدعاء، وميسرة لقب له.

وما قاله ابن القاص لم أره لغيره، لكن أشار إلى قوله الذهبي في "التجريد" فقال: عبد الله بن أبي الجدعاء، وقيل: ابن أبي الحمساء، قيل: هو تميمي، وقيل: كناني.

روى عنه عبد الله بن شقيق غير حديث، وقيل: إنه ميسرة الفجر. انتهى.


#469#

والجمهور على أنهم ثلاثة، قال الإمام مسلم بن الحجاج في كتابه "المنفردات والوحدان": ومنهم (عبد الله بن أبي الجدعاء)، و(عبد الله بن أبي الحمساء)، و(ميسرة الفجر) لم يرو عنهم إلا عبد الله ابن شقيق.

وحديث ميسرة هذا خرجه الإمام أحمد في "مسنده" وعنده: (متى كنت نبيا)، وهو في "مستدرك الحاكم" وكتاب "السنة" لأبي بكر بن أبي عاصم بنحوه.

وجاء بزيادة فيما رواه أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، حدثنا محمد بن صالح، حدثنا محمد بن سنان العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق: محمد رسول الله خاتم الأنبياء. وخلق الله تعالى الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي، فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك، فلما غيرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه».


#470#

وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج" فقال: حدثنا زكريا بن يحيى بن محمد بن زفر الأصبهاني، حدثنا محمد ابن خالد الهاشمي الدمشقي، حدثنا محمد بن حميد الحمصي، حدثنا صفوان بن عمرو السكسكي، عن سريج بن عمير.

قال: كذا قال، فقلت: إنما سريج بن عبيد قال: كذا هو عندنا عن [ابن] أبي الشمر التدمري، عن كعب الأحبار: إن الله تعالى أنزل على آدم صلى الله عليه وسلم عصيا بعدد الأنبياء المرسلين، ثم أقبل على ابنه (شيث) فقال: أي بني، أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله تعالى فاذكر إلى جنبه اسم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش وأنا بين الروح والجسد، ثم إني طفت السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا عليه، وإن ربي أسكنني الجنة، فلم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجر طوبى، وعلى سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، وأكثر من ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها.

إسناده واه جدا من قبل محمد بن خالد وابن حميد وغيرهما.


#471#

وخرج أبو بكر ابن أبي الدنيا من حديث سعيد بن جبير قال: «اختصم ولد آدم: أي الخلق أكرم على الله تعالى؟ فقال بعضهم: آدم، خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، وقال آخرون: بل الملائكة الذين لم يعصوا الله عز وجل، فذكروا ذلك لآدم عليه السلام، فقال: لما نفخ في الروح لم تبلغ قدمي حتى استويت جالسا، فبرق لي العرش، فنظرت فيه: محمد رسول الله، فذلك أكرم الخلق على الله عز وجل».

وقال أبو الحسين محمد بن المظفر: حدثنا محمد بن عبد الله بن زحر بمصر، حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أذنب آدم عليه السلام الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت ذنبي. قال: فأوحى الله عز وجل إليه: ومن محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك إذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك. قال: فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم، إنه لآخر النبيين من ذريتك، لولاه ما خلقتك».

وخرجه البيهقي في "الدلائل" من طريق عبد الرحمن بن زيد،


#472#

ولفظه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما اقترف آدم عليه السلام الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي. فقال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: لأنك يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله عز وجل: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذا سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد لما خلقتك».

وخرجه الطبراني والحاكم في "مستدركه" بنحوه من طريق عبد الرحمن بن زيد، وصحح إسناده، وفيه: «فقال الله عز وجل: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما غفرت لك وما خلقتك».

وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه "الشريعة": أخبرنا أبو أحمد هارون بن يوسف بن زياد التاجر، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثني أبي: عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: «من الكلمات التي تاب الله عز وجل بها على آدم عليه السلام قال: اللهم أسألك بحق محمد عليك. قال الله عز وجل: يا آدم،


#473#

ما يدريك بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا رب، رفعت رأسي فرأيت مكتوبا على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فعلمت أنه أكرم خلق عليك».

وقال الآجري أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي داود، حدثنا أبو الحارث الفهري، أخبرني سعيد بن عمرو، حدثنا أبو عبد الرحمن، عن عبد الله بن إسماعيل ابن بنت أبي مريم، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما أذنب آدم عليه السلام الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي. قال: فأوحى الله عز وجل إليه: وما محمد؟ ومن محمد؟ قال: تبارك اسمك، لما خلقتني رفعت رأسي إلى السماء عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم، وعزتي وجلالي، إنه لآخر النبيين من ذريتك، ولولاه ما خلقتك».

وخرج أبو الشيخ ابن حيان الأصبهاني في كتابه "طبقات الأصبهانيين" من حديث جندل بن والق –وهو صدوق- حدثنا


#474#

محمد بن عمر المحاربي، عن سعيد بن أوس الأنصاري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمر أمتك من أدركه منهم أن يتبعوه ويؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة، ولولا محمد ما خلقت النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن».

وخرجه الحاكم في "مستدركه" وصحح إسناده، وفيه اضطراب.

منه ما رواه محمد بن عصمة، حدثنا جندل بن والق، حدثنا عمرو بن أوس الأنصاري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بنحوه.

وقال أبو عثمان سعيد بن محمد بن أحمد البحيري في كتاب "الأحاديث الألف التي يعز وجودها": أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفرائيني بها، أخبرنا أبو الحسين علي بن حميد الواسطي، حدثنا محمد بن يونس البصري، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا النعمان بن عبد السلام، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أسرى بي


#475#

جبريل عليه السلام سمعت نشيجا في السموات العلا، فرجف فؤادي، فقال: جبريل يا محمد، تقدم ولا تخف؛ فإن اسمك مكتوب على العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله».

وخرج أبو نعيم الأصبهاني من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي، في العرش مكتوب: أنا الله، محمد رسولي».

وذكر القاضي عياض في "الشفا" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «على باب الجنة مكتوب: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسول الله، لا أعذب من قالها».

وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن الصقر البغدادي بن النمط: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن أبي غسان –إملاء- حدثنا جعفر ابن محمد النيسابوري، حدثنا عاصم بن عصام النيسابوري، حدثنا عبد المنعم، حدثني أبي، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مكتوب على العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا أعذب من قالها، لا أعذب من قالها، لا أعذب من قالها».

وفي كتاب "السنة" للإمام أبي بكر بن أبي عاصم، قال: حدثنا


#476#

أبو أيوب الخبائري، حدثنا سعيد بن موسى، حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك؛ رفعه: «إن موسى بن عمران عليه السلام كان يمشي ذات يوم في الطريق، فناداه الجبار عز وجل: يا موسى. فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا، ثم ناداه الثانية: يا موسى بن عمران. فالتفت يمينا وشمالا ولم ير أحدا، وارتعدت فرائصه، ثم ناداه الثالثة: يا موسى بن عمران، إني أنا الله لا إله إلا أنا، فقال: ليبك لبيك. فخر لله عز وجل ساجدا، فقال: ارفع رأسك يا موسى بن عمران فرفع رأسه.

فقال: يا موسى، إن أحببت أن تسكن في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي يا موسى فكن لليتيم كالأب الرحيم، وكن للأرملة كالزوج العطوف.

يا موسى، ارحم ترحم. يا موسى، كما تدين تدان.

يا موسى نبئ بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد محمدا صلى الله عليه وسلم أدخلته النار ولو كان إبراهيم خليلي وموسى كليمي.

فقال: إلهي، ومن محمد؟

قال: يا موسى، وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أكرم علي منه، كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السموات والأرض والشمس والقمر بألفي ألف سنة.


#477#

وعزتي وجلالي، إن الجنة محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.

قال موسى عليه السلام: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟

قال: أمته الحمادون، يحمدون الله صعودا وهبوطا وعلى كل حال، يشدون أوساطهم، ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير من العمل، وأدخهلم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.

قال: إلهي، اجعلني نبي تلك الأمة.

قال: نبيها منها.

قال: اجعلني من أمته.

قال: استقدمت واستأخروا يا موسى، ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال».

هذا الحديث موضوع ملفق مصنوع، وإنما ذكرته هتكا لحاله ولئلا يغتر جاهل به وبأمثاله، وفيما ذكرنا من الأحاديث والآثار غنية عن الموضوع ومقنع.

وأحاديث هذا الفضل وآثاره لا يحاط بها أجمع، وحسبك ما في القرآن العظيم من الآيات الشريفات الدالة على تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على الخلائق بدرجات وأي درجات، المصرحة بخصائصه الباهرات، وما منح من الكمال في جميع الأقوال والأحوال والمقامات، إلى غير ذلك من أنواع الكرامات التي لا يعلمها إلا مانحها سبحانه وتعالى.


#478#

قال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": المهيأ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل وأفضل الأعمال، لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها ووافقها، وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله وعباده، تبعث على مصالح الخلق وطاعة الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخص، وأكملها بشروطها أحق بها وأمس، ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما دانى طرفيه من قاربه في فضله ولا داناه في كماله خلقا وخلقا، قولا وفعلا، ولذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

وقد ذكر أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله في ذلك الإملاء: "بداية السول" وجوها في تفضيل الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم فذكر منها أن الله تعالى أخبره أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم؛ لأن كل واحد منهم إذا طلبت منه الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصاب وقال: "نفسي نفسي"، ولو علم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم


#479#

يوجل منها في ذلك المقام، وإذا استشفعت الخلائق بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام قال: «أنا لها».

قلت: قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدان بن أحمد بن المرزبان الكرماني: سمعت أبا الحسن محمد بن إسماعيل العلوي ببخارى يقول: سمعت أحمد بن محمد بن حسان المصري بمكة يقول: سمعت المزني يقول: سئل الشافعي رضي الله عنه عن قول الله عز وجل: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} قال: معناه: ما تقدم من ذنب أبيك وما تأخر من ذنوب أمتك، أدخلهم الجنة بشفاعتك.

وذكر ابن عبد السلام أيضا من الوجوه: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يرغب إليه الخلق كلهم يوم القيامة، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

قلت: صح ذلك من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه –الحديث.


#480#

وفيه: فقال لي –يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «يا أبي، أرسل إلي: أن اقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هون على أمتي. فرد إلي الثانية: أن اقرأه على حرف. فردت إليه أن هون على أمتي. فرد إلى الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم، حتى إبراهيم عليه السلام».

خرجه مسلم في "صحيحه" لابن أبي ليلى.

ومن الوجوه التي ذكرها أبو محمد ابن عبد السلام في تفضيل الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم منها: الكوثر الذي أعطيه في الجنة، والحوض الذي أعطيه في الموقف.

وذكر أيضا منها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الوسيلة: منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة».

وذكر أيضا: أن الله تعالى أثنى على خلقه، فقال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}، واستعظام العظماء للشيء يدل على إيغاله في العظمة، فما الظن باستعظام أعظم العظماء سبحانه وتعالى.


#481#

وذكر أيضا منها: أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام بالطور وبالوادي المقدس، وكلم نبينا صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى.

وذكر أيضا منها: أن الله تعالى كلمه بأنواع الوحي، وهي ثلاثة:

أحدها: الرؤيا الصادقة.

الثاني: الكلام من غير واسطة.

والثالث: مع جبريل عليه السلام.

ومنها: أن كتابه صلى الله عليه وسلم مشتمل على ما اشتملت عليه التوراة والإنجيل والزبور، وفضل بالمفصل.

وذكر أيضا منها: أن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين، فأمهل عصاة أمته ولم يعاجلهم إبقاء عليهم، بخلاف من تقدمه من الأنبياء، فإنهم لما كذبوا عوجل مكذبوهم.

وذكر أيضا منها: أن الله عز وجل وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه، فقال: {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول}، وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره، بل ثبت أن كلا منهم نودي باسمه، فقال تعالى: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}.


#482#

{يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك}.

{يموسى إني أنا الله}.

{ينوح اهبط بسلام}.

{يداود إنا جعلناك خليفة في الأرض}.

{يإبراهيم. قد صدقت الرؤيا}.

{ يلوط إنا رسل ربك}.

{يزكريا إنا نبشرك}

{ييحيى خذ الكتاب بقوة}.

ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وجد فيهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام [التي] لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق؛ أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم، وهذا معلوم بالعرف، أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه، حتى قال القائل:

لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أحسن أسمائي

 



[1] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي طبعة دار الفلاح المعتمدة: (قال الحسن بن عباس) وكتب المحقق في الهامش: كذا]]

[2] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]

[3] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي طبعة دار الفلاح المعتمدة: (ورواه عن عبد الله الأملولي الحمصي)]]

[4] [[سقط هنا من طبعة دار الفلاح نحو من (70) صفحة، قال المحقق في الهامش: نظراً لانتهاء النسخة الخطية ههنا.

وتم استدراك هذا النقص من من طبعة دار الكتب العلمية]]

 

مصحح

 
#5# ج2.

&فصل في ذكر نسبه المنيف إلى آدم -عليه الصلاة والسلام-، وانتقال نوره الشريف إلى آبائه الكرام&

قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى":

أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا أراد أن يبعث نبيا نظر إلى خير أهل الأرض قبيلة، فيبعث خيرها رجلا».

وبلغنا عن إبراهيم بن المنذر الحزامي الإمام رحمه الله أنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف ولد آدم حسبا وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه. انتهى.

فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد العالمين وخير الخلائق أجمعين، هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.


#6#

قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ" حين ذكر النسب الشريف إلى "عدنان" وزاد: "ابن أدد"، فقال: سمعت أبا بشر زيد بن بشر الحضرمي يذكر هذا النسب عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود: محمد بن عبد الرحمن الأسدي –يتيم عروة بن الزبير وغيره.

قلت: وهكذا ساقه إلى عدنان: أبو عبد الله البخاري في باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من "صحيحه"، وذكره كذلك في "تاريخه الصغير"، وذكره الجم الغفير، لا يختلفون فيه ولا يعرفون فيه خلافا.

قال الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة": وكان شيخنا أبو عبد الله الحافظ رحمه الله يقول: نسبة النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة إلى "عدنان"، وما وراء "عدنان" فليس فيه شيء يعتمد عليه. انتهى.

وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: علمني أبي وأنا غلام نسب النبي صلى الله عليه وسلم: محمد الطيب المبارك [محمد] بن عبد الله، وساقه إلى "عدنان".

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي بخط يده قال: حدثنا محمد بن إدريس –يعني: الشافعي-


#7#

قال:النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعبد المطلب شيبة، واسم هاشم: "عمرو بن عبد مناف"، واسم "عبد مناف": المغيرة بن قصي، واسم "قصي": زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

إلى هنا رواه أحمد عن الشافعي.

وإلى "عدنان" أجمع النسابون على صحته، واتفقوا على إيراده هكذا، وعليه إجماع الأمة.

قال محمد بن سعيد أبو بكر القاضي بعسقلان: حدثنا صالح بن علي النوفلي, حدثنا عبد الله بن محمد بن ربيعة قال: قال مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في الخير منهما، حتى خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نسبا وخيركم أبا».


#8#

حدث به الحاكم أبو عبد الله الحافظ عن أبي علي الحسين بن علي الحافظ، عن محمد بن سعيد هذا.

وشيخ صالح: غير صالح، يقال: القدامي المصيصي، له أفراد عن مالك، هذا منها، والله أعلم، وقد ضعفه أبو أحمد بن عدي وغيره، ولم يذكره القدماء بجرح ولا تعديل.

وروى هذا الحديث أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعيد إملاء سنة ست وتسعين ومائتين، حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي، حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي، حدثنا مالك، عن الزهري، عن أنس وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالا من كندة يزعمون أنهم منه أو أنه منهم، فقال: «إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان بن حرب إذا قدما المدينة ليأمنا» الحديث بنحوه.

وقال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن طاهر الحسيني: حدثنا


#9#

أبو سليمان أحمد بن محمد المكي بالمدينة سنة تسع وتسعين ومائتين، حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن ابن أبي ذئب، عمن لا يتهم، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن امرأة من بني هاشم قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن زوجي قال: إنما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سدرة نبتت في كباء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة جامعة»، فجلس على المنبر ، وإن وجهه ليكاد يتوقد توقدا من الغضب حتى رضي من الناس، ثم قال: «إن الله اختار العرب على الناس، واختار قريشا على العرب، واختارني على من أنا منه».

ثم قال: «أنا محمد بن عبد الله» حتى بلغ النضر بن كنانة ثم قال: «فمن قال غير هذا كذب».

وحدث به محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" عن معن بن عيسى، حدثني ابن أبي ذئب، عمن لا يتهم، عن عمرو. فذكره مختصرا.

ووجدت بخط الحافظ الضياء أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله، فيما قرأه على الإمام أبي المظفر عبد الرحيم بن أبي سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني بإجازته عن والده إن لم يكن سمعه منه، قال: أخبرنا محمد بن غانم، أخبرنا أبو القاسم الفضل بن عبد الواحد بن محمد بن قدامة الباجي في سنة تسع وستين، أخبرنا أبو طاهر الحسين بن علي بن سلمة الشاهد الهمذاني بها بقراءة عبد الرحمن بن منده وإفادته، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن مت


#10#

الأسبجي بـ "صفد"، حدثنا الحسن بن صاحب الشاشي، حدثنا عمران بن موسى النصيبي، حدثنا أبي: موسى بن أيوب، حدثنا إسماعيل بن يحيى، عن سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن عابر بن شالخ بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم بن آذر بن تارح بن ناحور بن شارغ بن فالغ بن غابر –وهو: هود النبي- بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن خنوخ –وهو: إدريس- بن أدد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم» صلوات الله على الأنبياء.

قال الحداد –يعني: شيخ أبي سعد بن السمعاني وهو: أبو عبد الله محمد بن غانم بن أحمد بن محمد بن أحمد البيع الحداد الأصبهاني-: رواه الهيثم بن خالد، عن موسى بن أيوب.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا هشام، أخبرني أبي، عن أبي


#11#

صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز في نسبه معد بن عدنان بن أدد، ثم يمسك ويقول: «كذب النسابون»، قال الله عز وجل: {وقرونا بين ذلك كثيرا}.

قال ابن عباس: ولو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لعلمه.

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه انتسب إلى عدنان وقال: «كذب النسابون»، قال الله تعالى: {وقرونا بين ذلك كثيرا}.

ولا يصح إسناد هذا كالذي قبله، وفي كلام أبي القاسم السهيلي أنه صح، وأنى ذلك!

قال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه "الإنباه على قبائل الرواة": وكان قوم من السلف –منهم: عبد الله بن مسعود، وعمرو بن ميمون الأودي، ومحمد بن كعب القرظي. إذا تلوا: {والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله} قالوا: كذب النسابون.


#12#

وجاء عن أبي الأسود يتيم عروة، عن عروة وغيره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إنما نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان.

وقال ابن سعد في "الطبقات": حدثنا خالد بن خداش، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة أنه قال: ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء "معد بن عدنان".

وروي عن عروة عن عائشة نحوه قالت: ما وجدنا أحدا يعلم ما وراء "معد بن عدنان" ولا "قحطان" إلا تخرصا.

وروي عن عمر وعكرمة وغيرهما نحوه.

وقال ابن سعد: أخبرنا خالد بن خداش، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود، سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة يقول: ما وجدنا في علم عالم ولا شعر شاعر أحدا يعرف ما وراء "معد بن عدنان" بثبت.

وقال الطبراني في "معجمه الأوسط" حدثنا موسى بن جمهور، حدثنا دحيم، حدثنا عبد الله بن يزيد البكري، حدثنا محمد بن


#13#

إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: استقام نسب الناس إلى "معد بن عدنان".

لم يرو هذا الحديث عن يزيد بن رومان إلا محمد بن إسحاق، تفرد به عبد الله بن يزيد. قاله الطبراني.

$* وقد ورد أن من "نوح" إلى "آدم" عشرة آباء، ومن "إبراهيم" إلى "نوح" عشرة آباء$

قال آدم بن أبي إياس العسقلاني في كتاب "الثواب": حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن أبي عبد الملك، عن أبي عائذ، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، فجلست إليه، فقال: «يا أبا ذر، هل صليت؟»، فقلت: لا. قال: «قم فاركع ركعتين» وذكر الحديث.

وفيه: فقلت: يا رسول الله، من أول الأنبياء؟ فقال: «آدم». فقلت: يا رسول الله، وإنه لنبي؟ فقال: «نعم، مكلم، ثم نوح، وبينهما عشرة آباء، ثم إبراهيم، وبينهما عشرة آباء» الحديث.

"أبو عبد الملك" هذا اسمه: محمد بن أيوب، وقد تقدم مصرحا باسمه في رواية أبي الحسن أحمد بن عمير بن جوصا.

[ .. .. ] من طريق معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، أنه سمع


#14#

أبا سلام، حدثني أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، أنبي كان "آدم" قال: «نعم». قال: كم كان بينه وبين "نوح"؟ قال: «عشرة قرون»، قال: كم بين "نوح" و"إبراهيم"؟ قال: «عشرة قرون» الحديث.

وهو من أفراد "معاوية"، وسيأتي –إن شاء الله تعالى.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا محمد بن عمر بن واقد، عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كان بين "آدم" و"نوح" عليهما السلام عشرة قرون، القرن مائة سنة، وبين "نوح" و"إبراهيم" عشرة قرون القرن مائة سنة، وبين "إبراهيم" و"موسى" عليهما السلام عشرة قرون، والقرن مائة سنة.

ولا خلاف بين أهل النسب أن "عدنان" من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، من غير شك.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": ولم أر بينهم اختلافا أن "معدا" من ولد "قيدر بن إسماعيل"، وهذا الاختلاف في نسبته يدل على أنه لم يحفظ، وإنما أخذ ذلك من الكتاب وترجموه لهم، فاختلفوا فيه، ولو صح ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، فالأمر عندنا على الانتهاء إلى "معد بن عدنان" ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى "إسماعيل بن إبراهيم" عليهما السلام.

وقال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة في كتاب"النسب": ثم


#15#

أجمعوا –يعني: النسابين- على أن "عدنان" من ولد "إسماعيل بن إبراهيم" صلى الله عليهما وسلم.

وقال أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي في كتابه "الأوسط في الأحكام" حين ذكر النسب الشريف إلى "عدنان"، قال: إلى هنا انتهى النسب الصحيح، وما فوق "عدنان" فمختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن "عدنان" من ولد "إسماعيل" الذبيح بن "إبراهيم" الخليل صلى الله عليه وسلم.

وجزم عبد الحق هنا: أن "إسماعيل" هو الذبيح، وقد اختلف في الذبيح من هو؟ فذهب طائفة إلى أنه "إسحاق"، وطائفة إلى أنه "إسماعيل".

قال أبو جعفر محمد بن جرير في تاريخه "سير العالم": واختلف السلف من علماء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه، فقال بعضهم: هو "إسحاق بن إبراهيم"، وقال بعضهم : هو "إسماعيل بن إبراهيم"، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كلا القولين، لو كان فيهما صحيح لم يعده إلى غيره، غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هو "إسحاق"».


#16#

وذكر ابن قتيبة في "المعارف" أن على ذلك أكثر أهل العلم، قال: ووجدته في التوراة: الذبيح.

ثم روى من حديث سلم بن قتيبة، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن، عن الأحنف، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: الذبيح "إسحاق".

وروي مثله عن ابن مسعود، وابن عباس في أحد قوليه، ومسروق، وكعب، و[ابن] أبي الهذيل، وغيرهم.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بقية بن الوليد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: من أكرم الناس؟ قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله».


#17#

وخرج أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه" من حديث يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: الذبيح: "إسماعيل".

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذبيح "إسماعيل".

وعلى هذا القول علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وممن قاله: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن عباس، وأبو الطفيل، وغيرهم.

وجاء عن: محمد بن كعب القرظي، والتيمي، ومجاهد، وأبي صالح، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعبد الرحمن بن سابط، ويوسف بن مهران، وغيرهم.

وروينا في "فوائد الخلعي أبي الحسن علي بن الحسين القاضي": أخبرنا أبو محمد بن النحاس قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو الحسن شعبة بن الفضل بن سعيد البغدادي قراءة عليه، حدثنا أحمد بن علي بن


#18#

مسلم الأبار، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن [أبي] كريمة الحراني، حدثني عمرو بن عبد الرحيم الخطابي، حدثني عبيد الله بن محمد العتبي –من ولد عتبة بن أبي سفيان- [عن أبيه، حدثني عبد الله بن سعيد، عن الصنابحي قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان] رضي الله عنهما، فتذاكر القوم "إسماعيل" و"إسحاق" ابني إبراهيم –صلى الله عليهم وسلم، فقال بعض القوم: "إسماعيل" الذبيح، وقال بعضهم: بل "إسحاق"الذبيح.

فقال معاوية: سقطتم على الخبير، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرابي عنده فقال: يا رسول الله، خلفت البلاد يابسا والمال عابسا، هلك العيال وضاع المال، فعد علينا مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكره عليه.


#19#

قال: فقلنا: يا أمير المؤمنين، من الذبيحان؟ قال: [إن] عبد المطلب لما أمر بحفر "زمزم" نذر لله عز وجل إن سهل أمرها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم، فأسهم بينهم، فخرج السهم على عبد الله، فأراد ذبحه، فمنعه أخواله بنو مخزوم، فقالوا: ارض ربك وافد ابنك. ففداه بمائة ناقة، وهو الذبيح، و"إسماعيل عليه السلام" الذبيح الثاني.

حدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة- به.

وقاسم بن ثابت في "الدلائل" عن أبي بكر أحمد بن مالك الشعيري، عن إسماعيل- به.

وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه" .


#20#

ويذكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» يعني: "إسماعيل" و"عبد الله".

وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح: أكان "إسحاق" أم "إسماعيل"؟ فقال: أين ذهب عقلك؟! متى كان "إسحاق" بمكة؟! وإنما كان بها "إسماعيل"، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والنحر "بمنى" لا شك فيه.

قال أبو الخطاب بن دحية رحمه الله في كتابه "التنوير": قال ابن السائب الكلبي والواقدي وأبو الفرج بن الجوزي والمؤرخ النسابة الحافظ أبو عبد الله محمد بن جرير الطبري: العجب ممن عزا إلى بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم من ولد "إسحاق"، والصحابة –رضوان الله عليهم- أهل بيت الوحي، في أبياتهم نزل، وعن المختار صلى الله عليه وسلم أخذوا، وقد اتضح السند الصحيح أن إسماعيل عليه السلام كان رجلا عربيا، وولده، ولا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي، فثبت بذلك أنه من ولده، والقرآن الذي نزل عليه بلسان قومه، قال الله تعالى: {قرءانا عربيا غير ذي عوج}، وسائر الألسنة لا تخلو من التصحيف والاعوجاج إلا العربي، فإنه بين صحيح، وأكثر النقلة الثقات ذكروا أنه هو أفصح الألسنة بلا خلاف في ذلك، وأن الله تعالى يوم الفصل بين عباده يخاطب عباده به، وسائر الأمم في ذلك اليوم العظيم لسانهم عربي، واتضح أن إسحاق كان رجلا عبرانيا وولده، فحصل الفارق بينهما بهذا الدليل الواضح، فاكتف بهذا.


#21#

وهذا من تساهل ابن دحية في نقله. والله أعلم.

وقول ابن عباس الثاني: أن الذبيح هو "إسماعيل" روي عنه من طرق:

منها ما رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا يحيى –أراه: ابن يمان- حدثنا سفيان، عن بيان، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: الذبيح "إسماعيل".

وهو عند ابن علية عن داود بن أبي هند، زعم أن الشعبي قال: قال ابن عباس في الآية: يعني {وفديناه}: هو "إسماعيل".

وقال ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس قال: هو "إسماعيل". يعني: الذبيح.

حدثناه يحيى بن معين، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن أبي عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس –مثله.

ورواه يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة محمد بن ميمون


#22#

السكري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: الذي أمر بذبحه إبراهيم: "إسماعيل" عليهما السلام.

ورواه هشيم، عن علي بن زيد، عن عمار مولى بني هاشم، أو عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: هو "إسماعيل". يعني: {وفديناه بذبح عظيم}.

وهو عند مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران –من غير شك.

رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه"، عن موسى بن إسماعيل، عن مبارك بن فضالة.

ورواه ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وقال ابن وهب: أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المفدى: "إسماعيل"، وزعمت يهود أنه "إسحاق"، وكذبت اليهود.


#23#

وجاء عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إن الذي أمر الله –عز ذكره- إبراهيم بذبحه من ابنيه: "إسماعيل"، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم وما أمر به من ذبح ابنه "إسماعيل"، وذلك: لأن الله –عز ذكره- يقول حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}. يقول: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}، يقول: بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله من الموعود ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.

خرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" وقال عقب ذلك: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق، عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم: أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كان معه بالشام، فقال له عمر: إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك –قال محمد بن كعب القرظي: وأنا عند عمر بن عبد العزيز-، فقال له عمر: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ قال: "إسماعيل"، والله يا أمير المؤمنين إن يهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله


#24#

فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به، فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه "إسحاق"؛ لأن "إسحاق" أبوهم.

وللإمام أبي بكر بن العربي رحمه الله في ذلك تأليف بديع حسن جمع فيه كلام الفريقين وحجج كل من الطائفتين، وجنح بظاهر الدليل وصحيح التأويل من غير تمريض ولا تعليل أن الذبيح ولا بد "إسماعيل" عليه السلام.

وقد سئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح، فأنشأ يقول:

إن الذبيح -هديت- إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل

شرف به خص الإله نبينا ... وأبانه التفسير والتأويل

وذكر أبو عبد الله محمد بن القيم في كتابه "الهدي" أن القول بأنه "إسحاق" باطل من أكثر من عشرين وجها، وحكى عن شيخه أبي العباس بن تيمية رحمه الله أنه سمعه يقول: هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، مع أنه باطل بنص كتابهم، فإن فيه: أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره –وفي لفظ: وحيده- ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن "إسماعيل" هو بكر أولاده، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم: "اذبح ابنك إسحاق".

قال: وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: "اذبح


#25#

بكرك" أو: "وحيدك"، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف، فأحبوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويحتازوه دون العرب، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله.

قال ابن القيم: ويدل عليه أن الله تعالى لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات، قال: {فلما أسلما وتله للجبين . وناديناه أن يا إبراهيم . قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين}.

ثم قال: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}، فهذه بشارة من الله له، شكرا له على صبره على ما أمر به، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنص فيه.

فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه على ذلك بأن أعطاه النبوة؟

قيل: البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده، وأنه يكون نبيا، ولهذا نصب {نبيا} على الحال المقدرة بعدها، أي: تقدير نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضل.

هذا محال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى.

وأيضا؛ فلا ريب أن الذبح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة بها ورمي الجمار تذكرا بشأن "إسماعيل" وأمه، وإقامة الذكر لله.


#26#

ومعلوم أن "إسماعيل" وأمه هما اللذان كانا بمكة دون "إسحاق" وأمه.

وهذا أفضل مكان الذبح وزمانه، فالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه "إبراهيم" و"إسماعيل" عليهما السلام، فكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد "إبراهيم" وابنه "إسماعيل" زمانا ومكانا.

ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقي عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة.

وأيضا؛ فإن الله تعالى أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالد ممن بعدهم، وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت له شعبة من قلبه بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله عنده أعظم من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس، فقد حصل المقصود، فنسخ الأمر وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا، وحصل مراد الرب تعالى.

ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول، بل لم تحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه، وهذا في غاية الظهور.

انتهى قوله.


#27#

وذكر ابن قتيبة في "المعارف" أن في التوراة: أن "هاجر" ولدت "إسماعيل" وإبراهيم ابن ست وثمانين سنة، وولدت "سارة" "إسحاق" وإبراهيم ابن مائة سنة.

و"إسماعيل" تفسيره: مطيع الله. ذكره السهيلي.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا يحيى بن إسحاق أبو زكريا السيلحيني ومحمد بن معاوية النيسابوري، قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن أنعم، قال: أخبرني بكر بن سويد، أنه


#28#

سمع علي بن رباح اللخمي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام».

وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": أخبرنا الزبير بن بكار، أخبرنا إبراهيم بن المنذر، حدثني عبد العزيز بن عمران، حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أول من نطق بالعربية فوضع الكتاب على لفظه ومنطقه ثم جعله كتابا واحدا مثل: "بسم الله الرحمن الرحيم" الموصول، حتى فرق بينه ولده إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم.

وقال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنيه إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن أبي [الجارود] ربيع الغطفاني، عن عقبة بن المغيرة


#29#

الأشعري قال: سألت محمد بن علي بن حسين قلت: يا أبا جعفر، من أول من تكلم بالعربية؟ قال: إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة. قال: قلت: فما كان كلام الناس قبل ذلك؟ قال: العبرانية.

وهذا، والذي قبله مشكل؛ لأنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن "إسماعيل" عليه السلام تعلم العربية من جرهم، وأنفسهم وأعجبهم.

وقال محمد بن السائب الكلبي: لم يتكلم "إسماعيل" بالعربية، ولم يستحل خلاف أبيه، وأول من تكلم بالعربية من ولده: بنو رعلة بنت يشجب بن يعرب بن لوذان بن جرهم بن عامر بن سبأ.

وروى أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد [بن] الأعرابي من حديث عبد الرحمن بن [مغيث، عن] كعب الأحبار قال: أول


#30#

من وضع الكتاب العربي والسرياني والحضوري والكتب كلها آدم صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث مائة سنة، كتبها في الطين ثم طبخه، فلما أصاب الأرض الغرق أصاب كل قوم كتابهم فكتبوه، فكان إسماعيل بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أصاب كتاب العرب.

وقال ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": أخبرنا موسى بن داود، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن يحيى بن عبد الله قال: بلغني أن إسماعيل –عليه الصلاة والسلام- اختتن وهو ابن ثلاث عشرة سنة.

وذكر أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه" وابن قتيبة في "معارفه" واللفظ له: أن إسماعيل عليه السلام عاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، ودفن في الحجر، وفيه أمه هاجر.

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا خالد بن خداش بن عجلان، حدثنا عبد الله بن وهب المصري، حدثني حرملة بن عمران، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أنه قال: ما يعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة: قبر إسماعيل عليه السلام، فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت، وقبر هود عليه السلام، فإنه في حقف تحت جبل من جبال اليمن،


#31#

عليه شجرة تندى، وموضعه أشد الأرض حرا، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه قبورهم بحق.

وقال أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي، عن عبد الرحيم بن مسلمة المخزومي، حدثني ابن المبارك بن حسان قال: رأيت عمر بن عبد العزيز في الحجر، فسمعته يقول: شكا إسماعيل عليه السلام إلى ربه عز وجل حر مكة، فأوحى الله عز وجل إليه: أني أفتح لك بابا من الجنة يجري عليك منه الروح إلى يوم القيامة، وفي ذلك الموضع توفي.

قال خالد: فيرون أن ذلك الموضع ما بين الميزاب إلى باب الحجر الغربي.

$*و"إبراهيم" عليه السلام من ولد أرفخشد بن سام بن نوح:$

قال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة في كتاب "النسب" له: أجمع النسابون العدنانية والقحطانية والأعاجم على أن إبراهيم خليل الرحمن من ولد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.

وكذا نقل غيره الإجماع على ذلك.

وزاد أبو جعفر بن جرير في "تاريخه" في نسب إبراهيم عليه السلام بين "شالخ" و"أرفخشد": "قينان".


#32#

وذكر هذا عن ابن إسحاق أنه قال: وترك "أرفخشد بن سام" ابنه "قينان"، ولا ذكر له في التوراة، وهو الذي قيل: إنه لم يستحق أن يذكر في الكتب المنزلة؛ لأنه كان ساحرا، وسمى نفسه إلها، فسيقت المواليد في التوراة على أرفخشد بن سام بن نوح، ثم على "شالخ بن قينان بن أرفخشد" من غير أن يذكر قينان في نسب لما ذكر من ذلك. انتهى.

$* وقد اختلفوا فيما بين "عدنان" و"إسماعيل" من الآباء:$

فذكرت طائفة أن بينهما سبعة آباء.

وعن طائفة: تسعة.

وأخرى: خمسة عشر أبا.

وذكر أبو بشر الدولابي بين عدنان وإبراهيم أربعة آباء.

قال أبو القاسم السهيلي: والمدة بين عدنان وإبراهيم طويلة، ويستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو سبعة كما خرجه ابن إسحاق، أو عشرة، فإن المدة أطول من ذلك كله، وذلك أن معد بن عدنان كان في مدة بخت نصر ابن اثنتي عشرة سنة.

ثم ذكر السهيلي ما ذكره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: أن الله


#33#

تعالى أوحى إلى "أرميا بن حلقيا" أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب، واحمل معدا كي لا تصيبه النقمة فيهم، وأني مستخرج من صلبه نبيا أختم به الرسل، فاحتمل معدا إلى أرض الشام، فنشأ مع بني إسرائيل وتزوج هناك امرأة معانة، ويقال: ناعمة.

وقال الزبير بن بكار: بنت جوشن.

وذكر ابن جرير أيضا نسب [النبي صلى الله عليه وسلم] عدنان إلى إسماعيل، فذكر في أكثرها نحوا من أربعين أبا باختلاف في الألفاظ؛ لأنها نقلت من كتب اليهود، فوقع فيها التخليط.

قال محمد بن عبدة بن سليمان النسابة: وأما الذين جعلوا بين "عدنان" و"إسماعيل" أربعين أبا، فإنهم استخرجوا ذلك من كتاب رخيا، وهو: "يورخ بن ناريا" كاتب أرميا النبي عليه السلام، وكانا قد حملا معد بن عدنان من جزيرة العرب ليالي بخت نصر، فأثبت "رخيا" في كتبه نسبة عدنان، وهو معروف عند أحبار العرب وعلمائهم مثبت


#34#

في أسفارهم، وقد وجدنا طائفة من علماء العرب تحفظ لـ "معد" أربعين أبا بالعربية إلى إسماعيل عليه السلام، وتحتج في أسمائهم بالشعر من شعر أمية بن أبي الصلت وغيره من علماء الشعراء بأمر الجاهلية ومطالعة الكتب، انتهى.

وسيأتي –إن شاء الله تعالى- عن هشام بن الكلبي، عن رجل من أهل "تدمر" نحو ذلك.

وحدث ابن سعد عن هشام بن الكلبي قال: قال أبي: وبين "معد" و"إسماعيل" نيف وثلاثون أبا. وكان لا يسميهم ولا ينفذهم.

وجميع من ذكر نسب معد إلى إبراهيم قالوا: معد بن عدنان بن أدد، غير أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي وجماعة فقالوا: عدنان بن أد بن أدد، وكذلك قاله الشريف أبو علي محمد بن أسعد بن علي بن معمر الحسيني الجواني النسابة.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وقال بعضهم: هو عدنان بن ميدع بن ميتع بن أدد بن كعب بن يشجب بن يعرب بن الهميسع بن قيذر بن إسماعيل.


#35#

وقال البخاري في "تاريخه الصغير": حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق أنه قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وذكر نسبه إلى عدنان كما مر، ثم قال: "ابن أدد بن المقوم بن ناحور بن تارح بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر".

ورواه أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس في المغازي.

وزاد بعضهم بين أدد ومقوم: يحثوم.

وقال ابن إسحاق: وبعضهم يقول: عدنان بن أدد بن أنيحب بن أيوب بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.

وذكر إسماعيل بن أبي أويس نسب شيخه "محمد بن طلحة بن عبد الرحمن التيمي القرشي" إلى "عدنان" ثم قال: ابن أدد بن الهميسع بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم النبي عليهما السلام.

ذكره البخاري في "تاريخه الكبير" عن ابن أبي أويس فيما قاله له.

وحدث يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن إبراهيم بن المنذر قال: قال عبد العزيز –يعني: ابن عمران-: وحدثني موسى بن يعقوب الزمعي من بني أسد بن عبد العزى، أخبرني عمي أبو الحويرث، عن أبيه، عن أم


#36#

سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "معد بن عدنان بن أدد بن زند بن يرى بن أعراق الثرى" قالت أم سلمة: فـ"معد": معد، و"عدنان": عدنان، و"أدد": أدد، و"زند"، هميسع ، و"يرى": نبت، و"إسماعيل بن إبراهيم": أعراق الثرى.

وذكر أبو القاسم السهيلي هذا [عن] أم سلمة مرفوعا بمعناه، وذكر أنه أصح شيء روي، وفيه نظر؛ لأن "موسى بن يعقوب" ضعفه ابن المديني والنسائي، ووثقه ابن معين، وقال أبو داود: صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته.

واسم عمه أبو الحويرث: عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الزرقي الأنصاري المديني.


#37#

قال ابن معين وغيره: لا يحتج به. وقال مالك: ليس بثقة.

ولو قال السهيلي بدل قوله: أصح شيء روي: أشبه شيء أو نحوه كان أسلم له.

هذا، وقد قدمنا عنه آنفا فيما ذكر: أنه يستحيل أن يكون بين عدنان وإبراهيم أربعة آباء أو سبعة أو عشرة أو عشرون، فإن المدة أطول من ذلك كله.

وقد عبر بنحو ما قلناه أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الإنباه على القبائل الرواه" حين ذكر الحديث من رواية موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعي، عن عمه، عن أم سلمة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: معد بن عدنان بن أدد بن زند بن يرى بن أعراق الثرى. قالت أم سلمة: وزند هو: الهميسع، و"يرى" هو: نبت، و"أعراق الثرى" هو: إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عمر: فهذا أرفع ما روي في ذلك، وأولى ما قيل به. والله أعلم.

فهذه العبارة أسلم من عبارة السهيلي. والله أعلم.


#38#

ورواية موسى بن يعقوب: حدث بها أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن الزبير بن بكار، عن يحيى بن المقداد الزمعي، عن عمه: موسى بن يعقوب الزمعي كذلك.

ورواه النضر بن سلمة، حدثنا محمد بن الحسن المخزومي، حدثني موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة، عن عمه: أبي الحارث، عن أبيه، سمعت أم سلمة. فذكره بنحوه.

ورواه خالد بن مخلد القطواني، حدثنا موسى بن يعقوب، عن عمه الحارث بن عبد الله بن زمعة، عن أبيه، عن أم سلمة.

أخبرنا المشايخ: أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن الشيخ أبي بكر بن قوام البالسي، وأم أحمد فاطمة بنت الشيخ أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن المنجا التنوخية، وأم عبد الله عائشة بنت محمد بن عبد الهادي بقراءتي على الأولين بدار الحديث الشقيشقية بدمشق، وقراءة على الأخيرة بمنزلها في صالحية دمشق وأنا أسمع.


#39#

قال الأول وعائشة: أخبرنا الملك أبو محمد عبد القادر بن المغيث عبد العزيز بن المعظم عيسى قراءة عليه ونحن نسمع.

وقالت التنوخية: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الزراد إجازة، قالا: أخبرنا محمد بن إسماعيل الخطيب سماعا، أخبرنا هبة الله بن يحيى بن علي ح.

وقالت أم أحمد التنوخية أيضا: وأنبأنا القاضي أبو الفضل سليمان بن حمزة وأبو زكريا يحيى بن محمد بن سعد المقدسيان، وأبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي، قالوا: أنبأنا أبو صادق الحسن بن يحيى بن محمد المخزومي.

قال هو وهبة الله بن يحيى: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن رفاعة السعدي.

قال هبة الله: سماعا. وقال الآخر: إجازة.

أخبرنا القاضي أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي سماعا، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن النحاس البزار. ح.

وقال ابن قوام والتنوخية أيضا: أنبأنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب البناني.

زادت أم أحمد التنوخية فقالت: وأنبأنا القاضي سليمان، وابن سعد، وابن المظفر الدمشقي، المذكورون، وأبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم وعيسى بن عبد الرحمن المطعم.


#40#

قالوا ستتهم: أنبأنا أبو الفضل جعفر بن علي الهمداني.

زاد القاضي وابن سعد فقالا: وأنبأنا أيضا أبو محمد عبد الوهاب بن طاهر الأزدي.

وقال القاضي وابن المظفر الدمشقي أيضا: وأنبأنا أبو القاسم عبد الله بن الحسين بن رواحة.

قالوا ثلاثتهم: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ سماعا، أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد فاتك الأيلي بمصر، حدثنا أبو محمد عبد الله بن الوليد بن سعد بن بكر الأنصاري، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد اللماي قراءة عليه بالقيروان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.

قال هو وابن النحاس: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن الورد بن زنجويه البغدادي، حدثنا أبو سعيد عبد الرحيم بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي، حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال:

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب".

واسم "عبد المطلب": "شيبة بن هاشم".

واسم "هاشم": عمرو بن عبد مناف.

واسم "عبد مناف": المغيرة بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهد بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة.

واسم مدركة: عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل ابن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح، وهو: آزر بن ناحور بن ساروح بن


#41#

راعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ –وهو: إدريس النبي فيما يزعمون، وهو أول بني آدم أعطي النبوة وخط بالقلم- بن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم عليه السلام.

قال ابن البرقي: حدثني أبي، حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطلبي بهذا الذي ذكرت من نسب محمد صلى الله عليه وسلم، وما فيه من حديث إدريس وغيره.

قلت: وذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام" أن سياق هذا النسب هو الذي عليه أئمة هذا الشأن.

قلت: وذكر أبو القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي الوزير: أن إجماع أهل النسب على تقديم "يشجب" على "يعرب" قال: وهذا إغراب تفرد به ابن إسحاق في تقديم "يعرب" يعني: على "يشجب".

وهكذا حدث بهذا النسب أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق في "المغازي" إلا أنه قال: ابن أخنوخ بن يرد بن مهلائل بن قمعان بن قوش بن شيث بن آدم عليه السلام.

ورواه عبيد بن يعيش، عن يونس بن بكير، بخلاف في بعض الأسماء، اختلف على "ابن إسحاق" في ذلك.


#42#

وقد وجدت النسب الشريف بخط العز النسابة محمد بن أحمد بن محمد بن عساكر، وذكر أنه نقله. يعني: من نسخة خلف بن عبد الله بن هبة الله بن حريز السعدي المصري في سنة ثمان عشرة وست مائة، وذكر خلف أنه نقلها في سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة شكلا ومعنى، ومن حواشي نسخة الوزير أبي القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي المعري في سنة سبع وتسعين وثلاث مائة، وهو النسب على لفظ التوراة على ما أخذناه من العلماء بها:

إبراهيم خليل الرحمن بن تارح بن ناحور بن سروغ بن بالغ –بإمالة "الباء" إلى الكسر، وهي مع ذلك بين الباء والفاء- بن عابر بن شالح بن أربخشد

-و"الباء" في "أربخشد" بين الباء والفاء- بن شام –بإمالة الشين- بن نوح بن لامخ بن متوشلخ –بإمالة الشين- بن خنوخ بن يازد بن ماهللأل –بوزن: ما على الأل، ولكن الهمزة فيه ممالة إلى الكسرة- بن قينان بإمالة النون إلى الكسر- بن أنوش بن شاث –بإمالة الشين إلى الكسر- بن آدم عليه السلام.

[قال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": وأخبرنا مصعب ابن عبد الله قال: وقال بعضهم: معد بن عدنان بن أدد بن أمين بن ساحب بن ثعلبة بن عتر بن يربح بن محلم بن العوام بن المجتمل بن زائمة بن العقان بن علة بن سحدود بن الضريب بن عبقر بن إبراهيم بن إسماعيل بن رزن بن أعوج بن المطعم بن الطمح بن القسور بن عبور ابن رعدع بن محمود بن الزائد بن ندوان بن أبامه بن دوس بن حصن بن


#43#

النزال بن القمير بن المحشر بن معذر بن صيفي بن نبت بن قيذر بن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله (صلى الله عليهما وسلم).

[قال]: وأخبرنا مصعب بن عبد الله قال: وأجمع أهل النسب لا اختلاف بينهم: أن إبراهيم بن آزر بن الناحر بن الشارع بن الراع بن القاسم –الذي قسم الأرض بين أهلها- بن يعبر بن السائح بن الرافد بن السائم –وهو: سام بن نوح- نبي الله- بن ملكان بن مثوب بن إدريس- نبي الله- بن الزائد بن مهلهل بن قيان بن الطاهر هبة الله بن شيث بن آدم أبو البشر عليه السلام غير أنهم يحرفون الأسماء ويأتون بالعدد سواء.

[قلت]: [1] وهكذا ساقه الزبير بن بكار وقال: اختلفوا في الأسماء وحروفها .

[قلت][2]: ومن الغريب في ذلك: ما قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": قال هشام: أخبرني مخبر عن أبي، ولم أسمعه منه: أنه كان ينسب معد بن عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن بور بن قموال بن أبي بن العوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن تدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيقى بن عبقر بن عبيد بن الدعاء بن حمدان بن سنين بن شربي بن محزر بن يلحن بن أرعوى بن عيفى بن ديشان بن عيصر بن أقناد بن أبهام بن مقصى بن ناحث بن زارح بن شمي بن مري بن عوص بن عرام بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.


#44#

وقال ابن سعد: أخبرنا هشام بن محمد قال: وكان رجل من أهل "تدمر" يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم وعلم علما، فذكر أن يورخ بن ناريا مكاتب أرميا –أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء، ولعل خلاف ما بينهما من قبل اللغة؛ لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية.

وقد وجدت النسب الشريف متصلا إلى آدم عليه السلام بخط أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله في كتابه "منتخل المنتخب في الوعظ" مقيدا بخطه فذكر بعد عدنان بن أد بن أدد بن زيد بن يقرر بن قوم بن الهميسع بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروع بن أرعو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوسلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.


#45#

ثم قال ابن الجوزي: هكذا ضبط هذه الأسماء بعض المحققين من العلماء.

وقال ابن الجوزي أيضا في كتابه "تلقيح فهوم أهل الأثر"، وهو من أجل مصنفاته، صنفه في حياة شيخه أبي الفضل بن ناصر، قال فيه:

ومن أثبت ما رأيت في ذلك ما نقلته من خط أبي محمد بن السمرقندي الحافظ قال: نقلت من خط علي بن عبيد الكوفي –وهو صاحب ثعلب: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.

وذكر نسبه صلى الله عليه وسلم إلى "عدنان"، ثم ذكر نسب "عدنان" إلى آدم عليه السلام كما سقناه آنفا عن خطه في كتابه "المنتخل".

وذكر النسابة أبو علي محمد بن أسعد بن علي الجواني بن "عدنان": بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار ابن الذبيح إسماعيل ابن الخليل إبراهيم بن تارح –وهو: آزر- بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالخ بن عابر –وهو: هود النبي عليه السلام- جماع قيس ويمن –بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ –وهو: إدريس النبي عليه السلام بن يارد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث وهو: هبة الله بن آدم أبي محمد- عليهما أفضل الصلاة والسلام.

حكاه الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، فيما أنبأنا عنه أبو عبد الله بن محمد بن عوض وغيره، عن أبي علي


#46#

الجواني. وقال: قال: وهذه أصح الطرق وأوضحها وأحسنها، وهي رواية شيوخنا في النسب.

وذكر عنها أبو الفتح بن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر" فيما أنبأنا عنه غير واحد: أن هذا النسب بهذا السياق سوى تفسير "عابر" بـ "هود" هو الذي رجحه بعض النسابين.

قال أبو القاسم السهيلي: إدريس عليه السلام قد قيل: إنه "إلياس"، وإنه ليس بجد لنوح عليه السلام، ولا هو في عمود هذا النسب، وكذلك سمعت شيخنا الحافظ أبا بكر رحمه الله ويستشهد بحديث الإسراء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقي نبيا من الأنبياء عليهم السلام الذين لقيهم ليلة الإسراء قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، وقال له آدم: "مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح"، وكذا قال له إبراهيم عليه السلام، وقال له إدريس: والأخ الصالح، فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قال أبوه إبراهيم وأبوه آدم، ولخاطبه بالبنوة لا بالأخوة.

قال: وهذا القول عندي أقبل، والنفس إليه أميل؛ لما عضده من هذا الدليل، انتهى.


#47#

والذي قاله شيخ السهيلي الحافظ أبو بكر بن العربي –رحمه [الله]- واستشهد به ذكره في كتابه "أحكام القرآن" قال فيه: نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات، وسائر الفرائض.

ثم قال: ومن قال إن إدريس كان قبله من المؤرخين، فقد وهم، والدليل على صحة وهمه في اتباعه صحف اليهود وكتب الإسرائيليات: الحديث الصحيح في الإسراء حين لقي النبي صلى الله عليه وسلم آدم و"إدريس" فقال له آدم: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، وقال إدريس: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، ولو كان إدريس أبا لـ "نوح" عن صلب "محمد" لقال له: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، فلما قال له: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح دل على أنه يجتمع معه في أبيهم نوح عليه السلام.

وما قاله السهيلي وابن العربي –رحمهما الله- ليس لهما عليه دليل يسلم من الاعتراض، والله أعلم.

وغالب النسابين فسروا أخنوخ أنه "إدريس".

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وولد لـ ليارد: حنوح وهو إدريس، ثم قال: وولد لـ إدريس: متوشالخ على ثلاثمائة سنة من عمره، وولد لـ متوشالخ: لمك، وولد لـ لمك غلام فسماه: "نوحا".


#48#

هكذا حكى أبو جعفر بن جرير في "تاريخه" بمعناه مطولا عن ابن إسحاق وغيره.

وتقدم ما ساقه النسابة أبو علي الجواني، وصححه الحافظ الدمياطي كما مر آنفا من أن "أخنوخ" هو: إدريس عليه السلام.

وقد جاء عن سفيان الثوري أنه قال: قال –يعني: إدريس- للنبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال ذلك تلطفا وتأدبا.

فهذا ما تيسر من ذكر الخلاف بين الأعلام في نسب عدنان إلى آدم عليه السلام، والمتفق على صحته وثبوته وقوته من غير شك في زيادة ولا نقصان نسب النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه عبد الله إلى عدنان.

$*أما "عبد الله بن عبد المطلب" فهو:$

أبو محمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الأخباريين من المتقدمين وكان يكنى عبد الله: أبا العباس، وباسمه وكنيته سمي عبد الله بن عباس، وكني كذلك.

ذكره عن يحيى بن معين.

و"عبد الله" هو الذبيح الثاني، ولهذا يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن الذبيحين.

وكان عبد الله أجمل أهل زمانه وأحب ولد عبد المطلب إليه.


#49#

قال الزبير بن بكار: وكان عبد الله أحسن رجل رؤي في قريش قط. انتهى.

وقيل: إنه كان أصغر بني أبيه.

قاله مصعب بن محمد بن الحسين.

وهكذا رواه زياد البكائي وغيره عن ابن إسحاق.

قال السهيلي: وهذا غير معروف، ولعل الرواية: أصغر بني أمه، وإلا فـ حمزة كان أصغر من "عبد الله"، و"العباس" كان أصغر من "حمزة" رضي الله عنهما.

وروي عن العباس رضي الله عنه أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء بي حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لي: "قبل أخاك قبل أخاك"، فقبلته.

قال: فكيف يصح أن يكون "عبد الله" هو الأصغر مع هذا؟! ولكن رواه البكائي كما تقدم، ولروايته وجه وهو: أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد له بعد ذلك "حمزة" و"العباس" رضي الله عنهما. انتهى.

ولم يكن لـ عبد الله ولد ذكر ولا أنثى غير رسول الله.


#50#

وأمه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، وهي أقرب الفواطم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جداته الفواطم.

وأمها: صخرة بنت عبد بن عمران بن مخزوم.

وأمها: تخمر بنت عبد بن قصي.

وأمها: سلمى بنت عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر.

وأمها: عاتكة بنت عبد الله بن وائلة بن ظرب بن عباد بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث وهو: عدوان بن عمرو بن قيس.

وقيل فيها: عاتكة بنت عبد الله بن حرب بن وائلة.

وتوفي عبد الله بالمدينة، كما سيأتي –إن شاء الله تعالى.

وقال أبو محمد عبد الله بن عمرو بن أبي سعد الوراق في "كتاب الأسخياء والأجواد": حدثني علي بن محمد بن الحارث القرشي قال: سمعت أبي وعلي بن عيسى بن عبد الله –وكان علامة بني هاشم يذكر أن عبد الله بن عبد المطلب سابق فتيانا من قريش من الطائف إلى مكة، فسبقهم، فأنشأ يقول:


#51#

ألم تعلمي يا أم أحمد أنني ... أجد مطايا القوم بالدلح الملس

وإني إذا ضن البخيل بماله ... أهين كريم المال أكرم به نفسي

$*[ذكر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم]$

وأما "عبد المطلب" فاسمه: عامر، ذكره غير واحد، منهم ابن قتيبة في "المعارف".

وقيل: اسمه: "شيبة" ، سمي بذلك؛ لأنه ولد في رأسه شيبة.

وقيل: إن "هاشما" أوصى زوجته "سلمى": إن أنت وضعت ذكرا فسميه "شيبة".

وسبب تسميته بـ "عبد المطلب": أن أباه تركه بالمدينة عند أخواله بني النجار، وكان أخو "هاشم": المطلب بن عبد مناف قد أوصى إليه أخوه هاشم، وكان شريفا في قومه سيدا مطاعا كريما، كان يسمى "الفيض" لجوده، وكانت إليه السقاية والرفادة بعد أخيه "هاشم".

وشب "عبد المطلب" عند أخواله، ثم قدم فيما ذكره الواقدي:


#52#

ثابت بن المنذر بن حرام –وهو أبو "حسان" شاعر الإسلام- قدم مكة معتمرا فلقي المطلب، وكان له خليلا فقال: لو رأيت ابن أخيك "شيبة" فينا لرأيت جمالا وهيبة وشرفا، لقد نظرت إليه وهو يناضل فتيانا من أخواله، فيدخل مرماتيه جميعا في مثل راحتي هذه، ويقول كلما خسق: "أنا ابن عمرو العلى".

فقال المطلب: لا أمسي حتى أخرج إليه فأقدم به.

قال ثابت: ما أرى "سلمى" تدفعه إليك ولا أخواله، هم أضن به من ذاك، وما عليك أن تدعه فيكون في أخواله حتى يكون هو الذي يقدم عليك إلى هاهنا، فيكون راغبا فيك.

فقال المطلب: يا أبا أوس، ما كنت لأدعه هناك ويترك مآثر قومه، وسطته ونسبه وشرفه في قومه ما قد علمت.

فخرج المطلب فورد المدينة فنزل في ناحية وجعل يسأل عنه حتى وجده يرمي في فتيان من أخواله، فلما رآه عرف شبه أبيه فيه، ففاضت عيناه، وضمه إليه، وكساه حلة يمانية، وأنشأ يقول:

عرفت شيبة والنجار قد حفلت ... أبناؤها حوله بالنبل تنتضل


#53#

عرفت أجلاده منا وشيمته ... ففاض مني عليه وابل سبل

فأرسلت سلمى إلى "المطلب" فدعته إلى النزول عليها.

فقال: شأني أخف من ذلك، ما أريد أن أحل عقدة حتى أقبض ابن أخي وألحقه ببلده وقومه.

فقالت: لست بمرسلته معك. وأغلظت عليه.

فقال المطلب: لا تفعلي؛ فإني غير منصرف حتى أخرج به معي، ابن أخي، وقد بلغ، وهو غريب في غير قومه، ونحن أهل بيت شرف قومنا، والمقام ببلده خير له من المقام هاهنا، وهو ابنك حيث كان.

فلما رأت أنه غير مقصر حتى يخرج به استنظرته ثلاثة أيام، وتحول إليهم، فنزل عندهم فأقام ثلاثا، ثم احتمله، وانطلقا جميعا، فروي أن أم عبد المطلب قالت:

كنا ولاة ثمه ورمه ... حتى إذا قام على أتمه

انتزعوه عنوة من أمه ... وغلب الأخوال حق عمه

قال الواقدي: ودخل به "المطلب" مكة ظهرا، فقالت قريش: هذا عبد [المطلب، فقال: ويحكم، إنما هو ابن أخي شيبة بن


#54#

عمرو فلما رأوه قالوا: ابنه لعمري! فلم يزل عبد المطلب مقيما بمكة حتى أدرك، وخرج المطلب بن عبد مناف تاجرا إلى أرض اليمن فهلك بردمان من أرض اليمن، فولي عبد المطلب بن هاشم بعده الرفادة والسقاية.

فلم يزل ذلك بيده يطعم الحاج ويسقيهم في حياض من أدم بمكة، فلما سقي زمزم ترك السقي في الحياض بمكة وسقاهم من زمزم حين حفرها، وكان يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقيهم.

وكانت زمزم سقيا من الله، أتي في المنام مرات فأمر بحفرها ووصف له موضعها فقيل له: احفر طيبة، قال: وما طيبة؟

فلما كان الغد أتاه فقال: احفر برة، قال: وما برة؟

فلما كان الغد أتاه وهو نائم في مضجعه ذلك فقال: احفر المضنونة، قال: وما المضنونة؟ أبن لي ما تقول.

قال: فلما كان الغد أتاه فقال: احفر زمزم، قال: وما زمزم؟

قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم –قال: وكان غراب أعصم لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم- وهي شرب لك ولولدك من بعدك.

قال: فغدا عبد المطلب بمعوله ومسحاته معه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس له يومئذ ولد غيره، فجعل عبد المطلب يحفر بالمعول ويغرف بالمسحاة في المكتل فيحمله الحارث فيلقيه خارجا، فحفر ثلاثة أيام ثم بدا له الطوي فكبر وقال: هذا طوي إسماعيل، فعرفت قريش أنه قد أدرك الماء.

فأتوه فقالوا: أشركنا فيه.

فقال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم فاجعلوا بيننا وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.


#55#

قالوا: كاهنة بني سعد هذيم، وكانت بمعان من أشراف الشأم، فخرجوا إليها وخرج مع عبد المطلب عشرون رجلا من بني عبد مناف، وخرجت قريش بعشرين رجلا من قبائلها.

فلما كان بالغفير من طريق الشأم أو حذوه فني ماء القوم جميعا فعطشوا فقالوا لعبد المطلب: ما ترى؟

فقال: هو الموت، فليحفر كل رجل منكم حفرة لنفسه فكلما مات رجل دفنه أصحابه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فيموت ضيعة أيسر من أن تموتوا جميعا.

فحفروا ثم قعدوا ينتظرون الموت، فقال عبد المطلب: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا لعجز، ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض هذه البلاد! فارتحلوا.

وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجر تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه وشربوا جميعا، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء الرواء فقد سقانا الله، فشربوا واستقوا.

وقالوا: قد قضي لك علينا، الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فوالله لا نخاصمك فيها أبدا!

فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم.

قال: أخبرنا خالد بن خداش، أخبرنا معتمر بن سليمان التيمي


#56#

قال: سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز: أن عبد المطلب أتي في المنام فقيل له احتفر، فقال: أين؟ قيل له: مكان كذا وكذا، فلم يحفر، فأتي فقيل له: احتفره عند الفرث عند النمل عند مجلس خزاعة ونحوه، فاحتفر، فوجد غزالا وسلاحا وأظفارا.

فقال قومه لما رأوا الغنيمة: كأنهم يريدون أن يغازوه، قال: فعند ذلك نذر: لئن ولد له عشرة لينحرن أحدهم، فلما ولد له عشرة وأراد ذبح "عبد الله" منعته بنو زهرة وقالوا: أقرع بينه وبين كذا وكذا من الإبل، وإنه أقرع فوقعت عليه سبع مرات وعلى الإبل مرة –قال: لا أدري السبع عن أبي مجلز أم لا- ثم صار من أمره أن ترك ابنه ونحر الإبل.

ثم رجع الحديث إلى حديث محمد بن عمر، قال: وكانت جرهم حين أحسوا بالخروج من مكة دفنوا غزالين وسبعة أسياف قلعية وخمسة أدراع سوابغ فاستخرجها عبد المطلب، وكان يتأله ويعظم الظلم والفجور فضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، وكانا من ذهب، وعلق الأسياف على البابين يريد أن يحرز به خزانة الكعبة، وجعل المفتاح والقفل من ذهب.


#57#

وأخبرنا هشام بن محمد عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان الغزال لجرهم، فلما حفر عبد المطلب زمزم استخرج الغزال وسيوفا قلعية فضرب عليها بالقداح فخرجت للكعبة فجعل صفائح الذهب على باب الكعبة، فغدا عليه ثلاثة نفر من قريش فسرقوه.

قال: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وعن عبد المجيد بن أبي عبس وأبي المقوم وغيرهم قالوا: وكان عبد المطلب أحسن قريش وجها وأمده جسما وأحلمه حلما وأجوده كفا وأبعد الناس من كل موبقة تفسد الرجال، ولم يره ملك قط إلا أكرمه وشفعه، وكان سيد قريش حتى هلك، فأتاه نفر من خزاعة فقالوا: نحن قوم متجاورون في الدار، هلم فلنحالفك، فأجابهم إلى ذلك وأقبل عبد المطلب في سبعة نفر من بني عبد المطلب والأرقم بن نضلة بن هاشم والضحاك وعمرو ابني أبي صيفي ابن هاشم، ولم يحضره أحد من بني عبد شمس ولا نوفل، فدخلوا دار الندوة فتحالفوا فيها على التناصر والمواساة وكتبوا بينهم كتابا وعلقوه في الكعبة.

وقال عبد المطلب في ذلك:

سأوصي زبيرا إن توافت منيتي ... بإمساك ما بيني وبين بني عمرو


#58#

وأن يحفظ الحلف الذي سن شيخه ... ولا يلحدن فيه بظلم ولا غدر

هم حفظوا الإل القديم وحالفوا ... أباك فكانوا دون قومك من فهر

قال: فأوصى عبد المطلب إلى ابنه الزبير بن عبد المطلب، وأوصى الزبير إلى أبي طالب، وأوصى أبو طالب إلى العباس بن عبد المطلب.

قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري، عن أبيه، عن جده، قال: كان عبد المطلب إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير، فنزل عليه مرة من المرات فوجد عنده رجلا من أهل اليمن قد أمهل له في العمر، وقد قرأ الكتب، فقال له: يا عبد المطلب! تأذن لي أن أفتش مكانا منك؟ قال: ليس كل مكان مني آذن لك في تفتيشه، قال: إنما هو منخراك، قال: فدونك، قال: فنظر إلى يار، وهو الشعر في منخريه، فقال: أرى نبوة وأرى ملكا، وأرى أحدهما في بني زهرة، فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت محمدا صلى الله عليه وسلم، فجعل الله في بني عبد المطلب النبوة والخلافة، والله أعلم حيث وضع ذلك.

قال: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال:


#59#

أخبرني رجل من بني كنانة يقال له ابن أبي صالح ورجل من أهل الرقة مولى لبني أسد وكان عالما قالا: تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي الحبشي فأبى أن ينفر بينهما، فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو أتنافر رجلا هو أطول منك قامة] وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ودا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا، فنفره عليه، فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكما.

وقد جاءت صفة "عبد المطلب" في حديث خرجه ابن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة" فقال: أخبرني العباس بن هشام بن محمد، عن أبيه، حدثنا الوليد بن عبد الله القرشي، عن ابن لعبد الرحمن بن موهب الأشعري –حليف بني زهرة، عن أبيه، حدثني مخرمة بن نوفل بن أهيب الزهري، سمعت أختي: رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم تحدث -وكانت لدة عبد المطلب- قالت: تتابعت على قريش سنون، ذهبن بالأموال، وأشفين على الأنفس.

قالت: وسمعت قائلا يقول في المنام: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث فيكم، هذا إبان خروجه، وبه يأتيكم الحيا والخصب،


#60#

فانظروا رجلا من وسطكم نسبا، طوالا عظاما أبيض، مقرون الحاجبين، أهدب الأشفار، جعدا، سهل الخدين، دقيق العرنين، أشم، فليخرج هو وجميع ولده، وليخرج منكم من كل بطن رجل، فتطهروا وتطيبوا، ثم استلموا الركن، ثم ارقوا "أبا قبيس"، ثم يتقدم هذا الرجل فيستسقي، وتؤمنون، فإنكم ستسقون، فأصبحت فقصت رؤياها عليهم، فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب، فاجتمعوا إليه، وخرج من كل بطن منهم رجل، ففعلوا ما أمرهم به ثم علوا على "أبي قبيس" ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب، فتقدم عبد المطلب فقال: لا هم؛ هؤلاء عبيدك، وبنو عبيدك، وإماؤك وبنات إمائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا هذه السنون؛ فذهبت بالظلف والخف، وأشفت على الأنفس، فأذهب عنا الجدب، وائتنا بالحيا والخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم سقوا.

فقالت رقيقة بنت أبي صيفي:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر


#61#

فجاد بالماء جوني له سبل ... دان فعاشت به الأنعام والشجر

منا من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوما به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر

في هذه الرواية: قال مخرمة: "سمعت أختي".

وقد رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" فقال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، حدثني الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري، عن ابن لعبد الرحمن بن موهب بن رباح الأشعري –حليف بني زهرة، عن أبيه، حدثني مخرمة بن نوفل الزهري، سمعت أمي: رقيقة بنت أبي صيفي. فذكره.

وهذا هو الصواب، ولفظة "أختي" تصحيف من لفظة "أمي"، تصحفت على الناس، لكن النسخة التي خرجت منها هذا الحديث فيها سقم، وقد تداولها الحفاظ، وقرأها شيخنا الحافظ أبو بكر بن المحب رحمه الله وأصلح فيها أماكن، ولم يتعرض لهذه اللفظة، وهذا غلط صريح؛ لأن رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف أم مخرمة بن نوفل.

وقد روى هذا الحديث على الصواب: أبو السكين زكريا بن


#62#

يحيى بن عمر بن حصن بن حميد بن منهب بن حارثة بن خريم بن أوس بن حارثة بن لام الكوفي، أخبرنا عم أبي زحر بن حصن، عن جده حميد ابن منهب، حدثني عمي عروة بن مضرس، قال: تحدث مخرمة بن نوفل، عن أمه: رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم –وكانت لدة عبد المطلب- قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأدقت العظم، فبينما أنا راقدة اللهم أو مهومة، إذا هاتف يصرخ بصوت صحل يقول: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث منكم، أيئست، قد أظلتكم أيامه، وهذا إبان نجومه فحي هلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظاما جساما أبيض بضا أوطف


#63#

الأهداب، سهل الخدين، أشم العرنين، له فخر يكظم عليه وسنة تهدي إليه، فليخلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليشنوا من الماء، وليمسوا من الطيب، ثم ليستلموا الركن، ثم ليرتقوا أبا قبيس، ثم ليدع الرجل، وليؤمن القوم، فغثتم ما شئتم، فأصبحت علم الله مذعورة قد اقشعر جلدي، ووله عقلي، واقتصصت رؤياي، ونمت في شعاب مكة، فوالحرمة والحرم ما بقي بها أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد، وتنامت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فشنوا ومسوا واستلموا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وأطفقوا حوله ما يبلغ سعيهم مهله، حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام قد أيفع –أو:


#64#

كرب، فرفع يديه وقال: لاهم، ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت معلم غير معلم، ومسئول غير مبخل، وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك: يشكون إليك سنتهم أذهبت الخف والظلف، فاسمعن اللهم، وأمطرن غيثا مغدقا مريعا، فوالكعبة، ما راموا حتى تفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه، فلسمعت شيخان قريش وجلتها: عبد الله بن جدعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء، عاش بك أهل البطحاء، وفي ذلك تقول رقيقة:

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر


#65#

فجاد بالماء جوني له سبل ... دان فعاشت به الأنعام والشجر

منا من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوما به مضر

مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر

رواه محمد بن موسى البربري، وعلي بن الحسين بن حرب القاضي واللفظ له، عن أبي السكين.

ورواه أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتابه "مجابي الدعوة" وكتاب "المطر" عن أبي السكين هذا بنحوه.

وخرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث محمد بن يوسف بن الطباع، حدثني أبو حبيب العمير بن عثمان بن عباد بن معبد بن عبيد بن عمير، حدثني محمد بن زيد بن خالد، حدثني عثمان بن بشير، عن أبيه، عمن سمع المسور بن مخرمة يقول: قال مخرمة: حدثتني أمي: رقيقة. فذكره.


#66#

وخرجه أيضا من حديث يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن ابن حويصة، أن مخرمة بن نوفل، يحدث عن أمه: رقيقة بنت أبي صيفي –وكانت لدة عبد المطلب بن هاشم- قال: تتابعت على قريش سنون الحديث.

ورقيقة هذه قال ابن سعد: أسلمت وأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله في ترجمتها في "معرفة الصحابة": ذكرها سليمان في من لها صحبة، وما أراها بقيت إلى البعثة والدعوة. انتهى.

و"سليمان" هذا هو –والله أعلم: الحافظ الكبير أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني، نزيل أصبهان، وقد حدث بالحديث أبو نعيم عنه، عن محمد بن موسى البربري.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" كذلك.

وقد ورد أن عبد المطلب استسقى بالنبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى بعد هذه،


#67#

وهو ما ذكره أبو هاشم بن ظفر في كتابه "أنباء نجباء الأبناء": أن بلاد قيس ومضر أجدبت، وأتت عليهم سنة ذات حطمة شديدة، فاجتمعوا إلى زعمائهم، فتشاوروا، فقام أحدهم خطيبا فقال: يا معشر مضر، إنكم أصبحتم في أمر ليس بالهزل، وقد بلغنا أن صاحب البطحاء استسقى فسقي، وشفع فشفع، فاجعلوا قصدكم إليه واعتمادكم عليه.

فارتحلت "قيس" و"مضر" ومن داناهم، حتى أتوا مكة، ودخل سادتهم على عبد المطلب فحيوه، فقال: أفلحت الوجوه، وسألهم عما قصدوا إليه، فقام خطيبهم فقال: أبا الحارث، نحن ذوو رحمك الواشجات، أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، ووضح عندنا خبرك، فاشفع لنا إلى مشفعك.

فقال: موعدكم جبل عرفات.

ثم خرج من مكة هو وولد ولده، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين أو نحو ذلك، فركب عبد المطلب ناقة وسدل من عمامته ذؤابتين


#68#

على غارب ناقته، وكأن ترائبه صفائح الفضة، حتى انتهى إلى عرفات، فنصب له كرسي، فنزل عليه وجلس متربعا، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الكرسي، فأخذه عبد المطلب فأجلسه في حجره، وقال:

اللهم، رب البرق الخاطف، والرعد القاصف، ورب الأرباب، ومسبب الأسباب، هذه قيس ومضر خير البشر، قد شعثت شعورها، وحدبت ظهورها، يشكون شدة الهزال وذهاب الأموال، فأزج اللهم لهم سحابا خوارة وسماء خرارة تضحك أرضهم وتذهب ضرهم.

فما استتم كلامه حتى نشأت سحابة دكناء فيها ودي.

فقال عبد المطلب مخاطبا للسحابة: هذا أوانك، سحي سحا، ثم قال: يا معشر قيس ومضر، ارجعوا إلى بلادكم، قد سقيتم، فرجعوا وقد كثرت أمواهها، واخضرت صحاريها.


#69#

قال ابن ظفر: إنما كانت السقيا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحسب أن عبد المطلب تعمد أخذه في حجره لذلك، وقد صنع أبو طالب مثل هذا حين استسقى لمضر بعد موت عبد المطلب، فإنه قام على قدميه، واحتمل النبي صلى الله عليه وسلم على كتفيه، وكان قد أربى على تسع سنين، لم يكن مثله يحمل على الكتف لغير ضرورة. انتهى.

واستسقاء أبي طالب بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أشار إليه ابن ظفر: خرجه أبو بكر أحمد بن مروان المالكي في كتابه "المجالسة"، فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن مولى بني هاشم، حدثنا إبراهيم بن محمد الشافعي، عن أبيه، عن أبان بن الوليد، عن أبان بن تغلب، قال: حدثني جلهمة بن عرفطة، قال: إني لبالقاع من "نمرة" إذ أقبلت عير من أعلى نجد، فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه من عجز بعير، فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى: يا رب البنية أجرني.

[وإذا شيخ جندعي عشمة قمدود قد جاء فانتزع يده من أسجاف الكعبة]، فقام إليه شيخ وسيم عليه بهاء الملك ووقار الحكماء، فقال: ما شأنك يا غلام؛ فأنا من آل الله وأجير من استجار به؟


#70#

قال: إن أبي مات وأنا صغير، وإن هذا استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله بيتا يمنع من الظلم، فلما رأيته استجرت به.

فقال له القرشي: قد أجرناك يا غلام.

قال: وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه.

قال جلهمة بن عرفطة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة –وكان قعدد الحي- فقال: إن لهذا الشيخ لنبأ –يعني أبا طالب.

قال: فهويت رحلي نحو تهامة أكسع بها الجدود وأعلو بها إلى الكذان، حتى انتهيت إلى المسجد الحرام، وإذا قريش عزين قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون، فقائل منهم يقول: اعمدوا اللات والعزى. وقليل منهم يقول: اعمدوا المناة الثالثة الأخرى.

فقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل –صلى الله عليهما وسلم-؟!

قالوا: كأنك عنيت أبا طالب؟ قال: إيها.

فقاموا بأجمعهم وقمت معهم، فدققنا عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مصفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه، فقالوا: أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العباد، فهلم فاستق. فقال: رويدكم زوال الشمس وهبوب الريح.


#71#

فلما زاغت الشمس خرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه للغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي، ففي ذلك يقول أبو طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة ... ووزان صدق وزنه غير عائل


#72#

$*[عود إلى ترجمة عبد المطلب]:$

رجعنا إلى ذكر عبد المطلب:

وكان أحد الذين حرموا الخمر في الجاهلية، وأول من خضب بالسواد من أهل مكة، وقيل: من العرب مطلقا.

قال هشام بن محمد بن السائب ابن الكلبي: حدثني أبي، وأخبرني رجل من أهل المدينة، عن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، قالا: كان أول من خضب بالوسمة من قريش بمكة عبد المطلب بن هاشم، وكان إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء "حمير" فقال له: يا عبد المطلب، هل لك أن تغير هذا البياض فتعود شابا؟ قال: ذاك إليك.

قال: فأمر به فخضب بحناء ثم علي بالوسمة.

فقال له عبد المطلب: زودنا من هذه. فزوده فأكثر.

فدخل مكة ليلا ثم خرج عليهم بالغداة كأن شعره حلك الغراب، فقالت له نتيلة بنت جناب بن كليب أم العباس بن عبد المطلب: يا شيبة الحمد، لو دام هذا لك كان حسنا، فقال: عبد المطلب في ذلك:
فلو دام لي هذا السواد حمدته ... وكان بديلا من شباب قد انصرم


#73#

تمتعت منه والحياة قصيرة ... ولا بد من موت نتيلة أو هرم

وما ذا الذي يجدي على المرء عزة ... ونعمته يوما إذا عرشه انهدم

فموت جهيز عاجل لا شوى له ... أحب إلي من مقالهم حلم

قوله: "حلم" يقال: "حلم الرجل": انتهت سنه وعقل.

وقوله: "لا شوى له": لا مهلة ولا بقاء.

و"نتيلة" هي كما تقدم: بنت جناب بن كليب، أم العباس، وقيل: أم سليمان، من بني النمر بن قاسط، وهي أول عربية كست البيت الحرام الحرير والديباج.

ويروى بدل "نتيلة" في البيت "نبيلة"، ويروى: "ظعينة"، وقيل: "بثينة"، وقيل: "بسيلة". فالله أعلم.

و"أم عبد المطلب": سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن حذيفة بن حازم بن حارثة بن عدي بن النجار.


#74#

قاله أبو بكر الصديق فيما رواه سعيد بن سالم القداح، حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري، عن عثمان بن أبي سليمان بن أبي حثمة وعن أبي بكر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن جبير بن مطعم، عن أبي بكر –فذكره.

وقال ابن الكلبي في "الجمهرة": سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.

وقيل: إن أم عبد المطلب سلمى من شرفها في قومها، كانت لا تنكح رجلا حتى تشترط أن أمرها بيدها، إذا كرهته فارقته.

و"أم سلمى": عميرة بنت صخر بن حبيب بن الحارث بن ثعلبة بن مازن بن النجار.

وأمها: سلمى بنت عبد الأشهل بن حارثة بن دينار بن النجار.

وأمها: أثيلة بنت زعوراء بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.

عاش عبد المطلب فيما قيل مائة وأربعين سنة؛ لأنه كان لدة عبيد


#75#

[بن] الأبرص الشاعر، وبلغ "عبيد" مائة وعشرين سنة، وعاش عبد المطلب بعده عشرين سنة.

ذكره أبو الربيع بن سالم.

وقيل: عاش مائة.

وقيل: خمسا وتسعين سنة، وذكر أبو الربيع بن سالم أن ذلك أدنى ما انتهى إليه ووقف عليه.

وقيل: عاش نحوا من تسعين سنة.

وقيل: عاش اثنتين وثمانين سنة.

وقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني من سأل عبد الله بن جعفر الزهيري عن متوفى عبد المطلب، فأخبره عن أهله، عن مخرمة بن نوفل قال: شهدت وفاة عبد المطلب وأنا غلام وهو ابن بضع وثمانين سنة، معتدل القناة.

قيل: كانت وفاته سنة تسع من عام الفيل بثماني سنين.

وأضر عبد المطلب في آخر عمره، وتوفي وعمر النبي صلى الله عليه وسلم ثمان


#76#

سنين وشهران وعشرة أيام على خلاف في ذلك، سنذكره إن شاء الله تعالى، ودفن بالحجون.

قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": وقرأت على إبراهيم بن المنذر، حدثني محمد بن معن الغفاري قال: لما مات عبد المطلب وحمل على سريره قالت قريش: من يقول لنا شعرا على قدره فينا؟ فقال الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس:

ألا هلك الراعي العشيرة ذو الفقد ... وساقي الحجيج والمحامي عن المجد

أبو الحارث الفياض خلى مكانه ... فلا تبعدن وكل حي إلى بعد

كسبت وليدا خير ما يكسب الفتى ... فلم تنفكك تزداد يا شيبة الحمد

$[ترجمة هاشم بن عبد مناف]:$

وأما أبوه هاشم فاسمه: "عمرو"، ويقال: "عمر"، وكنيته: "أبو يزيد"، وقيل: كني بابنه أسد.


#77#

وقيل له "هاشم" لهشمه الخبز بمكة لقومه؛ لأنه أول من أطعم الثريد بمكة بعد جده إبراهيم خليل الله، وذلك أن قريشا أصابتهم سنة فنالت منهم، وارتحل هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فأوقر عيرا له من الكعك والفتيت، فقدم بها مكة، ونحر الإبل، فاطبخ لحومها، ثم هشم ذلك الكعك والفتيت، فاتخذ منه الثريد، فأطعمه الناس حتى أحيوا، فسمي بذلك هاشما.

وفيه يقول عبد الله بن الزبعري:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف

سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف

كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصه لعبد مناف


#78#

الرائشين وليس يعرف رائش ... والقائلون: هلم للأضياف

والضاربين الكبش يبرق بيضه ... والمانعين البيض بالأسياف

لله درك لو نزلت بدارهم ... منعوك من ذل ومن أقراف

قال بعضهم: المشهور البيت الأول، ولكن ابن هشام حكى ذلك عن بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز على ما تقدم.

وقد روي أن الشعر لـ"مطرود بن كعب الخزاعي".

وكان جاور في بني سهم في سنة شديدة، وله بنات فتبرموا به تبرما أظهروه له، فخرج هو وبناته يحملون أثاثهم متحولين عنهم، فقال في ذلك:

يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف

الآخذون العهد من آفاقها ... والظاعنون لرحلة الإيلاف


#79#

والملحقون فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي

والرائشون وليس يوجد رائش ... والقائلون: هلم للأضياف

والضاربون الجيش يبرق بيضه ... والمانعون البيض بالأسياف

ويقابلون الريح كل عشية ... حتى تغيب الشمس في الرجاف

لم تر عيني مثلهم وهم الألى ... ليسوا فعال التلد والأطراف

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف

وإذا معد حصلت أنسابها ... فهم لعمرك جوهر الأصداف


#80#

وقال البخاري في "تاريخه الصغير": حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: قال محمد بن إسحاق بن يسار: إنما سمي هاشما لهشمه الثريد، فقال مسافر بن أبي عمرو:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... وقريش في سنة وفي إعجاف

وقوله في الأبيات المتقدمة "سنت إليه الرحلتان كلاهما" وفي الأبيات بعدها: "والظاعنون لرحلة الإيلاف": هما رحلتان: "رحلة الشتاء" و"رحلة الصيف"، وهاشم أول من سنهما.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: والله لقد علمت قريش أن أول من أخذ لها الإيلاف وأجاز لها العيرات لهاشم، والله ما شدت قريش خيلا لسفر ولا أناخت بعيرا لحضر إلا بهاشم.

وقد ذكر الله عز وجل في كتابه العزيز الإيلاف، فقال تعالى: {لإيلاف قريش} السورة.

و"الإيلاف": قال أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين":


#81#

سمعت الأزهري يقول: الإيلاف شبه الإجازة بالخفارة، يقال: آلف يؤلف وألف يؤلف: إذا أجاز الحمائل بالفارة.

قلت: الحمائل جمع حمولة.

قال: والتأويل: أن قريشا كانوا سكان الحرم ولم يكن لهم زرع ولا ضرع، وكانوا يمتارون في الشتاء والصيف آمنين، والناس متخطفون من حولهم، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله، فلا يتعرض لهم. انتهى.

فـ الإيلاف هو: أمان الطريق، لأن قريشا كانت تجارتهم لا تتعدى مكة، إنما يقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتنازعونها بينهم، فكانوا كذلك حتى حصل الإيلاف لهم.

قال أبو عبيد الهروي في كتابه "الغريبين": قال أبو منصور –يعني: الأزهري-: وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: كان هاشم مؤلفا إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان هؤلاء الإخوة يسمون "المجيزين"، فكان تجار قريش يختلفوا إلى هذه الأمصار بحيال هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم. انتهى.

وقد جاءت هذه القصة مطولة، وهي: أنه ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة، ويضع جفنة ثريد، فيجتمع من حوله


#82#

فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، قيل له: هاهنا رجل من قريش يهشم الخبز، ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وإنما كانت الأعاجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم في الخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فجعل يبعث إليه كل يوم فيدخل عليه، فلما رأى هاشم مكانه عنده قال: أيها الملك، إن قومي تجار العرب ، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمن تجاراتهم فيقدمون عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فيباع عندكم فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن أقبل منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافا –وهو: أمان الطريق- على أن قريشا يحمل لهم بضائع فيكفونهم حملها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك إيلافا بينهم وبين الشام، حتى قدم مكة، فأتاهم بأجل شيء أتوا به، فخرجوا بتجارة، وخرج هاشم معهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب، حتى أوردهم الشام، فمات في ذلك السفر بـ "غزة" من بلاد الشام، فخرج أخوه "المطلب بن عبد مناف" إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم عهدا وإيلافا كفعل أخيه "هاشم" ومات بـ "ردمان" من أرض اليمن، وخرج شقيقهما عبد شمس إلى الحبشة، فأخذ لقريش إيلافا


#83#

كفعل أخويه، ومات بـ "مكة" ودفن بـ الحجون، وقيل: بـ أجياد، وخرج نوفل أخوهم لأبيهم، فأخذ عهدا من كسرى وإيلافا لقريش ولمن مر به من العرب، ثم قدم مكة، ورجع إلى العراق فمات بها.

واتسعت قريش في التجارة، وكثرت أموالها بالإيلاف، وكان سببه هاشما، فهو أعظم الخلق بركة على قريش في الجاهلية والإسلام.

ذكره بنحوه دحية وقال: روى يعقوب بن شيبة في "سيره" عن ابن سوادة قال: كنت عسيفا لعقيلة من عقائل العرب، لا أرى بابا فيه فضل يعم إلا أتيته، فقدمت إلى الشام، فدخلت مكة ليلا، فلما نثر عني قميص الليل إذا قباب مضروبة مع شعف الجبال عليها أنطاع الطائف وإذا رجل أزهر كأن الشعرى تتوقد في جبينه على كرسي سأسم –يعني: أبنوس-، بيده قضيب مخصر به، وإذا بين يديه ثلاثون كهلا، لا يفيضون بكلمة، وإذا غلمان مشمرون إلى أنصاف سوقهم، وإذا جزائر تنحر، وجزائر تساق، وجزائر تطبخ، وإذا وكلة وحثثة


#84#

على الطهاة، وإذا قائل يقول: يا وفد الله، من تغدى فليرجع إلى العشاء، وقد كان حبر بالشام نما إلي أن النبي المبعوث قد طلعت نجومه، فظننته ذلك الرجل، فوقفت بين يديه فقلت: السلام عليك يا نبي الله. فقال لي: صه. فقلت لرجل إلى جنبي: من هذا الرجل؟ فقال لي: هذا أبو نضلة هاشم بن عبد مناف. قال: فقلت: هذا المجد لا مجد بني جفنة.

وروى أيضا من طريق أخرى عن دغفل النسابة: أنه دخل على معاوية رضي الله عنه فقال: حدثني بعض أحاديثك، فقال: سمعت نهار بن عبيد العشاء يحدث قال: كنت عسيفا لعقيلة من عقائل الحي أركب لها الصعب والذلول، لا ألقى مطرحا في متجر فيه ربا إلا أتيته يلفظني السهل إلى الحزن، فانحدرت من الشام بحرث وأثاث كثير، أريد به العرب ودهماء الموسم، فإذا بقباب شامية مع شعف الجبال مجللة بأنطاع الطائف، وإذا جزر تنحر وأخرى تساق، وإذا وكلة وحثثة على الطهاة يقولون لهم: ألا اعجل ألا اعجل، وإذا أنا برجل جهوري الصوت يقول: اعجلوا، وإذا آخر على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله، الغداء. وإذا آخر على مدرجة يقول: ألا من تغدى فليخرج


#85#

للعشاء، فأعجبني ما رأيت، فمضيت أريد عميد الحي، فإذا أنا به جالس على عرش سأسم –وهو: الأبنوس- وقد اتزر بيمنية، وتردى حبرة، وإذا على رأسه عمامة سوداء، يظهر من تحتها جمة فينانة، وكأن "الشعرى" تطلع من وجهه، وإذا بمشيخة جلة خفوت ماسكي الأذقان، ما يفيض أحدهم بكلمة، وإذا خوادم حواسر عن أنصاف سوقهن، فأكبرت ما رأيت، وقد كان نما إلي حبر من أحبار يهود: أن النبي التهامي هذا أوان مبعثه ووقت توكفه، فخلته إياه، وقلت: عله. وعسيت أن أفوز به، فدنوت فقلت: يا رسول الله. فقال: صه، لست به وليتني به.

فسألت رجلا من هذا؟

فقال لي: هذا هاشم بن عبد مناف.

فقلت: هذا والله والله السناء والمجد، لا ها الله إذن.

"أم هاشم": عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر.

قال ابن الكلبي في "الجمهرة": وهي أول القوابل اللاتي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#86#

وأمها: ماوية –ويقال: "صفية"- بنت حوزة بن عمرو بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وأمها: رقاش بنت الأسحم بن منبه بن أسد بن عبد مناة بن عائذ الله بن سعد العشيرة من –مذحج-.

وأمها: كبشة بنت الرافقي بن مالك بن الحماس بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب.

وقد تقدم أن هاشما مات بـ غزة، وذلك لما خرج في أصحابه إلى الشام، فلما بلغ "غزة" اشتكى فأقام أصحابه عليه حتى مات فدفنوه بـ "غزة" ورجعوا بتركته إلى ولده.

ويقال: إن الذي رجع بها أبو رهم بن عبد العزى العامري عامر بن لؤي، وهو يومئذ غلام ابن عشرين سنة.

هذا قول الواقدي، وقد تقدم عن بعضهم خلافه.

وجاء: أن الشفاء بنت هاشم قالت ترثي أباها:

عين جودي بعبرة وسجوم ... واسفحي الدمع للجواد الكريم

عين واستعبري وسجي وجمي ... لأبيك المسود المعلوم

هاشم الخبز ذي الجلالة والمجد ... وذي الباع والندى والصميم


#87#

وربيع للمجتدين وحرز ... ولزاز لكل أمر عظيم

$*[سياق ترجمة عبد مناف]$

وأما "عبد مناف" فاسمه: المغيرة.

قاله ابن الكلبي في "الجمهرة"، وابن قتيبة في "المعارف"، والبرقي، وغيرهم. وكان يقال له: "قمر البطحاء" لجماله.

وكان عنده لواء نزار، وقوس إسماعيل، وسقاية الحاج.

وإليه أفضت رئاسة قريش بعد أبيه "قصي"، فجاد وزاد وساد، واستحكمت رئاسته بجوده وسياسته، وكانت الركاب تضرب إليه من أطراف الأرض يتحفونه تحف الملوك، فيكرمهم.

وذكر الزبير بن بكار عن موسى بن عقبة: أنه وجد في حجر فيه: أنا المغيرة بن قصي، آمر بتقوى الله وصلة الرحم.

واختلف في تسميته [بـ "عبد مناف"].

فقيل: لطوله، لأن الإنافة: الإشراف والزيادة.


#88#

وقيل: إن أمه حبا بنت حليل الخزاعي –الذي كان في يده مفتاح الكعبة، فأخذه بعده على خلاف فيه "قصي بن كلاب"- كانت جعلت عبد مناف لمناة –صنم من أصنامهم-، فدعي "عبد مناة"، ثم نظر أبوه قصي، فإذا هو موافق لـ "عبد مناة بن كنانة بن خزيمة" فحوله "عبد مناف".

وكان أول ولد لقصي في قول.

وأم عبد مناف: حباء بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، من خزاعة.

وأمها: هند بنت عامر بن النضر بن عمرو بن عامر بن خزاعة.

وأمها: ليلى بنت مازن بن كعب بن عمر بن عامر، من خزاعة.

وقيل: إن أم عبد مناف عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان.

وقيل في اسمها غير ذلك.

روى عبد الله بن المبارك في كتاب "الجهاد" عن أبي بكر بن أبي مريم الغساني، عمن حدثه من الأشياخ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه: أن سرح المدينة أغير عليه، فخرج في الخيل، فلم يكن من ذلك شيء،


#89#

فتوجهوا منصرفين، فأقبل القوم على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن شئت يا رسول الله استبقنا. قال: «ما شئتم»، قالوا: نعم فاستبقوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس حمراء، فبرز عليهم في السبق، فالتفت إليهم فقال: «أنا ابن العواتك».

وقال أبو العباس الأصم: حدثنا الربيع، حدثنا أيوب، عن السري بن يحيى، عن حرملة بن أسير –ابن عم له- عن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتزي في الحرب ويقول: «أنا ابن العواتك».

وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة": حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا هشيم، عن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، حدثني سيابة بن عاصم السلمي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك».


#90#

وهو في "معجم الصحابة" لعبد الباقي بن قانع، ولفظه: «أنا ابن العواتك من سليم».

وحدث به عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، عن لوين، حدثنا هشيم، عن شيخ من قريش يقال له: يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن سيابة السلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك من سليم».

قال لوين: لا أدري، لعل قد أدخل بينهما رجل حتى أنظر فيه.

قلت: حدث به الدارقطني في كتابه "المختلف والمؤتلف" فقال: حدثنا أبو محمد بن صاعد، حدثنا لوين محمد بن سليمان، حدثنا هشيم، عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن العاص، عن رجل، عن سيابة السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك من سليم».

وقال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة "سيابة": حديثه عند هشيم، عن يحيى بن سعيد بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده، عن سيابة، عن عاصم السلمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك»، فسئل هشيم عن "العواتك" فقال أمهات له


#91#

صلى الله عليه وسلم كن من قيس.

قال أبو عمر بن عبد البر: يعني: جدات لآبائه وأجداده.

وقد روي في هذا الحديث عن سيابة بن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك بن سليم»، ولا يصح ذكر "سليم".

قال أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتابه "المجالسة": حدثنا إبراهيم الحربي وعبد الله بن مسلم بن قتيبة قالا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن العواتك من سليم»، [العواتك ثلاث نسوة من سليم] تسمى كل واحدة عاتكة:

[إحداهن: عاتكة] بنت هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم عبد مناف بن قصي. والثانية: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم هاشم بن عبد مناف والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، وهي أم وهب أبي "آمنة" أم النبي صلى الله عليه وسلم.

فالأولى من العواتك عمة الوسطى، والوسطى عمة الأخرى.

وحكى ابن عبد البر نحو هذا، وذكر قولا آخر في تفسير الحديث، فقال: والقول الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنسوة أبكار من بني سليم، فأخرجن ثديهن فوضعنها في في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدرت.


#92#

$*[سياق ترجمة قصي]:$

وأما "قصي" فهو تصغير "قاص" فيما ذكره ابن دريد؛ لأنه قصى عن قومه، أي: تبعد.

وقيل: تصغير "قصي" بمعنى: بعيد؛ لأن أمه قصت به في بلاد أخواله، أي: بعدت.

واسمه: "زيد".

وحكى الحاكم أبو أحمد في "الكنى" عن الشافعي أن اسمه "يزيد".

وهو وأخوه "زهرة" صريحا ولد آدم عليه السلام.

قال الإمام أبو بكر أحمد بن السني في كتابه "رياضة المتعلمين".

أخبرني أبو عروبة، حدثنا عبد الوهاب بن الضحاك، حدثنا إسماعيل ابن عياش، عن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث، عن أبيه، عن أبي سعيد


#93#

الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن صريح ولد آدم عليه السلام من الأولين والآخرين: ابنا كلاب بن مرة؛ قصي وزهرة لفاطمة بنت سعد بن سيل الأزدي، وهو أول من جدد البيت بعد كلاب بن مرة».

و"أم قصي": فاطمة بنت سعد بن سيل، وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد.

وأمها: طريفة بنت قيس بن ذي الرأسين، واسمه: أمية بن جشم بن كنانة بن عمرو بن القين بن فهد بن عمرو بن قيس بن غيلان.

وأمها: صخرة بنت عامر بن كعب بن أفرك بن نذير بن قيس بن عبقر بن أنمار.

وسبب تسمية "قصي" بـ"قصي": أن أمه فاطمة المذكورة تقصت به مع زوجها.

ذكره البرقي.

وقيل: لأنه تقصى مع أمه ونشأ مع أخواله من "كلب" في باديتهم، فبعد في مغيبه ذلك عن مكة، وهو صاحب "دار الندوة" وهي في المسجد الحرام في غربيه.

قاله الجمهور.


#94#

وقيل: إن الدار –دار الندوة- كانت لعبد الله بن جدعان، والأكثر أنها كانت لـ"قصي".

وهي أول دار أسست بمكة فيما قاله صاحب كتاب "صورة الأرض وصفة أشكالها ومقارها في الطول والعرض".

وهذه الدار انتقلت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام رضي الله عنه، فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم، وذلك في زمان معاوية رضي الله عنه، فلامه معاوية في ذلك، فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الإسلام بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون؟!

ذكر هذه القصة الدارقطني في "أسماء رجال الموطأ" له.

وهذه الدار كانوا في الجاهلية لا يتشاورون إلا فيها، ولا يعقدون لواء حرب إلا منها، ولا يعذر غلام إلا فيها، ولا تدرع جارية من قريش إلا في "دار الندوة" يشق عنها درعها ثم يدرعها ثم تنطلق إلى أهلها، ولا تخرج عير لقريش فيرحلون إلا من تلك الدار، ولا يقدمون إلا نزلوا بها، وما ينكح رجل من قريش ولا امرأة إلا في تلك الدار تيمنا بـ"قصي" إذ هو جمع قريشا بعد تفرقها، ولذلك كان يدعى "مجمعا".

قال الشاعر –وهو: حذافة بن غانم، وقيل: ابن جمح العدوي –يخاطب أبا لهب:


#95#

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر

هم ملأوا البطحاء عزا وسؤددا ... وهم طردوا عنا غواة بني بكر

ويروى: أليس أبوكم كان يدعى مجمعا

ويروى أيضا:

قصي لعمري كان يدعى مجمعا - البيت.

وسبب جمع "قصي" القبائل: ما روي أن كلابا أبا قصي لما مات ترك ولديه: زهرة –جد "آمنة"- وقصيا وهو فطيم مع أمهما: فاطمة بنت سعد بن سيل المذكورة، ثم قدم مكة حاج من "قضاعة"، فتزوجها منهم: ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة البطن –الذين ينسب إليهم الغزل والرقة والهوى- بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، واحتملها إلى بلاده من أرض عذرة من أشراف الشام إلى "سرغ" فما دونها، فأخذت قصيا معها لصغره وكان فطيما أو في سن الفطيم وتركت زهرة في قومه لكونه


#96#

رجلا بالغا، فولدت لربيعة "رزاحا"، وأقام "قصي" بأرض قضاعة حتى بلغ –ينسب إلى ربيعة بن حرام فقط.

فناضل يوما رجلا من قضاعة يدعى "رفيعا"، فنضله "قصي"، فغضب "رفيع" فوقع بينهما شر حتى تقاولا وتنازعا.

فقال رفيع: ألا تلحق ببلدك وقومك فلست منا.

فرجع "قصي" إلى أمه، وقد وجد في نفسه من ذلك، فقال لأمه: من أبي؟

فقالت: أبوك "ربيعة".

فقال: لو كنت ابنه ما نفيت.

قالت: وقد قال هذا؟! فوالله ما أحسن الجوار ولا حفظ الحق، أنت والله يا بني أكرم منه نفسا ووالداً ونسبا وأشرف منزلا، أبوك "كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي"، وقومك بمكة عند البيت الحرام فيما حوله، وقد قالت لي كاهنة رأتك صغيرا: إنك ستلي أمرا جليلا.

فأجمع "قصي" اللحوق بقومه وكره الغربة، فأقام بأمر أمه، حتى خرج حاج قضاعة، فخرج معهم وهم يظنونه يريد الحج، فقدم مكة و"زهرة" يومئذ حي وكان أشعر، و"قصي" أشعر، فأتاه، فقال له قصي: أنا أخوك.

فقال: ادن مني. وكان قد ذهب بصره وكبر، فلمسه فقال: أعرف والله الصوت والشبه.

فلما فرغ من الحج عالجه القضاعيون على الرجوع معهم، فأبى، وكان جلدا، فأقام ثم خطب إلى "حليل بن حبشية" –وهو يومئذ يلي أمر مكة والحكم فيها- ابنته "حبا" فزوجه إياها لنسبه، فولدت له:


#97#

"عبد الدار بن قصي" وهو أكبر ولده وبكره، و"عبد مناف" و"عبد العزى" و"عبد قصي".

ولما حضر "حليلا" الموت جعل ابنه "المخترش" حاجبا للبيت، وهو: "أبو غبشان"، وكانت العرب تجعل له جعلا في كل موسم، فقصروا به في بعض المواسم ومنعوه بعض ما كانوا يعطونه، فغضب، فدعاه "قصي" فسقاه، ثم اشترى منه البيت بأذواد، وقيل بغير ذلك.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن عمرو بن زهير، عن عبد الله بن خراش بن أمية الكعبي، عن أبيه، قال: فحدثتني فاطمة بنت مسلم الأسلمية، عن فاطمة الخزاعية، وكانت قد أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: لما تزوج "قصي" إلى "حليل بن حبشية" ابنته "حبا" وولدت له أولاده، قال حليل: إنما ولد "قصي" ولدي، وهم بنو ابنتي.

فأوصى بولاية البيت والقيام بأمر مكة إلى "قصي" وقال: أنت أحق به.

وقيل: لما هلك حليل بن حبشية وانتشر ولد "قصي" وكثر ماله وعظم شرفه رأى أنه أولى بالبيت وأمر مكة من "خزاعة" و"بني بكر"؛ لأن قريشا فرع "إسماعيل" وصريح ولده، فدعا قريشا وبني كنانة إلى إخراج خزاعة وبكر من مكة، فأجابوه إلى ذلك، فكتب عند ذلك لأخيه لأمه "رزاح القضاعي" يدعوه إلى نصرته والقيام معهن فأجابه إلى


#98#

ذلك، وكان يحب "قصيا".

ومما قال (شعرا):

وإني في الحياة أخي قصي ... إذا ما نابه ضيم أبيت

إذا يجني علي صبرت نفسي ... ويفعل مثل ذاك إذا حنيت

ثم خرج "رزاح" ومعه أخواه لأبيه: "حن" و"محمود" أبناء ربيعة، و"جلهمة بن حرام" عمهم –وقيل: هو أخوهم- فيمن تبعهم من قضاعة وهم مجمعون لنصر "قصي" والقيام معه، فلما فرغ أمر الحج ولم يبق إلا أن يصدر الناس، كان أول ما تعرض له "قصي" من المناسك أمر الإجازة للناس بالحج، وكان "صوفة" هو الذي يلي ذلك مع الدفع بهم من عرفة ورمي الجمار.

و"صوفة" هو: "الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر". ويقال لولده أيضا: "صوفة".

وسبب لقبه بذلك ما قال هشام بن محمد ابن الكلبي في "جمهرة النسب": كانت أمه نذرت –وكان لا يعيش لها ولد-: لئن عاش هذا


#99#

لتربطن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، وجعلته خادما للكعبة، حتى بلغ، ثم نزعته، فسمي "الربيط". انتهى.

واسم أمه هند بنت كعب، أخت الحارث بن كعب، وقيل: كانت من "جرهم"، وكانت لا تلد، فنذرت لله إن هي ولدت غلاما أن تصدق به عبدا للكعبة يخدمها ويقوم عليها، فولدت "الغوث" فكان يقوم على الكعبة في الدهر الأول مع أخواله من "جرهم"، وهو أول من ولي إجازة الناس من عرفات، وكان إذا دفع بالناس يقول:

لاهم إني تابع تباعة ... إن كان إثم، فعلى قضاعه

وولي الإجازة بعده ابنه أخزم بن الغوث، وقيل هو أول من ولي الإجازة، وهو الذي يقول:

من لا يذد عن حوضه يهدم

ليس الرقاد للفتى بمغنم

شنشنة معروفة من أخزم

وولي الإجازة بنوه إلى أن انقرضوا فوليها بنو سعد بن زيد بن مناة بن تميم، فكان آخرهم الذي قام الإسلام عليه: كرب بن صفوان بن


#100#

الحارث بن شجنة.

وقيل: إن صفوان بن جناب بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، ولهم يقول أوس بن مغراء:

لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال أجيزي آل صفوانا

وهذا في الإفاضة من عرفات.

وأما الإفاضة من "مزدلفة" فكانت في عدوان يتوارثونها كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام: أبو سيارة عميلة بن الأعزل، فيما ذكره ابن إسحاق، وهو: عميلة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحارث بن رائش بن زيد بن عدوان، وهو: الحارث بن عمرو بن قيس بن غيلان.

وقول: "الغوث الذي تقدم: "إن كان إثم فعلى قضاعة" وذلك أن قضاعة كان منهم أحياء يستحلون الحرمة في الجاهلية، وكانت "صوفة" تدفع بالناس من عرفة وتجيزهم إذا نفروا من "منى" إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من "صوفة" يرمي للناس، لا يرمون


#101#

حتى يرمي، ولا يرمي حتى تميل الشمس، فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من "منى" أخذت "صوفة" بجانبي العقبة، فحبسوا الناس وقالوا: "أجيزي صوفة"، فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا.

فلما كان ذلك العام فعلت "صوفة" كما كانت تفعل، فأتاهم "قصي" بمن معه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: "لنحن أولى بهذا الأمر منكم"، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت "صوفة" وغلبهم "قصي"، وقال رزاح: أجز قصي، فأجاز بالناس وغلبهم على ما كان بأيديهم من ذلك.

وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن "قصي" وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع "صوفة"، ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه بادأهم بحربهم، فخرجت له خزاعة وبنو بكر، فالتقوا بالأبطح، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا، وفشت الجراحة فيهم، وأكثر ذلك في خزاعة، ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا فيهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.

فقضى بينهم بأن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين "قصي" وبين الكعبة ومكة، فسمي "يعمر الشداخ" لذلك.

وقد رويت هذه القصة على غير ما تقدم.


#102#

وقال ابن الكلبي في "جمهرة النسب": إن "قصيا" لما جمع لحرب خزاعة "رزاحا" أخاه ومن معه أتاه من "قضاعة" ومن "ضوى" إلى "قصي" من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وذاك: أن خزاعة أخذت مفتاح الكعبة حين مات حليل بن حبشية –جد ولد قصي- وأبوا أن يدفعوه إلى "قصي" وولده، فلما أتاه "رزاح" بمن معه ناهضهم "قصي" فقاتلهم بـ "مفضي المأزمين" بعد منصرف الحاج من عرفة، فسمي ذلك الموضع "المفجر" لما فجر فيه من الدماء، وحجاج العرب ينظرون إلى قتال الفريقين لا يدخلون بينهم ثم تداعوا إلى الصلح وحكموا "يعمر بن عوف" فقال: "موعدكم الكعبة".

فلما صاروا إلى الكعبة قال: قد قضيت لـ"قصي" بالحجابة، ولخزاعة بإقرارهم في الحرم، وأن لا يخرجوا منه، وقد شدخت الدماء فكافأ بينها –وحمل الفضل لأهله، فسمي "الشداخ".

وروي في القصة غير هذا.

وحدث الواقدي عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمته، عن أمها كريمة بنت المقداد، عن أبيها قالت: لما فرغ قصي ونفى خزاعة وبني بكر عن مكة تجمعت إليه قريش، فسميت "قريش" يومئذ "قريشا" لحال تجمعها، و"التقرش": التجمع، فلما استقر أمر قصي انصرف أخوه


#103#

لأمه رزاح بن ربيعة العذري بمن معه من إخوته وقومه، وهم ثلاث مائة رجل إلى بلادهم وذكر بقيته.

وروي: أن "قصيا" قال وهو يشكر لأخيه رزاح بن ربيعة:

أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة مولدي وبها ربيت

إلى البطحاء قد علمت معد ... ومروتها رضيت بها رضيت

وفيها كانت الآباء قبلي ... فما شويت أخي ولا شويت

فلست لغالب إن لم تأثل ... بها أولاد قيذر والنبيت

رزاح ناصري وبه أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت

ولما استقر أمر "قصي" أقر العرب على ما كانوا عليه؛ لأنه يراه دينا لا ينبغي تغييره، فأقر آل صفوان وعدوان والنساة ومرة بن عوف على


#104#

ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم الله به ذلك كله.

و"قصي" أول من أطعم الحاج وسقاهم، وفيه يقول قائلهم:

آب الحجيج طاعمين دسما ... بجر الحشا مستحقبين شحما

أوسعهم زيد قصي لحما ... ولبنا محضا وخبزا هشما

قال أبو عثمان محمد بن أحمد بن ورقاء الأصبهاني الصوفي: أخبرنا محمد بن الحسن الشيرازي، أخبرنا أبو الحسن إسماعيل بن أحمد بن أيوب البالسي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن حرب القاضي بالرقة، حدثنا محمد –يعني: ابن الوليد البغدادي- حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبو حمزة السكري، وحدثنا أبو عوانة، جميعا: عن


#105#

عاصم بن كليب، عن عبد الله بن الزبير، عن عمر بن الخطاب، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا قط إلا وقد أمر بعض قرابته». وقد قدمناه قبل.

ولما مات "قصي" دفن بالحجون، وقالت ابنته تخمر بنت قصي ترثي أباها:

طرق النعي بعيد نوم الهجد ... فنعى قصيا ذا الندى والسؤدد

فنعى المهذب من قريش كلها ... فانهل دمعي كالجمان المفرد

فأرقت من حزن وهم داخل ... أرق السليم لوجده المتفقد

$*[سياق ترجمة كلاب]:$

وأما "كلاب" واسمه: "حكيم"، قال الشاعر:

حكيم بن مرة ساد الورى ... ببذل النوال وكف الأذى

وقيل: اسمه "عروة".

وهو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة


#106#

للكعبة.

وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمه؛ لأنه أبو "قصي"، و"زهرة" جد "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب".

هذا هو المشهور الصحيح، وسيأتي –إن شاء الله تعالى- فيه خلاف لا يعتد به.

وأم كلاب: هند، وقيل: نعم بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة.

وأمها: أمامة بنت عبد مناة بن كنانة.

وأمها: هند بنت داودان بن أسد بن خزيمة.

وأما "مرة" فأمه: مخشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر.

وأمها: وحشية بنت وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة.

وأمها: ماوية بنت ضبيعة بن ربيعة بن نزار.


#107#

$*[سياق ترجمة كعب بن غالب]$

وأما كعب: فهو أول من جمع يوم العروبة في قول، ويقال: "عروبة" بالتنكير، قال بعضهم: هي أفصح. انتهى.

وقال أبو الحسن بن سيده في كتابه "المحكم": "العروبة" و"عروبة": كلتاهما الجمعة.

وذكر بعدهما بيتين فيهما أسماء الأيام السبعة عربية أيضا، فقال:

أؤمل أن أعيش وإن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار

أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار

قال ابن سيده: قال أبو موسى الحامض: قلت لأبي العباس: هذا الشعر موضوع. قال: لم؟ قلت: لأن "مؤنسا" و"جبارا" و"دبارا" و"شيارا" تنصرف، وقد ترك صرفها. فقال: هذا جائز في الكلام فكيف في الشعر؟!


#108#

إنما سمي "عروبة" يوم الجمعة، قيل: لاجتماع المسلمين فيه في المسجد. قاله قوم.

وقال ثعلب: إنما سمي "يوم الجمعة"؛ لأن قريشا كانت تجتمع إلى "قصي" في "دار الندوة".

حكاه ابن سيده في "المحكم" قال فيه: وزعم ثعلب أن أول من سماه به كعب بن لؤي، وكان يقال لها: "العروبة". انتهى.

وعلى هذا جماعة، أن كعبا أول من سمى "يوم العروبة" الجمعة.

كانت قريش تجتمع إليه في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلمهم أنه من ولده، وأمرهم باتباعه والإيمان به.

وكان من كلامه فيما رواه محمد بن الحسن بن زبالة، عن محمد بن طلحة، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة قال: كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة، وكانت قريش تسميه "العروبة" فيخطبهم فيقول:

"أما بعد، فاسمعوا وتعلموا وافهموا" –وذكر خطبته، وفيها: "حرمكم زينوه وعظموه وتمسكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم"، ثم يقول:

نهار وليل كل يوم بحادث ... سواء علينا ليلها ونهارها


#109#

وفيها:

على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

ثم يقول: والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت فيها إرقال الفحل.

يا ليتني شاهد، فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا

وقال أبو عبيد الله المرزباني في ترجمة كعب من "معجم الشعراء": ويروى له من قصيدة بشر فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن:


#110#

نهار وليل كل أوب وحادث ... سواء علينا سدفة وسفورها

يؤوبان بالأحداث حتى تأوبا ... وبالنعم الضافي علينا ستورها

صروف وأنباء تقلب أهلها ... لها عقة ما يستحل مريرها

على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

ثم قال: أما والله، لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل، ولأرقلت فيها إرقال الفحل، ثم قال:

يا ليتني شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا


#111#

وبين موت كعب بن لؤي وبين الفيل خمس مائة سنة وعشرون سنة.

كذا علقه المرزباني.

وكعب أول من قال: "أما بعد" في قول، وقيل: داود النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: قس بن ساعدة، والقول الثاني عليه الجمهور. والله أعلم.

وكنية كعب أبو هصيص.

وأمه: ماوية ابنة كعب بن القين، وهو النعمان بن جسر بن شيع اللات ابن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

وأمها: عاتكة بنت كاهل بن عذرة.

وقد روي من خطب "كعب" أنه قال:

"أيها الناس، اسمعوا وعوا، وافهموا وتعلموا، ليل ساج، ونهار


#112#

ضاح، والسماء بناء، والأرض مهاد، والنجوم أعلام، لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا, الآخرون كالأولين، والدار أمامكم، واليقين غير ظنكم، صلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وأوفوا بعهدكم، وثمروا أموالكم فإنها قوام مروءاتكم، ولا تصونوها عما وجب عليكم، وعظموا هذا الحرم وتمسوا به، فسيكون له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم، وينشد:

صروف وأنباء تقلب أهلها ... له عقة ما يستحل مريرها

على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها

$*[سياق ترجمة لؤي بن غالب]:$

وأما "لؤي" فهو تصغير "اللأى" وهو: الثور الوحشي، قال الطرماح:

كظهر اللأى لو تبتغى رية [بها] ... نهارا لعيت في بطون الشواجن


#113#

ويقال: "اللأى" هو: الترس.

قاله أبو الحسين بن فارس.

وقال: فأما قول الآخر:

وليس يغير خيم الكريم ... خلوقات أثوابه واللأى

فإنه يريد: بعد لأواء العيش. انتهى.

ويحتمل أن يكون "لؤي" تصغير "لأي" وهو: البطء، يقال: "لأيا عرفت ذلك".

وكنية "لؤي": أبو غالب.

وأمه: سلمى بنت كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، من خزاعة.

وقيل: "أم لؤي": عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة.

وأمها: أنيسة بنت شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

وأمها: تضامر بنت الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة.

وأمها: رهم بنت كاهل بن أسد بن خزيمة، وقيل: عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة.

ويروى: أن لؤي بن غالب قال لأبيه وهو غلام حدث: يا أبة، من


#114#

رأى معروفه قل أخلانه ونضب ماؤه، ومن أخلفه أخمله، وإذا خمل الشيء لم يذكر، وعلى المولى له تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيره وستره.

فقال له أبوه غالب: إني لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك، وأستدعي به لك الطول على قومك، فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك، وكف عزب جهلهم بحلمك، ولم شعثهم برفقك، وإنما تفضل الرجال بأفعالها ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل، ولم تعل به درجة على أحد، وللعلياء أبدا على السفلى الفضل.

$*[سياق ترجمة غالب بن فهر]:$

وأما "غالب" فكنيته: أبو تيم.

وأمه: ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة، ويقال: بل هي ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر.

وأمها: عاتكة بنت الأسد بن الغوث.

وأمها: زينب بنت ربيعة بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى.

$*[سياق ترجمة فهر بن مالك]:$

وأما "فهر" فأمه: جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض بن زيد بن مالك، من "جرهم".


#115#

ويقال بل هي: جندلة بنت الحارث بن جندل بن مضاض بن الحارث –وليس بالأكبر- بن عوانة بن عاموق بن يقطن "جرهم".

وأمها: هند بنت الظليم بن مالك بن الحارث، من "جرهم".

و"فهر" لقب فيما قيل، واسمه: "قريش".

روى الزبير بن بكار عن مصعب بن عبد الله بن مصعب أنه قال: إن اسم "فهر بن مالك" قريش، وإنما "فهر" لقب.

وروى أيضا عن الزهري: أن الذي سمته به أمه: "قريش"، وإنما نبز "فهرا"، كما يسمى الصبي "غرارة" و"سملة" وأشباه ذلك.

وقيل: "قريش" لقب، واسمه: فهر.

و"الفهر" في اللغة: حجر يدق به الشيء، وهو مؤنث.

قاله الزبيدي في "مختصر العين".

وذكر غيره: أنه يذكر أيضا، وأنه حجر على مقدار ملء الكف، وزاد غيره: أملس.

وقد كان رئيس مكة في زمانه.


#116#

وروي: أنه قصد مكة في زمان فهر: حسان بن عبد كلال في "حمير" وقبائل اليمن، ليهدم الكعبة وينقل أحجارها إلى اليمن ليبني بها بيتا في اليمن يجعل حج الناس إليه، فنزل بنخلة وأغار على سرح مكة، فسار إليه فهر في بني كنانة وأحلافهم من قبائل مضر، فانهزمت "حمير" وأسر الحارث بن فهر: "حسان بن عبد كلال"، فبقي في يد "فهر" ثلاث سنين أسيرا، حتى فدى نفسه، وخرج فمات بين مكة واليمن.

فعظم بهذا الحرب شأن فهر، فاعتزت إليه قريش حين حمى مكة، ومنع من هدم الكعبة، وكانت من أشباه عام الفيل.

ذكره أبو الحسن الماوردي في "أعلام النبوة" –تأليفه.

قال الزبير بن بكار: وقد أجمع النساب من قريش وغيرهم: أن قريشا إنما تفرقت عن فهر، والذي عليه من أدركت من نساب قريش: أن ولد فهر بن مالك، قريش، ومن جاوز "فهر بن مالك" بنسبه فليس من "قريش".

وحكى أبو عمر بن عبد البر عن علي بن كيسان الكوفي صاحب كتاب "أنساب العرب قاطبة": أن فهرا أبو قريش، ومن لم يكن من ولد "فهر" فليس من قريش.

قال أبو عمر: وهذا أصح الأقاويل في النسبة لا في المعنى الذي من أجله سميت قريش قريشا، والدليل على صحة هذا القول: أنه لا يعلم اليوم قرشي في شيء من كتب أهل النسب ينتسب إلى أب فوق فهر دون لقاء فهر.


#117#

ولذلك قال مصعب، وابن كيسان، والزبير بن بكار وهو من أعلم الناس بهذا الشأن وأوثق من ينسب علم ذلك إليه: إن "فهر بن مالك" جماع قريش بأسرها.

قال هشام بن محمد ابن الكلبي في "جمهرة النسب": وولد مالك بن النضر فهرا، وإليه جماع قريش.

وقال أيضا في ولد كنانة بن خزيمة والنضر بن كنانة: فهم قريش.

ونقل عن الشعبي مثله.

وقال سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق: "النضر" هو قريش.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: منتهى من وقع عليه اسم "قريش": النضر بن كنانة، فولده قريش، دون سائر بني كنانة بن خزيمة بن مدركة وهو عامر بن إلياس بن مضر.

وكذلك روي عن أبي عبيد القاسم بن سلام: أن النضر: قريش.


#118#

قال الحافظ عبد الغني المقدسي فيما وجدته بخطه: وعلى ذلك أكثر الناس، والقول الأول أشهر وأثبت، والقائلون به أعلم. انتهى.

وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: وإنما سمي بنو النضر قريشا لتجمعهم؛ لأن "التقريش" هو: التجمع.

وهذا أحد الأقوال في تسميتهم بـ"قريش"، وهو قول محمد بن كعب القرظي أيضا.

قال الشاعر –وهو: أبو جلدة اليشكري:

إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرنا وقديم

وقال المبرد: أول من سماهم بهذا الاسم قصي بن كلاب. انتهى.

وذلك لأنهم كانوا متفرقين في كنانة، فجمعهم "قصي" من كل أوب، فأنزلهم بطاح مكة وظواهرها كما سيأتي –إن شاء الله تعالى.

وقال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، أن عبد الملك بن مروان


#119#

سأل محمد بن جبير بن مطعم: متى سميت قريش قريشا؟ فقال: حين تجمعت إلى الحرم من تفرقها، فذلك التجمع التقرش، فقال عبد الملك: ما سمعت هذا، ولكني سمعت أن قصيا كان يقال له: "القرشي"، ولم يسم "قريش" قبله.

وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم يتقرشون البياعات فيشترونها، والتقرش: الاكتساب.

ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "غريب المصنف" عن بعضهم وقال: به سميت "قريش". انتهى.

وقيل: جاء النضر بن كنانة في ثوب له، فقالوا له: قد تقرش في ثوبه.

وقيل: بل جاء النضر إلى قومه، فقالوا: جاء كأنه جمل قرش –أي: شديد-، فسمي بذلك.

وذكر عن الشعبي: أن النضر إنما سمي بذلك؛ لأنه كان تقرش عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها بماله، و"التقريش": التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم فيرفدون ذا الحاجة.

وقال معروف بن خربوذ: كانوا يفتشون الحاج، فيطعمون جائعهم، ويكسون عاريهم، ويحملون المنقطع به.

وقال أبو عمر المطرز: "قريش" مأخوذ من القرش وهو: وقع الأسنة بعضها على بعض؛ لأن قريشا أحدق الناس بالطعان.


#120#

وأنشد غيره شاهدا على ذلك للقطامي:

قوارش بالرماح كأن فيها ... شواطن ينتزعن بها انتزاعا

وقال ابن جعيل:

ولما دنا الرايات واقترش القنا ... وطار من القوم القلوب الرواجف

وحكى أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الإنباه على القبائل الرواة": عن بعض قريش قال: إنما سميت قريش قريشا بـ"قريش بن الحارث بن مخلد بن النضر بن كنانة"، وكان دليل بني النضر، وصاحب ميرتهم، وكانت العرب تقول: "قد جاءت عير قريش" و"قد خرجت قريش".

قال: وابنه: "بدر بن قريش"، به سميت "بدر" التي كانت بها الواقعة المباركة، هو الذي كان احتفرها.

ويروى: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: لم سميت [قريش] قريشا؟ قال: بالقرش، وهي: دابة في البحر تأكل الدواب لشدتها.


#121#

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث موسى بن عبد الملك بن عمير، عن أبيه، عن ربعي بن حراش، قال: استأذن عبد الله بن عباس على معاوية –رضي الله عنهم- وقد تحلقت عنده بطون قريش و"سعيد بن العاص" جالس عن يمينه، فلما نظر إليه "معاوية" مقبلا قال: يا سعيد، والله لألقين على ابن عباس مسائل يعيى بجوابها. فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس من يعيى بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية –وذكر الحديث.

وفي آخره: قال معاوية: فلم سميت قريش قريشا؟ قال –يعني: ابن عباس-: بدابة تكون في البحر هي أعظم دواب البحر خطرا، لا تظفر بشيء من دواب البحر إلا أكلته، فسميت قريشا؛ لأنها أعظم العرب فعالا، فقال: هل تروي في ذلك شيئا؟ فأنشده قول الجمحي:

وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا

تأكل الغث والسمين ولا تترك ... فيه لذي جناحين ريشا

هكذا في الكتاب حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كشيشا


#122#

ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا

تملأ الأرض خيله ورجال ... يحشرون المطي حشرا كميشا

فقال معاوية: صدقت يا ابن عباس، أشهد أنك لسان أهل بيتك، فلما خرج ابن عباس من عنده قال لمن عنده: ما كلمته قط إلا وجدته مستعدا.

وحدث به أبو بكر أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي في كتابه "المنور من وفود القبائل" عن الحسين بن الحسن السمسار، حدثني نسيم بن عوف العتكي، حدثنا مسلم الخواص، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ريحانة العامري قال: دخل عبد الله بن عباس على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم فذكر الحديث بطوله.

وخرجه أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج" من حديث مسلم بن إبراهيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ريحانة العامري قال: أقبل ابن عباس إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وذكر الحديث بطوله.

وفي آخره: قال: فأمر له بأربعة آلاف دينار، فقبضها ثم صرفها في بني عبد المطلب، فقالوا له: إنا لا نقبل صدقة. قال: إنها ليست بصدقة، وإنما هي هدية.


#123#

قال: يعني: ففرقها حتى لم يبق منها شيء، فبلغ ذلك معاوية، فكتب إليه يلومه يقول:

بخيل يرى بالجود عارا وإنما ... على المرء عار أن يضل ويبخلا

إذا المرء أثرى ثم لم يرج نفعه ... صديق فلاقته المنية أولا

والحديث في "دلائل النبوة" للبيهقي من طريق وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة –بنحوه مختصرا.

وقد رويت الأبيات المذكورة للمشمرج بن عمرو الحميري وهو جاهلي قديم، ورويت أيضا لغيره.

وحكى أبو الحسين بن فارس في "مجمله": و"تقرش الرجل" إذا تنزه عن الأدناس، فلعلهم سموا بـ"قريش" لهذا المعنى. والله أعلم.

[قال]: "قريش" يقال لها: "الحمس" و"الأحامس" و"الأحمس"، تقال لمن هو صلب في الدين أو شديد في القتال.


#124#

قال أبو الحسين بن فارس: و"الحمس": قريش، لأنهم كانوا يتشددون في دينهم، وقال بعضهم "الحمسة": الحرمة، وإنما سموا حمسا لنزولهم بالحرم. انتهى.

وكانت قريش فرقتين: "قريش الأباطح" ويقال: الأباطح أشرف الفريقين، ولهذا ينسب النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له: "الأبطحي" لأنه من خيار "قريش الأباطح" بني هاشم بن عبد مناف. وقال ذكوان الشاعر مولى عمر بن الخطاب للضحاك بن قيس الفهري حين ضربه:

فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر

وقريش الأباطح: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، وبنو نوفل بني عبد مناف، وبنو أمية بن [عبد] شمس بن عبد مناف، وبنو عبد الدار، وعبد بن قصي، وبنو عبد انقرضوا وبادوا، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو أخيه سهم بن عمرو، وبنو حسل بن عامر بن لؤي وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو الحارث بن فهر.

وبعضهم يعد بني الحارث من الظواهر.


#125#

وأما قريش الظواهر فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي بن غالب، وبنو أسامة بن لؤي، وبنو ناجية وهي أمهم، ويقال لهم: قريش العورات، وبنو خزيمة بن لؤي، وبنو أخيه سعد بن لؤي وهم بنانة، وبنانة كانت تحت سعد، وقيل: بنو أسامة وخزيمة وسعد بني لؤي ليسوا بأبطحية ولا ظاهرية، وإنما بنو أسامة لحقوا بنعمان، وبنو خزيمة لحقوا ببني شيبان، وبنو سعد لحقوا بغطفان.

ومن الظواهر أيضا: بنو تيم الأدرم بن غالب بن فهر، وبنو الأدرم فيما قاله ابن قتيبة في "المعارف" من أعراب قريش، ليس منهم بمكة أحد، وفيهم يقول الشاعر:

إن بني الأدرم ليسوا من أحد ...

ولا توفاهم قريش في العدد ...

ومنهم بنو محارب بن فهر بن مالك، وبنو الحارث بن فهر في قول.

وسبب قسمة قريش الأباطح والظواهر أن مكارم قريش كلها كانت لقصي بن كلاب: الحجابة والرفادة والندوة واللواء والسقاية وحكم مكة، فقسم مكارمه بين ولده، فأعطى عبد مناف السقاية والندوة، وأعطى عبد الدار الحجابة واللواء، وأعطى عبد العزى الرفادة،


#126#

وأعطى عبد قصي جلهمة الوادي وهو جانبه، والوادي: مكة، وقطع قصي مكة رباعا بين قريش، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة، وكانت مكة كثيرة الشجر والعضاه، فشكوا ذلك إلى "قصي" فأمرهم بقطعه، فهابوه، فقطعه هو وقطع الناس بأمره، فأخذ لنفسه وجه الكعبة فصاعدا، وبنى "دار الندوة" فكانت مسكنه، وأعطى بني مخزوم أجيادين، وبني جمح المسفلة، وبني سهم الثنية، وبني عدي أسفل الثنية فيما بين حي بني جمح وبني سهم، وأعطى ظواهر مكة محاربا والحارث في قول لبني فهر بن مالك، ومن هناك من جيرانهم بني عامر بن لؤي، و"تيما" الأدرم.

وقيل: إن بني الحارث بن فهر دخلت مكة بعد أن نزلت الظواهر، فأين نزلت قريش البطاح من الأباطح أو الظواهر فهم قريش البطاح، وأين نزلت قريش الظواهر من الأباطح أو الظواهر فهم قريش الظواهر.

$*[سياق ترجمة مالك بن النضر]:$

وأما "مالك" فكنيته: أبو الحارث، وأمه: عكرشة –وقيل: عاتكة- بنت عدوان، وهو: الحارث بن عمرو بن قيس بن غيلان بن مضر.

$*[سياق ترجمة النضر بن كنانة]:$

وأما "النضر" فاسمه: قيس، وكنيته: أبو يخلد، ولقب "النضر" لوضاءته وجماله وحسن خلقه وخلقه، لأن النضر: الذهب الأحمر.


#127#

قال ابن قتيبة: فهو أبو قريش، وولده: مالك والصلت، فأما الصلت فصاروا في اليمن، ويقول قوم: إنه أبو خزاعة، ورجعت قريش إلى مالك ابن النضر فهو أبوها كلها. وقال مرة: لأن قريشا من النضر تقرشت.

قلت: "النضر" عند طائفة: جماع قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي، وقد ذكرنا الخلاف في ترجمة فهر.

وأم النضر: برة بنت مر –أخت تميم بن مر- بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر.

ويحكى: أن برة بنت مر لما أهديت إلى كنانة قالت له: رأيت في المنام كأني ولدت غلامين، فبينما أنا أتأملهما، وإذا أحدهما أسد يزأر، وإذا الآخر كأنه قمر أنور، فقص منامها على كاهنة فقالت:

إن صدق منامها فلتلدن غلاما يكون لولده عدد وعدد وقدوم مجد وعز الأبد، فولدت له "النضر".

$*[سياق ترجمة كنانة بن نزار]:$

وأما كنانة، فأمه: عوانة، واسمها: هند بنت سعد بن قيس بن غيلان، وأمها: دعد بنت إلياس بن مضر.


#128#

وروي عن أبي عامر العدواني أنه قال لابنه في وصيته:

يا بني، أدركت كنانة وخزيمة، وكان شيخا مسنا عظيم القدر، وكانت العرب تحج إليه لعلمه وفضله، وقال: إنه قد آن خروج نبي بمكة يدعى: أحمد، يدعو إلى الله تعالى وإلى البر والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفا إلى شرفكم وعزا إلى عزكم.

وسبب تسميته "كنانة" فيما قيل: لما ولدته أمه خرج أبوه على جواد له ينظر في البرية شيئا يسميه به على عادتهم، فرأى كنانة –وهي جعبة السهام- في الأرض، فرفعها وسماه بها.

وقال بعضهم: سماه "كنانة" لستره على قومه ولين جانبه لهم وحفظه لأسرارهم.

قلت: في هذا نظر.

وقال أيضا: وذكر المطرز عن الأصمعي: أن أهل الحجاز يفتحون الكاف من "كنانة" وابن الكلبي يكسرها.


#129#

قلت: "الكنانة" التي هي جعبة السهام من أدم بالكسر، وهو المعروف.

وكان "كنانة" هذا كريما يأنف أن يأكل وحده، فإذا لم يجد أحدا أكل لقمة ورمى أخرى إلى صخرة بين يديه أنفة من أن يأكل وحده.

قال أهل النسب: وخلف "كنانة" هذا على زوجة أبيه –بعد موته- برة بنت أد بن طابخة بن إلياس، على ما كانت الجاهلية تفعله، وقد أشكل هذا على بعض النسابين مع قوله صلى الله عليه وسلم: «ولدت من نكاح، ولم أولد من سفاح»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يصبني من عهر الجاهلية شيء».

وعللوا ذلك، ولكن قد ورد النقل الصريح أن كنانة بن خزيمة خلف على زوجة أبيه من بعده، وهي برة بنت أد بن طابخة بن إلياس، ولم تلد له ولدا لا أنثى ولا ذكرا، وكانت عنده أيضا ابنة أخيها برة بنت مر بن أد بن طابخة، وهي أخت تميم بن مر، فولدت له النضر بن


#130#

كنانة، والذين أشكل عليهم أمر "برة بنت أد" لم يعلموا –والله أعلم-: أنها لم تلد لكنانة شيئا، وإنما النضر من ابنة أخيها "برة بنت مر بن أد"، فزال الإشكال واتضح الحال.

وممن ذكر أن "مرة بنت أد" لم تلد لـ"كنانة" شيئا: أبو عثمان الجاحظ عمرو بن بحر في كتابه المصنف في "الأصنام" فيما بلغنا، فقال أبو عثمان: وخلف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة على زوجة أبيه بعد وفاته وهي "برة بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر" وهي "أم أسد بن الهون بن خزيمة"، ولم تلد لـ"كنانة" ولدا، وكانت ابنة أخيها وهي "برة بنت مر بن أد بن طابخة" تحت "كنانة بن خزيمة"، فولدت له "النضر بن كنانة".

قال: وإنما غلط كثير من الناس لما سمعوا أن "كنانة" خلف على زوجة أبيه؛ لاتفاق اسمهما وتقارب نسبهما.

قال: هذا الذي عليه مشايخنا من أهل العلم والنسب.

قال: ومعاذ الله، أن يكون أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقت نكاح.


#131#

قال: ومن اعتقد غير هذا فقد أخطأ وشك في الخبر.

ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «تنقلت في الأصلاب الزكية إلى الأرحام الطاهرة».

$*[سياق ترجمة خزيمة بن مدركة]:$

وأما "خزيمة"، فكنيته: أبو أسد، قال بعضهم: هو مصغر من "الخزم" الذي هو: شد الشيء وإصلاحه، وقيل غير ذلك.


#132#

وأمه فيما قيل: "سلمى بنت سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة".

وفي "خزامة" يقول الشاعر:

"خزيمة" خير "بني خازم" ... و"خازم" خير "بني دارم"

و"دارم" خير "معد" ومن ... مثل معد في بني آدم

$*[سياق ترجمة مدركة بن إلياس]:$

وأما "مدركة"، فاسمه: عامر، وكان له أخوان: "عمرو" ويلقب: طابخة، و"عمير" ويلقب: قمعة.

وأمهم: "ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، وقيل: اسمها: "تماضر بنت حلوان بن الحاف بن قضاعة" ولقبها: "خندف".

وسيأتي -إن شاء الله تعالى- قصة لقبها بـ"خندف" ولقب أولادها المذكورين.

وأمها : "ضرية بنت ربيعة بن نزار"، وبها سمي "ضرية" الذي بين "مكة" و"النباح".

وأما "إلياس"، فكان وصي أبيه.


#133#

وكان جميلا دينا حليما حكيما عدلا، تعظمه العرب قاطبة، وتسلم له في الحكمة تسليمها لـ"لقمان".

وكان ولد إسماعيل قد غيرت كثيرا من عهد إسماعيل عليه السلام فلما انتهى الناس أنكر على ولد إسماعيل عليه السلام ما أحدثوا، وردهم إلى ما كانوا عليه، وأقامهم على منهاج إسماعيل عليه السلام ورضوا به رضى لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد "أدد".

ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا إلياس؛ فإنه كان مؤمنا».

ويحكى عن إلياس: أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج.

وإلياس أول من أهدى البدن إلى بيت الله الحرام، وأول من وضع الركن بعد الطوفان فيما قيل.

وقيل: هو أول من وضعه بعد "إبراهيم" و"إسماعيل" عليهما السلام.

وهذا أشبه بالصحة، والله أعلم.

وأمه: "الرباب بنت حيدة بن معد بن عدنان"، وقيل: "الحنفاء بنت إياد بن معد".

مات "إلياس" بداء السل، وما سمي داء السل "داء ياس" إلا به.


#134#

قال ابن أبي عاصية:

فلو كان داء الياس بي وأغاثني ... طبيب بأرواح العقيق شفانيا

و"لإلياس" أخ اسمه "الناس" بالنون، قيل: وتشديد السين المهملة، وهو "قيس عيلان"، ويقال: "ابن عيلان".

وقيل: "قيس عيلان" سمي بفرس له تسمى "عيلان".

وقيل: بكلب له اسمه "عيلان".

وقيل: "عيلان" اسم جبل ولد عنده.

وقيل: اسم غلام لمضر حضن "قيسا".

وقيل: كان "قيس" جوادا أتلف ماله فأدركته عيلة فسمي "قيس عيلان"، والله أعلم.

وجميع نسل "مضر" المنسوبين إليه من هذين الجذمين: "إلياس"


#135#

ويقال لامرأته: "خندف"؛ لأن امرأته كان يقال لها: "خندف: و"الناس".

ويقال لولده: قيس عيلان.

ولفظ "إلياس" مختلف فيه، فمنهم من يقول فيه: "اليأس" على لفظ المصدر من "يئست من الأمر يأسا"، وعليه الجمهور.

وطائفة يقولون: "إلياس" بكسر الهمزة وإسكان اللام.

ويشبه أن يكون من قولهم: "ليساء" إذا أتاها غير حوارها يرضعها لا تمنع من إرضاعه، وهي أكرم الإبل، وحلبها وخيارها.

وقال بعضهم: يكون إفعالا من "الأليس"، و"الأليس" في اللغة: الشجاع الذي لا يروعه شيء.

وقيل: الذي لا يبرح في الحرب شدة.

وقيل: إنه اسم أعجمي على مثال "إسحاق" ترك صرفه، قال الله تعالى: {وإن إلياس لمن المرسلين} بغير صرف، ولو كان عربيا لانصرف.


#136#

$*[سياق ترجمة مضر بن نزار]:$

وأما "مضر" فأمه: سودة بنت عك بن الديث بن عدنان بن أدد، وقيل: عك بن عدنان بن عبد الله بن نصر بن زهران بن الأسد.

وكان أفضل أهل زمانه جميلا حسنا، يفك العاني، ويطعم الطعام، ويهب الآلاف، وكان على دين إسماعيل عليه السلام.

ومما يروى من وصاياه وحكمه: أنه قال: "من يزرع الشر يحصد ندامة، وخير الخير أعجله؛ فاحملوا نفوسكم على مكروهها فيما أصلحكم، واصرفوها عن هواها فيما يفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق".

وكان "مضر" أحسن الناس صوتا، وهو أول من سن حداء الإبل، قيل: إنه سقط عن بعيره فوتئت يده.

وكان يمشي خلف الإبل ويقول بصوت حنين: "وايداه، وايداه سرتم" فأعنقت الإبل وذهب كلالها، فمن هنالك اتخذت العرب الحداء تنشيطا للإبل فيما زعموا.


#137#

وقال ابن قتيبة في "المعارف": قال مجاهد: رأى النبيص ركبا ولهم حاد يحدو لهم فقال: "ممن القوم؟"، فقالوا: من "مضر"، فقال: "ما لحاديكم؟" فقال رجل منهم: إن أول من حدا لنحن. قال: "وما ذاك؟" قال: كان رجل منا في إبله أيام الربيع، فأمر غلاما له ببعض أمره، فاستبطأه، فضربه بالعصى، فجعل يشتد في الإبل ويقول: "يا يداه، يا يداه"، فقال له: "الزم الزم" فاستفتح الناس الحداء إذ ذاك.

وسمي "مضر"، "مضرا" من قولهم: "لبن مضير" و"ماضر": أي: حامض.

وقيل: سمي بذلك لبياضه، والعرب تطلق الأحمر على الأبيض، ولذلك قيل: "مضر الحمراء".


#138#

وقيل: بل أوصى إليه أبوه بقبة حمراء وأوصى لأخيه ربيعة بفرس، فقيل: "مضر الحمراء" و"ربيعة الفرس".

قال محمد بن عبد الكريم –صاحب الهيثم بن عدي: إنما سمي "ربيعة الفرس" لأن أباه "نزار بن معد" كان له فرس وفيه من أدم وحمار، فجعل الفرس لأكبر ولده "ربيعة"، والقبة للذي يتلوه، وهو "مضر"، والحمار للثالث وهو "إياد"، فلذلك يقال: "ربيعة الفرس" و"مضر الحمراء" وإياد، وأنمارا.

قال: فلما حضرته –يعني: نزارا- الوفاة وصاهم فقال: يا بني، هذه القبة الحمراء وما أشبهها لمضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة، وهذه الخادمة وما أشبهها لإياد، وهذه الندوة والمجلس وما أشبهه لأنمار، فإن أشكل عليكم واختلفتم فعليكم بالأفعى الجرهمي بـ"نجران"، فاختلفوا –يعني: بعد موته- في القسمة، فتوجهوا إليه، فبينما هم يسيرون إذ رأى "مضر" كلأ قد رعي، فقال: إن البعير الذي رعى هذا الكلأ لأعور، وقال "ربيعة": هو أزور، وقال"إياد": هو أبتر، وقال "أنمار": هو شرود، فلم يسيروا إلا قليلا، حتى لقيهم رجل يوضع على راحلته، فسألهم عن البعير.

فقال "مضر": هو أعور؟ قال: نعم.

وقال "ربيعة": هو أزور؟ قال: نعم.


#139#

وقال "إياد": هو أبتر؟ قال: نعم.

وقال "أنمار": هو شرود؟ قال: نعم، وهذه والله صفة بعيري، فدلوني عليه.

فقالوا له: والله ما رأيناه.

قال: قد وصفتموه بصفته، فكيف لم تروه؟! وسار معهم إلى "نجران" حتى نزلوا بالأفعى الجرهمي، فناداه صاحب البعير: هؤلاء أصحاب بعيري، وصفوه لي بصفته وقالوا: لم نره.

فقال لهم الأفعى الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟

فقال"مضر": رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا، فعرفت أنه أعور.

وقال "ربيعة": رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر، فعرفت أنه أزور.

وقال "إياد": رأيت بعره مجتمعا فعرفت أنه أبتر.

وقال "أنمار": رأيته يرعى المكان الملتف ثم يجوز إلى غيره، فعرفت أنه شرود.

فقال الجرهمي لصاحب البعير: ليسوا أصحاب بعيرك، فاطلبه من غيرهم. ثم سألهم: من هم؟ فأخبروه أنهم بنو نزار بن معد. فقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى فدعا لهم بطعام فأكلوا وأكل، وبشراب فشربوا وشرب.

فقال "مضر": لم أر كاليوم خمرا أجود، لولا أنها تنبت على قبر.

وقال "ربيعة": لم أر كاليوم لحما أطيب، لولا أنه ربي بلبن كلب.


#140#

وقال "إياد": لم أر كاليوم رجلا أسرى، لولا أنه يدعى إلى غير أبيه.

وقال "أنمار": لم أر كاليوم كلاما أنفع في حاجتنا، لولا أن الملك يسمع.

وسمع الجرهمي الكلام، فتعجب لقولهم، وأتى أمه فسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا ولد له، فكرهت أن يذهب الملك، فأمكنت رجلا من نفسها كان نزل به، فوطئها، فحملت به.

وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من كرمة غرستها على قبر أبيك.

وسأل الراعي عن اللحم، فقالت: شاة أرضعتها بلبن كلبة، ولم يكن ولد في الغنم شاة غيرها.

فقيل "المضر": من أين عرفت الخمر ونباتها على قبر؟ قال: لأنه أصابني عليها عطش شديد.

وقيل "لربيعة": من أين عرفت أن الشاة أرضعت من لبن كلبة؟ فقال: لأني شممت منه رائحة الكلب.

وقيل "لإياد": من أين عرفت أن الرجل يدعى إلى غير أبيه؟ قال: لأني رأيته يتكلف ما يعمله.

ثم أتاهم الجرهمي فقال: صفوا لي صفتكم. فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم نزار، فقضى لمضر بالقبة الحمراء والدنانير والإبل وهي حمر، فسمي "مضر الحمراء"، وقضى لربيعة بالخباء الأسود والخيل الدهم، فسمي "ربيعة الفرس"، وقضى لإياد بالخادمة الشمطاء والماشية البلق، وقضى لأنمار بالأرض والدراهم.


#141#

قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا خالد بن خداش، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عبد الله بن خالد: قال رسول الله ِصلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا مضر؛ فإنه كان قد أسلم».

وجاء عن ميمون بن مهران، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا مضر وربيعة، فإنهما كانا مسلمين».

و"مضر" هو شعب رسول الله، لأن العرب على ست طبقات: شعب، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخذ، وفصيلة، قيل: وعشيرة، وقيل: الفصيلة هي العشيرة.

وسميت الشعوب؛ لأن القبائل تتشعب منها، وسميت القبائل؛ لأن العمائر تقابلها، فـ"الشعب" يجمع القبائل، و"القبيلة" تجمع العمائر، و"العمارة" تجمع البطون، و"البطن" يجمع الأفخاذ، و"الأفخاذ" تجمع الفصائل.

فيقال: "مضر" شعب رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"كنانة" قبيلته، و"قريش" عمارته، و"قصي" بطنه، و"هاشم" فخذه، و"بنو العباس" فصيلته.


#142#

قال أبو الفتح ابن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر" بعد أن ذكر هذا: هذا قول الزبير.

قال: وقيل: "بنو عبد المطلب" فصيلته، و"عبد مناف" بطنه. وسائر ذلك كما تقدم. انتهى.

$*[سياق ترجمة نزار بن معد]:$

وأما "نزار"، فأمه: معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو بن مرة بن جرهم.

وأمها: سلمى بنت الحارث بن مالك بن غنم، من "لخم".

وهو مأخوذ من "النزر" وهو: القليل، وفي سبب تسميته بذلك قولان:

أحدهما: أن "نزارا" أراد العز به بعد أبيه "معد" وانبسطت به اليد، وتقدم عند ملك الفرس، واجتباه "شيسف" ملك الفرس، وكان اسمه: "خلدان"، وكان مهزول البدن، فقال الملك: "ما لك يا نزار؟" وتفسيره في لغتهم: "يا مهزول". فغلب عليه هذا الاسم، فسمي "نزارا"، وفيه يقول قمعة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان:

جديسا خلفناها وطسما بأرضها ... فأكرم بنا عند الفخار فخارا


#143#

فنحن بنو عدنان خلدان جدنا ... فسماه تشتف الهمام نزارا

فسمي نزارا بعدما كان اسمه ... لدى العرب خلدان بنوه خيارا

قاله أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة".

والقول الثاني:

أنه لما ولد نظر أبوه إلى نور بين عينيه، وهو نور النبوة الذي كان ينتقل، حتى وصل إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففرح لما رأى ذلك النور فرحا شديدا ونحر وأطعم وقال: "إن هذا كله نزر لحق هذا المولود"؛ فسمي نزارا لذلك.

وولده أربعة: "مضر" و"إياد"، وأمهما: سودة بنت عك بن الديث بن عدنان.

و"ربيعة" و"أنمار" وأمهما: الحذالة بنت وعلان بن جوشم بن جلهمة بن عمرو بن هلينية بن دوة، من "جرهم".

و"مضر" و"ربيعة" هما الصريح من ولد إسماعيل، و"أنمار" ولده "خثعم" و"بجيلة" وصاروا باليمن، وولد إياد: "دعمياء" و"زهراء" و"نمارة" و"ثعلبة"، فتفرقت منهم قبائل عدة.


#144#

$*[سياق ترجمة معد بن عدنان]:$

وأما "معد"، فـ"المعد" في اللغة: الجنب. حكاه ابن سيده عن اللحياني.

وقال ابن سيده: و"المعد": موضع عقب الفارس قال: وقال اللحياني: "هو موضع رجل الفارس"، فلم يخص عقبا من غيرها، و"المعد": عرق في منسج الفرس.

قال: "ومعد" حي، سمي بأحد هذه الأشياء وغلب عليه التذكير، وهو مما لا يقال فيه: "من بني فلان"، وما كان على هذه الصورة فالتذكير عليه أغلب، وقد يكون اسما للقبيلة، أنشد سيبويه رحمه الله:

ولسنا إذا عد الحصا بأقلة ... وإن معد اليوم مؤذ ذليلها

والنسب إليه: معدي.

ومراد ابن سيده بقوله: "ومعد: حي"؛ "معد" هذا أبو قضاعة، واسم قضاعة: عمرو، وهو: بكر معد فيما قيل، وقيل: "نزار" بكره.

وولد "معد" ثمانية، منهم أربعة تعرف أعقابهم:


#145#

"قضاعة"، وهم آل حمير تعد من اليمن.

و"قنص"، ومنهم: آل المنذر ملك الحيرة فيما قيل.

و"إياد" ينسبون إلى القبيل الأكبر ليست لهم قبائل مشهورة، وقيل: إن "ثقيفا" منهم، والمشهور: أن "ثقيفا" من "قيس عيلان".

و"نزار"، وولده ثلاثة: "مضر" و"ربيعة" و"أنمار".

ومن أولاد معد: "الضحاك".

روي عن "مكحول الدمشقي" قال: أغار "الضحاك بن معد" على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد، عليهم دراريع الصوف، خاطمي خيولهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا وظفروا .. .. الحديث، وتقدم بطوله.

وقد قال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة".

ولما تفرع الملك عن إبراهيم واختصت النبوة بولده انحازت إلى ولد "إسحاق" دون "إسماعيل"، فصارت في بني إسرائيل؛ لكثرتهم بعد القلة، وقوتهم بعد الذلة، فبدأت النبوة بموسى وانختمت بعيسى عليهما السلام، ولما كثر ولد إسماعيل وانتشروا في الأرض تميز بعد الكثرة ولد "قحطان" عن ولد "عدنان"،

واستولت "قحطان" على الملك، فانحازت النبوة إلى ولد "عدنان" فأول من أسس لهم مجدا وشيد لهم ذكرا "معد بن عدنان" حين اصطفاه "بخت نصر" وقد ملك أقاليم الأرض، وكان قد هم بقتله حين غزا بلاد العرب، فأنذره نبي كان في وقته بأن النبوة في ولده، فاستبقاه وأكرمه ومكنه واستولى على "تهامة" بيد عالية


#146#

وأمر مطاع، وفيه يقول مهلهل الشاعر:

غنيت دارنا تهامة بالأمس ... وفيها بنو معد حلولا

انتهى.

والنبي الذي أنذر "بخت نصر" هو: "أرميا بن حلقيا"، وكان نبي بني إسرائيل ذلك الزمان.

وأم معد بن عدنان: مهدد بنت اللهم بن جلحب بن جديس بن جابر بن إرم.

$*[سياق ترجمة عدنان]:$

وأما "عدنان"، فعلان، من "عدن": إذا أقام، وجميع العرب ترجع إلى جذمين:

فأحدهما: "عدنان"، وتقدم نسبه.


#147#

والآخر: "قحطان"، واسمه: مهزم بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح.

هذا هو المشهور، وقيل: قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن قيذر بن إسماعيل بن إبراهيم.
وقيل غير ذلك.

قال أبو محمد بن قتيبة: أجمع النسابون على أن "اليمن" من ولد "قحطان".

قال: وابنه "يعرب بن قحطان" أول من تكلم بالعربية ونزل أرض "اليمن"، فهو أبو اليمن كلهم، وهو أول من حياه ولده بتحية الملوك: "أنعم صباحا". و"أبيت اللعن". انتهى.

وإلى هذين الجذمين "عدنان" و"قحطان" ينتمي كل عربي على وجه الأرض.

$*[سياق ترجمة آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم]:$

وأم النبي صلى الله عليه وسلم: هي "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي"، أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا.

وأبوها: "وهب" سيد بني زهرة.

وأمه: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، من "سليم".

قاله ابن قتيبة وغيره.


#148#

وقال غيره: أم وهب بن عبد مناف: قيلة بنت أبي كبشة وجز بن غالب بن الحارث بن عمرو بن ملكان بن أفصى بن حارثة الخزاعي.

و"أبو كبشة" هذا هو الذي نسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه وغيره، وإنما نسبوه إليه؛ لأن "أبا كبشة" هذا خالف دين العرب وعبد "الشعرى"، فنسبوا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لإظهاره لدين الإسلام ومخالفته لدينهم كما خالفهم جده "أبو كبشة" في دينهم.

وقيل: "أم وهب" اسمها: هند بنت أبي قيلة، وهو "وجز بن غالب" المذكور.

وأمها: سلمى بنت لؤي بن غالب بن فهر.

وأمها: ماوية بنت كعب بن القين من قضاعة.

وأم وجز بن غالب: السلافة بنت أوهب بن البكير بن مجدعة بن عمرو بن عوف، من "الأوس".

وأمها: بنت قيس بن ربيعة، من "بني مازن بن بوي بن ملكان بن أفصى" أخي سلمة بن أفصى.

وأمها: النجعة بنت عبيد بن الحارث، من بني الحارث بن الخزرج.

وأم عبد مناف: جمل، فيما ذكره هشام بن محمد الكلبي النسابة في "جمهرة النسب" وهي: بنت مالك بن فصية بن سعد بن مليح بن عمرو، من خزاعة.


#149#

وقد قدمنا الخلاف في اسمها.

وقال ابن قتيبة: وأم عبد مناف: "زهرة"، وإليها ينسب ولدها دون الأب، ولا أعرف اسم الأب، وقد أقيمت بالتذكير مقام الأب.

قاله في "المعارف" .

وقال في موضع آخر من الكتاب في ترجمة "كلاب بن مرة" و"قصي بن كلاب": و"زهرة" امرأة نسب ولدها إليها دون الأب، وهم أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما قاله ابن قتيبة: أن "زهرة" امرأة وأن ولدها أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيه نظر، ولا أعرفه لغيره، اللهم إلا أن أبا نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، كأنه تبع ابن قتيبة، فقال في كتابه "صحاح اللغة":

و"زهرة" أيضا حي من قريش، وهو اسم امرأة كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، نسب ولده إليها، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم


#150#

وهذا غريب، والمشهور الصحيح: أن "زهرة" هو "ابن كلاب بن مرة"، وهو والد الزهريين أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، لأن "آمنة" والدة النبي صلى الله عليه وسلم هي: بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، لم يخالف في هذا أحد من أئمة الحديث والنسب.

وأم "زهرة بن كلاب" أم "قصي"، وهي: "فاطمة بنت سعد بن سيل" من "الأزد".

وأم "آمنة" جدة النبي صلى الله عليه وسلم: سماها أبو بكر رضي الله عنه فيما روي عنه: "فاطمة بنت عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة".

وقيل: اسمها: "برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب".

ذكرها هشام بن الكلبي، وذكر اسم أمها وهي: "أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب".

وأمها: "برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي".

وأمها: "قلابة بنت الحارث بن مالك بن حباشة بن غنم بن لحيان بن عادية بن صعصعة بن كعب بن هند بن طابخة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر".


#151#

وأبوها: "الحارث" هو الشاعر أقدم شعراء "هذيل" فيما قيل، وهو القائل:

لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... إن المنايا بجنبي كل إنسان

واسلك طريقك تمشي غير مختشع ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان

و"أم قلابة بنت الحارث" المذكورة: "أميمة بنت مالك بن غنم بن لحيان بن عادية بن صعصعة بن كعب".

وقيل: اسمها: "آمنة بنت مالك".

وقيل: هي: "هند بنت يربوع" من "ثقيف".

وأمها: "دب بنت ثعلبة بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة"، وقيل: "بنت لحارث بن لحيان بن عادية بن صعصعة بن كعب".

وأمها: "عاتكة بنت غاضرة بن حطيط بن جشم بن ثقيف"، قيل: هي: "بنت كهف الظلم".


#152#

وأمها: "ليلى بنت عوف بن ثقيف".

وفيما ذكرناه دلالة على أن قبائل العرب على اختلافها لها ولادة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل عن ابن عباس معناه فيما خرجه محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى" فقال:

حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {رسول من أنفسكم عزيز} قال: قد ولدتموه يا معشر العرب.

وخرجه أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" من حديث محمد بن كناسة، حدثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} قال: ليس من العرب قبيلة إلا ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مضريها وربيعتها ويمانيها.

وهذا معلوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من ولد "سام بن نوح".

قال ابن قتيبة: والأنبياء كلها عربيها وعجميها، والعرب كلها يمانيها ونزاريها من ولد "سام بن نوح".


#153#

قال الترمذي في "جامعه": حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد ابن خالد بن عثمة، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال: حام وسام ويافث.

كذا قال، قال الترمذي: يقال: "يافت" و"يافث" بالتاء والثاء، ويقال: "يفت". قال: وهذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن بشير.

حدثنا بشر بن معاذ العقدي، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سام: أبو العرب، وحام: أبو الحبش، ويافث: أبو الروم».

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن عياش بن الوليد


#154#

الرقام، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين وعن سمرة بن جندب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «سام: أبو العرب، وحام: أبو الحبش، ويفث: أبو الروم».

ثم قال: وسمعت يحيى بن معين يقول: لم يسمع "الحسن" من "سمرة بن جندب".

قلت: وكذا قال علي بن المديني: "الحسن" لم يسمع من "عمران بن حصين"، وليس يصح ذلك من وجه يثبت، وأنكره أحمد بن حنبل أيضا في رواية ابنه "صالح" عنه.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "الحسن" لا يصح له [سماع عن] "عمران بن حصين"، يدخل "قتادة" عن "الحسن": هياج بن عمران البرجمي، عن "عمران بن حصين" و"سمرة".


#155#

وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، سمعت سعيد بن المسيب يقول: ولد نوح ثلاثة، وولد كل واحد ثلاثة: "سام" و"حام" و"يافث"، فولد "سام": العرب وفارس والروم، وفي كل هؤلاء خير، وولد "يافث": الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وليس في أحد من هؤلاء خير، وولد "حام": القبط والسودان والبربر.

في هذا الأثر اضطراب، منه: ما رواه مكحول محمد بن عبد الله، حدثنا أبو فروة يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان، حدثني أبي، عن أبيه، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. بنحوه.


#156#

قال الدارقطني في كتابه "العلل" عن يزيد بن سنان قال: وغيره يرويه عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب من قوله. انتهى.

وحدث به أبو محمد الحسن بن رشيق، فقال: حدثنا أبو هارون، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، فذكره مرفوعا، والمحفوظ وقفه على سعيد بن المسيب كما تقدم من رواية إسماعيل بن عياش.

تابعه معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد كذلك.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي بخط يده قال:

حدثنا إسماعيل بن أبان –يعني: الوراق- أبو إسحاق، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح ثلاثة نفر: "يافث" و"سام" و"حام"، فـ"يافث": أبو العرب والروم وفارس، و"سام": أبو يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة، و"حام": أبو بربر والقبط والسودان.

وهذا الأثر واه لا يقاوم الحديث الأول، ولا يقوى، والمصير إلى حديث سمرة أولى والأخذ به أصوب وأحرى، وعليه الأئمة والجمهور؛ لأن ساما أبو العرب قاطبة، ليس أبا يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة، وأظن الآفة فيه من إسماعيل بن أبان راويه،


#157#

لا سيما وقد دخل في كتاب "العلل" فانحط بذلك، ونزل، وهو من قول سعيد بن المسيب من التابعين.

والحديث الأول مرفوع إلى سيد المرسلين –صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

وذكر أبو عبد الله القضاعي في "تاريخه" فقال: وكان "سام" الأوسط، وكان "يافث" أسن منه، وإنما قدم لأن الأنبياء من نسله، ولد له "إرم" و"أشوذ" و"أرفخشد" و"غويلم" و"لاوذ".

قلت: وأخوهم "عابر بن سام".

وذكر القضاعي قبل هذا أن العرب والأنبياء كلهم عربيهم وعجميهم من ولده، كما ذكرنا عن ابن قتيبة قبل.

وذكر القضاعي أيضا فقال: و"اليمن" كلها من ولده، و"عاد" و"ثمود" و"طسم" و"جديس" و"الفرس" من ولده، ومات وعمره ستمائة سنة. انتهى.

وهذا هو الصحيح أن "ساما" أبو العرب قاطبة، كما أن "آدم" عليه السلام أبو البشر قاطبة.


#158#

&[خلق آدم عليه السلام]&

قال أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي –شيخ البخاري- في كتابه "السنة" في "باب ما خلق الله بيده": حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن سليمان بن مسهر، عن خرشة بن حر، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم لي: «أتدري كيف خلق الله عز وجل الخلق؟» قلت: لا، قال: «خلق الله عز وجل آدم عليه السلام، قال: يلد فلانا ويلد فلانة، ويلد فلان فلانا ويلد فلانة، وتلد فلانة فلانة، أجله كذا، وعمره كذا، ورزقه كذا وكذا، ثم ينفخ فيه الروح، فـ"آدم" –عليه الصلاة والسلام- خلقه الله بيده من أديم الأرض».

خرج أبو محمد الدارمي في "مسنده" من حديث أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المديني، عن عون بن عبد الله بن نوفل، عن أخيه عبد الله ابن عبد الله، عن أبيه: عبد الله بن الحارث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


#159#

«خلق الله –تبارك وتعالى- ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وغرس الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده» وذكر الحديث.

وإسناده ضعيف من قبل "أبي معشر"، ضعفه يحيى بن معين، والنسائي، والدارقطني، قال البخاري: منكر الحديث.

وروى أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن ميسرة قال: إن الله لم يمس شيئا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده.

وقال يزيد بن زريع: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، عن كعب قال: لم يخلق الله بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وذكر نحو ما تقدم.


#160#

وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا عبيد المكتب –هو: ابن مهران- حدثنا مجاهد، قال ابن عمر رضي الله عنهما: خلق الله عز وجل أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وآدم، وجنة عدن. ثم قال لسائر الخلق: كن، فكان.

خرجه الدارمي فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد –فذكره نحوه.

وإسناده جيد.

ورواه العلاء بن سالم، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عبيد المكتب. بنحوه.

خرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "العظمة" فقال: حدثنا إبراهيم –يعني: ابن محمد بن الحسن، حدثنا العلاء. فذكره.

$*وخلق آدم عليه السلام كان في آخر يوم الجمعة:$

أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن الذهبي –قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا يحيى بن سعد سماعا، وأبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم وعيسى بن عبد الرحمن المطعم وأبو أحمد إبراهيم بن محمد الطبري إجازة، قالوا سوى الطبري: أخبرنا أبو الفضل جعفر بن علي الهمداني –قراءة عليه ونحن نسمع،


#161#

قال ابن سعد: وأنا شاهد، في الخامسة، وقال الطبري: أخبرنا علي بن هبة الله سبط الجميزي سماعا. ح.

وقال ابن سعد أيضا: وأنبأنا أبو الحسن علي بن الصابوني ومرتضى بن حاتم الحارثي ويوسف بن محمود الساوي وعبد الرحيم بن الطفيل وعبد الوهاب بن رواح، قالوا كلهم: أخبرنا أبو طاهر أحمد ابن الحافظ قراءة عليه ونحن نسمع، أخبرنا القاسم بن الفضل الثقفي، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن بندار المديني، حدثنا أبو جعفر محمد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا حجاج بن محمد.

قال: وقال ابن جريج: أخبرنا إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد صلاة العصر من يوم الجمعة آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل».

تابعه جماعة، منهم: يحيى بن جعفر بن الزبرقان، عن حجاج، قال: قال ابن جريج.

وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": فقال: حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا الحجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج. فذكره.


#162#

حديث غريب.

وقد خرجه مسلم في "صحيحه" فقال: حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبد الله، قالا: حدثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن أمية. فذكره.

وزاد أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الراوي عن مسلم، ووهم من جعل الزيادة من كلام مسلم، قال: وحدثنا البسطامي –وهو: الحسين بن عيسى- وسهل بن عمار وإبراهيم ابن بنت حفص وغيرهم، عن حجاج بهذا الحديث.

وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا أحمد ابن علي بن المثنى، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا حجاج بن محمد، حدثنا ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد –فذكره.

والتصريح في هذا بقول حجاج: "حدثنا ابن جريج" غريب.

وحدث به أبو الفضل عباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين في "تاريخه" الذي ألفه فقال: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج. بنحوه.

وخرجه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو بكر بن مردويه


#163#

في تفسيريهما وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" وأبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط"، إلا أن عنده: "عن إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن رافع" دون ذكر أيوب، وقال عقب الحديث: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن رافع إلا: إسماعيل بن أمية، تفرد به ابن جريج. انتهى.

وخرجه النسائي عن إبراهيم بن يعقوب، عن محمد بن الصباح، عن أبي عبيدة الحداد، عن الأخضر بن عجلان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فقال: «إن الله عز وجل خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت» وذكر الحديث بنحوه.

وذكر علي بن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ أن هذا الحديث من كلام "كعب الأحبار"، وأن أبا هريرة إنما سمعه من "كعب".


#164#

قال البخاري في "التاريخ الكبير": وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب، وهو أصح. انتهى.

قيل: فاشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا.

وقيل: إن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن "إبراهيم بن أبي يحيى، عن أيوب"، لكن صار في عداد الصحيح.

وقد تابعه موسى بن عبيدة الربذي –وهو ضعيف- عن أيوب.

وقال النسائي في تفسير {السجل}: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، حدثني محمد بن الصباح، حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا أخضر بن عجلان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال: «يا أبا هريرة، إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والتقن يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر، خلقه الله من أديم الأرض بأحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها، من أجل ذلك جعل الله من آدم الطيب والخبيث».

حديث غريب، تفرد به الأخضر بن عجلان الشيباني التيمي –تيم بني شيبان- وقد وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: يكتب


#165#

حديثه، ولينه الأزدي، وحديثه في السنن الأربعة.

ذكره الذهبي.

وخرجه القاسم بن ثابت في "الدلائل" وهو أول حديث في الكتاب، حدث بنحوه عن أحمد بن شعيب –هو: النسائي- قال: أخبرني إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق –فذكره.

وقال: قوله: «خلق التقن يوم الثلاثاء»: يقال: إنه الشيء الذي يقوم به المعاش ويصلح عليه التدبير مثل: الحديد والآنك والرصاص وجواهر الأرض، وكذلك كل شيء يقوم به صلاح شيء فهو "تقنه"، ومنه: قيل لرساية الماء –وهو الذي يخرج به الماء من الخثورة: "التقن"، يقال: "تقنوا أرضهم": أرسلوا فيها الماء الخاثر لتجود، و"الإتقان": الإحكام للأشياء، وقول الله –تبارك وتعالى-: {أتقن كل شيء} أي: أحكمه، و"رجل تقن" ورواه بعضهم: "تقن" وهو: الحاذق الأشياء.

انتهى.

ويروي الحديث أبو صالح عبد الله بن صالح –كاتب الليث، عن خالد بن حميد ورشدين بن سعد، عن أبي مطيع معاوية بن يحيى، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو موقوفا.


#166#

$*[سياق ما روي في أول يوم خلق الله فيه الخلق]:$

وفي هذا الحديث دليل على: أن أول يوم بدأ الله فيه الخلق يوم السبت.

قال ابن الجوزي: وهو اختيار محمد بن إسحاق، قال ابن الأنباري: وهذا إجماع أهل العلم.

وقيل: ابتداء الخلق يوم الأحد.

قاله كعب والضحاك ومجاهد.

واختاره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وجعله أولى القولين عنده، ثم ذكر في "تاريخه" إجماع السلف من أهل العلم على ذلك.

انتهى.

وبه يقول أهل التوراة، وجاء عن عبد الله بن سلام.

قال ابن جرير في "تاريخه" سير العالم: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا الفضل بن سليمان، حدثني محمد بن زيد، حدثني أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، أخبرني ابن سلام وأبو هريرة رضي الله عنهما، فذكرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة التي في الجمعة، وذكر أنه قال: فقال عبد الله بن سلام: أنا أعلم أي ساعة هي، بدأ الله الخلق يوم الأحد، وفرغ في ساعة من يوم الجمعة، فهي آخر ساعة من يوم الجمعة.


#167#

وقال أيضا في "تاريخه" هذا وفي "تفسيره" –ولفظه في "التاريخ"- قال: حدثني المثنى بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.

وروى نحوه عثمان بن عمر بن فارس، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام. نحوه.

ورواه يحيى بن معين، عن حماد بن خالد الخياط، عن ابن أبي ذئب.

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبو رجاء قتيبة بن سعيد، ثنا ليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام أنه قال: خلق الله عز وجل الأرض يوم الأحد والاثنين وقدر فيها أقواتها، وجعل فيها رواسي من


#168#

فوقها يوم الثلاثاء والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فخلقها يوم الخميس والجمعة، وأوحى في كل سماء أمرها، وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل، ثم تركه أربعين ينظر إليه ويقول: تبارك الله أحسن الخالقين. ثم نفخ فيه من روحه، فلما دخل في بعضه الروح ذهب ليجلس، قال الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}، فلما تتابع فيه الروح عطس، فقال الله له: قل: الحمد لله. قال: الحمد لله. قال الله –تبارك وتعالى-: يرحمك ربك.

وحدث به النسائي في كتابه "عمل اليوم والليلة" عن قتيبة مختصرا ولفظه: «خلق الله عز وجل آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، ثم نفخ فيه من روحه، فلما تتابع فيه الروح عطس» وذكر الحديث.

وخرج ابن جرير نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومن طريق السدي عن عبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن جرير أيضا في "تاريخه": حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال هناد: وقرأت سائر الحديث: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض؟ فقال: «خلق الله –تبارك وتعالى- الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم


#169#

الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة، فقال: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين}، لمن سأل، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة: النجوم والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاث ساعات الآجال من حي وميت، وفي الثانية: ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة: خلق آدم صلى الله عليه وسلم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة» الحديث.

وخرجه الحاكم وصححه، وأنى له الصحة و"البقال" ضعيف عن ابن معين وغيره؟! واسمه: سعيد بن المرزبان، سماه مسلم في كتابه "الكنى".

وقيل: ابتدأ الخلق يوم الاثنين. قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل.

حكاه ابن الجوزي.

قال: وقد اختلف: هل خلق الليل قبل النهار؟ على قولين،


#170#

أصحهما أن الليل أسبق؛ لأن النهار من ضوء الشمس. انتهى.

وذكر الأيام هنا إنما هو مقدار ذلك ومدته؛ لأن اليوم إنما يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ ولا القمر اللذان يعرف بهما الليل والنهار.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: مقدار كل يوم من تلك الأيام –أي: الستة- التي خلق الله فيها السموات والأرض، مقدار اليوم ألف سنة من سني الدنيا.

وبه قال كعب ومجاهد والضحاك.

قال ابن الجوزي: ولا نعلم خلافا في ذلك.

قلت: جاء عن الحسن وابن سيرين: أن مدة كل يوم مقدار يوم من أيام الدنيا.

قال ابن الجوزي في كتابه "المبدأ والقصص": والذي أراه: أن الستة أيام التي خلقت فيها الأشياء على مثال أيامنا هذه، بدليل النقل والمعنى:

أما النقل: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلق الله التربة يوم السبت، وبث فيها الجبال يوم الأحد»، ونحن نعرف مقدار يوم السبت والأحد.


#171#

وأما المعنى: فإن المراد الإخبار بسرعة الإيجاد، فإذا كان اليوم كألف سنة لم يحصل المقصود.

قال: وكنت أرى أني قد خالفت بهذا الرأي أهل التفسير، حتى رأيت الحسن البصري قد قال: هذه الأيام مثل أيام الدنيا.

والعجب من أبي الفرج –رحمة الله عليه- كيف خالف مقالته هذه في كتابه "زاد المسير" فقال فيه:

ولو قال قائل: "إنها كأيام الدنيا" كان بعيدا من وجهين:

أحدهما: خلاف الآثار.

والثاني: أن الذي يتوهمه من الإبطاء في ستة آلاف سنة يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.

فإن قيل: "فهلا خلقها في لحظة، فإنه قادر"؟

فعنه : خمسة أجوبة:

أحدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده. ذكره ابن الأنباري.

والثاني: أن التثبت في تمهيد ما خلق لآدم عليه السلام وذريته قبل وجوده أبلغ في تعظيمه عند الملائكة.

والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما تظهر قدرته في قول: "كن" فيكون.


#172#

والرابع: أنه تعالى علم عباده التثبت، فإذا تثبت من لا يزل، كان ذو الزلل أولى بالتثبت.

والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء أبعد من أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق.

ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير".

قال سلمة بن شبيب: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا أسد بن موسى، عن يوسف بن زياد، عن أبي إلياس –ابن بنت وهب بن منبه-، عن وهب قال: إن الله عز وجل حين فرغ من خلقه نظر إليهم حين مشوا على وجه الأرض، فقال: أنا الله الذي لا إله إلا أنا، الذي خلقتك بقوتي وأتقنتك بحكمتي، حق قضائي، ونافذ أمري، وأنا أعيدك كما خلقتك، وأفنيك حتى أبقى وحدي، فإن الملك والخلود لا يحق إلا لي، أدعو خلقي وأجمعهم لقضائي يوم يحشر أعدائي وتجل القلوب من خوفي، وتجف الأقدام من هيبتي، وتبرأ الآلهة ممن عبدها دوني.

قال: وذكر وهب أن الله عز وجل لما فرغ من جميع خلقه يوم الجمعة أقبل يوم السبت فمدح نفسه بما هو أهله، فمدحها وذكر عظمته وجبروته وكبرياءه وسلطانه وقدرته وملكه وربوبيته، فأنصت كل شيء، وأقبل وأطرق له كل شيء خلقه، فقال: "أنا الملك، لا إله إلا أنا،


#173#

ذو الرحمة الواسعة والأسماء الحسنى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو العرش المجيد والأمثال العلى، أنا الله لا إله إلا أنا ذو المن والطول والآلاء والكبرياء، أنا الله لا إله إلا أنا بديع السموات والأرض وما فيهن، ملأت كل شيء عظمتي، وقهر كل شيء علمي، ووسعت كل شيء رحمتي، وبلغ في كل شيء لطفي.

قال الله: يا معشر الخلائق، فاعرفوا مكاني، ليس في السموات والأرض إلا أنا، وخلقي كلهم لي، لا تقوم ولا تدوم إلا بي، وتتقلب في قبضتي، وتعيش في رزقي، وحياته وموته وبقاؤه وفناؤه بيدي، فليس له محيص، ولا ملجأ غيري، لو تخليت إذا لدهر كله، وإذا لكنت أنا على حالي لا ينقصني ذلك شيئا ولا يزيدني ولا يهدني فقده، وأنا مستغن بالعز كله في جبروتي وملكي، وبرهان نوري، وسعة بطشي، وعلو مكاني، وعظمة شأني، فلا شيء مثلي، ولا إله غيري، وليس ينبغي لشيء خلقته يوم خلقته بيدي أن يعدل بي ولا ينكرني، وكيف ينكرني من خلقته يوم خلقته على معرفتي؟! أم كيف يكايدني من قد قهره ملكي؟! فليس له خالق ولا باعث ولا وارث غيري، أم كيف يعارضني من ناصيته بيدي؟! أم كيف يعدل بي من أعمره وأسقم جسمه وأنقص عقله وأتوفى نفسه وأخلقه وأهرمه فلا يمتنع عني؟! أم كيف يستنكف عن عبادتي عبدي وابن عبادي وابن إمائي، لا ينسب إلى خالق ولا وارث غيري؟! أم كيف يعبد دوني من تخلقه الأيام ويفني


#174#

أجله اختلاف الليل والنهار، وهما شعبة يسيرة من سلطاني، فإلي إلي يا أهل الموت والفناء لا إلى غيري، فإني كتبت الرحمة على نفسي، وقضيت العفو والمغفرة لمن استغفرني، أغفر الذنوب جميعا صغيرها وكبيرها، ولا يكبر ذلك علي، ولا تلقوا بأيديكم، ولا تقنطوا من رحمتي، فإن رحمتي سبقت غضبي، وخزائن الخير كلها بيدي ولم أخلق شيئا مما خلقت لحاجة كانت مني إليه، ولكن لأبين به قدرتي، ولينظر الناظرون في ملكي، وتدبير حكمتي، ولتدين الخلائق كلها لعزتي، ويسبح الخلق كلهم بحمدي، ولتعنوا الوجوه كلها لوجهي".

خرجه أبو نعيم في "الحلية" لسلمة بن شبيب، وفيه: "إن الله فرغ من جميع خلقه يوم الجمعة".

وخرج أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" من حديث زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري، عن أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الأيام يوم الجمعة، وأعظمها، وأعظم عند الله عز وجل من يوم الفطر ويوم النحر، وفيه خمس خلال:

خلق الله تبارك وتعالى فيه آدم عليه السلام، وأهبطه فيه إلى الأرض، وفيه توفى الله عز وجل آدم، وفيه ساعة لا يسأل العبد الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه، ما لم يكن حراما، وفيه تقوم الساعة، وما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبل ولا رياح ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم فيه الساعة».


#175#

وخرج أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة في "مصنفه" فقال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زهير بن محمد. فذكره بنحوه.

وحدث به أحمد في "مسنده" عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا زهير بن محمد فذكره.

وخرجه ابن ماجه في "سننه".

وهو عند زهير، عن ابن عقيل أيضا، عن عمرو بن شرحبيل، عن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن عبادة قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن يوم الجمعة ماذا فيه من الخير؟ فقال: «فيه خلق الله آدم» وذكر الحديث نحو ما تقدم.

خرجه أحمد في "مسنده" عن أبي عامر عن زهير.

وقال مسلم في "صحيحه": حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة –يعني: الحزامي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».


#176#

وخرجه مسلم أيضا من حديث يونس، عن ابن شهاب، عن الأعرج نحوه.

وخرجه ابن جرير في "تاريخه" من حديث ابن وهب، أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن موسى بن عثمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الأيام يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة».

وخرجه أيضا من حديث شعيب بن الليث، حدثنا ابن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تطلع الشمس على يوم مثل الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، وفيه أعيد فيها».

وقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع "كعبا" يقول: خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.

خرجه ابن جرير في "تاريخه" أيضا من حديث شيبان –وهو: ابن عبد الرحمن النحوي-، عن يحيى –هو: ابن أبي كثير-، عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

وقد قرئ على أبي هريرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن الذهبي وأنا أسمع يوم السبت السابع والعشرين من ذي قعدة سنة ثمان وتسعين وسبع مائة بمنزله من كفر بطناء –من قرى دمشق- قيل له:


#177#

أخبركم أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم –قراءة عليه وأنت شاهد فأقر به- أخبرنا أبو الغنائم سالم بن أبي المواهب الحسن بن صصري قراءة عليه وأنا أسمع في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وستمائة، أخبرنا أبو الفتح عبيد الله بن شاتيل بقراءتي وأنا أسمع يوم السبت رابع شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ببغداد، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن العلاف المقرئ، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الحمامي المقرئ في صفر سنة ست عشرة وأربع مائة، أخبرنا محمد بن عبد الله الشافعي، حدثني إسحاق بن الحسن، حدثنا القعنبي، عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت إلى "الطور" فلقيت "كعب الأحبار"، فجلست معه، فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصيح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة، إلا الجن


#178#

والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه» الحديث بطوله.

ورجال إسناده كلهم ثقات، و"إسحاق بن الحسن" هو: الحربي، وثقه إبراهيم الحربي رفيقه، والدارقطني وغيرهما.

والحديث وقع لنا عاليا ولله الحمد.

وقد تابع "مالكا" بكر بن مضر؛ فرواه عن ابن الهاد –بطوله.

قوله صلى الله عليه وسلم: «فيه خلق آدم» أي: جمع خلقه ونفخ فيه الروح، وهذا فضل.

وقوله: «وفيه أهبط» قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله: يخفى وجه الفضل فيه. ولكن العلماء أشاروا إلى وجه التفضيل فيه: أنه تيب عليه من ذنبه، وهبط إلى الأرض لوعد ربه عز وجل حين قال: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فلما سبق الوعد به حققه الله له في ذلك اليوم ونفاذ الوعد خير كثير وفضل عظيم.

ووجه الفضل في موته: أن الله –تعالى- جعل ذلك اليوم للقائه.

فإن قيل: فقد جعل الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وقتا للقائه؟


#179#

قلنا: يكون هذا أيضا فضلا يشترك فيه مع يوم الجمعة، ويبقى ليوم الجمعة فضله الذي أعطاه الله زائدا على سائر أيام الجمعة، ومن شارك شيئا في وجه وساواه فيه لا يمتنع أن يفضله في وجوه أخر سواه.

وأما وجه تفضيله في قيام الساعة فيه: فلأن يوم القيامة أفضل الأيام، فجعل قدومه في أفضل الأوقات، وتكون فاتحته في أكرم أوقات سائر الأيام.

ومن فضله: استشعار كل دابة له، وتشوفها إليه لما يتوقع فيه من قيام الساعة، إذ هو وقت قيامها وحين اقتصاصها وجزائها، حاشا الجن والإنس الذين ركبت فيهم الغفلة التي يتردد فيها الآدمي بين الخوف والرجاء. انتهى.

وقال الحارث بن أبي أسامة في "مسنده": حدثنا الحكم –يعني: ابن موسى-، حدثنا فرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا نبي الله، لم سمي يوم الجمعة؟ قال: «لأن فيها جمعت طينة آدم عليه السلام، وفيها الصعقة والبعثة» الحديث.

وحدث به أحمد بن حنبل في "مسنده عن هاشم –يعني: ابن القاسم-، حدثنا الفرج بن فضالة. فذكره.

وروى قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة،


#180#

عن قرثع الضبي، عن سلمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما سميت الجمعة لأن آدم عليه السلام جمع فيها خلقه».

تابعه أبو معشر زياد بن كليب التميمي الكوفي.

قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عبيدة بن حميد، عن منصور، عن أبي معشر، عن إبراهيم. فذكره بنحوه.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا محمد بن حميد، حدثني جرير، عن منصور، عن زياد بن كليب أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن قرثع الضبي –وكان "القرثع" من القراء الأولين- قال: قال سلمان رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري يا سلمان ما يوم الجمعة؟»، فقلت: الله ورسوله أعلم. يقولها ثلاثا: «يا سلمان، أتدري ما يوم الجمعة؟ جمع أبوك أو أبوكم، أنا أخبرك عن يوم الجمعة: ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي المسجد فيقعد وينصت، حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة».


#181#

وحدث به أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن يوسف بن موسى، حدثنا جرير. فذكره بطوله.

تابعه المغيرة بن مقسم الضبي أبو هاشم، عن أبي معشر.

رواه الحسن بن سفيان النسوي فقال: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن زياد بن كليب. فذكره.

ورواه عفان بن مسلم ويحيى بن حماد، وخالد بن يوسف السمتي، عن أبي عوانة به.

ومن طريق منصور والمغيرة: خرجه النسائي في "سننه".

خالف أبا عوانة هشيم بن بشير الواسطي، فحدث به أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، عن زكريا بن يحيى الواسطي، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن قرثع الضبي، عن سلمان. فذكره مرفوعا، وأسقط منه "علقمة".

وحدث به أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي، سمعت أبي يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن منصور، عن إبراهيم، عن قرثع، عن سلمان.


#182#

كذا رواه أبو حمزة –هو: محمد بن ميمون السكري-، فأسقط منه "أبا معشر" بين: "منصور" و"إبراهيم"، وأسقط منه أيضا "علقمة" بين: "إبراهيم" و"قرثع".

وفي الحديث دلالة على أن طينة "آدم" عليه السلام جمعت في يوم الجمعة تشريفا له وتكريما، وجمعها كان من جميع الأرض، كما ثبت من حديث عوف بن أبي جميلة العبدي الأعرابي –وكان ثقة كثير الحديث- عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب».

خرجه الترمذي فقال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب، قالوا: حدثنا عوف. فذكره، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وهو في "سنن أبي داود" عن مسدد، عن يزيد بن زريع ويحيى بن سعيد، عن عوف.

وفي "صحيح ابن حبان": عن مسدد، عن يحيى القطان.

ومن حديث ابن أبي السري، حدثنا معتمر بن سليمان حدثنا عوف فذكر الحديث.


#183#

وحدث به سعدان بن نصر، عن إسحاق الأزرق، عن عوف.

وهو في "مسند أحمد بن حنبل رضي الله عنه".

وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن وهب بن بقية، أخبرنا خالد عن عوف. فذكره.

وحدث به ابن جرير في "تاريخه" عن محمد بن بشار.

وحدث به أيضا عن يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن عوف.

تابعه محمد بن عبيد، عن إسماعيل بن علية. بنحوه.

وحدث به ابن جرير أيضا عن محمد بن عمارة الأسدي، حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا عنبسة، عن عوف الأعرابي:

فذكره بنحوه، وزاد في آخره بعد قوله: "والطيب": «ثم بلت طينته حتى صارت طينا لازبا، ثم تركت حتى صارت حمأ مسنونا، ثم تركت حتى صارت صلصالا، قال ربنا –جل ثناؤه-: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون}».

وخرج ابن جرير أيضا في "التاريخ" من حديث عمرو بن ثابت،


#184#

عن أبيه، عن حبة، عن علي رضي الله عنه قال: إن آدم عليه السلام خلق من أديم الأرض، فيه الطيب والصالح والرديء.

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا المنجاب، أخبرنا علي بن مسهر، عن طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سمي؛ لأنه خلق من أديم الأرض كلها من: أحمرها، وأسودها، وأبيضها، وسهلها، وجبلها، وسبخها، وكل ذلك أنت راء في ولده.

وقال: حدثنا أبي، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رب العزة عز وجل إبليس، وأمره أن يكنس من أديم الأرض من عذبها ومالحها، ففعل، فخلق منه آدم عليه السلام، فمن ثم سمي "آدم" لأنه خلق من أديم الأرض، فما خلق من العذب لم يكن إلا سعيدا وإن كان من كافرين، وما خلق من المالح لم يكن إلا شقيا ولو كان من بر تقي.

وقال أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا أبو عمران موسى بن إبراهيم البلخي، حدثنا الصلت بن الحجاج، عن عبد الملك بن جريج: أنه بلغه أن اسم "إبليس" كان في السماء: "الحارث" –وقال آخر: "عزازيل"- فبعث الله عز وجل ملكا قال: ائتني من تراب الأرض فأخلق منه خلقا. فلما ذهب الملك ليتناول منها قالت الأرض: أعوذ بالله منك، فعرج إلى ربه عز وجل فقال: إنها عاذت بك


#185#

مني، ثم بعث آخر فكذلك، ثم بعث إبليس فقالت: أعوذ بالله منك، فأخذ منها، فعرج به إلى ربه عز وجل، فقال له ربه عز وجل: ألم تعذ بي منك؟ فقال: بلى. فقال: لأخلقن خلقا يسوؤك.

وقال محمد بن زكريا بن دينار الغلابي: حدثنا العباس بن بكار، حدثنا عبد الله بن سليمان، عن أبيه، عن عكرمة: أن "نجدة" سأل ابن عباس: لم سمي "آدم" آدم؟ قال له: ويلك يا نجدة، إن الله عز وجل خلق آدم من أديم الأرض، فلذلك سمي "آدم"، خلقه الله تعالى من تربة طيبة، وتربة مالحة، وتربة مرة، وتربة سوداء، وتربة حمراء، وتربة بيضاء، وتربة غبراء.

أما اللسان: من التربة الطيبة الحلوة، فلذلك يجد الإنسان طعم الأشياء حلوها وحامضها ومرها، ولولا ذلك ما عرف طعم الطعام.

والعينان: من التربة المالحة، لأنهما شحمتان، والشحمة إذا لم يكن فيها ملوحة ذابت وفسدت.

والأذنان: من التربة المرة، ولو لم تكن مرة كذلك لأسرعت الدواب إليهما وعششت فيهما واتخذتهما وكرا، فلشدة مرارتهما تركتهما.

وسائر الجسد كذلك، ترى الرجل طيب العرق طيب الخلق حسنه، والآخر سهل الريح خبيث الخلق، على قدر ما صار فيهم من التراب


#186#

مع أقدار، ثم صوره فأحسن صوره، ونفخ فيه من روحه، فلما جرى فيه الروح استوى قائما، فعطس، فلقنه الله أن قال: "الحمد لله رب العالمين"، فشمتته الملائكة وقالت: "يرحمك الله يا آدم"، وعلمه الأسماء كلها، فلما أراد الله أن يخلق "حواء" ألقى عليه النعاس والوسن فملكته عيناه، فخلق من ضلعه اليسرى القصيرى "حواء"، فلما هب من وسنه نظر إليها، فقيل له: يا آدم، ما هذه إلى جانبك؟ قال: هذه أنثى. قيل: صدقت؛ فهي لك. وهو قول الله تعالى: {الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} وإنما سميت "حواء"؛ لأنها خلقت من حيوان من ضلعه اليسرى القصيرى، ثم أسكنهما الجنة، حتى كان من أمرهما ما كان.

وذكر الحديث وفيه طول.

خرجه أبو محمد بن الحسن الخلال في كتابه "اشتقاق الأسماء" من طريق الغلابي.

وقال موسى بن هارون:

حدثنا عمرو بن حماد، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: {هو الذي خلق


#187#

لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات} قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق السماء فسما عليه فسماه "سماء"، ثم يبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين". الحديث بطوله.

وفيه: لما قالت الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} قال الله عز وجل: {إني أعلم ما لا تعلمون} يعني: من شأن إبليس.

فبعث جبريل عليه السلام إلى الأرض، ليأتيه بطين منها، فقالت: "أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني"، فرجع، ولم يأخذ، وقال: رب، إنها عاذت بك، فأعذتها.

فبعث ميكائيل عليه السلام فعاذت منه فعاذها، فرجع، فقال كما قال جبريل عليه السلام.

فبعث ملك الموت عليه للسلام فعاذت منه، فقال: "وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره"، وأخذ من وجه الأرض، وخلط، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين .. .. الحديث بطوله.

وفيه ألفاظ يغلب على الظن أنها مدرجة فيها، ليست من كلام الصحابة الذين ذكروا. والله أعلم.

وقد خرجه بطوله ابن جرير في "تاريخه" مقطعا في أماكن من "التاريخ" وفي "تفسيره" عن موسى بن هارون به.


#188#

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا القاسم بن خليفة، حدثنا عمرو بن محمد، حدثنا عبد الأعلى، عن يحيى بن خالد –بياع الطنافس- قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق "آدم" بعث "جبريل" عليهما السلام، فقال: ائت الأرض فاقبض منها قبضة أخلق منها "آدم" وأعيده فيها، فأتاها فقال: إن الله تبارك وتعالى بعثني إليك أقبض منك قبضة يخلق منها خلقا ويعيده فيك.

فقالت: إني أعوذ بالله الذي أرسلك أن تنقصني أو تمسني، فرجع فقال: يا رب، إنها استعاذت بك.

فبعث ميكائيل، وقال مثل ذلك، وقالت له الأرض مثل ذلك، فرجع وقال: يا رب، إنها استعاذت بك.

فبعث ملكا، فأتاها فقال: إن الله عز وجل بعثني إليك أقبض منك قبضة يخلق منها خلقا ويعيده فيك.

قالت: إني أعوذ بالذي أرسلك أن تنقصني أو أن تمسني، قال: وأنا أعوذ بالذي أرسلني إليك أن أرجع حتى أمضي لأمره، ففعل، فسماه "ملك الموت"، ووكله بالموت.

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، ثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رب العزة –تبارك وتعالى- إلى إبليس، فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها، فخلق منه "آدم" ومن ثم سمي "آدم" لأنه خلق من أديم الأرض.


#189#

ثم قال إبليس: {أأسجد لمن خلقت طينا} أي: هذه الطينة أنا جئت بها.

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا حسين بن حسن الأشقر، حدثنا يعقوب بن عبد الله القمي، عن جعفر –يعني: ابن أبي المغيرة- عن سعيد بن جبير، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل بعث إبليس، فأخذ من أديم الأرض عذبها ومالحها، فخلق منه آدم عليه السلام، فكل شيء خلقه من عذبها فهو سائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر، وكل شيء خلق من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن تقي.

قال: فمن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا؟! لأنه جاء بالطينة.

قال: فسمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض.

وقال ابن جرير في "التاريخ": حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: إنما سمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو أحمد، حدثنا مسعر، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير قال: خلق "آدم" من أديم الأرض، فسمي "آدم".

"أبو أحمد" هذا: نصر بن علي.


#190#

تابعه محمد بن عبد الله الأسدي وخلاد بن يحيى، عن مسعر.

و"أبو حصين": عثمان بن عاصم.

وهذا أحد الأقوال في اشتقاق اسم "آدم".

وقالت طائفة من أئمة اللغة: هو مأخوذ من قولهم: "أدم الله بينهما" و"أدم يأدم أدما" أي: لاءم، و"أدمت الرجل بأهلي" أي: خلطته بهم، و"بيني وبينهم أدمة" أي: خلطة وعشيرة.

فقالوا: سمي بذلك "آدم"؛ لأنه كان ترابا وماء خلطا على مثل هذا المعنى.

وقيل: "آدم" فعل من الأدمة في اللون، وهي لون مشرب بسواد.

والقول الأول: أنه سمي "آدم"؛ لأنه خلق من أديم الأرض –وهو وجهها- هو المشهور.

وأما ما روي عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: خلق "آدم" عليه السلام من أرض يقال لها :"دحناء" فالأحاديث والآثار التي قدمناها تخالفه، لكن تفسره رواية منصور بن أبي الأسود، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله تعالى "آدم" بـ"دحناء"، فمسح ظهره فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، قال: {ألست بركم قالوا بلى}.. الحديث.

ورواه يحيى بن يعلى بن الحارث، حدثنا أبي، حدثنا غيلان المحاربي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هبط آدم بدحنة فمسح الله ظهره فخرج من


#191#

ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}»، قال: فمن يومئذ يرون أن القلم جف بما هو كائن.

و"دحناء": موضع بين "الطائف" و"الجعرانة" من مخاليف "الطائف"، وهو مقصور وممدود، وشاهد القصر قول ربيعة بن الجحدر.

فلو رجلا خادعته فخدعته ... ولكنما حوتا بدحنى أقامس

و"الدحنة": الأرض المرتفعة.

وجاء عن الحسن البصري: قال: خلق آدم من أدم الأرض كلها أسودها وأحمرها وأبيضها وحزنها وسهلها، وخلق جؤجؤه من ضرية.

"جؤجؤه" صدره.

و"ضرية" قيل: هي قرية عامرة قديمة في طريق "مكة" من "البصرة" في "نجد"، قيل: هي إلى "مكة" أقرب.


#192#

$*[الاختلاف في أول ما خلق؛ وقول من قال: إنه الماء]:$

وذكر المفسرون في قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}: أن "الإنسان" هنا "آدم" عليه السلام، و"السلالة": القليل مما ينسل، وذلك أن "آدم" عليه السلام استل من جميع الأرض، وأصل التراب الذي خلق منه آدم عليه السلام: الماء، فإن "آدم" خلق من طين، والطين تراب مختلط بماء، والتراب خلق من الماء.

حكي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وطائفة من السلف: أن أول المخلوقات: "الماء".

وجاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنه سئل عن بدء الخلق، قال: من تراب وماء وطين، ومن نار وظلمة. فقيل له: فما بدء الخلق الذي ذكرت؟ قال: من ماء ينبوع.

وخرج الترمذي من حديث حمزة الزيات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا وزهدنا في الدنيا وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهالينا وشممنا أولادنا أنكرنا أنفسنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد كي يذنبوا فيغفر لهم".

قال: قلت: يا رسول الله: مم خلق الخلق؟ قال: "من الماء" الحديث.

قال الترمذي: هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل.


#193#

وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" وابن حبان في "صحيحه".

وقال عفان بن مسلم: حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة بن دعامة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني؛ فأنبئني عن كل شيء قال: «كل شيء خلق من الماء».

تابعه سعيد بن بشير وغيره عن قتادة.

خرجه أحمد في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. انتهى.

ورواه عبد الله بن معمر الهذلي، عن أبي داود، عن همام، عن قتادة، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.

ورواه سعيد بن أبي عروبة وغيره، عن قتادة قال: ذكر لنا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره بنحوه.

وعلى هذا القول –أن الماء أول المخلوقات- طائفة.


#194#

$*[قول من قال: أول ما خلق: القلم]:$

وقال خلق: أول المخلوقات القلم.

قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا الحسن بن سوار، حدثنا ليث، عن معاوية، عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، عن أبيه، عن جده: عبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة».

قال أبو داود الطيالسي: حدثنا عبد الواحد بن سليم قال: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقلت له: يا أبا محمد، إن أناسا عندنا يقولون في القدر؟

فقال عطاء: لقيت الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: حدثني أبي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله عز وجل القلم، فقال له: اكتب. فجرى بما هو كائن إلى الأبد».

تابعه عباد بن العوام، عن عبد الواحد بن سليم.


#195#

خرجه الترمذي للطيالسي، قال: وفي الحديث قصة.

وقال: هذا حديث حسن غريب، وفيه عن ابن عباس.

هكذا أخرجه في تفسير سورة {ن}، وخرجه قبل هذا في "كتاب القدر"، وذكر القصة مطولة.

وخرج أبو داود حديث "عبادة" هذا في "سننه"، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: رب، وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة».

وحديث ابن عباس الذي أشار إليه الترمذي هو ما سمعته على أبي الحسن علي بن أبي المجد، أنبأني أحمد بن محمد بن أبي القاسم أبو بكر، أن أبا القاسم عبد الله بن رواحة الأنصاري، أخبره في العشر الأخير من "المحرم" سنة أربع وأربعين وستمائة بـ حلب، أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي يوم السبت تاسع ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وخمسمائة بثغر الإسكندرية، أخبرنا أبو الفتح سعيد بن إبراهيم الصفار بـ"أصبهان" في شوال سنة إحدى وتسعين وأربع مائة، أخبرنا أبو الحسن علي بن القاسم المقرئ، حدثنا أبو الحسين أحمد

بن فارس، وحدثني علي بن مهرويه، حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أول


#196#

ما خلق الله القلم، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

وقد رواه محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله عز وجل من شيء القلم، فقال له: اكتب. قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب القدر. فجرى القلم بما هو كائن في ذلك إلى قيام الساعة.

تابعه وكيع وأبو معاوية وعلي بن مسهر وشعبة وأبو خالد الأحمر، عن الأعمش بنحوه.

وخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" من طرق إلى ابن عباس.

ورواه شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان أو مجاهد، عن ابن عباس.


#197#

ورواه جرير، عن عطاء، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس قال: إن أول شيء خلق ربي القلم، فقال له: اكتب. فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.

والحديث عن الشعبي بنحو رواية أبي ظبيان وأبي الضحى ومجاهد.

وجاء عن ابن عباس مرفوعا من حديث عمر بن حبيب العدوي البصري القاضي –وهو ضعيف- عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه كان يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول شيء خلقه الله القلم، وأمره أن يكتب كل شيء يكون».

خرجه الدارقطني من حديث ابن المبارك، عن رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب. به.

وخرجه من طريق أخرى إلى ابن المبارك به، إلى: أنه قال. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.

ورواه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب "القدر" فقال: حدثنا أبو موسى، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، حدثني القاسم بن أبي بزة حدثني عروة بن عامر، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما


#198#

يقول: أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، فالكتاب عنده. وقرأ: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}.

وقال أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في كتابه "العظمة": حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن سعيد، حدثنا ابن وهب، أخبرني مسلم بن خالد، عن زكريا بن إسحاق، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: خلق الله عز وجل "اليراع" أول ما خلق من الأشياء –و"اليراع": القصب-، ثم خلق القلم من ذلك اليراع، ثم قال: اكتب ما يكون إلى يوم القيامة.

حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا يحيى بن حميد بن أبي حميد، حدثنا عثمان بن عبد الله الدمشقي، عن بقية بن الوليد، حدثني أرطاة بن المنذر الكلاعي، سمعت مجاهدا يذكره عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله –تبارك وتعالى- أول شيء خلق خلق القلم، وهو من نور مسيرة خمس مائة عام، فأمر الله –عز وجل- القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، فصدقوا كل ما بلغتم عن الله عز وجل من قدرته».

وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ غير هذا، وهو ما خرجه أبو بكر بن أبي عاصم النبيل في كتابه "السنة" من طريق عن ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت


#199#

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله عز وجل القلم، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين»، قال: «فكتب الدنيا وما يكون فيها من عمل معمول بر أو فجور، رطب أو يابس، فأحصاه عنده في الذكر» قال: «فاقرأوا إن شئتم: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}، فهل تكون النسخة إلا من شيء قد فرغ منه».

حديث منكر، قاله الذهبي فيما وجدته بخطه.

وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأموي الأصبهاني الكاتب صاحب كتاب "الأغاني": أخبرني أبو جعفر أحمد بن محمد بن نصر القاضي، حدثني محمد بن الحسن الزرقي، حدثني موسى بن عبد الله بن موسى، حدثتني فاطمة بنت سعيد بن عقبة بن شداد بن أمية الجهني، عن أبيها، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله –عز وجل- القلم، ثم الدواة، وهو قوله تعالى: {ن والقلم}، ثم قال للقلم: خط إلى يوم القيامة».

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "المبدأ والقصص" أن هذا الحديث هو المراد بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: «قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة».

قال: وإنما قلت: [المراد بالقدر ما كتب مما يكون؛ لأنه لا يكون


#200#

أن يكون] المراد بالتقدير علم ما يكون، من جهة أن علم الله عز وجل قديم لا يستند إلى سنين معدودة، فعلم أن المراد بالقدر: كتابة المقدور.

وفائدة إظهار المعلوم بمكتوب: أن يعلم أن المخلوقات إنما وجدت عن تدبير تقدم وجودها.

ثم قال: والقياس يقتضي أن مع القلم: اللوح، لأنه يكتب فيه، أو الدواة على ما ذكرناه، وما رأيتهم ذكروا هذا، وإن كان من الممكن خلق اللوح متأخرا، وأن تكون الكتابة متأخرة بعد مخلوقات.

انتهى قوله.


#201#

$*[قول من قال أول المخلوقات: النور والظلمة]:$

وقيل: أول المخلوقات النور والظلمة.

وقال سلمة بن الفضل: قال محمد بن إسحاق: كان أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة، ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا.

حدث به ابن جرير في "تاريخه" عن ابن حميد، حدثنا سلمة. فذكره. وقال ابن جرير بعد ذلك بعد أن خرج حديث ابن عباس الذي قدمناه: وأولى القولين عندي بالصواب قول ابن عباس، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وقيل: إن الماء خلق من النور. قاله مقاتل، ويرده حديث أبي هريرة الذي ذكرناه آنفا.

$*[قول من قال أول المخلوقات: العرش]:$

وقيل: أول المخلوقات العرش.

وقال الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد بن محمد الهمداني العطار في كتابه "زاد المسير": فأما مبتدأ الخلق، فجاء في حديث عمران بن


#202#

الحصين وبريدة بن الحصيب تقديم خلق العرش والماء على كتب ما في الذكر وخلق سائر الأشياء.

ثم ساق أبو العلاء الأحاديث التي جاءت في ذلك.

وذهب بعضهم إلى الوقف:

فكتب يزيد بن أبي مسلم إلى جابر بن زيد –وهو: أبو الشعثاء- يسأله عن بدء الخلق؟ قال: العرش والماء والقلم، والله أعلم أي ذلك كان قبل.

وصحح بعضهم أن أولها خلقا العرش، مستدلا بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على [الماء]» خرجه مسلم في "صحيحه".

قال: فهذا صريح في أن التقدير وقع بعد العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم، لحديث عبادة –يعني: ابن الصامت- الذي قدمناه.

قال: ولا يخلو قوله: «إن أول ما خلق الله القلم» إلى آخره إما أن يكون جملة أو جملتين.

فإن كان جملة –وهو الصحيح- كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له: اكتب، كما في اللفظ: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب» بنصب "أول" و"القلم".

وإن كان جملتين –وهو مروي برفع "أول" و"القلم" –فيتعين حمله على أنه أول مخلوقات من هذه العالم، ليتفق الحديثان، إذ حديث


#203#

عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم.

وفي اللفظ الآخر: «لما خلق الله القلم قال له: اكتب».

انتهى قوله. وفيه نظر، وما ذكره من الاحتمال أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما خلق الله القلم» جملة أو جملتين تكلف وتعسف، وتصحيحه: أن يكون جملة ليس بجيد، وليست رواية فيما أعلم.

وإنما الرواية الثانية التي رويت لنا برفع "أول" و"القلم"، وباقي الروايات تعضد ذلك وتفسره: كقوله صلى الله عليه وسلم في رواية ابن عباس رضي الله عنهما التي قدمناها: «إن أول شيء خلقه الله القلم، وأمره أن يكتب كل شيء»، وقول ابن عباس: أول ما خلق الله من شيء القلم، فقال له: اكتب، وقوله في رواية أبي الضحى عنه: إن أول شيء خلقه ربي القلم.

وقائل هذا لما لم يجد بدا من أن تكون جملتين قال: فيتعين حمله على أنه أول مخلوقات من هذه العالم ليتفق الحديثان، وكأن القلم عند قائل هذا من عالم و"العرش" عنده من عالم آخر.

وقوله: "إن حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم فهذا الحديث ليس صريحا في ذلك، فإن روايتنا الصحيحة لهذا الحديث ثبتت من رواية ابن وهب، حدثني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا به، ولفظه: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة»، قال: «وعرشه على الماء».


#204#

هكذا الرواية الصحيحة التي خرجها مسلم في "صحيحه" من حديث ابن وهب بإثبات لفظة: "قال: وعرشه على الماء"، وليس في ذلك تصريح بما ذكره القائل آنفا، من أن مسلما خرجه من طريق أخرى، فقال: وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا المقرئ حدثنا حيوة، وحدثنا محمد بن سهل التميمي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، كلاهما عن ابن هانئ بهذا الإسناد نحوه، ولم يذكروا: "عرشه على الماء".

وحدث به الترمذي في "جامعه" عن إبراهيم بن عبد الله بن المنذر الباهلي الصنعاني، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ –فذكره دون لفظة: "وعرشه على الماء"، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.

فإن كانت الرواية الأولى أثبتت ذكر العرش فقد أسقطت لذكره الرواية الثانية، وكلاهما صحيحة.

وإنما استدلال من استدل أن العرش أول المخلوقات بما خرجه ابن حاتم في "تفسيره" فقال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثني عبد الله بن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، حدثني سعيد بن جبير، قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله عز وجل اللوح المحفوظ لمسيرة مائة عام، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش –تبارك وتعالى: اكتب. فقال القلم: وما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن الله يعلم ما في السماوات والأرض. خرجه في تفسير


#205#

قوله تعالى: {قال ربي يعلم القول في السماء والأرض}.

وقال الإمام ابن المنذر في "تفسيره": حدثني موسى بن هارون، حدثنا يحيى، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أول ما خلق الله الدواة وهي: {ن والقلم وما يسطرون}، فأمر القلم، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله، عن سفيان، عن أبي هاشم الواسطي، عن مجاهد قال: ذكرت لابن عباس قلت: قوم يقولون في القدر؟ قال: إنهم يكذبون بكتاب الله، لآخذن شعر أحدهم، ولأضربنه


#206#

إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فكان أول ما خلق القلم، فأمره فكتب ما هو كائن، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.

"أبو هاشم الواسطي" هو: يحيى بن دينار –وقيل: ابن نافع- الرماني، مات سنة خمس وأربعين ومائة، وهو أحد الثقات.

وحدث به أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي الحافظ في كتابه "الاستقامة" فقال: حدثنا يعلى ومحمد بن يوسف، قالا: حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: ذكرت لابن عباس رضي الله عنهما: أن أناسا يقولون في القدر، فقال: إنهم يكذبون بكتاب الله لآخذن بشعر أحدهم فلأنصونه، إن الله عز وجل كان عرشه على الماء قبل أن يخلق شيئا، فأول شيء خلق: القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.

وأفرد أبو عاصم رواية الفريابي، فقال في أوائل الكتاب: حدثنا


#207#

الفريابي، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فأول شيء خلق: القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن.

وخرج أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه في ذكر العرش: حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا أبو عامر الأسدي، حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، ثم خلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

وهذا أيضا ضعيف من أجل إبراهيم بن مهاجر.

وأضعف من ذلك ما قال أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "العظمة":

حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، حدثنا عبد

المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول شيء خلق الله عز وجل: العرش من نور، ثم الكرسي، ثم لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق


#208#

في كل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل، ويرفع أقواما ويخفض أقواما، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وخلق قلما من نور طوله خمسمائة عام، وعرضه خمسمائة عام، قبل أن يخلق الخلق، فقال للقلم: اكتب. قال القلم: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب علمي في خلقي إلى أن تقوم الساعة. فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، إن كتاب ذلك العلم على الله ليسير هين، وسنة القلم مشقوقة، ينبع منه المداد.

$*[الكلام فيما خلق بعد القلم]:$

وقد قيل: إن الذي خلق ربنا عز وجل بعد القلم الكرسي، ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمات، ثم خلق الماء فوضع عرشه عليه.

حكاه ابن جرير في "تاريخه".

وقال عقب ذلك، وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: إن الله عز وجل خلق الماء قبل العرش؛ لصحة الخبر الذي ذكرت قبل عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه.

وذكر الحديث الآتي ذكره، وهو ما رويناه من حديث أبي بكر محمد ابن إبراهيم بن المقرئ، حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا عمر بن


#209#

موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حدس، عن عمه أبي رزين –يعني: العقيلي رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: «كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق العرش، ثم استوى عليه».

حدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في أول "تاريخه" عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله الخزاعي، حدثنا حماد بن سلمة، فذكره بنحوه، وهو أول حديث في "التاريخ".

وقد تابعه يزيد بن هارون عن حماد، ورواه محمد بن المثنى، أخبرنا الحجاج، قال: قال حماد، عن يعلى بن عطاء، فذكره.

ورواه إسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد، وعنده: «ثم كان العرش، فارتفع على عرشه».

والحديث مخرج في "جامع الترمذي" و"سنن ابن ماجه" ليزيد بن هارون، وهو حديث حسن كما قاله الترمذي، وصححه ابن جرير في


#210#

أثناء كلام له في "التاريخ".

وقد رواه شعبة عن يعلى فقال: وكيع بن عدس بدل حدس.

ممن سماه وكيع بن عدس بالعين أيضا: هشيم.

وقال البخاري في "تاريخه الكبير": وقال موسى وغيره: حدثنا أبو عوانة، عن يعلى، عن أبي مصعب وكيع بن حدس.

قال: وقال أحمد: أصبت في كتاب الأشجعي عن سفيان: وكيع بن حدس، وافق حماد بن سلمة. انتهى.

و"حدس" وجدته بخط الحافظ أبي النرسي مقيدا بسكون الدال في رواية أبي عوانة التي ذكرناها عن "تاريخ البخاري" آنفا.

وقال عبد الغني المقدسي في "الكمال" فيما وجدته بخط الحافظ أبي العباس بن فرح الفقيه الشافعي، قال: ويقال: ابن حدس –بضم الدال، وقيل: بفتحها- انتهى.


#211#

و"العماء": قال أبو عبيد: العماء في كلام العرب: السحاب، وهو ممدود. قال: وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، ولا يدرى كيف ذلك العماء.

قال: وأما "العمى" في البصر فمقصور، وليس هو من هذا الحديث في شيء.

قال الحسن بن عمران الحنظلي الهروي: سمعت أبا الهيثم خالد بن يزيد الرازي يقول: أخطأ أبو عبيد، وإنما "العماء" في هذا الحديث مقصور، ولا يدرى أين كان الرب جل وعلا.

وقال الأزهري: وبلغني عن أبي الهيثم في تفسير هذا الحديث أنه في عمى مقصور –قال: وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول فهو عمى، أو بمعنى: أنه –تبارك وتعالى- كان حيث لا تدركه عقول بني آدم، ولا [يبلغ] كنهه الوصف، ولا تدركه الفطن، انتهى قول أبي عبيد.

وقول أبي عبيد هو المشهور، وبذلك فسره غير واحد، منهم: إسحاق بن راهويه.


#212#

وقال ابن جرير في "تاريخه": ثم إن الله عز وجل خلق بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة: سحابا رقيقا هو "العماء" وهو الغمام الذي ذكره الله تعالى في محكم كتابه، فقال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} وذلك قبل أن يخلق عرشه، وبذلك ورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم روى بإسناده حديث أبي رزين العقيلي من طريق يزيد بن هارون عن حماد.

وخرجه من طريق أخرى، وقال في تفسير الحديث: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل خلق عرشه على الماء، ومحال إذا كان على الماء أن يكون [الذي] خلقه عليه غير موجود إما قبله أو معه، فإذا كان ذلك كذلك، فالعرش لا يخلو من أحد أمرين:

إما أن يكون خلق بعد خلق الله عز وجل الماء.

وإما أن يكون خلق هو والماء معا.

فأما أن يكون خلقه قبل خلق الماء، فذلك غير جائز صحته على ما روي عن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق عرشه، فإن كان ذلك كذلك فقد كان الماء على متن الريح.

حدثنا [ابن] وكيع، حدثنا أبي وكيع، عن سفيان، عن الأعمش،


#213#

عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله عز وجل {وكان عرشه على الماء} على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.

ورواه محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد. دون ذكر المنهال بن عمرو.

وجاء عن حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.

خرجه ابن جرير في "تاريخه" من هذه الطرق الثلاثة.

والقائلون بأن أول المخلوقات الماء مرادهم به: الماء الذي في قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، وهذا الماء هو الماء المطلق لا النطفة كما زعم بعضهم، لأن من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل والفاكهة، ونحو ذلك.

وقوله تعالى {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} لا ينافي ما ذكرناه من أن أول المخلوقات الماء، ولا يبعد خلق النار من الماء، فإن الله عز وجل جمع بقدرته بين الماء والنار في الشجر الأخضر، فالنار مادة الخلق الجني.

وأما الخلق الإنسي فخلق على أربعة أضرب:

أحدها: لا من ذكر ولا من أنثى، كـآدم عليه السلام.

الثاني: من ذكر بلا أنثى كـ حواء عليها السلام.

الثالث: من أنثى بلا ذكر، كـ: عيسى ابن مريم عليهما السلام.

الرابع: من ذكر وأنثى، كسائر النوع.


#214#

ومادة الخلق الإنساني الطين.

خرج ابن جرير في "تفسيره" من حديث عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم: "الجن"، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه: "الحارث"، وكان خازنا من خزان الجنة.

قال: وخلقت الملائكة من نور، كلهم غير هذا الحي.

قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت.

قال: وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا.

قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم: الجن، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اعتز إبليس في نفسه فقال: صنعت شيئا لم يصنعه أحد.

قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فقالت الملائكة مجيبين له: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك


#215#

الدماء} كما أفسدت الجن وسفكت، وإنما بعثنا عليهم لذلك، فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون} يقول: إني قد اطلعت على قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واعتزازه.

قال: ثم أمر بتربة آدم عليه السلام فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب –و"اللازب": اللزج الطيب- من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب، فخلق منه آدم بيده.

قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت، قوله تعالى: {من صلصال كالفخار} يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمصمت.

قال: ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئا –للصلصلة- ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت علي لأعصينك.

قال: فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما، فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض، فلم يقدر، فهو قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا} قال: ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء.

قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال: الحمد لله رب العالمين بإلهام الله عز وجل، فقال الله له: يرحمك الله يا آدم.

ثم قال الله تعالى للملائكة الذين كانوا مع "إبليس" خاصة دون الملائكة الذين كانوا في السموات: {اسجدوا لآدم فسجدوا} كلهم


#216#

أجمعين {إلا إبليس أبى واستكبر} لما كان حدث نفسه من الكبر والاعتزاز، فقال: لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين. يقول: إن النار أقوى من الطين.

قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله تعالى –آيسه من الخير كله- وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته، ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي تعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وجبل وحمار وبحر وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم: {أنبئوني بأسماء هؤلاء} يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء {إن كنتم صادقين} إن كنتم لم تعلموا لم أجعل في الأرض خليفة.

قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم، {قالوا سبحانك} تنزيها لله عز وجل من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك، {لا علم لنا إلا ما علمتنا} كما علمت آدم عليه السلام، فقال {يا آدم أنبئهم بأسمائهم} يقول: أخبرهم، {فلما أنبأهم} يقول: أخبرهم {بأسمائهم قال ألم أقل لكم} أيها الملائكة خاصة {إني أعلم غيب السماوات والأرض} ولا يعلم غيري، {وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاعتزاز.

وخرج بعضه ابن جرير أيضا في "تاريخه" مقطعا بهذا الإسناد،


#217#

وهو أثر غريب، فيه ألفاظ منكرة، وإسناده واه.

قال ابن جرير: حدثني محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا آدم حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لما صور آدم تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به، فلما رآه أجوف علم أنه لا يتمالك».

وقال ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا هدبة بن خالد القيسي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام جعل إبليس يطيف به، فلما رآه أجوف قال: ظفرت به؛ خلق لا يتمالك».

وهو في "صحيح مسلم" من حديث: يونس بن محمد، عن حماد ابن سلمة.

وفي "تفسير سفيان بن عيينة" الذي رواه عنه أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي المكي في قوله عز وجل يعني: حكاية {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} والنار تأكل الطين، علم أن النار تأكل الطين.

وقال أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتابه "الغور":


#218#

ولما احتج إبليس على آدم ما احتج، وفضل نفسه عليه، نظر في نفسه، واعتبر جوهره، فقال: خلقتني من نار والنار من النور وخلقته من تراب والتراب من الظلمة، فالنور أبدا غالب على الظلمة.

ولم يلتفت اللعين إلى أن التراب من الطين، والطين من الماء، والماء حياة كل شيء، والماء يطفئ النار.

وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" في قوله عز وجل حكاية عن إبليس: {أنا خير منه} قال: قال العلماء: وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص، وخفي عليه فضل الطين على النار، وفضله من وجوه:

أحدها: أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة.

والثاني: أن الطين سبب الإنبات، والنار سبب الإعدام والإهلاك.

والثالث: أن الطين سبب جمع الأشياء، والنار سبب تفريقها.

وقال أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين: حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا هارون، عن زيد بن أبي الزرقاء، أخبرنا ضمرة بن ربيعة، عن قادم بن ميسور قال: قال عمر بن عبد العزيز: لما أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم أول من سجد له إسرافيل عليه السلام، فأثابه الله عز وجل أن كتب القرآن على جبهته.

وقال الإمام أبو بكر ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن": اتفقت


#219#

الأمة على أن السجود لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة، وإنما كان على أحد وجهين:

إما سلام الأعاجم بانحناء والتعظيم.

وإما وضعه قبلة، كالسجود للكعبة وبيت المقدس، وهو الأقوى لقوله تعالى: {فقعوا له ساجدين}، ولم يكن على معنى التعظيم، وإنما صدر على وجه الإلزام للعبادة واتخاذه قبلة، وقد نسخ الله عز وجل جميع ذلك في هذه الملة.

قلت: تمثيله السجود للكعبة وبيت المقدس، وقوله: "هو الأقوى" حسن، لكن عقبه بقوله: ولم يكن على معنى التعظيم، فإن أراد تعظيم الأعاجم بسجودها فحسن وإلا فقد صح في حديث الشفاعة: «إن الناس يرغبون إلى آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك لملائكته»، فلو لم يكن في السجود له فضيلة عظم بها لما ذكروه. والله أعلم.

وفي "تفسير شيبان بن عبد الرحمن النحوي": عن قتادة قال: وذكر لنا: أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة: ما الله بخالق خلقا هو أعلم منا ولا أكرم على الله منا.

قال: فابتليت الملائكة بخلق آدم عليه السلام.

قال: ويبتلي الله عباده بما شاء، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه.


#220#

وفي "تفسير شيبان" أيضا: قوله عز وجل {هو الذي خلق لكم ما في الأرض} قال: سخر لكم ما في الأرض جميعا كرامة من الله عز وجل ونعمة لابن آدم متاعا وبلغة ومنفعة، إلى قوله: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قال قتادة: قد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدم والفساد في الأرض، قال الله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} قال: قد كان من علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة رسل، وأنبياء، وقوم صالحون، وساكن الجنة، {وعلم آدم الأسماء كلها} الآية قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه مما لا تعلمه الملائكة، فسمى كل شيء باسمه وألجأ كل شيء إلى جنسه.

وقوله في الحديث السابق: «فلما تمت النفخة في جسده عطس» يشهد له ما قال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه": حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حدثنا محمد بن بشار.

وقال أبو عيسى الترمذي في "جامعه" –واللفظ له- حدثنا محمد بن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله عز وجل آدم ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله. فحمد الله بإذنه، فقال له ربه عز وجل: يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم فقل: السلام عليكم. قالوا: وعليك السلام ورحمة


#221#

الله، ثم رجع إلى ربه فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة –ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أي رب، ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم، قال: يا رب، من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود، وقد كتبت له عمرا أربعين سنة. قال: يا رب، زده في عمره. قال: ذاك الذي كتبت له . قال: أي رب، فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك.

قال: ثم أسكن الجنة ما شاء الله، ثم اهبط منها، فكان آدم يعد لنفسه.

قال: فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت، قد كتب لي ألف سنة؟

قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة.

فجحد فجحدت ذريته، فنسي فنسيت ذريته قال: فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود».

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

قلت: وخرجه الحاكم في "مستدركه" من طريق بكار بن قتيبة عن صفوان بن عيسى بنحوه مختصرا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.


#222#

وقال الترمذي بعد قوله الذي قدمناه: غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواية "زيد" التي أشار إليها الترمذي خرجها في "الجامع" من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، ولفظه: «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال: أي رب، من هذا؟ [قال]: رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود. فقال: رب، كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة. قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت عليهما السلام، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود، قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته».

هذا حديث حسن صحيح، قاله الترمذي.


#223#

وفي بعض طرقه ما حدث به عبد الله بن وهب في كتاب "القدر" –تأليفه- عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة مرفوعا به.

وفيه بعد قوله: «ونسي فنسيت ذريته»: قال: «فرأى –يعني: آدم عليه السلام- فيهم القوي والضعيف، والغني والفقير، والصحيح والمبتلى، فقال: يا رب، ألا سويت بينهم؟ قال: أردت أن أشكر».

وجاء عن أبي بن كعب من قوله نحوه.

أخبرنا المسند الصالح أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي، أخبرنا أبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي، أخبرنا: علي بن أبي عبد الله البغدادي حضورا ومحمد بن أحمد القطيعي ومحمد ابن عبد الواحد بن المتوكل إجازة، أن محمد بن عبيد الله بن الزاغوني، أنبأهم زاد البغدادي فقال: وأنبأنا أيضا نصر بن نصر العكبري ح.

وأخبرنا أبو هريرة، حدثنا الحافظ أبو محمد القاسم بن محمد، أخبرنا إبراهيم بن علي الواسطي وعبد الرحمن بن أحمد المقدسي ومحمد بن مؤمن الصوري، قالوا: أخبرنا داود بن أحمد بن ملاعب، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الرطبي ح.

وقال الواسطي والمقدسي أيضا: وأخبرنا الحسن بن إسحاق بن الجواليقي، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الزاغوني، قال هو ونصر العكبري وابن الرطبي: أخبرنا علي بن محمد بن البسري، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن المخلص، حدثنا يحيى –يعني: ابن صاعد،


#224#

حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن البزار، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا مبارك بن فضالة، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام خبره ببنيه، فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض، فرأى نورا ساطعا في أسفلهم فقال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك أحمد، هو أول وهو آخر، وهو أول مشفع».

وفي بعض طرقه: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، عطس فألهمه ربه عز وجل أن قال: الحمد لله. فقال له ربه: يرحمك ربك. فلذلك سبقت رحمته غضبه، ثم إن الله تعالى قال: ائت الملأ من الملائكة فسلم عليهم. فأتاهم فقال: السلام عليكم. قالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله».

قال: «ثم إن الله أخبر آدم بنيه، فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض».

قال: «ورأى نورا ساطعا أسفلهم، قال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك أحمد صلى الله عليه وسلم، هو الأول والآخر، وهو أول شافع».

قال: «ثم رأى نورا ساطعا في وسطهم، فقال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك داود. قال: يا رب، كم أجلي؟ قال: ألف سنة قال: يا رب، كم أجل ابني داود؟ قال: كذا وكذا قال: يا رب، فاجعل لابني داود من أجلي ستين سنة».

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلما استوفى أربعين وتسعمائة قيل: قد استوفيت، أليس قد جعلت لابنك داود؟ قال: لا».

قال: «فنسي ونسيت ذريته، وجحد آدم وجحدت ذريته».


#225#

وخرجه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" مطولا من طريق فيها أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن الكعبة خلقت قبل الأرض بألفي سنة، وهي من الأرض وذكره بطوله.

وفيه صفة خلق آدم عليه السلام قال: «فلما جرى فيه الروح جلس فعطس، فقال الله –تبارك وتعالى-: قل: الحمد لله فقال: الحمد لله قال: رحمك ربك».

وفيه عرض ذرية آدم عليه ، قال: «فرأى فيهم رجلا ساطعا نوره، فقال: يا رب، من هذا؟ فقال: ابنك داود. قال: كم عمره يا رب؟ قال: ستون سنة. قال: فكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال: انقص من عمري أربعين سنة فزده في عمره، ثم رأى آخر ساطعا نوره ليس مع أحد من الأنبياء مثل لمعه، فقال: من هذا أي رب؟ قال: هذا ابنك محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخل الجنة. قال: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يسبقني إلى الجنة ولا أحسده» وذكر بقية الحديث.

وجاء من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول من جحد آدم، إن الله تعالى لما خلق آدم مسح ظهره، فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض عليه ذريته، فرأى فيه رجلا يزهر فقال: أي رب، من هذا؟ قال: ابنك داود. قال:


#226#

أي رب، كم عمره؟ قال: ستون سنة. قال: أي رب، زد في عمره. قال: لا، إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عاما، وكتب الله عز وجل عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة قال: إني قد بقي من عمري أربعون عاما. فقيل: إنك قد وهبتها لابنك داود. قال: ما فعلت. فأبرز الله عز وجل الكتاب وأشهد عليه الملائكة، ثم أكمل الله عز وجل لآدم ألف سنة وأكمل لداود عليه السلام مائة سنة».

خرجه الإمام أحمد في "مسنده" وأبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" لحماد.

وجاء من رواية أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنه –يعني: الله عز وجل- مسح ظهر آدم صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذريته كهيئة الذر أبيض مثل اللؤلؤ، وقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فخرج منه كهيئة الذر سوداء وقال لهم: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطوه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية، فقال هو والملائكة: شهدنا، فتقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، فلذلك ليس


#227#

في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله، ولا مشرك إلا وهو يقول: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. وذلك حين يقول: {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} يعني: يوم أخذ منهم الميثاق ثم عرضهم على آدم فمرت به نسمة طيبة لها ريح طيبة تجري في نور يتلألأ.

فقال: أي بني هذا؟ قيل: هذا ابنك داود.

قال: كم عمره؟ قال: سبعون سنة.

قال: إن عمر ابني هذا لقليل، خذوا من عمري ثلاثين سنة واجعلوها في عمره حتى يكون عمره مائة سنة.

فبعث الله إليه ملكا فكتب كتابا وأشهد عليه ملكين من الملائكة، وكان ذلك أول شرط كان في الدنيا وأول شهود، فلذلك أمر بشهادة شاهدين، فكتب: هذا ما وهب آدم لابنه داود، أنه وهب له من عمره ثلاثين سنة، وأشهد على ذلك من الملائكة فلانا وفلانا، وختم على ذلك آدم والملكان، فلما انقضى عمر آدم إلا تلك الثلاثين سنة أتاه ملك الموت فقال: إني أريد أن أقبض نفسك.

فقال آدم: أليس بقي من عمري ثلاثون سنة؟

قال: أليس قد أعطيت ذلك ابنك داود؟

فكابر وقال: لا. فجحد، فأقام الله عليه الشهود من الملائكة، ويومئذ جعلت البينة.

وهذا الحديث له شواهد جمة، وله طرق:

منها ما قال عبد بن حميد: حدثنا الحسن بن موسى، عن يعقوب ابن عبد الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} قال:


#228#

"أخرج ذرية آدم من صلب آدم في صور مثل الذر، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم، فعرض عليه روح داود في نور ساطع"، فقال آدم: من هذا؟ قال: هو من ذريتك، خليفة نبي. قال: فكم عمره؟ قال: عمره ستون سنة قال: وكان عمر آدم ألف سنة، قال: فاجعلوا له من عمري أربعين سنة. والأقلام رطبة تجري، فأثبتت لداود، فلما انقضت سنو آدم بعث الله عز وجل إليه ملك الموت ليقبضه، فأتاه فقال: يا آدم، أمرت أن أقبضك. قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة.

قال: فرجع ملك الموت عليه السلام إلى ربه، فقال: يا رب، إن آدم [يدعي] من عمره أربعين سنة؟ قال: أعلم آدم أنه جعلها لابنه داود والأقلام رطبة تجري.

قال: فأنكر آدم، فأتاه ملك الموت عليه السلام فقال: يا آدم، إن ربك عز وجل يقول: إنك جعلت من عمرك أربعين سنة لابنك داود، فأثبتت لداود والأقلام رطبة تجري.

قال: فأنكر آدم، فقال: لا بد لمن كان من ولد آدم أن يكون منه شيء: إما إنكار وإما كذب.

وقال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": حدثنا علي بن حمشاذ العدل، حدثنا محمد بن غالب الضبي [وهشام بن علي السدوسي،


#229#

قالا: حدثنا] موسى بن إسماعيل أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: لما نفخ في آدم عليه السلام الروح فبلغ الخياشيم عطس فقال: الحمد لله رب العالمين. فقال تبارك وتعالى: يرحمك ربك.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، على شرط مسلم، وإن كان موقوفا فإسناده صحيح بمرة.

وروى جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد –يعني: ابن جبير- قال: لما خلق الله عز وجل آدم نفخ الروح في رأسه قبل جسده، فعطس فقال: الحمد لرب خلقني. فقال الله تعالى: يرحمك ربك.

وجاء عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد قال: لما نفخ الله عز وجل في آدم الروح لم تبلغ رجليه حتى استجاع، فأهوى إلى عنقود من عنب الجنة فأكله. وقرأ سعيد: {خلق الإنسان من عجل}.

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وطوله ستون ذراعا، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك؛ فإنها تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله. فكل من يدخل الجنة على صورة آدم عليه السلام، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن».

وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا روح، حدثنا حماد بن


#230#

سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان طول آدم ستين ذراعا في سبع أذرع عرضا».

وحدث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، [عن أبي هريرة قال]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل أهل الجنة [الجنة] جردا مردا جعادا مكحلين، أبناء ثلاثة وثلاثين، على خلق آدم: ستين ذراعا في سبعة أذرع».


#231#

$[خلق حواء عليها السلام]$

وقد ذكر محمد بن السائب الكلبي وغيره: أن آدم عليه السلام كان من طوله يسمع أصوات الملائكة، فحط إلى ستين ذراعا بعد أن هبط إلى الأرض.

ولم يبلغنا في حديث ولا أثر طول "حواء" عليها السلام، والظاهر –والله أعلم- أنها لشكل آدم، ومنه خلقت على المشهور وعليه الجمهور.

وقد ذكر فيه أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" فقال عن حواء: واختلف فيما خلقت منه على قولين:

أحدهما أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم. وهذا قول تفرد به ابن بحر.

الثاني –وهو ما عليه الجمهور-: أنه خلقها من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقي عليه النوم حتى لم يجد لها مسا، قال ابن عباس: فلذلك تواصلا، ولذلك سميت امرأة لأنها خلقت من المرء.

قال: وفي تسميتها "حواء" قولان:

أحدهما: لأنها خلقت من حي.

والثاني: لأنها أم كل حي. انتهى.

قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله تعالى: {وخلق منها زوجها} قال: خلق حواء من قصيرى آدم وهو نائم، فاستيقظ فقال: "أثاء" –امرأة بالنبطية.


#232#

"القصيرى": ضلع بين الخاصرة والجنب، وهو الذي خلقت منه "حواء" وجعل مكانه من "آدم" لحم؛ ولهذا جاء أن أضلاع الرجل ناقصة عن أضلاع المرأة.

قال أبو منصور محمد بن نعيم بن ناعم السمرقندي في كتابه المؤلف في الفرائض: حدثنا أبو عمران موسى بن أحمد الفريابي، حدثنا عبد الرحيم بن منيب، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال: بينا نحن عند "شريح" إذ جاءت امرأة فقالت: أيها القاضي: مر الناس يسكتوا حتى تسمع مقالتي. فسكت الناس، ثم قالت: أيها القاضي: إن لي ما للرجال وما للنساء. قال شريح: فإن أمير المؤمنين يقضي على سبق البول. قالت: فإني أبول بهما جميعا. فقال شريح: إن هذا لعجب. فقالت المرأة: أخبرك بما هو أعجب من هذا؛ إن زوجي ابن عمي، ولدت منه أولادا، اشترى لي جارية تخدمني، فأولدتها. فقام شريح يجر رداءه حتى دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عجيبة. وأخبره بالقصة.

قال: فدعا علي رضي الله عنه بالمرأة، فأخبرته خبرها، فقال: ادعوا لي "دينارا" الخصي –وكان من أفاضل أهل الكوفة- وامرأتين عفيفتين. ثم قال لهم: أدخلوا هذه المرأة بيتا وانزعوا عنها ثيابها ما خلا ثيابا عليها وعدوا أضلاعها الأيمن والأيسر فاصدقوني.

قال: ففعلوا بها ما أمرهم، وخرجوا فقالوا: يا أمير المؤمنين: وجدنا أضلاعها اليمنى: ثمانية عشر، وأضلاعها اليسرى: سبعة عشر. فكبر علي


#233#

رضي الله عنه ثلاثاً ثم قال: علي بالحلاق، فأمر بحلق رأس المرأة وألبسها الرداء والنعل، وألحقها بالرجال.

فسمع بذلك زوجها فجاء يشتد، فقال: يا أمير المؤمنين، فضحتني امرأتي وبنت عمي، ولي منها أولاد، ألحقتها بالرجال!

فقال علي: قضيت فيها بما قضى الله تعالى في "آدم" و"حواء"، إن الله عز وجل لما خلق "آدم" عليه السلام جعل أضلاعه اليمنى ثمانية عشر واليسرى ثمانية عشر، ثم أخذ ضلعا من أضلاعه فخلق منه "حواء"، فأضلاع النساء تامة وأضلاع الرجال تنقص.

هذا الأثر لا يحتمله علي بن عاصم أبو الحسن الواسطي، وإن كان قد ضعفوه، وأنا أتهم به عبد الرحيم بن حبيب الراوي عنه، ووقع في الأصل الذي خرجت منه "ابن منيب"، وهو تصحيف، إنما هو: "ابن حبيب الفاريابي" أحد المتروكين، لعله وضع –فيما قاله ابن حبان- أكثر من خمس مائة حديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر أبو محمد بن قتيبة: أنه قرأ في التوراة في أول سفر ما منه: فخلق –يعني: الله عز وجل- آدم عليه السلام من أدمة الأرض، ونفخ في وجهه نسمة


#234#

الحياة، وقال: إن آدم لا يصلح أن يكون وحده، ولكن أصنع له عونا مثله، فألقى عليه السبات، فأخذ إحدى أضلاعه ولأمها، وسمي الضلع التي أخذ: امرأة؛ لأنها من المرء أخذت، فقربها إلى آدم عليه السلام فقال: "عظم من عظامي ولحم من لحمي"، ومن أجل ذلك يترك الرجل أباه وأمه، ويتبع امرأته، ويكونان كلاهما جسما واحدا.

وذكر نحوه محمد بن إسحاق، فقال: بعد ذلك خلق آدم عليه السلام، ثم ألقيت السنة على آدم، فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن ابن عباس وغيره: ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما، وآدم نائم لم يهب من نومه، حتى خلق الله عز وجل من ضلعه تلك زوجته، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشف عنه السنة، وهب من نومه، رآها إلى جنبه فقال –يزعمون والله أعلم-: "لحمي ودمي وزوجتي"، فسكن إليها، فلما زوجه الله وجعل له سكنا من نفسه قال له قبلا: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما} الآية.

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي خرجه ابن حبان في "صحيحه" وغيره من الأئمة –وقد تقدم بعض طرقه- قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت آدم عليه السلام، أنبيا كان؟ قال: «نعم، رسول الله، كلمه الله قبلا فقال: {اسكن أنت وزوجك الجنة}».


#235#

هذا هو المشهور: أن "حواء" عليها السلام –خلقت قبل دخول آدم الجنة.

$*[سبب تسمية حواء بهذا الاسم]:$

روى إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي في "تفسيره" عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم: أنه أخرج إبليس من الجنة، وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشا، ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة، فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة، خلقها الله عز وجل من ضلعه، فسألها: ما أنت؟ قالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إلي. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سميت "حواء"؟ قال: إنها خلقت من شيء حي. قال الله عز وجل {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} الآية.

ورواه أبو يوسف أسباط بن نصر الهمداني عن السدي بنحوه.

وفي هذا الحديث: أن حواء سميت بذلك لأنها خلقت من الحي، وهو أولى الأقوال.

وقيل: سميت بذلك لأنها من "الحوة" في اللون وهي: حمرة تضرب إلى سواد، يقال: شفة حواء. وقال بعضهم: وتكون فعلا من "حوى الشيء يحويه"، مثل: لواء وسواء.


#236#

$[ما قيل في الشجرة التي نهي آدم وحواء عنها]$

وفي الحديث أيضا قول الله عز وجل: {ولا تقربا هذه الشجرة} وهذه الشجرة المنهي عنها مختلف فيها أي شجرة هي؟

فقيل: كانت شجرة البر. قاله وهب بن منبه وغيره.

وذكر مقاتل في تفسيره: أنها السنبلة، وهي: الحنطة.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، حدثت عن شعيب الجبائي قال: كانت الشجرة التي نهي عنها آدم وزوجه شبه البر، اسمها: "الدعة".

لكنه قال في روايته عن أبيه في كتاب "الزهد": حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، قال: حدثت عن شعيب الجبائي قال: كانت الشجرة التي نهى الله –تبارك وتعالى- عنها آدم وزوجته شبه البر، سمي "الدعة" وكان لباسهما النور.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة: هي شجرة الكرم.

قال سعيد بن منصور: حدثنا خالد بن عبد الله، عن بيان، عن


#237#

الشعبي، عن جعدة بن هبيرة قال: الشجرة التي افتتن بها آدم عليه السلام شجرة الكرم، جعلت فتنة لولده من بعده.

تابعه خالد بن خداش، عن خالد بن عبد الله.

وحدث محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، عن السدي في قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} قال: هي العنب.

وقال آخرون منهم عطاء وقتادة: هي شجرة التين.

وجاء عن علي رضي الله عنه: أنها شجرة الكافور.

وقيل: هي النخلة.

وقيل: إنها شجرة العلم، حكاه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة".

قال: وفي هذا [العلم] قولان:

أحدهما: علم الخير والشر.

والثاني: علم ما لم يعلم. انتهى.

وقال محمد بن جرير: والصواب في ذلك: أن يقال: إن الله –جل ثناؤه- نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة، فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله


#238#

تعالى لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة.

وذكر ابن قتيبة في "المعارف": أنه قرأ في التوراة في أول سفر من أسفارها ما نصه عن الله عز وجل قال: "ونصب شجرة الحياة وسط الفردوس، وشجرة علم الخير والشر، [وقال لآدم: كل ما شئت من شجرة الفردوس، ولا تأكل من شجرة علم الخير والشر]، فإنك يوم تأكل منها تموت".

يريد: أنك تتحول إلى حال من يموت.

وكانت الحية أعرم دواب البحر، فقالت للمرأة: إنكما لا تموتان إن أكلتما منها، ولكن أعينكما تنفتح وتكونان كآلهة تعلمان الخير والشر. فأخذت المرأة ثمرتها فأكلت وأطعمت بعلها، فانفتحت أبصارهما وعلما


#239#

أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين، فاصطنعاه أزرا، ثم سمعا صوت الله في الجنة حين بورك النهار، فاختبأ آدم وامرأته في شجر الجنة، فدعاهما.

فقال آدم: سمعت صوتك في الفردوس، ورأيتني عريانا فاختبأت منك.

فقال: ومن أراك أنك عريان، ها! لقد أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟

فقال: إن المرأة أطعمتني.

قالت المرأة: إن الحية أطعمتني.

فقال الله عز وجل للحية: من أجل فعلك هذا فأنت ملعونة وعلى بطنك تمشين وتأكلين التراب، وسأغري بينك وبين المرأة وولدها، فيكون يطأ رأسك، وتكونين أنت تلدغينه بعقبه.

وقال للمرأة: وأنت؛ فأكثر أوجاعك وأحبالك، وتلدين الأولاد بالألم، وتردين إلى بعلك فيكون مسلطا عليك.


#240#

وقال لآدم: ملعونة الأرض من أجلك، وتنبت الحاج والشوك، وتأكل منها بالشقاء ورشح وجهك، حتى تعود إلى التراب، من أجل أنك تراب.

وسمى الله تعالى امرأته "حواء"؛ لأنها أم كل حي، وألبسها وإياه سرابيل من جلود.

وقال: إن آدم قد علم الخير والشر، فأصله يقدم يده يأكل من شجرة الحياة، فيأكل منها فيعيش الدهر، فأخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ.

وذكر ابن قتيبة أيضا عن وهب بن منبه أنه قال: وكان الله تعالى أخدم آدم الحية في الجنة، وكانت أحسن خلق الله تعالى، لها قوائم [كقوائم] البعير، فعرض إبليس نفسه على دواب الأرض كلها أنها تدخله الجنة، فكلها أبى ذلك عليه، إلا الحية، فإنها حملته بين نابين من أنيابها، ثم أدخلته الجنة.

[وقد][3] ذكر المفسرون كـ: وهب وأبي العالية والسدي في قصة آدم والحية، وإبليس ووسوسته لآدم أخبارا إسرائيلية.


#241#

قال ابن إسحاق فيما رواه عن بعض أهل العلم: إن آدم لما رأى نعيم الجنة قال: لو أن خلدا!، فاغتنمها إبليس فأتاه من قبل الخلد.

قال: وحدثت: أن أول ما ابتدأهما من كيده: أنه ناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها.

فقالا له: ما يبكيك؟

قال: أبكي عليكما، أنكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والغبطة.

فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس إليهما، وقال: يا آدم، هل أدلك على شجرة الخلد؟


#242#

$[كيف أكل آدم عليه السلام من الشجرة؟]$

قال الإمام أبو بكر بن العربي –رحمه الله وإيانا- في كتابه "أحكام القرآن": اختلف الناس كيف كان أكل آدم عليه السلام من الشجرة على خمسة أقوال:

الأول: أنه أكلها سكران. قاله سعيد بن المسيب.

الثاني: أنه أكل من جنس الشجرة لا من عينها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر.

ثم قال:

الثالث: أنه حمل النهي على التنزيه دون التحريم.

الرابع: أنه أكل متأولا لرغبة الخلد.

ثم قال:

الخامس: أنه أكلها ناسيا.


#243#

قال القاضي عياض في "الشفا": وإذا كان ناسيا لم تكن معصية، وكذلك إذا كان ملبسا عليه غالطا، إذ الاتفاق خروج الناسي والساهي عن حكم التكليف.

وأجاب ابن الجوزي عن السؤال في القول بأنه عليه السلام أكل ناسيا: بأن الأنبياء مطالبون بحقيقة التيقظ وتجويد التحفظ أكثر من غيرهم بالنسيان الذي ينشأ عن الذهول عن مراعاة الأمر، فكانت المؤاخذة على سبب النسيان. حكاه في "التبصرة" عن بعضهم.

وقال ابن العربي: "أما القول بأن آدم عليه السلام أكلها سكران، ففاسد نقلا وعقلا؛ أما النقل: فلأن هذا لم يصح بحال".

قلت: فكان ينبغي أن لا يذكره عن سعيد بن المسيب بصيغة: قاله؛ فإنها للجزم، وقد ضعف هذا القول القاضي عياض في "الشفا".

قال ابن العربي: وقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشجرة التي نهي عنها: الكرم، فكيف ينهى عنها ويوقع الشيطان له فيها، وقد وصف الله تعالى خمر الجنة بأنها لا غول فيها، [فكيف] توصف بغير صفتها التي أخبر الله سبحانه بها عنها في القرآن؟!


#244#

وأما العقل: فلأن الأنبياء عليهم السلام بعد النبوة منزهون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم، وأما سائر الجهات فمحتملة، وأظهرها الثاني، والله أعلم.

قال القاضي عياض في "الشفا": وقال الشيخ أبو بكر بن فورك وغيره: إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة، ودليل [ذلك] قوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى . ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}، فذكر أن الاجتباء والهدى كانا بعد العصيان. انتهى.

وقال أبو بكر بن العربي في كتاب "التفسير": "إن إبليس شاور آدم على أكلها فلم يقدر عليه، وشاور حواء فخدعها فأكلت، فلم يصبها مكروه، فجاءت آدم عليه السلام فقالت: إن الذي تكره من الأكل قد أتيته فما نالني مكروه، فلما عاين ذلك آدم اغتر فأكل، فحلت بهما العقوبة، وذلك قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بهما العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا".

وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث قتادة عن أبي بن كعب


#245#

رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربا، فتعلقت به شجرة بشعره، فنودي: يا آدم، أفرارا مني؟ قال: بل حياء منك. قال: يا آدم، اخرج من جواري، فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني، ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين».

وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا يونس، حدثنا شيبان، عن قتادة، حدثنا الحسن، عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن آدم كان رجلا طوالا، كأنه نخلة سحوق، كثير شعر الرأس، فلما وقع بما وقع به بدت له عورته، وكان لا يراها قبل ذلك، فانطلق هاربا، فأخذت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها: أرسليني. قالت: لست مرسلتك. فناداه ربه عز وجل: أمني تفر؟ فقال: أي رب، استحييتك».

قال قتادة: وإن المؤمن يستحيي ربه –تبارك وتعالى- من الذنب إذا وقع به، ثم يعلمه بحمد الله أين المخرج؟ يعلمه أن المخرج في الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى.

[هذا][4] الحديث والذي قبله فيهما انقطاع، فالأول بين "قتادة" و"أبي"؛


#246#

لأن قتادة رواه: عن الحسن، عن عتي بن ضمرة عن أبي رضي الله عنه، وإسناد الثاني سقط منه" عتي بن ضمرة".

[وقد] [5] خرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه "الحلية" من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا عباد بن العوام، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عتي، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان آدم عليه السلام رجلا طويلا، كثير شعر الصدر، كأنه نخلة جوفاء، فلما أصاب الخطيئة سقط عنه رياشه، فذهب هاربا في الجنة، فتعلقت شجرة برأسه، فقال: هل أنت مخليتي؟ فقالت: ما أنا بمخليتك. فناداه ربه عز وجل: يا آدم، أتفر مني؟ قال: يا رب، استحييتك.

وهذا موقوف، هكذا حدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن أحمد بن طارق.

[وحدث] [6] به أيضا قبل ذلك عن المنجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر، عن محمد بن إسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن.

وجاء من طريق أخرى عن أبي مرفوعا، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل خلق آدم طوالا كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سحوق، فلما أذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة، فأخذت شجرة شعره، فنازعها، فناداه الرحمن –جل


#247#

جلاله-: يا آدم، مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب، لا، ولكن استحياء».

[خرجه] [7] ابن أبي حاتم في "تفسيره".

وجاء عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال: أوحى الله عز وجل إلى الملكين: أخرجا آدم وحواء من جواري؛ فإنهما قد عصياني. فالتفت آدم إلى حواء باكيا وقال: "استعدي للخروج من جوار الله عز وجل، هذا أول شؤم بالمعصية"، فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وتعلق به غصن، فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة، فنكس رأسه يقول: "العفو العفو"، فقال الله عز وجل: "فرارا مني؟" قال: "بل حياء منك سيدي".

خرجه أبو نعيم في "الحلية".

قال ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن": وروي: أنه لما أكل آدم [من] الشجرة سلخ عن كسوته.

ثم قال: "فلما نظر إلى سوءته منكشفة قطع الورق من الثمار وسترها، وهذا هو نص القرآن، وممن سترها ولم يكن [معه] إلا أهله الذين ينكشف عليهم وينكشفون عليه؟!".


#248#

قال: ويحتمل أن يكون آدم عليه السلام سترها من زوجه بأمر جازم في شرعه، أو بأمر ندب، كما هو عندنا، ويحتمل أن يكون ما رأى سترها إلا [لعدم] الحاجة إلى كشفها؛ لأنه كان من شرعه أن لا يكشفها إلا للحاجة، ويجوز أنه كان مأمورا بسترها في الخلوة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بسترها في الخلوة وقال: «الله أحق أن يستحيى منه».

الأمر النبوي الذي أشار إليه هو ما أخبرنا به المسند أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الفارقي، أخبرنا يحيى بن سعد، أخبرنا جعفر بن علي قراءة عليه وأنا حاضر في الخامسة، وأجاز لنا روايته: أبو الحسن علي بن الصابوني ومرتضى بن حاتم الحارثي ويوسف بن محمود الساوي وعبد الرحيم بن الطفيل وعبد الوهاب بن رواج والحسن بن دينار. ح.

وقال أبو هريرة أيضا: وأخبرنا مسند الحجاز أبو أحمد إبراهيم بن محمد الطبري في كتابه إلي من مكة: أن أبا الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، أخبره.

قالوا كلهم: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد سماعا، أخبرنا أبو عبد الله القاسم بن الفضل، حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمس الزيادي إملاء بنيسابور، أخبرنا عبد الله بن يعقوب الكرماني، حدثنا يحيى بن بحر الكرماني، حدثنا حماد بن زيد، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما ندع؟ قال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما


#249#

ملكت يمينك». قلت: الرجل يكون في القوم فيكون بعضهم في بعض؟ قال: «إن استطعت أن لا يرى أحد عورتك فافعل». قلت: إن كان أحدنا خاليا؟ قال: «فالله أحق أن يستحيى منه»، ووضع يده على عورته.

[تابعه] [8] معاذ بن معاذ ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون، عن بهز.

خرجه أبو داود بنحوه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.

وعلق البخاري آخره في "صحيحه" فقال: وقال بهز، عن أبيه، عن جده: "الله أحق أن يستحيى منه من الناس".

قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وجدت في كتاب أبي: حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا رباح، عن معمر، عن قتادة قال: اليوم الذي تيب فيه على آدم عليه السلام يوم عاشوراء.


#250#

$[مدة مكث آدم في الجنة]$

[وقد][9] اختلف في مكث آدم عليه السلام في الجنة.

فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.

خرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، حدثني قيس بن سعد، حدثنا عطاء ابن أبي رباح: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه رجل فقال: يا أبا عباس، أرأيت الساعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة، هل ذكر لكم منها؟ فقال: الله أعلم، إن الله عز وجل خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة بعد العصر، خلقه من أديم الأرض كلها فسمي "آدم"، ألا ترى أن من ولده الأسود والأحمر، والطيب والخبيث، ثم عهد إليه فنسي، فسمي "الإنسان"، فبالله إن غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة.

قال أبو عبد الله بن منده: هذا حديث مشهور عن هشام بن حسان. قاله في كتابه "التوحيد" بعد أن خرجه من طريق أبي حاتم.


#251#

وخرجه من طريقه قال: قال حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، حدثنا الحسن بن مسلم، سمعت سعيد بن جبير: سألت ابن عباس –أو: سئل-، فقال له: يا أبا عباس، الساعة التي تذكر من يوم الجمعة؟ -فذكره بنحوه.

ورواه ابن أبي زائدة ومحمد بن عمرو، عن إبراهيم بن نافع. نحوه.

ورواه سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن نافع، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير.

ورواه أبو حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وقال الإمام أحمد في كتابه "الزهد": حدثنا يحيى، عن سفيان، عن معاوية بن إسحاق، عن سعيد بن جبير قال: ما كان آدم عليه السلام في الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا هشام، أخبرني أبي، عن أبي


#252#

صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج آدم عليه السلام من الجنة بين الصلاتين: صلاة الظهر وصلاة العصر، وأنزل إلى الأرض، فكان مكثه في الجنة نصف يوم من أيام الآخرة، وهو خمس مائة سنة، من يوم كان مقداره اثنتي عشرة ساعة، واليوم ألف سنة مما يعد أهل الدنيا.

وقال أبو العالية: مكث في الجنة خمس ساعات.

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "الزهد" وعبد بن حميد في "تفسيره" –واللفظ له-: حدثنا روح، عن هشام، عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار، تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا.

إسناده جيد إن كان "هشام" هو "ابن حسان"، وهو الأغلب في ظني، والله أعلم.

ويروي عن "الحسن" أيضا: "هشام بن زياد البصري أبو المقدام": متروك الحديث، لا يحتج به.

وفي هذا الأثر: تحديد الساعة بثلاثين ومائة سنة من أيام الدنيا، وإنما تكون ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر إن كانت الساعة من اثنتي عشرة ساعة من يوم من أيام الآخرة الذي هو ألف سنة.

[وروى][10] أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، قال: خرج آدم عليه السلام


#253#

من الجنة الساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصنا من شجر الجنة، على رأسه تاج من شجر الجنة –وهو الإكليل- من ورق الجنة.

وقال أبو جعفر محمد: حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن أبي سعيد الرقاشي قال: بلغنا أن آدم عليه السلام لما أصاب الذنب وأخرجه الله من الجنة قال له ربه عز وجل: كما نظرت معيشتك وعصيتني فاهبط إلى الأرض؛ فإن الأرض ملعونة، ولن أطعمك إلا برشح جبينك.

وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن أبيه عن هوذة به.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن يحيى العبدي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما أهبط إبليس قال: يا رب، قد لعنته، فما عمله؟ قال: السحر. قال: فما قرآنه؟ قال: الشعر. قال: فما كتابه؟ قال: الوشم. قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة


#254#

وما لم يذكر عليه اسم الله. قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر. قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام. قال: فأين مجلسه؟ قال: الأسواق. قال: فما مؤذنه؟ قال: المزمار. قال: فما مصائده؟ قال: النساء.

[وجاء] [11] من طريق آخر بلفظ آخر، قال عبد الله بن حماد الآملي: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال: يا رب، أنزلتني الأرض وجعلتني رجسا رجيما –أو كما ذكر-، فاجعل لي بيتا. قال: الحمام. قال: فاجعل لي مجلسا. قال: الأسواق ومجامع الطرق. قال: فاجعل لي طعاما قال: ما لم يذكر عليه اسم الله. قال: اجعل لي شرابا. قال: كل مسكر. قال: اجعل لي مؤذنا: قال: المزامير. قال: اجعل لي قرآنا. قال: الشعر. قال: اجعل [لي] كتابا قال: الوشم. قال: اجعل لي حديثا. قال: الكذب. قال: اجعلي [لي] رسولا. قال: الكهنة. قال: اجعلي [لي] مصائد. قال: النساء».


#255#

قال ابن زحر: وأخبرني ليث بن أبي سليم بذلك، يرفعه.

وقال أبو بكر بن عبد الخالق البزار الحافظ: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: إن إبليس قال: يا رب، أخرجتني من الجنة من أجل آدم، أفلا تسلطني عليه؟ قال: قد سلطتك عليه.

قال: زدني. قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله.

قال: أي رب، زدني .

قال: قد جعلت قلوبهم لكم مساكن تجرون منهم مجرى الدم.

قال: يا رب، زدني.

قال: اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.

فقال آدم: يا رب، إنك سلطته علي ولا أمتنع منه إلا بك؟

قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء.

قال: يا رب، زدني. قال الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد.

قال: يا رب، زدني.

قال: باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد.

قال: يا رب، زدني. قال: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الآية.


#256#

$[مكان هبوط آدم وحواء وإبليس]$

[وقد] [12] اختلف في تعيين مكان هبوط "آدم" و"حواء" و"إبليس".

فهبوط "آدم" عليه السلام كان بأرض "الهند" على المشهور، وهو قول علي وابن عباس وأبي العالية وقتادة وغيرهم.

وقال ابن جرير في "تاريخه" عن هبوط "آدم" عليه السلام بأرض "الهند": إن ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام وأهل التوراة والإنجيل.

[وروى] [13] ابن أبي حاتم في "تفسيره" عن الحسن البصري قال: أهبط آدم عليه السلام بالهند، وحواء بـ "جدة" بـ"دست ميسان" من "البصرة" على أميال، وأهبطت الحية بـ "أصبهان".

وقال مقاتل بن سليمان في "تفسيره": فهبط آدم بـ "الهند" وحواء بـ "جدة" ، وإبليس بـ "البصرة" وهي "الأبلة"، وهبط آدم بواد اسمه "نوذ" في شعب يقال له: "سرنديب".

كذا جاء عن مقاتل أن "نوذ" واد، وقد ذكره ياقوت في "معجم البلدان".


#257#

أنه جبل بـ "سرنديب"، وهو أخصب جبل في الأرض، وقيده بالفتح للنون وسكون الواو وآخره ذال معجمة.

وذكر أن "سرنديب" جزيرة عظيمة في "بحر هركند" بأقصى بلاد الهند، يقال: ثمانون فرسخا في مثلها، فيها الجبل الذي هبط عليه آدم عليه السلام.

وذكر عن الجبل أنه ذاهب في السماء يراه البحريون من مسافة أيام كثيرة، وفيه أثر آدم عليه السلام، وهي قدم واحدة مغموسة في الحجر، طولها نحو سبعين ذراعا، ويقال: إنه خطا الخطوة الأخرى في البحر وبينهما مسيرة يوم وليلة.

وذكر أن فيه الياقوت الأحمر والماس، تحدره السيول إلى الوادي، فيأخذ الناس، وفيه أنواع الطيب.

[وذكر][14] صاحب "المسالك والممالك" نحو ما ذكره ياقوت: أن "سرنديب" ثمانون فرسخا في ثمانين، وعلى جبلها هبط آدم، وهو جبل شاهق عظيم، وأن في أعلاها قدما غائصة نحو سبعين ذراعا طولا، وأن على هذا الجبل شبيها بالبرق أبدا، وعلى هذا الجبل أنواع


#258#

الياقوت، وفي واديه الماس وشجرة العود والفلفل والأفواه، وفيه دابة المسك ودابة الزباد.

وذكر ابن قتيبة أن آدم عليه السلام أهبط من جنة عدن في شرقي أرض "الهند"، وأهبط الله حواء بـ"جدة" والحية بالبرية، وإبليس على ساحل بحر "الأبلة".

قال ابن قتيبة: وقال ابن إسحاق: يذكر أهل العلم أن مهبط "آدم" و"حواء" على جبل يقال له: "واشم" من أرض الهند، وهو جبل بين قرى "الهند" و"الدهنج"، و"المندل".


#259#

وذكره ابن جرير في "تاريخه" عن ابن إسحاق: أهبط آدم وحواء على جبل بالهند يقال له: واشم عند واد يقال له: بهيل بين "الدهنج" والمندل بلدين بأرض الهند، وذكر هبوط "حواء" بـجدة من أرض مكة.

وهذا هو المشهور، وعليه الأكثر.

وبـ جدة –فيما بلغنا- قبة مشيدة قديمة بنيت على منزل حواء عليها السلام للبركة وقصد الزيارة.

وخرج ابن أبي حاتم في "التفسير" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهبط آدم بـ الصفا، وحواء بـ المروة.

وروي عن رجاء بن سلمة قال: أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه، مطأطأ رأسه، وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه، رافعا رأسه إلى السماء.


#260#

$[ذكر بكاء آدم لهبوطه من الجنة]$

قال أبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط".

حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، حدثنا أحمد بن بشير الهمداني، حدثنا مسعر بن كدام، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه يرفعه –قال: «لو أن بكاء داود عليه السلام وبكاء أهل الأرض جميعا يعدل بكاء آدم عليه السلام ما عدله».


#261#

وخرجه الإمام أحمد في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا مسعر، حدثني علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة –قوله.

ورواه أيضا من طريق أخرى في كتابه "الزهد" من قول علقمة بن مرثد فقال: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا المسعودي، عن علقمة بن مرثد قال: لو بكى أهل الأرض جميعا ما عدل دموع داود عليه السلام حين أصاب الخطيئة، ولو أن دموع أهل الأرض ودموع داود عليه السلام جمع ما عدل دموع آدم عليه السلام حين أهبط من الجنة.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا هشام، عن الحسن قال: أهبط آدم من الجنة فبكى ثلاث مائة سنة، لا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يلتفت إلى المرأة، ولا يضع يده عليها.

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا المنجاب بن الحارث، أخبرنا أبو سعيد العبقري، حدثنا أسباط، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: بكى آدم عليه السلام حين أهبط مائة عام، ومكث ستا وثلاثين سنة، لا يكلم "حواء" لأنها دعته أن يأكل من الشجرة، فبعث الله إليه ملكا بعد المائة عام فقال: حياك الله وبياك.


#262#

قال أسباط: قال عمار: فسألت سالما عن قوله: "وبياك"؟ فقال: أضحكك.

وقال أبو جعفر أيضا: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن عطية: {فتلقى آدم من ربه كلمات} قال: رب، خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، وعطست فقلت له: "رحمك الله"، فسبقت رحمتك إياي غضبك، رب إن تبت وأصلحت، أتردني إلى الجنة؟ قال: نعم.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: وحدثنا محمد بن يحيى بن أبي حاتم، حدثني سعيد بن يونس، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي الهذيل، عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى آدم: ما هذه الكآبة التي بوجهك والبلية التي أحاطت بك؟ قال: خروجي من دار البقاء إلى دار الفناء، ومن دار النعيم إلى دار الشقاء.

ثم قال: إن آدم سجد سجدة على جبل الهند مائة عام يبكي، حتى جرت دموعه في "وادي سرنديب" فأنبت الله بذلك الوادي من دموع آدم عليه السلام الدار صيني والقرنفل، وجعل طير ذلك الوادي الطواويس، ثم إن جبريل عليه السلام أتاه فقال: يا آدم، ارفع رأسك، فقد غفر لك. فرفع رأسه ثم أتى البيت فطاف أسبوعا فما أتمه، حتى خاض في دموعه إلى


#263#

ركبتيه، ثم أتى المقام فصلى فيه ركعتين، وبكى حتى جرت دموعه إلى الأرض.

وجاء عن قتادة قال: تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام يوم عاشوراء.

وقال الحافظ أبو محمد عبد الله بن عثمان بن السقاء المزني الواسطي: قرئ على أبي عمر محمد بن يوسف القاضي، حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض حزن عليه كل شيء جاوره، إلا الذهب والفضة، فأوحى الله إليهما: جاورتكما بعبد من عبادي، ثم أهبطته من جواركما، فحزن عليه كل شيء جاوره إلا أنتما؟ فقالا: إلهنا وسيدنا، أنت تعلم أنك جاورتنا به وهو لك مطيع، فلما عصاك لم نحب أن نحزن عليه. فأوحى الله عز وجل إليهما: وعزتي وجلالي، لأعزنكما، فلا ينال كل شيء إلا بكما».

البلية في هذا محمد بن الوليد فيما أرى، والله أعلم.


#264#

$[ذكر ما هبط مع آدم من الجنة]$

وروى محمد بن ثور، والعباس بن الفضل، وهوذة بن خليفة –واللفظ له-: عن عوف، عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: إن الله تعالى حين أهبط آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.

رواه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا المنجاب، أخبرنا محمد بن ميمون الزعفراني، عن عوف الأعرابي –فذكره.

تابعه محمد بن جعفر عن قسامة.

وحدث أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي قال: أهبط آدم بـ"الهند" في جزيرة "سرنديب" على جبل يدعى "نوذ"، وعلى آدم الورق التي خصفه، فيبس، فتحات، فنبت منه أنواع الطيب والثمار، فعلى ذلك الجبل


#265#

العود والسنبل والقرنفل والأفاوية ودابة المسك ودابة الزباد، وحول الجبل الياقوت، وفي واديه الماس، وأرض تلك الجزيرة السنباذج، وفي أنهارها البلور، وفي بحرها اللؤلؤ، وأخرج آدم معه صرة حنطة، وثلاثون قضيبا من ثمر الجنة.

عشرة في القشور: الجوز، واللوز، والفستق، والبندق، والخشخاش، والبلوط، والشاهبلوط، والجوز الهندي، والرمان، والموز.

وعشرة لها نوى: الخوخ، والمشمش، والأجاط، والرطب، والغبير، والنبق، والزعرور، والعباب، والمقل، والشاهلوك.

وعشرة لا قشور لها ولا نوى: التفاح، والسفرجل، والكمثرى، والعنب، والتوت، والتين، والأترج، والخرنوب –هو: الخيار، والبطيخ.

وأنزل على آدم من الصحف إحدى وعشرين صحيفة، وحرم عليه الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وفرض عليه خمسين ركعة صلاة.

وقال إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا موسى بن إبراهيم البلخي، حدثنا المعلى بن هلال، عن يزيد، عن وهب: أن آدم عليه السلام خرج من الجنة ومعه ضغث من قضبان الجنة، فنصبها بالهند، فما يذكر بالهند من الطيب فهو من ذلك الضغث.

وقال السدي: فنزل آدم بالهند، وأنزل معه بالحجر الأسود،


#266#

وبقبضة من ورق الجنة فبثه بالهند، فنبتت شجرة الطيب، فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنة أسفا على الجنة حين أخرج منها.

وجاء عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل آدم معه ريح الجنة، فعلق بشجرها وأوديتها –يعني: بالهند-، وأنزل معه الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع، ومر ولبان.


#267#

$[ذكر ما حدث وآدم بالأرض]$

وقال علي بن بهرام الكوفي: حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة، عن عمرو بن قيس، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل آدم عليه السلام بالهند، فاستوحش، فنزل جبريل عليه السلام فنادى بالأذان فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله-مرتين-، قال آدم: من محمد؟ قال: آخر ولدك من الأنبياء».

وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: وضع الله تعالى البيت مع آدم عليه السلام، أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، وكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعا، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكى ذلك إلى الله عز وجل، فقال الله تعالى: يا آدم، إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي. فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك، فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.


#268#

ورواه عبد الرزاق، عن ابن جرير، عن عطاء –يعني: ابن أبي رباح- بنحوه.

وحدث به يونس بن بكير في "المغازي" عن ثابت بن دينار عن عطاء.

وبعد طواف آدم عليه السلام بالبيت مسح ظهره بـ "نعمان" –وهو وراء "عرفة"-، فأخرج منه ذريته كالذر، وأخذ منهم الميثاق.

قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب "القدر": حدثنا علي ابن حجر، حدثنا إسماعيل –يعني: ابن علية-، عن كلثوم بن جبر، [عن سعيد بن جبير] عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} قال: مسح ربك ظهر آدم عليه السلام بـ"نعمان" هذا الذي وراء "عرفة" فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ ميثاقهم: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا}.

تابعه ربيعة بن كلثوم بن جبر، وجرير بن حازم، وعبد الوارث، وغيرهما، عن كلثوم.

وحدث به محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": عن


#269#

سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن كلثوم –بنحوه.

ورواه ابن جريج، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير قال: مسح ظهره بـ"نعمان السحاب".

لم يذكر ابن عباس.

وحدث بنحوه علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وقيل: كان إخراج الذرية وأخذ الميثاق منهم بعد أن أخرجه من الجنة قبل أن أهبطه إلى الأرض.

قاله أسباط عن السدي في تفسير الآية عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أخرج الله عز وجل آدم عليه السلام من الجنة، ولم يهبط من السماء، ثم إنه مسح من آدم صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذريته كهيئة الذر، أبيض مثل اللؤلؤ، فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي.

ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه كهيئة الذر سوداء، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي. فذلك حين يقول: {وأصحاب اليمين} و {أصحاب الشمال}.

ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية.


#270#

وقال أبو حفص عمر بن شاهين: حدثني الحسن بن محمد بن عفير، أخبرنا إبراهيم بن عامر الأصبهاني، حدثنا أبي، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: أهبط آدم إلى الأرض، فليس في الأرض إلا حوت ونسر، وكان النسر إذا أمسى أوى إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم أتى الحوت فقال: يا حوت، قد أهبط في الأرض شيء يمشي على رجليه ويبطش بيديه. قال: إن كنت صادقا ما لي في البحر منه مهرب، ولا لك في البر منه مهرب. يريد: أنه يحتال عليهما.

"يعقوب": هو: ابن عبد الله الأشعري القمي.

و"جعفر": هو: ابن أبي المغيرة القمي.

وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه": حدثنا المنجاب، أخبرنا أبو سعيد العبقري، حدثنا الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير وعبد الله بن الحارث بن نوفل، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام من الجنة وهو يأكل منها رغدا حيث شاء إلى غير طعام، فعلمه العمل كيف يعمله، ثم علمه صنعة الحديد، فجعل يعمل الحديد الذي يعمل به الزرع، فحرث به وزرع وسقى، حتى بلغ، فحصده ثم داسه، ثم ذراه،


#271#

ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، فلم ينله حتى بلغ منه ما شاء الله.

قال: فبكى على نفسه حين أهبط من الجنة بكاء لم يبكه شيء على شيء. وذكر بقية الحديث.

وجاء عن سعيد بن جبير قال: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث ويمسح العرق عن جبينه، وهو الذي قال الله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}، فكان ذلك شقاءه.

حدث به محمد بن حميد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد فذكره.

ورواه محمد بن العلاء، حدثنا إسحاق بن سليمان، حدثنا أبو الجنيد، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كان آدم يعمل على ثور، ويمسح العرق عن جبينه، ويقول لحواء: أنت عملت بي هذا وذكر بقيته.

وفيه: قال: ولما أهبط آدم بعث الله إليه ثورا أبلق، فجعل يعمل عليه، فقال: هذا ما وعدني ربي: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": ولما أهبط آدم إلى الأرض حرث، وغزلت حواء الشعر وحاكته بيدها.

ويروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: هبط آدم وحواء عريانين


#272#

جميعا، عليهما ورق الجنة، فأصابه الحر، فجاءه جبريل عليه السلام يقطن، فأمرها أن تغزل وعلمها، وأمر آدم بالحياكة وعلمه، وأمره أن ينسج ففعل، وكان آدم عليه السلام لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها، للخطيئة التي أصابها، بأكلهما من الشجرة.

قال: وكان كل واحد منهما ينام على حدة، ينام أحدهما بالبطحاء، والآخر في ناحية أخرى، حتى أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يأتي أهله، وعلمه كيف يأتيها.

قال: فلما أتاها جاءه جبريل، قال: كيف وجدت امرأتك؟ قال: صالحة.

خرجه أبو حفص عمر بن شاهين في "ما قرب سنده"، وهو حديث منكر، وآفته راويه عن أنس: "سعيد بن ميسرة البكري" وهو واه، مظلم الأمر.

وخرج ابن أبي شيبة في "التاريخ" من طريق عن مجاهد:


#273#

أنه قيل لآدم وحواء عليهما السلام: اهبطوا إلى الأرض، فلدوا للموت وابنوا للخراب.

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره قال: لما أهبط آدم إلى الأرض قال له ربه عز وجل: ابن للخراب ولد للفناء.


#274#

$[ذكر أول من ولدت حواء]$

أول ولد ولدته حواء: عبد الحارث، فيما قيل.

قال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن وكيع، حدثنا ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة، عن سعيد بن جبير: {فلما أثقلت دعوا الله ربهما} إلى قوله: {فتعالى الله عما يشركون} قال: لما حملت حواء في أول ولد ولدته حين أثقلت، أتاها إبليس فقال: ما هذا الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري. قال: من أين يخرج، من أنفك أو من عينك أو من أذنك؟ قالت: لا أدري. قال: أرأيت إن خرج سليما؛ أمطيعتي أنت فيما آمرك به؟ قالت: نعم. قال: سميه "عبد الحارث" –وقد كان يسمى إبليس لعنه الله "الحارث" –فقالت: نعم. ثم قالت بعد ذلك لآدم: أتاني آت في النوم فقال كذا وكذا؟ فقال: ذاك الشيطان فاحذريه؛ فإنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، ثم أتاها إبليس فأعاد عليها، فقالت: نعم، فلما وضعته أخرج سليما فسمته "عبد الحارث"، فهو قوله: {شركاء فيما ءاتهما} إلى قوله: {فتعالى الله عما يشركون}.

ورواه عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا عتاب بن بشير، عن حصيف، عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة، عن ابن عباس: أن حواء لما حملت جاءها إبليس. وذكر نحوه.


#275#

وقال عثمان أيضا: حدثني يحيى بن يمان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {جعلا له شركاء فيما ءاتهما} قال: في التسمية.

وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير" في معنى الآية الشريفة فقال: ولم يقصدا أن الحارث ربهما، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما، وقد يطلق "العبد" على من ليس بمملوك. قال الشاعر:

وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلا تلك من سمة العبد

وقال مجاهد: كان لا يعيش لآدم ولد، فقال الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه "عبد الحارث"، فأطاعاه، فذلك قوله تعالى: {جعلا له شركاء فيما ءاتهما}.

وجاء عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن آدم عليه السلام كان لا يعيش له ولد، فلما حملت حواء، طاف بها إبليس فقال لها: إنك إن سميتيه "عبد الحارث» عاش. قال: فسمته "عبد الحارث"، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره».


#276#

وخرجه الترمذي لعبد الصمد نحوه وقال: "هذا حديث حسن غريب". قال: رواه بعضهم عن عبد الصمد، ولم يرفعه.

قلت: ورواه سليمان بن داود الشاذكوني، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة به مرفوعا.

وهذا منكر من رواية شعبة عن قتادة، بل هو من رواية عمر بن إبراهيم العبدي عن قتادة كما تقدم.

ورواية العبدي صححها الحاكم أبو عبد الله، وأنى لها الصحة!.

قال أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن حاتم بن إسماعيل المديني –


#277#

سبط أبي موسى المزني- في كتابه "المنير": حدثنا محمد بن عبد الجبار، حدثنا بكار بن عبد الرحمن، عن عمار بن عطية، عن [ابن] داب قال: أول مولود ولد لآدم "قابيل" وتوأمته "إقليميا"، وأول دم هريق على وجه الأرض ووقع عليها دم حواء.

"ابن داب" هو: عيسى بن يزيد بن بكر بن داب الليثي المديني الأخباري، لكنه هالك، رمي بالوضع، وقد خالفه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فذكر: إن "إقليميا" توأمة "هابيل" المقتول.

قال محمد بن حبيب في كتاب "المنود": قال هشام: فولد آدم صلى الله عليه وسلم "قابيل" وهو بكره، وهو قاتل "هابيل"، هلك نسله في الطوفان. و"ليوذا" وهي توأمته في بطن، و"هابيل" –عليه السلام وهو المقتول- لا عقب له، و"إقليميا" وهي توأمته، و"شيثا" صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله، اشتق له من اسم أخيه "هابيل"، و"عزوراء" وهي توأمته.

قال الشرقي: و"عبد الحارث" وهو الذي عرض فيه إبليس لحواء عليهما السلام، ولم يكن الكلبي يسميه.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وقرأت في التوراة: أن آدم عليه السلام جامع امرأته، فولدت له "قابل" فقالت: استعدت لله تعالى رجلا. ثم


#278#

ولدت "هابل" أخاه، فكان "قابل" حراثا، وكان "هابل" راعي غنم، فقربا قربانا، فتقبل من "هابل" ولم يتقل من "قابل"، فقتل أخاه "هابل".

وذكر أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله قالوا: كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر، حتى ولد له ولدان يقال لهما: "قابيل" و"هابيل"، وكان "هابيل" صاحب شاة، وكان "قابيل" صاحب زرع، وكان "قابيل: أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت "هابيل"، وكان "هابيل" طلب أن ينكح أخت "قابيل"، فأبى عليه وقال: هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك، فأنا أحق أن أتزوجها. فأمره أبوه أن يزوجها "هابيل"، فأبى، وأنهما قربا قربانا إلى الله تعالى أيهما أحق بالجارية. وذكر بقيته.

وفيه: فلما قربا قربانا: قرب "هابيل" جذعة سمينة، وقرب "قابيل" حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها فأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان "هابيل" وتركت قربان "قابيل"، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي.. الحديث.

وهو بمعناه عند أبي سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان لآدم أربعة أولاد: توأم ذكر وأنثى من بطن، وذكر وأنثى من


#279#

بطن، فكانت أخت صاحب الحرث وضيئة، وكانت أخت صاحب الغنم قبيحة، فقال صاحب الحرث: أنا أحق بها. وقال صاحب الغنم: أنا أحق بها. فقال صاحب الغنم: ويحك، أتريد أن تستأثر بوضاءتها علي، تعال حتى نقرب قربان. وذكر بقيته.

وقال تمام بن محمد: أخبرنا أحمد بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن مروان، سمعت أحمد بن ملاس يقول: سمعت عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر يقول: كان خارج "باب الساعات" صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار فأخذته، وما لم يتقبل منه بقي على حاله، وكان "هابيل" صاحب غنم وكان منزله في "سطرا"، وكان "قابيل" في "قينية" وكان صاحب زرع، وكان "آدم" عليه السلام في "بيت أبيات"، وكانت "حواء" في "بيت لهيا".

قال: فجاء "هابيل" بكبش سمين من غنمه، فجعله على الصخرة، فأخذته النار.


#280#

قال: وجاء "قابيل" بقمح غلث، فوضعه على الصخرة فبقي على حاله، فحسده.

قال: وتبعه في هذا الجبل.

قال: وأراد قتله، فلم يدر كيف يقتله؟

قال: فجاء إبليس فأخذ حجرا فضرب به رأس نفسه.

قال: فأخذ هو حجرا فضرب به رأس أخيه، فقتله.

قال: فصاحت "حواء"، فقال لها "آدم": عليك وعلى بناتك لا علي ولا على بني.

قلت: اليوم موجود داخل "باب الساعات" من "جامع دمشق"، على يمين الداخل صخرة سوداء مفترشة، قيل: هي الصخرة المذكورة في هذا الحديث، وقد استقرئ أنه ما جلس لأحد عليها إلا وحصل له ضرب أو حبس، والله أعلم.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وقال وهب –يعني: ابن منبه- إن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، وكان الرجل منهم يتزوج أي أخواته شاء إلا توأمته، فأبى "قابيل" أن يزوج أخته التي هي توأمته أخاه "هابيل" وقال: "أنا أحق بها"، فغضب آدم وقال: "اذهبا فتحاكما إلى الله تعالى بالقربان، فأيكما قبل قربانه فهو أحق بها"، فقربا القربان بـ"منى"، فمن ثم صار مذبح الناس إلى اليوم، فنزلت نار فقبلت قربان "هابيل" فقتل قابيل هابيل، رضخ رأسه بحجر، واحتمل أخته، حتى أتى واديا من أودية


#281#

"اليمن" في شرقي "عدن"، فكمن فيه، وبلغ "آدم" ما صنع، فوجد هابيل قتيلا، وقد نشقت الأرض دمه، فلعن الأرض، فمن أجل لعنة آدم لا تنشق الأرض دما وأنبتت الشوك.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا عمرو بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، حدثني المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي قال: لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام، ثم شربت الأرض دمه كما تشرب الماء، فناداه الله عز وجل: "أين أخوك هابيل؟" قال: "ما أدري، ما كنت عليه رقيبا" قال الله: "إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك؟" قال: "فأين دمه إن كنت قتلته؟" فحرم الله تعالى على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا.

وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل "هابيل" مكث "آدم" عليه السلام مائة سنة حزينا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: "حياك الله وبياك" أي: أضحكك.

وذكر بعض الأخباريين: أن الله عز وجل أوحى إلى آدم عليه السلام: أنا أرحم الراحمين، قتل ولدك ولا آمرك أن تقتل ولدك الآخر به، دعه، فلا يفوتني هارب، وأنا القوي الطالب.

ويروى عن وهب: أن "لامك بن هنوش بن هابل" قتل "قابيل"، مر عليه "قابيل" وهو يرعى غنما له راكبا على فرسه، و"لامك" أعمى، فتكلم "قابيل"، فقال "لامك": من هذا المتكلم؛ فقد انقض لكلامه كيدي واقشعر له جلدي؟ قالوا: هذا قاتل جدك "هابيل". قال: فأوتروا لي


#282#

قوسي. فأوتروا له قوسا، ثم استمع الكلام من أين يأتيه، حتى علم أين هو، ثم قال: اللهم اهد وانتقم. ثم رمى فأصاب نحر "قابل"، فسقط عن فرسه ثم قال: من هذا؟ قيل له: لامك بن هنوش بن هابيل. فقال: حسأتنا الأبناء مرق قدور الأجداد، ومات "قابل"، فأتى بنوه بـ "لامك الأعمى" إلى "شيث"، فقالوا له: هذا قتل أبانا "قابل". قال لهم: أخذ الله حقه بأضعف خلقه، دعوه؛ النفس بالنفس.

وجاء عن ابن جريج عن مجاهد قال: علقت إحدى رجلي القاتل –يعني: قابيل- بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت [دار] عليه [في الصيف] حظيرة من نار، وفي الشتاء حظيرة من ثلج.

قال مجاهد: وقال عبد الله بن عمرو: إنا لنجد أن ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة على شطر عذابهم.

وصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل».

وحدث علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن مقاتل بن


#283#

سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قتل "قابيل" "هابيل" و"آدم" بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه وأمر الماء، واغبرت الأرض، فقال آدم عليه السلام: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند، فإذا "قابيل" قد قتل "هابيل"، فأنشأ يقول –وهو أول من قال الشعر:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه الصبيح

وقال أبو جعفر بن جرير في "تاريخه": وذكر أن "قابيل" لما قتل "هابيل" بكى آدم، فقال فيما حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم عليه السلام:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فلون الأرض مغبر قبيح


#284#

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح

قال: فأجيب آدم عليه السلام:

أبا هابيل، قد قتلا جميعا ... وصار الحي كالميت الذبيح

وجاء بشرة قد كان منها ... على خوف فجاء بها يصيح

وروى إسماعيل بن العباس الوراق، حدثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر، أخبرنا أحمد بن محمد المخرمي، عن عبد العزيز بن الرماح، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قتل ابن آدم أخاه قال آدم عليه السلام:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح

قتل قابيل هابيلا أخاه ... فواحزنا؛ مضى الوجه الصبيح

قال: فأجابه إبليس.


#285#

تنح عن البلاد وساكنيها ... فبي في الخلد ضاق بك الفسيح

الآفة في ذلك من "المخرمي" أو شيخه، والله أعلم.

وحدث أبو جعفر عبد الله بن محمد بن نفيل الحراني، حدثنا النضر بن عربي، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرا، فقد كذب على الله ورسوله ورمى آدم بالمأثم، إن محمدا والأنبياء كلهم –صلى الله عليهم وسلم- في النهي عن الشعر سواء، قال الله عز وجل: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}، ولكن لما قتل "قابيل" "هابيل" رثاه آدم وهو سرياني، وإنما يقول الشعر من تكلم بالعربية، فلما قال "آدم" مرثيته في ابنه "هابيل" –وهو أول شهيد كان على وجه الأرض- قال "آدم" لـ "شيث": "يا بني، إنك وصي، احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه"، فلم يزل ينقل حتى وصل إلى "يعرب بن قحطان"، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر، فنظر في


#286#

المرثية فإذا هو سجع، فقال: إن هذا ليقوم شعرا، فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم، فوزنه شعرا، وما زاد فيه وما نقص تحوبا من ذلك:

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم ... وقل بشاشة الوجه المليح

وقابيل أذاق الموت هابيلا ... فواحزني لقد فقد المليح

وما لي لا أجود بسكب دمع ... و"هابيل" تضمنه الضريح

وجاءت سهلة ولها رنين ... لهابلها وقابلها تصيح

لقتل ابن النبي بغير جرم ... فقلبي عند قتلته جريح

أرى طول الحياة علي غما ... فهل أنا من حياتي مستريح

وجاورنا عدو ليس يفنى ... لعين ما يموت فنستريح

وقالت حواء عليها السلام:

دع الشكوى لقد هلكا جميعا ... بهلك ليس بالثمن الربيح


#287#

وما يغني البكاء عن البواكي ... إذا ما المرء غيبه الضريح

فبك النفس منك ودع هواها ... فلست مخلدا بعد الذبيح

فأجابه إبليس شامتا يقول:

تنح عن البلاد وساكنيها ... فبي في الخلد ضاق بك الفسيح

وكنت بها وزوجك في رخاء ... وقلبك من أذى الدنيا مريح

فما زالت مكايدتي ومكري ... إلى أن فاتك الخلد الربيح

فلولا خشية الجبار أضحى ... بكفك من جنان الخلد ريح

وقال سيار بن حاتم: حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب قال: لما قتل ابن آدم أخاه مكث آدم مائة سنة لا يضحك، ثم أنشأ يقول:

"تغيرت البلاد ومن عليها" البيتين.


#288#

وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا أبو محمد بن حيان، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمود بن خداش، حدثنا عبد العزيز الماجشون، سمعت محمد بن المنكدر يقول: بلغني أن آدم عليه السلام لما مات ابنه قال: يا حواء، مات ابنك. قالت: وما الموت؟ قال: لا يأكل ولا يشرب ولا يقوم ولا يمشي ولا يتكلم أبدا. قال: فصاحت حواء، فقال آدم: عليك الرنة وعلى بناتك، أنا وبني منها براء.

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وفي التوراة: أن آدم عليه السلام طاف على امرأته حواء، فولدت له غلاما، سماه شيثا من أجل أنه خلف من عند الله مكان "هابيل".

وقال ابن جرير في "تاريخه": ولما مضى لآدم عليه السلام من عمره مائة سنة وثلاثون سنة، وذلك بعد مقتل قابيل بخمس سنين، ولدت له حواء "شيثا"، فذكر أهل التوراة أن فيها: وإن شيثا ولد فردا بغير توأم، وتفسير "شيث" عندهم: هبة الله، ومعناه: أنه خلف هابيل.

وقول أهل التوراة الذي حكاه ابن جرير أن شيثا ولد فردا؛ قول الجمهور إلا ما تقدم عن ابن الكلبي أن "شيثا" توأمته عزورا.

وروي من طريق ضعيفة إلى وهب بن منبه قال: حبلت "حواء" –و"آدم" بمكة- بتوأم فولدت شيثا وعتاقا في بطن غلاما وجارية، وكانت "حواء" تحمل في كل عام فتلد غلاما وجارية، فنزل جبريل على آدم، وأمره أن يزوج الغلام الذي من البطن الأول من الجارية التي من البطن الآخر ويخالف بين البطون.


#289#

وقال ابن قتيبة في "المعارف": وولد لآدم عليه السلام أربعون ولدا في عشرين بطنا، وأنزل عليه تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير [وحروف المعجم] في أحد وعشرين ورقة، وهو أول كتاب كان في الدنيا حذا الله عليه الألسنة كلها.

وقال ابن جرير في "تاريخه": وذكر أن آدم عليه السلام ولدت له حواء عشرين ومائة بطن، أولهم: قابيل وتوأمته، وآخرهم: عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث.

وأما ابن إسحاق فذكر عنه ما قد ذكرت قبل، وهو: أن جميع ما ولدته "حواء" لصلبه أربعون من ذكر وأنثى في عشرين بطنا.

وقال: وبلغنا أسماء بعضهم ولم يبلغنا بعض.

حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان من بلغنا اسمه خمسة عشر رجلا وأربع نسوة منهم: قينن وتوأمته، وليوذا و"أشوب بنت آدم" وتوأمها، وشيت وتوأمته، وحزورة وتوأمها، على ثلاثين ومائة سنة من عمره، ثم إياد بن آدم وتوأمته، ثم "بالغ بن آدم" وتوأمته، ثم أتابي بن آدم وتوأمته، ثم شبويه بن آدم وتوأمته، ثم حيان بن آدم وتوأمته، ثم سندل بن آدم وتوأمته، ثم هزن بن آدم وتوأمته، ثم بارق بن آدم وتوأمته، كل رجل منهم يولد معه امرأة في بطنه الذي يحمل به فيه.

ويروى: أن آدم عليه السلام لم يمت حتى قام خطيبا في ألف من ولده وولد ولده.


#290#

قال الحافظ أبو نعيم في كتابه "فضيلة المحتسبين في الإنفاق على البنات": حدثنا محمد بن علي وأحمد بن محمد بن موسى، قالا: حدثنا إبراهيم بن جعفر بن خليد، حدثنا الحسن بن شبيب، حدثنا خلف بن خليفة، حدثنا أبو هاشم الرماني، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آدم عليه السلام قام خطيبا في ألف من ولده وولد ولده، وقال: إن ربي عهد إلي فقال: يا آدم، قلل كلامك ترجع إلى جواري».

حديث غريب تفرد به الرماني عن ثابت، واسمه: يحيى بن دينار –من عباد الواسطيين- وعنه خلف بن خليفة. قاله أبو نعيم.

خالفه الحسين بن إسماعيل المحاملي فحدث به عن الحسن بن شبيب، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض كثرت ذريته، فاجتمع إليه ذات يوم ولده وولد ولده وولد ولد ولده، فجعلوا يتحدثون و"آدم" ساكت لا يتكلم، فقالوا: يا أبانا، ما لنا نحن نتكلم


#291#

وأنت ساكت لا تكلم؟ قال: يا بني، إن الله عز وجل لما أهبطني إلى الأرض عهد إلي فقال: يا آدم، أقل الكلام حتى ترجع إلى جواري.

ويروى عن وهب بن منبه أنه قال: لم يقبض الله آدم عليه السلام حتى صلى خلفه ألف رجل من ذريته غير بني بنيه.

وقيل: لم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا.

وقال أبو بكر محمد بن عبد بن عامر السعدي السمرقندي: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا خارجة بن مصعب، عن يونس، عن الحسن، عن عتي، عن أبي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آدم عليه السلام لما مرض مرضه الذي مات فيه قال لبنيه: أي بني: إني مريض، وأشتهي ما يشتهي المريض، وإني أشتهي من ثمار الجنة».

قال: "فخرجوا يسعون في الأرض، فلقيتهم الملائكة عيانا، فقالوا: يا بني آدم، أين تريدون؟ قالوا: نبغي أبانا من ثمار الجنة. فقالوا: ارجعوا، فقد أمر بقبض أبيكم إلى الجنة. قال: فقبض روحه وهم ينظرون، وغسلوه وهم ينظرون، وحنطوه وهم ينظرون، وصلوا عليه وهم ينظرون، وقالوا: يا بني آدم، هذه سنتكم في موتاكم".


#292#

"السمرقندي" هذا مشهور بالوضع.

لكن حديثه هذا خرجه البيهقي في "السنن الكبرى" من حديث شبابة بن سوار، عن خارجة. بنحوه.

وقال البيهقي: رفعه خارجة بن مصعب، ووقفه هشيم بن بشير وغيره، عن يونس بن عبيد.

وحديث هشيم المشار إليه رواه أبو جعفر أحمد بن منيع البغوي في "مسنده" فقال: حدثنا هشيم، أخبرنا يونس، عن الحسن، حدثني عتي السعدي، قال: سمعت أبي بن كعب يقول: لما احتضر آدم عليه السلام قال لبنيه: انطلقوا فاجتنوا لي من ثمار الجنة. فلما خرجوا استقبلتهم الملائكة فقالوا: أين تريدون يا بني آدم؟ قالوا: بعثنا أبونا نجتني من ثمار الجنة. فقالوا لهم: ارجعوا فقد كفيتم، فرجعوا معهم حتى دخلوا [على] "آدم"، لما رأتهم "حواء" ذعرت منهم، فجعلت تدنو إلى "آدم" وتلصق به، قال لها: إليك عني، فمن قبلك أتيت، خلي بيني وبين ملائكة ربي، فقبضوا روحه ثم غسلوه وكفنوه وحنطوه، ثم صلوا عليه، وحفروا له فدفنوه، ثم قالوا: يا بني آدم، هذه سنتكم في


#293#

موتاكم، فكذلك فافعلوا.

وقال البغوي أيضا: حدثنا هشيم، أخبرنا عباد بن راشد، عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال: جاءت الملائكة بالحنوط والكفن والمساحي والمكاتل.

وقال أيضا: حدثنا هشيم، عن عثمان بن سعد، عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث، فقلت: كم كبرت عليه الملائكة؟ فقال: أربعا.

ورواه البيهقي من طريق أخرى عن الحسن، عن عتي، عن أبي موقوفا بمعناه.

وكذلك خرجه ابن قتيبة في "المعارف" ولفظه: عن أبي رضي الله عنه: أن آدم عليه السلام لما احتضر اشتهى قطفا من قطف الجنة، فانطلق بنوه ليطلبوه له، فلقيتهم الملائكة فقالوا: أين تريدون يا بني آدم؟ قالوا: إن أبانا اشتهى قطفا من قطف الجنة. فقالوا: ارجعوا، فقد كفيناكموه. فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه، وصلى عليه جبريل، والملائكة خلف جبريل، وبنوه خلف الملائكة، ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم يا بني آدم.

وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا علي بن حرب، حدثنا روح بن أسلم، عن حماد بن سلمة،


#294#

عن ثابت البناني، عن الحسن، عن عتي، عن أبي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما توفي آدم عليه السلام ألحد له، وغسلته الملائكة بالماء وترا، وقالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده».

وخرجه الحاكم في "مستدركه" مرفوعا بنحوه، وقال: صحيح الإسناد.

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثني ابن إسحاق، عن الحسن بن ذكوان، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أباكم آدم عليه السلام كان طوالا كالنخلة السحوق» الحديث.

وفيه: «فلما حضرته الوفاة بعث إليه بحنوطه وكفنه من الجنة، فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم إليه، فقال: خل عني وعن رسل ربي، فما لقيت ما لقيت إلا منك، ولا أصابني ما أصابني إلا فيك.

فلما قبض غسلوه بالماء والسدر وترا، وكفنوه وترا من الثياب، ثم لحدوا له فدفنوه، ثم قالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده».


#295#

وخرج ابن جرير أيضا من طريق هشام ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مات آدم عليه السلام قال: "شيث" لجبريل عليه السلام: صل على آدم. فقال: تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس: فهي الصلاة، وخمس وعشرون تفضيلا لآدم عليه السلام.

إسناده تالف.

وروى محمد بن معاوية النيسابوري، عن أبي المليح، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الملائكة صلت على آدم، فكبرت عليه أربعا، وقالوا: تلك سنتكم يا بني آدم.

و"النيسابوري" هذا: واه.

والحديث أتي من قبل محمد بن زياد الطحان الميموني، -والله أعلم- حدث به عن ميمون بن مهران، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قال: كبرت الملائكة على آدم أربعا.

والميموني هذا إنما سمي الميموني لكثرة ما كان يقول: حدثنا ميمون بن مهران، وكان كذابا خبيثا.

قاله يحيى بن معين فيما رواه عنه عباس بن محمد الدوري.


#296#

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث مسلم بن الحارث، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه: إن آدم عليه السلام لما طؤطئ عن كلام الملائكة وكان يأنس بكلامهم بكى على الجنة مائة سنة، فقال الله عز وجل له: يا آدم، ما يحزنك؟ قال: كيف لا أحزن وقد أهبطتني من الجنة، ولا أدري أعود إليها أم لا؟ فقال الله عز وجل: يا آدم، قل: اللهم لا إله إلا أنت، وحدك، لا شريك لك، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك خير الغافرين.

والثانية: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي، إنك أنت أرحم الراحمين.

والثالثة: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني عملت سوءا، وظلمت نفسي، إنك أنت التواب الرحيم.

فهي الكلمات التي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}.

قال: "وهي لولده من بعده".

قال آدم لابن –يقال له: "هبة الله"، ويسميه أهل التوراة وأهل الإنجيل: "شيث"-: تعبد لربك وسيلة، أيردني إلى الجنة أم لا؟ فتعبد وسأل، فأوحى الله عز وجل إليه: إني رادك إلى الجنة.

فقال: يا رب، إني لست آمن، أخشى أن يسألني العلامة، فألقي إليه سوادا من أسورة الحور العين، فلما أتاه قال: ما وراءك؟ قال: أبشر؛ فإن


#297#

ربي قد أخبرني أنه رادك إلى الجنة. قال: فما سألته العلامة؟ فأخرج السوار، فعرفه، فخر ساجدا يبكي حتى سال من عينيه نهر من دموع، وآثاره تعرف بالهند.

وذكر: أن كنز الذهب ما للهند مما نسب من ذلك السوار.

ثم قال: استطعم لي ربك من ثمر الجنة، فلما خرج من عنده مات آدم عليه السلام، [فجاءه جبريل عليه السلام] فقال: إلى أين؟ قال: إن أبي أرسلني إلى ربي أن يطعمه من ثمر الجنة.

قال: فإن ربه عز وجل قضى أن لا يؤكل منها شيء حتى يعاد إليها، وإنه قد مات، فارجع فواره، فأخذه جبريل عليه السلام فغسله وكفنه وحنطه، وصلى الله عليه، ثم قال جبريل: هكذا فاصنعوا بموتاكم.

وفي "تاريخ أبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة" من طريق عن ابن عباس: إن الملائكة صلت على آدم عليه السلام.

قال: ووضعوه مما يلي القبلة عند القبور، ودفنوه في مسجد الخيف.

وقال عروة بن الزبير: أتاه جبريل بثياب من الجنة، وحنوط من حنوطها، وحملته الملائكة حتى وضعته بباب الكعبة، وصلى عليه جبريل، ثم حملته الملائكة حتى دفنته في مسجد الخيف.

قال ابن قتيبة: قال وهب: وحفر له في موضع في "أبي قبيس" يقال له: غار الكنز.


#298#

وذكره ابن جرير في "تاريخه" معلقا عمن قاله من العلماء، ثم قال: وذكر أن "حواء" عاشت بعده سنة، ثم ماتت عليها السلام، فدفنت مع زوجها "آدم" عليه السلام في الغار الذي ذكرت، وأنهما لم يزالا مدفونين في ذلك المكان، حتى كان الطوفان، فاستخرجهما –يعني: نوحا عليه السلام- وجعلهما في تابوت، ثم حملهما معه في السفينة، فلما غاضت الأرض الماء ردهما إلى مكانهما الذي كانا فيه قبل الطوفان.

وروى سعيد بن بشير، عن قتادة: أن آدم عليه السلام مات بأرض "فلسطين".

وذكر هشام بن محمد بن السائب الكلبي [عن أبيه] عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن آدم عليه السلام لما فرغ من بناء البيت خرج به الملك إلى "عرفات"، فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم مكة فطاف بالبيت أسبوعا، ثم رجع إلى أرض الهند فمات على "نوذ" –يعني: الجبل الذي أهبط عليه-.

وقال حميد بن زنجويه وغيره: قبر آدم عليه السلام من "بيت المقدس" إلى "مسجد إبراهيم" مطوي.

وقال سليمان بن عبد الرحمن: حدثتنا أم إسماعيل بن عياش، عن أم عبد الله بنت خالد بن معدان، عن أبيها أنه قال: رأس آدم عن يمين الصخرة، ورجلاه عن ثمانية عشر ميلا.


#299#

وقال ضمرة بن ربيعة الرملي أبو عبد الله في "تاريخه": عن قادم بن ميسور، عن عبد الله بن أبي فراس قال: قبر آدم عليه السلام في مغارة فيما بين بيت المقدس ومسجد إبراهيم عليه السلام، ورجلاه عند الصخرة، ورأسه عند "مسجد إبراهيم"، وبينهما ثمانية عشر ميلا.

ويروى عن عبد الواحد بن زيد، حدثنا نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: إن آدم عليه السلام رجلاه عند الصخرة، ورأسه عند مسجد إبراهيم، فإذا كان يوم القيامة أقامه الله على رجليه، ثم حشر الله عز وجل إليه ذريته، فيقول الله عز وجل: يا آدم، إليك أحشر ذريتك، لا أحشرك فيمن أحشر، لكرامتك علي.

قال ابن قتيبة في "المعارف": ووجدت في التوراة: جميع ما عاش آدم تسع مائة وثلاثون سنة.

وهذا الذي نقله ابن قتيبة عن التوراة رواه أبو عمر المقدام بن داود بن عيسى بن تليد الرعيني، حدثنا علي – يعني: ابن معبد بن شداد العبدي-، حدثنا العلاء بن سليمان، عن الوضين بن عطاء قال: عاش آدم عليه السلام تسع مائة سنة وثلاثين سنة، قال لبنيه: إني كنت في الجنة، فسمعت كلام الملائكة، وإن ربي وعدني إذا هلكت أن يرجعني الجنة.


#300#

إسناده واه.

وقال وهب: عاش آدم عليه السلام ألف سنة.

وجاء أن حواء عاشت بعد آدم سنة، ثم ماتت فدفنت مع آدم عليه السلام.

وقيل: كان وصي آدم "شيث" عليهما السلام.

وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق قال: لما حضرت آدم الوفاة –فيما يذكرون والله أعلم- دعا ابنه "شيث"، فعهد إليه عهده وعلمه ساعات الليل والنهار، وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منهن، فأخبره: إن لكل ساعة صنفا من الخلق فيه عبادته.

وقال: يا بني، إن الطوفان سيكون في الأرض، يلبث فيها سبع سنين، فكتب وصيته، فكان "شيث" فيما ذكر وصي أبيه آدم، وصارت الرئاسة من بعد وفاة آدم لـ "شيث"، وأنزل الله عليه –فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- خمسين صحيفة.

وخرج ابن جرير أيضا عن سعيد بن جبير: إن آدم عليه السلام مرض قبل وفاته أحد عشر يوما، وأوصى إلى ابنه "شيث"، وأمره أن يخفيه من قابيل


#301#

وولده، لأن قابيل قد كان قتل هابيل حسدا منه له حين خصه "آدم" بالعلم، فاستخفى شيث وولده بما عندهم من العلم.

وقال بعض الأخباريين: وولي أمر بني آدم والجن: "شيث".

وشيث اسم عبراني، وتفسيره بالعربية: خلف وشابت بالسرياني، وتفسيره بالعربية: نصب، لأن عليه نصبت الدنيا وعلى ذريته، ليس في الدنيا غير ذريته، وجميع بني آدم أغرقهم الطوفان.

وقال وهب بن منبه فيما حكاه عنه ابن قتيبة: كان شيث بن آدم أجمل ولد آدم وأفضلهم وأشبههم به وأحبهم إليه، وكان وصي أبيه وولي عهده، وهو الذي ولد البشر كلهم، وإليه انتهت أنساب الناس، وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة، وكانت هناك خيمة لآدم وضعها الله له من الجنة، وأنزل الله على شيث بن آدم خمسين صحيفة، وعاش شيث تسع مائة سنة واثنتي عشرة سنة".

الخيمة المذكورة هنا: البيت؛ لأنه روي في بعض الآثار: أن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض استوحش، فأنزل الله البيت من الجنة خيمة من ياقوتة حمراء، فكان آدم عليه السلام يطوف حولها ويأنس بها، حتى رفعت وبقي موضعها معظما.

وقيل: إن حواء حملت بـ شيث حتى نبتت أسنانه، وكانت تنظر إلى وجهه في بطنها، وهو الثالث من ولد آدم، وأنه لما حضرها الطلق أخذها


#302#

عليه شدة، فانتبذت به، فلما وضعته أخذته الملائكة، فمكث معها أربعين يوما، فعلموه المهن، ثم ردوه إليها معلما.

"المهن" جمع "مهنة" وهي: الخدمة.

وقد تقدم من كلام ابن إسحاق في رواية ابن جرير من طريقه: إن "حواء" ولدت لآدم شيث وتوأمته.

وذكر غير واحد في ترجمة شيث عليه السلام: أن حواء لم تلد ولدا فردا في بطن واحد غير شيث عليه السلام قال بعضهم: وإنما كان ذلك صيانة لنور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أودعه الله عز وجل آدم عليه السلام.

وحدث العباس بن عبد الله الترقفي، عن الفضل بن جعفر بن عبد الله، حدثنا السري بن عثمان البلخي، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، عن كعب الأحبار قال: لما أراد الله عز وجل أن يخلق محمدا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجنت بماء التسنيم، ثم غمست في أنهار الجنة، وطيف بها في السموات والأرض، فعرفت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن تعرف آدم، ثم كان نور محمد صلى الله عليه وسلم يرى في غرة جبهة آدم عليه السلام، وقيل له: "يا آدم، هذا سيد ولدك من


#303#

المرسلين"، فلما حملت حواء بـ شيث انتقل النور عن آدم إلى حواء، فكانت تلد في كل بطن ولدين إلا شيثا فإنها ولدته وحده؛ كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم لم يزل ينتقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.

وقال هناد بن إبراهيم النسفي: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن بكران، أخبرنا أبو صالح خلف بن محمد بن إسماعيل، حدثنا الحسن بن الحسن بن الوضاح ومحبوب بن يعقوب، قالا: حدثنا يحيى بن جعفر بن أعين، حدثنا علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: «كنت في صلبه، وأهبط إلى الأرض وأنا في صلبه، وركبت السفينة في صلب أبي: نوح، وقذفت في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق لي أبوان قط على سفاح، لم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام النقية مهديا، لا يتشعب شعبان إلا كنت في خيرهما، فأخذ الله بالنبوة ميثاقي، وفي التوراة بشر بي، وفي الإنجيل شهر اسمي، تشرق الأرض لوجهي، والسماء لرؤيتي، ورقى بي في سمائه، وشق لي اسما من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد» الحديث.


#304#

وله طريق إلى ابن عباس تأتي قريبا –إن شاء الله تعالى.

وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو محمد عبد الله بن صالح البخاري، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، حدثني عمر بن خالد، حدثنا أبو عبد الله محمد الحبلي، عن عبد الله بن الفرات، عن عثمان بن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن قريشا كانت نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ألقى ذلك النور في صلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأهبطني الله عز وجل إلى الأرض في صلب آدم، وجعلني في صلب نوح في السفينة، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم، ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني بين أبوي لم يلتقيا على سفاح قط».

وفي معنى ذلك: أبيات العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه المشهورة.

قال أبو السكين زكريا بن يحيى بن عمر بن حصن بن حميد بن منهب بن حارثة بن خريم بن أوس بن حارثة بن لام الطائي الكوفي: حدثني عم أبي زحر بن حصن، عن جده: حميد بن منهب قال: قال


#305#

جدي خريم بن أوس: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه منصرفه من تبوك، فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يقول: يا رسول الله، إني أريد أن أمتدحك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل؛ لا يفضض الله فاك»، فأنشد يقول:

قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق

حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق

خرجه الطبراني في "معجمه" عن عبدان بن أحمد ومحمد بن موسى بن حماد البربري، عن أبي السكين. وفيه طول بقصة الحيرة،


#306#

ورفعها للنبي صلى الله عليه وسلم، ورؤيته الشيماء بنت بقيلة الأزدية.

وقد خرج الحديث غير واحد من الأئمة، منهم: الحاكم في "مستدركه"، وقال الحافظ أبو موسى المديني: "هذا حديث حسن غريب"، وقال الذهبي فيما أنبأونا عنه: منكر. انتهى.

وقد قال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة جرير بن أوس بن حارثة بن لام، ويقال فيه: خريم بن أوس –أظنه أخاه-.

ثم قال: خريم وجرير قدما على النبي صلى الله عليه وسلم، ورويا شعر العباس رضي الله عنه، والله أعلم. انتهى قول أبي عمر.

وقد رويت هذه الأبيات للعباس بن مرداس، وليس بشيء.

وجاءت أيضا أنها لـ حسان بن ثابت ولا يثبت أيضا، وستأتي الرواية بذلك –إن شاء الله تعالى.


#307#

وقوله رضي الله عنه في هذه الأبيات: "قبلها"، وجاء في بعض طرقه: "من قبلها" أي: قبل هذه المدة أو هذه القراءة أو البعثة.

"طبت في الظلال" يريد: ظلال الجنة تحت أشجارها، حين كان في صلب آدم.

وفي "مستودع" يحتمل أن يكون: الرحم، ويحتمل: موضع آدم وحواء الذي أودعا فيه من الجنة وهما يخصفان الورق.

وقوله: "ثم هبطت البلاد" أي: بهبوط أبيك آدم وأنت حينئذ في صلبه.

"لا بشر" أي: لم تكن في الخلق حينئذ بشرا.

"ولا مضغة": وهي: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ.

"ولا علق": وهو: الدم الجامد الغليظ، بل كنت نطفة –وهو: الماء الذي يكون منه الولد- في صلب نوح عليه السلام، لم ينتقل بعد في هذه المراتب التي ينتقل فيها الجنين، ثم تركب سفينة بركوبه فيها.

وقوله: "السفين" جاء أنه لغة في "السفينة"، والمشهور أنه جمع "سفائن".

وقوله: "وقد ألجم نسرا وأهله الغرق" يعني: نجوت مع أبيك نوح من الغرق، وغرق "نسر" صنم قوم نوح، وإلجام الغرق كناية عن وصول الماء إلى أفواههم التي هي موضع اللجام.

وقوله: "تنقل من صالب إلى رحم" الصالب: قيل: إنه الصلب وهو: كل شيء من الظهر فيه فقار.

قال أبو موسى المديني الحافظ في كتابه "طوال الأحاديث والأخبار": "و"الصالب": الصلب.

وقال أبو طاهر إسماعيل بن أحمد بن زيادة التجيبي –رحمه الله وإيانا- في "شرحه لظائية أبي العباس أحمد بن عمار المقري":


#308#

و"الظهر: الصلب، وفيه لغات، يقال: هو الظهر والقفا والمطاء، والصلب والصلب والصالب.

ثم استشهد على الصلب بقول العجاج:

"في صلب مثل العنان المؤدم"

واستشهد على الصالب بقول العباس رضي الله عنه

"تنقل من صالب إلى رحم" البيت

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الرازي في "مختصر العين" للخليل: الصلب: الصلب.

وكذلك قال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في "مختصر العين" أيضا: "الصلب" لغة في "الصلب"، وحكى أن "الصالب" الحمى التي لا تنفض.

وهكذا ذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي في "مجمله". الصلب والصلب، وحكى أن الصالب من الحمى الشديدة، ولم يذكر في الصالب غيره، والصلب –بالتحريك مفتوحا: لغة بني تميم فيما حكاه ابن دريد، ولم أر من ذكر أن الصالب لغة في الصلب غير أبي موسى المديني وأبي طاهر بن زيادة كما قدمناه، بلى وذكرهما أبو محمد عبد الله بن مسلم القتيبي في شرحه أبيات العباس رضي الله عنه هذه فقال: ولم


#309#

أسمع بهذه اللغة إلا في هذا الحديث. انتهى.

ورأيته في أبيات العباس رضي الله عنه مضبوطا بخط بعضهم بفتح اللام من "صالب"، فيحتمل على هذا –والله أعلم- أن يكون العباس رضي الله عنه أراد من صلب بالتحريك فأشبع فتحة الصاد، واللام حينئذ مفتوحة، فبقي "من صالب"، وقد جاء البيت:

تنقل من صلبه إلى رحم ... إذا مضى طبق بدا طبق

لكنه نسب إلى حسان بن ثابت، وذلك فيما قال محمد بن عبد الله بن سليمان الخراساني: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن بيان، حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني، حدثنا ورقاء بن عمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فداك أبي وأمي، أين كنت و"آدم" في الجنة؟ قال: فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: «كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفتي: مهدي، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي، وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض لنوري والغمام لوجهي، وعلمني كتابه، ورقاني في سحابه، وشق لي اسما من أسمائه، فذو العرش محمود وأنا محمد، ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع، ثم أخرجني في خير


#310#

قرن لأمتي وهم الحمادون، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر».

قال ابن عباس: فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه وسلم:

قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع يوم يخصف الورق

ثم سكنت البلاد لا بشر ... أنت ولا نطفة ولا علق

مطهر تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقل من صلبه إلى رحم ... إذا مضى طبق بدا طبق

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله حسان بن ثابت»، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة.

وهذا منكر، تفرد به سلام بن سليمان بن سوار الثقفي المدائني الضرير ابن أخي شبابة بن سوار، وقد ضعفه غير واحد، وقد اشتهرت نسبة الأبيات إلى العباس بن عبد المطلب.

ومعنى قوله: "إذا مضى عالم" فـ "العالم" بالفتح: الناس في أحد معانيه، وهو الأليق بهذا المكان.

و"الطبق" في أحد معانيه: الجماعة من الناس؛ لأنهم يطبقون الأرض ثم ينقرضون ويأتي طبق آخر، أي: إنك يا رسول الله تنفك من صلب إلى رحم، إذا مضى ناس كنت فيه منتقلا بدا ناس آخرون تنتقل فيهم.


#311#

"حتى احتوى"، أي: استوى وغلب.

"بيتك": أي: شرفك ومجدك، تقول العرب، فلان كريم البيت وفلان من بيوتات العرب أي: من ذوي الشرف والكرم. قال أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين": أراد بـ "بيته": شرفه العالي، جعله في أعلى "خندف" بيتا.

وقوله: "المهيمن": فـ"المهيمن" له معان:

قال أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأزهري في كتابه "تفسير أسامي الرب سبحانه وتعالى": جاء في التفسير: أنه الأمين.

وقال الكسائي: إنه الشهيد.

وقال غيره: "المهيمن": الرقيب الحافظ.

وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن العزيز": وزعم بعض أهل اللغة أن "الهاء" بدل من "الهمزة"، وأن أصله "المؤيمن" كما قالوا: "إياك" و"هياك"، والتفسير يشهد لهذا القول؛ لأنه [جاء أنه] الأمين، وجاء أيضا: الشهيد [وتأويل الشهيد]: الأمين في شهادته.

وقول أبي إسحاق حكاه عنه أبو منصور الأزهري في كتابه الذي ذكرناه إلى قوله: "وهياك".


#312#

قال الأزهري: وهذا قول محمد بن يزيد المبرد. انتهى.

وقيل: "المهيمن": المؤمن، وقيل: المصدق، وبه فسر الحسن البصري قوله تعالى: {ومهيمنا عليه} أي: مصدقا لهذه الكتب أمينا عليها.

وقيل: "المهيمن": الشاهد وروي عن ابن عباس، وعليه قول الشاعر:

إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب

أي: شاهد لنبينا صلى الله عليه وسلم.

وقيل: "المهيمن": القائم.

قال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي في كتابه "تفسير أسامي الرب عز وجل": وقال بعض أهل اللغة: "الهيمنة": القيام على الشيء والرعاية له.

وأنشد:

ألا إن خير الناس بعد نبيه ... مهيمنه التاليه في العرف والنكر

يريد: القائم بعده على الناس بالرعاية لهم. انتهى.

واختلف في "المهيمن" هل هو صفة للبيت، أو المراد به: "يا أيها المهيمن"؟ على قولين، والثاني قاله الأزهري والقتيبي وغيرهما، فقال ابن قتيبة في "اشتقاق أسماء الله عز وجل": وأما قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلى الله عليه وسلم:


#313#

حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق

فإنه أراد: حتى احتويت يا مهيمن من خندف عليا، فأقام البيت مقامه؛ لأن بيته إذا حل بهذا المكان فقد حل هو به، وهو كما يقال: "بيته أعز بيت" وإنما يراد صاحبه، قال النابغة:

وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... تخال به راعي الحمولة طائرا

انتهى.

فإذا كان اسما للنبي صلى الله عليه وسلم فجميع معانيه صادقة عليه ، وكذلك إن كان صفة لبيته الذي هو أزكى البيوت، أي: بيتك الشاهد القائم المشرف على سائر البيوت:

ويروى: (حتى احتوى بيتك المهيمن) بنصب "بيتك" ورفع "المهيمن"، وأراد بـ "المهيمن": الله عز وجل.

وأما "خندف": فهي ست قبائل، أشرفها "قريش". قاله الأزهري.

والست قبائل ترجع إلى "خندف" وهي: امرأة إلياس بن مضر جد النبي صلى الله عليه وسلم، واسمها: ليلى فيما ذكره غير واحد، منهم: أبو عبيد الهروي، فذكر أنها ليلى القضاعية.

قلت: هي: ليلى بنت عمران بن الحاف بن قضاعة فيما قاله أبو عمر بن عبد البر.

وبعضهم زاد فقال: ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

وذكر بعضهم أن اسمها: تماضر بنت الحاف بن قضاعة.

وذكر بعضهم أن اسمها: تماضر بنت حلوان بن الحاف بن قضاعة.

وكانت امرأة معظمة، ملكة في قومها، من بيت العفة، ذات جمال


#314#

بارع وعقل ورأي، وكانت قد علقت بـ إلياس علاقة شديدة، فلما مرض إلياس جزعت عليه جزعا شديدا، وأقسمت أن لا تقيم ببلد مات فيه إلياس، ونذرت السياحة في الفيافي، فلما هلك إلياس ذهبت على وجهها، فلم يدر أين أخذت من بلاد الله.

ويروى: أن إلياس كانت وفاته يوم الخميس، فكانت إذا طلعت الشمس يوم الخميس بكت حتى تغيب، فصار فعلها مثلا تضربه العرب، وذكروه في أشعارها، فيروى: أن رجلا من همدان ماتت زوجته، فقيل له: ألا تبكي عليها؟ فقال: لو كان ذلك يردها لبكيت كما بكت خندف على إلياس.

وأنشد:

لو أنه يغني بكيت كخندف ... على الياس حتى ملها الشر يندب

إذا مؤنس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب

ولم تر عيناها سوى الدفن قبره ... فساحت وما يدرى إلى أين تذهب

ولم يغن شيئا طول ما بلغت به ... وما طَلَّها دهر وعيش معذب

فـ"مؤنس" هو: يوم الخميس، وقد تقدم ذكره في البيتين اللذين أنشدهما أبو الحسن بن سيده في "المحكم".

ويحكى: أن امرأة من غسان فقدت أخاها ثم أباها، فبكت دهرا طويلا، فنهاها القوم، فقالت:


#315#

تلحون سلمى أن بكت أباها

وقبلها قد ثكلت أخاها

فحولوا العذل إلى سواها

عصتكم سلمى إلى هواها

كما عصت خندف من نهاها

خلت بنيها أسفا وراها

تبكي على الياس فما أتاها

وكان لها من إلياس فيما قيل ثلاثة بنين: عمرو ويقال له: طابخة، وعامر وهو: مدركة جد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمير ويقال له: قمعة.

وقيل: لم يكن لها من إلياس ولا لإلياس سوى مدركة وطابخة، وليس بشيء، والصحيح الأول.

وقال أبو عبيد الهروي: ولدت له عمرا وعامرا وعميرا، فندت لهم إبل فخرجوا في طلبها، فأدركها عامر فسمي مدركة بن إلياس، واقتنص عمرو أرنبا فطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في بيته فسمي قمعة، فلما أبطأوا عليها –أي: على أمهم ليلى- خرجت تخندف في طلبهم –أي: تهرول- فسميت خندف. انتهى.

وقد روي في سبب تلقيبهم غير هذا، وهو: أن مدركة وطابخة كانا في إبل يرعيانها، فبينما هما يحولان إذ مر بهما قطعة من الغزلان، فاقتنص مدركة فحلا واقتنص طابخة أنثى، فقال له مدركة: إن ثدي هذه حديث عهد برضاع فأطلقها لأولادها، وفي هذا ما يكفينا، لعل أن تسلم لنا إبلنا بهذا الوادي، فإنا بوادي يثير عجاجه. فقال: ذاك بيدك، فأطلقاها،


#316#

فما استتم كلامه حتى ظهر من تحت العجاجة عشرة فيهم: رجلان راكبان أشهبين، وثمانية مشاة تقدمهم، فغدوا على الإبل فساقوها، فقال عامر –وكان شجاعا مقداما كريما- لعمرو أخيه: أتدرك الإبل- أم تطبخ هذا الصيد؟ فقال عمرو: بل أطبخ وأنت لها، فلحق عامر بالإبل وجال فيهم، فقالوا: أعامر أنت ابن إلياس بن مضر؟ قال: نعم.

فقالوا له: خذها؛ فإنا عزمنا أن لا نهاوش حسيبا ولا كريما، فجاء بها، وطبخ عمرو ونضجت برمته، وانقمع عمير، فلما قدموا على أبيهم حدثوه شأنهم، فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لـ عمرو: أنت طابخة، وقال لـ عمير: أنت قمعة، وأقبلت أمهم ليلى تخندف –وهو: ضرب من المشي كالهرولة- فقال إلياس: على من تخندفين؟ وقد وردت الإبل، فلزمها اللقب.

وقال النسابة هشام بن محمد بن السائب بن الكلبي في "جمهرة النسب": وكان "إلياس" خرج في نجعة له، فنفرت إبله من أرنب، فخرج إليها "عمرو" فأدركها فسمي "مدركة"، وخرج "عامر" فتصيد فطبخه فسمي "طابخة"، وانقمع "عمير" في الخباء فسمي "قمعة"، وخرجت أمهم "ليلى" تمشي، فقال لها الناس: أين تخندفين؟ فسميت "خندف"، والخندفة: ضرب من المشي.

قال: ولما انصرفوا وقد صنعوا ما سمي، قال لـ "عمرو": أنت قد أدركت ما طلبت. وقال لـ "عامر": وأنت قد أنضجت ما طبخت. وقال لـ "عمير": وأنت قد أسأت وانتقمت.


#317#

ويروى: أن رجلا على عهد "الزبير بن العوام" رضي الله عنه ظلم، فنادى بالخندف، فخرج "الزبير" وبيده السيف وهو يقول: خندف إليك أيها المخندف، والله لئن كنت مظلوما لأنصرنك.

و"النطق" في الأصل جمع "نطاق" وهو: ما تشد به المرأة وسطها فوق الثياب.

وقيل: "النطاق": إزار تحتبك المرأة في وسطه وترسل أعلاه على أسفله، تقيمه مقام السراويل.

وهذا البيت قوله: (حتى احتوى بيتك المهيمن) إلى آخره مثل ضربه في ارتفاع نسب نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه وعزه وتوسطه في عشيرته، حتى إن كل البيوت كانوا تحته بمنزلة النطاق من الاتساق، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه».

قاله أبو سعيد سعيد بن أبي سعيد كيسان المقبري المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى أبو عاصم: أخبرنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وتقلبك في الساجدين} قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت.

خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا أبو عاصم فذكره.


#318#

تابعه عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ولفظه: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء عليهم السلام، حتى ولدته أمه.

خرجه أبو بكر الآجري في كتابه "أحكام الشريعة" من طريق عطاء.

وجاء في لفظ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لم يزل تبارك وتعالى يتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى آدم فمن بعده، ولم تزل الأمم تتباشر به وتستفتح به، حتى أخرجه في خير أمة، في خير قرن، في خير أصحاب، في خير بلد.

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه: «ثم لم يزل –يعني: الله عز وجل- ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، حتى أخرجني من أبوي، لم يلتقيا على سفاح قط».

وأبواه هما:

"عبد الله بن عبد المطلب" أحسن رجل وأجمله رئي في زمانه.

و"آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" أفضل نساء قومها وأشرفهن نسبا وموضعا، وسيأتي –إن شاء الله تعالى- من ذكرها ما ييسر الله تعالى به.


#319#

&أمر "جرهم" ودفن "زمزم"، وحفر عبد المطلب إياها، ونذره ذبح ولده وما اتصل بذلك من أسماء "زمزم" وفضلها وفضل التضلع منها، والآبار التي كانت بمكة قبلها، وفداء عبد الله&

وقد قدمنا قبل أن "عبد الله" والد النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: "الذبيح"، وسبب تسميته بذلك أن إبراهيم عليه السلام لما ترك إسماعيل وأمه بمكة لم يكن بها أحد، وجاءت رفقة من "جرهم" فنزلوا شعاب مكة، وشب إسماعيل عليه السلام وتعلم العربية والرمي، وأنفسهم وأعجبهم، وزوجوه امرأتين منهم واحدة بعد واحدة، كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما.

واختلف في اسم امرأتي إسماعيل، فذكر أبو عبد الله الواقدي أن اسم التي عرض إبراهيم لابنه إسماعيل بفراقها: "جداء بنت سعد"، والثانية التي عرض بإمساكها اسمها: "شامة بنت مهلهل".

وحدث أبو الوليد الأزرقي في "التاريخ": عن جده: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني ابن إسحاق قال: ولد لإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثنا عشرة رجلا، وأمهم: السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولدت له اثني عشر رجلا: "نابت بن إسماعيل"


#320#

و"قيذار بن إسماعيل" و"واصل بن إسماعيل"، و"مياس بن إسماعيل" و"أذر بن إسماعيل"، و"طيمان بن إسماعيل"، و"قطور بن إسماعيل"، و"قيس بن إسماعيل"، و"قيدمان بن إسماعيل".

وكان عمر "إسماعيل" –فيما يذكرون –ثلاثين ومائة سنة.

كذا ذكر من الاثني عشر: تسعة.

قال ابن إسحاق عن زوجة "إسماعيل"، قال: هي: بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولد لإسماعيل اثنا عشر عظيما منهم: "قيذر" و"نبت".

ذكره ابن قتيبة عن ابن إسحاق.

[وكانت][15] ولاية البيت –فيما رويناه- بعد إسماعيل عليه السلام لابنه "نابت"، ثم وليه بعد "نابت": "مضاض بن عمرو الجرهمي" جد "نبت" أبو أمه، ثم لم يزل بنوه يتوارثون إلى زمن "عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو بن سعد الجرهمي" أحد المعمرين المشهورين.

وفي زمن "عمرو" استخف قومه بالحرم وكثر بغيهم فيه، فأخرجه الله عز وجل عن جوار بيته بأيدي "خزاعة"، فخرج "عمرو بن الحارث الجرهمي" بغزالي الكعبة وبحجر الركن وبنفائس لهم فيما قيل، فدفنها في "زمزم" وعفى أثرها.


#321#

وقيل: إن "عمرو بن الحارث" أظهر التوبة عند استيلاء خزاعة عليه وخرج بغزالي الكعبة وحجر الركن يلتمس التوبة، وهو يقول:

لاهم إن جرهما عبادك

الناس طارف وهم تلادك

فلم تقبل توبته، فألقى غزالي الكعبة وحجر الركن في "زمزم" ودفنها، وانطلق هو ومن معه من "جرهم" إلى اليمن، وحزنوا على ما فارقوا أمر مكة وملكها حزنا شديدا، فقال "عمرو" في ذلك –وهو فيما زعموا من أول شعر قيل في العرب-:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر


#322#

ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر

في أبيات منها:

فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر

وقال عمرو أيضا يخاطب بكرا وغبشان الذين خلفوهم بمكة وأخذوها منهم:

يا أيها الحي بالنعف المبنونا ... هبوا، فما لي أراكم لا تهبونا

إذ قال ركب لركب سائرين معا ... لا بد أن تسمعونا أو تنبونا

يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

كنا أناسا بها دهرا فغيرنا ... فسوف أيضا كما كنا تكونا


#323#

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

قضوا أموركم بالحزم إن له ... أمرا رشيدا لمن يأتيه ميمونا

في أبيات، منها:

إنا عمرنا بدهر كان يعجبنا ... حتى أتانا زمان كان للهونا

كنا خيار ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا

فمال دهر علينا ثم أهلكنا ... بالبغي فيه، فكل الناس يأسونا

وقد رويت هذه القصة على خلاف ما ذكر، فيما حدث به أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الأزرقي في "تاريخه": عن جده، حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، عن الكلبي، عن أبي صالح قال: لما طالت ولاية "جرهم" استحلوا من الحرم أمورا عظاما،


#324#

ونالوا ما لم يكونوا ينالون، واستخفوا بحرمة الحرم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سرا وعلانية، وكلما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه، وظلموا من دخلها من غير أهلها، حتى دخل رجل منهم بامرأة الكعبة، فيقال: فجر بها أو قتلها، فمسخا حجرين، فرق أمرهم فيها، وضعفوا، وتنازعوا أمرهم بينهم، واختلفوا، وكان قبل ذلك من أعز حي في العرب، وأكثرهم أموالا وسلاحا، وأعز عزة، فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له: "مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو"، قام فيهم خطيبا فقال: يا قوم، أبقوا على أنفسكم، وراقبوا الله في حرمه وأمنه، فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من صدر هذه الأمم قبلكم: قوم هود وصالح وشعيب، فلا تفعلوا تواصلوا وتواصوا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، ولا تستخفوا بحرم الله وبيته الحرام، ولا يغرنكم ما أنتم فيه من الأمن والقوة فيه، وإياكم والإلحاد فيه بالظلم فإنه بوار. وايم الله، لقد علمتم أنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلا قطع الله عز وجل دابرهم، واستأصل شأفتهم، وبدل أرضها غيرهم، فاحذروا البغي؛ فإنه لا بقاء لأهله، قد رأيتم وسمعتم من سكنه قبلكم من "طس" و"جديس" و"العماليق" ممن كان أطول منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا، فلما استخفوا بحرم الله وألحدوا فيه بالظلم أخرجهم الله منها


#325#

بالأنواع الشتى، فمنهم من أخرج بالذر، ومنهم من أخرج بالجدب، ومنهم من أخرج بالسيف، وقد سكنتم مساكنهم، وورثتم الأرض من بعدهم، فوقروا حرم الله عز وجل، وعظموا بيته الحرام، وتنزهوا عنه وعما فيه، ولا تظلموا من حله وجاء معظما لحرماته، أو جاء بائعا لسلعته، أو مرتغبا في جواركم، فإنكم إن فعلتم ذلك تخوفت أن تخرجوا من حرم الله خروج صغار، حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم ولا إلى زيارة البيت الذي هو حرز وأمن، والطير والوحش فيه.

فقال له قائل منهم يرد عليه –يقال له: مجدع-: من الذي يخرجنا منها؟ ألسنا أعزاء البيت وأكثرهم رجلا وسلاحا؟!

فقال له "مضاض بن عمرو": إذا جاء الأمر بطل ما تقولون.

فلم يقصروا عن شيء مما كانوا يصنعون، فلما رأى "مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو" وما تعمل "جرهم" في الحرم، وما يسرق من مال الكعبة سرا وعلانية عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب وأسياف قلعية فدفنها في موضع "بئر زمزم"، وكان ماء "زمزم" قد نضب ماؤه وذهب لما أحدثت "جرهم" في الحرم ما أحدثت، حتى غبي مكان البئر ودرس، فقام "مضاض بن عمرو" وبعض ولده في ليلة مظلمة، فحفر في موضع "زمزم" وأعمق، ثم دفن فيه الأسياف والغزالين، فبينما هم على ذلك إذ كان من أهل "مأرب" ما ذكر.

وذكر القصة بطولها، وفيها: إن "عمرو بن عامر" وهو من "بقياء بن ماء السماء" انتهى إلى مكة بقومه، واقتتلوا مع "جرهم" ثلاثة أيام، ثم انهزمت "جرهم" فلم ينفلت منهم إلا "الشريد"، وكان "مضاض بن عمرو بن الحارث" قد اعتزل "جرهم" ولم يعن "جرهم" في ذلك، وقال: قد كنت أحذركم هذا.


#326#

ثم رحل هو وولده وأهل بيته. وذكر بقيته إلى أن قال: وانخزعت "خزاعة" بمكة، فأقام بها "ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر" وهو لحي، فولي أمر مكة وحجابة البيت.

وذكر: أن "مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي" نزعت له إبل، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة، فمضى على الجبال من نحو أجياد، حتى ظهر على "أبي قبيس" يتبصر الإبل في بطن وادي مكة، فأبصر الإبل تنحر وتؤكل، لا سبيل له إليها، يخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فولى منصرفا إلى أهله، وأنشأ يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

الأبيات بنحو ما تقدمت وبعدها.

وقال أيضا:

يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

إنا كما كنتم كنا فغيرنا ... دهر، فسوف كما صرنا تصيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

وذكر بقية الأبيات.

وهذه الأبيات الثلاثة الأول وجدها "مالك بن دينار" مكتوبة على قبر، وذلك فيما خرجه أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في


#327#

كتابه "الديباج" فقال: حدثنا علي بن مسلم، حدثنا سيار، حدثنا جعفر، سمعت مالك بن دينار يقول: مررت بطريق الشام فإذا قبر عليه مكتوب:

يا أيها الركب، سيروا إن قصركم

الأبيات بنحوها.

تابعه أبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد، فحدث به في كتاب "الزهد" لأبيه: عن علي بن مسلم وعن هارون بن عبد الله ، كلاهما عن سيار. وحدث به أيضا عن سويد بن سعيد وغيره، عن حماد بن واقد الصفار، عن مالك بن دينار.

وحدث به أبو نعيم في "الحلية" عن فاروق بن عبد الكبير، حدثنا هشام بن علي السيرافي، حدثنا فطر بن حماد، حدثنا أبي، حدثنا مالك قال: أتيت على قبر فإذا عليه مكتوب:

يا أيها الركب حثوا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر، فسوف كما كنا تكونونا


#328#

وقد وجدت أيضا على حجر في بئر باليمامة وذلك فيما روي عن عبد الله بن عبد السلام البصري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن سليمان التمار، أخبرني ثقة، عن رجل من أهل اليمامة قال: وجد في بئر باليمامة ثلاثة أحجار، وهي بئر "طسم" و"جديس".

وذكر القصة، وفي آخرها: وفي الحجر الثالث مكتوب:

يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا

حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا

كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر، فأنتم كما كنا تكونونا

وقال القاسم بن ثابت في "الدلائل": وحدثنا إبراهيم، حدثنا محمد بن إدريس، حدثنا سفيان، سمعت أبا حمزة، عن عكرمة، عن رجل من قريش: أنهم كانوا في سفينة، فحجتهم الريح –أو قال: كسرت- نحو جزائر قرسان، قال الرجل: فبينما أمشي إذ لقيني شيخ فسألني: من أنت؟ فقلت: رجل من قريش من أهل مكة. فتنفس ثم قال: واها لمكة! ثم أنشأ يقول:


#329#

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى، نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

قال: قلت: من أنت –يرحمك الله؟ قال: امرؤ من "جرهم".

قال: وكان "سفيان" ربما أنشد هذا الشعر فزاد فيه.

وأبدلنا زيد بها دار غربة ... بها الجوع باد والعدو المحاصر

ولم نتربع واسطا فجنوبه ... إلى الشيء من وادي الأراكة حاضر

قال القاسم: و"واسط": الجبل الذي يجلس عنده المساكين إذا ذهبت إلى "منى".

وقال أبو الوليد الأزرقي محمد بن عبد الله بن أحمد في "تاريخه": حدثني محمد بن يحيى، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال: خرج


#330#

أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه قبيل الإسلام في نفر من قريش يريدون اليمن، فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق، وأمسوا على غير الطريق، فساروا جميعا، فقال لهم أبو سلمة: إني أرى ناقتي تنازعني شقاء، أفلا أرسلها وأتبعها؟ قالوا: فافعل. فأرسل ناقته وتبعها، فأصبحوا على ماء وحاضر، فاستقوا وسقوا، فإنهم لعلى ذلك إذ أقبل رجل فقال: من القوم؟ فقالوا: من قريش.

قال: فرجع إلى شجرة أمام الماء، فتكلم عندها بشيء.

قال: ثم رجع إلينا فقال: لينطلقن معي أحدكم إلى رجل يدعوه.

فقال أبو سلمة رضي الله عنه: فانطلقت معه، فوقف بي تحت شجرة، فإذا وكر معلق، فصوت إليه يا أبه. فزعزع شيخ رأسه، فأجابه، فقال هذا الرجل:

فقال لي: ممن الرجل؟

قلت: من قريش.

قال: من أيها؟

قلت: من "بني مخزوم بن يقظة".

قال: أيهم؟

قلت: "أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة".

قال: أيهات منك، أنا و"يقظة" سن واحد، أتدري من يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر


#331#

بلى، نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر

قلت: لا.

قال: أنا قائلها، أنا "عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي"، أتدري لم سمي "أجياد" "أجيادا"؟

قلت: لا.

قال: جادت بالدماء يوم التقينا نحن وقطوراء.

أتدري لم سمي "قعيقعان"؟

قلت: لا.

قال: لتقعقع السلاح في ظهورنا لما طلعنا عليهم منه.

وذكره معلقا أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون في كتابه "التذكرة".

وتمت ولاية البيت بأيدي "خزاعة"، وتولاه "عمرو بن لحي" –وهو: "ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر"- وولده من بعده خمس مائة سنة، إلى أن كان آخرهم "حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة" وهو "لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء الخزاعي".

و"حبشية" في هذا النسب هي بفتح الحاء والباء، في كتاب


#332#

"المؤتلف والمختلف" لأبي جعفر محمد بن حبيب النحوي.

قال القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني في "تهذيبه" لهذا الكتاب: هكذا في بعض النسخ: بفتح الحاء والباء، وفي بعضها: "حبشية" بإسكان الباء وتخفيف الياء، وفي بعضها بالتشديد أيضا. انتهى.

ومن "حليل" هذا انتهت ولاية البيت إلى "قصي بن كلاب" كما تقدم ذكره.

وتناسى الناس أمر "زمزم" إلى زمن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم فأمر في المنام بحفرها.

قال عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل": حدثني أبي، حدثني معمر، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: كان عكرمة يحدث سليمان بن عبد الملك عن عبد المطلب وحفر زمزم، فقال له سليمان: ما أحسن حديثك لولا أنك تفخر علينا.

وقال أيضا: حدثني أبي قراءة على يعقوب في "مغازي ابن إسحاق" مما روي عن أبيه، ثم إن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بينا هو نائم في الحجر أتي فأمر بحفر "زمزم" وهي دفن


#333#

بين: "إساف" و"نائلة" عند منحر قريش، كانت "جرهم" دفنتها حين ظعنوا عن مكة وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام التي سقاه الله حين ظمئ وهو صغير، فلما حفرها عبد المطلب ودله الله عليها وخصه الله بها؛ زاده الله بها شرفا وخطرا في قومه، وعطلت كل سقاية كانت بمكة حين ظهرت، وأقبل الناس عليها التماس بركتها ومعرفة فضلها، لمكانها من البيت وأنها سقيا الله عز وجل إسماعيل عليه السلام.

وقال محمد بن عمر الواقدي فيما حدث به عنه كاتبه محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" قال: وكان "زمزم" سقيا من الله، أتي –يعني: عبد المطلب- في المنام مرات، فأمر بحفرها، ووصف له موضعها، فقيل له: احفر "طيبة". فقال: وما "طيبة"؟

فلما كان من الغد أتاه فقال: احفر "برة". فقال: وما "برة"؟

فلما كان من الغد أتاه وهو نائم في مضجعه ذلك فقال: احفر "المضنونة". قال: وما "المضنونة"؟ أبن لي ما تقول.

قال: فلما كان الغد أتاني فقال: احفر "زمزم". قلت: وما "زمزم"؟ قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين: الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم.


#334#

قال: وكان غراب أعصم لا يبرح، عند الذبائح –وهو شرف لك ولولدك.

فغدا عبد المطلب بمعوله ومسحاته، معه ابنه "الحارث بن عبد المطلب" وليس له يومئذ غيره، فجعل "عبد المطلب" يحفر بالمعول ويغرف بالمسحاة في المكتل ، فيحمله "الحارث" فيلقيه خارجا، فحفر ثلاثة أيام، ثم بدا له الطوي، فكبر وقال: هذا طوي إسماعيل عليه السلام.

فعرفت قريش أنه قد أدرك الماء، فأتوه فقالوا: أشركنا فيه.

قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم، فاجعلوا بيننا وبينكم من شئتم أحاكم إليه.

فقالوا: "كاهنة بني سعد بن هذيم". وكانت بمعان من أشراف الشام.

فخرجوا إليها، وخرج مع عبد المطلب عشرون رجلا من بني عبد مناف، وخرجت قريش بعشرين رجلا من قبائلها. فلما كان بـ


#335#

"الفقير" –من طريق الشام- أو حذوه فني ماء القوم جميعا، فعطشوا، فقالوا لعبد المطلب: ما ترى؟

قال: هو الموت، فليحفر كل رجل منكم حفيرة لنفسه، فكلما مات رجل دفنه أصحابه، حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فيموت ضيعة، أيسر من أن تموتوا جميعا، فحفروا، ثم قعدوا ينتظرون الموت.

فقال عبد المطلب: والله، إن إلقاءنا بأيدينا هكذا لعجز، ألا نضرب في الأرض فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض هذه البلاد.

فارتحلوا، وقام عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجر تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، وشربوا جميعا، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء الرواء، فقد سقانا الله.

فشربوا واستقوا، وقالوا: قد قضي لك علينا، الذي سقاك هذا الماء بهذه البلاد هو الذي سقاك "زمزم"، فوالله لا نخاصمك فيها أبدا.

فرجع ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين "زمزم".

وما علقه الواقدي حدث به ابن إسحاق مطولا، فقال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري، عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن


#336#

عبد الله بن زرير الغافقي: أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحدث حديث "زمزم" حين أمر عبد المطلب بحفرها، قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر، إذ أتاني آت فقال: احفر "ظيبة".

قال: قلت: وما "ظبية"؟

قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني، فقال: احفر "برة".

قال: قلت: وما "برة"؟

قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجائني فقال: احفر المضنونة". قال: قلت: وما "المضنونة"؟

قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني، فقال: احفر "زمزم".

قال: قلت: وما "زمزم"؟ قال: لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين: الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.

فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق؛ غدا بمعوله ومعه ابنه "الحارث بن عبد المطلب" ليس له يومئذ ولد غيره، فحفر، فلما بدا لعبد

المطلب الطي كبر.


#337#

فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها.

قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم.

فقالت قريش لعبد المطلب: أنصفنا؛ فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.

قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم.

قال: نعم.

وكانت بأشراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر.

قال: والأرض إذ ذاك مفاوز.

قال: فخرجوا، حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم وقالوا: إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم.

فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا ترون؟

قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت.

قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما يلم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته، ثم واراه، حتى


#238#

[يكون] آخرهم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا.

قالوا: نعم ما أمرته.

فقام كل رجل منهم، فحفر حفرته لنفسه، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله، إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا.

فارتحلوا: حتى إذا فرغوا ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب فكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء، فقد سقانا الله، فاشربوا واستقوا.

فجاؤوا وشربوا واستقوا، ثم قالوا: والله، قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في "زمزم" أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو سقاك "زمزم"، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع، ورجعوا معه، ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها.

قوله في هذا الحديث: "برة" أي: واسعة الخير.

و"ظبية": شبهها بالظبية التي هي كالخريطة للدنانير.


#339#

و"المضنونة": الخلوق، والطيب يضن به لنفاسته، فكذلك "زمزم"، هكذا فسره بعضهم، والمشهور: "طيبة" من "طابت" فهي "طيبة".

قال أبو القاسم السهيلي: فسميت "طيبة" لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهبم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم.

وقيل له: "احفر برة" وهو اسم صادق عليها أيضا؛ لأنها فاضت للأبرار وغاضت عن الفجار.

وقيل له: "احفر المضنونة" قال وهب بن منبه: سميت زمزم "المضنونة"؛ لأنها ضن بها على غير المؤمنين فلا يتضلغ منها منافق.

قال السهيلي أيضا: وفي تسميتها بـ"المضنونة" رواية أخرى رواها الزبير: أن عبد المطلب: قيل له: "احفر المضنونة؛ ضننت بها على الناس إلا عليك". أو كما قال. انتهى.

وقال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي في "المغازي": حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: بينما "عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف" نائم في الحجر عند الكعبة أتي فأمر بحفر زمزم، ويقال: إنها لم تزل دفينا بعد ولاية بني إسماعيل الأكبر و"جرهم"، حتى أمر بها عبد المطلب، فخرج عبد المطلب إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إني قد أمرت أن أحفر "بئر زمزم".


#340#

فقالوا له: بين لنا أين هي؟ فقال: لا.

قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت، فإن كان حقا من الله بين لك، وإن كان من الشيطان لم يعد لك.

فرجع فنام في مضجعه، فأتي فقيل له: "احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهي تراث من أبيك الأقدم، لا تنزف الدهر ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام جافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمغنم، فهي ميراث وعقد محكم، ليست كبعض ما قد يعلم، وهي بين الفرث والدم".

فقال حين قيل له ذلك: فأين هي؟

فقيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا.

فغدا "عبد المطلب" ومعه ابن "الحارث" ليس له ولد غيره، فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثين: "إساف" و"نائلة" اللذين كانت قريش تنحر عندهما.

قال: فجاء عبد المطلب بالمعول فقام ليحفر، فقالت له قريش حين رأوا جده: والله لا ندعك تحفر بين صنمينا هذين اللذين ننحر عندهما.

فقال "عبد المطلب" لابنه "الحارث": دعني أو ذد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به.

فلما رأوا منه الجد خلوا بينه وبين الحفر، فكفوا عنه، فلم يمكث إلا قليلا حتى بدا له الطوي، فكبر، فعرفت قريش أنه قد صدق


#341#

وأدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا، فأشركنا معك فيها.

فقال: ما أنا بفاعل، وإن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم.

قالوا: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.

قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أخاصمكم إليه.

قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم.

فقال: نعم. وكانت بأشراف الشام.

وذكر بقيته بنحوه.

وروى عبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني في أول كتابه "المغازي": عن معمر، عن الزهري قال: أول ما ذكر من عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قريشا خرجت من الحرم فارة من أصحاب الفيل، وهو غلام شاب، فقال: والله، لا أخرج من حرم الله أبتغي العز في غيره.

فجلس عند البيت وأجلت عنه قريش، فقال:

اللهم إن المرء يمنع رحله ... فامنع رحالك

لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك

فلم يزل بائنا في الحرم حتى أهلك الله الفيل وأصحابه، فرجعت قريش وقد عظم فيهم بصبره وتعظيمه، فبينما هم على ذلك، وقد ولد


#342#

أكبر بنيه، فأدرك –وهو: "الحارث بن عبد المطلب"، أتي عبد المطلب في المنام فقيل له: احتفر .زمزم: خبيئة الشيخ الأعظم.

قال: فاستيقظ فقال: "اللهم بين لي" فأري في النوم مرة أخرى. احتفر تكتم بين الفرث والدم، في مبحث الغراب في قرية النمل، مستقبلة الأنصاب الحمر.

قال: فقام عبد المطلب فمشى، حتى جلس في المسجد الحرام ينظر ما سمي له من الآيات، فنحرت بقرة بـ"الحزورة" فأفلتت من جازرها بحشاشية نفسها، حتى خشي عليها الموت في المسجد في موضع "زمزم" فجزرت تلك البقرة في مكانها، حتى احتمل لحمها، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث، فبحث عن قرية النمل، فقام عبد المطلب يحفر هنالك.

فجاءته قريش، فقالوا لعبد المطلب: ما هذا تصنع، إنا لم نكن نزنك بالجهل، لم تحفر في مسجدنا؟

فقال عبد المطلب: إني لحافر هذه البئر، ومجاهد من صدني عنها.

فطفق يحفرها هو وابنه "الحارث" وليس له ولد يومئذ غيره، فيسفه عليه ناس من قريش، لما يعلمون من عتق نسبه وصدقه واجتهاده في دينهم يومئذ، حتى إذا أمكن الحفر، واشتد عليه الأذى، نذر إن وفى له عشرة من الولد أن ينحر أحدهم، ثم حفر حتى أدرك سيوفا دفنت في "زمزم" حين دفنت.


#343#

فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالوا لعبد المطلب: أخذنا مما وجدت.

فقال عبد المطلب: بل هذه السيوف لبيت الله.

ثم حفر حتى أنبط الماء، فحفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف، ثم بنى عليها حوضا، فطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض فيشرب منه ذلك الحاج، فيكسره ناس من حسدة قريش بالليل، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح.

فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه، فأري في النوم، فقيل له: قل: اللهم إني لا أحلها لمغتسل ولكن لشارب حل وبل، ثم كفيتهم.

فقام عبد الملطب حين احتفرت قريش في المسجد، فنادى بالذي رأى، ثم انصرف، فلم يكن يفسد عليه حوضه أحد من قريش إلا رمي بداء في جسده، حتى تركوا له حوضه ذلك وسقايته.

وحدث بنحوه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" فقال: حدثني مهدي بن أبي المهدي، حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر، عن الزهري.

تابعه موسى بن المساور الضبي، عن عبد الله بن معاذ الصنعاني مطولا.


#344#

وحكى الزبير بن بكار: أن عبد المطلب لما حفر "زمزم" وأدرك منها ما أدرك وجدت قريش في أنفسها، فلقيه "خويلد بن أسد بن عبد العزى" فقال: يا ابن سلمى، لقد سقيت ماء رغدا، ونثلت عادية حتداء.

قال: يا ابن أسد، أما إنك تشرك في فضلها، والله لا يساعفني أحد عليها ببر، ولا يقوم معي بأزر إلا بذلت له خير الصهر.

فقال خوليد بن أسد:

أقول وما قولي عليهم بسبة ... إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم

حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر ... وركضة جبريل على عهد آدم

فقال عبد المطلب: ما وجدت أحدا ورث العلم إلا قدم غير "خويلد بن أسد".

وقصة حفر عبد المطلب "زمزم" جاءت من طرق غير ما ذكر:


#345#

منها ما قاله حامد بن شعيب: حدثنا سريج بن يونس، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الأعلى بن [أبي] المساور، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي عبد المطلب في المنام فقيل له: احفر "برة". قال: وما"برة"؟ قال: "مضنونة" ضن بها على الناس وأعطيتموها.

قال: فلما أصبح جمع قومه فأخبرهم، فقالوا: ألا سألته ما هي؟

فلما كان من الليل أتي في منامه، فقيل له: احفر. قال: وما أحفر؟

قال: احفر "زمزم" بركة من الله ومغنى، تسقي الحجيج ومعشرا جما.

فلما أصبح جمع قومه فأخبرهم، فقالوا: ألا سألت: أين موضعها؟

فلما بات من الليل أتي فقيل له: احفر. قال: أين؟ قال: موضع "زمزم". قال: وأين موضعها؟ قال: مسلك الدر، وموقع الغراب: بين الفرث والدم.

فلما أصبح دعا قومه فأخبرهم، فقالوا: هذا موضع نصب "خزاعة" ولا يدعونك.

وكان ولده جميعا غيبا إلا "الحارث"، فقام هو و"الحارث" فحفر حتى استخرجا غزالا من ذهب وفضة، ثم حفرا حتى استخرجا سيوفا ملفوفة في عباء، ثم حفرا حتى استنبطا الماء، فأتاه قومه، فقالوا: يا عبد المطلب، خذ واغنم. فقال: ائتوني بقداح ثلاثة: أسود، وأبيض، وأحمر.


#346#

فجعل الأسود لقومه، والأحمر للبيت، والأبيض له، فضرب بها فخرج الأسود على الغزال فصار لقومه، ثم ضرب فخرج الأحمر على الحلية وصار السيوف له.

خرجه أبو نعيم في "الحلية" لحامد بن شعيب عن سريج.

تابعه أحمد بن عبيد بن إدريس الزينبي، عن يزيد بن هارون نحوه.

وقد روينا: أن عبد المطلب لما حفر "زمزم" وأخرج ما كان ألقاه فيها "عمرو بن الحارث الجرهمي" من غزالي الكعبة والسلاح، فقالت له قريش: يا عبد المطلب، لنا معك في هذا شرك وحق.

فقال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح.

قالوا: وكيف تصنع؟

قال: أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له.

فقالوا: أنصفت.

فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند "هبل"، وقام عبد المطلب يدعو الله تعالى ويقول:

اللهم أنت الملك المحمود ... ربي وأنت المبدئ المعيد


#347#

من عندك الطارف والتليد ... إن شئت ألهمت لما تريد

في أبيات غير ذلك.

قال: وضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، فضربهما عبد المطلب صفائح وجعلها في باب الكعبة، فكان أول ذهب حليته. وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، فأخذها. وتخلف قدحا قريش، وعظم شأن عبد المطلب وعز أمره، وصارت "زمزم" له.

$*[ما روي في أسماء زمزم وفضلها]:$

وسميت بئر مكة "زمزم" لكثرة مائها.

وقيل: لأن أم إسماعيل حوضت عليها. وزمت الحوض بالتراب لئلا ينبعث الماء.

وقيل: سميت بذلك لصوت الماء وانبثاقه لما خرج، وقيل غير ذلك.

و"زمزم" لا تنصرف للتأنيث والعلمية، وحكى أبو عبيد البكري في "المعجم": ضم أوله، وفتح الميم مخففة ومثقلة، وكسر ثالثه فيهما. وهو غريب.

وحكي: "زمازم".


#348#

ولها أسماء أخرى، منها: "همزة جبريل"؛ لأن جبريل عليه السلام همز بعقبه فانبثق الماء، وقيل: "هزمة جبريل".

حدث بونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ما زلنا نسمع أن "زمزم" "هزمة جبريل" عليه السلام بعقبه لإسماعيل حين ظمئ.

وسيأتي –إن شاء الله تعالى- قريبا من طريق: سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا، بزيادة فيه.

و"الهزمة": تطامن في الأرض، و"هزمة البئر": حفرتها، و"الهزائم": الآبار الكبيرة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: سئل كعب عن "زمزم" فقال: خفقة جبريل بجناحه.

ومن أسمائها: "أم العيال" و"شباعة:" بالمعجمة والموحدة المشددة.

وقال أبو عبيد البكري في "معجمه": وهي "الشياعة" بتشديد الشين المعجمة وتشديد الياء –أخت الواو- والعين المهملة.

وعزاه البكري إلى أبي عمر الزاهد، وهو غريب، ويعضد أنه بالموحدة لا بالمثناة تحت ما رواه أبو العباس الرياشي في "أخباره"


#349#

فقال: حدثنا عبد الله بن عمر القيسي، عن عمرو بن ثابت، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد ابن الحنفية، عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا إذا أصبحنا ليس لنا صبوح ولا غبوق أمرنا أبو طالب أن نأتي "زمزم" فنشرب منها، فنظل شباعا.

وروى سليم بن مسلم، عن سفيان الثوري، عن العلاء بن أبي العباس، عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: كانت "زمزم" تسمى في الجاهلية "شباعة" ، ويزعمون أنها نعم العون على العيال.

وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع عن سفيان.

وحدث الواقدي، عن ابن أبي سبرة، عن عمرو بن عبد الله العبسي، عن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، عن عبد الله بن غنمة، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما قال: تنافس الناس في "زمزم" في الجاهلية، حتى إن كان أهل العيال يغدون بعيالهم فيشربون منها فتكون صبوحا لهم، وقد كنا نعدها عونا على العيال.


#350#

وروينا من طريق الكديمي، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن الجمحي، عن عمر بن عبد الله العبسي. فذكره.

وخرج الحافظ أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن في "صحيحه" من حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في "زمزم": «إنها مباركة، وإنها طعام طعم وشفاء سقم».

وخرج البزار في "مسنده" بسند جيد رجاله ثقات عن أبي ذر بنحوه.

وهو في "مسند أبي داود الطيالسي".

وخرجه مسلم في "صحيحه" دون قوله: «وشفاء سقم».

وقال أبو أحمد بن عدي: حدثنا محمد –يعني: ابن أحمد بن حسين الأهوازي الجريجي، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا ابن عون، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا: «زمزم طعام طعم وشفاء سقم».

هذا من مناكير "الجريجي" هذا، وهو متهم.

وقال البخاري في "تاريخه الكبير": قيس بن شفي عن ابن عباس


#351#

رضي الله عنهما قال: «زمزم طعام طعم، وشفاء سقم، وخير ماء يعلم». قاله عمرو بن علي، عن مؤمل، عن سفيان، عن أبي إسحاق –يعني: عن قيس بن شفي- وقال يحيى القطان: "قيس بن كركم"، وقال ابن مهدي: يروي أبو إسحاق عن ابن كركم الأحدب المخزومي، وروى لنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن قيس بن شفي عن ابن عباس مثله. وقال عمرو: فسمعت يحيى بعد يقول: "قيس" ولا يقول: "ابن كركم"، وقال وكيع: عن سفيان عن أبي إسحاق عن سعيد بن شفي عن ابن عباس، ولا يصح.

قوله في هذا الحديث: «وخير ماء يعلم»، فيه إطلاق يعم المياه كلها، وهو دليل لما قاله شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني: إن ماء "زمزم" أفضل من "الكوثر"؛ لأن به غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يغسل إلا بأفضل المياه.

وهو في "معجم الطبراني الأوسط" قال: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا مسكين بن بكير، حدثنا محمد بن مهاجر، عن إبراهيم بن أبي حرة، عن مجاهد، عن ابن


#352#

عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم وشفاء من السقم، وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت، نقبة بحضرموت، عليه كرجل الجراد من الهوام، تصبح تندفق، وتمسي لا بلال بها».

لم يرو هذا الحديث عن "إبراهيم بن أبي حرة" إلا "محمد بن مهاجر"، ولا عن "محمد" إلا "مسكين بن بكير"، تفرد به الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. قاله الطبراني.

وخرجه أيضا في "المعجم الكبير".

وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" بنحوه.

وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، أخبرنا أبو إسحاق، عن قيس بن كركم قال: سألت ابن عباس فقلت: أخبرني عن "زمزم"؟ فقال: أخبرك بعلم: لا تنزع، ولا تنزف، ولا تذم، طعام من طعم، وشفاء من سقم.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل": حدثني أبي، حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد، عن عبد الله بن


#353#

إبراهيم بن قارظ، أن زبيد بن الصلت أخبره: أن كعبا قال لزمزم: برة مضنونة ضن بها لكم، أول من أخرجت له إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ونجدها طعام طعم وشفاء سقم.

وروى داود بن عمرو، عن إسماعيل بن عياش، حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم قال: قدم علينا وهب، فطفق لا يشرب ولا يتوضأ إلا من ماء "زمزم"، فقيل له: ما لك عن الماء العذب؟ فقال: ما أنا بالذي أشرب ولا أتوضأ حتى أخرج منها إلا من ماء "زمزم"، إنكم لا تدرون ما ماء "زمزم"، والذي نفس وهب بيده؛ إنها لفي كتاب الله، لا يتعمد إليها امرؤ من الناس يتضلع منها ريا ابتغاء بركتها إلا نزعت داء وأحدثت له شفاء.

أخبرنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله السعدي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الولي –بقراءتي عليه-، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد المقدسي سماعا في يوم الأربعاء ثامن رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة، أخبرنا: أبو محمد عبد الله بن ذهيل بن كارة الحزمي وأبو الفتوح يوسف بن المبارك بن كامل الخفاف كتابة، قالا: أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد الفراء، أخبرنا أبو الحسن علي بن معروف بن محمد البزار، أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، حدثنا أحمد –يعني: ابن بكار، حدثنا عتاب –هو: ابن بشير-، عن حصين، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما من رجل يشرب من ماء "زمزم" حتى يتضلع إلا حط الله عز وجل


#354#

منه داء وأمن جوفه، ومن شربه للعطش روي، ومن شربه من جوع شبع.

قال: وقال: النظر في "زمزم" عبادة، والنظر في "زمزم" يحط الخطايا حطا.

خرجه أبو نعيم في "الحلية" لداود.

ومن فوائد "زمزم": ما ذكره الفاكهي: إن من حثا على رأسه ثلاث حثيات من ماء "زمزم" لم يصبه ذلة أبدا.

ومن أسمائها: "الرواء".

قال عبد الله ابن الإمام أحمد أيضا في "العلل": حدثني أبي، حدثني روح، حدثنا حماد –يعني: ابن سلمة-، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: بينما العباس رضي الله عنه في "زمزم" وهم ينزحون ماءها يخافون أن تنزح، إذ جاء كعب فقال: انزعوا، ولا تخافوا، فوالذي نفسي بيده، إني لأجدها في كتاب الله "الرواء".

قال العباس: فأي عيونها أغزر؟

قال: التي تجيء من قبل الحجر.

فقال العباس: صدقت. ثم قال العباس: من أنت؟ قال: أنا كعب.

وخرج الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "شعب الإيمان" من حديث


#355#

سويد بن سعيد، عن ابن أبي الموالي، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له».

قال البيهقي: تفرد به سويد بن سعيد عن ابن أبي الموالي. انتهى.

وقال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأزدي: حدثنا يوسف بن القاسم الميانجي، حدثنا القاسم بن عباد بالبصرة، حدثنا سويد بن سعيد: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى "زمزم" فاستسقى منه شربة، ثم استقبل الكعبة فقال: اللهم، إن ابن أبي الموالي حدثني عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له»، وهذا أشربه لعطش القيامة.

وخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد".

وفي هذا ما يدل أن "سويدا" لم ينفرد به، والله أعلم.

والحديث الأول خرجه الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي –رحمه الله وإيانا- في جزء جمعه.

وقال فيما أنبأونا عنه: هذا حديث على رسم الصحيح، فإن


#356#

"عبد الرحمن بن أبي الموالي" تفرد به البخاري، و"سويد بن سعيد" انفرد به مسلم. انتهى.

وقد روي من طريق أخرى إلى جابر، لكنها ضعيفة، حدث به ابن ماجه في "سننه" عن هشام بن عمار، عن الوليد قال: قال عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له».

تابعه: الواقدي، وسعيد بن سليمان سعدويه الحافظ، وسعيد ابن زكريا المدائني، وزيد بن الحباب، وغيرهم عن ابن المؤمل كذلك مرفوعا.


#257#

وحدث به المفضل في كتابه "أخبار مكة المشرفة" عن ابن أبي بزة قال: حدثنا أحمد بن محمد الجمحي، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: ماء زمزم لما شرب له.

وهذا موقوف.

وجاء عن حمزة الزيات، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا، والمعروف حديث ابن المؤمل مرفوعا، والله أعلم.

وللحديث شاهد من حديث أبي ذر وابن عباس رضي الله عنهما:

أما حديث أبي ذر: فقال الطبراني: حدثنا عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد العزيز بن المختار، قال: وأخبرنا أحمد بن عبدان بن أحمد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن خالد الحذاء، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ماء زمزم لما شرب له».

وأما حديث ابن عباس: فصححه سفيان بن عيينة لما سئل عنه حين حدث به، وجزم بصحته، وذلك فيما:

أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن الموفق وأبو حفص عمر ابن محمد بن البالسي وأبو عثمان عبد الله بن عثمان بن حمية بقراءتي عليهم يوم الثلاثاء ثاني قعدة سنة ثمان وتسعين وسبعمائة بصالحية


#258#

دمشق، أخبركم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم السلمي الخطيب قراءة عليه وأنتم تسمعون، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا الفرج يحيى بن محمود الثقفي، أخبرنا إسماعيل بن أحمد التيمي الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله الحميدي، أخبرنا عبد العزيز بن الحسن الضراب، أخبرني أبي، أخبرنا أحمد بن مروان، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، حدثنا الحميدي قال: كنا عند سفيان بن عيينة فحدثنا بحديث زمزم أنه لما شرب له.

فقام رجل من المجلس ثم عاد فقال له: يا أبا محمد، أليس الحديث صحيحا الذي حدثتنا به في "زمزم" أنه لما شرب له؟

فقال سفيان: نعم.

فقال الرجل: فإني قد شربت الآن دلوا من "زمزم" على أنك تحدثني بمائة حديث.

فقال سفيان: اقعد؛ فحدثه بمائة حديث.

وحديث سفيان في "زمزم" رويناه فيما قال الدارقطني في "سننه" فقال: حدثنا عمر بن الحسن بن علي، حدثنا محمد بن هشام بن


#359#

علي المروزي –يعني: ابن أبي الدميك، حدثنا محمد بن حبيب الجارودي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل وسقيا الله تعالى إسماعيل».

وخرجه الحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح الإسناد إن سلم من "محمد بن حبيب الجارودي".

قال أبو الحسن بن القطان: سلم منه، فإن الخطيب قال فيه: كان صدوقا.


#360#

قال ابن القطان: لكن الراوي عنه مجهول وهو "محمد بن هشام المروزي". انتهى.

والآفة في الحديث فيما ذكره الذهبي وغيره: من شيخ الدارقطني، وهو القاضي الأشناني، قال الذهبي: فلقد أثم الدارقطني بسكوته عنه، فإنه بهذا الإسناد باطل، ما رواه ابن عيينة قط. انتهى.

وفي نفيه رواية ابن عيينة للحديث نظر، فقد تقدم روايتنا عن الحميدي أن سفيان بن عيينة حدث به.

وروى الدارقطني من طريق عثمان بن الأسود، حدثني عبد الله بن أبي مليكة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له: من أين جئت؟ قال: شربت من "زمزم" فقال له ابن عباس: أشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف ذلك يا أبا عباس؟ قال: إذا شربت منها: فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم».


#361#

وقال أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي، حدثنا عيسى بن يونس السبيعي، حدثنا عنبسة بن سعيد الرازي، عن إبراهيم بن عبد الله الحاطبي، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار.

قيل لابن عباس: ما "مصلى الأخيار"؟ قال: تحت الميزاب.

قال: وما "شراب الأبرار"؟ قال: "ماء زمزم".

تابعه إبراهيم بن محمد الشافعي عن عيسى.

وقال عبد الجبار بن الورد المكي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة، عن عكرمة بن خالد قال: بينما أنا ليلة في جوف الليل عند "زمزم" جالس إذا بنفر يطوفون، عليهم ثياب بيض لم أر كبياض ثيابهم شيئا قط، فلما فرغوا صلوا قريبا مني، فالتفت بعضهم فقال لأصحابه: اذهبوا بنا نشرب من شراب الأبرار.

قال: فقاموا فدخلوا "زمزم". فقلت: والله، لو دخلت على القوم فسألتهم، فقمت فدخلت، فإذا ليس فيها أحد.

وقال المفضل بن محمد الجندي: حدثنا أحمد بن أبي بزة، عن أبيه قال: دخلت الطواف بعد هدأة من الليل، فإذا أنا في الطواف برجل مبيض وهو يقول: "زمزم" شراب الأبرار، و"الحجر" مصلى الأخيار.


#362#

قال: فالتفت فلم أدر أفي الأرض أخذ أم في السماء.

وروي عن مقاتل بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: «لا يجتمع ماء زمزم ونار جهنم في جوف عبد أبدا».

وقال محمد بن محمد بن سليمان الباغندي: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا جرير، عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم.

خرجه أبو نعيم في كتابه "الحلية" من حديث الباغندي، واستغربه من حديث منصور ومجاهد وشعبة، وقال: لم نكتبه إلا من حديث الباغندي.

قلت: وجاء من طريق محمد بن حميد الرازي أيضا، وهو واه- بالإسناد إلى مجاهد قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا أراد أن يتحف الرجل سقاه من ماء "زمزم".

وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" و"الأوسط" من حديث


#363#

هشيم، عن عبد الله بن المؤمل، عن ابن محيصن، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استهدى ماء زمزم من سهيل بن عمرو رضي الله عنه.

وقال الهيثم بن خلف: حدثنا أبو كريب، حدثنا خلاد الجعفي، عن زهير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل ماء "زمزم"، وتذكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله.

خرجه الترمذي عن أبي كريب بنحوه.

وقال أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي: ذكر ابن جريج: حدثني ابن أبي حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو: إن جاءك كتابي ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين، حتى تبعث إلي بماء "زمزم"، فاستعانت امرأة سهيل "أثيلة الخزاعية" جدة أيوب بن عبد الله، فأدلجتاهما وخادمهما، فلم يصبحا حتى فرتا مزادتين


#364#

وفرغتا منهما، فجعلهما سهيل في كرين، وملأهما ماء "زمزم"، وبعثهما على بعير.

خرجه أبو سعيد.

وحدث به أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" عن جده، عن سعيد –هو: ابن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، عن ابن جريج.

وحدث الواقدي، عن عبد الحميد بن عمران، عن خالد بن كيسان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق».


#365#

خرجه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" للواقدي.

وحدث به، عن جده، عن سعيد بن عثمان، قال: أخبرنا أبو سعيد، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «علامة بيننا وبين المنافقين أن تدلوا دلوا من ماء زمزم فتضلعوا منها، ما استطاع منافق قط يتضلع منها».

وحدث عن جده، عن عبد المجيد، عن عثمان [بن] الأسود، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة "زمزم"، فأمر [بدلو] فنزعت له من البئر فوضعها على شفة البئر، ثم وضع يده من تحت عراقي الدلو، ثم قال: «بسم الله» ثم كرع فيها فأطال، ثم أطال، فرفع رأسه، فقال: «الحمد لله». ثم عاد، فقال: «بسم الله» ثم كرع فيها، فأطال، وهو دون الأول، ثم رفع رأسه فقال: «الحمد لله» ثم كرع فيها فقال: «بسم الله» فأطال، وهو دون


#366#

الثاني، ثم رفع رأسه فقال: «الحمد لله» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «علامة ما بيننا وبين المنافقين: لم يشربوا منها قط حتى يتضلعوا».

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا زكريا الساجي، حدثنا عبد الله بن هارون أبو علقمة الفروي، حدثنا قدامة بن محمد الأشجعي، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علامة ما بيننا وبين المنافقين: أنهم لا يتضلعون من زمزم».

وقال البخاري في "تاريخه": حدثني ابن منير، سمع سلمة، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عثمان بن الأسود، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية ما بيننا وبين المنافقين: لا يتضلعون من زمزم».

وقال البخاري: عبيد الله بن موسى، عن عثمان، عن محمد بن عبد الرحمن، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. مثله.

وذكر له طرقا أخر إلى عثمان ثم قال: وقال محمد بن صباح: حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عثمان، حدثنا عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. مثله.

وقال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا عبد الوهاب بن مليح، حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن


#367#

ساج، أخبرني مقاتل، عن الضحاك بن مزاحم قال: بلغني أن التضلع من ماء "زمزم" براءة من النفاق، وأن ماءها يذهب الصداع، وأن الاطلاع فيها يذهب بالبصر، وأنه سيأتي عليها زمان تكون أعذب من النيل والفرات.

وخرجه أبو الوليد الأزرقي في كتابه عن جده، عن سعيد بن سالم.

وقال أبو العباس عبد الله بن جعفر بن خشيش: حدثنا محمد بن أحمد العبدي، حدثنا عبد العزيز الهاشمي قال: كنت بمكة فركبت من "جدة" في البحر ومعي ماء "زمزم"، فكان الموج إذا ارتفع رششت عليه من ماء "زمزم" فيسكن.

وقال عمرو بن عون: أخبرنا هشيم، عن الفضل بن عطية قال: رأيت رجلا يسأل عطاء بن أبي رباح، فشكى إليه البواسير، فقال: اشرب من ماء "زمزم" واستنج به.

المراد بالاستنجاء هنا –والله أعلم-: استعمال الماء على مكان الألم لا إزالة النجاسة، فقد جزم المحب الطبري بتحريم إزالة النجاسة به وإن حصل به التطهير.


#368#

ومن خصائص "زمزم" أيضا: أنها تفيض إلى أعلاها في ليلة النصف من شعبان في كل سنة، على ما قيل لي، وما يشاهده إلا العارفون، حتى إن الناس يبكرون صبيحة تلك الليلة إلى قبة "زمزم"، ويزدحمون ازدحاما شديدا لاستقاء الماء والتبرك به.

وذكر الأزرقي أن في قعرها ثلاثة عيون: عين حذاء الركن الأسود، وعين حذاء "أبي قبيس" و"الصفا"، وعين حذا "المروة".

ومما يشهد لهذا: ما خرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن هشيم، عن منصور، عن عطاء: أن حبشيا وقع في "زمزم" فمات. قال: فأمر ابن الزبير أن ينزف ماء زمزم، قال: فجعل الماء لا ينقطع. قال: فنظرنا فإذا عين تنبع من قبل الحجر الأسود، فقال ابن الزبير: حسبكم.

وخرج البيهقي في "سننه الكبرى" من حديث محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين: أن زنجيا وقع في "زمزم" –يعني: فمات-، فأمر ابن عباس فأخرج، وأمر بها أن تنزح، قال: فغلبتهم عين جاءتهم من الركن، فأمر بها فدست بالقباطي والمطارق حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم.

قال البيهقي: رواه ابن أبي عروبة، عن قتادة: أن زنجيا وقع في "زمزم"، فأمرهم ابن عباس بنزحها.


#369#

قال: وهذا بلاغ بلغهما، فإنهما لم يلقيا ابن عباس ولم يسمعا منه.

وقال: قال الزعفراني: قال أبو عبد الله الشافعي: لا نعرفه عن ابن عباس، و"زمزم" عندنا، ما سمعنا بهذا.

وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الوليد الفقيه، حدثنا عبد الله بن شيرويه، سمعت أبا قدامة يقول: سمعت سفيان –يعني: ابن عيينة- يقول: أنا بمكة منذ سبعين سنة، لم أر أحدا صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي الذي قالوا: إنه وقع في "زمزم"، ما سمعت أحدا يقول: نزح "زمزم".

قال أبو عبيد: وكذلك ينبغي؛ لأن الآثار قد جاءت في نعتها: أنها لا تنزح ولا تذم.

قال البيهقي: لا أدري أبو قدامة حكاه عن أبي عبيد أو أبو الوليد الفقيه. انتهى.

وقال عبد الوهاب بن فليح: حدثنا سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني مقاتل، عن الضحاك بن مزاحم قال: إن الله عز وجل يرفع المياه العذبة كلها غير "زمزم". وذكر باقيه في أشراط الساعة.

حدث به أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "أخبار مكة".

وقال أبو الحسين محمد بن حامد بن السدي المعروف بـ "خال ولد السني" في أول كتاب "الأولياء" –من تأليفه-: حدثنا إبراهيم بن عبيد، حدثني زيد بن مهران الأسدي، سمعت أبا بكر بن عياش يقول: نزعت من "زمزم"، فإذا طعم عسل، ثم نزعت دلوا آخر، فإذا طعم لبن.


#370#

حدثنا إبراهيم، حدثني إسحاق بن إبراهيم القاري، قال: قال أبو عبد الله الهروي –وكان رجل صدق: دخلت "زمزم" في السحر، فإذا أنا بشيخ ينزع بالدلو الذي يلي الركن، فلما أرسل الدلو أخذته فشربت، فإذا أنا بسويق لوز لم أر سويق لوز قط أطيب منه، فلما كانت القابلة في ذلك الوقت دخل رجل قد سدل ثوبه على وجهه، فنزع بالدلو مما يلي الركن، ثم شرب وأرسل الدلو، فأخذت فضلة فشربت، فإذا ماء مضروب بعسل، لم أشرب عسلا قط أطيب منه.

قال: وأردت أن آخذ بطرف ثوبه أنظر من هو، ففاتني، فلما كانت الليلة الثالثة قعدت قبالة "باب زمزم"، فلما كان في ذلك الوقت فإذا رجل قد سدل ثوبه على وجهه، فدخلت فأخذت بطرف ثوبه، فلما شرب من الدلو وأرسله قلت: يا هذا، أسألك برب البنية: من أنت؟ قال: تكتم علي حتى أموت؟ قلت: نعم. قال: أنا سفيان بن سعيد فأرسلته وشربت من الدلو، فإذا لبن مضروب بسكر، لم أر لبنا قط أطيب منه. قال: وكانت تلك الشربة تكفيني إلى مثلها، إذا شربتها لا أجد جوعا ولا عطشا.

وخرجه الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه "المعجزات" من حديث عبد الله بن خبيق، حدثني أبو علي السجستاني، عن عبد الرحمن بن يعقوب بن أبي عباد المكي قال:


#371#

قدم علينا شيخ من "هراة" يكنى أبا "عبيد الله" شيخ صدق، فقال لي: دخلت في المسجد فجلست بجنب "زمزم"، فخل شيخ من "باب زمزم". وذكر بنحوه.

وخرجه أبو نعيم في "الحلية" من طريق سلمة بن شبيب، حدثنا سهل بن عاصم، عن عبد الرحمن بن يعقوب بن إسحاق المكي، حدثنا شيخ من أهل "هراة" يقال: له: "عبد الله الهروي" رجل صدق، قال: دخلت "زمزم" في السحر. وذكر القصة بنحوها.

وخرج من طريق أبي يعلى الموصلي، حدثنا القرشي، حدثنا عبيد بن هشام البصري قال: أتيت "زمزم" فوجدت شيخا قد متح بالدلو، ثم شرب، ثم عاد فشرب، ثم عاد فشرب، ثم نظر في "زمزم" وكأنه يدعو، ثم انصرف فأتيت الدلو لأشربه، فإذا لبن حليب، فتركته ولحقت الشيخ فقلت: من أنت –يرحمك الله؟ فقال: أنا سفيان بن سعيد الثوري.

وذكر ابن جبير الكناني أبو الحسن محمد بن أحمد في كتابه "التذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" "قبة زمزم" فقال: وداخلها مفروش بالرخام الأبيض، وتنور البئر في وسطها من رخام، دوره


#372#

أربعون شبرا، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف، وغلظه شبر، وعمقه أحد عشر قامة، وعمق الماء سبع.

وهذا مخالف لما ذكره الأزرقي، فإنه قال: كان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعا.

ثم ذكر الأزرقي ما زيد فيها، إلى أن قال: حتى كان رجل يقال له: "محمد بن مبشر" من أهل "الطائف" يعمل فيها، فقال: أنا صليت في قعرها، فغورها من رأسها إلى الجبل أربعون ذراعا، ذلك كله بنيان، وما بقي فهو جبل منقور، وهو تسعة وعشرون ذراعا.

وذرع "حنك زمزم" في السماء ذراعان وشبر، وذرع تدوير فم "زمزم" [أحد عشر ذراعا، وسعة فم زمزم] ثلاثة أذرع وثلثا ذراع.

وذكر أن ما بين رأس "زمزم" و"الحجر الأسود" أربعون ذراعا، ومن مقام إبراهيم إلى حرف زمزم أربعة وعشرون ذراعا أصبعا.

$*[ذكر الآبار التي كانت بمكة قبل زمزم]:$

ولما ظهرت "زمزم" عفت على الآبار التي كانت بمكة قبلها، والآبار التي كانت قبل ظهور "زمزم":

"بئر مرة بن كعب بن لؤي"، يقال لها: "زم" وموضعها فيما قيل عند طرف الموقف بـ"عرنة" قريبا من "عرفة".


#373#

و"بئر ولده كلاب بن مرة"، يقال لها: "خم" كانت مشربا للناس في الجاهلية، ويقال: إنها كانت لبني مخزوم.

و"بئر ولده قصي" ، يقال لها:" العجول" وكان موضعها في "دار أم هانئ بنت أبي طالب" بـ"الحزورة"، كانت العرب تردها إذا قدمت مكة.

ويقال: كان لقصي بئر أخرى عند الردم الأعلى بردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلف دار أبان بن عثمان. وقيل: إنها دثرت، فنثلها جبير بن مطعم وأحياها، وعندها مسجد، يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه.

وأظن هذه البئر "سجلة" الآتي ذكرها؛ لأنه جاء أن "قصيا" لما احتفرها قال:

أنا "قصي" وحفرت سجلة ... تروي الحجيج زغلة فـ"زغلة"

و"بئر هاشم بن عبد مناف" يقال لها: "بذر"، وهي التي عند المستبذر في حطيم الخندمة على فم شعب أبي طالب.

ويقال: إن "قصيا" حفرها فنثلها أبو لهب.


#374#

وحكى أبو عبيد البكري في "المعجم" قولا آخر: أن المطلب بن عبد مناف احتفرها. وذكره أولا ثم عقبه بقوله: وقال ابن إسحاق: حفر "بذر" هاشم بن عبد مناف. انتهى.

ويقال: إن هاشما حفر بئرا أخرى يقال لها: "سجلة" ، وانتقلت إلى "جبير بن مطعم".

واختلف في سبب انتقالها إليه:

فقيل: وهبها عبد المطلب حين ظهرت "زمزم" للمطعم بن عدي، فانتقلت إلى ولده.

وهذا أثبت الأقوال.

وقيل: ابتاعها "جبير" من ولد هاشم.

وقيل: وهبها له "أسد بن هاشم".

و"بئر عبد شمس بن عبد مناف" يقال لها: "الطوي"، وموضعها عند "باب البيضاء" دار محمد بن يوسف.


#375#

و"بئر ولده أمية" يقال لها: "الجفر" وهي بطرف "أجياد الكبير" في وجه المسكن الذي كان لبني عبد الله بن عكرمة بن خالد بن عكرمة المخزومي، واشترى ذلك المسكن "ياسر" خادم "زبيدة"، فأدخله في المتوضآت التي عملها على باب "أجياد الكبير".

و"بئر بني عبد شمس" يقال لها: "أم جعلان"، دخل موضعها في المسجد الحرام.

ولهم بئر أخرى يقال لها: "الغلوق" بأعلى مكة عند دار أبان بن عثمان.

و"بئر بني أسد بن عبد العزى"، يقال لها: "سقية"، ويقال لها أيضا: "بئر الأسود"، وموضعها في دار أم جعفر.

و"بئر لبني سهم" في ناحيتهم فيما قيل، يقال لها: "زمزم" يقال: إنها دخلت في المسجد الحرام حين وسعه أبو جعفر أمير المؤمنين.

ولهم بئر أخرى يقال لها: "الغمر".

و"بئر بني جمح" حفرها "خلف بن وهب الجمحي"، يقال لها: "السنبلة"، وتعرف بـ"بئر أبي"، وموضعها في حائط الحزامية بأسفل مكة قبالة دار الزبير بن العوام، ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بصق فيها، ويقال: إن ماءها جيد من الصداع.


#376#

و"بئر عند ردم بني جمح"، يقال لها: "أم جردان" ، لا يدرى من حفرها، ثم صارت لبني جمح.

وهذه الآبار المذكورة أفرد لها أبو الوليد الأزرقي في كتابه ترجمة فقال: "الآبار التي كانت بمكة قبل زمزم" ثم ذكر ما لخصناه قبل.

وفاته "بئر ميمون بن قحطان بن ربيعة" من الصدف، حفرها في الجاهلية قبل أن يحفر عبد المطلب "زمزم" بدهر طويل، لم يكن لهم حينئذ ماء للشفة سواه.

حكاه البكري في "معجمه" عن الحسن بن أحمد الهمداني، وذكر أنها بين: "البيت" و"الحجون" بأبطح مكة، وذكر: أن ميمون بن الحضرمي أخا العلاء حفرها في الجاهلية، ثم حكى عن الهمداني ما تقدم.

قال ابن إسحاق فيما روينا عنه: فعفت "زمزم" على البئار التي كانت قبلها يسقى عليها الحاج، وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

وحدث الواقدي عن هشام بن عمارة، عن سعيد بن جبير بن مطعم قال: قال محمد بن جبير: فكثرت المياه بمكة بعدما حفرت "زمزم" حتى روي القاطن والبادي، ودنت لها "بكر" و"خزاعة" فارتووا منها، لا تنزح بعد ظهور "زمزم" بماء معين، وروي الناس بها أجمعين.


#377#

&[أولاد عبد المطلب وهم أعمام النبي صلى الله عليه وسلم]&

كمل لعبد المطلب عشرة بنين.

قال علي بن صالح بن حي: كان ولد عبد الحي المطلب عشرة، كل واحد منهم يأكل الجذعة.

وذكر محمد بن السائب الكلبي أنهم أحد عشر.

وذكر غيره أكثر من ذلك.

ولم يختلف في بنات عبد المطلب أنهن ست فيما أعلم.

فأما أولاده الذكور؛ فأولهم:

"الحارث" وأمه: سمراء بنت جنيدب، وقيل: صفية بنت جنيدب بن حجير بن زباب بن سواءة بن عامر بن صعصعة، وهو أكبر ولد عبد المطلب، وبه كان يكنى، ومات في حياة أبيه مسموما.

قال علي بن الصباح: أخبرنا هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم قال: كان عبد المطلب لا يسافر سفرا إلا ومعه ابنه الحارث، وكان أكبر ولده، وكان شبيها به جمالا وحسنا، فأتى اليمن وكان يجالس عظيما من عظمائهم، فقالوا له: لو أمرت ابنك هذا يجالسني وينادمني –يعني: ففعل-، فعشقت امرأته "الحارث"، فراسلته فأبى عليها، فألحت عليه، فبعث إليها:


#378#

لا تطمعي فيما لدي فإنني ... كرم منادمتي عفيف مئزري

أسعى لأدرك مجد قوم سادة ... عمروا قطين البيت عند المشعر

فاقني حياءك واعلمي أني امرؤ ... آبي بنفسي أن يعير معشري

أني أزن بجارتي أو كنتي ... أو أن يقال صبا بعرس الحميري

وأخبر بذلك أباه، فلما يئست منه سقته سم شهر، فارتحل عبد المطلب حتى إذا كان بمكة مات "الحارث".

وحدث بنحوه محمد بن أبي السري، عن هشام بن محمد، عن أبيه قال: كان عبد المطلب بن هاشم إذا أتى اليمن نزل على بعض ملوكه، وأنه أتى مرة ومعه ابنه "الحارث"، وكان جميلا يشبه بعبد المطلب، فنزل على بعض ملوكها كما كان يفعل، فأرسل ذلك الملك إليه: أن ابعث إلينا بابنك "الحارث" نتحدث معه.

فأرسله عبد المطلب، فلما جاء رأته امرأة الملك، فعشقته، فراسلته تريده إلى نفسها، فأبى أن يفعل ذلك وكرم، فسقته شربة فيها سم شهر.

قال الكلبي: ويكون عند الملوك سم لسنة ولشهر ويوم وساعة.


#379#

فسقت ذلك "الحارث"، فانصرف به "عبد المطلب" إلى "مكة"، فلما كان قبل دخوله "مكة" مات "الحارث"، فدخل به "مكة" فدفنه، ورثاه "عبد المطلب" في قصيدة:

والحارث الفياض ولى ماجدا ... أيام نازعه الحمام الكأسا

$*ومن ولد "الحارث" وولد ولده جماعة معدودون في الصحابة:$

منهم: "أبو سفيان بن الحارث" واسمه: "المغيرة" أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، توفي أبو سفيان بعد استخلاف "عمر" رضي الله عنه بسنة وسبعة أشهر، وقيل: مات سنة عشرين، وصلى عليه "عمر"، ودفن بـ"البقيع".

و"قثم" هلك صغيرا، وهو شقيق "الحارث".

و"الزبير" وكنيته "أبو طاهر"، وهو شقيق "عبد الله"، وكان من الأشراف الشعراء، قيل: كان أكبر الأعمام، وكان يرقص النبي صلى الله عليه وسلم وهو طفل يقول:

محمد بن عبدم ...

عشت بعيش أنعم ...

في دولة ومغنم ...

دام سجيس الأزلم ...

وولد "الزبير": "عبد الله" و"ضباعة" و"أم الحكم" من الصحابة رضي الله عنهم، و"عبد الله" هذا ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، واستشهد بـ


#380#

"أجنادين" إلى جنب سبعة قد قتلهم.

و"حمزة" أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، وكنيته "أبو يعلى" ، كني بولد له اسمه "يعلى" درج، و"أم حمزة" هانئ بنت أهيب، ويقال: وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أسلم قديما، قيل: أسلم رضي الله عنه في سنة خمس من النبوة، وقيل: ست، وهاجر إلى المدينة، وشهد "بدرا" و"أحدا"، وقتل يومئذ شهيدا، ولم يكن له إلا ابنة واحدة وهي "أمامة" التي اختصم فيها "علي" و"جعفر" و"زيد" رضي الله عنهم، وقيل: اسمها "عمارة".

و"العباس أبو الفضل" شقيق "ضرار" أمهما: "تبيلة" بنت جناب بن كليب، من النمر بن قاسط، وقيل فيها: "بتيلة" بنت جندب بن عمر بن عامر من النمر بن قاسط.

كان العباس رضي الله عنه سيد الوادي وساقي الحجيج، أسلم قديما وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشريكن يوم "بدر"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لقي العباس فلا يقتله، فإنه أخرج مستكرها»، فأسره أبو اليسر كعب ابن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة، ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه بـ"الجحفة" متوجها إلى فتح مكة، فشهد معه الفتح. وكان مولده قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فعلى قول حكيم بن حزام –الذي قدمناه- لم يكن العباس من الذين وقع عليهم النذر الذي نذره عبد المطلب.

وكان للعباس رضي الله عنه عشرة من الأولاد: "الفضل"، و"عبد الله"، و"عبيد الله"، و"عبد الرحمن"، و"قثم"، و"عون"، و"الحارث"، و"تمام"، و"أم حبيب" وهي شقيقة الستة الأول، أمهم: "أم الفضل


#381#

بنت الحارث الهلالية"، أخت "ميمونة" زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

وكل منهم له رؤية.

وللثلاثة الأول سماع ورواية أيضا.

وكان "تمام" أصغر الأولاد، و"الفضل" أكبرهم.

و"عبد الله": حبر الأمة وترجمان القرآن عليه السلام.

مات "العباس" رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين بالمدينة في خلافة "عثمان" رضي الله عنه وهو ابن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالبقيع، وكان قد ذهب بصره، وكان إذا مر بـ"عمر" أو "عثمان" ترجلا له إجلالا وعظمة.

و"أبو طالب" واسمه: "عبد مناف"، وقيل: اسمه كنيته، ذكره أبو أحمد الحاكم، وهو شقيق "الزبير"، و"عبد الله" والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشقيق "عبد الكعبة" و"عاتكة" صاحبة الرؤيا في "بدر" وأخواتها إلا "صفية" ، أمهم "فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم".

وكان لأبي طالب من الولد: "طالب": مات كافرا، و"عقيل"، و"جعفر"، و"علي"، و"أم هانئ"؛ لهم صحبة رضي الله عنهم.

و"جمانة" ذكرت في أولاده:

فجعلها ابن قتيبة اسم "أم هانئ" وتابعه غيره، وفرق بينهما أبو عمر بن عبد البر، وغيره.

والخلاف في اسم "أم هانئ" على أقوال، فقيل: "جمانة" كما تقدم، وقيل: "هند" ذكرها الدارقطني، وتبعه عبد الغني المقدسي ومال إلى قوله، وقيل: اسمها "فاختة": جزم به جماعة، قال ابن عبد البر:


#382#

وهو الأكثر.

وكان "علي" أصغر أولاد "أبي طالب"، وكان أصغر من "جعفر" بعشر سنين، وكان "عقيل" أصغر من "طالب" بعشر سنين.

وكان قد جاء "أبا طالب" سهم في يوم الفجار فاش في قدمه، فكان يجمع منه.

و"عبد الله" والد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق "أبي طالب" و"عاتكة"، وكان أجمل أهل زمانه، وهو فيما ذكره "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب" أرفع ولد عبد المطلب وأعظمهم خطرا.

و"أبو لهب" واسمه: "عبد العزى"، وكناه الشعراء بـ"أبي عتبة"، وكناه أبوه "أبا لهب" لحسن وجهه، وقيل: بولد له اسمه "لهب".

وأمه: لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء الخزاعي.

ومن ولده "عتبة" و"معتب" شهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم "حنينا" وثبتا يومئذ، و"درة بنت أبي لهب" لها صحبة رضي الله عنهم، و"عتيبة" قتل كافرا، دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله الأسد بـ"الزرقاء" من أرض الشام.

و"عبد الكعبة"، وهو شقيق "حمزة" ويقال له: "المقوم"، وقيل: هما اثنان، وممن جعلهما [اثنين]: ابن الكلبي في "جمهرة النسب" وذكر أن "المقوم" كان يكنى بـ"أبي بكر" بولد له درج.


#383#

و"جحل" واسمه: "المغيرة".

وقال أبو بكر بن دريد: "مصعب" وهو شقيق "حمزة" والجحل: السقاء الضخم، ويقال "حجل" بتقديم المهملة على الجيم.

و"ضرار" كان من [ .. .. ] فتيان قريش جمالا وسخاء، ومات أيام أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعقب، وهو شقيق "العباس".

و"الغيداق" واسمه: "نوفل"، وقيل: "مصعب"، وأمه من "خزاعة".

و"عوف أبو عبد الرحمن بن عوف" أخو "الغيداق" لأمه، وأمهما: ممنعة بنت عمرو بن مالك بن مؤمل بن سويد بن أسعد بن مشنوء، من "خزاعة".

ولقب بـ"الغيداق"؛ لأنه كان أجود قريش وأكثرهم طعاما، من قولهم: "سنة غيداق" في الخصب، وقيل: هو "جحل" ولقبه "الغيداق".

ولم يسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم غير "حمزة" و"العباس رضي الله عنهما.

وأكبرهم "الحارث" وأصغرهم سنا "العباس" رضي الله عنه.

قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: و"العباس بن عبد المطلب" أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، و"حمزة" أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين.


#384#

$[*ذكر بنات عبد المطلب]:$

وأما بناته فهن ست:

"صفية" شقيقة "حمزة" و"المقوم" و"جحل" بني عبد المطلب، أمهم: هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وهي أم الزبير بن العوام، من المؤمنات المهاجرات بلا خلاف.

وقيل: لم يسلم من عماته صلى الله عليه وسلم غيرها.

ماتت بالمدينة في خلافة "عمر بن الخطاب" سنة عشرين في قول، ولها ثلاث وسبعون سنة، وصلى عليها "عمر" ودفنها بـ"البقيع" بفناء دار المغيرة بن شعبة.

قال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا محمد بن حرب، أخبرنا أبو مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني، عن هشام بن عروة قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم ست عمات، لم يسلم منهن غير: "صفية"، فتوفيت في إمارة "عثمان".

و"عاتكة" صاحبة الرؤيا في "بدر"، مختلف في إسلامها، وكانت تحت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وله منها: "عبد الله" له صحبة، و"زهير" و"قريبة" الكبرى، و"أم سلمة" زوج النبي صلى الله عليه وسلم في قول.


#385#

و"أروى بنت عبد المطلب" اختلف في إسلامها أيضا، ومن قال بإسلام "أروى" أكثر ممن قال بإسلام "عاتكة".

قاله ابن الأثير أبو السعادات.

و"أروى" ذكرها أبو جعفر العقيلي في "الصحابة".

وقال الحاكم في "مستدركه": ولم أجد إسلامها إلا من كتاب أبي عبد الله الواقدي. انتهى.

قلت: ورواية الواقدي في إسلامها هي ما حدث بها عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه قال: لما أسلم "طليب بن عمير" رضي الله عنه دخل على أمه "أروى بنت عبد المطلب" فقال لها: قد أسلمت. وذكر الحديث وفيه: أنه قال لأمه "أروى": ما يمنعك أن تسلمي وتتبعيه، فقد أسلم أخوك "حمزة"؟ فقالت: أنظر ما تصنع أخواتي ثم أكون إحداهن.


#386#

قال: قلت: فإني أسألك بالله إلا أتيته فسلمت عليه وصدقتيه وشهدت أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

ثم كانت بعد تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره.

و"أروى": كانت عند "عمير بن وهب بن أبي كبير بن عبد بن قصي" فولدت له "طليب بن عمير" أحد المهاجرين الأولين والبدريين، قتل بـ"أجنادين" شهيدا رضي الله عنه، ثم خلف عليها بعد "عمير" "كلدة بن


#387#

عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" فولدت له "أروى".

و"أميمة": كانت عند "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة" فولدت له: "عبد الله" استشهد بـ"أحد"، و"أبا أحمد" الأعمى الشاعر واسمه: "عبد"، و"زينب" زوج النبي صلى الله عليه وسلم، و"أم حبيبة"، و"حمنة".

كلهم لهم صحبة رضي الله عنهم.

وأخوهم "عبيد الله بن جحش" أسلم ثم تنصر ومات بـ"الحبشة" نصرانيا.

و"أم حبيبة" هذه يقال فيها: "أم حبيب"، وسماها بعضهم: "حبيبة".

و"برة بنت عبد المطلب": كانت عند "عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، فولدت له: "أبا سلمة عبد الله" زوج "أم سلمة" قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها بعد "عبد الأسد": "أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس القرشي العامري"، فولدت له: "أبا سبرة البدري" له صحبة رضي الله عنهما وهو أحد المهاجرين الأولين، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه.

و"أم حكيم بنت عبد المطلب": وهي: البيضاء، كانت عند


#388#

"كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف"، فولدت له: "عامرا"، و"أم طلحة": واسمها: "أرنب"، و"أروى": وهي أم عثمان ابن عفان.

و"عامر" و"أروى" لهما صحبة رضي الله عنهما.

ويقال: إن "أم حكيم" هي توأمة "عبد الله" والد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه خلاف، لكن لم يختلف أنها شقيقة "عبد الله" و"أبي طالب" و"الزبير" بني عبد المطلب.

و"أم حكيم" هي القائلة:

إني لحصان فما أكلم وصناع فما أعلم ...

فهؤلاء عماته صلى الله عليه وسلم، وكلهن سوى "صفية: شقيقات "عبد الله" والد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#389#

$[قصة نذر عبد المطلب ذبح ولده، ووقوع النذر على عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ونجاته]$

و"عبد الله" هو الذي فدي من الذبح ونجا بمائة ناقة كانت له فرجا ومخرجا، وقصته في ذلك اشتهرت وظهرت بين الرواة وانتشرت، فرواها بعضهم كاملة، واختصر بعضهم بألفاظ شاملة، منها ما:

روى عبد الرزاق في "مغازيه": عن معمر، عن الزهري قال: ثم تزوج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط، فقفال: "اللهم، إني كنت نذرت لك نحر أحدهم، وإني أقرع بينهم فأصب بذلك من شئت"، فأقرع بينهم، فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب وكان أحب ولده إليه، فقال عبد المطلب: "اللهم، هو أحب إليك أو مائة من الإبل؟" ثم أقرع بينه وبين مائة من الإبل، فصارت القرعة على مائة من الإبل، فنحرها "عبد المطلب" مكان "عبد الله".

وأما ألفاظها المطولة فغالب طرقها معللة، وملخصها الجامع لشتاتها الآتي بجل ألفاظها رواتها: أن عبد المطلب لما كمل له بنوه العشرة أخبرهم بما كان قد نذره، فقالوا: نحن مطيعوك؛ فمن تذبح منا؟ فقال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا، فليكتب اسمه فيه، وليأتني به.

و"القدح" –بكسر أوله-: عود السهم إذا قوم وآن أن يراش ويركب فيه النصل.


#390#

قال أبو عبيد أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي الهروي في كتابه "الغريبين": "القدح": السهم أول ما يقطع يسمى قطعا، ثم يبرى فيسمى بريا، ثم يقوم فيقال له: "القدح"، ثم يراش ويركب نصله فيه فهو حينئذ سهم.

ففعل بنو عبد المطلب ما أمرهم أبوهم، فأخذ عبد المطلب، ودخل على "هبل" وكان على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر يجمع فيها ما يهدى للكعبة عمقها ثلاثة أذرع، يقال: إن "إبراهيم" و"إسماعيل" حفراها ليكون فيها ما يهدى للكعبة.

و"هبل" أول صنم عبد في أرض العرب.

قال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في كتابه "أحكام القرآن": روي أن سبب نصب الأوثان وتغيير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه –يعني: عمرو بن لحي بن قمعة- خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم "مآب" من أرض "البلقاء" وبها يومئذ العماليق أولاد "عمليق –ويقال: عملاق- بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام" رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟

قالوا: هذه أصنام نستمرطها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا.

فقال لهم: أفلا تعطوني صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له: "هبل"، فقدم به "مكة"، فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه. انتهى.


#391#

وذكر عثمان بن ساج، عن ابن إسحاق، وعن الكلبي، عن أبي صالح: أن "عمرو بن لحي" جاء بـ"هبل" من "هيت" من أرض الجزيرة، فنصبه ببطن الكعبة.

وذكر أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن حاتم بن إسماعيل المدني في كتابه "المنير" عن محمد بن السائب الكلبي في ذكر الأصنام ومن عبدها أول، أنه قال: وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة، وكان أعظمها عندهم "هبل"، وكان فيما بلغني عقيقا أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدا من ذهب، وأول من نصبه "خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مدركة بن إلياس بن مضر"، فكان يقال له: (هبل خزيمة). انتهى.

وكان الكفار يعظمون "هبل" ويضربون بالقداح عنده.

والقداح سبعة.


#392#

وفيها "قدح العقل"، فعلى من خرج حمله.

وقدح فيه: "نعم" للأمر إذا أرادوه ضرب به في القداح، فإن خرج قدح "نعم" عملوا.

وقدح فيه "لا"، فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر.

وقدح فيه "منكم".

وقدح فيه: "من غيركم".

وقدح فيه: "ملصق".

وقدح فيه: "المياه"، فإذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك [القدح]، فحيثما خرج عملوا به.

وكانوا إذا أرادوا أن ينكحوا منكحا، أو يختنوا غلاما، أو يدفنوا ميتا، أو شكوا في نسب أحد منهم: ذهبوا به إلى "هبل" وذهبوا معهم بجزور ومائة درهم إلى صاحب القداح الذي يضرب بها، فأعطوها إياه، ثم قربوا صاحبهم الذي يرون به ما يريدون، وقالوا: اضرب، اللهم أخرج على يديه اليوم الحق.


#393#

ثم استقبلوا "هبل" فقالوا: يا إلهنا، هذا فلان، كما زعم أهله، يريدون كذا وكذا، فإن كان كذلك فأخرج فيه "العقل" أو "نعم" [أو يريدون كذا] أو "منكم" واقبل هديته.

فإن خرج من هؤلاء الثلاثة: كتب في قومه وسيطا، وإن خرج عليه "من غيركم" [كان حليفا] وإن خرج عليه "لا" أخروه من عامه ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون من أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.

فقال عبد المطلب للقيم الذي يضرب القداح: "اضرب على بني هؤلاء بقداحهم هذه ". وأخبره بنذره، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذي فيه اسمه.

وكان "عبد الله –فيما يزعمون- أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان


#394#

عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى.

فلما أخذ صاحب القداح ليضرب بها قام عبد المطلب عند "هبل" يدعو ويقول: اللهم؛ لا تخرج عليه القدح. في كلمات أخر، فخرج القدح على "عبد الله" فأخذه عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى "إساف" و"نائلة" –الوثنين اللذين تنحر عندهما قريش ذبائحهم– ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه. وأنشد يقول:

(عاهدت ربي وأنا موف عهده) في أبيات أخر.

فمنعته قريش وبنوه من ذبحه.

قال ابن إسحاق: ذكروا أن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حتى خدش "عبد الله" خدشا لم يزل في وجهه حتى مات.

وقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا، ونحن أحياء حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال رجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء الناس على ذلك.

فيروى: أن عبد المطلب قال:


#395#

الحمد لله على ما أنعما

أعطى على رغم العدو زمزما

تراث قوم لم يكن مهدما

والحاسدون يحرمون الأدما

ولم يكن حافرها ليندما

أصاب فيها حلية مسلما

أعطى بنين عصبة وخدما

فلست والله أريد مأثما

في النذر أو أهرق لله دما

منهم فقد أوفيتهم متمما

من بعد ما كنت وحيدا أيما

في أبيات أخر.

فقال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم –وكان "عبد الله" ابن أخت القوم-: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداء فديناه بأموالنا.

وقال –فيما يزعمون- في ذلك:

واعجبا من قتل عبد المطلب

وذبحه خرقا كأمثال الذهب

يا شيب، لا تعجل علينا بالعجب

فما ابننا بشرط القوم النجب

ولا ابنكم بالمستدل المغتصب

ففاده بالمال حتى نحترب

فسوف أفديه بمالي والسلب


#396#

وسوف ألقى دونه من الغضب

أشوس آباء قبيحات الحطب

ما ذبح عبد الله فينا باللعب

ذبحا كما يذبح معتور النصب

كلا ورب البيت مستور الحجب

لا يجعل المذبوح حتى تضطرب

ضربا يزيل الهام من بعد العصب

بكل مصقول رقيق ذي شطب

كالبرق أو كالنار في الثوب العطب

وقال أبو طالب حين أراد عبد المطلب ذبح عبد الله وكان ابن أمه حين قال المغيرة ما قال:

كلا ورب البيت ذي الأنصاب

ورب ما أنضى من الركاب

كل قريب الدار أو منتاب

يزور بيت الله ذا الحجاب

ما قتل عبد الله باللعاب

من بين رهط عصبة شباب

ابن نساد شطر الأنساب

أغر بين البيض من كلاب

وبين مخزوم ذوي الأحساب

أهل الجياد القب والقباب

لستم على ذلك بالأذباب

حتى تذوقوا حمس الضراب


#397#

بكل عضب ذائب اللعاب

ذي رونق في الكف كالشهاب

تلقاه في الأقران ذا انتداب

إن لم يعجل آجل الكتاب

قلت وما قولي بالمعاب

يا شيب، إن الجور ذو عقاب

إن لنا إن جرت في الخطاب

أخوال صدق كأسود الغاب

لن يسلموه الدهر للعقاب

حتى يمص القاع ذو التراب

دماء قوم حرم الأسلاب

فقال عبد المطلب:

الله ربي وأنا موف نذره

أخاف ربي إن عصيت أمره

والله لا يقدر شيء قدره

فهو ولي وإليه عمره

هذا بني قد أردت نحره

فإن يؤخره ويقبل عذره

ويصرف الموت كفيت حذره

ويصرف الموت فلا يضره

من جهد إنسان ولا يغره

سواك ربي ويكون قره

لكل عين ناظر يسره


#398#

فقالت له قريش وبنوه: انطلق إلى الحجاز؛ فإن به عرافة يقال لها: "سجاح"، لها تابع، فاسألها، ثم أنت على رأس أمرك، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بغير ذلك مما لك فيه وله فرج قبلته.

فقال: نعم.

فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها فيما يزعمون بـ"خيبر"، فركبوا حتى جاؤوها.

ويروى: أنهم انطلقوا إلى كاهنة بني سعد بن هذيم.

وقيل: كاهنة اسمها "قطبة".

والأكثر على أنها "سجاح" وهي مبنية على الكسر كـ"قطام" وأخواتها.

وقد اختلف في نسبها، فقيل: سجاح بنت أوس بن حق بن أسامة بن العنبر بن يربوع، وتكنى "أم صادر".

وقيل: هي: بنت الحارث بن سويد بن عقفان من "بني يربوع".

وهي التي ادعت النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في الجزيرة، واجتمع عليها


#399#

"بنو تميم" ورؤساء "تغلب"، وقدمت "اليمامة" لمحاربة "مسيلمة"، وجرى بينهما تلك القصة البشعة المشهورة، وكان لها مؤذنان:

أحدهما:"شبث بن ربيع بن حصين اليربوعي" ثم أسلم، وكان من العباد الفرسان، لكنه لحق بالخوارج على علي رضي الله عنه.

والمؤذن الآخر: يقال له: "الجنبة بن طارق بن عمرو بن حوط اليربوعي الحنظلي".

وقد حكي إسلام "سجاح" حيث انتقلت مع "بني تغلب" إلى الكوفة بأمر معاوية رضي الله عنه.

وعلى ما ذكر: كانت "سجاح" قد عمرت؛ لأن في زمن معاوية كانت موجودة في خلافته، وكان يتحاكم إليها في زمن عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشهر الأقوال.

وعبد المطلب لما جاءها في نفر من قومه في أمر نذره، قالت لهم: ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابع فأسأله.


#400#

فخرجوا من عندها، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

يا رب، لا تحقق حذري

واصرف عنه شر هذا القدر

فإنني أرجو لما قد أدري

لأن يكون سيدا للبشر

وكانت قريش ومن سواهم من العرب في الجاهلية إذا اجتهدوا في الدعاء سجعوا وألفوا الكلام، وكانت –فيما يزعمون- قلما ترد إذا دعا بها داع.

ثم غدا عبد المطلب ومن معه على الكاهنة، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم؟ قالوا: عشر من الإبل –وكانت كذلك- قالت: فارجعوا إلى بلادكم، فقدموا صاحبكم وقدموا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت القداح على الإبل فقد رضي ربكم، فانحروها عنه، ونجا صاحبكم.

وفي رواية: حتى تكمل الإبل مائة، فإذا خرجت على الإبل فانحروها؛ فقد رضي ربكم وتخلص صاحبكم.

فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا لذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

اللهم إنك فاعل لما ترد

إن شئت ألهمت الصواب والرشد


#401#

قد زدت في المال وأكثرت العدد

وسائق الخير إلى كل بلد

إني مواليك على رغم معد

في أبيات، منها:

فلا تحقق حذري بولد

فلما قربوا عبد الله وعشرا من الإبل و"عبد المطلب" في جوف الكعبة يدعو ويقول:

اللهم رب العشر بعد العشر

ورب من يأتي بكل خير

أنج عبد الله عند النحر

ونجه من شفعها والوتر

ثم ضربوا فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

يا رب عشرين ورب الشفع

أنج "عبد الله" رب النفع

من ضربة القدح التي في الجدع

وأعطه الرفع الذي في الرفع

ولا تكونن ضربة كاللذع

كلذعة النار التي في السفع

ثم ضربوا فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل ثلاثين، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

رب الثلاثين ولي الأنعم


#402#

أمنن علينا أن يصاب بالدم

هذا الغلام حبه لم نعلم

قد طار قلبي فهو مثل المغرم

لذكر عبد الله حتى يسلم

وتنحر البدن التي لم تقسم

ونجه من ضربة لم تكلم

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا فبلغت الإبل أربعين، فقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:

اللهم رب الأربعين إذ بلغت

أنج بني من قداح كتبت

وانحر الذود التي قد هملت

وجللت في قتله وذبحت

بلغ رضاك ربنا إذ جعلت

عدل بني عبد مناف وقعت

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل خمسين، وقام عبد المطلب يدعو الله ويقول:

يا رب خمسين سمان بدن

من كل كومالة لم تفطن

إلا لرب ماجد ممكن

أنج عبد الله رب الأركن

وانحر الذود التي لم تسكن

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل


#403#

ستين، وقام عبد المطلب يدعو الله عز وجل ويقول:

اللهم رب الستين ورب المشعر

ورب من حج له وكبر

يسعى لرب قادر ليغفر

أنج عبد الله عند المنحر

وعافه من ضربة لا تجبر

ليبلغ العظم لها فيكسر

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشروا، فبلغت الإبل سبعين، فقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب سبعين له قد جمعت

فاذبح الذود التي قد عطلت

وحسبت في قتله وحبست

وأخرج السهم بها إذ بدلت

حتى تكون دية قد حملت

عن كل مقتول له إذ قبلت

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل ثمانين، فقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب الثماين ورب الإهلال

ورب من يأتيك للإجلال

اجعل فداه اليوم ذو إبال

سوف ترى شكرا عند الإحلال

كشكر من يمشي بغير إفعال


#404#

أمنن به علي رب الإفضال

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغت الإبل تسعين، فقام عبد المطلب يدعو ويقول:

يا رب تسعين ورب المشرع

ورب من يدفع عند المدفع

حتى يجيزوا معشرا للمجمع

أنج عبد الله عند الأندع

ونجه من ضربة لا ترجع

ثم ضربوا، فخرج السهم على "عبد الله"، فزادوا عشرا، فبلغ الإبل مائة، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

اللهم رب مائة لم تقسم

ورب من يهوى بكل معلم

ورب من أهدى لكل محرم

قد بلغت مائة لم تقسم

أرغم أعدائي بها ليرغموا

ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، فقالت قريش ومن حضره: قد انتهى، رضي ربك وخلص لك شابك. فقال: لا والله، حتى أضرب عليهما ثلاثا، فضربوا على الإبل وعلى "عبد الله"، وقام عبد المطلب يدعو ويقول:

اللم أنت هديتني لـ"زمزم"

إن بني أحب من تكلم

فلا ترينيه الغداة في الدم

في كلمات أخر، قال: ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم


#405#

عادوا الثاني و"عبد المطلب" مكانه، فلما أرادوا أن يضربوا قال:

يا رب لا تشمت بي الأعادي

إن بني ثمرة فؤادي

فلا تسل دمه في الوادي

واجعل فداه اليوم من تلادي

في كلمات أخر، ثم ضربوا، فخرج السهم على الإبل، ثم عادوا الثالثة وعبد المطلب يقول:

يا رب قد أعطيتني سؤالي

أكثرت بعد قلة عيالي

فاجعل فداه اليوم جل مالي

في كلمات أخر، ثم ضربوا القداح، فخرجت على الإبل، فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها أحد.

قال الواقدي: وحدثني سعيد بن مسلم، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نحرها عبد المطلب –يعني: الإبل- خلى بينها وبين من وردها من إنسي أو سبع أو طائر، لا يذب عنها أحدا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئا.

وقد روي: أن "عبد الله" لما فدي من الذبح قال أبوه عبد المطلب:

دعوت ربي مخفيا وجهرا

أعلنت قولي وحمدت الصبرا

يا رب لا تنحر بني نحرا

وفده بالمال شفعا وترا

أعطيك من كل سوام عشرا

أو مائة دهما وكمتا حمرا


#406#

معروفة أعلامها وصحرا

لله من مالي وفاء نذرا

عفوا ولم تشمت عيونا جزرا

بالواضح الوجه المعشي بدرا

فالحمد لله الأجل شكرا

أعطاني البيض بني زهرا

ثم كفاني في الأمور أمرا

قد كان أشجاني وهد الظهرا

فلست والبيت المغطى سترا

مبدلا نعمة ربي كفرا

ما دمت حيا أو أزور القبرا

آخر الفصل، وصلى الله على سيدنا محمد.


#407#

&فصل في حمله وظهور ضيائه، وحوادث مولده، وذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم&

قال أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي: حدثنا المنذر بن عبد الله، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، أنه سمع حكيم بن حزام رضي الله عنه يقول: ولدت قبل أصحاب الفيل بثلاث عشرة سنة، وأعقل حين أراد "عبد المطلب" أن يذبح ابنه "عبد الله" حين وقع نذره قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.

هذا يعضد قول من قال: كان بين قصة ذبح "عبد الله" وزواجه بـ "آمنة" أربع سنين ونيف.

وذكر أبو هاشم بن ظفر في كتابه "نجباء الأبناء": أنه لما نحرت عن "عبد الله" الإبل وأنجاه الله من الذبح انطلق به "عبد المطلب" من فوره، فأنكحه "آمنة بنت وهب"، وأدخله عليها مكانه، فعلقت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أنبأنا جماعة منهم: أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله


#408#

النعالي، وعبد الرحمن بن محمد بن أحمد الفارقي وأبو الحسن علي بن محمد الدمشقي، أن سليمان بن حمزة الحاكم أنبأهم عن أبي موسى عبد الله بن عبد الغني المقدسي، أخبرنا أبو محمد بن عبد الرحمن بن علي السلمي، أخبرنا والدي أبو الحسن علي بن المسلمة في "ذي القعدة" سنة أربع وعشرين وخمسمائة، أخبرنا أبو نصر الحسين بن طلاب الخطيب في "صفر" سنة سبع وستين وأربعمائة بدمشق في داره، أخبرنا المسدد بن علي الحمصي قدم علينا دمشق في "ذي الحجة" سنة خمس وعشرين وأربع مائة، حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الكريم الحلبي المؤدب بـ"حمص" في سنة ثمان وستين وثلاث مائة، حدثنا أبو عمير عدي بن أحمد بحلب سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا مرار بن مرة الهمداني، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي عون، عن المسور بن مخرمة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن أبيه: العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، عن أبيه عبد المطلب بن هاشم قال: قدمت "اليمن" في رحلة الشتاء، فلقيني رجل من أهل الزبور، فجعل ينظر إلي ثم قال لي: ممن أنت؟ قلت: من "قريش". قال: من أيها؟ فانتسبت إليه.

قال: ادن مني –ثم جعل يمس أحد منخري ثم يمس الآخر، فقال:


#409#

أشهد أن في أحدهما ملكا وفي الآخر نبوة، وإنا لا نجد هذا الأمر إلا في بني زهرة، فكيف ذلك؟ قلت: لا أدري. قال: فهل لك من شاعة؟ قلت: وما "الشاعة"؟ قال: زوجة. قلت: أما اليوم فلا. قال: فتزوج في بني زهرة. ورجع "عبد المطلب" فتزوج "هالة ابنة وهب بن عبد مناف"، فولدت له: "حمزة" أسد الله وأسد رسوله. وتزوج "عبد الله بن عبد المطلب" "آمنة بنت وهب بن عبد مناف". يعني: فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال قريش: ففلج "عبد الله" على أبيه.

وحدث به أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر الأعرابي في "معجمه" فقال: حدثنا حفص بن عمر السياري، حدثنا يعقوب بن محمد بن عيسى، حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، عن عبد المطلب بن هاشم قال: خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء، فنزلت على حبر ممن يقرأ الزبور، فقال لي: يا عبد المطلب، أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك؟ قال: قلت: نعم، ما لم يكن عورة. قال: ففتح إحدى منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر، فقال: إني أجد في أحد منخريك ملكا وفي الآخر نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة، فأنى هذا. ثم قال: هل لك من شاعة. قلت: وما "الشاعة" قال: زوجة. قلت: لا. قال: فإذا


#410#

قدمت فتزوج فيهم.

قال: فقدم "عبد المطلب" فتزوج "هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة" فولدت: "حمزة" و"صفية" وزوج عبد الله "آمنة بنت وهب". فقال الناس: فلج "عبد الله" على أبيه. كذا وقع في هذه الرواية وما قبلها. فتزوج "هالة بنت وهب" والمشهور: "بنت وهيب"، ويقال: "أهيب".

و"وهيب" هذا عم "آمنة بنت وهب".

وقد رويناه على الصواب من طريق يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري المدني، وذلك فيما قال أبو بكر بن محمود بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثنا محمد بن يونس، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر عن أبي عون، عن المسور بن مخرمة، عن ابن عباس، عن أبيه: العباس بن عبد المطلب قال: قال أبي عبد المطلب بن هاشم: خرجت إلى اليمن في رحلة الشتاء والصيف، فنزلت على رجل من اليهود يقرأ الزبور، فقال: يا عبد المطلب بن هاشم، ائذن لي فأنظر في بعض جسدك. قال: قلت: انظر ما لم يكن عورة. قال: فنظر إلى منخري فقال: أجد في إحدى منخريك ملكا وفي الآخر نبوة، فهل لك من شاعة؟ قال: قلت: وما


#411#

"الشاعة"؟ قال: الزوجة. قلت: أما اليوم فلا. قال: فإذا قدمت مكة فتزوج.

قال: فقدم "عبد المطلب" مكة فتزوج "هالة بنت وهيب بن زهرة" فولدت: "حمزة"، و"صفية"، وتزوج "عبد الله" "آمنة بنت وهب" فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت قريش تقول: فلج "عبد الله" على أبيه.

ورواه محمد بن شيبان القزاز أبو الحسن فقال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة، عن أبيه، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال عبد المطلب: قدمت "اليمن" فنزلت على أسقف بها وكان حبر من اليهود يمر بي، فقال لي يوما: يا عبد المطلب، ألا تكشفت لي عن جسدك لأنظر إليه؟ فقلت: أكشف لك عن جسدي ما خلا عورتي. فكشفت عن جسدي فتشممني، ثم تشمم منخري الأيمن، ثم تشمم منخري الأيسر، فقال: أرى يا عبد المطلب من منخرك الأيمن نبوة، وفي الأيسر ملكا، ألك شاعة؟ قلت: وما "الشاعة"؟ قال: امرأة. قلت: أما اليوم فلا. قال: فتزوج في بني زهرة.

قال: فقدمت فتزوجت في بني زهرة. فقالت قريش: فلج "عبد الله" على أبيه "عبد المطلب".

خرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" للقزاز.

قال الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر


#412#

بنت المسور بن مخرمة، عن أبيها.

قال: وحدثني عمر بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، قالا: كانت "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" في حجر عمها "وهيب بن عبد مناف بن زهرة"، فمشى إليه "عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي" بابنه "عبد الله بن عبد المطلب" أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب عليه "آمنة بنت وهب"، فزوجها "عبد الله بن عبد المطلب"، وخطب إليه "عبد المطلب بن هاشم" في مجلسه ذلك ابنته "هالة بنت وهيب" على نفسه، فزوجه إياها، وكان تزوج عبد المطلب بن هاشم وتزوج عبد الله بن عبد المطلب في مجلس واحد. وذكر بقيته.

وفيه حدث ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن الواقدي.

وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبي الفياض الخثعمي قال: مر عبد الله بن عبد المطلب بامرأة من خثعم يقال لها: "فاطمة بنت مر"، وكانت من أجمل الناس وأشبه وأعفه، وكانت قد قرأت الكتب، وكان شباب قريش يتحدثون إليها، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت: يا فتى، من أنت؟ فأخبرها، فقالت هل لك أن تقع علي وأعطيك مائة من الإبل؟ فنظر إليها وقال:


#413#

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تنوينه

ثم مضى إلى امرأته "آمنة بنت وهب"، فكان معها، ثم ذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه ، فأقبل إليه فلم ير منها من الإقبال عليه آخرا كما رآه منها أولا.

فقال: هل لك فيما قلت لي؟

فقالت: قد كان ذلك مرة، فاليوم لا. فذهبت مثلا.

وقالت: أي شيء صنعت بعدي؟

فقال: وقعت على زوجتي "آمنة بنت وهب".

قالت: والله إني لست بصاحبة ريبة، ولكني رأيت نور النبوة في وجهك، فأردت أن يكون في، وأبى الله إلا أن يجعله حيث جعله.

وبلغ شباب قريش ما عرضت على "عبد الله بن عبد المطلب" وتأبيه عليها، فذكروا ذلك لها، فأنشأت تقول:

إني رأيت مخيلة لمعت ... فتلألأت بحناتم القطر


#414#

فلمأتها نورا يضيء له ... ما حوله كإضاءة الفجر

ورأيته شرفا أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري

لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري

وقالت أيضا:

بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتلجان

كما غادر المصباح بعد خبوه ... فتائل قد ميثت له بدهان


#415#

وما كل ما يحوي الفتى من تلاده ... لحزم ولا ما فاته لتوان

فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدان يصطرعان

سيكفيكه إما يد مقفعلة ... وإما يد مبسوطة ببنان

ولما قضت منه أمينة ما قضت ... نبا بصري عنه وكل لسان

قولها: "فلمأتها" أي: أبصرتها، بمنزلة لمحتها.

قاله أبو عبيد الهروي.

وخرج أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثنا علي بن حرب، حدثنا محمد بن عمارة القرشي، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما انطلق "عبد المطلب" بابنه


#416#

"عبد الله" ليزوجه، مر به على كاهنة من أهل "تبالة" متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها: "فاطمة بنت مر الخثعمية". وذكر نحو ما تقدم بطوله.

وخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق مسدد، حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت امرأة من "خثعم" تعرض نفسها في مواسم الحج، وكانت ذات جمال، وكان معها أدم تطوف بها كأنها تبيعها، فقالت: إني والله ما أطوف بهذه الأدم وما لي إلى ثمنها حاجة، وإنما أتوسم الرجل، هل أجد كفؤا، فإن كانت إلي حاجة فثم. فقال لها: مكانك أرجع إليك.

فانطلق إلى رحله، فبدأ فواقع أهله فحملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليها قال: ألا أراك هاهنا. قالت: ومن كنت؟ قال: الذي واعدتك. قالت: لا، ما أنت هو، ولئن كنت هو لقد رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن.

وبلغنا: أن عبد الله لما رجع إلى المرأة التي عرضت نفسها عليه وأجاب آخرا إلى ما دعته أولا، وذلك بعد أن فارقه النور الشريف أنشأت تقول شعرا:


#417#

ألآن قد ضيعت ما كان ظاهرا ... عليك وفارقت الضياء المباركا

غدوت علي حافلا فبذلته ... لغيري عفوا والحقن بنسائك

ولا تحسبن اليوم أمس، فليتني ... رزقت غلاما منك في مثل حالكا

ولكن ذاكم صار في آل زهرة ... به يدعم الله البرية ناسكا

فأجابها عبد الله يقول:

تقولين قولا لست أعلم بالذي ... يكون وما هو كائن قبل ذلك

فإن كنت ضيعت الذي كان بيننا ... من العهد والميثاق في ظل دارك

لمثلك قد أصبيت عن كل خلة ... ومثلي لا يستام عند الفوارك

ذكره بنحوه يونس بن بكير عن ابن إسحاق.

قال: وقالت له أيضا أم قتال.

عليك بآل زهرة حيث كانوا ... و"آمنة" التي حملت غلاما


#418#

ترى المهدي حين نزا عليها ... ونورا قد تقدمه أماما

فيمنع كل محصنة جريدا ... إذا ما كان مرتديا حساما

تحفره الشمال وكان منها ... رياح الجدب تحسبه قتاما

فأنجبه ابن هاشم غير شك ... وآذته كريمته هماما

فكل الخلق يرجوه جميعا ... يسود الناس مهتديا إماما

براه الله من نور مصفى ... فأذهب نوره عنا الظلاما

وذلك صنع ربك إذا حباه ... إذا ما سار يوما أو أقاما

فيهدي أهل مكة بعد كفر ... ويفرض بعد ذلك الصياما

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى" أخبرنا وهب بن جرير بن


#419#

حازم، حدثني أبي، سمعت أبا يزيد المدني يقول: نبئت أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى لما مر على امرأة من "خثعم" فرأت بين عينيه نورا ساطعا إلى السماء، فقالت له: هل لك في؟ قال: نعم، حتى أرمي الجمرة. فانطلق فرمى، ثم أتى امرأته "آمنة بنت وهب" ثم ذكر –يعني: الخثعمية- فأتاها، فقالت: هل أتيت امرأة بعدي؟ قال: نعم، امرأتي "آمنة بنت وهب". فقالت: لا حاجة لي فيك، إنك مررت وبين عينيك نور ساطع إلى السماء، فلما وقعت عليها ذهب، فأخبرها أنها قد حملت بخير أهل الأرض.

وخرج الحاكم أبو عبد الله [من طريق] داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت امرأة من "خثعم" تعرض نفسها في مواسم الحج، كانت ذات جمال، وكان معها أدم تطوف به كأنها تبيعها، فأتت على "عبد الله بن عبد المطلب"، فأظن أنه أعجبها، فقالت:

إني والله ما أطوف بهذه الأدم، وما لي إلى ثمنها حاجة، وإنما أتوسم الرجل هل هو كفء، فإن كانت إلي حاجة فقم. فقال لها: مكانك حتى أرجع إليك.

فانطلق إلى رحله، فبدأ فواقع أهله فحملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليها قال: لا أراك هاهنا . قالت: ومن كنت؟ قال: الذي وعدتك. قالت: لا، ما أنت هو، لأني رأيت بين عينيك نورا ما أراه الآن.

وقال محمد بن سعد: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن


#420#

أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب ما عرضت امرأة من بني أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل.

وبهذا قال ابن إسحاق.

وذكره الزبير بن بكار فيما يزعمون.

وسماه الواقدي فيما رواه عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن عروة، عن عبيد الله بن محمد بن صفوان، عن أبيه، وعن إسحاق بن عبيد الله، عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم.

قالوا جميعا: هي "قتيلة بنت نوفل" أخت "ورقة بن نوفل".

وسماها بعضهم: "رقيقة بنت نوفل".


#421#

وتكنى "أم قتال" فيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق.

وقال جرير بن حازم في "المغازي" عن ابن إسحاق قال: وحدثني إسحاق بن يسار قال: بلغني أن "عبد المطلب" انطلق بـ "عبد الله" ليزوجه، فمر به على امرأة من بني عبد الدار، فرأت بين عينيه غرة كغرة الفرس من نور، فقالت: هل لك في يا ابن عبد المطلب؟ -يعني: فأبى .. .. ، فانطلق فزوجه "آمنة بنت وهب"، فمر عبد الله بن عبد المطلب بالمرأة من بني عبد الدار، فقال: هل لك في؟ فقالت: لا، مررت بي وبين عينيك غرة من نور، فرجوت أن أصيبه منك، وقد ذهبت به "آمنة ابنة وهب".

وقيل: إن المرأة التي عرضت نفسها على "عبد الله": "ليلى العدوية". ذكره ابن قتيبة.

جعل الله هذه الصيانة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في آبائه وأمهاته من لدن "آدم" حتى وصل إلى أبيه وأمه.

قال محمد بن جعفر: أشهد على أبي لحدثني، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي، ثم ولدتني أمي لم تصبني من سفاح الجاهلية».


#422#

رواه أبو أحمد ابن عدي، فقال: حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني المكي، حدثنا محمد بن جعفر، فذكره بنحوه، وهو في "مسند العدني" في أوله.

وحدث به أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة" عن أبي محمد عبد الله بن صالح البخاري، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، قال: حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده، عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء».

وحدث به أبو يعلى الموصلي، حدثنا أحمد بن علي بن المثنى، عن سويد بن سعيد، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه في قوله عز وجل: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} يقول: من نكاح لا من سفاح الجاهلية.


#423#

رواه عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، [عن أبيه أبي جعفر الباقر] في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح».

وحدث به الآجري في كتاب "الشريعة" عن أبي سعيد أحمد بن محمد الشاهد، حدثنا ِإسحاق بن إبراهيم الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح».

وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من النكاح، ولم أخرج من السفاح، ما دون آدم، ولم يصبني سفاح الجاهلية».

وحدث به ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن أنس بن عياض أبي ضمرة الليثي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي بن حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما خرجت من نكاح، ولم أخرج


#424#

من سفاح، من لدن آدم، لم يصبني من سفاح أهل الجاهلية شيء، لم أخرج إلا من شيء طهرة».

وقال ابن سعد أيضا: حدثنا محمد بن عمر الأسلمي، حدثني محمد بن عبد الله بن مسلم، عن عمه الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح غير سفاح». وقال: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من لدن آدم، من نكاح غير سفاح».

ورويناه من حديث عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أبي وعمي قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم عليه السلام، لم يصبني من سفاح الجاهلية».

وقال الزبير بن بكار: حدثني سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.


#425#

قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح».

تابعه عبد الرزاق، عن ابن عيينة.

ورواه يحيى بن بكير، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر.

وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث هشيم، حدثنا المديني، عن ابن الحويرث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، وما ولدني إلا من نكاح كنكاح الإسلام».

قال الطبراني: "المديني" هو عندي: "فليح بن سليمان".

وقال الزبير بن بكار: حدثني سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح».

[تابعه عبد الرزاق، عن ابن عيينة.

ورواه يحيى بن بكير، عن عبد الغفار بن القاسم، عن جعفر].


#426#

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية.

ومع هذا؛ فقد قال بعضهم: إنما عرضت هذه نفسها على "عبد الله" ليتزوجها. قال: وهو أظهر، والله أعلم.

وقيل أيضا: إنما سألها عبد الله ليتزوجها.

وقال أبو المظفر يوسف بن قزاغلي –سبط ابن الجوزي- في كتابه "منتهى السؤال": قالوا: فلو واقعها "عبد الله" –يعني: لو واقع التي عرضت نفسها عليه- كان نكاحا لا سفاحا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولدت من نكاح لا من سفاح»، وقد كانت المرأة في الجاهلية يقول لها الرجل: "خطب"، فتقول "نكح". وعقود الجاهلية بإجماع الأمة صحيحة، احتراز من الوقوع في المحرمات. انتهى.

وروى يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار قال: حدثت: أنه كان لعبد الله بن عبد المطلب امرأة مع "آمنة بنت وهب بن عبد مناف"، فمر بامرأته تلك، وقد أصابه أثر من طين عمل به، فدعاها إلى نفسه، فأبطأت عليه لما رأت من أثر الطين، فدخل فغسل ما به من أثر الطين، ثم دخل عامدا إلى "آمنة"


#427#

ثم دعته صاحبته –التي كان أراد إلى نفسها- فأبى للذي صنعت به أول مرة، فدخل على "آمنة" فأصابها، ثم خرج فدعاها إلى نفسه فقالت: لا حاجة لي بك، مررت وبين عينيك غرة، فرجوت أن أصيبها منك، فلما دخلت على "آمنة" ذهبت بها منك.

قال ابن إسحاق: فحدثت أن امرأته تلك كانت تقول: لمر بي، وإن بين عينيه لنورا مثل الغرة، فدعوته رجاء أن يكون بي، فدخل على "آمنة" فأصابها، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال محمد بن السائب الكلبي: لما تزوج عبد الله بن عبد المطلب "آمنة" أقام عندها ثلاثا، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها.

وروى عبد الرزاق في "مغازيه"، عن معمر، عن الزهري قال: وكان "عبد الله" أحسن رجل رأوه في قريش قط، فخرج يوما على نساء من قريش مجتمعات، فقالت امرأة منهن: يا نساء قريش، أيتكن يتزوجها هذا الفتى؟ فنصطت النور الذي بين عينيه، فإن بين عينيه نورا فتزوجته "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة"، فجامعها، فالتفت فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه "التنوير": وكانت قريش في


#428#

جدوبة شديدة وضيق من الزمان، فسمت السنة التي حمل فيها بمحمد صلى الله عليه وسلم: سنة الابتهاج والفتح والخصب والربح، وذلك أنهم اخضرت لهم الأرض، وحملت لهم الأشجار، وأتاهم الوفد من كل مكان، وكانت سنة الإمكان والأمان، فأخصب أهل مكة خصبا عظيما. انتهى.

وروى الواقدي عن علي بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أبيه، عن عمته قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حملت به "آمنة بنت وهب" كانت تقول: ما شعرت أني حملت به، وما وجدت له ثقلا كما تجد النساء، إلا أني قد أنكرت رفع حيضتي، وربما كانت ترفعني وتعود، فأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان، فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري، فقال: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها، وذلك يوم الاثنين؟ قالت: فكأن ذلك مما يقن عندي الحمل -الحديث.

وروينا من طريق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة قال: فحدثني عمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن "آمنة" نامت في الحجر، فلما أصبحت قالت لعبد الله: أين نمت يا ابن عبد المطلب؟ قال: في الحجر. قالت: وأنا نمت في الحجر، فأري قائلا يقول: احملي ولدا، وانمي صعدا، وسميه أحمدا.

قال –يعني: عبد الله. ولقد رأيت عجبا، ورأيت قائلا يقول: احكم عقدا؛ فقد رزقت ولدا، سميه أحمدا.


#429#

ومات "عبد الله" بالمدينة وترك "آمنة" حاملا برسول الله صلى الله عليه وسلم، على الصحيح عند جمهور أهل السير، وهو قول ابن إسحاق، ورجحه الواقدي وكاتبه محمد بن سعد في "الطبقات" وخلق، وهو أشد ما يكون من اليتم، ولا يكون اليتم في الإنسان إلا من الأب.

قال أبو إسحاق بن إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن" فقال: قد يتم ييتم يتما ويتما، إذا فقد أباه، هذا للإنسان، فأما غير الإنسان فيتمه من قبل أمه. أخبرني بذلك محمد بن يزيد، وعن الرياشي، عن الأصمعي: أن اليتم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم. انتهى.


#430#

وقد قيل: كان موت "عبد الله" قبل ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين، ذكره بعضهم عن الزبير بن بكار. وحكاه السهيلي عن ابن أبي خيثمة، وهو وهم، والله أعلم.

وخرج محمد بن سعد من حديث محمد بن كعب وأيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قالا: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام، إلى غزة في عير من عيرات قريش، يحملون تجارات، ففرغوا من تجارتهم، ثم انصرفوا فمروا بالمدينة، وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم شهرا، ومضى أصحابه فقدموا مكة، فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار، وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده "الحارث"، فوجده قد توفي ودفن في دار التابعة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة.


#431#

وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه": حدثني أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: بعث "عبد المطلب" "عبد الله" يمتار له تمرا من "يثرب" فتوفي عبد الله بن عبد المطلب، وولدت "آمنة" رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله، وكان في حجر جده عبد المطلب.

وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن عبد السلام بن عبد الله، عن ابن خربوذ قال: توفي عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين.

حدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن الزبير.

وقيل: توفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أشهر. ذكره الزبير بن بكار.

وقيل: توفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا.

وروي عن عوانة بن الحكم: أن "عبد الله" توفي بعدما كان أتى على


#432#

رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا.

وذكره ابن سعد والحاكم وآخرون.

وكان عمره كما تقدم خمسا وعشرين سنة، وجعله الواقدي أثبت الأقاويل في سنه.

وقيل: كان له ثمان وعشرون سنة.

وقيل: ثلاثون سنة.

وقيل: ثمان عشرة سنة.

وذكر الحاكم أبو أحمد في كتابه "الكنى" أن سن "عبد الله" حين تزوج "آمنة" ودخل بها كان ثلاثين سنة.

وذكر غيره: أن عمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة.

وقيل غير ذلك.

قيل: كان مولد "عبد الله" لأربع وعشرين سنة مضت من ملك "نوشروان بن قباذ".


#433#

روى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب قال: بعث "عبد المطلب" ابنه "عبد الله" يمتار له تمرا من "يثرب" فمات بها وهو شاب عند أخواله، ولم يكن له ولد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابعه معمر، عن الزهري نحوه.

والمشهور الصحيح: أن وفاة "عبد الله" كانت بالمدينة في "دار النابغة".

وحكى بعضهم قولا غريبا أنه توفي بـ "الأبواء"، وهو بين "مكة" و"المدينة" وصححه، وإنما ذلك مكان وفاة أمه "آمنة" لا مكان وفاة أبيه.

وكان "عبد الله" يكنى "أبا العباس" كما قدمناه وقيل: كان يسمى "أبا محمد" و"أبا قثم".

قال الواقدي وقالت "آمنة بنت وهب" ترثي زوجها عبد الله بن عبد المطلب:

عفى جانب البطحاء بعد ابن هاشم ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم


#434#

دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم

عشية راحوا يحملون سريره ... يعاوره أصحابه في التزاحم

فإن تك غالته المنايا وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم

وذكر أبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمي في جمعه شعر أبي طالب: أن أبا طالب قال يرثي أخاه "عبد الله" أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم:

عيني اندبي ببكاء آخر الأبد ... ولا تملي على قرم لنا سند

أشكو الذي بي من الوجد الشديد له ... وما بقلبي من الآلام والكمد

أضحى أبوه له يبكي وإخوته ... بكل دمع على الخدين مطرد

لو عاش كان لفهر كلها علما ... إذ كان منها مكان الروح في الجسد


#435#

$[ما روي في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه عبد الله ابن عبد المطلب، وطرف من ترجمة أم أيمن بركة رضي الله عنها]$

وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": وأخبرنا محمد بن عمر بن واقد قال: ترك عبد الله بن عبد المطلب "أم أيمن" وخمسة أجمال وأورك –يعني: تأكل الأرك- وقطعة غنم، فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت "أم أيمن" تحضنه واسمها "بركة".

وذكر نسبها غير الواقدي فقال: "بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان"، غلبت عليها كنيتها بابنها "أيمن بن عبيد بن زيد".

قال ابن سعد في "الطبقات": فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم "أم أيمن"، حين تزوج "خديجة بنت خويلد"، فتزوج "عبيد بن زيد" من بني الحارث بن الخرزج "أم أيمن"، فولدت له "أيمن"، صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل يوم حنين شهيدا، وكان "زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي"


#436#

لخديجة بنت خويلد، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وزوجه "أم أيمن" بعد النبوة، فولدت له "أسامة بن زيد".

وقال: أخبرنا محمد بن عمر، عن يحيى بن سعيد بن دينار، عن شيخ من بني سعد بن بكر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأم أيمن: «يا أمه»، وكان إذا نظر إليها قال: «هذه بقية أهل بيتي».

وروى أبو داود في كتابه "المراسيل"، عن نصير بن الفرج، عن عبد الله بن يزيد، عن حيوة –وهو: ابن شريح، عن بكر بن عمرو، عن صفوان بن سليم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم أيمن –وهي أم أسامة: «كيف أصبحت؟» أو «كيف أمسيت؟» فقالت: بخير يا رسول الله. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمين، جعلك الله بخير».

وروى الواقدي عن عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث: أن "أم أيمن" قالت يوم حنين سبت الله أقدامكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسكتي يا أم أيمن، فإنك عسر اللسان».

وقال الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" في ترجمة أم أيمن بركة: أخبرنا ابن كامل القاضي، حدثنا عبد الله بن روح المدائني، حدثنا شبابة، حدثنا أبو مالك النخعي، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن


#437#

أم أيمن رضي الله عنها قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخار من جانب البنية، فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشى فشربت ما في الفخار وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أم أيمن، قومي إلى تلك الفخارة فأهرقي ما فيها»، فقلت: قد والله شربت ما فيها. قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بانت نواجذه، ثم قال: «أما إنه لا ينخع بطنك بعده أبدا».

وحدث به الحسن بن أبي سفيان، حدثنا إسحاق بن بهلول، حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا عبد الملك بن حسين أبو مالك بن النخعي، فذكره.

وقال الحاكم في "المستدرك": حدثني أحمد بن محمد بن رميح، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثني أبي قال: خاصم ابن أبي الفرات مولى أسامة بن زيد [بن] الحسن بن أسامة ونازعه، فقال له ابن أبي الفرات في كلامه: "يا ابن بركة" يريد: أم أيمن. فقال الحسن: اشهدوا، ورفعه إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم –وهو يومئذ قاضي المدينة- وقص عليه القصة، فقال أبو بكر لابن أبي الفرات: ما أردت بقولك له: "يا ابن بركة"؟ قال: سميتها باسمها. فقال أبو بكر: لا، إنما أردت بهذا التصغير بها، وحالها من الإسلام حالها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: «يا أمه» و«يا أم أيمن، لا أقالني الله إن أقلتك».


#438#

فضربه سبعين سوطا.

وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا ابن إسحاق، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا سليمان، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه قال –بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- لعمر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها.

وخرجه مسلم في "صحيحه" ويعقوب بن شيبة في "مسنده" قالا –واللفظ ليعقوب-: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي. فذكره مطولا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وحدث به الحسين بن محمد بن حماد، حدثنا عبد القدوس بن محمد، حدثني عمرو بن عاصم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: ذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى "أم أيمن" نزورها، فقربت لنا طعاما أو شرابا، فإما أن كان صائما وإما لم يرده، فجعلت تخاصمه –أي: كل- فلما توفي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: مر بنا إلى "أم أيمن" نزورها. فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما أبكي أني لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار إلى خير مما كان فيه، ولكني أبكي لخبر السماء انقطع عنا. فهيجتهما على البكاء.

وقال روح بن عبادة: حدثنا هشام بن حسان، عن عثمان بن القاسم


#439#

قال: خرجت "أم أيمن" مهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وهي ماشية ليس معها زاد، وهي صائمة في يوم شديد الحر، فأصابها عطش شديد، حتى كادت أن تموت من شدة العطش.

قال: وهي بـ"الروحاء" أو قريبا منها، فلما غابت الشمس قالت: إذا أنا بحفيف شيء فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا أنا بدلو من السماء مدلى برشاء أبيض، قالت: فدنا مني حتى إذا كان بحيث أستمكن منه تناولت فشربت منه حتى رويت.

قالت: فلقد كنت بعد ذلك اليوم الحار أطوف في الشمس كي أعطش، فما عطشت بعدها.

وحدث به أبو العباس السراج، حدثنا محمد بن الحارث، حدثنا شيبان، حدثنا جعفر، حدثنا ثابت وأبو عمران الجوني وهشام بن حسان قالوا: هاجرت "أم أيمن" من مكة إلى المدينة. و ذكروا القصة بنحوها.

وقال أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني: حدثنا أحمد بن جعفر المصري الأزدي أبو صالح، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم المهاجرون من مكة [إلى] المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء وذكر الحديث، وفي آخره: قال ابن شهاب: وكان شأن "أم أيمن" "أم أسامة"، أنها كانت رضيعة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت "آمنة" رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها ثم أنكحها "زيد بن حارثة"، ثم توفيت بعدما


#440#

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.

وذكر الزهري فيما رواه ابن وهب عن يونس: أنها توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.

وقال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": حدثني أبو بكر محمد بن أحمد [بن] بالويه، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، حدثنا مصعب بن عبد الله قال: توفيت "أم أيمن" مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته في أول خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ما قدمناه من قول الزهري هو الصواب إن شاء الله تعالى، وأنها توفيت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.

وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: "أم أيمن" اسمها: "بركة"، وكانت لأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لأم أيمن: «أمي بعد أمي».

كذا جاء، والمشهور ما تقدم من أن "أم أيمن" كانت لأبي النبي صلى الله عليه وسلم لا لأمه "آمنة".


#441#

$[ما روي في حمل آمنة بالنبي صلى الله عليه وسلم]$

وفي حملها بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تجد له مشقة كما جاءت به [ .. .. ].

وذكر محمد بن سعد عن جماعة من أهل العلم منهم: الزهري: أن "آمنة" قالت: لقد علقت به فما وجدت له مشقة.

وتقدم قولها أيضا: ولا وجدت له ثقلا كما تجد النساء.

وقالت نحو ذلك لمرضعته "حليمة" لما ردته إليها كما سيأتي إن شاء الله.

وخرج ابن دحية في كتابه "المولد" عن أبي عمر بن عبد البر قال: حدثنا القاضي الإمام الناقد أبو الوليد عبد الله بن محمد الأزدي، قرأت على الحافظ أبي زكريا يحيى بن مالك بن عائذ في كتابه "المولد وانتقال النور" –تصنيفه-قال: بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن أمه سيدة بني زهرة بن كلاب تسعة أشهر كملا، ولا تشكو وجعا


#442#

ولا مغصا ولا ريحا، ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وكانت تقول: والله، ما رأيت من حمل قط هو أخف منه ولا أعظم بركة منه.

وقد صرح في هذا أن مدة حمل "آمنة" برسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر، وعلى هذا غالب أهل السير.

وقيل: كانت مدته عشرة أشهر.

قال ابن عباس في قوله تعالى: {وما تغيض الأرحام} ما تنقص عن التسعة أشهر، و{وما تزداد} تزيد عليها.

وهذا التفسير منقول أيضا عن: مجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما.

وجاء عن هشيم بن بشير، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن [ابن] عباس رضي الله عنهما قوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد} فقال ابن عباس: إن رأته خمسة أيام وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام، وإن رأته عشرة أيام وضعته لتسعة أشهر وعشرة أيام، فذلك غيض الأرحام.

وقيل: كانت مدة حمله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وهو أدنى الحمل.


#443#

روينا من حديث عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر ابن راشد، عن الزهري، أخبرني أبي عبيد مولى ابن أزهر: أنه سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يخطب فقال: أنه رفع إلي امرأة ولدت لستة أشهر من حين دخل عليها زوجها، فدخل عليه ابن عباس فقال: يا أمير المؤمنين؛ قال الله عز وجل في كتابه: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} وفي آية أخرى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، فإذا تمت الرضاع كان حملها ستة أشهر.

قال: فنجت بذلك.

ورواه أبو عروبة الحسين بن أبي معشر محمد بن مودود الحراني في كتابه "الطبقات" فقال: حدثنا ابن المثنى، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم قال: حدثني قائد ابن عباس قال: أتي عثمان رضي الله عنه بامرأة ولدت في ستة أشهر، فأمر برجمها، فقال ابن عباس: أدنوني منه. فأدنوه فقال: إنها إن تخاصمك بكتاب الله خصمتك، يقول الله عز وجل: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}، ويقول في آية أخرى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، فقد حملته ستة أشهر، وهي ترضعه لكم حولين كاملين. قال: فردها عثمان رضي الله عنه وخلى سبيلها.

وجاء عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي حرب بن أبي


#444#

الأسود الديلي: أن عمر أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فهم برجمها، فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه فقال: ليس عليها رجم، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه، فسأله، فقال: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين}، وقال تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، فستة أشهر حمله، وحولين تمام الرضاغة، لا حد عليها. فخلى عنها.

خرجه البيهقي في "السنن الكبرى" وغيره بنحوه.

وجاء عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه: أن امرأة وضعت بأقل من ستة أشهر، فلم يرجمها النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه ابن منده في كتابه "معرفة الصحابة" في ترجمة المسيب بن حزم والد سعيد من طريق: موسى بن الحسين الصقلي، عن محمد بن الطفيل، عن عبد السلام بن حرب. فذكره.

وذكر الأطباء عن: "جالينوس" أنه قال: كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل، فرأيت امرأة واحدة [ولدت] في مائة وأربعة وثمانين ليلة.

وقيل: إن زمن الحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أشهر.


#445#

وقيل: كان ثمانية أشهر، ورجحه طائفة، وقالوا: إن الجنين إذا ولد لثمانية أشهر لا يعيش غالبا، والنبي صلى الله عليه وسلم ولد لثمانية أشهر، فهو أبلغ في معجزته.

قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثنا محمد بن غالب، حدثني عبد الصمد –يعني: ابن النعمان البغدادي-، حدثنا مسلم بن خالد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: وضعت مريم عليها السلام لثمانية أشهر؛ فلذلك لا يولد مولود لثمانية أشهر إلا مات؛ لئلا تسب مريم بـ"عيسى" عليهما السلام.

وعند أنه يعرض للجنين عند تمام ستة أشهر من حمله انهتاك الحجب التي عليه، وينتقل منها إلى نحو فم الفرج، فإن كان الجنين في هذه الحالة قويا وحجبه ضعيفة تم الولاد، وإن كان ضعيفا وحجبه ضعيفة تم الولاد، وإن كان ضعيفا وحجبه قوية بقي مريضا أربعين يوما إلى تمام آخر الشهر الثامن، فإن ولد في هذه الأربعين يوما مات ولم يمكن تربيته ولا بقاؤه.


#446#

وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين الفخر الرازي في كتاب "الطب الكبير": فأما المولودون في الشهر الثامن فهم أكثر الناس هلاكا وبقاؤه حيا نادر جدا، فإن كان أنثى فبقاؤها أندر، فإن كان في البلاد الحارة فأندر.

ثم ذكر السبب تخييلا وقياسا على قاعدة الأطباء، وغالب مقالاتهم في الأجنة والتشريح إنما هي مناسبات خيالية وقياسات طبيعية، حتى إن بعضهم ذكر ما ذكر ثم قال: وحقيقة العلم فيه عند الله، ولا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه.

قال أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي في كتابه "أخبار المذاكرة": حدثني القاضي [أبو بكر] محمد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن مروان، حدثني خالي: محمد بن هارون، قال: قال لي بعض أصحابنا: كنت في بعض الليالي أنظر في كتاب "التشريح" لجالينوس، فغلبتني عيني، فرأيت هاتفا يهتف بي ويقرأ: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا} قال: فاستيقظت ومزقت الكتاب.

قال أبو عبد الله بن القيم –رحمه الله وإيانا- في كتابه "أقسام القرآن" بعد أن حكى ما قدمناه من قول بعض الأطباء: "ولا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه"، قال: قد أوقفنا عليه الصادق


#447#

المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم بما ثبت في الصحيحين: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» وفي بعض طرقه: «أربعين ليلة».

قلت: هو من حديث الأعمش عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. فذكره.

رواه جرير، وحفص بن غياث، وزهير بن معاوية، وسفيان الثوري، وشعبة، وابن نمير، وأبو معاوية، ووكيع، وأبو شهاب الحناط، عن الأعمش.

ورواه سلمة بن سنان الأنصاري المرعشي أبو عبد الله، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في


#448#

بطن أمنه أربعين ليلة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة، ثم يكون عظما، ثم يكسى العظم لحما، ثم يبعث الله ملكا فيقال له: اكتب رزقه، وعمله، وأجله، ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد». وذكر الحديث.

[وروى] [16] "داود" –أظنه: "ابن يزيد بن عبد الرحمن الأودي الكوفي"- عن عامر –هو: الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذ ملك بكفه فقال: أي رب، ذكرا أو أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال داود: شككت في "الخلق" و"الخلق" فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فإنك تجد فيها هذه النطفة، فينطلق فيجد قصتها في أم الكتاب، فتخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها، فإذا جاء أجلها قضيت في المكان الذي قدر لها. ثم قرأ عامر: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب}.

وقال عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: حدثنا داود بن عمرو، حدثنا محمد بن مسلم، عن عمرو، سمع أبا الطفيل يقول: قال حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مضت على النطفة خمس وأربعون ليلة يقول الملك: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقول الله عز وجل، فيكتبانه، فيقول الملك: ذكر أو أنثى؟ فيقضي الله عز وجل، ويكتب الملك، فيقول: عمله وأجله؟ فيقضي الله عز وجل، ويكتب الملك».


#449#

قال: «ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها».

[تابعه] سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار.

خرجه مسلم في "صحيحه"، وخشيش بن أصرم في كتاب "الاستقامه" لابن عيينه، نحوه.

وقال أبو الأشعث: حدثنا ابن أبي عدي، عن ابن جريج، حدثني أبو الزبير، عن أبي الطفيل، سمعت عبد الله بن مسعود يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. قال: قلت: خزيا للشيطان، أيسعد ويشقى قبل أن يعمل؟ قال: فأتى حذيفة بن أسيد فأخبره بما قال ابن مسعود قال: أفلا أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: بلى. قال: [سمعت] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استقرت النطفة في الرحم اثنين وأربعين صباحا نزل ملك الأرحام، فخلق عظمها ولحمها وسمعها وبصرها، ثم قال: أي رب، أشقي أم سعيد؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، فيخرج الملك بالصحيفة وما زاد فيها ولا نقص».

تابعه أبو عاصم، عن ابن جريج نحوه.


#450#

ورواه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير.

وخرجه مسلم في "صحيحه" لابن جريج وعمرو بن الحارث.

وهو في كتاب "السنة" لأبي بكر بن أبي عاصم ولفظه: عن أبي الطفيل قال: كان عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد: إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتيت حذيفة بن أسيد الغفاري فقلت: ألا تعجب من عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد: "إن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره"؟ فقال: فما بال هذا الطفل الصغير؟ قال: لا تعجب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا ذات عدد يقول: «إن النطفة إذا وقعت في الرحم أربعين ليلة –وقال أصحابي: خمسا وأربعين ليلة- نفخ فيه الروح. قال: فيجيء ملك الرحم فيدخل فيصور له عظمه ولحمه ودمه وشعره وبشره وسمعه وبصره، ثم يقول: أي رب، أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله عز وجل إليه فيه، ويكتب الملك، ثم يقول: أثره –أي: خطاه؟ فيقضي الله عز وجل ويكتب الملك فيقول: أي رب، أجله؟ فيقضي الله عز وجل ويكتب الملك، ثم يطوي تلك الصحيفة، فلا تمس إلى يوم القيامة».

وخرجه مسلم في "صحيحه" أيضا من حديث زهير بن معاوية، حدثني عبد الله بن عطاء، أن عكرمة بن خالد حدثه [أن] أبا الطفيل


#551#

قال: دخلت على أبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنه فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: «إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك –قال زهير: حسبته قال: الذي يخلقها- فيقول: يا رب، أذكر أم أنثى؟ فيجعله الله تعالى سويا وغير سوي. ثم يقول: يا رب، ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا».

ورواه مسلم أيضا من حديث ربيعة بن كلثوم بن جبر النضري، حدثني أبي: كلثوم، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" وفيه: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة».

وله شاهد من حديث أنس، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم.

وخرجه الأئمة في كتبهم، وطرقه كثيرة.

وحديث حذيفة هذا وحديث ابن مسعود الذي قدمناه أولا قد يفهم أن فيهما تناقضا؛ لأن في حديث حذيفة: أن التقدير وقع بعد الأربعين الثالثة.


#552#

وأجيب عن ذلك بأجوبة، منها: أن المراد بـ"الأربعين" التي في حديث حذيفة الأربعون الثالثة التي في حديث ابن مسعود، ولا سيما وقد تقدم في بعض طرق حديث حذيفة الذي خرجه ابن أبي عاصم في كتاب "السنة": إن النطفة إذا وقعت في الرحم أربعين ليلة –قال: وقال أصحابي: خمسا وأربعين ليلة- نفخ فيها الروح"، ولا خلاف في أن نفخ الروح إنما يكون بعد أربعة أشهر.

فبهذا؛ يظهر أن المراد بهذه الأربعين الأربعون الثالثة التي في حديث ابن مسعود. والله أعلم.

وجاء التصريح بذلك في بعض طرق الحديث، وهو ما حدث به الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، حدثنا عبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم، حدثنا عبيد بن محمد بن يحيى الجوهري، حدثنا بكر بن يحيى بن زبان، حدثنا يعقوب بن مجاهد، عن أبي الطفيل قال: أتيت حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه فقلت: لقد سمعت اليوم عجبا. قال: وما هو؟ قال: سمعت ابن أم عبد رضي الله عنه يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأنكرت ذلك، [فقال]:

وما تنكر من ذلك! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه خمسة وأربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكا فيقول: اكتب أجله ورزقه


#453#

وعمله وشقيا أو سعيدا، ثم يختم ذلك الكتاب فلا يزاد فيه ولا ينقص منه شيء إلى يوم القيامة».

فهذا يصرح أن رواية عكرمة بن خالد وغيره مما تقدم عن أبي الطفيل هذا الحديث فيها اختصار طوله أبو حزرة يعقوب بن مجاهد المدني كما تقدم، لكن الإسناد إليه ضعيف، والله أعلم.

وقيل: إن التصوير والتخليق اللذين في حديث حذيفة هو في التقدير، والعلم الذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي.

وقيل: إنه تقديران واحد بعد آخر:

فالأول: عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان، وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق.

والتقدير الثاني: عند كمال خلقه ونفخ الروح فيه، فذاك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره.

وهذا الثاني قول ابن القيم، ذكره في كتاب "أقسام القرآن".

وقال في كتاب "تحفة المودود بأحكام المولود": أما حديث حذيفة: فصريح في كون ذلك بعد الأربعين –يعني: أن ابتداء التخليق عقيب الأولى- وأما حديث ابن مسعود: فليس فيه تعرض لوقت التصوير والتخليق، وإنما فيه بيان أطوار النطفة أو تنقلها بعد كل


#454#

أربعين، وأنه بعد الأربعين الثلاثة تنفخ فيه الروح، وهذا لم يتعرض له حديث حذيفة، بل اختص به حديث ابن مسعود، فاشترك الحديثان في حدوث أمر بعد الأربعين الأولى، واختص [حديث حذيفة بأن ابتداء تصويرها وخلقها بعد الأربعين الأولى، واختص] حديث ابن مسعود بأن نفخ الروح فيه بعد الأربعين الثالثة، واشترك الحديثان في استئذان الملك ربه تعالى في تقدير شأن المولود في خلال ذلك، فتصادقت كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا. انتهى.

والقول الأول أظهر وأحسن؛ ولهذا جاءت الرواية مفسرة لذلك من الأربعين التي في حديث حذيفة هي الثالثة، وذلك فيما قدمناه من حديث الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من رواية يعقوب بن مجاهد عن أبي الطفيل قال: أتيت حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه، فقلت: لقد سمعت عجبا. قال: وما هذا؟ قلت: سمعت ابن أم عبد يقول: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فأنكرت ذلك، فقال لي: وما تنكر من ذلك؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن خلق أحدكم في بطن أمه خمسة وأربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه ملكا فيقول: اكتب أجله ورزقه، وعمله، وشقيا أو سعيدا. ثم يختم ذلك الكتاب فلا يزاد ولا ينقص منه شيء إلى يوم القيامة».

وفي لفظ رواية مسلم في حديث حذيفة: «نزل ملك الأرحام فخلق عظمها ولحمها وسمعها وبصرها»، الخالق هو الله عز وجل ولكنه لما كان ملك


#455#

الأرحام الواسطة في ذلك ومتوليه بإذن الله عز وجل أضيف ذلك إليه مجازا، والخلق حقيقة لله عز وجل.

قال العلامة شيخ الإسلام شرف الدين أبو محمد هبة الله بن البارزي الحموي –رحمه الله تعالى وإيانا- في كتابه "المقام الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى".

أجمع الموحدون من المسلمين وأهل الكتاب أن إله العالم هو الذي يصور الجنين في الرحم من غير استعانة عليه بغيره، ومن غير طبيعة توجب تلك الصورة للجنين، بل يصوره من ماء الأب وماء الرحم، وفي الحديث الصحيح: «إن ماء الرجل يخرج من صلبه، وماء المرأة يخرج من ترائبها»، ولذلك قال تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق . يخرج من بين الصلب والترائب}، ثم إن الله تعالى يجمع بين هذين الماءين في الرحم متجاورين غير مختلطين أربعين يوما، لا يغير أحدهما الآخر ولا يختلط به، ولذلك قال تعالى: {مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان}، ثم إن الله تعالى بعد أربعين يوما يخلط أحد الماءين بالآخر، فيصير منها علقة، ثم في الأربعين الثالثة يخلق من الماءين المختلطين أعضاء الجنين، فإن علا ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أعمامه، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أخواله. كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: فإذا مضى من مدة الجنين أربعة أشهر ينفخ الله تعالى فيه


#456#

الروح، ويتحرك فيما بين ذلك إلى عشرة أيام، وأحست أمه حين ذلك بتحركه، ولذلك كانت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، وكانت الفائدة في ذلك: أن المتوفى عنها زوجها ربما كانت حاملا، فتنقضي عدتها بوضع الحمل فإذا لم يعلم هل بها حمل أم لا اعتدت بأربعة أشهر وعشر، لأن إن كان بها حمل تحرك في تمام هذه المدة، وصار انقضاء عدتها بوضع الحمل. انتهى.

وقوله: وفي الحديث الصحيح: «إن ماء الرجل يخرج من صلبه، وماء المرأة من ترائبها»: فلا أعرف هذا في حديث صحيح، وإنما هو مروي في تفسير بقوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب} عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد صلب الرجل وترائب المرأة وهو موضع قلادتها.

وهو منقول عن الكلبي ومقاتل وجمهور المفسرين.

وفي نسخة الزبير بن عدي التي رواها بشر بن الحسين عنه عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {أمشاج نبتليه} ويعني: الولد من صلب أبيه وصدر أمه، يخلق من ست؛ ثلاث من قبل الأب: العظم، والعرق، واللحم، وثلاث من قبل الأم: الدم، والشعر، والظفر.

وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث ابن كدينة، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله رضي الله عنه قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه، فقالت


#457#

قريش: يا يهودي، إن هذا يزعم أنه نبي. فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي. قال: فجاء حتى جلس ثم قال: يا محمد، مم يخلق الإنسان، قال: «يا يهودي، من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل: فنطفة غليظة منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم»، فقام اليهودي فقال: هكذا كان يقول من كان قبلك.

ورويناه من حديث محمد بن صالح بن ذريح، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن حمزة الزيات، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال عبد الله: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يقولون: هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقال يهودي: إن كان نبيا فسأسأله عن شيء، فإن كان نبيا علمه. فقال: يا أبا القاسم، أمن نطفة الرجل يخلق الإنسان أم من نطفة المرأة؟ فقال: «إن نطفة الرجل بيضاء، فمنها يخلق العظام والعصب، وإن نطفة المرأة صفراء، فمنها يخلق اللحم والدم».

وذكر أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي –أحد الأعلام- فيما رواه الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني في كتاب "اللفظ" له: عن أبي العباس محمد بن أحمد بن حمدان –إملاء عليهم بـ"خوارزم"- عن أبي عبد الله أنه قال عن المني ومخرجه فقال: العنق.


#458#

ويقال: الظهر. ولا يكون إلا عند قضاء الشهوة، وذلك أن المني ليس له وعاء في الجسد كوعاء البول من الكليتين والمثانة، وإنما ينحلب المني –فيما يقال- والله أعلم- من شؤون الرأس وبنان القدمين، ويعطيه كل عضو صفوة اغتذائه، ومن أجل ذلك يعيا الرجل ويضعف ويوهنه خروجه، وسبيله في ذلك مقارنة سبيل اللبن، وذلك أن اللبن ليس له أيضا وعاء في الجسد إنما ينحلب وقت در الحلوبة في أولادها، فيدر في جميع الجسد إلى أن يكون مجتمعه في الضرع فيخرجه الحالب بحلبه، فكذلك المني لا وعاء له، إنما ينحلب عند هيجان الشهوة وقضاء المجامع لذته، فيكون مجتمعه في الأنثيين في البيضة اليسرى، فيخرج مع انقضاء اللذة. وذكر بقيته.

وقد جاء عن أبي بكر أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل، سمعت أبي، حدثنا عبيد بن حكيم، عن ابن جريج، عن الزهري –رفع الحديث-: أن خزيمة بن حكيم السلمي ثم البهزي رضي الله عنه كانت بينه وبين "خديجة" قرابة وأنه قدم عليها، وكان إذا قدم عليها أصابته بخير، فوجهته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلام لها يقال له: "ميسرة" في تجارة إلى "بصرى" من أرض الشام –وذكر الحديث بطوله، وفيه قصة إسلام "خزيمة بن حكيم" وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم حين كان فتح مكة، وأنه سأله عن مسائل وعن قدر ماء الرجل وماء المرأة، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم إياه عن مسائله منها: وأما قرار مني الرجل فإنه يخرج ماؤه من الإحليل، وهو: عرق من ظهره حتى يستقر قراره في بيضته اليسرى، وأما المرأة فإنه يلقى ولا يحرك حتى تدنو عسيلتها .. .. ، وذكر الحديث.

وسيأتي –إن شاء الله تعالى- بطوله، مع الكلام عليه.


#459#

وأما قول ابن البارزي أيضا فيما تقدم: "إن الله عز وجل يجمع بين هذين الماءين في الرحم متجاورين غير مختلطين أربعين يوما" ليس له على ذلك دليل صريح به، وإنما خرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث "علي بن زيد" –وفيه لين-: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يحدث قال: قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما على حالها لا تغير، فإذا مضت له أربعون صار علقة، ثم مضغة كذلك، ثم عظاما كذلك، فإذا أراد الله أن يسوي خلقه بعث الله الملك .. .. » الحديث.

وقد فسر قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما» أي: يجمع المني الذي يتكون منه الجنين ويتكون من الماءين على الصحيح، خلافا لبعض الطبائعيين.

وعند الأطباء إذا ظفر الرحم بالمني أمسكه واستدار وصار كالكرة، وأخذ في الشدة، ثم يظهر فيه آثار التخليق شيئا فشيئا إلى تمام الأربعين الأولى وهو جمع تخليق جمعا خفيا.

وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما اختصره، واختاره من كتاب "الطب النبوي" جمع أبي الحسن بن المهذب الحموي: اتفق الأطباء على أن خلق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيما تتمين


#460#

أعضاء الذكر دون الأنثى، لحرارة مزاجه وقواه واعتدال قوام المنى الذي يتكون أعضاؤه منه ونضجه، فيكون أقبل للتشكيل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة: قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضعف المدة التي يخلق فيها ، ثم تكون مضغة مثل ذلك –أي لحمة صغيرة، وهي الأربعون الثالثة فيتحرك كما قال صلى الله عليه وسلم، واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. انتهى.

وقد ذكر "بقراط" في كتاب "الأغذية" أن من الأجنة من يكون تصوره في خمسة وثلاثين يوما وحركته في سبعين صباحا، وكماله في مائة وعشرة أيام.

وقد أخبرنا المسند الكبير العماد أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم المقدسي –بقراءتي عليه في شوال سنة تسع وتسعين وسبع مائة-، أخبرتك أم عبد الله زينب بنت أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن –قراءة عليها وأنت تسمع، في جمادى الآخر سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة فأقر به، أن عجيبة بنت أبي بكر محمد بن أبي غالب الباقداري، أنبأتها عن الحسن بن العباس الرستمي ومحمد بن أحمد الباعثان ومسعود بن الحسن الثقفي، قالوا: أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب ابن الإمام أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن منده، أخبرنا أبي، أخبرنا محمد بن يعقوب، حدثناجعفر بن محمد بن شاكر، حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود، حدثنا أنيس بن سوار


#461#

الجرمي –أخو قتادة بن سوار، حدثنا أبي، عن مالك بن الحويرث الليثي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا أراد خلق عبد فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله عز وجل ثم أحضره كل عرق له دون "آدم" عليه السلام في أي صورة ما شاء ركبه».

وهذا إسناد متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرهما. قاله أبو عبد الله بن منده.

وحدث به أيضا عن أحمد بن مهران الفارسي، حدثنا محمد بن إبراهيم بن جناد، حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود. فذكره.

وخرجه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه –في "الطب النبوي"- فقال: حدثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، حدثنا جعفر الصائغ .. .. فذكره كنحو رواية محمد بن يعقوب، عن جعفر بن محمد بن شاكر –وهو: الصائغ.

قال أبو عبد الله بن القيم في كتابه "أقسام القرآن": واقتضت حكمة الخلاق العظيم سبحانه أن جعل داخل الرحم خشنا كالسفنج، وجعل فيه


#462#

طلبا للمني وقبولا له كطلب الأرض الشديدة العطش للماء، وقبولها له، فجعله طالبا حافظا مشتاقا إليه بالطبع؛ فلذلك إذا ظفر به أمسكه ولم يضيعه ويزلقه، بل يشتمل عليه أتم اشتمال، وينضم أعظم انضمام لئلا يفسده الهواء فتستولي القوة والحرارة التي هناك، ويأذن الله تعالى لملك الرحم عقده وطبخه أربعين يوما كما يشاء. وفي تلك الأربعين يجمع خلقه، فإن الرحم إذا اشتمل على المني ولم يقذفه إلى خارج استدار المني على نفسه وصار كالكرة، وأخذ في الشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهو موضع القلب، ونقطة في أعلاه وهي نقطة الدماغ، ونقطة عن اليمين وهي نقطة الكبد، ثم تتباعد تلك النقط ويظهر فيما بينها خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير ذلك [خمسة] عشر يوما فتتميز الأعضاء الثلاثة وهي: القلب والدماغ، والكبد. وتمتد رطوبة النخاع، وذلك يتم باثني عشر يوما، ويصير المجموع سبعة وعشرين يوما، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنين، وذلك في تسعة أيام أخر، فيصير المجموع ستة وثلاثين يوما، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهورا بينا في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوما، فبها يجمع خلقه، وهذا مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما» ولقد كفى صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن هذا التفصيل، وهذا يقتضي أن اجتماع خلقه وقع في الأربعين الأولى.


#463#

ولا ينافي هذا قوله: «ثم يكون علقة مثل ذلك» فإنه يكون علقة وهي: القطعة من الدم –قد جمع فيها خلقها جمعا خفيا، وذلك الخلق في ظهور خفي على التدريج، ثم يكون مضغة أربعين يوما أخرى.

وذلك التخليق يتزايد شيئا فشيئا إلى أن يظهر للحس ظهورا لا خفاء به كله، والروح لم تتعلق به بعد، فإنها إنما تتعلق به في الأربعين الرابعة بعد مائة وعشرين يوما كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه.

فلذلك حار فضلاء الأطباء وأذكياء الفلاسفة في ذلك وقالوا: إن هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظن البعيد. انتهى.

وهذه النقط الثلاثة المذكورة قيل: اختلف الأطباء في أيها السابق، فقال أكثرهم: السابق: القلب، وهو الأولى؛ لأنه أشرف الأعضاء.

وقال أبقراط: الدماغ والعينان.

وقال غيره: إنه الكبد.

وقال جماعة من الأطباء: أول ما يخلق من الإنسان: السرة، واحتجوا بأن حاجة الجنين إلى جذب الغذاء أشد من حاجته إلى آلات قواه وإدراكه، ومن السرة ينبعث الغذاء، والحجب التي على الجنين في السرة كأنها مربوط بعضها ببعض، وفي وسط الحجب تكون السرة ومنها يتنفس الجنين ويتربى ويجتذب الجنين غذاءه منه، فإذا تحرك في أوانه هتك الحجب كما تقدم، وتنخلع السرة بانتقاله، وينحل رباطه فينتقل عن مكانه الذي نشأ فيه إلى نحو فم الفرج، فحينئذ يثقل على أمه، وربما حصل للأمهات عند ذلك مرض واعتلال.


#464#

$*[عود إلى أخبار آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في حملها به]$

وأم النبي صلى الله عليه وسلم كانت في حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم سالمة من ذلك كله.

روي عنها أنها لم تجد لحمله ثقلا ولا وحما، وروي بالعكس: أنها لم تجد لحمله وحما ولا ثقلا.

قال مغلطاي فيما أنبأنا عنه: وجمع –يعني: بينهما- بأن الثقل في ابتداء العلوق، والخفة عند استمرار الحمل، ليكون في ذلك خارجا عن المعتاد. انتهى.

روى ابن القاسم عن مالك قال: أول الحمل بشرى وسرور، وآخره مرض من الأمراض، قال الله تعالى: {حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما} وقد ذكرنا من رواية الواقدي: عن علي ابن يزيد، عن أبيه: يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن عمته قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حملت به "آمنة بنت وهب" كانت تقول: ما شعرت أني حملت به، وما وجدت له ثقلا كما تجد


#465#

النساء، إلا أني قد أنكرت حيضتي، وربما كانت ترفعني وتعود، فأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان، فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري. فقال: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها، وذلك يوم الاثنين.

قالت: فكان ذلك مما يقن عندي [الحمل]. ثم أمهلني حتى دنا ولادي أتاني ذلك الآتي، فقال: قولي: "أعيذه بالواحد الصمد من ضر كل حاسد، قالت: فكنت أقول ذلك، فذكرت ذلك لنسائي فقلن لي: تعلقي حديدا في عضديك وفي عنقك، قالت: ففعلت، فلم يكن يترك علي إلا أياما فأجده قد قطع، فكنت لا أتعلقه.

وذكر نحو هذا محمد بن إسحاق بن يسار قال: فكانت "آمنة بنت وهب" تحدث: أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي:


#466#

أعيذه بالواحد

من شر كل حاسد

في كل بر عاهد

وكل عابد رائد

يرود غير رائد

فإنه عبد الحميد الماجد

حتى أراه قد أتى المشاهد

وآية ذلك: أن يخرج معه نور علا قصور "بصرى" من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدا؛ فإن اسمه في التوراة: "أحمد" يحمده أهل السموات والأرض، واسمه في الإنجيل: "أحمد"، يحمده أهل السموات والأرض، واسمه في القرآن: "محمد".


#467#

وقال ابن عائذ –فيما ذكره ابن دحية بالإسناد إليه قبل: كانت "آمنة" تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر ووكزني في منامي برجله وقال: يا آمنة، إنك حملت بخير العالمين طرا، فإذا ولدتيه فسمه "محمدا"، واكتمي شأنك.

وحدث محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" عن الواقدي، عن جماعة من أشياخه بأسانيد، منهم. طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، دخل حديث بعضهم في حديث بعض: أن "آمنة بنت وهب" قالت: لقد علقت به –تعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج منه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب، فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.

وفي حديث بعض أشياخ الواقدي: وقع جاثيا على ركبتيه –وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رأيت أعناق الإبل بـ"بصرى" رافعا رأسه إلى السماء.

وجاء عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد وقع على كفيه وركبتيه شاخصا بصره إلى السماء.


#468#

حدث به ابن سعد في "الطبقات" عن الهيثم بن خارجة، حدثنا يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي فذكره.

وحدث أيضا عن عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله: أن أم النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفا ما ولدته كما يولد السخل ما به قذر، ووقع إلى الأرض وهو جالس على الأرض بيده.

وروى محمد بن إسحاق من حديث عبد الله بن جعفر، عمن حدثه عن حليمة أم النبي صلى الله عليه وسلم التي أرضعته: أن آمنة بنت وهب حدثتها قالت: إني حملت فلم أر حملا قط أخف علي منه ولا أعظم بركة منه، لقد رأيت نورا كأنه شهاب خرج مني، حين وضعته أضاءت له قصور الشام وأعناق الإبل بـ"بصرى".

قد يفهم من هذا أن "آمنة" حملت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغيره.

وجاء في غير رواية نحوه، من ذلك: ما قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله قال: قالت أم النبي صلى الله عليه وسلم قد حملت الأولاد، فما حملت سخلة أثقل منه صلى الله عليه وسلم.

لكن قال ابن سعد عقب هذا: قال محمد بن عمر الأسلمي: وهذا ما لا يعرف عندنا ولا عند أهل العلم، لم تلد "آمنة بنت وهب" ولا "عبد الله بن عبد المطلب" غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.


#469#

وفي رواية ابن إسحاق التي قدمناها ذكر النور الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد، وكذلك في غيرها من روايات جمة.

ومنها: ما جاء في بعض طرق حديث العرباض بن سارية في هذا المعنى: أن العرباض رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني عند الله مكتوب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام».

خرجه ابن حبان في "صحيحه"، وقد قدمناه.

وروى حنبل بن إسحاق بن حنبل الشيباني من حديث سعيد بن عبيد بن إبراهيم مولى الزبير، عن عطاء بن يسار، عن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لقد رأيت ليلة وضعته صلى الله عليه وسلم خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام حتى رأيتها.

ورواه أبو حفص عمر بن شاهين من هذه الطريق وقال أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي: قالت آمنة: ولدته صلى الله عليه وسلم جاثيا على


#470#

ركبتيه ينظر إلى السماء، ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجدا.

وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثني موسى بن عبيدة، عن أخيه قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع إلى الأرض وقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء، وقبض قبضة من التراب بيده، فبلغ ذلك رجلا من لهب، فقال لصاحب له: انجه لئن صدق الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض.

"لهب" هم: بنو لهب بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب ابن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأسد، وهم أعيف العرب،


#471#

وفيهم يقول كثير عزة.

تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقد رد علم العائفين إلى لهب

وفي خروج هذا النور عند ولاته صلى الله عليه وسلم فيما قيل إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك، كما قال الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} وقيل في إضاءة قصور الشام بالنور الذي خرج معه صلى الله عليه وسلم إشارة على ما خص الشام به من إسفار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام معقلا للإسلام وأهله، وهي دار ملكه، كما ورد ذلك فيما ذكره كعب الأحبار وغيره عن الكتب


#472#

السابقة أن فيها: محمد رسول الله، مولده "بمكة"، ومهاجره "طيبة"، وملكه بالشام، وفي لفظ عن كعب أيضا: وسلطانه بالشام.

فمن "مكة" بدأت نبوته صلى الله عليه وسلم، وإلى الشام ينتهي ملكه، وذلك مسافة النور الذي أظهر وقت مولده الشريف، ولهذا أسري به صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى بيت المقدس، كما هاجر إبراهيم من قبله إلى الشام.

وهذا النور الذي ظهر تواتر ذكره وانتشر، وذكره العباس رضي الله عنه في شعره الذي قدمناه، وإلى معناه نظر، فقال:

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق

وقوله رضي الله عنه: "وضاءت بنورك الأفق": "ضاءت" لغة في "أضاءت"، قال الشاعر:


#473#

قرب قلوصيك فقد ضاء القمر

و"الأفق" واحد "الآفاق" وهي: "أطراف السماء ونواحيها التي مع الأرض، وأنث "الأفق" بقوله: "وضاءت" وهو مذكر معنى: الجهة والناحية، أو جمع "أفقا" على "أفق" كما جمع "فلك"، فـ"الفلك" يكون واحدا وجمعا.

قال الله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم}، وقال تعالى في موضع آخر: {في الفلك المشحون}.

وخرج أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن عمرو الخلال، حدثنا محمد بن منصور الجواز، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه، عن ابن أبي سويد قالت: سمعت عثمان بن أبي العاصي يقول: أخبرتني أمي قالت: شهدت "آمنة" لما ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ضربها المخاض نظرت إلى النجوم تدلى، حتى إني لأقول: ليقعن علي. فلما ولدت خرج منها نور أضاء له البيت الذي نحن فيه والدار فما شيء أنظر إليه إلا نور.


#474#

وحدث به محمد بن يونس الكديمي، عن يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن ابن أبي الأسود الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص بنحوه.

وخرجه ابن السكن في "صحيحه" والبيهقي في "الدلائل" بنحوه.

و"أم عثمان" هي: فاطمة بنت عبد الله الثقفية.

وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة"، حدثنا أبو بكر قاسم بن زكريا المطرز، حدثنا عبد الله بن شبيب المكي، حدثني أحمد بن محمد قال: وجدت في كتاب أبي: عن الزهري، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه: عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كنت تربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الرحمن: فأخبرتني أمي قالت: لما ولد محمد صلى الله عليه وسلم وقع على يدي، استهل، فمسعت قائلا من ناحية البيت يقول: يرحمك ربك. قالت: فلما لينته وأضجعته أضاء لي


#475#

نور، حتى رأيت قصور الروم، ثم غشيتني ظلمة ورعدة، ثم نظرت عن يميني، فلم أر شيئا، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت؟ قال: ذهبت به إلى المغرب. قالت: ثم أصابتني ظلمة ورعدة، ثم نظرت عن يساري فلم أر شيئا، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: ذهبت به إلى المشرق.

قال عبد الرحمن: فكان الحديث من شأني، حتى بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان أول قومه إسلاما.

.. .. من طريق أخرى فيما خرجه أبو نعيم الأصبهاني، من حديث النضر بن سلمة –هو: شاذان، حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز الزهري، عن أبيه [عن الزهري] عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، حدثتني أمي: الشفاء بنت عوف قالت: لما ولدت [آمنة] محمدا صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهل، فسمعت قائلا يقول: رحمك ربك، قالت الشفاء: فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب، حتى نظرت إلى بعض قصور الروم. قالت: ثم اضطجعت، فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة، ثم أسفر لي عن يميني، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: ذهبت به إلى المغرب، ثم عاودني الرعب


#476#

وقشعريرة عن يساري، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق ولن يعود أبدا، فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت أول الناس إسلاما.

"الشفاء" ممدودة عند كثير من المحدثين، ووجدته مقيدا بخط بعضهم بالقصر.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث": "الشفا" مقصور.

وقال محمد بن عائذ: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عثمان بن أبي العاتكة وغيره: أن "آمنة ابنة وهب" حين وضعته صلى الله عليه وسلم كفأت عليه برمة حتى تتفرغ له، قالوا: فوجدت البرمة قد انشقت عن نور أضاءت لها عن قصور كثيرة من قصور الشام.


#477#

وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه وضعته تحت برمة، فانفلقت عنه، قالت: فنظرت فيه فإذا هو صلى الله عليه وسلم قد شق بصره ينظر إلى السماء.

وخرجه أبو حفص عمر بن شاهين في "الدلائل" من طريق عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكره بنحوه.

وقال أبو بكر أحمد بن عمر بن جابر ومحمد بن يوسف الهروي: حدثنا سعيد بن سهل، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه أكبت عليه برمة، فانفلقت عنه، فرئي شاقا بصره إلى السماء صلى الله عليه وسلم.

وخرج البيهقي في "الدلائل" فقال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أنبأني أحمد بن كامل القاضي شفاها، أن محمد بن إسماعيل


#478#

السلمي، حدثهم قال: حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة فكفأن عليه برمة إلى الصبح، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة فكفأن عليه برمة، فلما أصبحن أتين، فوجدن البرمة قد انفقلت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العين، شاخصا ببصره إلى السماء، فقال: احفظنه؛ فإني أرجو أن يكون له شأن عظيم، أو أن يصيب خيرا .. .. الحديث.

وقال أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك: حدثنا أبو الحسن بن البراء –يعني: محمد بن أحمد بن البراء- قال: قالت آمنة: ولدته جاثيا على ركبتيه، ينظر إلى السماء، ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجدا.

وولد صلى الله عليه وسلم وقد قطعت سرره، فغطين عليه إناء، فوجدنه قد تفلق الإناء، وهو يمص إبهامه، يشخب لبنا.


#479#

وكان بمكة رجل من اليهود حين ولد صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلمه. قال: ولد الليلة نبي العرب، به شامة بين منكبيه، سوداء طفراء، فيها شعرات.

فرجع القوم فسألوا أهاليهم، فقيل: ولد الليلة لعبد المطلب غلام. فلقوا اليهودي فأخبروه، فجاء فنظر إليه وقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل.

وقال أبو المظفر يوسف بن قزاغلي –سبط ابن الجوزي- في كتابه "منتهى السول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم".

وقال أهل السير: لما أحست به "آمنة" ووضعته أرسلت قابلتها إلى عبد المطلب، فصادفته وهو يطوف بالبيت قالت له: أجب "آمنة"، فلما جاء إليها قالت له: يا أبا الحارث، ولد لك الساعة مولود له أمر عجب، قال: أليس بشرا سويا؟ قالت: بلى، ولكنه حين خرج إلى


#480#

الدنيا خر ساجدا، ثم رفع رأسه وأصبعه إلى السماء، وظهر معه نور، رأيت منه قصور الشام ومدائن كسرى، ملأ بين السماء والأرض، وجعلت النجوم تدنو من الأرض حتى ظننت أنها ستقع علينا، وإني نوديت البارحة في منامي: يا آمنة، أبشري؛ فإنك تلدين غدا رسول الأمة فإذا وقع إلى الأرض قولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه "محمدا"، فإن اسمه في التوراة "أحمد".

وقيل: وضعته تحت برمة فانفلقت عنه، فنظرت إليه، فإذا هو قد شق بصره إلى السماء. انتهى.

.. .. ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا محمد بن عمر بن واقد، حدثني علي بن يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أبيه، عن عمته قالت: لما ولدت آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى عبد المطلب، فجاء البشير وهو جالس في الحجر معه ولده ورجال من قومه، فأخبره أن "آمنة" ولدت غلاما، فسر ذلك عبد المطلب، وقام هو ومن كان معه، فدخل عليها فأخبرته بكل ما رأت وما قيل لها وما أمرت به، فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة وقام عندها يدعو الله عز وجل ويشكر ما أعطاه.


#481#

وقال محمد بن عمر: فأخبرت أن عبد المطلب قال يومئذ:

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

أعيذه بالبيت ذي الأركان

حتى أراه بالغ البنيان

أعيذه من شر ذي شنآن

من حاسد مضطرب العنان

وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر في كتابه "أنباء نجباء الأبناء":


#482#

أن "آمنة بنت وهب" أم النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت هي وقابلتها إلى عبد المطلب في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يأتي إليهما، وكان عبد المطلب إذ ذاك يطوف بالبيت، فأتاهما، فقالتا له: يا أبا الحارث، ولد لك الساعة مولود له أمر عجب، فذعر عبد المطلب، وقال: أليس بشرا سويا؟ فقالتا: بلى، ولكنه سقط حين خرج إلى الدنيا خارا كالرجل الساجد، ثم رفع رأسه وأصبعه نحو السماء حين لا تقل رقبة رأسا ولا ذراع كفا، وخرج مع نور ملأ البيت، وجعلت النجوم تدنو حى ظننتها ستقع علينا.

وقالت له "آمنة": يا أبا الحارث، لما اشتد علي وجع المخاض كثرت علي الأيدي في البيت، فحين خرج إلى الدنيا خرج معه نور رأيت منه قصور "بصرى"، ولقد أتيت قبل أن ألده في منامي فقيل لي: إنك ستلدين سيد هذه الأمة، فقولي له: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد وسميه "محمدا"، فإن اسمه في التوراة "أحمد".

فقال عبد المطلب: أخرجي إلي ابني، فلقد رأيتني الساعة أطوف بالبيت، فرأيت البيت مال حتى قلت: سقط علي. ثم استوى منتصبا، وسمعت من تلقائه قائلا يقول: الآن طهرني ربي عز وجل وسقط "هبل" على رأسه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنا نائم.

فأجته "آمنة" إلى "عبد المطلب" فانلطق به إلى الكعبة، وطاف به أسبوعا، ثم قام به عند "الملتزم" وجعل يقول:

يا رب كل طائف وهاجد


#483#

ورب كل غائب وشاهد

أدعوك بالليل الطفوح الراكد

اللهم، فاصرف عنه كيد الكائد

واحطم به كل عدو ضاهد

وأنسه يا مخلد الأوابد

في سؤدد راس وجد صاعد


#484#

$[مكان مولده صلى الله عليه وسلم]$

ولا خلاف أن نبينا صلى الله عليه وسلم ولد بمكة خير أرض الله عز وجل وأحب أرض الله إلى الله عز وجل، وكان ذلك في جوفها بشرقيها في الموضع الذي يقال فيه "سوق الليل" بقرب جبل "أبي قبيس"، وهو معروف عند الناس، وكان دارا، لعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استولى عليها عقيل بن أبي طالب.

وقيل: وهبه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تزل مع ذريته إلى أن باعها بعضهم لمحمد بن يوسف الثقفي –أخي الحجاج بن يوسف- فأدخلها في داره التي يقال لها: "البيضاء". ولم تزل فيها حتى حجت الخيزران الجرشية مولاة المهدي وحبيبته وزوجته وأم ولديه الخليفتين: "موسى الهادي" و"هارون الرشيد"، ووقع في كلام السهيلي أنها "زبيدة"، والصحيح الأول فابتاعها من محمد بن يوسف، وأخرجتها


#485#

من داره وأشرعتها في الزقاق الذي في أصلها، وجعلتها مسجدا يصلى فيه.

وذكر نحوه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" وقال: سمعت جدي ويوسف بن محمد يثبتان أمر المولد، وأنه ذلك البيت، لا خلاف فيه عند أهل مكة. انتهى.

وقال الحكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم ولد في الدار التي في الزقاق المعروف بـ"زقاق المدكك" بمكة، وهي كانت بيد "عقيل بن أبي طالب". انتهى.

وهي الدار التي جعلت مسجدا كما تقدم، ثم عمر هذا المسجد غير مرة، ولم ير بناء أحفل منه أكثره ذهب منزل، فيما ذكره الكناني الغرناطي في كتابه "التذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" ثم قال: والموضع المقدس الذي سقط فيه صلى الله عليه وسلم ساعة الولادة السعيدة المباركة


#486#

التي جعلها الله رحمة للأمة أجمعين محفوف بالفضة كأنه صهريج صغير، سطحه فضة، فيالها تربة شرفها تعالى بأن جعلها مسقط أطهر الأجسام ومولد خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وأهله وأصحابه الكرام وسلم تسليما.

وقال في موضع آخر من "التذكرة" عن مكان المولد الشريف قال: وهو مسجد "حفيل البناء"، وكان دارا لـ"عبد الله بن عبد المطلب" أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكره ومولده صلى الله عليه وسلم صفة صهريج صغير سعته ثلاثة أشبار، وفي وسطه رخامة خضراء سعتها ثلثا شبر، مطوقة بالفضة، فتكون في سعتها مع الفضة المتصلة بها شبرا.

قلت: زرت هذا المكان الشريف بحمد الله ومنه وتبركت به لما حججت سنة أربع عشرة وثمان مائة، ودخلت المسجد المذكور، ورأيت مكان الميلاد الشريف، وهو شامي محراب المسجد، بينه وبين المحراب شيء يسير، وقد جعل عليه حجار خشب مربعا قصيرا.

قال أبو الوليد الأزرقي: حدثني محمد بن يحيى، عن أخيه قال: حدثني رجل من أهل مكة يقال له: سليمان بن أبي مرحب مولى ابن جشم، قال: حدثني ناس كانوا يسكنون ذلك البيت قبل أن تشرعه الخيزران من الدار، ثم انتقلوا عنه حين جعل مسجدا، قالوا: لا والله، ما أصابتنا فيه جائحة ولا حاجة، فأخرجنا منه، فاشتد علينا الزمان.


#487#

وقيل: ولد صلى الله عليه وسلم بـ"الردم"، ويقال: بـ"عساف" حكى ذلك مغلطاي في كتابه "الإشارة".

والمراد بـ"الردم" ردم بني جمح لا الردم الذي بأعلى مكة، فإنه لم يكن إلا في خلافة عمر.

وهذان القولان ضعيفان، والقول الأخير لا يعد خلافا؛ لبطلانه، والله أعلم.


#488#

$[زمان مولده صلى الله عليه وسلم وفضل يوم الاثنين]$

وولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين على الصحيح,

وقيل: يوم الجمعة، وهو باطل لا أصل له، ذكر أبو الخطاب بن دحية: أنه قرأه في كتاب "إعلام الورى بأعلام الهدى" وهو تأليف بعض الشيعة، قال: وهو مقطوع باطل بيقين.

قلت: والأحاديث الصحيحة ترده.

قال الإمام [أبو] سعيد عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا مهدي بن ميمون، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة رضي الله عنه: أن أعرابيا قال: يا رسول الله، ما يوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه».

خرجه مسلم في "صحيحه" لابن مهدي.

تابعه أبو داود الطيالسي، عن مهدي بن ميمون.

تابعه حماد بن زيد، وشعبة بن الحجاج، وأبان بن يزيد العطار، عن غيلان بنحوه.


#489#

وروى حميد بن زنجويه فقال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن معبد فذكر الحديث مطولا، وفيه: قال: فما تقول في صيام يوم الاثنين؟ قال: «ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزل علي فيه».

وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن [أبي] عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين.

خرجه ابن جرير في "تاريخه" فقال: حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا موسى بن داود فذكره.

تابعه يحيى بن بكير وعمرو بن خالد فيما خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديثهما قالا: حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن [أبي] عمران، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ويوم الاثنين خرج من مكة، ودخل إلى المدينة يوم الاثنين، وفتح بدرا يوم الاثنين، ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين:


#490#

{اليوم أكملت لكم دينكم}، ورفع الركن الأسود يوم الاثنين، وتوفي في الاثنين.

حدث بنحوه يعقوب بن سفيان في "التاريخ" عن ابن بكير، قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة فذكره، وسيأتي لفظه في الهجرة –إن شاء الله تعالى.

ورواه عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا سعيد بن عفير، حدثني ابن لهيعة، عن خالد بن [أبي] عمران فذكره.

حنش الصنعاني الدمشقي، من صنعاء دمشق، وثقه أبو زرعة الرازي، وأحمد بن عبد الله العجلي، وغيرهما، وقال أبو حاتم الرازي: صالح.

و"خالد بن أبي عمران أبو عمر التجيبي"، مولاهم، التونسي، قاضي "إفريقية"، قال أبو سعيد بن يونس، وكان فقيه أهل المغرب، ومفتي أهل مصر والمغرب، ذكر ذلك سعيد بن عفير وغيره، وكان يقال: إنه مستجاب الدعاء، وثقه ابن سعد وغيره.


#491#

و"عبد الله بن لهيعة" معروف حاله.

وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وأنزل عليه يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين.

وجاء عن عبيد الله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.

وله طرق غير ما ذكرنا إلى ابن عباس، منها: ما قال خيثمة بن سليمان: حدثنا خلف بن محمد كردوس الواسطي، حدثنا المعلى بن عبد الرحمن، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه "البقرة" يوم الاثنين في ربيع الأول، وهاجر إلى المدينة يوم الاثنين في ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين في ربيع الأول.

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين.


#492#

وفيما ذكرنا من هذه الأحاديث دليل صريح أنه صلى الله عليه وسلم ولد في اليوم لا في الليل كما زعم بعضهم.

وذكر الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي فيما أنبأونا عنه: "أنه صلى الله عليه وسلم ولد حين طلع الفجر" صحيح –وصححه.

قال ابن دحية: "ولا يصح عندي بوجه أنه ولد ليلا" واستدل بما صح أنه صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الاثنين: "فيه ولدت".

وحجة من قال ولد ليلا: حديث أم عثمان بن أبي العاص الذي قدمناه قالت: حضرت ولادة "آمنة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وإني لأنظر إلى النجوم تدنو مني، حتى إني لأقول : ليقعن علي.


#493#

وليس في هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد ليلا؛ لأنه يحتمل أن "آمنة" ضربها المخاض حينئذ، وولدته صلى الله عليه وسلم حين طلوع الفجر كما صح، وأيضا؛ فإن النجوم عند طلوع الفجر تكون ظاهرة، وإنما تذهب عند الإسفار، والله أعلم.

وقال الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي في كتابه "التلقيح": اتفقوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ولد يوم الاثنين] في شهر ربيع الأول عام الفيل.

وكذلك نقل غيره الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم ولد في ربيع الأول، وهو قول الجمهور.

وقال الزبير بن بكار: حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى، وولد بمكة بالدار المعروفة لمحمد بن يوسف


#494#

-أخي الحجاج بن يوسف- لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

وذكر نحوه مختصرا أبو العباس أحمد بن الجزار في "تاريخه".

وحدث الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا المسيب بن شريك عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء المحرم، وولد في الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.

وخرجه أبو نعيم الأصبهاني.

وهذا لا يصح، لأن المسيب بن شريك أبا سعيد التميمي الشقري راويه قال فيه الحافظ عمرو بن علي الفلاس: أجمعوا على ترك حديثه.

وقال الإمام أحمد: ترك الناس حديثه.

وقال يحيى بن معين: ليس بشيء.


#495#

وقال البخاري: سكتوا عنه.

وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتاج به.

وضعفه غير واحد.

وقيل: ولد يوم عاشوراء، والخبر به موضوع جاء –والله أعلم- من فعل "حبيب بن أبي حبيب الخرططي المروزي.

ورواه عن إبراهيم الصائغ عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعا.

وقيل: ولد في صفر، وحكاه الدمياطي فيما أنبأونا عنه، ولا يثبت أيضا. وقيل: ولد في ربيع الآخر. ذكره مغلطاي فيما أنبأونا عنه، ولا يصح.

وإنما الصحيح إذا الذي لا يثبت غيره أنه صلى الله عليه وسلم ولد في شهر ربيع الأول.

قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي: وهو من الشهور العجمية شهر أبريل. انتهى.

وقد اختلف العلماء في أي يوم ولد صلى الله عليه وسلم من شهر ربيع الأول:


#496#

فقال قوم: هو غير معين، لكنه يوم الاثنين في شهر ربيع الأول من غير ذكر عدد.

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي في إحدى الروايتين عنه أنه وافق على أنه يوم الاثنين من الشهر، وتوقف في ضبط عدد الأيام.

ونقل عنه أنه لا يعلم ذلك إلا الله.

قيل: وإنما قال هذا؛ لأنه لم يبلغه في ذلك ما يعتمد عليه،ـ فوقف في ذلك تورعا.

وأما الجمهور فكل منهم قال ما بلغه، وقوي عنده.

وقيل: أول اثنين من شهر ربيع الأول. ذكره المحب أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري المكي في كتابه "خلاصة سير سيد البشر صلى الله عليه وسلم"، وحكاه ابن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر" فيما أنبأونا عنه.

وقيل: في أول شهر ربيع الأول حين طلع الفجر. حكاه مغلطاي في كتاب "الإشارة" فيما أنبأونا عنه.

وقيل: لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول. قاله عطاء.

ورواه الواقدي عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني، وذكره أبو عمر بن عبد البر في كتابه "الاستيعاب".


#497#

وقيل: لثلاث خلون منه. حكاه الدمياطي فيما أنبأونا عنه.

وقيل: لثمان خلون منه، قاله عكرمة، وروي عن جبير بن مطعم، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس.

ورواه مالك وعقيل ويونس بن يزيد وغيرهم، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم.

واختاره أبو محمد بن حزم وجماعة.

وقطع به الإمامان: أبو بكر محمد بن موسى بن محمد الخوارزمي، وأبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي.

وقال أبو الخطاب بن دحية: وهو الذي لا يصح غيره.

وقال أبو جعفر أحمد بن عبد الله الطبري المكي: وصححه كثير من العلماء قاله في كتابه "خلاصة السير".

وقيل: لعشر خلون منه. رواه أبو القاسم بن عساكر عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لعشر ليال خلون من ربيع الأول، وقد كان قدوم أصحاب الفيل قبل ذلك في النصف من المحرم.


#498#

وجاء عن مجالد، عن الشعبي.

وصحه الدمياطي فقال فيما أنبأونا عنه: والصحيح قول أبي جعفر.

وقيل: لثنتي عشرة خلت منه. وهو المشهور عند الجمهور.

ولم يذكر ابن إسحاق غيره.

وقاله ابن عباس وغيره.

وذكره أبو محمد بن حزم.

وحكى ابن الجزار الإجماع عليه. وفيه نظر، قاله مغلطاي فيما أنبأونا عنه.

وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن سعيد بن مينا، عن جابر وابن عباس رضي الله عنهم قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به السماء،


#499#

وفيه هاجر، وفيه مات.

وقيل: لسبعة عشر خلت منه. ذكره أبو الخطاب بن دحية عن بعض الشيعة.

وقيل: لثمان عشرة خلت منه. نقله ابن دحية في كتابه "التنوير" عن مصنف أبي بكر بن أبي شيبة، وانقلب عليه ذلك.

وقيل: لثمان بقيت منه. حكاه ابن دحية عن خط الوزير أبي رافع ابن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه: أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد، فيما ذكره في المرتبة الرابعة.

والصحيح عن ابن حزم ما نقله عنه الحميدي أنه لثمان خلون منه.

ونقله القاضي أبو عبد الله بن سلامة القضاعي في تاريخه "عيون المعارف" عن أصحاب الزيج: أنهم زعموا أن ذلك لثمان


#500#

خلون منه بعد قدوم الفيل بخمسين يوما، وهي ليلة اليوم الثامن والعشرين من شهر "نيسان" سنة ثماني مائة واثنين وثمانين لذي القرنين.

وزعموا أن الطالع كان عشرين درجة من برج "الجدي"، وكان "المشترى" و"زحل" في ثلاث درج من "العقرب" مقترنين وهي درجة وسط السماء؟

ونقل ذلك بنحوه ابن دحية في كتابه "التنوير" عن الحافظ محمد بن موسى الخوارزمي.

وقال: وقيل: إنه وافق من البروج "الحمل"، وصدقوا والله أعلم؛ لأن شهر هذا البرج عندهم هو "نيسان"، وبـ"الحمل" يبدأ الآن استدارة الأفلاك كأن مبدأها من برج "الحمل" فيما ذكروا.


#501#

وكان مولده صلى الله عليه وسلم عند طلوع الغفر، والغفر يطلع في ذلك الشهر أول الليل.

وذكر أيضا أن ما بين الزنابتين من "العقرب" وبين ألية الأسد وهو السماك يطلع "الغفر" الذي به مولد الأنبياء.

وهذا الذي ذكره ابن دحية ذكره بنحوه شيخه أبو القاسم السهيلي فقال: وأهل الحساب يقولون: وافق مولده صلى الله عليه وسلم من الشهور الشمسية "نيسان"، فكان لعشرين مضين منه، وولد بـ"الغفر" من المنازل، وهو مولد النبيين، ولذلك قيل: خير منزلتين في الأبد بين" "الزنابا" و"الأسد"، لأن "الغفر" يليه من "العقرب" زناباها، ولا ضرر في "الزنابا"، وإنما تضر "العقرب" بذنبها، ويليه من "الأسد" أليته وهو السماك، و"الأسد" لا يضر بأليته، إنما يضر بمخلبه ونابه. انتهى.


#502#

$* وكان مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل على الصحيح$

خرجه البيهقي في "الدلائل" من حديث يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

وقال وهب بن جرير: حدثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق، يحدث عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل.

وسأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم –أخا بني يعمر بن ليث- أأنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أقدم منه في الميلاد، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على الموضع، قال: ورأيت خذق الطير أخضر محيلا.

خرجه الترمذي عن محمد بن بشار العبدي عن وهب به، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق.


#503#

وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني": عن محمد بن المثنى، حدثنا / وهب بن جرير، فذكره بنحوه، وفي آخره: قال: ورأيت "أمية بن عبد شمس" شيخا كبيرا يقوده عبده "أبو عمر"، فقال له ابنه: يا قباث، أنت أعلم وما تقول.

وعلقه البخاري في "تاريخه الكبير" دون الزيادة عن محمد ابن المثنى.

وخرجه الحاكم في "مستدركه".

و"الخذق" كـ"الروث"، و"محيلا": أتى عليه حول.

وقال الإمام أحمد فيث "العلل": حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: فحدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، عن أبيه، عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، فنحن لدان. يعني: مولدا واحدا.

تابعه يونس بن بكير ومحمد بن سلمة وغيرهما عن ابن إسحاق.

وخرج البيهقي في "الدلائل" من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت –مديني- أخبرنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث


#504#

ابن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم [أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم] عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين.

وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" من طريق إسماعيل بن أبي أويس، حدثني الزبير بن موسى، فذكره بنحوه دون قوله: "ووقفت بي أمي" إلى قوله: "أعقله".

وقال إبراهيم بن المنذر: حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين من الفيل ونبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين من الفيل.

حدث به يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه" عن إبراهيم.

وقال أيضا: وحدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، حدثنا نعيم بن ميسرة، عن بعضهم، عن سويد بن غفلة قال: أنا لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت عام الفيل.


#505#

قلت: وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين. قاله البيهقي في "الدلائل".

"سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر بن وداع الجعفي أبو أمية الكوفي" من سادة التابعين، وأحد المعمرين، أتى عليه –فيما ذكره عاصم بن كليب- مائة وثلاثون سنة.

وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي فيما رواه عنه الفسوي في "تاريخه": والذي لا يشك فيه أحد من علمائنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.

وقال بعضهم لما حكى الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل: كل قول يخالفه وهم.

وممن نقل الإجماع على ذلك: خليفة بن خياط كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وأبو عمر بن عبد البر، وأحمد بن الجزار، وغيرهم.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": حدثني يحيى بن معين، حدثنا حجاج، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل.


#506#

تابعه أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، وأبو الفضل عباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين به.

وهكذا حدث به أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري الدمشقي في "تاريخه" عن يحيى بن معين، وهو أول شيء في "التاريخ".

وكذلك حدث به أبو جعفر محمد بن أبي شيبة في "تاريخه" عن يحيى بن معين.

قال عبد الله بن أحمد: إنما هو "عام الفيل" وأخطأ فيه يحيى.

وقال عبد الله بن مرة: فبلغني عن يحيى بن معين أنه رجع عنه فقال: "عام الفيل".

قلت: في "تاريخ يحيى بن معين" –الذي ألفه أبو الفضل عباس بن محمد الدوري، ورواه عنه –ما يخالف قول عبد الله بن أحمد؛ لأن "عباسا" قال بعد روايته الحديث عن يحيى: ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفيل.

قال: وقد كان يحيى قال مرة: "ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل"، ثم رجع فقال: "يوم الفيل"، ويحتمل أن يريد بقوله "يوم الفيل" "عام


#507#

الفيل"؟ قاله بعضهم.

وقال أبو حاتم محمد بن حبان في كتاب "الثقات":

ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من شهر ربيع الأول في اليوم الذي بعث الله طيرا أبابيل على أصحاب الفيل.

ابن حبان تبع ابن معين؛ لأنه روى الحديث السابق عن أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي عن يحيى. والله أعلم.

واختلفوا فيما مضى من عام الفيل أو بقي منه، على أقوال:

فقيل: بعد وقعة الفيل بثلاثين يوما.

حكاه أبو أحمد الحاكم عن بعضهم.

وقيل: بأربعين يوما. حكاه أبو أحمد الحاكم أيضا. وكذلك حكاه والذي قبله ابن دحية.

وقيل: بخمسين يوما. حكاه أبو محمد ابن حزم، وأبو عبد الله القضاعي في "تاريخه" وغيرهما.

وقال ابن دحية: وهو الصحيح الذي ذكره الخوارزمي، وعليه جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم.


#508#

وقيل: بعد الفيل بخمس وخمسين يوما، وعليه عامة المؤرخين. قاله أبو المظفر سبط ابن الجوزي، وذكره أبوعبد الله القضاعي في "تاريخه". وقيل: بعده بشهرين وستة أيام.

وقيل: بعده بعشر سنين. حكاه والقول الذي [قبله فيما] أنبأونا عنه مغلطاي.

وقال حنبل بن إسحاق في "تاريخه": حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا يعقوب القمي، حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان بين "الفيل" وبين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين.

قال الذهبي: وهذا القول منقطع. قاله في "تاريخ الإسلام" حين رواه معلقا عن "القمي"، وقد اختلف عليه فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقيل: بعد "الفيل" بعشرين سنة. حكاه بعضهم.

وقيل: بثلاث وعشرين سنة. رواه المسيب بن شريك –وهو متروك- عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وقيل: بثلاثين سنة. قاله مقاتل.

قال يعقوب الفسوي في "تاريخه": حدثنا إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام بن خويلد: حدثنا محمد بن فليح بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم على رأس خمسة عشر سنة من بنيان الكعبة، فكان بين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب الفيل سبعون سنة.

قال أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر: وهذا وهم.

تابعه أبو بكر بن أبي خثيمة، فرواه في "تاريخه" عن إبراهيم بن المنذر. وقال في آخره: قال الحزامي: وهذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبأ على رأس أربعين من "الفيل".

وقيل: بعده بأربعين سنة. قاله أبو زكريا الغلابي، ونقل عن مجاهد، وهو غريب جدا. رواه أبو القاسم بن عساكر، وذكره الحاكم أبو أحمد.

وقيل: بعد "الفيل" بسبعين عاما. حكاه مغلطاي فيما أنبأونا عنه.

وقيل: قبل "الفيل" بخمس عشرة سنة رواه خليفة بن خياط من  حديث الكلبي، عن أبي صالح باذام، عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا إسناد واه جدا.

وقيل: قبل "الفيل" بشهر.

وقيل: قبله بأربعين يوما.

وقيل: قبله بخمسين يوما. حكاه والقولين قبله: أبو محمد عبد الحق الإشبيلي.

وقيل: قبل "الفيل" بثلاثين سنة. وجاء بمعناه فيما حدث به أحمد في "العلل": حدثنا إسماعيل بن أبان الوراق، أخبرنا يعقوب يعني: [القمي، هو: ابن عبد الله بن سعد القمي]، عن جعفر هو: ابن أبي المغيرة الخزاعي عن ابن أبزى قال: كان بين "الفيل" وبين أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنزل عليه القرآن.

وحدث به يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه" عن أحمد بن الخليل، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا يعقوب القمي، فذكره.

قال خليفة بن خياط: والمجتمع عليه: أنه ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل.



    [1] [[ من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال محققها: بياض بالأصل بمقدار كلمة.]]
    [2] [[ من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال محققها: بياض في الأصل بمقدار كلمة.]]
    [3] [[ من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال محققها: بياض في الأصل بمقدار كلمة، ولعل مكانه: وقد.]]
    [4] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: هذا]]
    [5] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض مقدار كلمة]]
    [6] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وحدث]]
    [7] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: خرجه]]
    [8] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: تابعه]]
    [9] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وقد]]
    [10] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وروى]]
    [11] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وروي]]
    [12] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وقد]]
    [13] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وخرج]]
    [14] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وذكر]]
    [15] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: وكانت]]
    [16] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي موضعها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل بمقدار كلمة، ولعلها: ورواه]]


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق