ج3.من[قصة أصحاب الفيل
وأمر إهلاكهم]
وقصة الفيل مشهورة معروفة، ذكرها الله تعالى مجملة في كتابه الجليل في قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} .. .. السورة، وورد تفصيلها في الآثار ، وصرّح بها المفسرون، وذكرها أرباب السير.
قال أبو الوليد الأزرقي: وقد ذكر الله عز وجل الفيل وما صنع بأصحابه، فقال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} إلى آخر السورة، ولو لم ينطق القرآن به لكان في الأخبار المتواطئة والأشعار المتظاهرة في الجاهلية والإسلام؛ حجة وبيان لشهرته، وما كان العرب تؤرخ به، فكان يؤرخون في كتبهم من سنة الفيل، وفيها ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو محمد بن قتيبة: أجمع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، عاين ذلك حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وحسان بن ثابت رضي الله عنهم وكل هؤلاء عاشوا في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة.
وذكر نحوه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة"، لكنه جعل مكان "حسان" "نوفل بن معاوية" يعني: ابن عروة الدؤلي.
وقالت الشعراء في ذلك عن عيان الأمر ومشاهدته، منهم: نفيل بن حبيب وهو: ابن عبد الله بن جزء بن عامر بن رابية بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن خلف بن أفتل، وهو: "خثعم الخثعمي" وهو جاهلي، وكانت الحبشة أخذته في طريقها إلى مكة ليدلها، فاحتال وهرب -يعني: ليلة عزمهم على دخول مكة- وشاهد ما حل بالحبشة فقال:
ألا ردي ركائبنا ردينا ... نعمناكم على الهجران عينا فإنك لو رأيت ولن تراه ... لدى جنب المحصب ما رأينا
زاد غيره:
إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة تلقى علينا
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن علي للحبشاء دينا
وقال أمية بن أبي الصلت - وذلك على أحد القولين-:
إن آيات ربنا بينات ... ما يماري فيهن إلا الكفور
زاد غيره:
خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور ثم يجلو النهار رب رحيم ... بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
في أبيات أخر لم يذكرها ابن قتيبة:
وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
أنت حبست الفيل بالمغمس ... حبسته كأنه مكردس
من بعد ما هم بشر مخلس ... بمحبس تزهق فيه الأنفس
#9#
وقت ثياب ربنا لم تدنس ... يا واهب الحي الجميع الأخمس
وما لهم من طارف وأنفس ... وجاره مثل الجوار الكنس
أنت لنا في كل أمر مضرس ... وفي هنات أخذت بالأنفس
وحدث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان بمكة.
تابعه جماعة، منهم: سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق.
وقصة الفيل وقعت لنا مفرقة في عدة آثار جمعتها على سياقة حديث واحد، فكانت فيما روينا، وبلغنا من ذلك:
أن ملك "اليمن": "ذا شناتر"، وهو "لخيعة" فيما قاله أبو بكر بن دريد وقال غيره: "لخنيعة"، وهو المشهور، ومعنى "ذي شناتر" أي: صاحب الغوطة فيما يقال، و"ذو شناتر" هو الذي ملك بعد "عمرو بن تبان أسعد بن كليكرب بن زيد"، وهو "تبع الأول" في قول، وكان "ذو شناتر"
#10#
فظا غليظا قتالا، وكان لا يسمع بغلام قد نشأ من أبناء المقاول إلا بعث إليه فأفسده لكي لا يملكوا؛ لأنهم لم يكونوا يملكون من نكح، وأنه نشأ غلام منهم يقال له: "ذو نواس" واسمه: "زرعة" ولما تهود تسمى "يوسف"، وهو: ابن تبان أسعد أخو حسان بن عمرو ابني أبي كرب تبان أسعد، فأدخل عليهم "بنوف" وهو موضع باليمن، ومع ذى نواس سكين لطيفة خبأها لقتل "ذي شناتر"، فلما دنا منه يريده على الفاحشة شق بطنه واحتز رأسه.
فلما بلغ "حمير" ما فعل "ذو نواس" قالوا: ما نرى أحدا أحق بهذا الأمر ممن أراحنا منه، فملكوا "ذو نواس" وهو صاحب الأخدود الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وانتقل "ذو نواس" إلى دين اليهود وفارق عبادة الأوثان، وقتل غالب من كان على دين عيسى عليه السلام وبلغه عن أهل "نجران": أن رجلا جاءهم من قبل "آل جفنة" ملوك "غسان"، فدعاهم للنصرانية فأجابوه ودخلوا فيها، وعلمهم ذلك الرجل إياها فسار "ذو نواس" إليهم بنفسه فآذاهم واحتفر لهم أخاديد في الأرض، وملأها جمرا، وعرضهم عليها، فمن تابعه على دينه خلى عنه، ومن أقام على النصرانية قذفه فيها، حتى أتي بامرأة معها صبي لها ابن سبعة أشهر، فعرضها على النار فكأنها تلكأت، فقال لها صبيها: يا أمه، امضي
#11#
على دينك، فإنه لا نار بعدها، فرمى بالمرأة وابنها في النار، ثم كف بعد أن قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، منهم "عبد الله بن الثامر" رأسهم وإمامهم.
ونجا جماعة من القتل منهم رجل من "اليمن" يقال له: "دوس ذو ثعلبان"، فركب في البحر إلى ملك الحبشة، وهو على النصرانية، فخبره بما فعل [ذو] "نواس" بأهل دينه، فكتب ملك الحبشة إلى "قيصر" يعلمه ذلك، ويستأذنه في التوجه إلى "اليمن"، فكتب إليه يأمره بأن يصير إليها.
وقيل: [خرج] "ذو ثعلبان" على فرس فارا، فسلك الرمل ومضى على وجهه، حتى أتى قيصر ملك الروم وشكى إليه ما جرى على قومه من "ذي نواس"، فاعتذر ببعد بلاده، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة أن يسير إلى اليمن. وأعلمه أنه سيظهر عليها، وأمره أن يولي "ذا ثعلبان" أمر قومه، ويقيم فيمن معه باليمن، فأقبل ملك الحبشة في سبعين ألفا، فجمع لهم "ذو نواس" وحاربهم فهزموه وقتلوا بشرا كثيرا من أصحابه، ومضى منهزما، حتى أتى البحر فاقتحم فيه، فكان آخر العهد به، ذكره بنحوه ابن قتيبة.
وذكر غيره أن ملك الحبشة لما أمره قيصر بالتوجه إلى اليمن أرسل
#12#
ملك الحبشة سبعين ألفا مع "ذي ثعلبان" وأمر عليهم ابن عم له يقال له: "أرياط"، وأمره أن يقتل كل من باليمن على دين اليهودية.
وفي رواية: قال له النجاشي: إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها، فركب "أرياط" في البحر، وسار في سبعين ألف رجل، فسمع بهم "ذو نواس" فجمع لهم، وحاربهم، وحصل بينهم مقتلة، وكانت دائرة على "ذي نواس" وأصحابه.
فقتل منهم بشر كثير، ومضى "ذو نواس" منهزما وهم في أثره، حتى أتى البحر فاقتحمه بفرسه، وقال: "والله للغرق أفضل من أسر السودان"، فغرق، فكان آخر العهد به، ثم قام مكانه "ذو جدن الحميري" واسمه: "علس بن الحارث بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف"، فقاتلوه، فهزموه أيضا، حتى ألجأوه إلى البحر فاقتحم فيه، فغرق ومن تبعه من أصحابه، واستولى "أرياط" على اليمن -سائرها فيما قيل- وأقام باليمن سنتين في سلطانه، ثم نازعه في الأمر "أبو يكسوم أبرهة بن الصباح"، وكان أحد قواد الحبشة، وجمع وحاربه، فظفر بـ "أرياط" وقتله "أبرهة" بيده لما تبارزا.
#13#
وقيل: أرسل "أبرهة" إلى "أرياط" بعد أن تقارب جيشاهما: أبرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف جنده إليه، فأرسل إليه "أرياط": أنصفت.
فخرج إليه "أبرهة" -وكان قصيرا لحيما- وخلفه غلام له [يقال] له: "عتودة"، يمنع ظهره، وبرز "أرياط" وكان طويلا عظيما جميلا، فلما التقيا رفع "أرياط" الحربة فضرب "أبرهة" يريد يافوخه، فوقعت على جبهة "أبرهة" فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ فبذلك سمي "أبرهة الأشرم"، وحمل غلامه على "أرياط" من خلف "أبرهة"، فقتله، وانصرف جند "أرياط" إلى "أبرهة"، فاجتمعوا عليه، واستولى على ملك "اليمن" وودى "أرياط".
فبلغ النجاشي ذلك فغضب لقتل ابن عمه، وحلف بالمسيح: لأطأن أرضه: سهلها وجبلها برجلي، ولأجرن ناصيته بيدي، ولأهرقن دمه بكفي. فبلغ أبرهة ذلك فعمد إلى ناصيته فجزها ووضعها في حق عاج، وملأ جرابين: أحدهما من تراب السهل، والآخر من تراب الجبل، ودعا بالحجام فحجمه، وجعل دمه في قارورة وختم عليه وعلى الحق العاج بالمسك، وكتب إلى النجاشي يعتذر إليه ويقول:
#14#
إن ابن عمك خالف سيرتك في العدل، وإنما كان "أرياط" عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك، فكل طاعته لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه، وقد بلغني ما حلفت عليه، وقد بعثت إليك بجرابين من تراب السهل والجبل، فطأهما برجلك، وجز ناصيتي بيدك، وأهرق دمي بكفك، وبر يمينك، وأطف غضبك عني، فإنما أنا عبد من عبيدك.
فأعجب النجاشي عقل أبرهة، وأقره على مكانه، وبقي إلى زمان كسرى "نوشروان"، ونظر يوما إلى حجاج اليمن يتجهزون أيام الموسم للحج إلى بيت الله الحرام، فسأل: أين يذهب الناس؟ فقالوا: يحجون بيت الله بمكة. قال: وما هو؟ قالوا: من حجارة. قال: وما كسوته؟ قالوا: ما يأتي من هاهنا الوصائل. قال: والمسيح، لأبنين لكم خيرا منه.
وفي رواية فقال: أنا أكفيكم هذا السفر البعيد ببيعة أبنيها، تحجون إليها. فبنى كنيسة بـ "صنعاء" يقال لها: "القليس" بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة، وفصص حيطانها بصنوف الجوهر.
قيل: إنه نقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من قصر بلقيس، وكان منها على فراسخ.
جعل "أبرهة" الرجال صفا نسقا يناول بعضهم بعضا الحجارة والآلة، حتى نقل ما كان يحتاج إليه، وكان أراد أن يرفع من شأنها حتى يشرف منها على "عدن"، فبناها بناء مربعا مستوي التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعا، وكبسه من داخل عشرة أذرع في السماء، فكان يصعد إليه بدرج الرخام، وجعل حوله سورا بينه وبين "القليس" مائتا
#15#
ذراع، مطيف به من كل جانب، وبنى ذلك بحجارة مطابقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة، وفصل بناء ذلك، فجعل البناء عشرين ذراعا في السماء من حجارة يسميها أهل اليمن "الجروب"، ثم فصل ما بين حجارة "الجروب" بحجارة مثلثة تشبه الشرف، مداخلة بعضها ببعض: حجرا أخضر، وحجرا أحمر، وحجرا أبيض، وحجرا أصفر، وحجرا أسود، فيما بين كل سافين خشب ساسم مدور الرأس، غلظ الخشبة حضن الرجل، ناتئة على البناء، ثم فصل بإفريز من رخام منقوش، طوله في السماء ذراعان.
وكان الرخام ناتئا على البناء ذراعا، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق من حجارة نقم جبل صنعاء المشرف عليها، ثم وضع فوقها حجارة صفراء لها بريق، ثم وضع فوقها حجارة بيضاء لها بريق.
وكان هذا ظاهر حائط "القليس".
وكان عرض حائط "القليس" ستة أذرع.
وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولا في أربعة أذرع عرضا.
وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه؛ طوله ثمانون ذراعا في أربعين ذراعا، مغلق العمل بالساج المنقوش ومسامير بالذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعا عن يمنيه وعن يساره، وعقود مضروبة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع تعشي عين من نظر إليها من بطن القبة، وتؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة.
وكان تحت الرخام منبر من خشب اللبخ -وهو عندهم: الأبنوس- مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبا وفضة.
وكان في القبة سلاسل فضة.
وكان في القبة أو في البيت خشبة منقوشة طولها ستون ذراعا يقال
#16#
لها: "كعيب"، وخشبة من ساج نحوها يقال لها: "امرأة كعيب" كانوا يتبركون بهما في الجاهلية وكان يقال لكعيب: "الأحوذي" وهو بلسانهم: الحر.
ونصب في "القليس" عند المذبح درة عظيمة تضيء في الليل كالسراج، وجعل فيه صلبانا من ذهب وفضة مرصعة بجواهر ويواقيت مختلفة، وجعل للقليس حجابا وسدنة.
وكان يوقد فيه بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسود حتى يغيب البناء.
وكان من سيرة "أبرهة" في بنائه أنه أخذ العمال أخذا شديدا أنه آلى أن تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده.
وروي: أنه تخلف رجل من العمال حتى طلعت الشمس، وكان له أم عجوز، فذهب بها معه لتستوهبه من "أبرهة"، فأتته وهو بارز للناس، فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه، فقال: "لا أكذب نفسي ولا أفسد عمالي علي" فأمر بقطع يده، فقالت له أمه: "اضرب بمعولك ساعي بهر اليوم لك وغدا لغيرك". فقال: "أدنوها". فقال لها: "إن هذا الملك يكون لغيري؟" قالت: "نعم". وكان "أبرهة" قد أجمع أن يبني "القليس" حتى يظهر على ظهره فيرى منه "بحر عدن" فقال: لا أبني حجرا على حجر بعد يومي هذا. وأعفى الناس عن العمل.
#17#
ومعنى "ساعي بهر" تقول اضرب بمعولك ما كان حديدا.
ولما فرغ أبرهة من بناء "القليس" أمر الناس فحجوه، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيها رجال يتعبدون ويتألهون ونسكوا له، وكان "نفيل الخثعمي" يورض له ما يكره، فأمهل، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرك، فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته، وجمع جيفا فألقاها فيه -وقيل: فعل ذلك رجلان من "خثعم" وقيل: فعل ذلك رجل من "فقيم"- فاتهم "أبرهة" بذلك قريشا، وحلف ليهدمن الكعبة.
وقيل في سبب ذلك: ما حدث به أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" عن محمد بن حميد، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق: أن "أبرهة الحبشي" كان قد توج "محمد بن خزاعي" وأمره على "مضر"، وأمره أن يدعو الناس إلى حج "القليس"، فسار حتى إذا كان ببعض أرض "بني كنانة" رماه "عروة بن عياض" بسهم فقتله، فهرب أخوه "قيس بن خزاعي" فلحق بـ "أبرهة"، فأخبره، فحلف ليغزون "بني كنانة" ويهدم الكعبة، وساق القصة.
وقيل في سببها غير ذلك.
فلما أجمع "أبرهة" لذلك بلغ "ذا نفر" ما قصد "أبرهة" من هدم الكعبة، وكان "ذو نفر" من أشراف اليمن وملوكهم، فدعا قومه ومن
#18#
أجابه إلى حرب "أبرهة"، وعرض له وقاتله، فهزمه "أبرهة" ثم أسر وحمل إلى "أبرهة"، فأراد قتله فقال "ذو نفر": أيها الملك، لا تقتلني، فعسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي. فتركه وحبسه عنده في وثاق، وكان "أبرهة" رجلا حليما.
وقد قيل: إن "أبرهة" لما عزم على ما أراد من هدم الكعبة قال له "هشام بن المغيرة": إنه قد رام ذلك غيرك من الملوك، فما وصلوا إليه؛ لأن له ربا يمنعه.أمممم
وبلغ "النجاشي" هذه القصة فبعث إلى "أبرهة" "الأسود بن مفصود بن الحارث" وبعث معه ثلاثة عشر فيلا فيها فيل للنجاشي اسمه "محمود"، فخرج "أبرهة" في أربعين، فاستقبله "خثعم" في قبيلتيهما ومن تبعهما من قبائل العرب وعليهم "نفيل بن حبيب الخثعمي"، فحاربوه فهزمهم وأسر منهم طائفة، منهم "نفيل"، وأمر بضرب أعناق الأسرى، فضربت غير اثنين من "خثعم" أحدهما "نفيل"، فقالا لأبرهة، نحن من أدل العرب فاستبقنا ندلك. ففعل، فقال أحدهما للآخر: كفى بنا عارا أن ننطلق بهذا الأسود إلى بيت الله تعالى فيهدمه. فأخذا به على "الطائف"، فلما أشرف على "وادي وج" من "الطائف" خرج إليه "أبو عروة مسعود بن معتب بن مالك بن كعب الثقفي" وأعلمه أنها ليست طريقه.
قيل: خرج "مسعود بن معتب" في رجال "ثقيف" إلى "أبرهة" فقالوا: أيها الملك، إنا نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون لك، ليس عندنا
#19#
خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد -يعنون: "اللات"- إنما تريد الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه.
فتجاوز عنهم، فبعثوا معه "أبا رغال" يدله على الطريق إلى مكة، فخرج "أبرهة" ومعه "أبو رغال" حتى أنزله "المغمس"، فلما أنزل به مات "أبو رغال" هنالك، فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذي يرجم الناس "بالمغمس".
قلت: والقبر الذي يرجمه الناس اليوم بمكة في طريق "كداء" من المغسلة، ويعرف اليوم بقبر أبي لهب وليس به، والله أعلم، بل هو قبر "أبي رغال" على ما ذكره لي بعض محدثي مكة في "سنن أبي داود" من طريق ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى "الطائف" فمررنا بقبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه"، فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن.
#20#
وله شاهد من حديث ابن عباس.
وقيل: لما توجه "أبرهة" إلى مكة نزل على حد الحرم - قيل: كان نزوله بـ "المغمس" وهو بالضم وكسر الميم الثانية مع التضعيف، وهو على ثلثي فرسخ من مكة- وأرسل "أبرهة" "الأسود بن مفصود" على خيله من "المغمس" إلى "مكة" فاستاق السوائم كلها وأموال أهل "تهامة" من قريش وغيرهم، وكان فيما ساق مائتا ناقة لعبد المطلب.
وقال أبرهة لأحد أصحابه -وهو: "حناطة الحميري"-: سل عن سيد أهل البلد وشريفهم، وقل له: "إنا لم نأت لحربكم، إنما جئنا لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم"، فإن هو لم يرد حربي فأتني به.
فلما دخل "حناطة" مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فدل على "عبد المطلب بن هاشم"، فجاءه فأخبره بما قال أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا البيت بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم -أو كما قال-، فإن يمنعه فهو بيته وحرمته، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.
فقال له "حناطة": فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه "عبد المطلب" ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن "ذي نفر" -وكان له صديقا- حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له "ذو نفر": وما غناء رجل
#21#
أسير بيد ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا، ما عندي غناء في شيء مما نزل بكم، إلا أن "أنيسا" سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي.
فبعث "ذو نفر" إلى "أنيس" فقال له: إن "عبد المطلب" سيد قريش وصاحب عين مكة يطعم الناس الطعام بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير؛ فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.
فكلم "أنيس" "أبرهة" فقال: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فليكلمك في حاجته.
قال: فأذن له "أبرهة".
وكان "عبد المطلب" أوسم الناس وأجمله وأعظمه، فلما رآه
#22#
"أبرهة" أجله وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل "أبرهة" عن سريره فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك. فقال: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي.
فلما قال له ذلك؛ قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه.
فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه.
قال: ما كان ليمتنع مني.
قال: أنت وذلك.
وفي رواية: أن عبد المطلب قال لأبرهة: إن لهذا البيت ربا سيمنعه، قد رام هدمه ما لا يحصى من الملوك، فرجعوا بين قتيل وأسير.
فرد "أبرهة" على "عبد المطلب" إبله وانصرف، فاجتمع إليه أشراف قومه وقالوا: يا عبد المطلب، اجعل له مالا نجمع له ليرجع عن هدم البيت. فقال: اطمئنوا، فوالله لا يصل إليه أبدا.
وقال عبد المطلب:
قلت والأشرم يردي خيله ... إن ذا الأشرم غر بالحرم
كاده تبع فيمن جندت ... حمير والحي من آل قدم
#23#
فانثنى عنه وفي أوداجه ... جارح أمسك عنه بالكظم
نحن أهل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد إبرهم
يعبد الله وفينا شيمة ... صلة القربى وإيفاء الذمم
إن للبيت لربا مانعا ... من يرده بأثام يصطلم
ومشى عبد المطلب إلى باب الكعبة، وأخذ بحلقتها ثم قال: يا رب، لا أرجو لهم سواكا، يا رب فامنع منهم حماكا، إن عدو البيت من عاداكا، امنعهم أن يخربوا قراكا. وقال أيضا:
لاهم إن المرء يمنع رحله ... وحلاله، فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
#24#
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدا لك
وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
لاهم أخز الأسود بن مفصود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد
بين "حراء" و "ثبير" فالبيد ... يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود ... أخفره يا رب وأنت محمود
#25#
ثم علا "عبد المطلب" جبل "أبي قبيس" هو و"حكيم بن حزام" ونفر من سادات قريش، وهرب الناس فلحقوا برؤوس الجبال.
وأم "أبرهة" البيت مدلجا بسحر، وقدم الفيلة وكانت ثلاثة عشر فيلا، وفيهم الفيل الكبير فيل النجاشي، وكان أكبر فيل رآه الناس كالجبل العظيم، واسمه بلسان الحبشة: "محمود" وكنيته: "أبو الحجاج" فيما ذكره الثعالبي، واسم سائسه: "أنيس" كما تقدم.
فلما انتهى الفيل إلى طرف الحرم قيل له: "إنك في بلد الله الحرام". فبرك، فكانوا يضربون رأسه بالطبرزين -وهو فاس السرج- فيقوم، فإذا أخذوا به يمينا وشمالا هرول، وإذا وجّهوه إلى طرف الحرم برك، فجعلوا يقسمون بالله إنهم رادوه إلى "اليمن"، فيحرك لهم،
#26#
أذنيه، كأنه يأخذ عليهم بذلك عهدا، فإذا أقسموا له قام يهرول، فيردونه إلى مكة فيبرك، فيحلفون له، فيحرك لهم أذنيه كالمؤكد عليهم القسم، ففعلوا ذلك مرارا ولم يزل أبرهة وقومه بين تردد الفيل يومهم ذلك، حتى أمسوا وباتوا بأخبث ليلة، فلما كان اليوم الثاني فعلوا ذلك، حتى كان مع طلوع الشمس نظروا إلى طير أمثال اليحاميم سود قد أقبلت من نحو البحر، وهي التي أخبر الله تعالى عنها: {طيرا أبابيل} و "أبابيل" أي: جماعات في تفرقة.
وقال موسى بن إسماعيل التبوذكي: حدثنا أبان -يعني: ابن يزيد العطار-، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} قال: عصبا عصبا.
تابعه حماد بن سلمة عن عاصم.
وقال روح، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} قال: شتى.
وقال عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} يقول:
#27#
يتبع بعضها بعضا وقال بعضهم: لا واحد للأبابيل.
وقيل في واحدها: "أبيل" قياسا لا سماعا.
وقيل: واحدها "إبول" مثل عجول وعجاجيل. ذكر هذا أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين".
كانت هذه الطير من البحر أمثال اليحاميم سوداء كالخطاطيف والبلسان.
وحدث يونس بن بكير، عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عباس في قوله تعالى: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} قال: طير لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وحدث أيضا قيس بن الربيع، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عبيد بن عمير: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} قال: طير أقبلت من البحر كأنها رجال الهند، {ترميهم بحجارة من سجيل} أصغرها مثل رؤوس الرجال، وأعظمها: مثل الإبل البزل، وما رمت أصابت وما أصابت قتلت.
وقال سعيد بن منصور: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير الليثي قال: لما أراد الله تعالى أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنها الخطاطيف
#28#
بلق، كل طير معه ثلاثة أحجار مجزعة، في منقاره حجر وحجران في رجليه، ثم جاءت حتى حفت على رؤوسهم، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها فما من حجر وقع منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، إن وقع على رأسه خرج من دبره، وإن وقع على شيء من جسده خرج من جانب آخر.
قال: وبعث الله عز وجل ريحا شديدة فضربت أرجلها فزادها شدة فأهلكوا جميعا.
وقال إسحاق بن الحسن الحربي: حدثنا محمد الصلت، حدثنا أبو كدينة، عن حصين عن عكرمة: {طيرا أبابيل} قال: طير خرجت لها رؤوس كرؤوس السباع، لم تزل ترميهم بالحجارة حتى جدرت جلودهم، فما رؤي الجدري قبل يومئذ، وما رؤيت الطير قبل يومئذ، وذكر بقيته.
ورواه سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عكرمة في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} يقول: كانت طيرا نشأت من قبل البحر، لها مثل رؤوس السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده، فأثرت جلودهم أمثال الجدري، فإنه لأول ما رؤي الجدري.
وقد جاءت صفة الطير أيضا فيما رواه أبو اليمان، عن الجراح، عمن حدثه، عن كعب قال: يخرج "يأجوج" و"مأجوج" وليس لهم ملك ولا سلطان.. وذكر الحديث.
#29#
وفيه قال: فيدعوه عيسى عليه السلام، فيرسل الله عليهم الأبابيل، أعناقها كأعناق البخت، ومسكنها في الهواء، وتبيض في الهواء، ويمكث بيضها في الهواء قبل أن يفرخ، فإذا انفقس - تهوي في الهواء وتطير، حتى ترتفع إلى أمكنتها التي سقطت منها.
قال: فتحمل أجسامهم فتقذفها في أخدود، وذكر بقيته.
ولما رأى "أبرهة" وقومه هذه الطير وكانوا تلك الليلة نظروا إلى النجوم كالحة إليهم تكاد تكلمهم من اقترابها منهم، ففزعوا من ذلك واستشعروا العذاب، فأقبلت الطير، فعجبوا من كثرتها ولم يعرفوها، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، كالحمص أو العدس، مختمة، فيها نضح حمرة.
قيل: إن شكلها كان كهيئة الحمص والعدس، وإنما كانت ضخاما.
قال السهيلي: ويعني بمماثلة الحجارة للحمص أنها على شكلها، والله أعلم؛ لأنه قد روي أنها كانت ضخاما تكسر الرؤوس. انتهى.
وقد حكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال: كانت مثل رؤوس الإبل، ومثل مبارك الإبل، ومثل قبضة الرجل.
وجاء عن ابن عباس أنه رأى عند "أم هانئ" من هذه الحجارة نحو قفيز، وكانت مثل بعر الغنم، مخططة بالحمرة.
#30#
وهذه الحجارة أرسلت كما أخبر تعالى: {من سجيل}، و"السجيل" مختلف فيه، فقيل: هو من "سنك" و"كل" بالفارسية، و"السنك": الحجر و"الكل": الطير.
قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال بعض المفسرين: "سجيل" كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو "سنج" و"جيل"، يعني بـ"السنج": الحجر، و"الجيل" الطين.
يقول: الحجارة التي أرسلت عليهم من هذين الجنسين.
وقيل: أولها حجر وآخرها طين. قاله مجاهد.
وقيل: هو الآجر. قاله الضحاك.
وقيل: "السجيل": حجارة كالمدر، و"المدر": قطع الطين اليابس.
وقيل: هو طين طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء: حكاه "الفراء".
وقيل: هو الشديد الصلب من الحجارة. قاله أبو عبيدة.
وأنشد لابن مقبل:
"ضربا تواصت به الأبطال سجينا" ...
ورده ابن قتيبة كون هذا بالنون من "سجنت" أي: حبست، وذاك باللام.
وقيل: "السجل" بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض، ومنه نزلت الحجارة. قاله عكرمة.
وقيل: هو اسم للسماء الدنيا. قاله ابن زيد.
وقيل: من "سجل" بمعنى: كتب، أي: ما كتب الله لهم أن يعذبوا، به، وهو اختيار أبي إسحاق الزجاج.
#31#
وقيل: من "أسجلته" أي: أرسلته، فكأنها مرسلة عليهم، ذكره الزجاج.
قال بعضهم: هذه الحجارة التي أرسلت على قوم لوط أرسلها الله تعالى مع هذه الطير. انتهى.
وفي قول الله عز وجل {وما هي من الظالمين ببعيد} الإشارة إلى ذلك وإلى إرسالها على من يشاء الله تعالى بعد.
وقد وقع بعض ذلك أيضا: قال الإمام السيف أبو العباس أحمد ابن المجد عيسى ابن موفق الدين المقدسي فيما وجدته بخطه: أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي قراءة عليه، أخبرنا علي بن جعفر السرواني الصوفي بمكة، سمعت الموازيني يقول: قال لي رجل من الحاج: مررت بديار قوم لوط وأخذت حجرا مما رجموا به، وطرحته في مخلاة، ودخلت مصر فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى، وكان في سفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجي ووضعته في روزنة في البيت، فدعا الحدث الذي كان في السفل صبيا إلى عنده، واجتمع به فسقط الحجر على الحدث من الروزنة فقتله.
فكما أرسلت الحجارة على قوم لوط ترسل على غيرهم من الظالمين، كأصحاب الفيل أرسلت الحجارة مع الطير فرفرفت على رأس "أبرهة" ومن معه، وأظلت عسكرهم، ثم قذفت بالحجارة عليهم وهبت ريح شديدة، فضربت الحجارة، فزادتها صعوبة وقوة، وكان الحجر إذا وقع على رأس الرجل منهم خرج من دبره، وإذا سقط على بطنه خرج من ناحية ظهره، وليس كلهم أصابت.
#32#
وجاء عن أبي العلاء هلال بن خباب العبدي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين، فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك إنسان جلده إلا تساقط لحمه.
وقد ذكر حصين، عن عكرمة: أنه انطلق فلهم حتى أتوا الوادي.
قال حصين: قال عمرو بن ميمون: ما در الوادي قبل ذلك بخمس عشرة سنة، فأرسل الله عليهم السيل فغرقهم.
رواه محمد بن الصلت، عن أبي كدينة، عن حصين.
وفي رواية ذكرها سنيد بن داود المصيصي الحافظ في "تفسيره": إن الطير جعلت تجيء فتصف على رؤوسهم -يعني: ثم تقذف بالحجارة- فما من حجر يصيب عظما أو لحما إلا ثقبه، حتى ينتهي إلى الأرض، وكلما ذهب فرق من الطير جاء فرق آخر، فأصبحوا هلكى هامدين إلا الذين لم تصبهم الحجارة، وهلكت الفيلة كلها سوى "محمود" فإنه سلم، وانصرف يهرول، وولى "أبرهة" هاربا بمن بقي معه وهم يسائلون عن "نفيل" ليدلهم على الطريق إلى "اليمن"، فقال "نفيل بن حبيب" حين رأى ما أنزل الله تعالى بهم من نقمته:
#33#
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب
وقال "نفيل" أيضا:
(ألا ردي ركائبنا ردينا)
الأبيات، وقد تقدمت.
ثم إن القوم الذين سلموا من القتل خرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل، وأصيب "أبرهة" في جسده، وخرجوا به معهم فجعل "أبرهة" يسقط عضوا عضوا، حتى بلغ "صنعاء" وهو مثل الفرخ، وقد انصدع صدره عن قلبه وجعله الله مثلة في الناس، فكان لا يأتي على قوم إلا سقط منه عضو وسال مخه، فيقولون: "من فعل هذا بربنا؟" فيقول لهم: "فعله بي رب البيت، فعله بي رب الحجاز".
فبعث الله عز وجل صاعقة كان فيها صوت كل شيء، فتقطعت كبده، وهم يبصرون.
ذكره سنيد في "تفسيره".
و"سنيد" لقب واسمه: "الحسين"، تكلم فيه، صدقه أبو حاتم وروى عنه أبو زرعة وجماعة، توفي سنة ست وعشرين ومائتين.
وقد جاء أن "أبرهة" لما رجع إلى "اليمن" وقد سقط لحمه قال لأهل اليمن: أنا النذير العريان، فيما ذكره هشام ابن الكلبي في "الجمهرة".
#34#
وذكر بعضهم: أن وزير "أبرهة" انفلت وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه.
وروي عن حكيم بن جعفر، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة أنه قال: أول يوم رأوا بأرض العرب الحصبة والجدري والشجر المر -مثل: الحرمل والحنظل وغيره- إنما كان هذا عام الفيل، من تلك الحجارة التي رميت بها الحبشة.
ورواه جماعة عن ابن إسحاق، منهم يونس بن بكير الشيباني.
ثم خرج عبد المطلب وأصحابه إلى القوم وهم صرعى، فملأ أيديهم من المال، وأرسل إلى قريش فجاؤوا وغنموا ما شاء الله، وأنشأ عبد المطلب مرتجلا:
أنت منعت الحبش والأفيالا
وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا
وكل أمر منهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
#35#
وقال أبو قيس صيفي بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي يخاطب قريشا:
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالرمل تمسي ورجله ... على القاذفات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساق وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله مل حبش غير عصائب
ثم إن الله عز وجل أرسل سيلا فاحتمل الهلكى فألقاهم في البحر، وعظمت "قريش" في أعين العرب وسموهم "آل الله"، وازداد عبد المطلب شرفا.
ولما أهلك الله عز وجل "أبرهة" ومزق ملكه أقفر ما كان حول تلك الكنيسة التي بناها وأراد صرف الحج إليها، وكثرت حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، فتحاماها الناس، ولم يستطع أحد أن يأخذ شيئا مما كان فيها من صلبان الذهب والفضة المرصعة
#36#
بالجواهر وأصناف اليواقيت، وبقيت كذلك إلى زمن أبي العباس السفاح، فذكر له أمرها وما يتهيب من جنها، فلم يرعه ذلك، وبعث إليها من خربها وأخذ ما كان فيها.
وقد قيل: إن الله تعالى لم يهلك الحبشة ويمنعهم من البيت من أجل قريش، فإنهم كانوا عباد أوثان، والحبشة كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرا بليغا لا صنع للبشر فيه، ودفع عن بيته الحرام إلا آية ودلالة وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة، الداعي إلى كرامة البيت وحجه وتعظيم شعائره.
وقال الإمام الفقيه أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي رحمه الله في كتابه "أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن" قال: وفي أمر الفيل آية بينة؛ لأنه لا يجوز في نظر العقول أن يأتي طير من اليم بحجارة من سجيل يحملها بأرجله حتى يهلك بها أمة من الأمم إلا بتسخير وإرسال، ولم يكن لقريش في ذلك الوقت كتاب، وإنما كانوا يعبدون الأوثان، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم زنادقة، والحبشة من أهل الكتاب، يدل على ذلك قول عبد المطلب:
#37#
لاهم إن المرء يمنع رحله ... وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم ... غدوا محالك
و"قريش" هم الجانون، و"السودان" هم المظلومون بما جني على بيعتهم باليمن، فجاؤوا منتصرين، فعلم أن إهلالكم لم يكن إلا لكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرف مكانه؛ إيضاحا لنبوته، وتبيينا لفضيلته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": وآية الرسول صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل.
ثم قال: فكانت آيته صلى الله عليه وسلم في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله؛ لصيانة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري عليه السبي: حملا ووليدا.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا من بين عابد صنم، أو متدين وثن، أو قائل بالزندقة، ومانع من الرجعة.
ولكن لما أراد الله من ظهور الإسلام؛ تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة أن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.
قال: فإن قيل: كيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكا ولم يمنع "الحجاج" من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها، فقال فيها على ما حكي عنه:
#38#
كيف تراه ساطعا غباره ... والله فيما يزعمون جاره
وقال راميها بالمنجنيق:
قطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد كل مسجد
قيل: فعل "الحجاج" كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة، فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها، فصار الهدم آية أخرى بعد أن كان المنع آية، فلذلك ما اختلف حكمهما في الحالين، والله أعلم.
وذكر معنى السؤال والجواب الحافظ أبو سليمان الخطابي، فقال: وقد سأل بعض الملحدين عن هذا فقال: لم كان حبس الفيل في زمان الجاهلية عنها ومنعه منها ومن الإفساد والإلحاد فيها، ولم يمنع "الحجاج بن يوسف" في زمان الإسلام عنها، وقد نصب المنجنيق على الكعبة وأضرمها بالنار وسفك فيها الدم، وقتل "عبد الله بن الزبير" وأصحابه في المسجد، وكيف لم يحبس عنها القرامطة، وقد سلبوا الكعبة ونزعوا حليها وقلعوا الحجر، وقتلوا العالم من الحاج وخيار المسلمين بحضرة الكعبة؟
فأجاب عن مسألته بعض العلماء: بأن حبس الفيل عنها في الجاهلية
#39#
كان علما لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنويها بذكر آياته إذ كانوا عمار البيت وسكان الوادي، فكان ذلك الصنيع إرهاصا للنبوة وحجة عليهم في إثباتها، فلو لم يقع الحبس عنها والذب عن حريمها لكان في ذلك أمران:
أحدهما: فناء أهل الحرم، وهم الآباء والأسلاف لعامة المسلمين، ولكافة من قام به الدين.
والآخر: أن الله تعالى: أراد [أن يقيم] به الحجة عليهم في إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله مقدمة لكونها وظهورها فيهم، فكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذ، وكانوا قوما عربا أهل جاهلية، ليست لهم بصيرة في العلم ولا تقدمة في الحكمة، وإنما كانوا يعرفون من الأمور ما كان دركه من جهة الحس والمشاهدة، فلو لم يجر الأمر في ذلك على الوجه الذي جرى لم يكن يبقى في أيديهم شيء من دلائل النبوة تقوم به الحجة عليهم في ذلك الزمان، فأما وقد أظهر الله الدين ورفع أعلامه وشرح أدلته وأكثر أنصاره فلم يكن ما حدث عليها من ذلك الصنيع أمرا يضر بالدين أو يقدح في بصائر المسلمين، وإنما كان ما حدث منه امتحانا من الله تعالى لعباده ليبلو في ذلك صبرهم واجتهادهم، ولينيلهم من كرامته ومغفرته ما هو أهل التفضل به، والله يفعل ما يشاء وله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
ذكره الخطابي في كتابه "معالم السنن".
#40#
$[ذكر الموضع الذي هلك فيه الحبشة]$
وكان الموضع الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل وأنزل الله بهم بأسه في "وادي محسر"، وهو ما بين موقف "المزدلفة" مما يلي "منى" لا من "المزدلفة" ولا من "منى" بل هو برزخ بينهما، وقيل بعضه من "منى" وبعضه من "مزدلفة".
وفي "الصحيحين" ما يدل على أنه من "منى"، والله أعلم.
وعرفه صاحبنا الحافظ الشريف أبو الطيب الحسني في "تاريخ مكة" بأن قال: محسر واد عند المكان الذي يقال له "المهلل"؛ لأن الناس إذا وصلوا إليه في حجهم هللوا وأسرعوا السير في الوادي المتصل به.
والمهلل المشار إليه مكان مرتفع عنده بركتان معطلتان بلحف قرب جبل عال، ويتصل بهما آثار حائط، ويكون ذلك كله على يمين الذاهب إلى "عرفة" ويسار الذاهب إلى "منى". انتهى.
و"محسر" بكسر السين المغفلة المشددة، سمي بذلك؛ لأن الفيل استحسر فيه، أي: أعيى، وانقطع عن التوجه إلى البيت؛ وعلى هذا
#41#
القول جماعة -سلف وخلف- منهم: سليمان بن خليل، والمحب الطبري، وفيه نظر، لما تقدم أن الفيل لم يدخل الحرم.
وورد أن الفيل حصل له ذلك لما أتاه "نفيل بن حبيب" وقال له في أذنه: "يا محمود، إنك في بلاد الله، فارجع"، فربض مكانه.
وهذا يدل على ما قاله أبو محمد بن قتيبة في "كتاب طبائع الحيوان" من أن لسان الفيل مقلوب طرفه إلى داخل. قال: والهند تقول: لولا أن لسانه مقلوب لتكلم، وليس لشيء من ذكور الحيوان ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل.
وقيل: تميز الفيل عن غيره بالخرطوم، والنابين، والرأس، والأذنين، وعظم الجثة، واكتناز المفاصل: حتى لا يسلس للوقوع إلى الأرض، وإن وقع لا يقدر على القيام.
وقيل إن في الفيلة صنفا يبرك كما يبرك الجمل.
وذكر السهيلي أن الفيل على عظم خلقه يفرق من الهر، وينفر منه، وقد احتيل على بعض الفيلة في الحروب، فأطلق لها الهررة، فذعرت، وولت، وكان سببا لهزيمة أصحابها، ونسبت هذه الحيلة إلى "هارون بن موسى" حين غزا بلاد الهند. انتهى.
والفيل يعمر، قيل إن فيلا عاش أربعمائة سنة.
#42#
وقال أبو حسان الزيادي: رأيت فيلا أيام أبي جعفر، قيل إنه سجد لسابور ذي الأكتاف، ولأبي جعفر.
قلت: وقد حدثني الرئيس الفاضل الطبيب الكاتب أبو عبد الله محمد ابن أبي إسحاق إبراهيم بن الضريس الحموي قدم علينا دمشق أنه كان جالسا مع "تمرلنك" الطاغية ضاعف الله عليه العذاب، وكان في يوم عيد من أعياد الفرس، فأتى عليه أمين الفيلة ومعه الفيلة، فيهم فيل مقدم عليها، فسجد قال: فقال لي "تمرلنك": أتعرف هذا؟ فقلت: فيل.
فضحك، وقال: نعم، هو فيل، ولكنه سجد للسلطان محمود بن سبكتكين، وسجد لي، وبين ذلك مدة طويلة.
فتعجبت من ذلك واستعظمته، والفيل ينظر إلي ويسمع كلامنا، ففهم الفيل -والله أعلم- أني أنكرت ذلك ففتح فاه وكشف عن أسنانه، فإذا
#43#
هو لم يبق في فيه سن، و"تمرلنك" -ضاعف الله عليه العذاب- ضحك وقال لي: انظر إليه، فإنه يعلمك أن الذي قلته صحيح، وأن من كبره لم يبق فيه سن.
قلت: وبين الملك "محمود" هذا ملك السامانية وبين "تمرلنك" -ضاعف الله عليه العذاب- نيف وأربع مائة.
وإن ثبت هذا فلعله من الأفيال التي غنمها الملك "أبو القاسم محمود" لما غزا بلاد الهند في سنة تسع وأربع مائة، ففي سنة عشر وأربع مائة ورد كتابه من "الهند" يذكر فيه الفتح، وأنه استعرض من الأفيال ثلاثمائة وستة وخمسين فيلا، وأنه دخل مدينة وجد بها ألف قصر مشيد وألف بيت للأصنام، ومبلغ ما في الصنم من الذهب يقارب مائة ألف دينار، ومن الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم.
قلت: هذه الغنيمة عظيمة لما كان فيها من الجواهر والذهب والفضة والأفيال، وغير ذلك.
و"محمود" هذا غزا "الهند" مرات، منها في سنة ثمان عشرة وأربعمائة التي كسر فيها الصنم الذي كانوا يأتون إليه من الأقطار البعيدة، وكان له ألف خادم وأكثر، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية مشهورة، فقتل من أهله خمسين ألفا، وبذل له أهل "الهند" مالا عظيما على أن لا يكسره فأبى، وكسره فوجد عليه من الجواهر والذهب ما زاد على ما بذلوه له أضعافا كثيرة، فرحمه [الله] وأكرم مثواه، كانت وفاته في "ربيع الأول" وقيل: في "جمادى الآخر"، سنة إحدى وعشرين وأربع مائة، وله من العمر ستون سنة، وقيل: أكثر.
#44#
قلت: قدوم الفيل مكة وهلاك أصحاب الفيل فيما ذكره النقاش في تفسيره في أول "المحرم" سنة اثنين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
قال الذهبي: صوابه: من تاريخ الإسكندر، وهو المقدوني، وليس هو الإسكندر ذي القرنين، ذا متقدم مؤمن، و"المقدوني" كافر، وزر له "أرسطو".
قاله في كتاب "بلبل الروض".
وذكر ابن الجوزي في "الوفا" أن ذلك كان يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من "المحرم"، وهو قول محمد بن موسى الخوارزمي، زاد ابن الجوزي: وكان أول "المحرم" تلك السنة يوم الجمعة، وذلك لمضي اثنين وأربعين سنة من ملك كسرى "نوشروان".
وقيل: لخمس ليال خلون من "المحرم".
وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: كان قدوم الفيل [في] النصف من "المحرم"، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة.
وفي عام المولد الشريف كان أيضا "يوم جبلة"، وهو يوم مشهور من أعظم أيام العرب.
و"جبلة": هضبة حمراء طويلة لها شعب عظيم واسع، وهي من "نجد".
وقيل: "جبلة": جبل ضخم على مقربة من "أضاخ" بين "الشريف" ماء لبني تميم وبين "السرف" ماء لبني كلاب.
#45#
وسبب "يوم جبلة" أن "لقيط بن زرارة" جمع قبائل بني تميم طرا، إلا بني سعد، وجمع بني أسد قاطبة وبني عبس طرا، إلا بني بدر، واستنجد بـ "النعمان بن المنذر" وبـ "الجون الكندي" صاحب "هجر"، فأمده "النعمان" بأخيه لأمه "حسان بن وبرة الكلبي"، وأمده بابنيه: "معاوية" و"عمرو"، فغزا بهذا الجمع بني عامر، وكانوا قد تحصنوا من ذلك الجمع بـ "جبلة" وأدخلوا العيال والذراري في شعبها ليقاتلوهم من وجه واحد، وقد عقلوا إبلهم أياما قبل ذلك لا ترعى، فصبحهم القوم من واردات، فلما دخلوا عليهم الشعب حلوا عقل الإبل، فأقبلت طالبة المراعي لا يردها شيء، فظنت بنو تميم أنه قد تدهدأ عليهم، ومرت تخبط ما لقيته، فكان سبب ظفر بني عامر على ذلك الجمع وقتل رئيسهم "لقيط بن زرارة" يومئذ.
#46#
&[ارتجاس الإيوان، وخمود النيران، وقصة سطيح وعبد المسيح، والهواتف، وغيرهم ليلة المولد الشريف]&
وليلة مولده الشريف وانفجار النور ظهرت عجائب وأمور، منها:
ما قال أبو بكر عبد الله ابن أبي الدنيا -رحمة الله عليه- في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا علي بن حرب الطائي، أخبرني أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، حدثنا مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه -وأتت له خمسون ومائة سنة- قال: لما كانت [الليلة التي] ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة "ساوة"، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى "الموبذان" إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت "دجلة" وانتشرت في بلادها.
#47#
فلما أصبح "كسرى" أفزعه ما رأى، فصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم، فلما اجتمعوا عنده، قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟
قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك، فبينا هم على ذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فقال "الموبذان"، وأنا -أصلح الله الملك- قد رأيت في هذه الليلة [رؤيا] ثم قص عليه رؤياه في الإبل.. فقال: أي شيء يكون هذا يا "موبذان"؟
قال: حدث يكون من ناحية العرب -وكان أعلمهم في أنفسهم.
فكتب عند ذلك: من "كسرى" ملك الملوك، إلى "النعمان بن المنذر"، أما بعد؛ فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
فوجه إليه بـ "عبد المسيح بن حيان بن بقيلة الغساني"، فلما قدم عليه قال: هل لك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: لا (خبروني) عنه، أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبروه بما رأى، قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له: "سطيح".
قال: فأته فاسأله عما سألتك وائتني بجوابه.
فركب "عبد المسيح" حتى قدم على "سطيح" وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه، فلم يحر إليه "سطيح" جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
#48#
أصم أم يسمع غطريف اليمن
أم فاز فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
وكاشف الكربة في الوجه الغضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن جحن
أزرق نهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري للوسن
يجوب في الأرض علنداه شجن
ترفعني و(وجن) وتهوي بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
#49#
كأنما حثحث من حضني ثكن
حتى أتى عاري الجآجئ و(القطن)
تلفه في الريح بوغاء الدمن
فلما سمع "سطيح" شعره قال: "عبد المسيح"، على جمل مشيح، جاء إلى "سطيح"، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا "الموبذان": رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت "دجلة" وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لـ "سطيح" شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى "سطيح" مكانه، وسار "عبد المسيح" إلى رحله يقول:
#50#
شمر فإنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وشابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر مجذور
فلما قدم "عبد المسيح" على "كسرى" أخبره بقول "سطيح" فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يكون أمور، قال: فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
#51#
تابعه الحافظ أبو بكر عبد الله ابن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة"، وأبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان"، والإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرئ، فرووه بنحوه عن علي بن حرب، عن يعلى، وهو من أفراده.
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه"، وأبو بكر البيهقي، وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما "دلائل النبوة"، وأبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" وفي "الأربعين الطوال في دلائل النبوة" من طرائق "هواتف الجنان" للخرائطي.
وقوله في الشعر الأول: "غطريف اليمن": "الغطريف" في هذا: "السيد"، وفي غير هذا: البازي الذي أخذ من وكره صغيرا. قاله أبو عبيد الهروي.
و"فاز": يقال فاز يفوز: إذا مات، وروي "فاد" بالدال المهملة، وهو بمعنى "فاز"، يقال: فاد يفود؛ إذا مات.
#52#
و"ازلم" محذوف، من "ازلأم" -بالهمزة-، ويقال: "ازلام" بالمد إذا ولى مسرعا.
و"الشأو": الغاية والسبق.
و"العنن" هنا: اعتراض الموت، يقال: "عن لي كذا": أي: عرض.
ومعنى: "فازلم به شأو العنن" أي: ذهب به غاية الموت ذهابا سريعا.
و"الفاصل": الحاكم المبين، يقال: "فصل الحاكم بين الخصمين يفصل -بالكسر- فصلا وفصولا": قضى. و"فصل القائل القول": أحكمه.
و"الخطة": الحالة.
و"الوجه الغضن": الذي فيه تكسر وتجعد واسترخاء، من الكرب الذي أصابه.
و"الأزرق": أراد به النمر، وهم أبدا يصفونه بالزرقة؛ لزرقة عينيه.
وقال أبو القاسم بن عساكر: أراه أورق، والورقة: رمدة في لون الإبل. انتهى.
ومنهم من جعل الأزرق صفة البعير ولونه.
و"نهم الناب" روي هذا الحرف هكذا بالنون، وفسر بأنه حديد الناب، وروي "مهم الناب" بالميم بدل النون، وهو المشهور في الرواية فيما ذكره بعض المتأخرين، ولم يذكر أبو عبيد الهروي في "الغريبين" غيره.
لكن حكي عن أبي منصور الأزهري ما سنذكره، فقال أبو عبيد: قوله: "مهم الناب" أي: حديد الناب.
وقال الأزهري: هكذا روي هذا الحرف، وأظنه: "مهو الناب"
#53#
بالواو، يقال: "سيف مهو" أي: حديد. انتهى.
وروي "مهمى الناب"، و"ممهى الناب" مقلوب من الأول، وكلاهما معناه: المحدد.
و"صرر الأذن": الذي نصب أذنه وسواها.
و"الفضفاض": الواسع، و"بدن فضفاض" أي: كثير اللحم، ويكني بالرداء عن لابسه، والمراد به: سعة الصدر. قاله أبو القاسم بن عساكر.
و"القيل": الملك.
و"الوسن" من السنة وهي النعاس، يبدأ في الرأس، فإذا صار إلى القلب فهو النوم. حكاه أبو عبيد الهروي عن ابن عرفة.
وقوله: "يسري" للوسن، أراد به رؤيا "كسرى" و"الموبذان"، وروي: "رسول قيل العجم كسرى ذي الوسن" أي: صاحب الرؤيا.
و"يجوب": يقطع، يقال: "هو جواب ليل" إذا كان قطاعا للبلاد سيرا فيها، يقال: "جبت البلاد أجوبها جوبا" إذا قطعتها.
و"العلنداة": الصلبة القوية من النوق.
و"الشجن": الناقة المتداخلة الخلق، كأنها شجرة متشجنة، أي متصلة الأغصان ملتفتها.
وروي "وعلنداة شزن" بالفتح محركة، وروي "شزن" بضم الشين المعجمة والزاي، ومعناهما: الشدة والغلظة، وقيل: بالفتح: الغلظة، وبالضم: الجانب والناحية.
#54#
و"الشزن" بالفتح أيضا: النشاط. قال أبو عبيد الهروي: وأسمعنيه بعض أهل الأدب: "علنداة شزن"، قال: "والشزن": المعيي من الحفا، يقال: "شزن البعير يشزن". قال: ويكون الذي يمشي في شق. قال: ويقال: "بات فلان على شزن" أي: قلق، يتقلب من جنب إلى جنب.
و"الوجن" بضمتين جمع "وجين"، وهو المنقاد من الأرض في غلظ، وتخفف الجيم فتسكن، وروي بالفتح، قال الأزهري: "الوجن" الأرض الغليظة الصلبة، وهي "الوجن" أيضا.
وقوله: "وتهوي بي وجن" أي: تسرع بي فيها، ويروى: (وجناء تهوي من وجن) فهو على هذا صفة للناقة، و"وجن" صفة للأرض، أي: لم يزل هذا البعير أو هذه الناقة التي هذا صفته ترفعني مرة في هذه الأرض بهذه الصفة وتخفضني مرة أخرى.
و"الجآجئ" جمع "جؤجو" وهو عظام الصدر.
و"القطن" بفتح القاف وكسر الطاء المهملة يليها نون جمع "قطنة" بالفتح ثم بكسر تاليه، وهي: لحمة بين الوركين. ذكره ابن دريد في "الجمهرة"، وأنشد شاهدا له:
(حتى أتى عاري الجآجئ والقطن) ...
#55#
ورواه بعضهم "العطن" بعين وطاء مهملتين مفتوحتين، فيكون على هذا من قولهم: "رجل واسع العطن" إذا كان رحب الذراع.
و"القطن" بالقاف وكسر الطاء هو المعروف، وهو: ما بين الوركين من أسفل الظهر من اللحم.
و"العاري" في قوله: "عاري الجآجئ والقطن" العاري: الذي ذهب لحمه وشحمه، فكأنه من شدة سيره وتعبه ذهب شحمه ولحمه من هذين المكانين.
و"البوغاء" دقائق التراب الطائر في الهواء.
و"الدمن" جمع "دمنة"، وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض. وقيل: "الدمن" ما تدمن -أي: تجمع- من أبوال الإبل وأبعارها. ومنه اشتق اسم "الدمنة" وهي: المنزل.
وقوله: "تلفه في الريح بوغاء الدمن" كأنه من باب المقلوب، أي: تلفه الريح في بوغاء الدمن، ويشهد لذلك ما في الرواية الأخرى:
(تلفه في الريح ببوغاء الدمن)
ويروى أيضا:
(تلوحه في اللوح بوغاء الدمن)
ومعنى "يلوحه": يغيره، يقال منه: "لاحه ولوحه": إذا غير لونه.
و"اللوح" بالضم: الهواء بين السماء والأرض، فمعناه على هذا: أن الهواء والتراب يغيران لونه.
و"حثحث": أي: حث واستعجل، والحث: السرعة. ويروى
#56#
(حثحث) مبني لما لم يسم فاعله. بمعنى: حث، والحث: الاستعجال والتحريض والحض.
و"ثكن": اسم جبل من جبال الحجاز.
وقوله: "على جمل مشيح": "المشيح": الجاد في أمره في لغة هذيل. وفي رواية: "طليح" أي: يعيي، ويقال: "بعير طلح وطليح": إذا أعيى، و"أطلحته أنا إطلاحا".
و"ارتجاس الإيوان": صوته لما سقط منه ما سقط، من قولهم: "رعد مرتجس" و"مرتجز" إذا سمعت له صوتا، وسمي البحر "رجاسا" لصوت موجه.
و"الإيوان": بيت له ثلاثة جدران فقط، ويستر أعلى المكان الخالي من الجدار بما يقي من الشمس، بكسر أوله، ويفتح، والكسر أفصح؛ لأن "الإيوان" فارسي معرب، والمعرب كلما كان من العجمة أبعد كان أفصح.
و"الهراوة": العصى، وفسرت أيضا بالقضيب، ويعني سطيح بـ "صاحب الهراوة" النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يمسك القضيب كثيرا، وكانت العصا تحمل بين يديه للصلاة إليها، وتحمل معه عند قضاء حاجته لخدش الأرض بها إذا كانت صلبة لمكان بوله، ولغير ذلك.
و"فاض وادي السماوة" أي: كثر ماؤه.
و"السماوة": مفازة بين الشام والعراق، وسماوة كل شيء:
#57#
شخصه، وبذلك سميت السماوة؛ لأنها منازل ثمود، وفيها إلى الآن أشخاص منازلهم وآثارهم.
وقوله في الشعر "شمير" هو الشديد التشمر، وكنى به هنا عن الجد والاجتهاد.
ومعنى "أفرطهم" أي: تركهم وزال عنهم.
وقوله: "فإن ذا الدهر أطوار" أي: فإن هذا الدهر حالات تختلف.
و"دهارير": تصاريف الزمان الدهر، ونوائبه.
و"صولهم": حملتهم.
و"المهاصير": جمع "مهصر"، يوصف به الأسد؛ لأنه يهصر الفريسة، أي يعطفها، مأخوذ من "الهصر" وهو: عطفك الشيء الرطب خاصة نحو العود والغصن، وفسر بعضهم "المهاصير" أنها التي تكسر كلما ظفرت به.
و"الصرح": القصر.
وقوله: "أولاد علات" أي: من أمهات شتى؛ لأن أباهم "آدم" وطبائعهم وأهواؤهم وأغراضهم مختلفة.
وقوله: "وهم بنو الأم" أي: يعطف بعضهم على بعض إذا رأوا غنى ومالا؛ لأن بني الأم بعضهم على بعض أعطف من أولاد الأب؛ لكون الأم أعطف على الأولاد من الأب، وقيل في قول هارون لموسى -عليهما السلام: {يبنؤم} قيل: إنه استعطفه ليرق عليه، وإن كانا من أب وأم.
#58#
و"كسرى" المذكور في هذا الحديث هو: كسرى نوشروان ابن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد بن بهرام ابن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير -و"أردشير" قيده الدارقطني بالراء، وقيده غيره بالزاي- بن بابك بن ساسان، المذكور في شعر "عبد المسيح" في قوله:
(إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم)
والإيوان المذكور منسوب إلى "كسرى" هذا؛ بناه في نيف وعشرين سنة، وقيل: إن الذي بناه سابور بن هرمز ذو الأكتاف. ذكره ابن قتيبة.
وزعم المسعودي أن "سابور ذا الأكتاف" بناه ولم يكمله، فأتمه "أبرويز بن هرمز".
#59#
و"الإيوان" المذكور بالمدائن، وهي مدينة صغيرة بالجانب الغربي من "دجلة".
وكانت "المدائن" قبل تشتمل على سبع مدائن، بين كل من السبع والأخرى مسافة، وكل معمور بالناس، إلى أن فتح المسلمون تلك المدن واختطت "البصرة" و"الكوفة" فانتقل الناس إليهما من مدن المدائن، ولم يزل يضعف أمرها إلى أن صارت "المدائن" بليدة صغيرة في الجانب الغربي من "دجلة" كما تقدم، وهي جاهلية، آثارها عظيمة ومعالمها قائمة، وهي من "بغداد" على سبعة فراسخ.
وفي الجانب الشرقي من المدائن الإيوان الذي بها، ليس للأكاسرة أثر ولا بنية له.
وطوله مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، وهو مبني من الآجر الكبار والجص بناء محكما، وغلظ الأزج خمس آجرات، وطول كل شرفة من الشرف خمسة عشر ذراعا.
ذكر "ابن خرداذبه": أنه ما بني بالجص والآجر أبهى منه.
ومن عجيب ما يحكى من عظم بنائه أن شرفة منه هدمت وجعلت أساسا لسور بغداد.
#60#
ولما بنى "المنصور" بغداد أحب أن ينقضه ويبني بنقضه، فاستشار "خالد بن برمك" فنهاه وقال: "هو آية الإسلام، ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزيل أمره إلا نبي، وهو مصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمؤنة في نقضه أكثر من الارتفاق به". فقال له: "أبيت إلا ميلا إلى العجم".
فهدمت منه ثلمة بلغت النفقة عليها مالا كثيرا فأمسك، فقال له خالد: "أنا الآن أشير عليك بهدمه لئلا يتحدث بعجزك عنه"، فلم يفعل، وتركه.
ذكر هذا الزمخشري في "ربيع الأبرار".
وهذه القصة خرجها الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه" من طريق أبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، حدثنا
#61#
أبو الحسن عبد الواحد بن محمد الحصيني، حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: لما صارت الخلافة إلى "المنصور" هم بنقض إيوان المدائن، فاستشار جماعة من أصحابه، فكلهم أشار بمثل ما هم به، وكان معه كاتب من الفرس، فاستشاره في ذلك، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من تلك القرية -يعني: المدينة- وكان له بها مثل ذلك المنزل ولأصحابه مثل تلك الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاؤوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره، فغلبوه وأخذوه من يده قسرا قهرا، ثم قتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأرض فينظر إلى تلك المدينة وإلى هذا الإيوان، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الإيوان، فلا يشك أنه بأمر الله تعالى وأنه هو الذي أيده وكان معه ومع أصحابه، وفي تركه فخر لكم.
فاستغشه "المنصور" واتهمه لقرابته من القوم، ثم بعث في نقض الإيوان، فنقض منه الشيء اليسير، ثم كتب إليه أنه يغرم في نقضه أكثر مما يسترجع منه، وأن هذا تلف الأموال وذهابها.
فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إليه، فقال له: قد كنت أشرت بشيء لم تقبل مني، فأما الآن فإني آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه، والصواب أن تبلغ به الماء. ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال، فأمر بالإمساك عنه.
ثم روى بإسناده عن أبي العباس المبرد، أخبرني القاسم بن سهل النوشجاني أن ستر باب الإيوان أحرقه المسلمون لما افتتحوا المدائن،
#62#
فأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهب، فبيع المثقال بعدة دراهم، فبلغ ذلك عشرة آلاف درهم.
وقيل: كان بساط كسرى ستين ذراعا في مثلها مربعا، وكان منسوجا بالذهب مرصعا باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر التي لم ير مثلها مصورا فيه جميع ممالك كسرى وسائر بلاده، فإذا جلس على الكرسي رأى جميع بلاده، فلما غنمه المسلمون حمل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، واقتسمه المسلمون، فخرج لعلي رضي الله عنه قطعة منه مقدار شبر، فباعها بعشرين ألف دينار، وليست بأجود القطع.
وخرج الخطيب أيضا من طريق محمد بن أحمد [بن] البراء، حدثنا القاسم بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن السائب بن الأقرع: أنه كان جالسا في إيوان كسرى، قال: فنظر إلى تمثال يشير بأصبعه إلى موضع. قال: فوقع في روعي أنه يشير إلى كنز، قال: فاحتفرت الموضع فاستخرجت كنزا عظيما، فكتبت إلى عمر رضي الله عنه أخبره، وكتبت أن هذا شيء أفاءه الله عز وجل علي دون المسلمين. قال: فكتب إليه عمر: إنك أمير من أمراء [المسلمين]، فاقسمه بين المسلمين.
وخرجه أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي في كتابه "الروضة الصغيرة" بسنده المذكور.
و"السائب بن الأقرع بن جابر الثقفي" هذا له رؤية، وهو ابن عم عثمان بن أبي العاص، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه قبض الأخماس
#63#
من غنائم أموال الفرس، وورد المدائن واليا عليها.
وكان آخر الملوك الذين ملكوا من نسل "كسرى" المذكور: "يزدجرد بن شهريار - الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابا- بن أبرويز بن هرمز بن كسرى نوشروان".
وكان "يزدجرد" هذا كسرى زمانه قتل في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين، وبه انقضت دولة الأكاسرة وولت أيامهم، وكان هذا خاتمتهم.
وقوله: "وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام".
"فارس" اسم علم لطائفة من العجم، كان دينهم دين الصابئة، ثم صاروا مجوسا يعبدون النار.
و"بلاد فارس" مشتملة على خمس كور: فأوسعها وأكثرها مدنا ونواحي: "كورة إصطخر"، ويليها "أردشير خرة" ومدينتها "جور"، و"كورة دارابجرد"، و"كورة الرجان"، و"كورة سابور".
#64#
وكان لهذه الخمس كور بيوت نيران كثيرة للمجوس، فالذي بلغني من مشهورها بيت نار "فرة" و"شرخشين" الذي بـ "باب سابور"، و"حينيد كلوسن". بباب سابور المحاذي لـ "باب ساسان"، وبيت يعرف بـ "حفتة"، وبيت معروف بـ "كلازن" و"بيت ناريجرة" وكان من البيوت المعظمة عندهم، وبه تحلف المجوس تغليظا لأيمانهم، وهذا البيت ينسب إلى دارا ابن دارا الملك المشهور الذي بنى دار ابجراد، وبيت عند بركة "جور" ويسمى "بارين"، وكان مكتوبا عليه فيما ذكره مصنف كتاب "صورة الأرض"، وكان في أوائل المائة الرابعة أنه حدثه من قرأ عليه بالفهلوية أنه أنفق عليه ثلاثون ألف ألف.
وكان لبيوت النار التي ذكرنا ولغيرها: قوام وسدنة يقومون عليها، وينتابون إيقادها، فلم يخمد لها لهب في ليل ولا نهار مدة عبادة المجوس للنار، وذلك ألف عام إلى ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها خمدت كلها في جميع البيوت الموجودة ليلتئذ أي: ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تقد.
و"الموبذان": بفتح الباء الموحدة وكسرها، عالم الفرس وقاضيهم.
و"عبد المسيح" هو: ابن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني النصراني، صاحب القصر الأبيض بـ "الحيرة" الذي يقال له: "قصر بني بقيلة".
#65#
و"بقيلة" لقب، واسمه: ثعلبة -وقيل: الحارث- بن سبين بن زيد بن سعد بن عدي بن نمر بن صوفة بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأزد.
وإنما دعي "الحارث" "بقيلة"؛ لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا له: "ما أنت إلا بقيلة" فدعي بذلك.
و"عبد المسيح" هذا هو الذي صالح خالد بن الوليد رضي الله عنه على "الحيرة"، وكان ملكها يومئذ "الموبذان" من قبل "كسرى"، ملكه إياها حين مات النعمان بن المنذر.
حدث هشام بن محمد بن السائب بن الكلبي عن لوط أبي مخنف وشرقي بن قطامي، عن الكلبي قال: لما أقبل خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق يريد "الحيرة"، قال: فبعثوا إليه "عبد المسيح الغساني"، فقال له خالد: كم أتت لك؟ قال: خمسون وثلاثمائة سنة. قال: ومعه سم ساعة يقلبه في يده، فقال له خالد: ما هذا معك؟ قال: هذا سم. قال: ما تصنع به؟ قال: أتيتك، فإن يكن عندك ما يسرني ويوافق أهل بلدي قبلته وحمدت الله، وإن تكن الأخرى لم أكن أول من ساق الذل إلى أهل بلده فآكل هذا السم فأستريح من
#66#
الدنيا، فإنما بقي من عمري اليسير. قال خالد: هاته. فأخذه من يده ووضعه في راحته ثم قال: "بسم الله، وبالله رب الأرض والسماء، بسم الذي لا يضر مع اسمه داء"، ثم أكله، فتجلته غشية، ثم عرق، فأفاق وكأنما نشط من عقال. فانصرف إلى قومه، فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة، فلم يضره، صالحوهم.
وقد رويت هذه القصة مطولة، وهي: أن خالدا رضي الله عنه لما نزل على "الحيرة" وتحصن منه أهلها أرسل إليهم: ابعثوا لي رجلا من عقلائكم وذوي أسنانكم.
فبعثوا إليه "عبد المسيح بن بقيلة"، فأقبل يمشي حتى دنا من "خالد" فقال: أنعم صباحا أيها الملك.
قال: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، فمن أين أقصى أثرك أيها الشيخ. قال: من ظهر أبي.
قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي.
قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض.
قال ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل - لا عقلت؟ قال: إي والله وأقيد.
قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد.
قال خالد رضي الله عنه: ما رأيت كاليوم قط أن أسأله عن الشيء وينحو عن غيره.
#67#
قال: ما أنبأتك إلا عما سألت: فنس عما بدا لك.
قال: أعرب أنتم أم نبط؟
قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا.
قال: فحرب أنتم أم سلم؟
قال: بل سلم.
قال: فما هذه الحصون؟
قال: بنيناها لسفيه نحذر منه حتى يجيء الحليم ينهاه.
قال: كم أتى لك؟
قال: خمسون وثلاثمائة سنة.
قال: فما أدركت؟
قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل "الحيرة" تضع مكتلها على رأسها لا تزود إلا رغيفا واحدا حتى تأتي الشام، ثم قد أصبحت اليوم خرابا، وذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد.
قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه، فقال له خالد: ما هذا في كفك؟
قال: السم.
قال: وما تصنع به؟
قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله تعالى وقبلته، وإن تكن الأخرى لم أكن أول من ساق الذل إلى قومه، أشربه وأستريح من الحياة، فإنما بقي من عمري اليسير.
#68#
قال خالد: هاته. فأخذه، وقال: "بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء"، ثم أكله فتجللته غشية ثم ضرب بيده على صورته. وفي رواية ثم ضرب بذقنه صدره طويلا، ثم عرق وأفاق رضي الله عنه، فكأنما نشط من عقال.
فانصرف "عبد المسيح" إلى قومه، فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع له.
فصالحوهم على "الحيرة"، وأعطوا خالدا رضي الله عنه الجزية مائة ألف درهم.
فصالحهم خالد، وكتب لهم كتابا، فكانت أول جزية في الإسلام، وكان ذلك اثنتي عشرة من الهجرة بعد فراغ قتال أهل الردة.
وكان "عبد المسيح" هذا شاعرا معمرا، عاش سبعمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة.
قال أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون في كتابه "تذكرة المحاضرة وتبصرة المحاورة": وذكر أن بعض مشايخ أهل
#69#
"الحيرة" خرج إلى ظهرها (يحيط) ديرا، فلما حفر موضع الأساس وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله، فإذا رجل على سرير من زجاج عند رأسه كتابة: أنا "عبد المسيح بن بقيلة":
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بلغ المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أحفل بمعضلة كئود
وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
و"سطيح" اسمه: الربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي بن ذئب بن عمرو بن حارثة بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأسيد، من "غسان".
كذا يقول الكلبي وغيره، وتقدم عن ابن إسحاق ما يخالفه.
وقيل اسم "سطيح": عرف. وقيل غير ذلك.
قال أبو حاتم السجستاني: سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره
#70#
قالوا: وكان من بعد "لقمان بن عاد": "سطيح"، ولد في زمان سيل العرم. قيل: وأنذر سيل العرم، وعاش إلى ملك "ذي نواس" وذلك نحو من ثلاثين قرنا، وكان مسكنه "البحرين"، وزعمت "عبد القيس" أنه منهم، وتزعم "الأزد" أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون: هو من "الأزد"، ولا يدرى ممن هو، غير أن ولده يقولون: إنه من "الأزد".
ذكره أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه".
وقد تقدم أن "طريفة بنت الحر" الكاهنة تفلت في فيه يوم ماتت، فورث منها الكهانة هو و"شق".
قال أبو نعيم في "الدلائل": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن [بنت] شرحبيل، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي قال: أتى
#71#
رجل ابن عباس رضي الله عنهما فقال: بلغنا أنك تذكر "سطيحا" (وتزعم)، أن الله خلقه لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه؟ قال: نعم، إن الله عز وجل خلق "سطيحا الغساني" لحما على وضم، ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفان، وكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمه، فأتي به مكة، فخرج إليه أربعة من قريش: "عبد شمس" و "هاشم" ابنا "عبد مناف بن قصي"، و"الأحوص بن فهر" و"عقيل بن أبي وقاص"، فانتموا إلى غير نسبهم، وقالوا: نحن أناس من "جمح" أتيناك، بلغنا قدومك، فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية وصعدة ردينية، فوضعت على باب البيت الحرام؛ لينظروا هل يراها "سطيح" أم لا، فقال: يا عقيل، ناولني يدك. فناوله يده، فقال: يا عقيل، والعالم الخفية، والغافر الخطية، والذمة الوفية، والكعبة المبنية، إنك لجاء بالهدية: الصفيحة الهندية والصعدة الردينية.
قالوا: صدقت يا "سطيح".
فقال: والآت بالفرح، وقوس قزح، وسائر القرح، واللطيم المنبطح، والنخل والرطب والبلح، إن الغراب حيث مر سنح. فأخبر
#72#
أن القوم ليسوا من "جمح" وأن نسبهم من قريش ذي البطح. قالوا: صدقت يا "سطيح"، نحن أهل البيت الحرام، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا وما يكون بعده (فقدان أن) يكون عندك في ذلك علم.
قال: الآن (صدقتم)، خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر العرب، في زمان الهرم، (سواء) بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشأ من عقبكم (ذوو فهم)، يطلبون أنواع العلم، فيكسرون الصنم، (يكفون) الردم، يقتلون العجم، يطلبون الغنم.
قالوا: يا "سطيح"، فمن يكون أولئك؟
فقال لهم: والبيت ذي الأركان، والأمن والسكان، لينشؤون من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، وينكرون عبادة الشيطان، ويوحدون الرحمن، وينشرون دين الديان، يشرفون البنيان.
قالوا: يا "سطيح"، من نسل من يكون أولئك؟ فقال: وأشرف الأشراف، (والعصي) للأسراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف الأضعاف، لينشؤون الآلاف من عبد شمس وعبد مناف، نشوءا يكون فيهم اختلاف.
#73#
قالوا: يا سوءتا "سطيح"، فما تخبرنا من العلم بأمرهم؟ ومن أي بلد يخرج أولئك؟
فقال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد، فتى يهدي إلى الرشد، يرفض "يغوث" و"الفند"، يبرأ من عبادة الصدد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله محمودا، من الأرض مفقودا، في السماء مشهودا، ثم يلي أمره "الصديق"، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف مجرب غطريف، ويترك قول العنيف، قد ضاف المضيف وأحكم التحنيف.
ثم ذكر "عثمان" ومقتله وما يكون بعده من أيام الخلفاء وما بعد ذلك من الفتن والملاحم.
وخرج ابن عساكر في "تاريخه" أن ملكا سأل "سطيحا" عن نسب غلام اختلف فيه، فأجابه على الجلية من أمره في كلام طويل مليح فصيح. فقال له الملك: يا "سطيح"، ألا تخبرني عن علمك هذا؟ فقال: إن علمي ليس مني، ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته من أخ لي جني قد سمع الوحي بطور سني.
#74#
فقال له: أرأيت حال هذا الجني، أهو معك لا يفارقك؟
قال: إنه ليزول حيث أزول، ولا أسكن إلا بما يقول.
وروي نحوه عن وهب بن منبه أنه قال لسطيح: أنى لك هذا العلم؟
فقال: لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله موسى عليه السلام فهو يؤدي إلي من ذلك ما يؤديه.
ومن أخباره أيضا: ما قال الحافظ أبو بكر البرقاني: أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي عون، حدثنا أبو عمار الحسين بن حرب، أخبرنا الشقيقي علي بن الحسين، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي سلمة -أظنه: السراج- عن يحيى بن أبي كثير: أن رجلين خرجا في سفر، ففقد أحدهما صاحبه، فلما رجع اجتمع أهل بيت هذا وأهل بيت هذا، حتى كاد يكون بينهما شيء. فقال ذو النهى منهم: هل لكم أن نبعث إلى "سطيح" رجلا منا نسأله عن شأن صاحبنا؟ فقال بعضهم لبعض: أرأيتم إن أخبرنا "سطيح" أنه قتل صاحبنا فكنا نقتله بقوله؟ وإن قال لم يقتله ندعه بقوله؟ فقالوا: نعم.
فقالوا: تعالوا حتى نعتلم علامة ثم نسأله عن علامتنا، فإن أخرجها لنا سألناه عن شأن صاحبنا. فأخذوا بدنة فنحروها ووضعوا من لحمها فاصطادوا عليه نسرا، وأخذوا من ريشه عشر ريشات وقالوا: هذه علامتنا، فأتوه، فلما رأوا سطيحا، قال: إن شئتم أخبرتكم بالذي جئتم تسألوني عنه، وإن شئتم فسلوا.
فقالوا: أخبرنا فيم جئناك؟
قال: إنكم سرتم إلي شهرا، ونحرتم على رأس شهر بكرا، واصطدتم على لحمه نسرا، وأخذتم من ريشه عشرا، وقلتم: "قتل عامر عمرا"، ما قتله إلا ذو أنياب قسرا.
#75#
قال: فرجع القوم يطلبون صاحبهم، فإذا به قد قتله الأسد.
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "مساوئ الأخلاق": أنشدني أبو سهل الرازي لسطيح الكاهن:
عليكم بتقوى الله في السر والجهر ... ولا تلبسوا أصدق الأمانة بالغدر
وكونوا لجار الجنب حصنا وجنة ... إذا ما عرته النائبات من الدهر
وأخبار "سطيح" كثيرة، وقد جمعها غير واحد، ومنها: أنه كان إذا غضب انتفخ، وأن جمجمته كانت إذا مست باليد أثرت فيها؛ للين عظمها.
والمشهور: أنه كان كاهنا وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن نعته ومبعثه بأخبار كثيرة.
وروي: أنه عاش سبعمائة سنة، وأنه أدرك الإسلام فلم يسلم. قاله القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري فيما رواه ابن عساكر.
والحديث الذي سقناه يدل على أنه لم يدرك الإسلام، وهو الصحيح؛ لأن "عبد المسيح" قال في هذا الحديث: ثم قضى "سطيح" مكانه، وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء يسير. والله أعلم.
وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق.
#76#
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان": وعجيب ما يحكى عن الكهان مما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدل منه بواضح البرهان: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبيد الله بن العلاء، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه، أن نفرا من قريش، منهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث،كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا، وكانوا يعظمونه وينحرون له الجزر، ثم يأكلون ويشربون الخمر، ويعكفون عليه، فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوبا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتموا له وعظموا ذلك!!
فقال عثمان بن الحويرث: ماله قد أكثر التنكيس! إن هذا لأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عثمان يقول:
#77#
أيا صنم العيد الذي صف حوله ... صناديد وفد من بعيد ومن قرب
تكوست مقلوبا فما ذاك قل لنا ... أذاك سفيه أو تكوست للعتب
فإن كان من ذنب أتينا فإننا ... نبوء بإقرار ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوبا تكوست صاغرا ... فما أنت في الأوثان بالسيد الرب
قال: وأخذوا الصنم، فردوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول:
تردى لمولود أنارت بنوره ... جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب
وخرت له الأوثان طرا وأرعدت ... قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
#78#
ونار جميع الفرس باخت وأظلمت ... وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب
وصدت عن الكهان بالغيب جنها ... فلا مخبر عنهم بحق ولا كذب
فيا لقصي ارجعوا عن ضلالكم ... وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب
فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض.
فقالوا: أجل.
فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد أخطئوا المحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به، لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين.
قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم، وذكر الحديث.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبيد الله بن العلاء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
#79#
جدته: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كان زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يذكران: أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع "أبرهة" من مكة، قالا: فلما دخلنا عليه قال لنا: اصدقاني أيها القرشيان، هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه، فضرب عليه بالقداح فسلم ونحرت عنه جمال كثيرة؟ قلنا: نعم. قال: فهل لكما علم به، ما فعل؟ قلنا: تزوج امرأة يقال لها: "آمنة بنت وهب"، تركها حاملا وخرج.
قال: فهل تعلمان ولد أم لا؟ قال ورقة بن نوفل: أخبرك أيها الملك، إني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به ونعبده، إذ سمعت من جوفه هاتفا وهو يقول:
ولد النبي فذلت الأملاك ... ونأى الضلال وأدبر الإشراك
ثم انتكس الصنم على رأسه. فقال زيد بن عمرو بن نفيل: عندي كخبره أيها الملك. قال: هات، قال: إني في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه خرجت من عند أهلي، وهم يذكرون حمل "آمنة"، حتى أتيت جبل "أبي قبيس" أريد الخلوة فيه لأمر رابني، إذ رأيت رجلا ينزل من السماء له جناحان أخضران، فوقف على جبل "أبي قبيس"، ثم أشرف على مكة فقال: "ذل الشيطان وبطلت الأوثان وولد الأمين"، ثم نشر ثوبا معه وأهوى به نحو المشرق والمغرب، فرأيته قد جلل ما تحت السماء، وسطع نور كاد أن يخطف بصري وهالني ما رأيت، وخفق الهاتف بجناحه حتى سقط على الكعبة، فسطع له نور أشرقت له "تهامة" وقال: زكت الأرض وأدت ربيعها، وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة، فسقطت كلها.
#80#
قال النجاشي: ويحكما، أخبركما عما أصابني، إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبتي وقت خلوتي، إذ خرج علي من الأرض عنق ورأس وهو يقول: حل الويل بأصحاب الفيل، رمتهم طير أبابيل بحجارة من سجيل، هلك الأشرم المعتدي المجرم، ولد النبي الأمي الحرمي المكي، من أجابه سعد، ومن أباه عند، ثم دخل الأرض فغاب، فذهبت أصيح، فلم أطق الكلام ورمت القيام، فقرعت القبة بيدي، فسمع ذلك أهلي، فجاؤوني، فقلت: احجبوا عني الحبشة. فحجبوهم عني، ثم أطلق عن لساني ورجلي.
وخرج أبو محمد دعلج بن أحمد بن دعلج في "مسند المقلين" من حديث وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق، حدثني صالح بن إبراهيم، [عن يحيى] بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، حدثني من شئت من رجال قومي، عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أسمع ما أرى وأعقل، إذ أشرف يهودي على أطمة، فصرخ بأعلى صوته: "يا معشر يهود"، فاجتمعوا إليه، فقالوا: ما شأنك، فقال: طلع
#81#
الليلة نجم "أحمد" الذي ولد به.
سئل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: كم كان عمر "حسان" مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ فقال: ابن ستين سنة وقدمها النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع "حسان" اليهودي يقول ما يقول وهو ابن سبع سنين، والله أعلم.
وخرج أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" من حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم ونحن يومئذ في (هدنة الهدم)، فسمعت "يوشع اليهودي" يقول: أظل خروج نبي يقال له: "أحمد"، يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي -كالمستهزئ به-: ما صفته؟
قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره.
#82#
قال: فرجعت إلى قومي بني [خدرة] وأنا يومئذ أتعجب مما يقول "يوشع"، فأسمع رجلا فينا يقول: و"يوشع" يقول هذا وحده! كل يهود "يثرب" تقول هذا.
قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعا، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر لم يطلع إلا لخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا "أحمد" وهذه مهاجره.
وخرج أبو نعيم أيضا من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده، اسمه: "أحمد"، ومهاجره إلى طيبة، يثرب، الحديث.
وجاء عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الديباج، عن أمه، عن أبيها قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حبر كان بمكة: يولد الليلة مولود في بلادكم، هذا المولود النبي الذي يوصف بأن يعظمه موسى وهارون، يقتل أمتهما، فإن أخطأكم فبشروا أهل "الطائف" وأهل "أيلة". قال: فولد صلى الله عليه وسلم في آخر تلك الليلة، فخرج الحبر حتى دخل الحجر وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن موسى حق، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قاف لموسى حق، فإني مؤمن به.
ثم فقد فلم يقدر عليه.
#83#
"أم الديباج": فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنها
وخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثني حاتم بن الليث الجوهري، حدثني سليمان بن عبد العزيز الزهري، حدثني أبي عبد العزيز بن عمران، عن عمه محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هتفت الجن على "أبي قبيس" وعلى الجبل الذي بـ "الحجون" الذي بأصله المقبرة، وكانت تئد فيه قريش بناتها، فقال الذي عليه:
فأقسم ما أنثى من الناس أنجبت ... ولا ولدت أنثى من الناس واحدة
كما ولدت زهرية ذات مفخر ... مجنبة لؤم القبائل ماجده
وقد ولدت خير القبائل أحمدا ... فأكرم مولود وأكرم والده
وقال الذي على "أبي قبيس":
يا ساكني البطحاء لا تغلطوا ... وميزوا الأمر بعقل مضي
#84#
إن بني زهرة من سركم ... في غابر الأمر وعند البدي
واحدة منكم فهاتوا لنا ... فيمن مضى في الناس أو من بقي
واحدة من غيرهم مثلها ... جنينها مثل النبي التقي
وحدث أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن عقبة بن مكرم، قال: [أنبأنا المسيب بن شريك قال] حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان بـ "مر الظهران" راهب من الرهبان يدعى "عيصا" من أهل الشام، وكان مختفرا بـ "العاصي بن وائل"، وكان الله عز وجل قد آتاه علما كثيرا، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول: "إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة تدين له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه فاتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه
#85#
فخالفه أخطأ حاجته، وتالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن، ولا حللت أرض البؤس والخوف والجوع إلا في طلبه".
وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول: لا، ويكتم ذلك؛ للذي قد علم أنه لاق من قومه؛ مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يفضي إليه من الأذى يوما.
فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب، حتى أتى "عيصا"، فوقف في أصل صومعته ثم نادى: "يا عيصا"، فناداه: من هذا؟ فقال: "أنا عبد الله". فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين.
قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود. قال: فما سميته؟ قال: محمدا.
قال: والله، لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه، منها: أن نجمه طلع البارحة، وأنه: ولد اليوم، وأن: اسمه "محمد"؛ انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه ابنك.
قال: فما يدريك أنه ابني، ولعله أن يولد يومنا هذا مولودون عدة؟!
قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله عز وجل ليشبه علمه على العلماء؛ لأنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع.
فيشتكي أياما ثلاثا، يظهر به الوجع ثلاثا، ثم يعافى، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد حسده أحد قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، وإن يعش حتى تبدو معالمه، ثم يظهر لك من قومك ما لا يحتمله إلا على
#86#
صبر على ذلك، فاحفظ لسانك، ودارئ عنه.
قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره أو قصر لم يبلغ السبعين [يموت] في وتر دونها من الستين، في إحدى وستين، أو ثلاث وستين، الستون أعمار رجل من أمته.
وفي هذا دليل لمن قال: "إن عبد الله توفي بعد أن ولد ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن صح.
#87#
$ذكر رنة إبليس - لعنه الله - ليلة المولد الشريف، ومنعه وجنوده من السموات$
وفي "تفسير بقي بن مخلد" فيما حكاه السهيلي وأبو الربيع بن سالم وغيرهما: أن إبليس رن أربع رنات:
رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب.
وروى أبو نعيم في "الحلية" من حديث أبي الربيع، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد قال: رن إبليس -لعنه الله- أربعا: حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعث على فترة من الرسل، وحين أنزلت: {الحمد لله رب العالمين} وأنزلت بالمدينة، وكان يقال: الرنة والنخرة من الشيطان، فلعن من رن أو نخر.
#88#
وهذا مشهور عن مجاهد من قوله، كما خرجه ابن الأنباري في كتابه "الرد" عن أبيه، حدثني (أبو عبيد الله) الوراق، حدثنا أبو داود، حدثنا شيبان، عن منصور، عن مجاهد قال: إن إبليس -لعنه الله- رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط من الجنة، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت فاتحة الكتاب وأنزلت بالمدينة.
وقول مجاهد عن الفاتحة: "وأنزلت بالمدينة" يروى أيضا عن أبي هريرة وعطاء بن يسار والزهري.
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم: نزلت بمكة.
وهو قول قتادة وأبي العالية والحسن والأكثرين.
وهو الأصح.
وقال أبو الحسن الواحدي في كتابه "أسباب النزول". وعند مجاهد: "أن الفاتحة" مدنية.
#89#
قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة، وهذه نادرة من مجاهد؛ لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه.
قلت: لم ينفرد به كما ذكرناه، والله أعلم.
وروي عن محمد بن كثير الكوفي، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: رن إبليس ثلاث رنات: رنة حين أهبط آدم عليه السلام من الجنة، ورنة حين ولد عيسى ابن مريم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب.
وجاء: إن إبليس لما خلق نخر:
قال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان، (عن) عمرو بن دينار، سمعت رجلا من أهل الأرض يقول: سمعت أبد الله بن إياس يقول: إن الله عز وجل لما خلق إبليس نخر.
قلت: "نخر" مأخوذ من قولهم: "نخر الحمار نخيرا" مد نفسه في خياشيمه.
ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الجن لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى صلى الله عليه وسلم منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد
#90#
محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها.
وجاء عن وهب بن منبه قال: كان إبليس يصعد إلى السموات كلهن ويتقلب فيهن كيف شاء، لا يمنع منذ أخرج آدم عليه السلام من الجنة، إلى أن رفع عيسى عليه السلام، فحجب حينئذ عن أربع سموات، فصار يتردد في ثلاث سموات، فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث، فصار محجوبا يسترق هو وجنوده ويقذفون بالكواكب.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال: كان هشام بن عروة، يحدث عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقال القوم: والله ما نعلمه. قال: الله أكبر، أما إذا خطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم، ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات، كأنهن عرف فرس، لا يرضع لليلتين، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه، فمنعه الرضاع.
فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه "محمدا" صلى الله عليه وسلم.
#91#
فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتهم حديث اليهودي؟ وهل بلغكم مولد هذا الغلام؟
فانطلقوا حتى جاؤوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال: فاذهبوا معي حتى أنظر إليه.
فخرجوا به حتى أدخلوه على أمه، فقال: أخرجي إلينا ابنك. فأخرجته وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا: ويلك، مالك؟ قال: ذهبت -والله- النبوة من بني إسرائيل، أفرحتم به يا معشر قريش؟! والله، ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها المشرق والمغرب.. وذكر بقيته.
تابعه محمد بن يحيى الذهلي، عن أبي غسان.
وخرجه الحاكم في "مستدركه".
وهو عند ابن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد - هو: ابن عبد الله بن أبي سيف القرشي- عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره، عن هشام بن عروة بنحوه، وفيه: "به شامة بين كتفيه سوداء صفراء، فيها شعرات متواترات"، وذكر بقيته.
قيل: هذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد بخاتم النبوة الذي بين كتفيه.
وقيل: وضع الخاتم وقت شرح صدره صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى بعد.
#92#
&ولادته صلى الله عليه وسلم مختونا والخلاف فيه&
وكذلك الخلاف جار في ختان النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البيهقي في
#93#
"الدلائل" من طريق أبي أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي بمصر، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، قال فأعجب جده عبد المطلب وحظي عنده وقال: "ليكونن لابني هذا شأن"، فكان له شأن.
وخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق الخبائري بنحوه.
و"الخبائري" وشيخه "يونس": واهيان، لا يقوم بهما حجة، لكن تابع الخبائري محمد بن سعد فقال في "الطبقات الكبرى": حدثنا يونس بن عطاء المكي، حدثنا الحكم بن أبان العبدي، فذكره.
وذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام" رواية ابن سعد هذه ثم قال: تابعه سليمان بن سلمة الخبائري، لكن أدخل فيه بين "يونس" و"الحكم": عثمان بن ربيعة الصدائي. انتهى.
قلت: وهذا وهم، دخل عليه من قوله: "يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة"، فتصحف "عن عثمان بن ربيعة"، والله أعلم، وقد تقدم على الصواب.
#94#
وأخبرنا أبو محمد سلمان بن عبد الحميد السلامي بقراءتي عليه، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن عثمان، أخبرنا عمر بن عبد المنعم الطائي. ح.
وأخبرتنا المعمرة اليقظة أم محمد زينب بنت محمد بن عثمان بقراءتي عليها، عن الطائي المذكور، وأبي الحسن علي بن البخاري إجازة مطلقة، قالا: أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد قراءة عليه، قال الأول: وأنا شاهد، والثاني: وأنا أسمع، أخبر علي بن المسلم، أخبرنا الحسين بن طلاب، أخبرنا محمد بن أحمد الصيداوي، حدثنا عمر بن موسى بالمصيصة، حدثنا جعفر بن عبد الواحد، قال: قال لنا صفوان بن هبيرة.
ومحمد بن بكر البرساني، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
لم يذكر "العباس" في هذا الإسناد.
وفيه "جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان الهاشمي القاضي": رماه بالوضع الدارقطني والبرقاني, وغيرهما، وكان يسرق الأحاديث؟
#95#
وخرج أبو نعيم من حديث أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي -وقد تكلم فيه-، حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثنا خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ولد صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
"خالد بن سلمة" إن لم يكن "الفأفأ" المخزومي فلا أعرفه، و"الفأفأ" تكلم في معتقده.
وهذا الحديث لا يثبت كالذي قبله، فإن الراوي عن "خالد بن سلمة" هو "موسى بن محمد بن عطاء أبو طاهر المقدسي" أحد المتروكين، رمي بالوضع والسرقة.
وخرج جماعة منهم الحافظ أبو بكر البغدادي الخطيب في "تاريخه" من طريق القاضي أبي بكر محمد بن عمر بن سلم الجعابي الحافظ، حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج البغدادي بالأبلة، حدثنا سفيان بن محمد المصيصي ح.
وخرج أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" من طريق الحسين بن
#96#
عبد الله العوفي بالبصرة، حدثنا محمد بن أحمد الكرخي، حدثنا سفيان بن محمد المصيصي، حدثنا هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على الله أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد".
"المصيصي" هذا أحد السراق للحديث، المتكلم فيهم، لا يحتج بخبره، لاسيما وقد انفرد بهذا الحديث، قال الخطيب أبو بكر البغدادي في "تاريخه" بعد روايته هذا الحديث: لم يروه فيما يقال عن "يونس" غير "هشيم"، وتفرد به "سفيان بن محمد"، انتهى.
وأما ما رواه أبو القاسم بن عساكر من طريق القاضي أبي عمر محمد بن الحسين البسطامي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الجارود الرقي، أخبرنا الحسن بن عرفة، أخبرنا هشيم بن بشير، عن يونس، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد".
فهذا ربما يخفى على غير المتوغل في هذا الشأن فيظنه متابعة للمصيصي على روايته عن هشيم، وليس كذلك، فإن ابن الجارود سرقه فيما ذكره ابن عساكر وألصقه بابن عرفة، وحدث عنه به، والله أعلم.
#97#
ورواه ابن عساكر أيضا من طريق أبي بكر محمد بن أحمد الأسفاطي، حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله البرجاني ونوح بن محمد بن نوح، قالا: حدثنا الحسن بن عرفة، فذكره.
وخرجه الحافظ أبو نعيم في "الحلية" من طريق نوح بن محمد الأبلي، عن الحسن بن عرفة، وهذا شبه الموضوع.
وقال أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون بن ثابت الصباحي حدثنا علي بن محمد الفارسي، حدثنا محمد بن كثير الكوفي، حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا.
وهذا لا يثبت أيضا، فابن كثير هو: "أبو إسحاق القرشي" واه جدا، تكلم فيه قتيبة بن سعيد وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو عبد الله البخاري وغيرهم.
#98#
وشيخه "إسماعيل بن مسلم"؟ أظنه والله أعلم المكي الراوي عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، وقد ضعفه ابن المبارك وسفيان بن عيينة ويحيى القطان وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهم.
وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في "معجزات النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: ومنها: أن صفية بنت عبد المطلب قالت: أردت أن أعرف أذكر هو أم أنثى؟ فرأيته مختونا.
وهذا لا يصح أيضا، ولا له إسناد يعرف به.
قال أبو عبد الله ابن القيم: وقد زعم بعضهم أن الأحاديث (التي) في هذا الباب متواترة، وفيه نظر.
#99#
قلت: هو: الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، قال الذهبي في كتابه "الميزان" في ترجمة الحاكم أبي عبد الله: (من شقاشقه قوله: أجمعت الأمة أن القتبي كذاب، وقوله في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مسرورا قد تواتر هذا، وقوله إن عليا وصي).
فأما صدقه في نفسه ومعرفته بهذا الشأن فأمر مجمع عليه، مات سنة خمس وأربعمائة. انتهى.
وهذا أحد الأقوال في ختانه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن جبريل عليه السلام ختنه يوم شق قلبه.
قال جعفر بن محمد بن نصير الخلدي: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني، حدثنا مسلمة بن محارب بن سليم بن زياد عن أبيه، عن أبي
#100#
بكرة رضي الله عنه: أن جبريل عليه السلام ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه.
خرجه أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه".
ومن طريقة خرجه أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه".
وهذا مع كونه موقوفا لا يثبت إسناده، و"المدائني" لين.
وقيل: إن جده "عبد المطلب" ختنه:
قال أبو عمر ابن عبد البر: حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن أحمد قراءة مني عليه، أن محمد بن عيسى حدثه، حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن عطاء الخراساني، عن
#101#
عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدبة، وسماه محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد ممن لقيت إلا عن ابن أبي السري، والله أعلم.
حديث غريب موقوف كالذي قبله.
قال بعض العلماء: وهذا الحديث -يعني: حديث ابن عباس- على ما فيه أشبه بالصواب، حكاه عنه الحافظ أبو محمد الدمياطي.
وجاء عن عبد الله بن حبيب، عن عبد الرحمن بن موسى، عن خلف بن ياسين، عن أبيه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الخميس؛ فقال: "أول يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى"، قال: بأبي أنت وأمي، فأخبرني عن من صام يوم الاثنين، قال: "ذلك يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى أيضا، وهو يوم ولدت فيه، ويوم ختنت فيه، ويوم بعثت فيه" الحديث.
#102#
وهو حديث مع إعضاله منكر جدا.
و"خلف" وأبوه "ياسين بن معاذ الزيات" يرويان الموضوعات.
وقد صنف الصاحب العلامة كمال الدين أبو القاسم كمال الدين عمر بن أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي الحلبي بن العديم كتابا بين فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب، ورد فيه على من جزم بأنه ولد مختونا.
قال فيه: ولو ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا فليس هذا من خصائصه، فإن كثيرا من الناس يولد غير محتاج إلى ختان.
ثم قال: وكانت العرب لا تعتد بصورة الختان من غير ختان، وترى الفضيلة في الختان نفسه وتفخر به.
قال: وقد بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من صمم العرب، وخصه
#103#
بصفات الكمال من الخُلق والخَلق والنسب، فكيف يجوز أن يكون ما ذكره من كونه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مما تميز به النبي صلى الله عليه وسلم وتخصص؟!
وقيل: إن الختان من الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها خليله صلى الله عليه وسلم، فأتمهن وأكملهن، وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الختان من الفطرة، ومن المعلوم أن الابتلاء به مع الصبر عليه مما يضاعف ثواب المبتلى به وأجره، والأليق بحال النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسلب هذه الفضيلة، وأن يكرمه الله عز وجل بها كما أكرم خليله عليه السلام، فإن خصائصه صلى الله عليه وسلم أعظم من خصائص غيره من النبيين وأعلى، انتهى.
وجنح ابن العديم إلى تقوية أن جبريل عليه السلام ختنه صلى الله عليه وسلم.
والأقوال الثلاثة التي قدمناها ليس لشيء منها حديث ثابت يعضده، والله أعلم.
وتوقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في ذلك، قال المروذي: سئل أبو عبد الله: هل ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا؟ قال: الله أعلم. ثم قال: لا أدري.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي قدمناه ما يدل على أن عبد المطلب عق عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، ولكن لا يثبت أيضا.
#104#
قال الخلال: أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم: سمعت أحمد يحدث بحديث الهيثم بن جميل، عن عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه.
قال أحمد: عبد الله بن المحرر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه": منكر، وضعف عبد الله بن محرر.
وذكر هذا أبو داود في "مسائله" عن أحمد بنحو ما رواه عنه هنا أبو المثنى.
قال عبد الرزاق في "جامعه": أخبرنا عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، عق عن نفسه بعدما جاءته النبوة.
#105#
قال عبد الله: إنما تركوا ابن المحرر لهذا الحديث.
وقال الخلال أيضا: أخبرنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا إبراهيم بن جميل، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن رجل من آل أنس، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما جاءته النبوة.
الرجل الذي من آل أنس هو: "ثمامة بن عبد الله بن أنس" كما صرح به في رواية أبي المثنى العنبري المتقدمة.
وصرح به أيضا فيما قال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن مسعود، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما بعث نبيا.
والمشهور: أن عبد المطلب ذبح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل للناس مأدبة في اليوم السابع من ميلاده، كما تقدم.
#106#
&تسميته صلى الله عليه وسلم "محمدا"، وذكر ما روي في أسمائه الشريفة&
#107#
وحدث بكر بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم البخاري، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن النضر، حدثنا عيسى بن موسى غنجار، عن خارجة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه عبد المطلب بكبش، وسماه محمدا، فقيل له: يا أبا الحارث، ما حملك على أن تسميه محمدا ولم تسمه باسم آبائه؟ فقال: أردت أن يحمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض.
وفي الأثر الذي خرجه البيهقي من حديث معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة، وذكر الأثر، وتقدم طرف منه، وفيه: فلما كان اليوم السابع ذبح عنه -يعني: عبد المطلب- ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب،
#108#
أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته؟ قال: سميته "محمدا"، قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض.
قيل: سماه جده عبد المطلب "محمدا" صلى الله عليه وسلم لرؤيا رآها، وهي: أنه رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، فإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه "محمدا" صلى الله عليه وسلم، مع ما حدثته به أمه حين قيل لها: إنه قد حملت سيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه "محمدا".
ذكره أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، عن علي بن أبي طالب القيرواني العابر في كتابه "البستان".
وذكره أبو الربيع بن سالم.
وهذا الذي ذكروه رواه أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "دلائل النبوة". فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن
#109#
أحمد بن أبي يحيى، حدثنا سعيد بن عثمان، حدثنا علي بن قتيبة الخراساني، حدثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده، سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال:
لبينا أنا نائم في الحجر، إذ رأيت رؤيا هالتني، ففزعت منها فزعا شديدا، فرأيت كاهنة قريش وعلي نمط خز يضرب منكبي، فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغير وأنا يومئذ سيد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون، هل رابه من حدثان الدهر شيء؟ فقلت لها: بلى - وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته، ولم أفعل؛ لأني كبير قومي- فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش
#110#
يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها قبسا، وقلت: لمن النصيب؟ قالوا: لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها.
فانتبهت مذعورا فزعا، قال: فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك من يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس، ثم قالت لأبي طالب: لعلك أن تكون هذا المولود.
فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، ويقول: كانت الشجرة -والله أعلم- أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، حدثني قيس مولى عبد الواحد، عن سالم، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أمرت "آمنة" وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه "أحمد".
وقد تقدم أنها حين حملت به صلى الله عليه وسلم أتيت فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، وفيه: فإذا وقع فسميه "محمدا".
#111#
قال بعضهم: ألهم الله تعالى قومه أن يسموه "محمدا" صلى الله عليه وسلم لما فيه من الصفات المحمودة ليطابق الاسم المسمى في الصورة والمعنى، وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم الشريف في كتابه العزيز في قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، وقال عز وجل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، وقال عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}.
وقد وافق كل عالم من مؤمني أهل الكتاب أن هذا الاسم سمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة صريحا، وقد ورد مجيئه في زبور داود كذلك.
$[مطلب في ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم وكنيته][1]$
وللنبي صلى الله عليه وسلم أسماء أخر قد تجاوزت المئين، وكثرة الأسماء من باب جلالة المسمى وعظمته وفضله، مع أن فضل نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام- لم يكن ليحيط بمعانيه اسم واحد، بل أسماء كثيرة لا تحصى، كما أن فضله لا يحصى، والآتي من أسمائه دال على ما يأتي من فضله، ملائما لجلالة قدره صلى الله عليه وسلم.
#112#
قال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في مصنفيه: "أحكام القرآن" و"شرح جامع أبي عيسى الترمذي": إن الله عز وجل حظظ النبي صلى الله عليه وسلم يحظظه، وعدد له أسماءه، والشيء إذا عظم قدره عظمت أسماؤه.
وقال بعض الصوفية: لله عز وجل ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، فأما أسماء الله تعالى فهذا العدد حقير فيها، قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بسبعة أبحر مثله مددا.
وأما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلم أحصها إلا من جهة الورود الظاهر بصيغة الأسماء البينة فوعيت منها جملة، الحاضر منها سبعة وستون اسما، ثم ذكرها ابن العربي في الكتابين المذكورين.
وذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة وتسعين اسما.
#113#
وذكر ابن دحية أن أسماءه صلى الله عليه وسلم إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن العظيم والحديث النبوي بلغت الثلاثمائة، ذكره في كتابه "المستوفى في أسماء المصطفى صلى الله عليه وسلم".
ونحن نبدأ -بعون الله وتوفيقه- ببعض أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم الواردة في القرآن، ثم في الكتب المتقدمة، ثم في الأحاديث النبوية، ونتبعها بمعانيها مقتضبة - إن شاء [الله] تعالى.
ففي القرآن العظيم جملة من أسمائه الشريفة، فمنها:
"محمد"، "أحمد"، و"نور" و"سراج منير"، و"منذر"، و"نذير"، و"مبشر"، و"بشير"، و"شاهد"، و"شهيد" و"هاد"، و"رحمة للعالمين"، و"عزيز"، و"حريص على هداية الأمة"، و"رؤوف"، و"رحيم"، و"داع"، و"كريم"، و"مذكر"، و"مبين"، و"صاحب"، و"ولي"، و"مرسل"، و"رسول"، و"مصدق"، و"قدم الصدق"، و"عبد"، و"مطاع"، و"نعمة الله"، و"العروة الوثقى"، و"الصراط المستقيم"، و"النجم الثاقب"، و"النبي الأمي"، و"المزمل"، و"المدثر"، و "رسول الله"، و"عبد الله"، و"داعي الله"، و"أول المسلمين"، و"أول المؤمنين"، و"خاتم النبيين".
وأما أسماؤه صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة فكـ:
"المتوكل"، و"حرز الأميين"، و"عظيم"، و"مأذ"، و "أحمد"،
#114#
و"حمطايا"، و"خير البرية"، و"صاحب القضيب"، و"فارقليط"، و"روح الحق"، و"مقيم السنة"، و"إكليل محمود"، و"الجبار"، و"مشفح"، و"المنحمنا".
ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي ذكرناه في صفته في التوراة اسمه: "المتوكل" و"حرز الأميين".
وورد في بعض طرقه اسمه بـ "المختار" أيضا، رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي الضحى، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: وذكر نعت النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب: "عبدي المتوكل"، و"المختار"، وذكر الحديث.
وجاء في أول سفر من التوراة عن إسماعيل: "وستلد عظيما لأمة عظيمة".
وورد أن اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة أيضا بـ: "مأدمأد" وقد حكيناه في أوائل
#115#
الكتاب عن الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة.
وجاء أن اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة أيضا: "أحمد" و"حمطايا" ويقال: "حمياطا".
ويروى: أن عيسى عليه السلام قال: إني أذهب ويأتيكم خير البرية، فآمنوا به فإني مؤمن به.
وفي ترجمة من الإنجيل: أن عيسى عليه السلام قال: إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى [الله] فيعطيكم بارقليط آخر يكون معكم الدهر كله.
فهذا تصريح بأن الله سبحانه سيبعث إليهم من يقوم مقامه وينوب في تبليغ رسالات الله منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب النبوة الخاتمة، قاله ابن ظفر.
وقد قدمنا عن إنجيل يوحنا أن فيه: البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة.
#116#
وفي موضع آخر من الإنجيل: ابن البشر ذاهب، والبارقليط من بعده يحيي لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل.
وفي موضع آخر: إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكنكم لا تستطيعون حمله، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي.
ويروى: أن داود عليه السلام قال: اللهم ابعث لنا محمدا مقيم السنة بعد الفترة.
وفي ترجمة من زبور داود عليه السلام ما ترجمه أهل الكتاب: وقال داود عليه السلام: اللهم ابعث جاعل السنة يجيء يعلم الناس أنه بشر.
وفيما ترجموه من مزامير داود: أن الله عز وجل أظهر من صهيون إكليلا محمودا.
قالوا: أراد بـ "الإكليل" محمدا صلى الله عليه وسلم، و"صهيون": مكة عند أهل الكتاب.
#117#
وقيل: "الإكليل" ضربه الله مثلا للرئاسة والإمامة، و"محمود" هو: محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيها أيضا: أيضا: تقلد الجبار بسيفك، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك.
ووقع في بعض كتب الأنبياء تسميته صلى الله عليه وسلم بـ "المقدس" وفي ترجمة عن كتاب إشعيا: "مشقح" وهو بالعبرانية، وقيل: بالسريانية، ويقال له بها: المنحمنا.
جاء في الإنجيل الذي عن يوحنا: أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت لهم صنائع لم يصنعها أحد لم يكن لهم ذنب، ولكن من الآن بطروا، فلا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس، لأنهم أبغضوني مجافا، فلو جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط، فهو شهيد علي،
#118#
وأنتم أيضا؛ لأنكم قديما كنتم معي، هذا قولي لكم: لكي لا تشكوا إذا جاء.
وأما الأحاديث الواردة بتعداد أسمائه صلى الله عليه وسلم فكثيرة جدا منها:
ما قال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد في كتابه "أسباب الأسماء": حدثنا محمد بن علي النقاش: أن أبا بشر النعمان بن مدرك الرسعني، حدثهم قال: حدثنا أبو عثمان محمد بن إدريس الشافعي حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب والعاقب الذي لا نبي عبده".
وقد خرجه الشيخان في "صحيحهما" من حديث الزهري، ولفظ البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
#119#
تابعه ابن المقرئ عن سفيان.
وتابعه سفيان بن حسين بن حسن الواسطي، وشعيب بن أبي حمزة، وعقيل، ومالك بن أنس، ومحمد بن الوليد الزبيدي، ومعمر بن راشد، ويونس بن يزيد عن الزهري، وألفاظهم متقاربة.
#120#
وهو عند محمد بن صالح بن دينار المدني التمار عن الزهري مطول، خرجه الحافظ أبو نعيم في "الدلائل"، من حديث أحمد بن صالح قال: وجدت في كتاب بالمدينة عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عمر بن عوف، عن محمد بن صالح التمار، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قال أبو جهل ابن هشام -حين قدم مكة منصرفه عن حمزة-: يا معشر قريش، إن محمدا قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا، فاحذروا أن تمروا طريقه وأن تقاربوه؛ فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة، ما رأيته قط ولا أحد من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة، وهو عدو استعان بعدو.
فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم، والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ولا أصدق موعودا من أخيكم الذي طردتم، فإذا فعلتم فكونوا أكف الناس عنه.
قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه، فإن ابني قيلة
#121#
إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجمتموهم خير كنانة، أو يخرجوا محمدا من بين أظهركم فيكون وحيدا مطرودا، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل ذلك في المذلة إلا سواء، وسأكفيكم حدهم. وقال:
سأمنح جانبا مني غليظا ... على ما كان من قرب وبعد
رجال الخزرجية أهل ذل ... إذا ما كان هزل بعد جد
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله، لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون، إني رحمة، بعثني الله عز وجل ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
ابنا قيلة هما: الأنصار، الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة البهلول بن مازن الزاد بن الأزد، وهو درأ بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان.
و"قيلة" أمهما، نسبا إليها، وهي: قيلة بنت كاهل بن عذرة، من "قضاعة".
قال هشام ابن الكلبي النساب: يقولون: هي عذرة. انتهى.
وقيل: هي قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو بن عامر.
#122#
والحديث هو عند الزهري أيضا، عن عثمان بن أبي سليمان، عن جبير مختصر.
تابعه نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، رواه جعفر بن أبي وحشية وأبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، عن نافع نحوه.
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال: أن نافع بن جبير بن مطعم قال: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لي: أتحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان جبير بن مطعم يعدها؟ قلت: نعم، هي ست: محمد، وأحمد، وخاتم وحاشر، وعاقب، وماح.
فأما حاشر: فبعث مع الساعة نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وأما عاقب: فإنه أعقب الأنبياء.
وأما ماح: فإن الله عز وجل محى به سيئات من اتبعه.
سقط من هذا الإسناد "عتبة بن مسلم" ولا بد منه.
#123#
وخرجه البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير" فقال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير: أنه دخل على عبد الملك بن مروان قال: تدري أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم رضي الله عنه يعدها؟ قال: نعم، هي ست: محمد رسول الله، وأحمد، وخاتم، وحاشر، والعاقب، وماح، فأما الحاشر: فبعث مع الساعة -يعني: بين يدي الساعة بين يدي عذاب شديد، والعاقب: عاقب الأنبياء، وماح: محى الله سيئات من اتبعه.
تابعه يعقوب بن سفيان الفسوي، فرواه في "تاريخه" عن أبي صالح، حدثنا الليث. فذكره.
ومن طريق يعقوب: خرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي داود، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا آدم وأبو صالح وابن بكير قالوا: حدثنا الليث، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير بن
#124#
مطعم: أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: تحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم يعدها؟ فقال نافع: هي ست: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماح: فأما حاشر: فبعث مع الساعة نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وأما العاقب: فإنه عقب الأنبياء. وأما ماح فإن الله عز وجل محى به السيئات؛ سيئات من اتبعه صلى الله عليه وسلم.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن حجين بن المثنى أبي عمر صاحب اللؤلؤ قال: حدثنا ليث بن سعد، فذكره.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" فقال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب ابن أبي الليث قالا: أخبرنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم بنحوه.
وصححه الحاكم وجعل إسناده على شرط الشيخين.
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام النوبي قال: حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "فضلت على من كان قبلي بست ولا فخر: بعثني الله عز وجل إلى الناس كافة .. .. " الحديث، وفي آخره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والماحي، والعاقب، والخاتم، لا نبي بعدي"، الحاشر: يسوق أمته
#125#
إلى المحشر، والماحي: يمحو الله به الخطايا لمن آمن به، والعاقب: العاقبة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وخرج أبو نعيم الأصبهاني من حديث إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء، منها ما حفظنا ومنها ما لم نحفظ، قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الملحمة".
وخرجه أحمد في "مسنده" إلا أنه قال: "ونبي الملاحم" مكان "الملحمة".
تابعه الأعمش ومسعر وعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن عمرو بن مرة.
وقال يحيى بن عبد الحميد الحماني: حدثنا أبو بكر بن عياش،
#126#
عن عاصم، عن زر، عن حذيفة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، وأنا نبي الملاحم، وأنا المقفى".
تابعه عبد الحميد بن صالح وأسود بن عامر، عن أبي بكر بن عياش نحوه.
خرجه أبو نعيم في "الدلائل" للحماني.
وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" [عن] أحمد بن حميد القرشي ختن عبيد الله بن موسى، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، فسمعته يقول: "أنا محمد، وأحمد، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم، وأنا المقفى والحاشر".
#127#
تابعهما سليمان بن داود الشاذكوني وأحمد بن عمر الوكيعي، فيما خرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" من طريقهما عن أبي بكر بن عياش.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أسود بن عامر.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث عبيد بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أحمد، وأنا محمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، فإذا كان يوم القيامة كان لواء الحمد معي، وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة رضي الله عنه قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة".
ورواه الحافظ أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري الدمشقي، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، فذكره وقال: "نبي الرحمة" مكان "التوبة".
#128#
وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود، والله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقتفى آمنتم أو كذبتم" ثم انصرف وأنا معه.
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن عمر بن أيان -يعني: ابن أخت حسين الجعفي-، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم التيمي، حدثنا سيف بن وهب، عن أبي الطفيل رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي عند ربي عز وجل عشرة أسماء"، قال أبو الطفيل حفظت منها ثمانية: محمد، وأحمد، وأبو القاسم، والفاتح، والخاتم، والعاقب، والحاشر، والماحي.
قال أبو يحيى: وزعم سيف أن أبا جعفر قال له: إن الاسمين الباقيين: "طه" و"يس".
تابعه أبو أحمد محمد بن عبدوس بن كامل، عن عبد الله بن عمر.
خرجه أبو نعيم في "الدلائل".
وحدث به أبو بكر الآجري في كتابه "الشريعة" فقال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا عبد الله بن
#129#
عمر الكوفي فذكره.
وأبو يحيى هو: إسماعيل التيمي، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قال أبو نعيم عقب روايته هذا الحديث: وأما تعداد من عد "طه" و"يس" معناه: يا إنسان- فلم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء.
قلت: قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا ابن فضيل، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} يا رجل، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وكان يقوم الليل على رجليه، وهي لغة لعك، إن قلت لعكي: "يا رجل" لم [يلتفت]، وإن قلت "طه" التفت إليك.
قلت: ولم تجئ في حديث صحيح ولا أثر عن الصحابة تسميته صلى الله عليه وسلم بـ "طه" و"يس" والله أعلم، وإنما مجراها في القرآن كـ: (الم) و (الر) و(حم) ونحوها.
#130#
وشبهة بعض الناس في تسميتهم النبي صلى الله عليه وسلم بـ "طه" و"يس" حديث أبي الطفيل الذي ذكرناه آنفا، وما خرجه الحافظ أبو سعيد محمد بن علي النقاش بمعناه، وكلا الإسنادين واه لا تقوم به حجة.
وفي إسناد حديث أبي الطفيل: "إسماعيل التيمي": ضعفه الحفاظ كابن نمير وابن المديني وأبي حاتم الرازي ومسلم بن الحجاج والنسائي والدارقطني.
وأما "سيف بن وهب": فقال يحيى بن معين: "كان هالكا من الهالكين"؛ فبطل الاحتجاج بهذا الحديث.
وللنبي صلى الله عليه وسلم أسماء غير ما ذكرناه، وردت في أحاديث متفرقة وآثار وذكرها العلماء، منها تسميته صلى الله عليه وسلم بـ: "الأول" و"الآخر"، و"المصطفى"، و"المجتبي" و"المرتضى"، و"الآمر" و"الناهي"، و"المحلل"، و"المحرم"، و"المذكر"، و"الواضع"، و"الرافع"، و"المجيز"، و"المصطلح"، و"التقي"، و"الصادق"، و"المصدوق"، و"المهيمن"، و"الطيب"، و"المبارك"، و"الشكور"، و"المأمون"، و"الفاتح"، و"القاسم"، و"القثم"، و"الضحوك"، و"القتال"، و"المنصور"، و"ثاني اثنين"، و"نبي الحرمين"، و"راكب البراق"، و"راكب البعير"، وصاحب التاج والمعراج والهراوة والحجة والسلطان والبرهان، وصاحب الشفاعة والمقام المحمود والحوض والكوثر والوسيلة، و"الشفيع"، و"المشفع"، و "العلي"، و"خليل الرحمن"، و"إمام المتقين"، و"قائد الغر المحجلين"، و"حبيب رب العالمين" صلى الله عليه وسلم.
#131#
$[ما روي في كنية النبي صلى الله عليه وسلم]$
وكنيته صلى الله عليه وسلم: "أبو القاسم".
قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو نعيم، حدثنا داود بن قيس، حدثني موسى بن يسار: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أبو القاسم".
ورواه محمد بن عجلان بزيادة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجمعوا اسمي وكنيتي، أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم".
وصح من حديث أبي محمد سليمان بن مهران الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: ولد لرجل منا غلام فسماه: القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام فسميته القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أحسنت الأنصار، تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي".
خرجاه في الصحيحين من طرق إلى الأعمش.
#132#
تابعه منصور وقتادة وحصين بن عبد الرحمن.
وقال أبو عبد الرحمن زكريا بن يحيى بن إياس بن سلمة بن حنظلة الحافظ خياط السنة: حدثنا سعيد بن كثير بن يحيى المدني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم مولى مزينة، عن صفوان بن سليم، عن أبي الزبير: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: سمى رجل من الأنصار ابنه القاسم، وتكنى أبا القاسم، فأبت الأنصار أن تكنيه أبا القاسم، فانطلق الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أحسنت الأنصار، فسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي".
ورواه مختصرا سفيان الثوري، وهشام الدستوائي، والحسين بن واقد، وغيرهم، عن أبي الزبير بمعناه.
وله شاهد من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وغيرهما.
وثبت من حديث حميد عن أنس رضي الله عنه قال: دعا رجل بالبقيع قال: "يا أبا القاسم"، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لم أعنك، فقال: "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي".
#133#
خرجاه في "الصحيحين": البخاري من حديث شعبة، وزهير، ومسلم من حديث مروان بن معاوية، كلهم عن حميد به.
وقال بجير بن أبي بجير: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن يعلى، عن أبيه، عن بكر بن وائل عن إسماعيل بن مسلم، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا رجل رجلا فقال: يا أبا القاسم. فارتاع له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الرجل: إني لم أعنك عنيت غيرك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي".
وجاء: أنه صلى الله عليه وسلم كني بولده إبراهيم عليه السلام.
حدث به محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" فقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولد إبراهيم عليه السلام جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
وحدث به قاضي مصر أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة، عن عقبة الحضرمي، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولد للنبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم عليه السلام، كأنه وقع في نفسه شيء، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
#134#
ورواه أبو الحسن عمرو بن خالد الحراني -سكن مصر-، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب وعقيل، عن الزهري.
ورواه أحمد بن نباتة بن عمر الصدفي، حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولدت أم إبراهيم إبراهيم عليه السلام وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، فجاءه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فطابت نفس النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى صخر بن عبد الله ، عن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهبط عليه جبريل عليه السلام فقال: يا أبا إبراهيم، الله يقرئك السلام.
#135#
$[تفسير أسمائه صلى الله عليه وسلم]$
وأسماء النبي صلى الله عليه وسلم: [قسم] خاص به لا يشركه فيه غيره من الرسل كـ: "محمد"، و"أحمد" و"الحاشر" و"العاقب" و"المقفى" و"نبي الملاحم" و"رحمة للعالمين" و"خاتم النبيين" وأشباه ذلك.
وقسم يشاركه غيره من الرسل في معناه لكن لنبينا صلى الله عليه وسلم منه درجة الكمال.
وأسماؤه كلها مشتقة من صفاته الحميدة التي منحه الله تعالى إياها، وأوجب له بها المدح والكمال، وهي متعلقة به تعلق الأرواح بالأشباح.
قال بعضهم: لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ودلالة عليها اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب، وأن لا تكون معها بمنزلة الأجنبي المحض فإن حكمة الحكيم سبحانه وتعالى تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثير عن أسمائها في الحسن والقبح والخفة والثقل واللطافة والكثافة كما قيل:
وقل إن أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
#136#
وتأمل كيف اشتمل للنبي صلى الله عليه وسلم اسمان مطابقان لمعناه وهما: "أحمد" و"محمد"، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة "محمد"، ولشرفها وفضلها على صفات غيره "أحمد"، فارتبط الاسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد.
$[مطلب في تفسير أسمائه صلى الله عليه وسلم][2]$
أما "محمد": فهو أشهر أسمائه، وذكره الله عز وجل في مواضع من كتابه وصرح به في التوراة وغيرها من الكتب المنزلة كما تقدم وقد عرف به أولا بين أهله وقومه أكثر مما عرف بـ "أحمد".
وهذان الاسمان مشتقان من الحمد، فمحمد بمعنى: "محمود"، وضعف للمبالغة، أي: يحمد حمدا بعد حمد أكثر ما يحمد غيره من البشر؛ لأنه يحمده أهل السموات وأهل الأرض وأهل الدنيا وأهل الآخرة لما فيه من الصفات الحميدة والأخلاق المحمودة والخصال الشريفة التي لا يحصيها إلا مانحها سبحانه وتعالى.
قال سفيان بن عيينة: سمعت علي بن زيد بن جدعان يقول: تذاكروا أي بيت من الشعر أحسن؟ فقال رجل: ما سمعنا بيتا أحسن من قول أبي طالب:
#137#
وشق له من إسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
خرجه الإمام أحمد في "العلل" رواية ابنه عبد الله عنه عن سفيان بنحوه.
(ورواه روح بن الفرج عن حامد بن يحيى عن سفيان) بنحوه.
وهو في "دلائل النبوة" للبيهقي من طريق محمد بن ميمون المكي، حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره.
وهذا البيت جعله جماعة لحسان بن ثابت رضي الله عنه.
#138#
وقال محمد بن إسحاق فيما رواه عنه إبراهيم بن سعد: وقال بجير بن زهير يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتانا نبي بعد يأس وفترة ... إلى الله والأوثان في الأرض تعبد
فشق له من اسمه لجلاله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وأشركه في ذكره لجلاله ... ليلقى نعيما في الجنان فيخلد
وذكر أبياتا أخر.
وأما "أحمد": فهو على وزان "أفعل" التفضيل، وهل هو بمعنى فاعل أو مفعول؟ مختلف فيه على قولين؛ فمن قال بمعنى "مفعول" جعله من مادة ما أشغله بالشيء، فهو مشغول، فيكون كـ "محمد" في المعنى، لكن معنى "محمد" هو: كثير الخصال التي يحمد عليها، و"أحمد" هو: الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره، وهو صلى الله عليه وسلم أولى الناس بأن يحمد.
#139#
وقالت طائفة: هو بمعنى فاعل، أي : حمده الله عز وجل أكثر من حمده غيره له، فمعناه حينئذ: أحمد الحامدين لربه عز وجل.
وقال أبو القاسم السهيلي: وكذلك هو في المعنى؛ لأنه يفتح عليه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود محامد لم تفتح على أحد قبله، فيحمد ربه عز وجل بها، وكذلك يعقد له لواء الحمد.
وأما "محمد" فمنقول من وصفه أيضا، وهو في معنى "محمود"، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فـ "المحمد" هو الذي حمد مرة بعد أخرى، كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك، فاسم "محمد" صلى الله عليه وسلم مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمود في الدنيا بما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ.
ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد حمد ربه، فنبأه وشرفه؛ فلذلك يقدم اسم "أحمد" على الاسم الذي هو "محمد"، فذكره عيسى عليه السلام حين قال له ربه عز وجل: "تلك أمة أحمد" فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد، فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بـ "محمد" صلى الله عليه وسلم؛ لأن حمده لربه عز وجل كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل.
وكذلك في الشفاعة يحمد ربه [بالمحامد] التي يفتحها عليه،
#140#
فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته.
فانظر؛ كيف ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر في الذكر والوجود، وفي الدنيا والآخرة؛ تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين.
فانظر، كيف أنزلت عليه سورة (الحمد) وخص بها دون سائر الأنبياء، وخص بلواء الحمد، وخص بالمقام المحمود.
فانظر كيف شرع لنا سنة وقرآنا أن نقول عند اختتام الأفعال وانقضاء الأمور: "الحمد لله رب العالمين"، فقال الله سبحانه وتعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} وقال تعالى أيضا: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} تنبيها لنا على أن الحمد مشروع لنا عند انقضاء الأمور، وسن صلى الله عليه وسلم الحمد بعد الأكل والشرب، وقال صلى الله عليه وسلم عند انقضاء السفر: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون".
ثم انظر، لكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ومؤذنا بانقضاء الرسالة وارتفاع الوحي ونذيرا بقرب الساعة وتمام الدنيا، مع أن الحمد كما قدمنا مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده، تجد معاني اسميه جميعا، وما خص به من الحمد والمحامد مشاكلا لمعناه مطابقا لصفته.
وفي ذلك برهان عظيم وعلم واضح على نبوته، وتخصيص الله عز وجل له
#141#
بكرامته، وأنه قدم له هذه المقدمات قبل وجوده تكرمة له وتصديقا لأمره صلى الله عليه وسلم.
وما تخيله السهيلي رحمه الله في سبق اسمه صلى الله عليه وسلم "أحمد" لاسمه "محمد" لا يسلم له، فقد قدمنا أن اسمه صلى الله عليه وسلم "محمد" مذكور في التوراة وغيرها من الكتب المتقدمة فيما ذكرنا من الأحاديث والآثار، والله أعلم.
#142#
$[من سمي "محمدا" في الجاهلية]$
وحدث أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، عن أحمد بن يعقوب بن المهرجان وعبد الرحمن بن الحارث الغنوي قالا: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا إسحاق بن زياد - إمام مسجد الأبلة، حدثنا هانئ بن يحيى، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن محمد بن جحادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنها قال: ما سمي أحد "محمدا" قبل "محمد" صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا حديث ابن حاطب: أن أمه أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي باسمك.
ذكره أبو موسى المديني.
ولعلها أرادت أول من سمي باسمك في الإسلام، لكن ابن عمه محمد بن حطاب أسن من ابن حاطب، فيما ذكره ابن عبد البر وغيره، فعله أول من سمي محمدا في الإسلام.
وأما في الجاهلية: فقال أبو محمد بن قتيبة: ومن أعلام نبوة نبينا
#143#
صلى الله عليه وسلم: أنه لم يسم أحد باسمه قبله صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بـ "يحيى بن زكريا" إذ لم يجعل له من قبل سميا، وذلك أنه سماه في الكتب المتقدمة وبشرت به الأنبياء، فلو جعل الاسم مشتركا فيه ساغت الدعاوى ووقعت الشبهة، إلا أنه لما قرب زمانه وبشر أهل الكتاب بقربه حضر أربعة أنفس عند راهب وأخبرهم باسمه وقرب زمنه، فسموا أولادهم بذلك، لا نعرف غيرهم.
وزاد القاضي عياض هذا المعنى وضوحا فقال رحمه الله في كتابه "الشفا" في اسمي "محمد" و"أحمد": في هذين الاسمين من عجائب خصائصه وبدائع آياته صلى الله عليه وسلم فن آخر هو: أن الله -جل اسمه- حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه.
أما "أحمد" الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله؛ حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك.
#144#
وكذلك "محمد" أيضا لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده أن نبيا يبعث اسمه "محمد"، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهم:
"محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي"، و"محمد بن مسلمة الأنصاري"، و"محمد بن براء البكري"، و"محمد بن سفيان بن مجاشع"، و"محمد بن حمران الجعفي"، و"محمد بن خزاعي السلمي".
#145#
لا سابع لهم.
ويقال: أول من تسمى [بـ "محمد"] "محمد بن سفيان"، واليمن تقول: بل "محمد بن اليحمد" من الأزد.
ثم حمى الله تعالى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره، حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه وسلم ولم ينازع فيهما.
وهذا الخبر الذي أشار إليه القاضي عياض خرجه الحافظ أبو بكر
#146#
محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي، حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية، أخبرني أبي عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن جده أبي سوية، عن أبيه خليفة -يعني: ابن عبدة المنقري- قال: سألت محمد بن عثمان بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد فقلت: كيف سماك أبوك "محمدا"؟ فقال: سألت أبي عما سألتني عنه فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم، أنا منهم وسفيان بن مجاشع بن دارم، وأسامة بن مالك بن جندب بن العنبر، ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص بن مازن، ونحن نريد ابن جفنة ملك "غسان"، فلما شارفنا الشام نزلنا إلى غدير عليه شجرات، فتحدثنا، فسمع كلامنا راهب، فأشرف علينا فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة أهل هذه البلاد؟
قلنا: نعم، نحن قوم من "مضر".
فقال: من أي المضرين؟
قلنا: من "خندف".
قال: أما إنه يبعث فيكم وشيكا نبي خاتم النبيين، فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا.
#147#
فقلنا له: ما اسمه؟
قال: اسمه "محمد".
قال: فرجعنا من عند ابن جفنة، فولد لكل واحد منا ابن فسماه "محمدا".
وحدث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه "الأعلام" فقال: حدثنا يزيد بن عمرو، حدثنا العلاء بن الفضل، فذكره بنحوه.
وحدث به أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتاب "المجالسة" عن عبد الله بن مسلم بن قتيبة به.
وحدث به أبو نعيم عن سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، وعن أحمد بن بندار، حدثنا أبو العباس الهروي، حدثنا عمرو بن علي، وعن أبي أحمد محمد بن أحمد الجرجاني، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة إملاء، حدثنا أبو الفضل صالح بن مسمار المروزي أملاه علينا واللفظ لروايته، قالوا: حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية البصري فذكره بنحوه.
خرجه في كتابيه: "معرفة الصحابة" و"دلائل النبوة".
#148#
وشيخه سليمان بن أحمد هو: الطبراني، وقد خرج الحديث في معجمه "الكبير" فقال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية المنقري.
وحدثنا أبو أمية سلم بن عصام الثقفي الأصبهاني، حدثنا العباس بن الفرج الرياشي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية المنقري، حدثني أبي: الفضل بن عبد الملك، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن أبي سوية، عن أبيه خليفة بن عبدة بن جرول: سألت محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم: كيف سماك أبوك "محمدا" في الجاهلية؟ قال: أما إني قد سألت أبي عما سألتني عنه، فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم، أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع بن دارم، وأسامة بن مالك بن جندب بن العنبر ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص بن مازن، نريد ابن جفنة ملك "غسان" بالشام، فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير عليها شجرات لديراني -يعني: صاحب صومعة-، فقلنا: لو اغتسلنا من هذا الماء وادهنا ولبسنا ثيابا ثم أتينا صاحبنا؟
فأشرف علينا الديراني فقال: إن هذه اللغة لغة ما هي بلغة أهل البلد؟
فقلنا: نعم، نحن قوم من "مضر".
#149#
قال: من أي "مضر"؟
قلنا: من "خندف".
قال: أما إنه سيبعث منكم وشيكا نبي، فسارعوا وخذوا بحظكم منه ترشدوا؛ فإنه خاتم النبيين.
فقلنا: ما اسمه؟
قال: محمد.
فلما انصرفنا من عند ابن جفنة ولد لكل واحد منا غلام فسماه "محمدا".
قال العلاء: قال قيس بن عاصم للنبي صلى الله عليه وسلم: تدري من أول من أعلم بك من العرب قبل أن تبعث؟ قال: "لا". قال: بنو تميم. وقص عليه هذه القصة.
وقد ورد أن سفيان بن مجاشع سمى ولده محمدا لقصة غير هذه، وهي ما يحكى أن سفيان بن مجاشع بن دارم احتمل ديات دماء كانت بين قومه، فخرج يستعين فيها، فدفع إلى حي من تميم، فإذا هم مجتمعون إلى كاهنة لهم، فأتاهم فحياهم، ثم جلس إليهم، فسمع الكاهنة تقول: "العزيز من والاه، والذليل من خالاه، والموفور من والاه، والموتور من عالاه".
#150#
فقال سفيان: من تذكرين لله أبوك؟
قالت: "صاحب حل وحرم، وهدى وعلم، وبطش وحلم، وحرب وسلم، رأس رؤوس، ورائض شموس، وماحي بوس، وماهد وعوس، وناعش متعوس".
قال سفيان: من هو لله أبوك؟
قالت: نبي مؤيد، وقد أتى حين يوجد، ودنا أوان يولد، يبعث إلى الأحمر والأسود، بكتاب لا يفند، اسمه محمد.
قال سفيان: لله أبوك، أعربي هو أم أعجمي؟
قالت: أما والسماء ذات العنان، والشجر ذات الأفنان، إنه لمن معد بن عدنان، فقدك يا سفيان.
فأمسك سفيان عن سؤالها، ثم إن سفيان ولد له غلام فسماه "محمدا"؛ لما رجاه من أن يكون النبي الموصوف.
وذكر ابن الكلبي في "الجمهرة": أن سفيان بن مجاشع أول فارس
#151#
ورد الكلاب.
قلت: ومن ولد ابنه: عياض بن حمار بن محمد بن سفيان بن مجاشع، أحد الصحابة رضي الله عنهم، وهو جد أعلى للفرزدق الشاعر.
وقول عياض رحمه الله المتقدم:
"لا سابع لهم" قد ورد جماعة غير الستة سماهم آباؤهم محمدا؛ رجاء أن يكون المسمى هو النبي الموصوف، وهم الثلاثة المذكورون في حديث خليفة بن عبدة المنقري السابق، وهم:
محمد بن عثمان بن ربيعة، ويقال محمد بن عدي بن ربيعة، وجعله بعضهم اثنين، ففرق بينهما، وهما واحد، والله أعلم.
ومحمد بن أسامة بن مالك بن خندف بن العنبر.
ومحمد بن يزيد بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص، وقيل في نسبه غير ذلك.
#152#
وجاء غير هذه الثلاثة أيضا ممن سمي بذلك في الجاهلية:
محمد بن خولي الهمداني، ذكره أبو بكر بن دريد.
وفيما ذكره أبو موسى المديني في كتاب "المستفاد بالنظر والكتابة من أسماء الصحابة" عن بعض الحفاظ أنه ذكر بعض رواة الأخبار ممن تسمى بذلك في الجاهلية.
محمد بن عتوارة بن عامر الكناني، ومحمد بن حرماز بن مالك التميمي.
قلت: "وابن عتوارة" هذا هو: محمد بن البراء البكري الذي ذكره القاضي عياض لأنه محمد بن البراء، وقيل: ابن بر بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
وذكر "محمد بن سلمة الأنصاري" معهم فيه نظر؛ لأنه ولد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمان عشرة سنة، وقيل: بعد المولد الشريف بعشرين سنة، وقيل: بإحدى وعشرين سنة، وقيل: بأربع وعشرين، على الخلاف في وفاته، مع أن الجزم بأن عمره لما توفي سبع وسبعون سنة، والله أعلم.
و"محمد بن أحيحة" المسمى معهم هو أخو عبد المطلب بن هاشم لأمه "سلمى" فيما ذكر، والله أعلم.
وقال عبدان بن محمد المروزي: بلغني أن أول من سمي محمدا: "محمد بن أحيحة".
#153#
$[سياق ما ورد في شرح بقية أسماء النبي صلى الله عليه وسلم]$
| وأما اسمه "النور":|
يقال: نار الشيء ينار، أو: أنار واستنار: أضاء، وسمي صلى الله عليه وسلم نورا؛ قيل: لوضوح أمره وبيان نبوته، قال الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور} هو: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: النور هو الذي يبين الأشياء.
| وأما "سراج منير":|
أي: تستنير به قلوب المؤمنين وتستضيء بهديه أفئدة العارفين، فقد كان الخلق في ظلمات الكفر والجهل والضلال فنور الله الأفئدة بالإيمان والعلم والهدى الذي أتى به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
#154#
| وأما "المنذر" و "النذير":|
فالنذير بمعنى المنذر، والنذير أيضا، والنذر: الإنذار، وهو: الإبلاغ والإعلام بالشيء الذي يحذر منه، ولا يكون إلا في التخويف، وتسميته صلى الله عليه وسلم "بالمنذر" و"النذير" أي: المخبر عما يخاف من سوء عاقبته ليحذر ويكف عنه ويعمل بما يدفعه ويباعد عنه، قال الله تعالى: {وجاءكم النذير} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، في أحد الأقوال.
| وأما "المبشر" و "البشير":|
فهو من قولهم: "بشرك" ويقال بالكسر "بشارة" مثلثة الباء و"بشرى": إذا أخبرك بالخير، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر المؤمنين بما لهم عند الله من الأجور والخيرات والدرجات العاليات.
| وأما "شاهد" و "شهيد": |
فـ "الشاهد": العالم الذي يبين ما علمه، وقيل: الشاهد للمعجزة
#155#
بالصدق. الذي يبين ما علمه.
و"الشهيد" على الأمة بظهور الحق، وقيل: الشهيد: الأمين في شهادته.
وقيل: الشاهد لأمته في التوحيد.
والشهيد: حجة الله على الناس.
وقيل: الشاهد على نفسه بإبلاغه الرسالة، وهي من خصائصه.
والشهيد لأمته بالصدق والتزكية حين يشهدون للأنبياء بإبلاغ الرسالة إلى أممهم.
قال ابن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا رشدين بن سعد، حدثني ابن أنعم، عن ابن أبي جبلة -يسنده- قال: أول من يدعى يوم القيامة: إسرافيل؛ فيقول الله عز وجل هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم رب، قد بلغته جبريل. فيدعى جبريل فيقال: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم. فيخلى عن إسرافيل، فيقول لجبريل: ما صنعت في عهدي؟ فيقول: يا رب؛ بلغت الرسل. فتدعى الرسل فيقال لهم: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم. فيخلى عن جبريل، فيقال للرسل: هل بلغتم عهدي؟ فيقولون: نعم، بلغناه الأمم. فيدعى بالأمم فيقال لها: هل بلغتكم الرسل عهدي؟ فمكذب ومصدق، فتقول الرسل: لنا عليهم شهداء. فيقول: من؟ فيقولون أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال لهم: أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم؟ فيقولون: نعم،
#156#
فتقول الأمم: يا ربنا، كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول الله -تبارك وتعالى-: كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم؟ فيقولون: يا ربنا، أرسلت إلينا رسولا، وأنزلت علينا كتابا، وقصصت علينا فيه: أن قد بلغوا. فذلك قول الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
حدث به الحسين بن الحسن المروزي، عن ابن المبارك، وقال: وأراه قال: الوسط: العدل.
| وأما "هاد":|
فهو من الهدى الذي هو: الرشاد والدلالة، وهو يذكر ويؤنث، ومن معاني الهدى: البيان والطريق والطاعة والورع، وسمي النبي صلى الله عليه وسلم هاديا بمعنى: توفيق الله لمن أراد من عباده وبين الله على لسانه النجدين، وهو أيضا بمعنى، الدلالة والدعاء إلى الله عز وجل.
| وأما "رحمة العالمين":|
رحم الله به أمته من العذاب في الدنيا وفي الآخرة بتعجيل الحساب وتضعيف الثواب، وقيل: معنى "رحمة للعالمين": رحمة للمؤمنين
#157#
بالهداية، وللمنافقين بالأمان من القتل، وللكافرين بتأخير العذاب حتى عاشوا في ظله، ومن قتل منهم على يديه أو يدي أمته كان أيضا من الرحمة لأنه عجل بهم إلى النار، واستراحوا من الحياة الطويلة التي لا يزدادون بها إلا شدة في العذاب، وقيل غير ذلك.
قال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا عيسى بن عبد الله النعماني، حدثنا المسعودي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن بالله ورسله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ولا رسوله عوفي من تعجيل ما كان يصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والخسف والقذف.
"سعيد بن أبي سعيد" هذا هو: أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان.
قال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو حفص عمر بن أيوب السقطي، حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا مسكين بن بكير، عن المسعودي، عن سعيد بن المرزبان وهو: -أبو سعد البقال- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن بالله ورسوله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ولا رسوله عوفي مما كان يصيب الأمم الماضية من العذاب في عاجل الدنيا.
#158#
وهذا عند المسعودي أيضا، عن سلمة بن كهيل فيما رواه داود بن رشيد، حدثنا إبراهيم بن بكر أبو إسحاق الشيباني، حدثني المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن به وصدقه تمت له رحمته في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن به ولم يصدقه لم يصبه ما أصاب الأمم من الخسف والقذف والمسخ.
وقال بعضهم: "زين الله محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق".
فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب.
| وأما "عزيز":|
فمعناه: الذي لا نظير له من البشر، أو القوي الذي لا يغلب؛ لأن الله تعالى أظهره على عدوه وأعزه بالنصر العزيز والفتح المبين.
وقيل: العزيز على ربه عز وجل لعلو قدره عنده ورفعة رتبته لديه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله، ولا فخر".
وقيل: "العزيز": المعز لمن اتبعه في الدنيا والآخرة.
#159#
| وأما "حريص":|
من حرص عليه يحرص بالكسر: إذا اجتهد على هداه وصلاحه، وقوله تعالى: {حريص عليكم} أي: على هداية المواجهين بالخطاب ورشدهم وإسلامهم ونفعهم وإنقاذهم من مهاوي الهلكات.
| وأما "رؤوف رحيم":|
فالرأفة أرق من الرحمة، رأف الله تعالى بك، مثلث رأفا، ويحرك، ورآفة ورآفة، فهو: راؤف ورؤف ورئف ورأف، وسمي نبينا صلى الله عليه وسلم رؤوفا رحيما بما أعطاه الله تعالى من الشفقة على الأمة والعطف على الناس والرحمة للخلق والرأفة بالعباد.
| وأما "داع":|
فهو الذي دعا الخلق إلى عبادة الحق، قال ابن سيده في "المحكم" في قوله تعالى: {وداعيا إلى الله} قال: معناه: داعيا إلى توحيد الله وما يقرب منه.
#160#
|وأما "كريم":|
فيقال: كرم بالضم كرما محرك ضد "لؤم"، وأيضا: فضل في أخلاقه وأفعاله، وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم، فإنه يستحقه دون غيره من العالم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكرم الأولين والآخرين، ولا فخر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر"، أي: أعزهم على الله تعالى، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر بعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم في الكرم، وأخلاقه في الجود.
| وأما "المذكر":|
فهو بالله تعالى وبتعظيمه وبالقيام في طاعته وعبوديته، ومذكر العباد بالمعاد.
قال ابن العربي: ولقد اعترف الخلق لله -سبحانه- بأنه الرب، ثم ذهلوا، فذكرهم الله بأنبيائه، وختم الذكرى بأفضل أصفيائه صلى الله عليه وسلم وقال له: {فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمصيطر} ثم مكنه من الصيطرة وآتاه السلطنة ومكن له دينه في الأرض.
قلت: "الصيطرة": التسليط، و"المسيطر": المسلط على الشيء،
#161#
والمتعهد له، والرقيب، والحافظ.
| وأما "مبين":|
فهو من "أبان" أي: أفصح، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين الذي أبان عن ربه عز وجل الوحي وما بعثه به، وشرح الدين، وشرح الأحكام، وأبان الآيات، وأظهر المعجزات.
وقيل: "المبين" أي: البين أمره ورسالته وصدقه.
| وأما "الصاحب":|
فيقال: صحبته بالكسر صحبة بالضم وصحابة بالفتح وتكسر: عاشره.
وسمي النبي صلى الله عليه وسلم صاحبا بما كان من أتباعه من حسن العشرة، وكمال المروءة وعظيم الوفاء والإحسان والإكرام.
| وأما "ولي":|
فهو: الناصر لدين الله، وهو ولي كل مؤمن.
#162#
| وأما "مرسل":|
بالفتح: فهو الذي ابتعثه الله تعالى برسالته إلى الخلق كافة، ويقال له: "المرسل" بكسر العين لأنه لا يعم بالتبليغ مشافهة، فلم يكن بد من الرسل يقولون عنه ويبلغون كما بلغ عن ربه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: "تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم".
قال ابن العربي في "شرح الترمذي".
وقال في "أحكام القرآن" في قوله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} في هذا مسألة بديعة وهي: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن وتعليم ما علمه من الدين، فكان إذا قرأه على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وعلى من سمعه أن يبلغه إلى غيره، وليس يلزم صلى الله عليه وسلم أن يذكره لجميع الصحابة ولا كان عليه إذ أعلم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم: نزل كذا، ولا: كان كذا.
| وأما "الرسول":|
فهو الذي أوحي إليه وأمر بالتبليغ، وقيل: الذي تتابع خبره عن الله عز وجل، وهو بمعنى "المرسل" بالفتح، والرسول أخص من النبي؛ لأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.
#163#
| وأما "النبي":|
فمعناه: الذي أطلعه الله تعالى على غيبه وأعلمه أنه نبيه، فيكون "فعيلا" بمعنى "مفعول"، أو يكون مخبرا عما بعثه الله به ومنبئا بما أطلعه الله عليه، ويكون بمعنى "فاعل"، والوصفان مؤتلفان في حقه صلى الله عليه وسلم، وسمي رسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم- "أنبياء" لأنهم الطرق إلى الله عز وجل.
ومن الناس من يجعل "النبي" من "النباوة"، فيترك همزه، يريد: أنه شرف على الخلائق. قاله أبو عبيد الهروي.
فمن ترك همزه كان عنده من "النبوة".
و"النباوة" وهو: ما ارتفع من الأرض، أو على القاعدة في الهمز وتركه.
وفي حديث الأعرابي الذي أخبرنا به الحافظ أبو محمد عبد الله بن أبي إسحاق السنجاري، أخبرنا أحمد بن علي بن عمرون.
وأخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن عثمان الحنبلي، أخبرنا عبد الكريم بن عبد الكريم بن الصفي.
وأخبرنا أبو محمد سلمان بن عبد الحميد السلامي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن عثمان.
وأخبرنا التقي عبد الرحمن بن أحمد بن عثمان السلعوس، أخبرنا أبي في آخرين.
قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن عبد المنعم الطائي. ح.
#164#
وقرأت على المعمرة اليقظة زينب بنت محمد بن عثمان بن عبد الرحمن السريجية قلت لها أخبرك أبو حفص عمر بن عبد المنعم وأبو الحسن علي بن أحمد الحنبلي إذنا عاما، قالا: أخبرنا أبو الفضل عبد الصمد بن محمد الأنصاري قراءة عليه، قال الأول: وأنا حاضر، وقال الثاني: وأنا أسمع، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن مسلم السلمي، أخبرنا أبو نصر الحسين بن محمد، أخبرنا الإمام أبو الحسين محمد بن أحمد الغساني، أخبرني أبو نصر إسحاق بن إبراهيم بن معروف السبتي بمكة، حدثنا أبو خالد يزيد بن خالد العقيلي، حدثنا عبد الرحيم بن حماد الثقفي، حدثنا الأعمش، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيء الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لست بنبيء الله، ولكني نبي الله".
خرجه الحاكم في "مستدركه".
#165#
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزقويه، حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح الحافظ، حدثنا أحمد بن الخضر، حدثنا محمد بن عبد الكريم، حدثنا الهيثم، حدثنا حمزة الزيات أبو عمارة، عن حمران الشيباني أبي أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدئلي: قال رجل: "يا نبيء الله" فهمز، فقال صلى الله عليه وسلم: "لست بنبيء الله، ولكني نبي الله".
خرجه هكذا مرسلا: أبو بكر الخطيب في كتابه "من وافقت كنيته اسم أبيه" في ترجمة حمران بن أعين أبي أعين، كوفي من بني شيبان: روى عنه سفيان الثوري وحمزة الزيات القارئ وغيرهما.
وجاء في لفظ: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنبز باسمي، فإنما أنا نبي الله".
وفي رواية: "لا تنبز اسمي، فلست بنبيء الله، ولكني نبي الله".
اختلف في إنكار النبي صلى الله عليه وسلم الهمز:
فقيل: كل ما لزم من البدل، فإنه لا يجوز رده إلى الأصل إلا في ضرورة؛ فلذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم، الهمز، وإن كان هو الأصل.
#166#
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في هذا الحديث على أنه نبي الله أي: الرفيع بالرسالة المتضمنة للإنباء عن الله عز وجل ونبه بنهيه للداعي له: "يا نبيء الله" بقوله: "لا تنبز اسمي" أي: لا تجعلني منبئا عن الله فقط، فإني رفيع بالرسالة التي تتضمن الإنباء، إذ ليس كل منبئ رفعيا بإنبائه.
وقيل: معنى الإنكار، أي: ليس الهمز من لغة قومي قريش.
وهذا ضعيف، فقد قدمنا عن "غريب المصنف" لأبي عبيد: قال: وقال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب يهمزون "النبيء" و"البريئة"، وذلك أنهم يشبعون الكلام.
وقال أبو إسحاق الزجاج في كتابه "معاني القرآن": وجماعة من أهل المدينة يهمزون جميع ما في القرآن من هذا إلا {النبيين بغير الحق} و {الأنبياء بغير حق}.
قلت: وهي قراءة نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المديني القارئ، وغيره من القراء.
#167#
قال الزجاج: وأخبرني إسماعيل بن إسحاق أنا نافعا: لم يقرأ بحرف إلا وأقر به اثنان من قراء المدينة، وله وجه في العربية. انتهى.
وفسروا مراد الأعرابي بقوله: "يا نبيء الله" أي: يا من أخرجه الله عز وجل من مكة إلى المدينة.
و"النبيء": الطريق الواضح.
وأما الذي ينبأ من بلد إلى بلد فهو "نابئ"، يقال: "سبيل نابئ" إذا جاء من بلد إلى بلد، و"رجل نابئ" مثله.
| وأما "الأمي":|
فمعناه: أنه على جبلته التي ولدته أمه عليها: لا يقرأ الكتابة، ولا يكتب، وهذا أصح الأقوال، وهو أبلغ في فضائله وخصائصه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم.
#168#
| المصدق:|
الذي صدق بما جاء من الله عز وجل، وامتثل ما آتاه عنه، وتحقق ما وعده، وصدق بجميع الأنبياء قبله.
| وأما "قدم الصدق":|
فقال قتادة في قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} هو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم.
وروي عن زيد بن أسلم نحوه.
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: هو شفيع صدق عند ربهم.
وقيل غير ذلك.
| وأما "عبد":|
فاسم صادق عليه إذ قام بعبودية مولاه، فنسب إليه.
قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في كتابه
#169#
"الأمثال" قال: وقال أبو عبد الله المغربي: من ادعى العبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب في دعواه؛ إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته وقام بمراد سيده، يكون اسمه ما سمي به، ونعته ما حلي به، إذا دعي باسم أجاب عن العبودية، فلا اسم له ولا رسم لا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده، وأنشأ يقول:
يا عمرو ثأري عند زهرائي ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بـ: يا عبدها ... فإنه أصدق أسمائي
وقيل في قوله تعالى: {الذي أسرى بعبده ليلا} إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذل لله عز وجل في العبودية، وتواضع للعظمة والربوبية، أسرى به مولاه، وبـ "عبده" تشريفا سماه.
#170#
ولقد أجاد الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري -رحمة الله عليه- حين قال: لما رفعه إلى حضرته السنية وأرقاه فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية تواضعا للإلهية.
| وأما "ذو قوة"، و"مكين"، و"مطاع"، و"أمين":|
ففسر علي بن عيسى وغيره من أرباب المعاني قوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم} إنه محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع ما بعده من الأوصاف راجعة إليه، فقوله تعالى: {ذي قوة} أي: على تبليغ ما أوحاه إليه، وقوله: {مكين} أي: متمكن المنزلة رفيع القدر عند ربه عز وجل، وقوله: {مطاع} أي: في السموات، وقوله: {أمين} أي: على وحي الله عز وجل.
#171#
ذكره بنحوه القاضي عياض في "الشفا".
| وأما "نعمة الله":|
فمعناه معروف، وأي نعمة من الملك العلام أعظم على الأنام من نعمته بمحمد - عليه أفضل الصلاة والسلام-، قال الله عز وجل: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها} يعني: نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأما "رسول الله" و "عبد الله" و "داعي الله":
فتقدم معنى ذلك.
| وأما "العروة الوثقى":|
فقد قيل في قوله عز وجل: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
حكاه أبو عبد الرحمن السلمي عن بعض المفسرين، ومعناه: المعين لمن اتبعه والظهير له، فمن اتبعه تمسك بأقوى سبب وأخذ بأشد متمسك.
| وأما "الصراط المستقيم":|
فيضارع "العروة الوثقى" أي: من سلك طريقه وهديه، فقد هدي إلى كل خير.
روي عن أبي العالية في قوله عز وجل في أم الكتاب: {اهدنا الصراط
#172#
المستقيم} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار أهل بيته.
وجاء عن الحسن البصري وعبد الرحمن بن زيد نحوه.
| وأما "ثاني اثنين":|
فمعروف.
| وأما "النجم الثاقب":|
فحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير: {وما أدراك ما الطارق . النجم الثاقب} أنه محمد صلى الله عليه وسلم، ويعضده ما روي عن جعفر بن محمد الصادق في تفسير: {والنجم إذا هوى} إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويضارع معناه معنى "النور" و"السراج المنير"؟ لأن "الثاقب": المضيء.
| وأما "المزمل" و"المدثر":|
فـ "المزمل": المتلفف في ثيابه، وأصله المتزمل، و"المدثر" وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا مثله، وأصله "متدثر" أيضا، ولكنهما على الإدغام، وسبب تسميته صلى الله عليه وسلم بهذين الاسمين معروف.
#173#
| وأما "أول المسلمين" و " أول المؤمنين":|
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث".
| وأما "خاتم النبيين":|
فمعروف، وخاتمة كل شيء: آخره، و"خاتم" يقال بفتح التاء وكسرها.
قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: "الخاتم" -يعني: بالكسر- الذي ختم به الأنبياء، و "الخاتم" أحسن الأنبياء خلقا وخلقا.
وقال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي في زياداته في "المغازي": قال يحيى بن آدم: "الخاتم" بالفتح: ما يختم به، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه خاتم النبوة بالكسر.
وهذه ستة وأربعون اسما من القرآن.
#174#
| وأما "حرز الأميين":|
أي: حافظهم، فالحرز بالكسر: المكان الذي يحفظ فيه الشيء، وأيضا: المنع والضم. وحرز الأميين مانعهم مما يهلكهم، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا للأمة: "فأنا آخذ بحجزكم عن النار" الحديث.
والأميون نسبة إلى "الأم"؛ لأن النساء لا يكتبن غالبا، وقد يكون الباقي على أصل ولادة الأم، لا يقرؤون ولا يكتبون، والله أعلم.
| وأما "المتوكل":|
فهو: الملقي لمقاليد الأمور إلى الله علما، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا أحصي ثناء عليك" وعملا: كما قال صلى الله عليه وسلم: "إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟!". ذكره ابن العربي.
وقيل: الذي توكل على الله في إقامة الدين وإظهاره.
| وأما "المختار":|
فهو خيار المخلوقات، قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذين كنت منه".
#175#
وقد تقدمت أحاديث كثيرة في معناه.
وروينا من حديث أبي خليفة الفضل بن حباب الجمحي، حدثنا محمد بن الحسن ابن أخت القعنبي، حدثنا محمد بن طلحة بن عبد الرحمن التيمي، عن عبد الرحمن بن سالم بن عويم بن ساعدة، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل اختارني ، واختار لي أصحابا فجعل منهم وزراء وأنصارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا".
| وأما "عظيم":|
فمعناه: صاحب الهيبة والقدرة والرفعة والدرجة العالية.
| وأما "بمأذمأذ":|
فورد تفسيره بـ "طيب" وهو: الزكي الحسن الخُلق والخَلق.
#176#
وقيل: معناه: "جدا جدا" أي: كثيرا كثيرا. وعلى هذا فهي بشارة لمن عظم من بني إسماعيل: كبيرا كبيرا، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
و"مأد" وجدتها مضبوطة بخط بعض من آمن من علماء اليهود بضم الميم والهمز معا وسكون الدال المهملة، وقال بعض المتأخرين: "مأذ" على وزن "عمر". انتهى.
وقال أبو محمد ابن قتيبة: وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم: إن "ماذماذ" هو محمد، وهو بكسر الميم والهمزة، وبعضهم بفتح الميم ويدنيها من الضمة. انتهى.
| وأما "أحيد":|
فأظنه بالعبرانية، ولا أدري معناه، إلا أنه في اللغة العربية بمعنى: أميل، يقال: حاد عن الشيء يحيد حيدا ومحيدا وحيدانا وحيدودة: إذا مال، و"رجل حيداء" للذي يحيد، فيكون صلى الله عليه وسلم على هذا أبعد الناس من الأخلاق الذميمة وأميلهم عنها.
#177#
نعم قال أبو أحمد بن أحمد: حدثنا الخضر بن أحمد الحراني، حدثنا محمد بن الفرج بن السكن، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: "اسمي في القرآن: محمد، وفي الإنجيل: أحمد، وفي التوراة: أحيد؛ لأني أحيد أمتي عن النار، فأحبوا العرب بكل قلوبكم".
إسحاق بن بشر هو: أبو حذيفة البخاري، صاحب كتاب "المبتدأ": كذبه علي بن المديني، وكان يزن بحفظ، ويروي العظائم عن الثقات، ومنها هذا، والآفة فيه من أبي حذيفة، والله أعلم. مات في رجب سنة ست ومائتين.
#178#
وجاء عن محمد بن جمهان: حدثنا عبد الله بن الأشرس، حدثنا علي بن موسى الرضا، حدثنا أبي، عن أبيه عن جده، عن أبي جده، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد بنى دارا واتخذ مأدبة وبعث داعيا، فالسيد: الله الجبار، والدار: الجنة، والمأدبة: القرآن، والداعي: أنا، اسمي في القرآن: محمد، وفي الإنجيل: أحمد، وفي التوراة: أحيد، أحيد شيعتك يا علي يوم القيامة من النار".
رواه عن ابن جمهان: محمد بن سهل، أظنه العطار، المتهم بالوضع، وأظن هذا مما صنعته يداه.
وعلي بن موسى بن محمد الهاشمي العلوي بريء من ذلك، والله أعلم.
#179#
| أما "حمطايا": ويقال: "حمياطا":|
فقال صاحب "النهاية": قال أبو عمر: سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال: معناه: يحمي الحرم، ويمنع من الحرام، ويوطئ الحلال، والله أعلم.
| وأما "خير البرية":|
فالبرية بالهمز: الخليقة، فعيلة بمعنى مفعولة، ويسهل فيدغم، وقيل: أصل المدغمة من البراء وهو: التراب، وتقدم الكلام على ذلك في أوائل الكتاب.
#180#
| وأما "صاحب القضب":|
فهو: السيف، وقيل: هو القضيب الممشوق، ويقرب منه "صاحب الهراوة"؛ لأنها في اللغة: "العصا"، قيل: وهي المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحوض: "أذود الناس بعصاي".
وتقدم في البشارات العيسوية تفسير "الهراوة" بـ: القضيب.
| وأما "البارقليط":|
فيقال بالباء والفاء، قال أبو محمد ابن قتيبة: و"البارقليط" بلغتهم -أي: بلغة الحواريين- لفظ من ألفاظ الحمد؛ إما: "أحمد" أو "محمد" أو "محمود" أو "حامد" ونحو ذلك.
#181#
وقال غيره: الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم أنه الحمد، ورجح هذا طائفة، واستدلوا بقول يوشع: "من عمل حسنة يكون له فارقليط جيد" أي: حمد جيد.
وقيل: "البارقليط" بالسريانية: المخلص هو؛ لأن "المخلص" بالسريانية: "فاروق" و "ليط": "هو"، فجعل "فارقليط" أي: مخلص هو، بمعنى قول العرب: رجل هو.
وفسره ثعلب أبو العباس بـ: الفارق بين الحق والباطل.
وقيل: معناه بالسريانية: المعز، وكذلك هو باليونانية.
وقيل: معناه: الحكيم، قال ابن ظفر: وسألت عنه رجلا من علمائهم، فقال: هو الذي يعلم كل شيء، ثم قال: هو الذي يعلم الأشياء الخفية.
وقيل: هو الرسول، وقيل: لا يعرف معناه.
#182#
| وأما "روح الحق":|
ففسر الروح بـ: "الأمر".
| وأما "مقيم السنة":|
فمعروف.
| وأما "إكليل محمود":|
فمعناه: رأس الناس الذي يحمدونه، وهم فيهم بمنزلة الإكليل، وهو: التاج.
وقال الخطيب أبو عبد الله محمد بن عبد الله الرازي في "مختصر العين" "الإكليل": كعصابة مزينة بالجوهر.
#183#
| وأما "جبار":|
سمي به إما لإصلاحه الأمة بالهداية والتعليم، أو لقهره أعدائه، أو لعلو منزلته على البشر وعظيم خطره، ونفى الله تعالى عنه في القرآن جبرية التكبر التي لا تليق به، فقال تعالى: {وما أنت عليهم بجبار}
قاله القاضي عياض.
| وأما "مقدس":|
فمعناه: المطهر من الذنوب، كما قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}
وقيل: مطهر من الأخلاق الذميمة.
وقيل: يتطهر باتباعه من الذنوب.
#184#
| وأما "مشفح":|
فهو بالعبرانية، وقيل: بالسريانية، وهو بضم الميم وفتح الشين المعجمة وتشديد الفاء مفتوحة، لكن فتحها بين الضمة والفتحة، وهو مطابق لاسمه "محمد" وزنا ومعنى؛ لأن "مشفح" مشتق من قولهم "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا "الحمد لله". قال ابن قتيبة: وإذا كان الحمد "شفحا"، فـ "مشفح": محمود، بغير شك. انتهى.
| وأما "المنحمنا":|
فهو بالسريانية، ومعناه بالرومية: البارقليط، وتقدم معناه.
وقد قيل: هو "محمد" صلى الله عليه وسلم.
وهذه خمسة عشر اسما من أسمائه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة.
#185#
| وأما "الماحي":|
ففسر في الحديث بأنه الذي محا الله به الكفر، لما بعثه الله عز وجل كان أهل الأرض كلهم كفارا إلا بقايا من أهل الكتاب، وكان الكفار ما بين عباد أوثان ويهود ونصارى ومجوس ودهرية وعباد كواكب وفلاسفة، ولا يقرون بالأنبياء، ولا يعرفون شرائعهم، فمكنه الله تعالى وسلطه على الكفار حتى محي ذلك كله، وأظهر الله دينه على كل دين.
وقد مر أيضا مفسرا في الحديث أن "الماحي" الذي محا الله به سيئات من اتبعه، وفي الرواية الأخرى: "والماحي يمحو الله به الخطايا لمن آمن به".
قال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا محمد بن علي، حدثنا أبو العباس ابن قتيبة، حدثنا محمد بن عمرو الغزي، حدثنا عطاف بن خالد، عن محمد بن أبي بكر بن مطر بن عبد الرحمن بن عوف قال: قالت عائشة رضي الله عنها: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبي، ثم استيقظت فاستوحشت له، فسمعت حسه يصلي، فتوضأت ثم جئت فصليت وراءه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله من الليل، فجاء نور حتى أضاء البيت كله، فمكث ما شاء الله، ثم ذهب ثم جاء نور هو أشد من ذلك كله ضوءا، حتى
#186#
لو كان الخردل في بيتي، فشئت أن ألقطه لقطته، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فقلت: يا رسول الله، ما هذا النور الذي رأيت؟ قال: "وقد رأيتيه يا عائشة؟!" قالت: قلت: نعم.
قال: "إني سألت ربي أمتي، فأعطاني الثلث منهم، فحمدته وشكرته، ثم سألته البقية فأعطاني الثلث الثاني، فحمدته وشكرته، ثم سألته الثلث الثالث، فأعطانيه، فحمدته وشكرته".
| وأما "الحاشر":|
فقد فسر في الحديث.
| وأما "العاقب" و"المقفي":|
فهمها متقاربان في المعنى:
#187#
فـ "العاقب": الذي عقب الأنبياء فجاء آخرهم.
و"المقفي": الذي قفا آثار من تقدمه منهم.
والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، ولا ابتكر الدين، ولا أحداث الإسلام، وإنما قفا في ذلك غيره من الأنبياء والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين.
| وأما "الخاتم":|
فتقدم.
| وأما "نبي التوبة":|
فلأن الله تعالى تاب على أمته بالقول والاعتقاد توبة لم يحصل مثلها لأمة قبلها دون تكلف قتل أو إصر كما كانت توبة من قبلهم، بل هي أسهل الأشياء، هي بالندم والإقلاع، وجعلها الله تعالى ماحية للذنوب قليلها وكثيرها، صغيرها وكبيرها، ولم يمنعها من أحدهم ما دامت روحه في جسده ما لم يعاين.
#188#
| وأما "نبي الملحمة والملاحم":|
فـ "الملحمة": الحرب الشديدة، والمراد بها هنا - والله أعلم - : الجهاد؛ لأن الله عز وجل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحجة القاطعة والبرهان الواضح والدليل الظاهر، لكن لما عند عليه المشركون وأعرضوا عن حجته ولم يلتفتوا إلى ما جاء به أذن الله له في قتالهم، ووعده النصر عليهم، فقابل ذلك بالقبول والامتثال، وقاتل أعداء الله أشد القتال، فكان "نبي الملحمة والملاحم"، ولم يجاهد نبي وأمته ما جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب "شرح أحاديث الصحيحين": وفي كونه صلى الله عليه وسلم نبي الملحمة دليل واضح صادع على صدقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان قد جاء بالحكمة فقط ولم تظهر معجزته في أنه قهر الخلق وكسر شوكة الملوك على كونه لم يستعن في ذلك بملك، ولا استجاش بجند ولا عشيرة، بل كانت عشيرته أشد الناس عداوة له، حتى أخرجوه من بلده ثاني اثنين، فأظهره الله عز وجل على الدين كله كما وعده، فثبت حينئذ صدقه في الطرفين في إتيانه بالحكمة وفصل الخطاب، وبقهره وقوته باليد والظهور. انتهى.
وقيل: معنى "نبي الملحمة": إنه إعلام من النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعده
#189#
في أمته من الجهاد والحروب والقتل والسباء .
| وأما "نبي الرحمة":|
فتقدم معناه، وروي "نبي المرحمة" وهذه الميم ميم المصدر الدالة على تأكيد الفعل من الرحمة، أتى بها لتكون أبلغ في فعل الرحمة، والله أعلم.
| أما "الأول" و"الآخر":|
فلأنه صلى الله عليه وسلم سابق الأنبياء وخاتمهم صلى الله عليه وسلم أجمعين، تقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث"، وقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون"، وتقدم.
| وأما "المصطفى" و"المجتبى" و"المرتضى":|
فمعانيها متقاربة معروفة كـ: "المختار".
| وأما "الآمر" و"الناهي":|
فهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بوصفه بذلك، والحقيقة لله عز وجل ولكنه صلى الله عليه وسلم لما كان الواسطة أضيف ذلك إليه، وهو معلوم أن الأمر والنهي لله عز وجل حقيقة، قال الله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى}.
#190#
ويقرب من معنى ذلك "المحلل" و"المحرم".
|وأما "المصلح":|
فهو اللازم للصلح لنفسه ولأمته صلى الله عليه وسلم.
| وأما "التقي":|
فهو الذكي خَلقا وخُلقا، ظاهرا وباطنا، قولا وعملا، قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أتقى ولد آدم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "فوالله، إني لأتقاكم لله عز وجل وأشدكم له خشية".
| وأما "الصادق والمصدوق":|
فمعروف.
| وأما "المهيمن":|
فمعناه معنى "الأمين" في أحد معانيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بهذا الاسم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمين الله تعالى على وحيه ودينه، وأمين من في السماء، وأمين من في الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يعرف بذلك قبل البعثة وبعدها.
#191#
وفسر القتبي وغيره قول العباس رضي الله عنه:
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق
أنه أراد: يا أيها المهيمن.
| وأما "الطيب":|
فهو: الذي سلم عن خبث القلب حين رميت منه العلقة السوداء، وسلم عن خبث القول، فهو الصادق المصدوق عن خبث الفعل، فعمله وأحواله كلها طاعة، وتقدم معناه.
| وأما "المبارك":|
فهو الذي يأتي من قبله الخير الكثير.
وقيل: سمي صلى الله عليه وسلم مباركا بما جعل الله عز وجل في حاله من نماء الثواب،
#192#
وتضعيف الإكرام، وزيادة الإفضال، وبما جعل في أصحابه من فضائل الأعمال، وتزكية الأحوال، وفي أمته من علو القدر وزيادة الأجر على جميع الأمم مع قصر المدة.
| وأما "الشكور":|
فهو المعترف بنعم الله تعالى، المثني عليه جهده والقائم بعبادته حسب طاقته.
| وأما "المأمون":|
فهو الذي لا يخاف من جهته شر.
#193#
| وأما "الفاتح":|
فمعناه: الفاتح لأبواب الرحمة على أمته، والفاتح لبصائرهم بمعرفة الحق والإيمان بالله تعالى.
وقيل: "فاتح الأنبياء" المقدم عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنت أول الأنبياء في الخلق" الحديث.
| وأما "القاسم":|
فمعروف، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا قاسم، والله معطي".
| وأما "قثم":|
ففسر في الحديث الآتي بعد إن شاء الله تعالى في شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم من رواية مروان بن جناح الشامي مولى الوليد بن عبد الملك، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.
#194#
قال مروان: "القثم": السري.
وقد فسر "القثم" أيضا بـ: الجامع للخير.
وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله الخطيب الرازي: و"القثوم": الجموع للخير.
| وأما "الضحوك" و "القتال":|
فهما اسمان مقترنان لا يفرد أحدهما عن الآخر، فإنه صلى الله عليه وسلم ضحوك في وجوه المؤمنين طليق الوجه لهم، لا ير أكثر تبسما منه، قتالا لأعداء الله، لا تأخذه في الله لومة لائم.
#195#
| وأما "منصور":|
فإن الله عز وجل أيده بنصره، فظفره على أعدائه، وأعلى دينه على الدين كله.
| وأما "نبي الحرمين":|
فالحرمان: دار مولده مكة المشرفة، ودار هجرته: طيبة المطيبة.
| وأما "راكب البراق" و "راكب البعير":|
فمعروفان:
| وأما "صاحب التاج":|
فقال أبو الفضل عياض: فالمراد به: العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب، والعمائم تيجان العرب.
#196#
قلت: قد قدمنا في البشارات العيسوية بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه صاحب "الجمل" و"المدرعة"، و"العمامة"، وهي التاج.
| وأما "صاحب المعراج":|
فهو الذي رقى فيه إلى السماء، وهو مرقاة من ذهب، ومرقاة من فضة، وسيأتي ذكره في قصة "المعراج" إن شاء الله تعالى.
| وأما "صاحب الهراوة":|
فهي العصا، وتقدم تفسيرها.
| وأما "صاحب الحجة":|
فالحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق.
#197#
| وأما "صاحب السلطان" و "البرهان":|
فهما بمعنى الأول، فالسلطان: الحجة والبرهان، يقال: "برهان قوله" أي: بينه بحجته.
| وأما "صاحب الشفاعة":|
فالمراد بها: الشفاعة العظمى.
وشفاعات نبينا صلى الله عليه وسلم على ضروب، فأعظمها وأعمها شفاعة الموقف لتخليص الناس من الكرب، وتعجيل الحساب، وحصول الفصل، وهي مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحد، ويدخل في هذه الشفاعة آدم ومن ولد، بل جميع الخلائق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم" وقال: "إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم".
ومن شفاعاته صلى الله عليه وسلم:
أنه يشفع في تعجيل حساب أمته أول الخلق، كما في الحديث: "يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تريد أن أصنع بأمتك؟ قال: فأقول: يا رب؛ عجل حسابهم. قال: فيدعى بهم فيحاسبون".
#198#
ومنها: شفاعته صلى الله عليه وسلم في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وتعجيلهم إلى منازلهم، كما ثبت في حديث الشفاعة: "فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأول. من أبواب الجنة".
ومن شفاعاته صلى الله عليه وسلم: في قوم استوجبوا النار بقبح ما اكتسبوه من الأوزار، حتى لا يدخلوا النار وينجوا منها، وإليها الإشارة في الحديث: "ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة".
ومنها: الشفاعة في إخراج من دخل النار من الموحدين كما صرحت به الأحاديث الكثيرة.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى أقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" أي: من لا حظ له في الإيمان وهم الكفار بالله عز وجل.
ومنها: الشفاعة لأهل الجنان بعد دخولهم إليها واستقرارهم فيها،
#199#
بزيادة درجات وإعطاء منازل عاليات.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب: "لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".
وأحاديث الشفاعة كثيرة، وطرقها وألفاظها جليلة:
ومنها: ما قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: إن الأنبياء عليهم السلام ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيده، إني لسيد الناس يوم القيامة، ولا فخر، وإن بيدي لواء الحمد، إن تحته لآدم عليه السلام ومن دونه، ولا فخر".
قال "ينادي الله عز وجل يومئذ آدم، فيقول: لبيك رب وسعديك. فيقول: أخرج من ذريتك بعث النار.
فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، فيخرج ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل.
فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم، أكرمك الله، وخلقك بيده، ونفخ فيك
#200#
من روحه، وأسكنك جنته، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لذريتك؛ لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: ليس ذلك إلي اليوم، ولكن سأرشدكم، عليكم بعبد اتخذه الله خليلا وأنا معكم.
فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم، أنت عبد اتخذك الله خليلا، فاشفع لذرية آدم؛ لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: ليس ذلك إلي، ولكن سأرشدكم وأنا معكم.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت عبد اصطفاك الله عز وجل برسالاته وكلامه، وألقى عليك محبة، اشفع لذرية آدم، لا تحرق اليوم بالنار.
قال: ليس ذلك اليوم إلي، ولكن سأرشدكم، عليكم بروح الله وكلمته: عيسى ابن مريم عليه السلام.
فيأتون عيسى ابن مريم، فيقولون: يا عيسى، أنت روح الله وكلمته، اشفع لذرية آدم؛ لا تحرق اليوم بالنار.
قال: ليس ذلك اليوم إلي، عليكم بعبد جعله الله عز وجل رحمة للعالمين: أحمد صلى الله عليه وسلم، وأنا معكم.
فيأتون فيقولون: يا أحمد، جعلك الله رحمة للعالمين، فاشفع لذرية آدم؛ لا تحرق بالنار.
فأقول: نعم، أنا صاحبها، فآتي، حتى آخذ بحلقة باب الجنة.
فيقال: من هذا؟ فأقول: أنا أحمد.
فيفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار -تبارك وتعالى- خررت ساجدا، ثم يفتح لي من التحميد والثناء على الرب تعالى بشيء لا يحسنه الخلق.
ثم يقال: سل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب، ذرية آدم، لا تحرق اليوم بالنار.
#201#
فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه.
ثم يعودون إلي فيقولون: ذرية آدم، لا تحرق اليوم بالنار.
فآتي حتى آخذ بحلقة باب الجنة.
فيقال: من هذا؟ فأقول: أحمد.
فيفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار -تبارك وتعالى- خررت ساجدا، فأسجد مثل سجودي أول مرة، ومثله معه، فيفتح لي من الثناء على الرب عز وجل والتحميد مثل ما فتح لي أول مرة.
فيقال: ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: رب، ذرية آدم؛ لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: أخرجوا له من كان في قلبه مثقال قيراط من إيمان.
ثم يعودن إلي، فآتي حتى أصنع كما صنعت، فإذا نظرت إلى الجبار عز وجل خررت ساجدا، فأسجد كسجودي أول مرة ومثله معه، ويفتح لي من الثناء والتحميد مثل ذلك، ثم يقال: سل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب، ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه. فيخرجون ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ويبقى أكثرهم، ثم يؤذن لآدم بالشفاعة، فيشفع لعشرة آلاف ألف، ثم يؤذن للملائكة والنبيين، فيشفعون، ثم إن المؤمن ليشفع لأكثر من ربيعة ومضر".
رواته كلهم ثقات، وليس لـ "سعيد بن أبي هلال" عن "أنس" في الكتب الستة شيء، والله أعلم.
#202#
وقال أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد: حدثنا الحارث بن أبي أسامة التيمي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن الحسن أو عيسى كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختبأت شفاعتي لأمتي يوم القيامة، ما من أحد إلا يرغب فيها، حتى إبراهيم خليل الرحمن".
قال عمرو بن عاصم: حدثنا حرب بن سريج قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: جعلت فداك، أرأيت هذه الشفاعة التي يحدث بها أهل العراق، أحق هي؟
قال: شفاعة ماذا؟ قلت: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: إي والله؛ حدثني عمي محمد ابن الحنفية، عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عز وجل: أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم رب رضيت".
ثم أقبل علي فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق: إن أرجى آية في كتاب الله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} قلنا: لنقول ذلك.
#203#
قال: لكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وهي: الشفاعة.
من أفراد حرب بن سريج، ولم يروه عنه إلا عمرو بن عاصم.
| وأما "صاحب المقام المحمود":|
فالجمهور على أنه شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي هريرة، وابن عمر، وكعب بن مالك وجابر - وحذيفة، وابن عباس، وابن مسعود في أحد قوليه، وغيرهم من الصحابة، وبه قال علي بن الحسين، ومجاهد في أحد قوليه، وخلق.
قال أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة" -من تأليفه-: حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن الحسن: قوله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: هو مقام الشفاعة يوم القيامة.
وورد هذا التفسير مسندا فيما قال تمام بن محمد الرازي الحافظ في "فوائده": أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، حدثنا أبو جعفر محمد
#204#
ابن سليمان، حدثنا أبو أسامة، عن داود بن يزيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} فقال صلى الله عليه وسلم: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".
تابعه وكيع عن داود الأودي.
وحدث أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": عن محمد بن إسماعيل -يعني: الفيدي-، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: " ينادي مناد يوم القيامة: أين محمد؟ فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت بك وإليك سبحانك رب البيت، تباركت ربنا وتعاليت" قال: فيشفع عند ذلك فيشفع.
قال: قال حذيفة: ذلك المقام المحمود.
تابعه إسرائيل عن أبي إسحاق.
#205#
وقال سنيد بن داود: حدثنا أبو سفيان -يعني: المعمري- عن قتادة قال: هو الشفاعة، يشفعه الله عز وجل في أمته، فهو المقام المحمود.
وقال معمر: عن الزهري، عن علي بن حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة أشفع، فأقول: يا رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض" وهو المقام المحمود.
ورويناه من حديث أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، حدثنا عمر بن حفص أبو بكر السدوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن علي بن حسين، حدثني رجال من أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تمد الأرض لعظمة الرحمن عز وجل مد الأديم، لا يكون لشيء من بني آدم موضع قدم، ثم أدعى أول الناس؛ فأخر ساجدا، ثم يؤذن لي فأقوم فأقول: أي رب، إن هذا جبريل - وهو عن يمين الرحمن تعالى، والله ما رآه قط قبلها - أنك
#206#
أرسلت إلي، وجبريل ساكت لا يتكلم ثم يقول: صدق. ثم يؤذن بالشفاعة فأقول: أي رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض، فذلك المقام المحمود".
تابعه محمد بن عثمان بن خالد أبو مروان العثماني، عن إبراهيم بن سعد بنحوه.
ورواه محمد بن يونس الكديمي، حدثنا ابن عثمة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تمد الأرض يوم القيامة لعظمة الرحمن، فلا يكون فيها لأحد إلا موضع قدميه، فأكون أول من يدعى، فأجد جبريل عليه السلام قائما عن يمين الرحمن، ولا والذي نفسي بيده ما رأى الله عز وجل قبلها فأقول: يا رب، إن هذا جاءني فزعم أنك أرسلته إلي قال: فيقول الله عز وجل: صدق، أنا أرسلته إليك؛ فما حاجتك؟ فأقول: يا رب؛ إني تركت خلقا وعبادا من عبادك قد عبدوك في أطراف البلاد وشعف الآكام، ينتظرون جواب ما أجيء من عندك. فيقول: أما إني لا أخيبك فيهم".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهذا المقام المحمود الذي قال الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} ".
#207#
وحدث به ابن إسحاق عن عبيد الله بن أبي بكر، عن الزهري، فذكره بنحوه.
وقال شريك عن أبي إسحاق في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يبعثه الله عز وجل يوم القيامة مقاما يغبطه الأولون والآخرون.
وقيل: "المقام المحمود" هو: إعطاؤه صلى الله عليه وسلم لواء الحمد:
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنه قيام نبينا صلى الله عليه وسلم عن يمين العرش مقاما لا يقومه غيره، يغبطه الأولون والآخرون حين يكسى تلك الحلة العظيمة، وينال ذلك المنال العظيم.
وبه قال كعب والحسن وغيرهما.
قال خشيس بن أصرم في كتاب "الاستقامة": حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا الصعق بن حزن، [عن علي] بن الحكم [عن] عثمان بن عمير، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يكسى يوم القيامة -يعني: إبراهيم-، يقول الله تعالى: اكسوا خليلي إبراهيم. ثم أكسى على أثره، ثم أقوم عن يمين العرش مقاما يغبطني به الأولون والآخرون".
#208#
وخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث كثير بن عبيد، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود".
وقيل: "المقام المحمود": قعود نبينا صلى الله عليه وسلم على العرش !!
ولم يثبت ذلك في نص حديث، وإنما اشتهر من تفسير مجاهد في قول الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} واستغرب هذا التفسير أبو عمر ابن عبد البر، وعده قولا مهجورا.
#209#
وتفسير مجاهد هذا: رواه جماعة من الأئمة.
فقال أبو سهل القطان: حدثنا عبد الكريم الديرعاقولي: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن وغيره، قالوا: حدثنا ابن فضيل، عن ليث عن مجاهد: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يجلسه أو يقعده على العرش.
وقال محمد بن يونس الكديمي: حدثنا المعيطي، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قول الله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده معه على العرش.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا ابن الأصبهاني، ومحمد بن إسماعيل الفيدي أبو عبد الله، وهارون بن معروف، قالوا: حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يجلسه على العرش.
"ليث" هو: ابن أبي سليم.
#210#
تابعه: عطاء بن السائب، وأبو يحيى القتات، وجابر بن يزيد، فرووه عن مجاهد.
ورواه جماعة عن محمد بن فضيل منهم: محمد بن عبد الله بن نمير، وواصل بن عبد الأعلى، وعبيد بن يعيش، وعلي بن المنذر الطريقي، وعلي بن حرب الموصلي، والحسن بن حماد سجادة، وخلاد بن أسلم، وعبد الرحمن بن صالح
#211#
الأزدي، والحارث بن سريج النقال، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة.
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تفسيره"، وكذلك أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش في "شفاء الصدور".
وقال ابن جرير: ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا، لا من يقر أن الله فوق العرش ولا من ينكره.
#212#
وكذلك رد أبو العباس بن سريج على من أنكره.
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": وحديث مجاهد في فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيره لهذه الآية: "أنه يقعده
#213#
على العرش" تلقاها الشيوخ من أهل العلم. والنقل لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحسن تلق وقبلوها أحسن قبول، ولم ينكروها، وأنكروا على من رد حديث مجاهد إنكارا شديدا، وقالوا: من رد حديث مجاهد فهو رجل سوء.
ثم ذكر الآجري عن أبي محمد يحيى بن صاعد أنه قال: له هذه الفضيلة في القعود على العرش لا ندفعها، ولا نماري فيها، ولا نتكلم في حديث فيه فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بشيء يدفعه ولا ينكره.
وزاد بعضهم عن الآجري عن ابن صاعد أنه قال: هذه الفضيلة في القعود على العرش لا يدفعها ولا يتكلم في حديث فيه فضيلة وشرف للنبي صلى الله عليه وسلم بشيء يدفعه أو يتعرض فيه إلا منافق مرتاب مذموم في السنة والكتاب، وهي من الأحاديث المقبولة عند أولي الألباب. انتهى.
وكتب محمد بن أبي عمران الفارسي الإمام الزاهد إلى أبي بكر المروذي كتابا، منه:
وقد حدثني هارون، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد
#214#
في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يجلسه على العرش.
فبلغني أن مسلوبا من الجهال أنكر ذلك، فنظرت في إنكاره، فإن كان قصد مجاهدا فابن عباس قصد، وإن كان لابن عباس قصد فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رد، وإن كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم رد فبالله كفر، وإني أسأل الله بكل اسم هو له من أنكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقا أو جحد له فضلا أو غاظه شيء من فضله صلى الله عليه وسلم أن لا تناله شفاعته وأن لا يحشره في زمرته، وذكر باقي الكتاب.
وممن أفتى من الأئمة أن هذا الأثر يسلم ولا يعارض: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب "السنن"، وأبو إسحاق
#215#
إبراهيم الحربي، وخلق.
وقال بهذا التفسير جماعة منهم:
إسحاق بن راهويه، وعباس الدوري، وعلي بن داود القنطري،
#216#
ومحمد بن أبي عمران الفارسي، ومحمد بن مصعب العابد شيخ بغداد.
قال المروذي: سمعت أبا عبد الله الخفاف يقول: سمعت ابن مصعب وتلا: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: نعم، يقعده على العرش. وقال أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد الفقيه المحدث فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء: لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا: إن الله عز وجل يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش، واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت.
وروى الشيخ أبو حفص عمر بن عبيد الله بن عمر بن تعويذ الدلال، عن أبي بكر الشيبلي الزاهد وسأله رجل فقال له: أيقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش؟ فقال له: ويلك، ما أبلمك! أليس الله تعالى يقول: {إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر}، ويلك اتق الله، يقعده أي موضع شاء من محل الكرامة.
#218#
مات ابن تعويذ هذا في سنة عشر وأربع مائة، وقد بلغ نحو مائة سنة.
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في ترجمة زينب بنت جحش رضي الله عنها قول الإمام العلامة القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي هذا التفسير أيضا.
وصنف فيه المروذي مصنفا وطرقه إلى مجاهد.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: وأنا منكر على كل من رد هذا الحديث، وهو عندي رجل سوء متهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: سمعت هذا الحديث من جماعة، وما رأيت أحدا من المحدثين ينكره، وكان عندنا في وقت ما سمعناه من المشائخ: أن هذا الحديث إنما ينكره الجهمية.
و"عبد الله" حدث به: عن هارون بن معروف، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده على العرش.
قال: فحدثت به أبي رحمه الله فقال: كان محمد بن فضيل يحدث به، فلم يقدر لي أن أسمعه منه.
#219#
وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني وأبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، قالا: حدثنا محمد بن عثمان بن [أبي] صفوان الثقفي، حدثنا يحيى بن كثير العنبري، حدثنا سلم بن جعفر، حدثنا سعيد الجريري، حدثنا سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم فأقعد بين يدي الله عز وجل على كرسيه.
فقال رجل لسعيد الجريري: يا أبا مسعود، إن كان على كرسيه فهو معه؟!.
قال: ويلكم! هذا أقر حديث في ديننا لعيني.
تابعه عباس العنبري، ومحمد بن يونس الكديمي، وعلي بن مسعدة النسائي.
#220#
وقال البخاري في "تاريخه": وقال سلم بن جعفر، عن الجريري، حدثنا سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بين يدي الرب عز وجل على كرسي الرب عز وجل.
ولا يعرف لـ "سيف" سماع من "ابن سلام" انتهى.
وقد روي هذا التفسير من قول ابن عباس رضي الله عنهما، ولا يثبت:
فأنبأنا الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أبي محمد بن عبد الله بن أحمد المقدسي، أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم -قراءة عليه، وأنا شاهد مرتين، في شهر رجب سنة أربع عشرة وسبع مائة-، أخبرنا أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمداني، أخبرنا أبو الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني، أخبرنا
#221#
أبو القاسم علي بن أبي طالب الرزاز -بقراءتي عليه ببغداد .. .. ، أخبرنا أبو الحسن بشرى بن مسيس الفاتني الرومي، أخبرنا عمر بن محمد بن إبراهيم بن سبنك القاضي، حدثنا الحارث بن محمد بن إشكاب- وكان قد ذهب بصره فرده الله عليه، حدثنا عمر بن مدرك الرازي، حدثنا مكي بن إبراهيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تبارك وتعالى-: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده على العرش.
إسناده ساقط، فـ "عمر الرازي" و"جويبر": متروكان.
#222#
وروي من طريق عباد بن أبي روق، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس به.
وقد جاء مرفوعا، وهو باطل.
روى أحمد بن يونس، عن سلمة بن الأحمر، عن أشعث بن طليق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ عليه حتى بلغت: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: "يجلسني على العرش".
هذا حديث منكر، و"سلمة بن الأحمر" هذا: متروك الحديث، و"أشعث بن طليق" لم يلق "ابن مسعود".
وله طريق أخرى موقوفة على ابن مسعود، ويروى عن ابن عمر مرفوعا، ولا يصح، والمشهور: أن هذا التفسير عن مجاهد .
#223#
#224#
وقد قال الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب "السنة" -من تأليفه-: أخبرني الحسن بن صالح العطار، عن محمد بن علي السراج قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله، فتقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت عن يسار عمر، فقلت: يا رسول الله، إني أريد أن أقول شيئا. فأقبل علي فقال: "قل"، فقلت: إن الترمذي يقول: إن الله لا يقعدك معه على العرش، ونحن نقول: إن الله يقعدك معه على العرش، فكيف تقول يا رسول الله؟ فأقبل علي شبه
#225#
المغضب وهو يقول: "بلى والله، بلى والله، بلى والله، يقعدني معه على العرش"، ثم انتبهت.
وجدت بخط الحافظ أبي علي أحمد بن محمد بن أحمد البرداني، أنشدنا شيخنا أبو طالب محمد بن عليذ بن الفتح العشاري قال: أنشدنا أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني رضي الله عنه:
حديث الشفاعة من أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسنده
فأما حديث بإقعاده ... على العرش أيضا فلا نجحده
أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده
#226#
وذكر باقي الأبيات.
وجاءت الرواية عن مجاهد في تفسيره الآية بغير ما تقدم وهو: ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا سنيد بن داود، حدثنا
#227#
حجاج عن [ابن] جريح، قال مجاهد: {مقاما محمودا} قال: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
| وأما "صاحب الحوض":|
فهو حوضه صلى الله عليه وسلم الذي يكون في عرصات القيامة، ترده الأمة، وقد وردت بذكره الأحاديث الصحيحة، وجاءت بوصفه الأخبار الصريحة من حديث أبي بن كعب، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وبريدة الأسلمي، وثوبان، وجابر بن سلمة، وجابر بن عبد الله، وجبير بن مطعم، وأبي ذر جندب بن جنادة، وجندب بن عبد الله، وحارثة بن وهب الخزاعي، وحذيفة بن أسيد، وحذيفة، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، وسهل بن سعد، وأبي أمامة صدي بن عجلان؛ وعبد الله بن زيد، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وعتبة بن عبد السلمي، وعقبة بن عامر، وأبي برزة الأسلمي، وعمر بن الخطاب، وكعب بن عجرة، والنواس بن سمعان، وأبي بكرة، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم رضي الله عنهم.
ومن أحاديث الحوض: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
#228#
"حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبدا".
متفق عليه من حديث نافع بن عمر الجمحي، عن أبي محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمر.
وخرجه البخاري عن سعيد بن أبي مريم، ومسلم عن داود بن عمرو الضبي، كلاهما: عن نافع بن عمر به.
وحدث معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يدخل من أمتي يوم القيامة سبعين ألفا بغير حساب"، فقال رجل: يا رسول الله، فما سعة حوضك؟ قال: "ما بين عدن وعمان، وأوسع، وفيه مثعبان من ذهب وفضة، وشرابه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب ريحا من المسك، من شرب منه
#229#
لا يظمأ بعدها أبدا ولن يسود وجهه أبدا".
وقال يحيى بن صالح الوحاظي: حدثنا محمد بن مهاجر، أخبرني العباس بن سالم، عن أبي سلام الحبشي قال: بعث إلي عمر بن عبد العزيز، فحملني على البريد، فأتاه، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، لقد شق علي مركبي البريد. فقال: يا أبا سلام، ما أردت أن أشق عليك، ولكن بلغني عنك حديث تحدث به عن ثوبان، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في الحوض، فأحببت أن تشافهني به. فقال أبو سلام: حدثني ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، أكاويبه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين؛ الشعث رؤوسا الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المتمنعات ولا يفتح لهم السدد".
#230#
قال عمر: لكني قد نكحت المتمنعات وفتح لي السدد، ونكحت فاطمة بنت عبد الملك، لا جرم، لا يستحيل رأسي يشعث، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ.
تابعه أبو توبة الربيع بن نافع، عن محمد بن مهاجر نحوه.
ورواه هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا زيد بن واقد، حدثني بسر بن عبيد الله، حدثنا أبو سلام الأسود، فذكره بنحوه.
وهو في "جامع الترمذي" و"سنن ابن ماجه" لأبي سلام.
وروى مكي بن إبراهيم البلخي، حدثني موسى بن عبيدة، عن أبي
#231#
بكر بن عبيد الله بن أنس، عن جده أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت حوضي، فإذا على حافتيه آنية مثل عدد نجوم السماء، فأدخلت يدي فيه فإذا عنبر أذفر".
وروينا من حديث أبي بكر الشافعي، حدثنا أبو حمزة أحمد بن عبد الله بن مروان المروزي، حدثنا داود بن الحسين العسكري، حدثنا بشر بن داود، عن سابور، عن علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن على حوضي أربعة أركان، فأول ركن منها في يد أبي بكر، والركن الثاني في يد عمر، والركن الثالث في يد عثمان، والركن الرابع في يد علي، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر، ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر، ومن أحب عثمان وأبغض عليا لم يسقه عثمان، ومن أحب عليا وأبغض عثمان لم يسقه علي، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحسن القول في علي فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ومن أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن".
#232#
|وأما "صاحب الكوثر"|: فـ"الكوثر" نهر في الجنة.
قال أبو السري هناد بن السري التميمي الكوفي في كتاب "الزهد" -من تأليفه-: حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، أبيض من الثلج".
تابعه أبو بكر ابن أبي شيبة، عن ابن فضيل.
وحدث به علي بن المديني، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عطاء ابن السائب قال: قال لي محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جبير في "الكوثر"؟ قلت: قال ابن عباس: هو الخير الكثير.
#233#
فقال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، يجري على الدر والياقوت".
وقال عبد الأعلى بن حماد النرسي: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه أنبأهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا أسير في الجنة إذ عرض علي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقال الملك: أتدري ما هذا؟ هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، وضرب بيده إلى أرضه فأخرج من طينه المسك".
وقال محمد بن سليمان لوين الحافظ: حدثنا إسماعيل بن زكريا عن محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {إنا أعطيناك الكوثر} قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، شاطئاه من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، خص الله عز وجل به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
#234#
وحدث به هناد بن السري أيضا، عن أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب موقوفا بنحوه.
وقال أبو سعيد النقاش: أخبرنا أبو يعلى الحسين بن محمد الزبيري، حدثني أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد، حدثنا الفضل بن يزيد بن الفضل، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعي، عن واصل، عن أم نجيح -كذا قال- قالت: كنت قاعدة عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت زيدة -جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنها- وكانت من المجتهدات في العبادة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدنيها لما يعلم منها، فقالت: السلام عليك ورحمة الله، يا رسول الله كنت عجنت لأهلي عجينا، فخرجت لأحتطب فإذا برجل نقي الثياب طيب الريح، كأن وجهه دارة القمر ليلة البدر، على فرس أغر محجل، فدنا مني وقال: السلام عليك يا زيدة ورحمة الله وبركاته. فقلت: وعليك السلام ورحمة الله.
قال: هل أنت مبلغة ما أقول؟
قلت: نعم إن شاء الله.
#235#
قال: إذا رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم فقولي له: إني لقيت "الخضر" وهو يقرئك السلام ويقول لك: يا محمد، ما فرحت بمبعث نبي ما فرحت بمبعثك، لأن الله تبارك وتعالى أعطاك الأمة المرحومة والدعوة المقبولة، يدخل محسنهم بإحسانهم الجنة، ومسيئهم بشفاعتك يا محمد، وإن الله عز وجل أعطاك نهرا في الجنة طوله طول الجنة، وعرضه أربعون ذراعا، آنيته مثل نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، ألا وإن أنهار الجنة لتفجر من ذلك النهر.
ورواه أبو العباس المستغفري في "الصحابة" عن الخليل، عن محمد بن حمدون، وفي روايته "أم يحيى" بدل "أم نجيح"، وقال: واصل هو مولى أبي عيينة، ولا سماع له من "أم يحيى" انتهى.
وقيل: "الكوثر": حوضه صلى الله عليه وسلم، وقيل: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات الكثيرة، وقيل: النبوة، وقيل: القرآن، وقيل: المعرفة.
وقال هناد بن السري في كتاب "الزهد" حدثنا وكيع، عن بدر بن عثمان، سمعت عكرمة يقول: {إنا أعطيناك الكوثر} قال: ما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من الخير والإسلام والنبوة.
قال: وأراه قال: والقرآن.
#236#
|وأما "صاحب الوسيلة":|
فـ "الوسيلة" قد جاء تفسيرها في الحديث، ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله تعالى لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة".
خرجه مسلم في "صحيحه" عن محمد بن سلمة المرادي، حدثنا ابن وهب، عن حيوة بن شريح وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فذكره.
وقوله: "وغيرهما" هو: عبد الله بن لهيعة، والله أعلم.
وقال هناد بن السري في كتاب "الزهد": حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا علي؛ فإن الصلاة علي زكاة لكم، وسلوا الله لي الوسيلة". قالوا: يا رسول الله، وما "الوسيلة"؟ قال: "أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو".
#237#
| وأما "الشفيع" و "المشفع":|
فهو من قولهم: شفع فلان في الأمر شفاعة: طلبه بوسيلة أو ذمام، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المأمول والمشفع المقبول والشافع المطاع والسائل المجاب صلى الله عليه وسلم.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر".
| وأما "العلي":|
فهو: الشريف القدر الرفيع الرتبة الجليل المنزلة صلى الله عليه وسلم.
| وأما "المولى":|
فهو: الناصر، في أحد معانيه، وتقدم ذكره.
#238#
| وأما "خليل الرحمن":|
فهو محبه الذي ليس في محبته إياه خلل، المنقطع إليه، قال صلى الله عليه وسلم: "قد اتخذ الله صاحبكم خليلا".
و"الخليل" له معان، ومنها: أن الخليل: المختص [بالله].
| وأما "إمام المتقين":|
فكلهم مقتدون به، راجعون إلى قوله، تابعون هديه وفعله صلى الله عليه وسلم.
| وأما "قائد الغر المحجلين":|
فهم بيض الوجوه واليدين والرجلين من نور الوضوء.
| وأما "حبيب رب العالمين":|
فقد قال علي بن نصر الحلواني: حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد، حدثنا زمعة بن صالح، حدثنا سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبا، إن الله اتخذ من خلقه إبراهيم خليلا. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله موسى تكليما. وقال آخر: فـ "عيسى" كلمة الله وروحه. وقال آخر: "آدم" اصطفاه الله تعالى. قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر،
#239#
وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله تعالى لي ويدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر".
حدث به كذلك أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي في كتابه "المعاني": عن محمد بن حامد بن سهل، حدثنا علي بن نصر بن علي الحلواني، فذكره.
تابعه أبو عيسى الترمذي فحدث به في "جامعة" عن علي بن نصر.
وقد تقدم بطوله من روايته ورواية غيره، ولله الحمد.
وقال أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا مسلمة، أخبرني زيد بن واقد، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى كليما نجيا، واتخذني حبيبا، ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي -عليهم الصلاة والسلام".
"مسلمة" هو: ابن علي الخشني: متروك، وقد خرج له الترمذي وابن ماجه.
وقد فضلوا درجة المحبة، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم على درجة الخلة لمعان.
#240#
وأورد على هذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يسمه الله في القرآن حبيبا كما سمى إبراهيم خليلا.
وأجيب عنه:
أنه عز وجل سمى نبينا صلى الله عليه وسلم حبيبا بأبلغ التسمية وألطف الإشارة، فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فإذا جعل متبعيه أحباءه. فقد استغني بذلك عن ذكره حبيبا؛ لأنه إذا ذكر الأقل صار الأكثر مذكورا على المبالغة والتأكيد، كقوله عز وجل: {فلا تقل لهما أف} فاستغنى بذلك عن ذكر تحريم الضرب والشتم، وعلم يقينا أن الضرب والشتم محرمان لتحريم التأفيف، فلو سمى الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم حبيبا على التصريح لم يعرف كون متابعيه أحباءه، فلما ذكر أن المتبع حبيبا استغنى عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم حبيبا.
ذكره بنحوه أبو الحسين محمد بن يحيى البشاغري في كتابه "عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام".
ومحبة الله سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم بتفضيله إياه على غيره وإفاضة إنعامه عليه وخيره وتخصيصه بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، وعلو مرتبته في الدنيا والآخرة، وإتمام نعمته عليه بالأجر الجسيم والخير العميم والفضل العظيم، قال الله سبحانه وتعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}.
خرج الترمذي عن مجمع بن جارية قال: قال جعفر بن محمد:
#241#
تمام نعمته عليه صلى الله عليه وسلم: أن جعله حبيبه، وأقسم بحياته، ونسخ به شرائع غيره، وعرج به إلى المحل الأعلى، وحفه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبعثه إلى الأسود والأحمر، وأحل له ولأمته الغنائم، وجعله شفيعا مشفعا وسيد ولد آدم، وقرن ذكره بذكره ورضاه برضاه، وجعله أحد ركني التوحيد.
حدث محمد بن عبد الله الحضرمي الحافظ، عن علي بن بهرام، حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة، عن عمرو بن قيس، عن عطاء، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نزل آدم عليه السلام بالهند؛ فاستوحش؛ فنزل جبريل فنادى بالأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله. فقال له: ومن (محمد) هذا؟ فقال: آخر ولدك من الأنبياء - عليه وعليهم الصلاة والسلام-".
وقد ذكرنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب نبذة من تفضيل الله إياه وتخصيصه بما لم يعطه أحدا سواه.
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي البيهقي في كتابه "دلائل النبوة": أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثني أحمد بن إبراهيم الحلبي، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، دعاني إلى
#242#
الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بأصبعك، فحيث أشرت إليه مال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش".
تفرد به هذا "الحلبي" وهو مجهول، قاله البيهقي.
و"المناغاة": تكليم الصبي بما يهواه ويسره، يقال: نغيت إليه نغية: ألقيت إليه كلمة.
ومما يندرج فيما خص الله سبحانه به رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام-: ما هيأه له في ميلاده وتربيته ورضاعه من الإكرام، ومنه:
#243#
أن "آمنة" والدته، و"الشفاء" قابلته، و"أم أيمن بركة" حاضنته، و"ثويبة" أول مراضعه، و"حليمة" وافاها السعد بطالعه.
وفي هذا بشارة - إن شاء الله تعالى- لأمته الآخرين السابقين بالأمن والشفاء واليمن والبركة والثواب والحلم من رب العالمين.
#244#
&فصل في: رضاعه، ونشأته، وزواجه، وذكر بعثته مختصرة، ومعراجه&
بلغنا: أن "آمنة" أم النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدته أرضعته سبعة أيام، ثم أرضعته "ثويبة".
قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت "ثويبة" مولاة لأبي لهب قد أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما قبل أن تقدم "حليمة" وأرضعت أبا سلمة بن عبد الأسد معه فكان أخاه من الرضاعة.
وقال قبله: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، حدثنا موسى بن شيبة، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن برة بنت أبي تجراة العبدرية رضي الله عنهما قالت: أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثويبة" بلبن ابن لها -يقال له: مسروح- أياما قبل أن تقدم "حليمة"، وكانت قد أرضعت قبله "حمزة بن عبد المطلب"، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
#245#
وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث بكير بن عبد الله بن الأشج، سمعت عبد الله بن الأشج، سمعت عبد الله بن مسلم، سمعت محمد بن مسلم، سمعت حميد بن عبد الرحمن، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا رسول الله عن بنت حمزة؟ أو قيل: ألا تخطب بنت حمزة بن عبد المطلب؟ قال: "إن حمزة أخي من الرضاعة".
وخرج أيضا من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه: قلت: يا رسول [الله] مالك تتوق في قريش وتدعنا؟ قال: "وعندكم شيء؟" قلت: نعم، بنت حمزة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحل لي؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة".
رواه عن الأعمش جرير بن عبد الحميد، وعبد الله بن نمير، ومحمد بن عبيد الطنافسي وغيرهم.
وجاء من حديث سعيد بن المسيب وأبي صالح الحنفي وهانئ بن هانئ وجماعة من أهل الكوفة، رووه عن علي رضي الله عنه.
#246#
ورواه قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان - يعني: الثوري، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن علي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا أدلك على أحسن أيم في قريش! قال: "وعندك شيء؟" فقلت: نعم، بنت حمزة. فقال: "إنها ابنة أخي، أما علمت أن الله تعالى حرم من الرضاعة ما حرم من النسب".
ورواه أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري، عن الثوري، عن علي بن زيد، عن ابن المسيب قال: قال علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره مرسلا.
ورواه مسدد، عن سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد كذلك.
ورواه محمد بن سعيد بن الأصبهاني، عن سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي رضي الله عنه: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مسندا.
خالفهم عبد الله بن بكر السهمي فقال: حدثنا سعيد -يعني: ابن أبي عروبة-، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عليا رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.
#247#
وله شاهد من حديث ابن عباس، والبراء بن عازب وأم سلمة رضي الله عنهم.
وقد قيل: إن حمزة رضي الله عنه أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين.
وحكى ابن عبد البر نحوه، قال: وهذا لا يصح عندي؛ لأن الحديث الثابت أن حمزة وعبد الله بن الأسد أرضعتهما "ثويبة" مع رسول الله، إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين.
قلت: قد قدمنا حديث برة بنت أبي تجراة، وهو يدل على أن "ثويبة" أرضعت "حمزة" و"أبا سلمة" في زمانين، لكن رواية ابن عباس التي تقدمت قبل فيها: أن أبا سلمة أرضعته "ثويبة" مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن ابن إسحاق: أن "حمزة" أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وهذا أشبه، والله أعلم.
وفي "الصحيحين" من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: قلت: يا رسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أو تحبين ذلك؟"، قلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني فيك أختي. قال: "إن ذلك لا يحل لي". قالت: فإنا تحدثنا أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: "بنت أم سلمة؟" قالت: نعم. قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة" الحديث.
تابعه الزهري عن عروة نحوه.
#248#
رواه شعيب وعقيل ومحمد بن عبد الله بن مسلم عن الزهري.
ورواه الليث عن يزيد بن أبي حبيب: أن محمد بن شهاب كتب يذكر أن عروة حدثه: أن زينب بنت أبي سلمة، حدثته أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثتها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انكح أختي عزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحبين ذلك؟". فقالت: نعم يا رسول الله، لست لك بمخلية، وأحب من شركني في خير أختي. وذكر الحديث بنحوه.
خرجه مسلم في "صحيحه"، ورواه من حديث جماعة عن الزهري، وقال: ولم يسم أحد منهم في حديثه "عزة" غير يزيد بن أبي حبيب. انتهى.
وهو عند "يزيد بن أبي حبيب" فيما رواه عنه الليث أيضا عن عراك بن مالك: أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته: أن أم حبيبة قالت: فذكره مختصرا.
و"ثويبة الأسلمية" مولاة لأبي لهب، كانت وهي أمة تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج خديجة، فيكرمها وتكرمها خديجة رضي الله عنها.
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر عن غير
#249#
واحد من أهل العلم قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة. قال: وكانت خديجة تكرمها وهي يومئذ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن يبيعها منها لتعتقها، فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وكسوة، حتى جاءه خبرها أنها قد توفيت سنة سبع مرجعه من "خيبر"، قال: "ما فعل ابنها مسروح؟" قيل: مات قبلها، ولم يبق من قرابتها أحد.
ووقع في كلام أبي القاسم خلف بن بشكوال في كتابه "الغوامض": أنها توفيت بـ "خيبر".
وقد جاء: أن عتق "ثويبة" كان يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم: فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه "آمنة" جاءت "ثويبة" مولاها أبا لهب فبشرته بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقها من ساعته.
وفي رواية: أن "ثويبة" دخلت على "أبي لهب" وقالت له: أشعرت أن "آمنة" ولدت ولدا؟ فقال لها: "أنت حرة" فهو يخفف عنه العذاب في مثل يوم الاثنين، وذلك لسروره بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وعتقه "ثويبة".
#250#
وقال عروة بن الزبير -فيما ثبت عنه- فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة فقال: ماذا لقيت؟ فقال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي "ثويبة". وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها.
#251#
و"الحيبة" بكسر الحاء المهملة بعدها مثناة من تحت تليها باء موحدة.
قال أبو عمرو بن العلاء: "فلان بحيبة سوء" أي: بحال سوء.
والرائي لأبي لهب هو أخوه العباس رضي الله عنه، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة "بدر".
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني أبو بكر بن سهل التميمي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: رأى أبا لهب بعض أهله في النوم في هذه -وأشار إلى النقرة التي فوق الإبهام- بعتقي "ثويبة". قالت: وكانت أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا سلمة.
#252#
وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا لهب في النار يصيح: "العطش" فيسقى من ثغر في إبهامه، فقلت له: "بم هذا؟" قال: بعتقي ثويبة لكونها أرضعتك.
وقد اختلف في إسلام "ثويبة":
وذكرها غير واحد في الصحابيات.
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله: لا أعلم أحدا أثبت إسلامها غير ابن منده.
قلت: قال ابن مندة في كتابه "معرفة الصحابة": "ثويبة": مولاة أبي لهب، أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف في إسلامها.
لم يزد على ذلك.
ثم أرضعته فيما أجمعت عليه الأمة: أم كبشة حليمة.
وحكى أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن بعضهم: "حليمة" كما سيأتي إن شاء الله.
#253#
ولم أره لغيره، والصحيح -إن شاء الله-: "حليمة" وهي: بنت أبي ذؤيب: عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس بن عيلان، وهو: إياس بن مضر بن نزار السعدية.
و"سعد بن بكر" من "علياء هوازن" الذين قال فيهم أبو عمرو ابن العلاء أفصح العرب علياء هوازن وسفلى تميم.
وهم بنو دارم.
#254#
و"علياء هوازن" يقال لهم: العجز، وهم أربع قبائل: سعد بن بكر، وجشم ونصر ابنا معاوية بن بكر، وثقيف وهو: قسي بن منبه بن هوازن. وقال بعضهم: هو: منبه بن هوازن.
وأما "سفلى تميم" فهم: بنو دارم بن مالك بن حنظلة: ومجاشع بن دارم، ونهشل بن دارم.
وكانت "حليمة" قدمت "مكة" مع زوجها الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان.
وقيل: هلال بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن.
وذكر أبو عبد الله القضاعي في "تاريخه": أن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع له من "حليمة" بعد مولده بسبعة أيام. انتهى.
وزعموا أن "حليمة" لما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم لرضاعه أتاها عبد المطلب حين أرادت أن تخرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه وبرك عليه وشمه، ثم قال:
#255#
رب هذا الراكب المسافر
ورب كل منجد وغابر
محمدا فاقلب بخير طائر
وازجره عن طريقة الفواجر
ونجه من كل خلب عاهر
أخنس ليس قلبه بطاهر
وحية ترصد بالهواجر
وغاسق وحاسد وساحر
إني أراه مكرمي وناصري
وسيد الأحياء والمعاشر
#256#
وروي هذا الرجز بتقديم وتأخير وزيادة، فيما ذكره أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر".
وقال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" المسمى بـ: "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها": أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر:
عن حليمة -أم رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدية التي أرضعته- قالت: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء في سنة شهباء لم تبق شيئا، ومعي زوجي، ومعنا
#257#
شارف لنا والله إن تبض علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لنا، إن ننام ليلتنا من بكائه، ما في يديه ما يغنيه، فلما قدمنا مكة لم تبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة الرضاعة من والد المولود، وكان يتيما، فكنا نقول: يتيما، ما عسى أن تصنع أمه به؟! حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيا، غيري، فكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئا وقد أخذ صواحبي، فقلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
قالت: فأتيته فأخذته، ورجعت إلى رحلي.
فقال زوجي: قد أخذتيه؟ فقلت: نعم والله، وذلك إني لم أجد غيره.
فقال: فقد أصبت، فعسى الله أن يجعل فيه خيرا.
قالت: فوالله، ما هو إلا أن جعلته في حجري أقبل عليه ثديي بما شاء الله من اللبن، فشرب حتى روي وشرب أخوه -يعني: ابنها- حتى
#258#
روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا هي حافل، فحلبها من اللبن ما شئنا، وشرب حتى روي، وشربت حتى رويت، وبتنا ليلتنا تلك شباعا رواء، قد نام صبياننا.
قال: يقول أبوه -تعني: زوجها-: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة، قد نام صبينا وروي.
قالت: ثم خرجنا، فوالله لخرجت أتاني أمام الركب، حتى إنهم ليقولون: ويحك، كفي عنا، أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها؟
فأقول: بلى والله، وهي قدامنا، حتى قدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفس حليمة بيده، إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا ويسرح راعي غنمي، فتروح بطانا لبنا حفلا، وتروح أغنامهم جياعا هالكة ما بها من لبن.
قالت: فنشرب ما شئنا من اللبن، وما من الحاضر أحد يحلب قطرة ولا يجدها، فيقولون لرعاتهم: ويلكم، ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة. فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه، فتروح أغنامهم جياعا ما بها من لبن، وتروح غنمي لبنا حفلا.
وكان صلى الله عليه وسلم يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة، فبلغ سنتيه وهو غلام جفر.
#259#
قالت: فقدمنا على أمه، فقلت لها وقال لها أبوه: ردي علينا ابني، فلنرجع به، فإنا نخشى عليه وباء مكة.
قالت: فلم نزل حتى قالت: ارجعا به فرجعنا به، فمكث عندنا شهرين.
قالت: فبينما هو يلعب وأخوه يوما خلف البيوت يرعيان بهما لنا، إذ جاءنا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي؛ قد جاءه رجلان فأضجعاه وشقا بطنه.
فخرجنا نشتد، فانتهينا إليه وهو قائم منتقع لونه، فاعتنقه أبوه واعتنقته، ثم قلنا: أي بني؟ قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني ثم شقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا.
قالت: فاحتملناه فرجعنا به.
قالت: يقول أبوه: يا حليمة، ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه.
قالت: فرجعنا به، فقالت: ما يردكما به وقد كنتما حريصين عليه؟
قالت: فقلت: لا والله، إنا كفلناه وأديناه الحق الذي يجب فيه، ثم تخوفنا الأحداث عليه، فقلنا: يكون في أهله.
فقالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما وخبره.
فوالله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره.
قالت: فتخوفتما عليه، كلا والله، إن لابني هذا شأنا، ألا أخبركما عنه، إني حملت به، فلم أحمل حملا قط كان أخف علي ولا أعظم بركة منه، ثم رأيت نورا كأنه خرج مني حين وضعته- أضاءت لي أعناق الإبل
#260#
بـ "بصرى"، ثم وضعته، فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا يديه بالأرض رافعا رأسه إلى السماء. دعاه، والحقا بشأنكما.
تابعه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن المقرئ، عن أبي يعلى الموصلي، حدثنا مسروق بن المرزبان الكوفي أبو سعيد والحسن بن حماد ونسخته من حديث مسروق-، قالا: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، فذكره.
قال أبو حاتم: قال وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، حدثنا جهم بن أبي جهم، نحوه.
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا وهب بن جرير، انتهى.
وهذا يوهم أن رواية جرير بن حازم، كرواية يحيى بن [زكريا بن] أبي زائدة التي خرجها أبو حاتم ابن حبان من طريقه كما تقدم عن ابن
#261#
إسحاق، عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر، عن حليمة.
وليست رواية جرير كذلك، فإن "مغازي ابن إسحاق" التي رواها أبو الفضل محمد بن يحيى بن الفياض الزماني عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن ابن إسحاق قال فيها: حدثني جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر، أو عمن حدثه عن ابن جعفر قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت "حليمة ابنة الحارث" في نسوة من بني سعد بن بكر، وذكر الحديث بنحوه مطولا.
وقد روى الحديث عن ابن إسحاق جماعة منهم: المحاربي عبد الرحمن بن محمد، وسلمة بن الفضل، ونوح بن أبي مريم أبو عصمة الجامع، عن ابن إسحاق، كنحو رواية ابن أبي زائدة.
ورواه بكر بن سليمان البصري فيما رواه عنه أبو طلحة موسى بن عبد الله الخزاعي عنه، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني جهم بن أبي
#262#
الجهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أو عمن حدثه عنه قال: كانت "حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية" أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته تحدث: أنها خرجت من بلدها، وذكر الحديث بطوله.
حدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر": عن موسى بن عبد الله بن طلحة الخزاعي به.
وحدث به يونس بن بكير الشيباني في "المغازي" عن ابن إسحاق، حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب قال: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: حدثت عن حليمة، فذكره.
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق، حدثني جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي، عن عبد الله بن جعفر أو عمن حدثه عنه: أن حليمة، فذكره.
وهو في كتاب "المبتدأ" لابن إسحاق رواية سعيد بن بزيع عنه، عن جهم عن عبد الله بن جعفر من غير شك.
#263#
وممن رواه عن ابن إسحاق كذلك: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد المحاربي، رواه عن المحاربي: هارون بن موسى السلمي وغيره.
وهذا الحديث يعد من أفراد [ابن] إسحاق فيما قاله الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه "الأربعين الطوال في دلائل النبوة".
وقال ابن دحية في كتابه "المولد": هو من كنوز محمد بن إسحاق، قد انفرد به، ولا يعرف إلا من طريقه، فأعرضت عن إيراده، وإن كان قد أجمع أهل السير والخبر: أن "حليمة" أرضعته بعد "ثويبة" ورأت له برهانا عظميا. انتهى
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، حدثنا زكريا بن يحيى بن يزيد السعدي، عن أبيه قال: قدم مكة عشر نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن الرضاع، فأصبن الرضاع كلهن إلا "حليمة بنت عبد الله بن الحارث" -وذكر نسبها إلى
#264#
"مضر"- قال: وكان معها زوجها الحارث بن عبد العزى، وذكر نسبه إلى "هوازن"، قال: ويكنى "أبا ذؤيب"، وولدها منه: عبد الله بن الحارث، وكانت ترضعه، وأنيسة بنت الحارث، وخذامة بنت الحارث وهي "الشيماء" وكانت هي التي تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمها وتوركه - فعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت تقول: يتيم ولا مال له، وما عست أمه أن تفعل، فخرج النسوة وخلفنها، فقالت حليمة لزوجها: ما ترى؟ قد خرج صوادي وليس بمكة غلام يسترضع إلا هذا الغلام اليتيم، فلو أنا أخذناه؛ فإني أكره أن نرجح إلى بلادنا ولم نأخذ شيئا.
فقال لها زوجها: خذيه عسى الله أن يجعل لنا فيه خيرا.
فجاءت إلى الأمة فأخذته منها، فوضعته في حجرها، فأقبل عليه ثدياها حتى تفطرا لبنا، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روي، وشرب أخوه، ولقد كان أخوه لا ينام من الغرث.
قالت أمه: يا ظئر، سلي عن ابنك، فإنه سيكون له شأن، وأخبرتها بما رأت وما قيل فيه حين ولدته.
#265#
فقالت: قيل لي ثلاث ليال: استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر، ثم في آل أبي ذؤيب.
قالت حليمة: فإن أبا هذا الغلام الذي في حجري أبو ذؤيب وهو زوجي.
وطابت نفس حليمة وسرت بما سمعت، ثم خرجت به إلى منزلها فحدجوا أتانهم فركبتها "حليمة"، وحملت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديها، وركب "الحارث" شارفهم، فطلعا على صواحبها بوادي السرر وهن مرتعات، وهما يتواهقان فقلن: يا حليمة، ما صنعت؟
قالت: أخذت والله خير مولود رأيته قط وأعظمه بركة.
قال النسوة: أهو ابن عبد المطلب؟ قالت: نعم.
قالت: فما رحلنا من منزلنا ذلك حتى رأيت الحسد من بعض نسائنا.
قال: وحدثنا محمد بن عمر قال: وذكر بعض الناس: أن "حليمة" لما خرجت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادها قالت آمنة بنت وهب:
أعيذه بالله ذي الجلال
من شر ما مر على الجبال
حتى أراه حامل الكلال
ويفعل العرف إلى الموالي
وغيرهم من حشوة الرجال
وقال: حدثنا محمد بن عمر عن أصحابه قالت: فمكث عندهم
#266#
سنتين حتى فطم، وكأنه ابن أربع سنين، فقدموا به على أمه زائرين لها، وأخبرتها "حليمة" خبره وما رأوا من بركته.
فقالت "آمنة": ارجعي بابني، فإني أخاف عليه وباء مكة، فوالله ليكونن له شأن.
فرجعت به، فلما بلغ أربع سنين كان يغدو مع أخيه وأخته في البهم قريبا من الحي، فأتاه الملكان هناك، فشقا بطنه واستخرجا علقة سوداء، وغسلا بطنه بماء الثلج في طشت من الذهب، ثم وزن بألف من أمته فوزنهم، فقال أحدهما للآخر: دعه، فلو وزن بأمته كلها لوزنهم.
وجاء أخوه يصيح بأمه: أدركي أخي القرشي.
فخرجت أمه تعدو، ومعها أبوه، فيجدان رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقع اللون، فنزلت به إلى "آمنة بنت وهب" وأخبرتها خبره.
وقالت: إنا لا نرده إلا على جدع أنفنا.
ثم رجعت به أيضا، فكان عندها سنة أو نحوها، لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، ثم رأت غمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، فأفزعها ذلك أيضا من أره، فقدمت به إلى أمه ليرده وهو ابن خمس سنين، فأظلها في الناس، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فأخبرته، فالتمسه عبد المطلب فلم يجده، فقام عند الكعبة، فقال:
لاهم أد راكبي محمدا
#267#
أده إلي واصطنع عندي يدا
أنت الذي جعلته لي عضدا
لا يبعد الدهر به فيبعدا
أنت الذي سميته محمدا
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: لما قدمت "حليمة" قدم معها زوجها وابن لها صغير ترضعه يقال له: عبد الله، وأتان قمراء وشارف لهم عجفاء قد مات سقبها من العجف، ليس في ضرع أمه قطرة لبن، فقالوا: "نصيب ولدا نرضعه"، ومعها نسوة سعديات، فقدمن فأقمن أياما، فأخذن ولم تأخذ "حليمة"، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يتيم لا أب له"، حتى كان آخر ذلك أخذته، وخرج صواحبها قبلها بيوم، فقالت آمنة: يا حليمة، أعلمي أنك قد أخذت مولودا له شأن، والله لحملته فما كنت أجد كما تجد النساء من الحمل، ولقد أتيت فقيل لي: إنك ستلدين غلاما، فسميه "أحمد"، وهو سيد العالمين، ووقع معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء.
#268#
قال: فخرجت حليمة إلى زوجها، فأخبرته، فسر بذلك، وخرجوا على أتانهم منطلقة، وعلى شارفهم قد درت اللبن، وكان يحلبون منها غبوقا وصبوحا، فطلعت على صواحبها، فلما رأينها قلن: من أخذت؟ فأخبرتهن، فقلن: والله، إنا لنرجو أن يكون مباركا.
قالت حليمة: قد رأينا بركته، كنت لا أروي ابني "عبد الله" لا يدعنا ننام من الغرث، فهو وأخوه يرويان ما أحبا وينامان، ولو كان معهما ثالث لروي، وقد أمرتني أمه أن أسأل عنه ورجعت به إلى بلادها، فأقامت به حتى قامت "سوق عكاظ"، فانطلقت برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تأتي به إلى عراف من هذيل يريه الناس صبيانهم.
قالت: فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب.
فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم، فقال: "اقتلوا هذا الصبي"، فانسلت به "حليمة".
فجعل الناس يقولون: أي صبي؟ فيقول: هذا الصبي. فلا يرون شيئا، قد انطلقت به أمه، فيقال له: ما هو؟
فقال: ما رأيت غلاما، وآلهته ليقتلن أهل دينكم، وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم.
فطلب بـ "عكاظ" فلم يوجد، فرجعت به "حليمة" إلى منزلها، فكان بعد لا تعرضه لعراف ولا أحد من الناس.
#269#
وقال: أخبرنا محمد بن عمر: حدثني زياد بن سعد، عن عيسى بن عبد الله بن مالك قال: جعل الشيخ الهذيلي يصيح: يا لهذيل وآلهته، إن هذا لينتظر أمرا من السماء.
قال: وجعل يغري بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينشب أن دله، فذهب عقله حتى مات كافرا.
وقد روى الأموي أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص حديث الرضاع عن أبي الهيثم سعيد بن قطن العامري، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، عن سعيد بن المسيب وعن غيره: أن عبد المطلب لما فرغ من أمر بنيه ونذره.
وذكر القصة مطولة من الزواج والحمل والرضاع وغير ذلك بألفاظ منكرة ووقائع مفتعلة، أضربنا عن ذكرها لاطراحها وبطلانها.
ومن نمط ذلك وشكله: ما قال الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه "دلائل النبوة".
وقد روى محمد بن زكريا الغلابي بإسناده عن ابن عباس عن حليمة هذه القصة بزيادات كثيرة، وهي لي مسموعة، إلا أن محمد بن زكريا هذا
#270#
متهم، والاقتصار على ما هو معروف عند أهل المغازي أولى، والله اعلم.
ثم إني استخرت الله تعالى في إيراده، فوقعت الخيرة على إلحاقه بما تقدمه، ثم ساقه البيهقي بإسناده إلى محمد بن زكريا الغلابي.
وهو في "الأول من الأحاديث الهاشميات" جمع محمد بن زكريا بن دينار الغلابي المذكور فقال: حدثنا يعقوب -هو: ابن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، حدثني أبي، عن أبيه -يعني: سليمان بن علي-، عن علي بن عبد الله -يعني: ابن عباس-، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم تحدث: أنها لما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: سمعته يقول كلاما أعجبنا، سمعته يقول: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا"، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون، فيجتنبهم.
فقال لي يوما من الأيام: "ما لي لا أرى إخوتي بالنهار؟" قالت: قلت: فدتك نفسي، يرعون غنما لنا، يجيئون من ليل إلى ليل.
قالت: فأرسل عينيه فبكى وقال: "يا أمه، فما أصنع أنا هاهنا وحدي، ابعثيني معهم".
قلت: أو تحب ذلك؟ قال: "نعم".
قالت: فلما أصبح دهنته وكحلته وقمصته وعمدت إلى خرزة جزع يمانية فعلقتها عليه من العين، وأخذ عصا وخرج مع إخوته، فكان يخرج مسرورا ويرجع مسرورا، فلما كان يوما من ذلك خرجوا يرعون
#271#
بهما لنا حول بيوتنا، فلما انتصف النهار إذا أنا بابني -في رواية-، وفي رواية البيهقي: قال ضمرة: يعدو فزعا وجبينه يرشح، قد علاه البهر باكيا. ينادي: "يا أمه" و"يا أبه" أدرك أخي محمدا، فما تلحقاه إلا ميتا.
فقلت له: وما قصته؟ قال: بينما نحن قيام نترامى ونلعب إذ أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا وعلا به ذروة الجبل، ونحن ننظر إليه، حتى شق من صدره إلى عانته، ولا أدري ما فعل به، ولا أظنكما تلحقانه إلا ميتا.
قالت: فأقبلت أنا وأبوه -تعني: زوجها- نسعى سعيا، فإذا نحن به قاعد على ذروة الجبل متربص، شاخص ببصره نحو السماء ويتبسم ويضحك، فأكببت عليه وقبلت بين عينيه وقلت: فدتك نفسي، ما الذي دهاك؟
قال: "خير يا أماه، بينا أنا الساعة قائم مع إخوتي إذ أتاني رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق فضة، وفي يد الثاني طشت من زمردة خضراء ملأها ثلجا، فأخذوني فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل، فأضجعني بعضهم على الجبل إضجاعا لطيفا، ثم شق من صدري إلى عانتي وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك حسا ولا ألما، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج، فأنقى غسلها، ثم أعادها مكانها.
وقام الثاني فقال للأول: تنح فقد أنجزت ما أمرك الله تعالى به. ثم دنا مني فأدخل يده جوفي فانتزع قلبي وشقه وأخرج منه نكتة سوداء مثلوثة بالدم، فرمى بها وقال: هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله. ثم حشاه
#272#
بشيء كان معه ورده مكانه وختمه بخاتم من نور. فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي.
وقام الثالث فقال: تنحيا، فقد أنجزتما ما أمركما الله به. ثم دنا الثالث مني فأمر يده على ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم الشق وأنا أنظر إليه، ثم قال الملك: زنوه بعشرة من أمته. فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بمائة. فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بألف. فوزنوني فرجحتهم، فقال: دعوه؛ فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بهم. ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضا لطيفا، ثم أكبوا علي فقبلوا رأسي وما بين عيني فقالوا: يا حبيب الله، إنك لم تراع، ولو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك.
وتركوني قاعدا في مكاني هذا، ثم جعلوا يطيرون طيرانا حتى دخلوا خلال السماء وأنا أنظر إليهم، فلو شئت لأريتك موضع دخولهم".
قالت: فاحتملته فأتيت به منزلا من منازل بني سعد بن بكر، فقال لي الناس: اذهبي به إلى الكاهن حتى ينظر إليه ويداويه.
فقال: ما بي شيء مما تذكرون، وإني أرى نفسي سليمة وفؤادي صحيحا بحمد الله.
قال: فقال الناس: أصابه لمم أو طائف من الجن.
#273#
قالت: فغلبوني على رأيي، فانطلقت به إلى الكاهن، فقصصت عليه القصة، قال: دنيني أسمع أنا منه؛ فإن الغلام أبصر بأمره منكم، تكلم يا غلام.
قالت حليمة: فقص ابني محمد صلى الله عليه وسلم القصة ما بين أولها إلى آخرها، فوثب الكاهن قائما على قدميه، فضمه إلى صدره ونادى بأعلى صوته: يال العرب من شر قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه؛ فإنه إن تركتموه وأدرك مدارك الرجال ليسفهن أحلامكم وليكذبن أديانكم، وليدعونكم إلى رب لا تعرفونه ودين تنكرونه.
قالت: فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت: لأنت أعته وأجن من ابني، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، اطلب لنفسك من يقتلك، فإنا لا نقتل محمدا صلى الله عليه وسلم.
فاحتملته فأتيت به منزلي، فما يعلم الله ما بقي منزل من منازل بني سعد بن بكر إلا وقد شممنا منه ريح المسك الأذفر، وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان، فيغيبان في ثيابه ولا يظهران، فقال الناس: رديه يا "حليمة" على جده "عبد المطلب"، وأخرجيه من أمانتك.
قالت: فعزمت على ذلك، فسمعت مناديا ينادي: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور والبهاء والكمال، وقد أمنت أن تخذلين أو تخزيين أبد الآبدين ودهر الداهرين.
قالت: فركبت أتاني وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، وأقبلت أسير حتى أتيت إلى الباب الأعظم - من أبواب مكة- وعليه جماعة مجتمعون، هدة شديدة، فالتفت فلم أره.
فقلت: معاشر الناس، أين الصبي؟
قالوا: أي الصبيان؟
#274#
قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضر الله به وجهي وأغنى عيلتي وأشبع جوعتي، ربيته حتى إذا أدركت به سروري وأملي أتيت به أرده وأخرج من أمانتي اختلس من بين يدي قبل أن تمس قدماه الأرض، واللات والعزى، لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق هذا الجبل، ولأنقطعن إربا.
فقالوا: إنا لنراك عائفة، من أين كان معك "محمد"؟!
قالت: قلت: الساعة كان بين أيديكم.
قالوا: ما رأينا شيئا.
فلما أيسوني وضعت يدي على أم رأس وقلت: وا محمداه، وا ولداه. فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي، وضج الناس معي بالبكاء حزنا لي، فإذا أنا بشيخ كالفاني متوكئا على عكازة له، فقال لي: ما لي أراك تبكين أيتها السعدية وتصيحين.
قالت: فقلت: فقدت ابني "محمدا".
قال: لا تبكين، أنا أدلك على من يعلم علمه وإن شاء أن يرده عليك فعل.
قالت: قلت: نعم، دلني عليه.
قال: الصنم الأعظم هو العالم بمكانه، اذهبي إليه، فإن شاء أن يرده رده.
قالت: فزجرت الشيخ وقلت: ثكلتك أمك، كأنك لم تر ما نزل باللات والعزى في الليلة التي ولد فيها "محمد" صلى الله عليه وسلم!
فقال: إنك تهذين ولا تدرين ما تقولين، أنا أدخل إليه فأسأله أن يرده عليك.
قالت حليمة: فدخل وأنا أنظر إليه، فطاف بـ "هبل" أسبوعا وقبل رأسه ونادى: يا سيداه، لم تزل شفقتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أن ابنها "محمدا" قد ضل، فاردده.
#275#
قالت: فانكب "هبل" على وجهه وتساقطت الأصنام بعضها على بعض، ونطقت أو نطق منها ناطق فقال: إليك عنا أيها الشيخ فإنما هلاكنا على يدي "محمد".
قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكا ولركبتيه ارتعادا، وقد ألقى عكازه من يده وهو يبكي ويقول: يا "حليمة"، لا تبكين فإن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل.
قالت: فخفت أن يبلغ الخبر "عبد المطلب" قبلي، فقصدت قصده، فلما نظر إلي قال: أسعد نزل بك أم نحس؟
قالت: قلت: النحس الأعظم. ففهم مني وقال: لعل ابنك ضل منك؟
قالت: قلت: نعم.
فظن أن بعض قريش قد اغتاله فقتله، فسل عبد المطلب سيفه وغضب، وكان إذا غضب لم يثبت له أحد من شدة غضبه، ونادى بأعلى صوته: يا لغالب - وكانت دعوتهم في الجاهلية.
فأجابته قريش بأجمعها وقالت ما قصتك يا أبا الحارث؟
فقال: فقد ابني "محمد".
فقالت قريش: إن ركبت ركبنا معك، وإن تسنمت جبلا تسنمناه معك، وإن خضت بحرا خضناه معك.
قالت: فركب وركبت معه قريش، فأخذ أعلى مكة، وانحدر على أسفلها، فلم ير شيئا، فنزل الناس، واتشح ببرد وارتدى برداء آخر، وأقبل إلى البيت الحرام فطاف به أسبوعا وأنشأ يقول:
يا رب، رد راكبي محمدا ... اردده رب واتخذ عندي يدا
#276#
إن محمدا لم يوجد ... فجمع قومي مبدد
فسمعنا مناديا ينادي من جوف الهواء: معاشر الناس، لا تضجوا؛ فإن لمحمد صلى الله عليه وسلم ربا لا يخذله ولا يضيعه.
فقال عبد المطلب: يا أيها الهاتف، من لنا به؟ وأين هو؟
قال: بوادي "تهامة" عند شجرة التمني.
فأقبل عبد المطلب راكبا، فلما صار في بعض الطريق تلقاه "ورقة بن نوفل" فسارا جميعا، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب أغصانها ويعبث بالورق.
فقال عبد المطلب: من أنت يا غلام؟
قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
فقال عبد المطلب: فدتك نفسي، وأنا جدك عبد المطلب.
ثم احتمله وعانقه ولثمه وضمه إلى صدره، وجعل يبكي، ثم حمله على قربوص سرجه ورده إلى مكة، فاطمأنت قريش، فلما سكن الناس نحر عبد المطلب عشرين جزورا وذبح الشاء والبقر، وعمل طعاما وأطعم أهل مكة.
قالت حليمة: ثم جهزني عبد المطلب أحسن الجهاز، فانصرفت إلى منزلي وأنا بكل خير من الدنيا لا أحسن أصفه، وصار محمد صلى الله عليه وسلم عند جده.
قالت حليمة: وحدثت عبد المطلب حديثه كله، فضمه إلى صدره
#277#
وبكى وقال: يا حليمة، إن لابني شأنا ، وددت أني أدركت ذلك الزمان.
وقال أبو القاسم السهيلي: وذكر غير ابن إسحاق في حديث الرضاع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل إلا على ثديها الواحد -يعني: حليمة-، وتعرض عليه الآخر فيأباه، كأنه قد أشعر أن معه شريكا في لبانها، وكان مفطورا على العدل مجبولا على جميل المشاركة والفضل صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الغرفي في كتابه "المولد": وذكر أبو بكر وكيع في كتاب "الشريعة": أن حليمة ظئر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لها أمه آمنة بنت وهب الزهرية حين دفعته إليها للرضاع: استوصي به خيرا، فإنه إن يعش فسيكون له شأن.
فقالت حليمة: وما عسى أن يكون من شأنه وهو يتيم؟
فقالت: إني حملت منه ما لم تحمل النساء في بطونهن، فلم أجد به ثقلا، وأشرقت الجبال لوضعه، ثم لما هوى على الأرض اتقاها بيده فلم
#278#
يتترب وجهه، وأكفأنا عليه برمة فانفلقت عنه شقتين، فأصبح يتأمل السماء بعينيه، ووجدت وأنا حامل به عند رأسي كتابا فيه: إنك ستلدين ابنا فسميه "محمدا"، فإن اسمه في التوراة "أحمد"، واحذري عليه اليهود.
قال: فأخذته حليمة، فسمعها عبد المطلب وهي تقول:
يا رب هذا الراكب المسافر
ورب كل منجد وغابر
محمد اقلب بخير طائر
وازجره عن طريقة الفواجر
[ونجه من كل خلب عاهر
أخلس ليس قلبه بطاهر][3]
وحية ترصد بالهواجر
وغاسق وحاسد وساحر
إني أراه مكرمي وناصري
وسيد الأحياء والمعاشر
ومن أحواله الغريبة وشئونه العجيبة وأموره العظيمة عند مرضعته حليمة:
ما قال الواقدي: حدثني معاذ بن محمد عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد بدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته، فقالت: أفي هذا الحر؟! فقالت أخته: يا أمه،
#279#
ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت معه حتى انتهى إلى هذا الموضع.
وقد تقدم من رواية الواقدي عن أصحابه: أن حليمة رأت الغمامة تظله، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت.
$[سياق ما روي في رعي النبي صلى الله عليه وسلم للغنم]:$
ومنها: رعي الغنم، وتقدم في حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وروى يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجتني الكباث، فقال: "عليكم بالأسود منه؛ فإنه أطيبه"، قلنا: وكنت ترعى الغنم؟ قال: "وهل من نبي إلا وقد رعاها".
متفق عليه من حديث يونس، رواه الليث وابن وهب وغيرهما عن يونس.
وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا عمر بن محمد بن محمد الهمداني، حدثنا بندار، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نجتني الكباث، فقال: "عليكم بالأسود منه
#280#
فإنه أطيبه، وإني كنت آكله زمن كنت أرعى"، قالوا: يا رسول الله، وكنت ترعى؟ فقال: "وهل بعث نبي إلا وهو راع".
تابعه ابن سعد، فرواه في "الطبقات الكبرى" عن عثمان بن عمر بن فارس بنحوه.
ورواه محمد بن سهم ومصعب بن سعيد، عن عيسى بن يونس، عن مسعر، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم من ثمر الأراك بما اسود منه؛ فإني كنت أجتبيه وأنا أرعى الغنم.."، وذكر الحديث.
وقال أبو الحسن الدارقطني في كتاب "العلل": والصحيح: عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة مرسلا.
وقال أيضا: وقول من قال: عن أبي سلمة عن أبيه وهم. انتهى.
قلت: وما صححه الدارقطني رواه وكيع بن الجراح في كتابه في "الزهد" فقال: حدثنا مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم مروا بثمر الأراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بما اسود منه"، قال: "فلقد رأيتني أجتنيه وأنا أرعى الغنم"، فقالوا: يا رسول الله، أو رعيت؟ قال: "نعم، وما من نبي إلا وقد رعى".
#281#
وصح من حديث عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده: سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
خرجه البخاري في "صحيحه" منفردا به، فقال: حدثنا أحمد بن محمد المكي، حدثنا عمرو بن يحيى، فذكره.
و "أحمد" هذا هو ابن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني أبو الوليد، ويقال: أبو محمد الأزرقي المكي، وحفيده: أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي صاحب "أخبار مكة المشرفة".
وحدث بهذا الحديث أبو محمد سويد بن سعيد بن سهل بن شهريار الهروي الأنباري الحدثاني عن عمرو بن يحيى نحوه.
ورواه محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" عن سويد والأزرقي كليهما.
وفي رواية غير ابن سعد عن سويد: أنه قال في آخر الحديث: يعني كل شاة بقيراط.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي: "قراريط" موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة.
#282#
قال أبو الفضل محمد بن ناصر: وهذا هو الصحيح، وأخطأ سويد في تفسيره. انتهى.
وفي بعض طرقه ما يعضد هذا، وهو: ما خرجه أبو القاسم بن عساكر في "فضل الاكتساب" عن أبي هريرة مرفوعا: "ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم"، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وأنا كنت أرعى لأهل مكة بالقراريط".
وحدث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عبيدة النصري قال: تفاخر رعاء الإبل ورعاء الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوطأهم رعاء الإبل غلبة، قالوا: وما أنتم يا رعاء الغنم؟! هل تحمون أو تصيدون؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فتكلم فقال: "بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد"، فغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقع في هذه الرواية "عبيدة"، والمشهور: "عبدة" وهو: ابن حزن
#283#
النصري، عد في الصحابة، وذكر بعضهم أنه لا تصح له صحبة، وقيل في اسمه: "عبيدة" كما في هذه الرواية، وقيل: "بشر"، وقيل: "نصر".
و "يونس بن عمرو" هو: ابن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي الكوفي.
وحدث بالحديث النسائي في "سننه": عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن ابن حزن قال: افتخر أهل الإبل والشاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث موسى وهو راعي غنم"، وذكر الحديث.
وحدث به أبو داود الطياليسي في "مسنده" فقال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن بشر بن حزن النصري قال: افتخر أصحاب الإبل وأصحاب الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث داود وهو راعي غنم، وبعث موسى وهو راعي غنم، وبعثت أنا، وأنا راعي غنم لأهلي بجياد".
#284#
وجاء عن أبي إسحاق من قوله، وذلك فيما قاله محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال: كان بين أصحاب الغنم وأصحاب الإبل تنازع، فاستطال أصحاب الإبل، قال: فبلغنا -والله أعلم-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعث موسى عليه السلام وهو راعي غنم، وبعث داود عليه السلام وهو راعي غنم، وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد".
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: حدثنا أبي وشعيب بن الليث قالا: أخبرنا الليث بن سعد قال: حدثنا مخلد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن أمية البصري، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث نبي إلا رعى الغنم"، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها لأهل مكة بالعوارض".
فعلى هذا، كان رعيه صلى الله عليه وسلم الغنم مرتين" مرة عند ظئره "حليمة"، ومرة في "مكة" لأهلها.
قال أبو الوفاء ابن عقيل: لما كان الرعي يحتاج إلى سعة خلق وانشراح صدر لمداراة، وكان الأنبياء عليهم السلام معدين لإصلاح الأمم، حسن هذا في حقهم.
#285#
$[سياق ما روي في شرح صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم]:$
ومن أحواله صلى الله عليه وسلم عند "حليمة" أيضا: شرح الصدر وتطهيره من حظ الشيطان:
قال أبو الفرج ابن الجوزي:
فإن قيل: فلم لم يولد مطهر القلب من حظ الشيطان حتى شق صدره وأخرج قلبه وولد مقطوع السرة مختونا؟ قال ابن عقيل: لأن الله تعالى أخفى أدون التطهيرين الذي جرت العادة أن تفعله القابلة والطبيب، وأظهر أشرفهما وهو القلب، فأظهر آثار التبجيل والعناية والعصمة في طرقات الوحي.
ولما ذكر أبو القاسم السهيلي رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي سيأتي إن شاء الله تعالى في شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما" قال: فبين أن الذي التمس فيه هو: الذي يغمزه الشيطان من كل مولود، إلا عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام لقول حنة - أمهما-: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} فلم يصل إليهما لذلك، ولأنه لم يخلق من مني الرجال، فأعيذ من مغمزه، وإنما خلق -عليه الصلاة والسلام- من نفخة روح القدس.
ولا يدل هذا على فضل "عيسى" على "محمد" صلى الله عليه وسلم، [لأن محمدا
#286#
صلى الله عليه وسلم] قد نزع منه ذلك المغمز [وملئ قلبه حكمة وإيمانا بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد، وإنما كان] ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمني والشهوات، يحضرها الشيطان، لاسيما شهوة من ليس بمؤمن، فكان ذلك المغمز فيه راجعا إلى الأب لا إلى الابن المطهر صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وشرح صدره صلى الله عليه وسلم تقدم في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، وقد روي من وجوه عديدة وطرق جمة من حديث: أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وأبي ذر، وشداد بن أوس، وعتبة بن عبد، وغيرهم رضي الله عنهم.
#287#
$[رواية أنس بن مالك في شق صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم]:$
صح عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق صدره، وفي رواية: فشق عن قلبه، فاستخرج القلب واستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني: ظئره- فقالوا: إن "محمدا" قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وكنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
خرجه مسلم في "صحيحه" لحماد.
وجاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن الصلاة فرضت بالمدينة، وإن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه، فأخرجا حشوته في طست من ذهب، فغسلاه من ماء زمزم، ثم كبسا جوفه حكمة وعلما.
رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه. وهذا في قصة الإسراء. وهو في "الصحيحين" من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس.
ومن طريق الزهري، عن أنس، عن أبي ذر.
#288#
ومن رواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة:
وسيأتي في قصة الإسراء إن شاء الله تعالى.
$[رواية يحيى بن جعدة في شق الصدر]:$
وحدث يونس بن بكير الشيباني، عن أبي سنان الشيباني، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد، فشرح أحدهما صدري، ومج الآخر بمنقاره فيه فغسله".
$[رواية عتبة بن عبد في شق الصدر]:$
وروى بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان،
#289#
عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد أنه حدثهم: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا، فقلت: يا أخي، اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا.
فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم. فأقبلا يبتدراني فأخذاني فسطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين.
فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج، فغسلا به جوفي.
ثم قال: ائتني بماء برد. فغسلا به قلبي.
ثم قال: ائتني بالسكينة. فذرها في قلبي.
ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه. فخاطه وختم على قلبه بخاتم النبوة.
فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة، واجعل ألفا من أمته في كفة. فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أخشى أن يخر علي بعضهم.
#290#
فقال: لو أن أمتك وزنت به لمال بهم.
ثم انطلقا وتركاني، وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد ألبس بي.
فقالت: أعيذك بالله. فرحلت بعيرا لها وحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي. وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام".
خرجه الإمام أحمد والدارمي في "مسنديهما" وأبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة".
ورواه عباس بن محمد، عن يحيى بن معين في "تاريخه": حدثنا علي بن معبد، حدثنا بقية، عن بحير بن سعد، فذكره بنحوه، وعنده: قال: قال أحدهما لصاحبه: حصه. فحاصه.
قال عباس: فوقي، أخشى أن يخر يعني يحصه: يخيطه.
#291#
$[رواية خالد بن معدان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم]:$
وقال ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك. قال: "نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، بينما أنا في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب ممتلئ ثلجا، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه رداه كما كان.
#292#
ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته. فوزنني بعشرة فوزنتهم.
ثم قال: زنه بمائة. فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنتهم.
ثم قال: دعه عنك، فلو وزنت بأمته لوزنهم".
خرجه الحاكم في "مستدركه"، وعنده: عن خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. الحديث.
$[رواية يونس بن حلبس]:$
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مروان بن جناح، عن يونس بن حلبس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني ملك بطست من ذهب، فشق عن بطني، فاستخرج حشوة جوفي، فغسلها ثم ردها، ثم قال: قلب وكيع يعي ما وضع فيه، عيناك بصيرتان وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول الله المصطفى المقض الحاشر، قلبك سليم، ولسانك صادق ونفسك مطمئنة، وخلقك قثماء، أنت قثم".
#293#
قال مروان: "القثم": السري.
وحدث به هشام أيضا عن الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني ملك، فشق عن قلبي، فاستخرج منه غددا"، وقال: "قال: قلب وكيع يعي ما وضع فيه، عيناه بصيرتان، وأذناه سميعتان، أنت رسول الله المقفى الحاشر، قلبك سليم، ولسانك صادق، وخلقك قثم، ونفسك مطمئنة، أنت قثم".
وروى عبد الرزاق في كتابه "المغازي": عن معمر، عن الزهري أنه قال: ثم شب -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- عندها -يعني: عند حليمة- حتى سعى وأخته من الرضاعة تحضنه، جاءت [أخته] من أمه التي ترضعه فقالت: أي أمتاه، إني رأيت رهطا أخذوا أخي آنفا، فشقوا بطنه.
فقامت أمه التي ترضعه فزعة حتى تأتيهن فإذا هو جالس ينتقع لونه، لا ترى عنده أحدا، فأتت به حتى أقدمته على أمه، فقالت لها: اقبضي عني ابنكم، فإني قد خشيت عليه.
فقالت أمه: لا والله ما بابني ما تخافين، لقد رأيت وهو في بطني أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام، ولقد ولدته حين ولدته فخر معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء.
#294#
وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر هذه القصة مطولة في كتابه "أنباء نجباء الأبناء" فقال: قال شداد بن أوس رضي الله عنهما: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم أقبل شيخ من بني عامر وهو مدرة قومه -يعني: الدافع عنهم بمقاله وفعاله- مر شيخ، يتوكأ على عصى، فمثل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه إلى جده فقال: يا ابن عبد المطلب، إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، ألا وإنك تفوهت بعظيم، وإنما كانت الأنبياء [والخلفاء] في بيتين من بني إسرائيل، وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فمالك والنبوة؟! ولكن لكل حق حقيقة، فائتني بحقيقة قولك وبدو شأنك.
قال: فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بمسألته وقال له: "يا أخا بني عامر، إن لهذا الحديث الذي سألتني عنه نبأ ومجلسا، فاجلس"، فثنى رجله ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث، فقال له: "يا أخا بني عامر، إن حقيقة قولي وبدو شأني أني دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي أخي عيسى، وأني كنت بكر أبي وأمي، وإنها حملتني كأثقل ما يحمل النساء، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمي رأت في المنام
#295#
أن الذي في بطنها خرج نورا، قالت: فجعلت أتبع بصري النور، والنور يسبق بصري حتى أضاء لي مشارق الأرض ومغاربها، ثم إنها ولدتني، فنشأت وقد بغضت إلي أوثان قريش، وبغض إلي الشعر وكنت مسترضعا في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان، إذا أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملآن ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هربا، حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام، فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مسترضع فينا، وهو غلام يتيم ليس له أب، فماذا يرد عليكم قتله؟ وماذا تصيبون من ذلك؟ فإن كنتم لا بد قاتليه، فاختاروا منا أينا شئتم، فيأتيكم مكانه، فاقتلوه، ودعوا هذا الغلام، فإنه يتيم.
فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون جوابا، انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم.
#296#
فعمد أحدهم فأضجعني إضجاعا لطيفا، ثم شق بطني ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسا، ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج وأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها.
ثم قام الثاني منهم قال لصاحبه: تنح، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي، فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه، فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سواء، ثم رمى بها، ثم قال بيده يمنة منه، كأنه يتناول شيئا، فإذا بخاتم في يده يمنةً منه، كأنه يتناول شيئاً، فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه، فختم به قلبي، فامتلأ نورا، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا.
ثم قال الثالث: تنح، فنحاه عني، وأمر بيده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشرين من أمته. فوزنني فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنني فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني فرجحتهم، فقال: دعوه، فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم".
قال: "فانكبوا علي، وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني -يعني: الملائكة- وقالوا: لا ترع، فإنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك".
قال: "فبينما نحن كذلك أقبل الحي بحذافيرهم وظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: يا ضعيفاه".
#297#
قال: "فانكبوا علي، وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني -يعني الملائكة- وقالوا: حبذا أنت من ضعيف.
ثم قالت ظئري: يا وحيداه"
قال: فانكبوا علي، وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي، وما بين عيني -يعني: الملائكة- وقالوا: حبذا أنت من وحيد، وما أنت بوحيد؛ إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض.
ثم قالت ظئري: يا يتيماه! استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك.
فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي، وما بين عيني -يعني: الملائكة- وقالوا: حبذا أنت من يتيم، ما أكرمك على الله! ولو تعلم ما يراد بك من الخير لقرت عيناك".
قال صلى الله عليه وسلم: "فوصلوا إلى شفير الوادي" -يعني: الحي.
قال: "فلما أبصرتني ظئري قالت: ألا أراك حيا بعد! فجاءت حتى انكبت علي ثم ضمتني إلى صدرها، فوالذي نفسي بيده، إني لفي حجرها قد ضمتني إليها، وإن يدي لفي يد بعضهم" -يعني: بعض الملائكة.
قال: "فجعلت أنظر إليهم، فظننت أن القوم يبصرونهم، فقال بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائف من الجن، فانطلقوا به إلى كاهنا حتى ينظر إليه ويداويه".
قال صلى الله عليه وسلم: "فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر، إن أرابي سليمة وفؤادي صحيح ليست بي قلبة. فقال أبي -وهو زوج ظئري-: ألا ترون كلامه، كلام صحيح، إن لأرجو أن لا يكون بابني بأس.
#298#
فاتفقوا على أن يذهبوا بي إليه، فلما قصوا عليه قصتي قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم. فسألني فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره، فوثب إلي وضمني إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يا آل كعب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك ليبدلن عليكم دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله".
قال: "فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن، لو علمت هذا من قولك لما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتلي هذا الغلام".
قال: "فأصبحت مفزعا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي، كأنه الشراك. فذلك حقيقة قولي وبدو شأني يا أخا بني عامر".
فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله غيره أن أمرك حق.
ثم إن العامري سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل لسنا نذكرها الآن. انتهى ما علقه ابن ظفر.
[وخرج][4] هذا الحديث الحافظ أبو نعيم فقال: حدثنا يحيى بن حجر بن النعمان، حدثنا محمد بن يعلى، حدثنا عمر بن صبح، عن ثور. ح.
قال: وأخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا أحمد بن محمد بن مصقلة، أخبرنا علي بن حرب ورزق الله بن موسى، قال علي: أخبرنا أبو نعيم
#299#
العسقلاني، وقال رزق الله: حدثنا محمد بن يعلى الكوفي، قالا: حدثنا عمر بن صبح، عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس، فذكره بنحوه.
[وحدث] [5] به أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الصدائي، حدثنا محمد بن عبيد السلمي، حدثنا عمر بن صبح التميمي، فذكره مطولا بنحوه إلى قوله: "إن أمرك الحق".
وهو حديث منكر جدا مطروح، ومداره على "أبي نعيم عمر بن صبح بن عمران التميمي" وهو هالك ذامر، اعترف على نفسه بالوضع.
وله طريق أخرى مظلمة حدث بها أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي، عن الوليد بن مسلم، حدثنا صاحب لنا، عن عبد الله بن مسلم، حدثني عبادة بن نسي، سمعت أبا العجفاء يقول: حدثني شداد بن أوس قال: أقبل رجل - من بني عامر شيخ كبير يتوكأ على عصاه، وذكر الحديث مطولا بنحوه.
وهو حديث منكر لا يثبت مثله.
#300#
وقال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب، حدثني أبي، عن جدي، عن أُبي رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أول ما أنكرت من أمر النبوة؟ قال: "لقد سألت، إني لفي صحراء، وكلام فوقي يهوي إلي أسمعه، فإذا رجل يقول للآخر: هو هو؟ قالا: نعم.
فاستقبلاني بوجوه لم أر على بياضها قط، وعليهما ثياب لم أر مثل حسنها قط، ولها أرواح لم أجد ريحا من أحد قط مثله".
قال: "فأخذ أحدهما بضبعي، والآخر بضبعي الآخر، لا أجد لمسهما مسا، فقال أحدهما للآخر: أضجعه".
قال: "فأضجعاني بلا هصر ولا قصر، فقال لصاحبه: افلق صدره، ففلق صدري فيما أرى، بلا وجع ولا ألم ولا دم، فقال: أخرج منه الغل والحسد وأدخل فيه الرأفة والرحمة".
قال: "فأخرج علقة فرمى بها، وأخرج شيئا مثل الفضة فأدخله فيه وقال: هذا الرأفة والرحمة.
ثم قال بإبهامه اليمنى على صدري، ثم قال: "عد واسلم".
قال: "ثم قمت، ثم جئت بغير ما غدوت به من رحمتي للصغير ورأفتي على الكبير".
#301#
تابعه إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن عيسى.
[وحدث] [6] به عبد الله بن أحمد بن حنبل -في مسند أبيه- فقال: حدثني محمد بن عبد الرحيم أبو حيى البزار، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا معاذ بن محمد بن أبي بن كعب؛ حدثني أبي: محمد بن محمد بن معاذ، عن أبي بن كعب، عنه أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟
فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: "لقد سألت أبا هريرة! إني لفي صحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم.
فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان، حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسا.
#302#
فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر.
فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى، بلا دم ولا وجع.
فقال له: أخرج الغل والحسد. فأخرج شيئا كهيئة العلقة، ثم نبذها فطرحها.
فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، وقال: عد بها واسلم.
فرجعت بها، أعدو بها، رقة على الصغير، ورحمة للكبير".
وقال الإمام أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصري أحد الأعلام: حدثنا جعفر بن عبد الله بن عمر القرشي، أخبرني عمر بن عروة بن الزبير، سمعت عروة بن الزبير، عن أبي ذر: قلت: يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي حتى علمت ذلك واستيقنته؟
قال: "يا أبا ذر، أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، وقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: فزنه برجل. فوزنني برجل فرجحته، فقال: زنه بعشرة".
#303#
قال: "فوزنني بعشرة. فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة. فوزنني بمائة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف. فوزنني بألف فرجحتهم.
فجعلوا يتناثرون علي من كفة الميزان، فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها.
ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه. فشق بطني.
ثم قال أحدهما لصاحبه: أخرج قلبه أو قال: شق قطبه- فشقا قلبي، فأخرجا منه ضغن الشيطان وعلقة دم، ثم قال أحدهما للآخر: اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاءة، ثم دعا بالسكينة كأنها درهرهة بيضاء، فأدخلت قلبي، فقال أحدهما لصاحبه: خط بطنه. فخاطا بطني وجعلا الخاتم بين كتفي، فما هو إلا أن وليا عني، فكأنما أعاين الأمر معاينة".
"جعفر" هذا إنما هو: جعفر بن عبد الله بن عثمان بن حميد القرشي الأسدي أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.
وقوله فيه: "أخبرني عمر بن عروة" إنما هو: عمر بن عبد الله بن عروة، نسب هذا إلى جده كما وقع في بعض الأسماء.
لكن قال أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف": حدثنا بندار بن
#304#
بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا جعفر بن عبد الله القرشي، أخبرني عمر بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي؟ وبم علمت حتى استيقنت؟ فقال: "يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة" وذكر الحديث.
وفيه: "فشق بطني فأخرج قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما" الحديث.
وخرجه أبو القاسم اللالكائي في كتابه "شرح السنة" من طريق أبي داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، حدثنا عثمان بن عروة بن الزبير، سمعت عروة، فذكر بنحوه.
وفيه: "فشق قلبي فأخرج ضغن الشيطان وعلق الدم فطرحها".
وفيه: "ثم رمى بسكينة كأنها زمردة بيضاء، فأدخلت قلبي".
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" وفيه: "فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم".
#305#
وفيه: "ثم دعا بالسكينة كأنها برهرهة بيضاء، فأدخلت قلبي" الحديث.
وخرجه البزار في "مسنده" وغير واحد من الأئمة.
وهو في الثاني من حديث بكار بن قتيبة رواية أبي الحسن أحمد بن سليمان بن حذلم القاضي عنه.
وفيه: "ثم دعا بالسكينة كأنها درهمة بيضاء، فأدخلت قلبي" الحديث.
وفي بعض طرقه: "رهرهة".
وقد اختلف في هذه اللفظة وفي تفسيرها، فقيل: "الرهرهة": بصيص لون البشرة.
وقال الخطابي: عثرت على رواية وفيها: "أنه شق عن قلبه. قال: فدعا بسكينة كأنها درهمة بيضاء"، فوقع لي: أنه أراد بـ: "البرهرهة": سكينة بيضاء صافية الحديد، شبيها بالبرهرهة من النساء في بياضها وصفاء لونها.
#306#
ورجح ابن الأنباري أنها: "درهرهة"- بدال، وقال: هي السكينة المعوجة الرأس، التي يسميها العامة "المنجل"، وأصله من كلام الفرس: "دره"، فعربته العرب وزادت فيه حروفا.
ورد ابن الأنباري على القتيبي قوله في هذا الحرف: التمست له مخرجا فلم أجده، إلا أن تكون الهاء مبدلة فيه من الحاء لقرب مخرجها، فكأنه أراد: "جيء بطست رحراح"، أي: واسع.
قال ابن الأنباري: وهذا بعيد؛ لأن الحاء لا تبدل من الهاء في كل موضع، وإنما هو روي عن العرب ولا يقاس، وإنما هي "درهرهة"، فأسقط الراوي الدال سهوا.
نقل ابن دحية هذا التفسير في كتابه "التنوير".
وقال أبو الحسن ابن سيده في كتابه "المحكم": و"طس رهرهة": صافية براقة، وفي حديث المبعث: فأتي بطس رهرهة. انتهى.
#307#
$[ما روي في خاتم النبوة الشريف]$
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "وجعلا الخاتم بين كتفي": دليل على أن خاتم النبوة وضع حينئذ بين كتفيه.
وقيل: ولد، وخاتم النبوة بين كتفيه، كما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه: كان بمكة يهودي يتجر فيها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ الحديث.
وفي آخره: "فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيا عليه". الحديث.
وذكر ابن عائذ أنه صلى الله عليه وسلم ختم بالخاتم حين وضعه.
وقد يجمع بينهما بأن يقال: ولد بالشامة التي هي مستقر الخاتم
#308#
والمحيط به، ثم وقت شرح صدره ختم المكان المذكور بالخاتم الشريف.
وخاتم النبوة من علامة نبوته التي كان يعرفه بها أهل الكتاب ويسألون عنها ويطلبون مشاهدتها.
وقال أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة في كتابه "فضائل الصحابة رضي الله عنهم": حدثنا محمد بن سليمان الجوهري، حدثنا وهب بن محمد البناني -إمام مسجد باب البصريين-، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن أبي عصام، عن أبي قيس -مولى عمرو بن العاص-، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم واليا على "عمان"، فأتيتها، فخرج إلي أساقفتهم ورهبانهم، فقالوا: من أنت؟
فقلت: أنا "عمرو بن العاص بن وائل السهمي": رجل من قريش.
قالوا: ومن بعثك؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: من هو؟
#309#
قلت: "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم"، رجل منا قد عرفناه وعرفنا نسبه، يأمرنا بمكارم الأخلاق وينهانا عن مساوئها، وأمرنا أن نعبد الله وحده.
قال: فصيروا أمرهم إلى رجل منهم، فقال لي: هل به من علامة؟
قلت: نعم؛ لحما متراكبا بين كتفيه يقال له: خاتم النبوة.
قال: فهل يأكل الصدقة؟ قلت: لا.
قال: فهل يقبل الهدية؟ قلت: نعم، ويثيب عليها.
قال: فكيف الحرب بينه وبين قومه؟
فقلت: سجالا، مرة له، ومرة عليه.
قال: فأسلم وأسلموا، ثم قال لي: والله، لئن كنت صدقتني لقد مات في هذه الليلة. أو: لقد أتى على أجله في هذه الليلة.
قال: ماذا تقول؟
قال: والله، لئن كنت صدقتني لقد صدقتك.
قال: فمكثت أياما فإذا راكب قد أناخ يسأل عن عمرو بن العاص. فقمت إليه مفزوعا، فناولني كتابا فإذا عنوانه: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى عمرو بن العاص.
فأخذت الكتاب ودخلت البيت ففككته فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد، فإن الله تعالى بعث نبيه حيث شاء، وأحياه ما شاء، ثم توفاه حين شاء، وقد قال في كتابه الصادق: {إنك ميت وإنهم ميتون} وإن المسلمين قلدوني أمر هذه الأمة عن غير إرادة مني ولا محبة، فاسأل الله العون والتوفيق، فإذا أتاك كتابي فلا تحلن عقالا عقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعقلن عقالا حله، والسلام.
#310#
فبكيت بكاء طويلا، ثم خرجت إليهم فأعلمتهم فبكوا وعزوني. وذكر بقيته.
وقد روي: أن هرقل أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ينظر له خاتم النبوة ثم يخبره عنه، وذلك فيما قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو بكر الحميدي، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد قال: لقيت التنوخي رسول "هرقل" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"حمص"، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ "الفنداء" وقريبا، فقلت: ألا تخبرني؟ قال: بلى، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبوك"، فإذا هو جالس بين ظهري أصحابه محتب على الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أخا تنوخ"، فأقبلت أهوي حتى كنت قائما بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، ثم قال: "هاهنا امض لما أمرت به". فجلت في ظهره صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة.
وقد جاء مطولا فيما رواه موسى بن هارون:
#311#
حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول "قيصر" جاء زمن "معاوية بن أبي سفيان"، فقلت له: أخبرني عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل "دحية الكلبي" إلى "قيصر"، وكتب كتابا يخيره من إحدى ثلاث: إما أن يسلم، فله ما في يديه، وإما أن يؤدي الخرج، وإما أن يأذن بحرب.
قال: فجمع بطارقته وقسيسيه في قصره، وأغلق عليهم الباب وقال: إن محمدا بعث إلي يخيرني ثلاثا: إما أن أسلم ولي ما في يدي من ملكي. وإما أن أؤدي له الخرج. وإما أن أوذن بحرب، وقد يجدون فيما يقرأون من كتبهم أنه سيملك ما تحت قدمي من ملكي.
قال: فتحيروا بخبره، حتى إن بعضهم خرجوا من برانسهم وقالوا: نرسل إلى رجل من العرب في برديه ونعليه بالخرج!!
قال: اسكتوا، إنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم ورغبتكم فيه.
قال: ثم قال: ابعثوا لي رجلا من العرب. فجاؤوا بي، فكتب معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وقال: انظر ما سقط عليك من قوله، ولا يسقطن عنك ذكر الليل والنهار.
قال موسى: وزاد غير حماد بن سلمة فيه: وما ضيعت فلا تضيعن ثلاث خصال: هل يذكرن كتابه إلي شيء، وانظر: إذا قرأ كتابه إليه هل يذكر الليل والنهار، وفي ظهره هل ترى من شيء يريبك.
#312#
رجع الحديث إلى رواية حماد بن سلمة قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه، وهم محتبون بحمائل سيوفهم حول "بئر تبوك"، فدفعت إليه الكتاب فوضعه في حجره.
ثم قال: "ممن الرجل؟"
قلت: امرؤ من "تنوخ".
فقال: "هل لك في دين أبيك الحنفية؟"
فقلت: إني رسول قومي وعلى دينهم حتى أرجع إليهم.
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية ونظر إلى أصحابه ثم قال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}.
قال: ثم دفع الكتاب إلى رجل إلى جنبه، فقلت: من هذا؟
فقيل: معاوية بن أبي سفيان.
ففكه، فلما قرأه فإذا في الكتاب: إنك تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض؛ فأين النار؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، إذا جاء الليل فأين النهار؟!"، فكتبته.
ثم قال: "إنك رسول قوم وإن لك حقا، ولكنك جئتنا ونحن مرملون".
فقال عثمان بن عفان: أنا أكسوه حلة صفورية.
وقال رجل من الأنصار: علي ضيافته.
وقال لي قيصر فيما يقول: "انظر إلى ظهره"، فلما قفيت قال له جبريل: إنه قد أمر أن ينظر إلى ظهرك، فدعاني فقال: "امض لما
#313#
أمرت"، وكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم في كتفه، وذكر الحديث.
خرجه بطوله دعلج في "مسند المقلين" فقال: حدثنا موسى بن هارون، فذكره.
وحدث به أبو يعلى الموصلي، عن حوثرة بن أشرس، عن حماد.
وفي هذا الكتاب التخيير زيادة على ما في "الصحيحين"، لكن يشكل قوله في هذا الحديث: وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "وهو مع أصحابه وهم محتبون بحمائل سيوفهم حول "بئر تبوك" مع قول أبي سفيان: "إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش" .. .. الحديث.
وفيه: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، وهذا كان قبل الفتح- "مكة" لقوله: "في المدة"؛ ولأن أبا سفيان قال في آخر الحديث: ما زلت ذليلا مستيقنا بأن أمره سيظهر، حتى أدخل الله الإسلام علي.
وإسلام أبي سفيان إنما كان في سنة الفتح سنة ثمان من الهجرة.
وأيضا، فإن الكتاب إلى "هرقل" لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة سنة ستة، فكتبه في المحرم سنة سبع وسار به دحية كما هو معروف عند أهل السير.
#314#
قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي، حدثني معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال يعني الواقدي: وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة.
قال: وحدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه.
قال: وحدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن جدته: الشفاء.
قال: وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن محمد بن يوسف، عن السائب عن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي.
قال: وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن جعفر بن عمرو بن جعفر بن [عمرو بن أمية الضمري، عن أهله عن عمرو بن أمية الضمري] دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب كتبا، فقيل له: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرؤون كتابا إلا مختوما. فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خاتما من فضة فصه منه، نقشه ثلاث أسطر: محمد رسول الله، وختم به الكتب، فخرج منهم ستة نفر في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع، وأصبح كل واحد منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى
#315#
"قيصر" ملك الروم "دحية بن خليفة الكلبي"، وإلى "المقوقس" صاحب "مصر" و"إسكندرية" حاطب بن أبي بلتعة، وإلى "كسرى" "عبد الله بن حذافة السهمي"، وأرسل إلى "الحارث بن أبي شمر" وكان نصرانيا غريبا بظاهر دمشق بعث إليه "شجاع بن وهب الأسدي"، وأرسل إلى غير هؤلاء.
ففي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم كتب كتاب "قيصر" وأرسل به "دحية" في محرم سنة سبع.
وفي حديث سعيد بن أبي راشد المتقدم ما يشعر أنه كان في غزوة "تبوك"، وذلك كان في سنة تسع، لا خلاف في ذلك فيما أعلم.
لكن يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ورد "تبوك" كتب إلى "قيصر" كتابا ثانيا يخيره بين: الإسلام أو أداء الخرج أو المحاربة؛ لأن ظاهر لفظ الكتاب غير لفظ الكتاب المذكور في "الصحيحين"، وهو يقوي ما ذكرناه من الاحتمال.
ويحتمل أن يكون قدوم الكتاب كان على "هرقل" في سنة سبع، ورده الجواب كان والنبي صلى الله عليه وسلم في تبوك حين قرب منهم، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال أبو القاسم السهيلي: وقد روي أن "هرقل" وضع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب إليه في قصبة من ذهب؛ تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه كابرا عن كابر في أرفع صوان وأعز مكان، حتى كان عند "أذفونش" الذي تغلب على "طليطلة"، وما أخذ أخذها من بلاد الأندلس، ثم كان عند ابن بنته معروف بـ: "السليطين".
#316#
قال السهيلي: وحدثني بعض أصحابنا أنه حدثه من سأله رؤيته من قواد أجناد المسلمين كان يعرف بـ "عبد الملك بن سعيد"، قال: فأخرجه إلي فاستعبرت وأردت تقبيله، وأخذه بيدي، فمنعني من ذلك صيانة له أو ضنا علي به.
قلت: كان دخول "الأذفونش" "طليطلة" في المحرم سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، وكان هلاكه في سنة اثنتين وخمس مائة، وكان هلاك "السليطين" -لعنه الله- سنة إحدى وخمسين وخمس مائة.
وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إسماعيل الأنصاري الحريري المغربي: وصل هذا الكتاب إلى "إشبيلية" عام ثمانية وستمائة واردا على إمام الوقت: الناصر ابن أمير المؤمنين، من ملك "ليون" وسماه لكن ذهب اسمه من كتابي-، مفتخرا به متشرفا بوراثته، وهو اليوم بيد ولده "فراقدة" وارثه ووارث أمه بنت "أذفونش" في ملك "أذفونش"، فهو صاحب "قشتالة" وبلاد الأندلس اليوم، بيده كـ: "قرطبة" و"إشبيلية" و"جيان" وما أخذ أخذها.
وهذا الكتاب الشريف جاءت الرواية: أن "هرقل" عظمه وجعل له قصبة من ذهب وأدخله فيها صيانة له، ولم تزل ملوكهم يتداولونه حفظا له وتبركا به، وآخر العهد بوجوده في أيام الملك المنصور "قلاوون".
#317#
$[عود إلى وصف الخاتم النبوي الشريف]:$
وهذا الخاتم الشريف جاءت فيه وفي صفته أحاديث عدة: من حديث السائب بن يزيد، وسلمان، وأبي سعيد، وجابر بن سمرة، وبريدة، وعبد الله بن سرجس، وعمرو بن أخطب، وقرة بن إياس، وأبي أمامة، وأبي رمثة، ورميثة بنت عمر بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، وغيرهم، رضي الله عنهم.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل "زر الحجلة"]:$
ومن ذلك: ما أخرجاه في "الصحيحين" من حديث حاتم بن إسماعيل، عن الجعيد بن عبد الرحمن، عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابن أختي وجع. فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة.
وفي لفظ: فنظرت إلى خاتم النبوة.
ورواه محمد بن عبيد الله وإبراهيم بن حمزة، عن حاتم. وقالا: عن الجعيد.
ورواه عبد الرحمن بن يونس، وقتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد، عن حاتم أيضا، إلا أنهم قالوا: عن "الجعد" مكبرا.
#318#
تابعه الفضل بن موسى السيناني، عن الجعيد، مختصرا.
قال البيهقي في كتابه "الدلائل" عقب رواية الحديث: هكذا، المعروف: "زر الحجلة". وقال إبراهيم بن حمزة عن حاتم: "رز الحجلة" الراء قبل الزاي.
وحكى أبو سليمان عن بعضهم: إن "رز الحجلة": بيض الحجل. انتهى.
والمعروف الأول كما قاله البيهقي.
وقال الذهبي: ووهم من قال: "رز الحجلة: هو بيضها". قاله في "تاريخ الإسلام".
والحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار، وتجمع على "حجال".
قاله صاحب "النهاية".
وصححه النووي رحمه الله وحكاه عن الجمهور، وتجمع أيضا على "حجل" حكاه الزبيدي في "مختصر العين".
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل الجمع]:$
وروى حماد بن زيد، عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن سرجس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فدرت من خلفه،
#319#
فعرف الذي أردت فألقى الرداء عن ظهره فرأيت موضع الخاتم على نغض كتفه مثل الجمع حوله خيلان، كأنها الثآليل، فرجعت حتى استقبلته، فقلت: غفر الله لك يا رسول الله. فقال: "ولك" فقال القوم: استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولكم، ثم تلا هذه الآية: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" عن ابن أبي الأشعث -وهو: أحمد بن المقدام العجلي- عن حماد.
تابعه الحسين بن يحيى بن عباس عن العجلي. وهو في "صحيح مسلم" لحماد بن زيد وعلي بن مسهر وعبد الواحد بن زياد، عن عاصم الأحول نحوه.
رواه شعبة والوضاح اليشكري وثابت بن يزيد، عن عاصم.
واسم الرداء الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهره: الفيح. قاله البرقي فيما حكاه عنه ابن دحية.
وقال أحمد بن حنبل: حدثنا هشام بن لاحق المدائني، حدثنا عاصم، عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الخاتم في مرجع كتف النبي صلى الله عليه وسلم كالثآليل.
#320#
حدث به عبد الله بن أحمد عن أبيه في كتاب "العلل".
وحدث به البغوي في "معجمه" عن علي بن الجعد أخبرنا شريك، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت عليه، وأكلت من طعامه، وشربت من شرابه، ورأيت خاتم النبوة في نغض كتفه اليسرى كأنها جمع خيلان سود، كأنها ثآليل.
وخرجه أبو محمد دعلج بن أحمد في "مسند المقلين" من حديث روح بن عبادة، حدثنا هشام بن حسان القردوسي، عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه من خلفه، فأرسل ثوبه، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والخاتم عند نغض كتفه اليسرى مثل جمع خيلان الكف.
قال: وقبض هشام على كفه وجمع أصابعه.
و"النغض" بضم النون وتفتح أيضا - هو: العظم الرقيق على أعلى الكتف.
وقيل: هو أعلى الكتف.
وقال أبو عبيد الهروي: قال شمر: الناغض من الإنسان: أصل العنق، حيث ينغض رأسه، و"نغض الكتف" هو: العظم الرقيق على طرفها. وقال غيره: "الناغض": فرع الكتف. انتهى.
#321#
و"جمع الكتف" -بالضم-: قبضها. و"الخيلان": جمع "خال"، وهي: النكتة السوداء تكون في البدن.
وجاء في بعض طرقه: "عند نغض كتفه الأيمن"، وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: بين كتفيه خاتم النبوة، وهو أقرب إلى كتفه اليمنى. وسيأتي بطوله إن شاء الله تعالى.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث زيد بن أبي أنيسة، عن يحيى بن الحصين، عن جدته: أم الحصين قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت بلالا وأسامة، بلال فيقود خطام راحلته والآخر رافعا ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة ثم انصرف وقد جعل ثوبه تحت إبطه الأيمن على عاتقه الأيسر، فرأيت تحت غضروف كتفه الأيمن كهيئة جمع الكف، الحديث.
وسيأتي بتمامه - إن شاء الله - في: حجة الإسلام.
$[ما روي أن خاتم النبوة مثل "الخيلان الأسود"]:$
وجاء عن عزرة بن ثابت، حدثني علباء بن أحمر، حدثني أبو زيد الأنصاري رضي الله عنه قال: رأيت خاتم النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعا كأن فيه خيلانا
#322#
سوداء.
"أبو زيد" هذا: عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاري رضي الله عنه.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" من حديث عزرة بنحوه، ولفظه: قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا زيد، ادن مني فامسح ظهري"، فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم. قلت: وما الخاتم؟ قال: شعرات مجتمعات.
$[ما روي أن خاتم النبوة شامة سوداء]:$
وجاء في وصف الخاتم الشريف أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أنه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، وحولها شعرات متواليات، كأنهن من عرف فرس، في حديث طويل سيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الهجرة.
وفيه: ومنهم من قال: كانت شامة النبوة بأسفل كتفه خضراء منحفرة في اللحم قليلا.
خرجه أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه".
وقد قدمنا فيما خرجه ابن سعد في "الطبقات" من طرق إلى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قصة اليهودي الذي سكن بمكة يتجر فيها، وفي وصفه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: به شامة بين كتفيه، سوداء صفراء، فيها شعرات متواترات.
#323#
وقد تقدم قريبا من حديث عبد الوارث بن سعيد عن أبي عصام عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو: أنه سأله أساقفة "عمان" ورهبانهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم صيروا أمرهم إلى رجل منهم، قال عمرو: فقال لي: هل به من علامة؟ قلت: نعم، لحما متراكبا بين كتفيه يقال له: خاتم النبوة. وذكر بقيته.
و"أبو عصام" هو: "خالد بن عبيد" فيما أعلم.
و"أبو قيس" قيل: اسمه: "عبد الرحمن بن ثابت".
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل اللحمة الناتئة]:$
قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن ميسرة، حدثنا عتاب، سمعت أبا سعيد يقول: الختم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم لحمة ناتئة.
ورويناه من حديث أبي علي حنبل بن إسحاق بن حنبل الشيباني، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن ميسرة، سمعت عتابا يقول:
#324#
سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الخاتم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم لحمة ناتئة.
وقال دعلج في كتابه "مسند المقلين": حدثنا ابن شيرويه، حدثنا إسحاق، أخبرنا وكيع، حدثنا سفيان، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: انطلقت مع أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت على كتفه مثل التفاحة، فقال له أبي: إني طبيب، أفلا أبطها لك؟ قال: "طبيبها الذي خلقها".
ورواه عثمان بن أبي شيبة عن وكيع.
وهو أحد الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلما إخراجها.
#325#
والحديث له طرق.
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- صفة الخاتم كالتفاحة أيضا في حديث بحيرا.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة]:$
وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام.
تابعه حسن بن صالح بن حي، عن سماك.
وفي لفظ في "الصحيح" أيضا من رواية إسرائيل عن سماك، عن جابر قال: ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده.
وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، أنه سمع جابر بن سمرة رضي الله عنه يقول: رأيت الخاتم الذي كان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بيضة الحمامة، لونها لون جسده.
وخرجه الترمذي في "جامعه" ولفظه: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: الذي بين كتفيه- غدة حمراء، مثل بيضة الحمامة.
#326#
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" من حديث سلامة العجلي، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فألقى رداءه وقال: "يا سلمان، انظر إلى ما أمرت به"، قال: فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" مطولا من حديث علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن سلمان، نحوه.
$[ما روي في أن خاتم النبوة كعذرة الحمامة]:$
وجاءت رواية: أنه عذرة كعذرة الحمامة. قال أحد رواته: يعني: قرطمة الحمامة.
وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم: أن الخاتم كأنه بيضة حمامة، مكتوب في باطنها: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها: توجه حيث شئت؛ فإنك المنصور.
علقه ابن دحية في كتابه "التنوير" عن الترمذي الحكيم.
والترمذي هذا كأنه أخذه من حديث مطروح في قصة إسلام سلمان
#327#
الفارسي فيما زعم راويه أن الذي صحبه "سلمان" إلى بيت المقدس، واشتغل بالمقعد عنه، وطلبه فلم يجده وصف له النبي صلى الله عليه وسلم بوصف فيه: بين كتفيه بيضة كبيضة الحمام، وذكره كما تقدم.
وهذا باطل لا يلتفت إليه.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل البندقة]:$
وقال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه": أخبرنا نصر بن الفتح بن سالم الربعي العابد بـ"سمرقند"، حدثنا رجاء بن مرجى الحافظ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان خاتم النبوة في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البندقة من لحم عليه مكتوب: محمد رسول الله.
#328#
وهذا أيضا باطل لا يصح، والعجب من ابن حبان حيث جعله صحيحا، والمتهم به شيخه نصر بن الفتح، والله أعلم، فإسناده جيد لولا "نصر" هذا، قال الذهبي: أظنه وضع هذا الحديث. انتهى.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل دارة القمر]:$
وقال أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري الدمشقي في كتابه "صفة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثني محمد بن عثمان بن جبلة الأنصاري وأحمد بن محمد التميمي البيساني، حدثنا عبد الوارث بن الحسن بن عمرو القرشي البيساني، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل قوم من اليهود إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقالوا له: يا أبا بكر، صف لنا صاحبك. فقال: معاشر يهود، لقد كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار كأصبعي هاتين، ولقد صعدت معه جبل "حراء" وإن خنصري لفي خنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم شديد، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فأتوا عليا فقالوا: يا أبا الحسن، صف لنا ابن عمك.
فقال علي رضي الله عنه: لم يكن حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم بالطويل الذاهب طولا ولا بالقصير المتردد. وذكر الحديث بطوله في صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: بين كتفيه كدارة القمر ليلة البدر، مكتوب بالنور سطران: السطر
#329#
الأعلى: لا إله إلا الله، وفي السطر الأسفل: محمد رسول الله. وذكر الحديث، وفيه: وإذا التفت التفت بمجاميع بدنه، وإذا قام غمر الناس، وإذا قعد علا على الناس، وإذا تكلم أنصت له الناس.
وهو حديث طويل موضوع من نمط الحديث الذي قبله، وأنا أتهم به "عبد الوارث البيساني"، مع أن "أبا علي محمد بن هارون" كان يتهم فيما قاله الحافظ عبد العزيز الكناني، لكنه فيما يغلب على ظني ويقوى أنه بريء منه، وإنما الآفة -والله أعلم- "البيساني" هذا، وإنما ذكرت هذا للمعرفة، ولهتك حاله.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل التينة الصغيرة]:$
وجاء عن عائشة رضي الله عنها: أن الخاتم كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة. وكان مما يلي الفقار، قالت: فلمسته حين توفي صلى الله عليه وسلم فوجدته قد رفع.
#330#
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل البضعة الناشزة]:$
وخرج الترمذي في "الشمائل" من حديث أبي عقيل الدورقي، عن أبي نضرة: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن خاتم النبوة، فقال: كان في ظهره صلى الله عليه وسلم بضعة ناشزة.
وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا سريج، حدثنا أبو ليلى -قال أحمد: سماه سريج: "عبد الله بن ميسرة الخراساني"- عن غياث البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة، فسألته عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان بين كتفيه، فقال بإصبعه السبابة هكذا: لحم ناشز بين كتفيه صلى الله عليه وسلم.
وحدث به يونس بن بكير في "المغازي" عن أبي ليلى، حدثنا عتاب البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري، فيبسط له على بابه بساط، ثم يجعل له عليه وسادة، فيجلس على البساط، ويتكئ على الوسادة، ونحن حوله نحدق به، فسألته عن الخاتم الذي كان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
#331#
ما كان؟ قال: وأشار أبو سعيد بالسبابة ووضع الإبهام على أول مفصل أسفل من ذلك قال يونس: أخرج المفصل -كله- قال: كانت بضعة ناشزة بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذا قال يونس: "ابن عتاب".
وهكذا ذكره البخاري في "التاريخ" في: باب عتاب، ونسبه عن يونس.
ووقع في رواية أحمد السابقة: "غياث"، وقد ذكر فيه الأمير أبو نصر ابن ماكولا الوجهين.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن ميسرة، حدثنا غياث، سمعت أبا سعيد رضي الله عنه يقول: الختم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم لحمة ناتئة.
وخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا معاوية بن قرة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرني الخاتم. فقال: "أدخل يدك"، فأدخلت يدي في جربانه، فجعلت ألمس، أنظر إلى الخاتم، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي، وإن يدي لفي جربانه.
#332#
تابعه يحيى بن أبي طالب عن أبي داود الطيالسي بنحوه، وقال: "مثل السلعة" ولم يقل: البيضة.
وعلقه قاسم بن ثابت في "الدلائل" فقال: ويروى عن وهب، عن قرة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته أن أدخل يدي فأمس الخاتم، فأدخلت يدي في جربانه، وإنه ليدعو لي، فما منعه وأنا أمسه أن دعا لي، فوجدت على نغض كتفه مثل السلعة خاتم النبوة.
الجربان -بضمتين وشد الموحدة، ويقال بتخفيفها مع سكونها-: وعاء من أدم يكون فيه السيف بغمده، وهو ههنا: الجيب.
قال قاسم بن ثابت: قال الفراء: "الجربان": حد السيف، وعلى لفظه "جربان القميص" بالضم.
وقال شمر: هو "الجربان" بالضم والتخفيف، وأنشد:
وعن الشمائل أن يهاج بنا ... جربان كل مهند عضب
انتهى.
#333#
و"السلعة" في أحد معانيها: غدة في العنق تموج إذا حركتها.
قاله الزبيدي في "مختصر العين".
وذكر السهيلي صفة الخاتم الشريف كأثر المحجمة القابضة على اللحم، حتى يكون ناتئا.
وقد تقدم فيما ذكره ابن إسحاق من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها حديث اليهودي الذي سكن مكة يتجر بها، وأخبرني في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ولد نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس.
وروى ابن أبي خيثمة نحوه، وتقدم.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل ركبة العنز]:$
وقال بشر بن آدم: حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا بشر بن صحار الأعرجي، أخبرني المعارك بن بشر بن عياذ وغير واحد من أعمامي،
#334#
عن عياذ بن عمرو وكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فخاطبه يهودي فسقط رداؤه عن منكبه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يرى الخاتم، فسويته عليه، فقال: "من فعل هذا؟"، قلت: أنا. قال: "تحول إلي"، فجلست بين يديه، فوضع يده على رأسي فأمرها على وجهي وصدري وقال: "إذا أتانا سبي فائتني"، فأتيته، فأمر لي بجذعة، وكان الخاتم على طرف كتفه الأيسر، كأنها ركبة عنز.
حدث به الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن بشر.
تابعه الحسن بن سفيان عن بشر.
ورواه البخاري في "تاريخه الكبير" بلفظ غير هذا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
$[ما روي في أن خاتم النبوة كان نورا]:$
وذكر أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ: أن الخاتم كان نورا يتلألأ.
وقد روي: أن النور كان يجري فيه.
وجاء عن جابر رضي الله عنه قال: أردفني النبي صلى الله عليه وسلم، فالتقمت خاتم النبوة
#335#
بفمي، فكان يثج علي مسكا.
وهذا الخاتم أحد خصائصه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بجسمه الشريف:
قال أبو خالد زيد بن محمد بن رفاعة اللخمي قال: قرأت على الفقيه الحاج أبي عبد الله محمد بن علي الرعيني، سمعت الفقيه المتكلم أبا بكر محمد بن سابق الصقلي يقول: المعجزات المختصة بجسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة:
الأولى: كانت تنام عينه ولا ينام قلبه.
#336#
والثانية: خاتم النبوة الذي كان بين كتفيه.
والثالثة: أنه كان يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه.
والرابعة: نبع الماء من بين أصابعه.
والخامسة: أنه كان عرقه أفوح من ريح المسك.
والسادسة: أنه كان إذا مشى لا ظل له.
والثامنة: أنه ما واكبه أحد إلا علاه صلى الله عليه وسلم.
والتاسعة: أنه ولد مختونا مقطوع السرة.
والعاشرة: أنه كان لا يرى له نجو؛ لأن الأرض كانت تبتلعه.
قلت: قصر في هذا الحصر: ابن سابق، وكل من سلك سبيله غير مدرك ولا لاحق، فمعجزات ذلك البدن الشريف، وخصائص ذاك الجسم المعظم اللطيف، تكون فيما يحد أو تحصر بعشرة تعد، كلا والله بل هي تنيف على الألوف، فمنها ما عرفنا ومنها غير معروف، لا يحيط بعلمه إلا من منحه إياه وفضله به لا إله سواه.
ومما عرفناه واتصل إلينا مما رويناه -غير ما ذكره ابن سابق في مقالته- وإن كان مفرقا في هذا الكتاب بدلالته.
ما أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من قوة أربعين رجلا في البطش والنكاح على التمام.
ومنها: سبقه أصحابه إذا مشوا في صحبته، فيجهدون أنفسهم وهو غير مكترث في مشيته، حتى قال من سبر حاله: كأنما الأرض تطوى له.
ومنها: أنه لم يحتلم قط في المنام، ويروى أن الأنبياء كذلك -عليهم الصلاة والسلام، وذلك فيما رواه إبراهيم بن أبي حبيبة- وهو متروك -،
#337#
عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام تعقب من الشيطان.
ومن خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المذكورة: أنه كان إذا مسك جمادا بيده وثناه لان وانقاد معه لهواه.
ومنها: تكثير القليل بمسه، وبروء العاهات بلمسه.
ومنها: أنه كان أفصح الناس لسانا وأبلغهم منطقا وبيانا.
ومنها: الجلالة التي حصلت لديه، والمهابة التي ألقيت عليه. قالت زينب بنت عبد الله الثقفية زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة.
ومنها: أنه كان من بعيد أجمل الناس وأبهاه، ومن قريب أحسن الناس وأحلاه.
ومنها: أنه كان إذا نطق ففتح فاه رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه.
ومنها: كان إذا ضحك يتلألأ في الجدر ضياؤه وسناه.
ومنها: أن أسارير وجهه كانت تبرق حين السرور، ويجري لذلك في أسرة جبهته النور.
ومنها: أن وجهه كان يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، ومثله جابر بن سمرة بالشمس والقمر، وهو أعظم منها في القدر.
ومنها: أنه كان فرد المخلوقات وأحسن الموجودات، كما قال علي رضي الله عنه في آخر وصفه له، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.
ومنها: أن صدره شرح وملئ بالحكمة والإيمان ثم أعيد من غير ألم
#338#
كما كان.
وقد تكلم بعضهم بمعنى -وسبق إليه- في وجه المناسبة بين شرح صدره ووضع الخاتم بين كتفيه، فأخذ ابن دحية كلاما لشيخه السهيلي وزاد عليه، فقال: والحكمة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار أنه صلى الله عليه وسلم لما ملئ قلبه حكمة وإيمانا كما ثبت في الصحيح ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، فجمع الله عز وجل أجزاء النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم وتممه وختم عليه بختمه، فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا من أجل ذلك الختم، لأن الشيء المختوم محروس، وكذلك تدبير الله تعالى لنا في هذه الدنيا إذا وجد الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين، الآدميين، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما تطامن له القلب، وبقي النور فيه، ونفذت فيه قوة القلب إلى الصلب، فظهرت بين الكتفين كالبيضة.
وكونه عند نغض كتفه: فلأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم.
روى ميمون بن مهران، عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه عز وجل أن يريه موضع الشيطان منه، فأري جسدا ممهى يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه حذاء قلبه، له خرطوم كخرطوم البعوضة، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله العبد خنس.
#339#
ذكره النمري.
و"ممهى": أي: صفاء أشبه "المها"، وهو البلور، وهو مقلوب، من "مموه". انتهى.
والذي ذكره أبو عبيد الهروي في تفسير هذه اللفظة في حديث عمر بن عبد العزيز: أنه رأى فيما يرى النائم جسد رجل ممهى يرى داخله من خارجه، كل شيء صفي فأشبه المها، فهو ممهى، و"المها": الحجارة البيض التي تبرق، وهي البلور، ويقال للثغر إذا ابيض وكثر ماؤه: "مها". قال الشاعر:
ومها ترف عزوبة ... تشفي المتيم ذا الحرارة
وفي "مختصر العين" للزبيدي: و"المها": البلور، ويقال: الدر.
قلت: وجاء مصرحا بالبلور في الحديث فيما رواه أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتابه "مكائد الشيطان" فقال: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا أبو حفص الحبطي، حدثنا الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه عز وجل أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فلما كان في الحول رأى فيما يرى النائم
#340#
جسد رجل يشبه البلور، يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفدع قاعد عند منكبه الأيسر، بين منكبه وأذنه له خرطوم طويل دقيق، قد أدخله من منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله عز وجل خنسه.
وقال أيضا في الكتاب المذكور: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ما من إنسان إلا وشيطان متبطن فقار ظهره، لاو عنقه على عاتقه فاغرا فاه على قلبه.
وقال أيضا في الكتاب: حدثني الحسين بن السكن القرشي، حدثنا المعلى بن أبي الأسد، حدثنا عدي بن أبي عمارة، حدثنا زياد النميري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان واضع خطمه في قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسي الله التقم قلبه".
تابعه الحماني ومحمد بن أبي بكر المقدمي، عن عدي بن أبي عمارة بنحوه.
وهو في "مسند أبي يعلى الموصلي"، وخرجه ابن عدي في "الكامل" وضعفه.
#341#
وجاء عن عبد الله شقيق قال: ما من آدمي إلا لقلبه بيتان، في أحدهما الملك، وفي الآخر الشيطان، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره في قلبه ووسوس له.
خرجه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "فضائل الكتاب" بسند جيد إلى عبد الله بن شقيق.
وجاء عن فرج بن فضالة عن عروة، قال: إن عيسى عليه السلام دعا ربه عز وجل قال: يا رب، أرني موضع الشيطان من ابن آدم. فجلى له ذلك، فإذا له رأس كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب، فإن ذكر الله خنس، وإن ترك الذكر مناه وحدثه، فذلك قوله تعالى: {من شر الوسواس الخناس}.
وقال بعضهم في كون الخاتم الشريف جعل في ظهر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في صدره ولا في مكان غير ظهره:
قال: فيه دليل على أنه ليس بعده نبي يأتي من ورائه لأنه ختم في ظهره خاتم النبوة، فلم يبق من ورائه نبي يأتي. انتهى.
#342#
$[عود إلى ما روي في شرح صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم]$
وشرح صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم كان مرتين:
مرة عند ظئره حليمة، سنة ثلاث من مولده صلى الله عليه وسلم وقيل: سنة أربع.
والمرة الثانية: ليلة الإسراء، كما ثبت في "الصحيحين" وكتب الإسلام.
وقد جاء: أنه شرح صدره صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من مولده، كما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وتقدم في بعض طرقه: أن الملك عليه السلام لما شق قلبه -عليه أفضل الصلاة والسلام- قال: قلب وكيع، فيه عيناه بصيرتان، وأذناه سميعتان.
وروي: "قلب وكيع واع".
#343#
و"وكيع": معناه: متين، فسره بذلك أبو عبيد الهروي، قال: ومنه يقال: "سقاء وكيع" أي: محكم الخرز.
وفي "مختصر العين" للزبيدي: "واستوكع السقاء": إذا متن، و"سقاء وكيع" وفيه أيضا: و"فرس وكيع": أي: صلب.
وقوله: "عيناه بصيرتان": جاء في "تفسير سفيان بن عيينة"، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ما من رجل إلا وله أربعة أعين. يعني: عينين في وجهه يبصر بهما أمر دنياه، وعينين في قلبه يبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وهما غيب، فآمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بعبد سوى ذلك ترك قلبه على ما فيه، وقرأ: {أم على قلوب أقفالها}.
وجاء هذا عن سفيان الثوري أيضا فيما رواه عباس الترقفي، حدثنا الفريابي، عن الثوري، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ما من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، فأبصر المغيب بالغيب، وإذا أراد غير ذلك تركه على ما فيه، ثم قرأ: {أم على قلوب أقفالها}.
حدث به الخرائطي في كتابه "اعتلال القلوب".
#344#
ورواه أحمد بن يوسف بن خلاد النصيبي، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا حسين بن حفص، حدثنا سفيان، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ما من آدمي إلا وله أربعة أعين، الحديث، وفي آخره بعد قوله: {أم على قلوب أقفالها} قال: وما من بني آدم أحد إلا والشيطان متقبل فقارة ظهره.
وقد تقدم نحوه مختصرا.
وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا بنحوه، وفي إسناده الحسين بن أحمد بن محمد أبو عبد الله الهروي الشماخي الصفار الحافظ، والآفة منه، والله أعلم.
#345#
$[ما روي في وزن النبي صلى الله عليه وسلم بأمته جميعا]$
وفي بعض الأحاديث المتقدمة في شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم: "لو وزن بأمته كلها لوزنهم":
قد ورد أنه صلى الله عليه وسلم وزن بأمته فوزنهم، وهو: ما خرجه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا أبو داود عمر بن سعد، حدثنا بدر بن عثمان، عن عبيد الله بن مروان، عن أبي عائشة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: "رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهذه التي يوزن بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة، فرجحت، ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فوزن، ثم جيء بعمر فوزن فوزن، ثم جيء بعثمان فوزن فوزن بهم، ثم رفعت".
وخرجه أبو بكر ابن أبي عاصم في كتابه "السنة" بنحوه، وفيه بعد قوله: "ثم رفعت": فقال له رجل: فأين نحن؟ قال: "أنتم حيث جعلتم أنفسكم".
ورواه الحسن بن سفيان في "الصحابة" عن إسحاق بن بهلول بن حسان، حدثنا أبو داود الحفري، حدثنا بدر بن عثمان، عن عبيد الله بن
#346#
مروان، حدثني أبو عائشة -وكان رجل صدق- قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وساق الحديث بنحوه.
ورواه أبو بكر يحيى بن أبي طالب، فقال: أخبرنا إبراهيم -يعني: ابن بكر، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وضع الخلق في كفة، ووضعت في كفة، فرجحت بهم، ووضع أبو بكر في كفة فرجح الميزان بأبي بكر، ثم وضع عمر في كفة والخلق كلهم في كفة، فرجح بهم، ثم رفع الميزان".
وروى هشام بن عمار، حدثنا عمرو بن واقد، حدثني يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريت أني وضعت في كفة، فعدلتها، ثم وضع أبو بكر رضي الله عنه فعدل بأمتي، ثم عمر رضي الله عنه فعدلها، ثم عثمان رضي الله عنه فعدلها، ثم رفع الميزان".
#347#
لا يعرف هذا إلا من رواية عمرو بن واقد الدمشقي وهو: منكر الحديث واتهم بالكذب.
وقال يحيى [بن] عبد الحميد الحماني، حدثنا شريك، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن سويد بن هلال، حدثنا شيخ لنا أعرابي من محارب -وكان صدوقا-: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت ميزانا دلي من السماء، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة، ثم رجحت بهم، ثم جيء بأبي بكر رضي الله عنه فوضع في كفة، وجيء بأمتي فوضعت في كفة، فرجح بهم".
وخرج أبو يوسف يعقوب بن شيبة في "مسنده" من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: وفدنا إلى "معاوية" رضي الله عنه مع "زياد" وفينا "أبو بكرة" رضي الله عنه، فلم يعجب بوفد ما عجب بنا. قال: فدخلنا عليه فقال: يا أبا بكرة، حدثنا بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ويسأل عنها، فقال يوما: "من رأى منكم رؤيا" فقال رجل: أنا، رأيت كأن ميزانا دلي فوضعت في كفة ووضع أبو بكر رضي الله عنه ووضع عمر وعثمان
#348#
رضي الله عنهما فرجح بعثمان، ثم رفع الميزان" قال: فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء".
وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا ابن إسحاق، حدثنا عارم، حدثنا حماد بن سلمة، فذكره مختصرا دون قصة الوفد.
وقال فيه أيضا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا؟" فقال رجل: أنا، رأيت كأن ميزانا دلي من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر بعمر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الترمذي عن ابن بشار كذلك، وحسنه.
وحدث به أبو داود في "سننه" عن ابن مثنى، عن الأنصاري محمد بن عبد الله.
وفي الباب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، خرجه أحمد في "مسنده".
#349#
$رد "حليمة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم$
وحين ردت حليمة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمه كان ابن خمس سنين وشهر.
وذكر أبو عبد الله القضاعي في "تاريخه": أنه قام معها خمس سنين. انتهى.
وقيل: كان عمره لما ردته خمس سنين.
قاله ابن قتيبة.
وقيل: ابن خمس سنين ويومين.
وقيل: كان ابن أربع سنين.
وقيل: ابن سنتين وشهر.
وقيل: سنة. وهو ضعيف، والمرجح الأول، والله أعلم.
وذكر ابن إسحاق: أن حليمة لما ردت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمه بعد فطامه مرت به على ركب من النصارى، فقاموا إليه -عليه الصلاة والسلام- وقالوا: سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا؛ فإنه كائن له شأن، فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد.
#350#
وروي عن عبيد الله بن أسلم، عن أبيه قال: لما قامت سوق عكاظ انطلقت حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عراف من هذيل يريه الناس صبيانهم، فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب، فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم. فقال: اقتلوا هذا الصبي. فانسلت به حليمة، فجعل الناس يقولون: أي صبي؟ فيقول: هذا الصبي. فلا يرون شيئا، قد انطلقت به أمه، فقالوا له: ما هو؟ قال: رأيت غلاما، وآلهته، ليقتلن أهل دينكم وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم. فطلب بعكاظ فلم يوجد.
ورواه عبد الرزاق بن همام في كتابه "المغازي" عن معمر، عن الزهري قال: ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في حجر جده عبد المطلب، فاسترضعه امرأة من بني سعد بن بكر، فنزلت به أمه التي ترضعه سوق عكاظ، فرآه كاهن من الكهان فقال: يا أهل عكاظ، اقتلوا هذا الغلام؛ فإن له ملكا، فزاغت به أمه التي ترضعه، فأنجاه الله.
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الخليل بن موسى الباهلي، عن عبد الله بن عون، عن عبد الملك بن عمير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسترضعا في بني سعد بن بكر، فقالت أمه لحاضنته: إني رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب أضاءت له الأرض كلها، فاسألي عن ابني.
#351#
فانطلقت حتى مرت بـ"المجاز" فإذا هي بكاهن سأله الناس، فأتته به، فلما أبصره أخذ بذراعيه وقال: يا قوم، اقتلوه. فلما سمع ذلك أصحابها سعوا، فانتزعوه منه.
ورواه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ فقال: حدثنا عمر بن محمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا أبو غزية بن محمد بن موسى، عن فليح بن سليمان، عن بعض الكوفيين -يقال له: رجل صدق-، عن ابن بريدة عن أبيه.
قال أبو غزية: وحدثني أبو عثمان سعيد بن زيد الأنصاري، عن ابن بريدة، عن أبيه بريدة قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضعا في بني سعد بن بكر، فقالت أمه آمنة لمرضعته: انظري ابني هذا فاسألي عنه، فإني رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب أضاءت له الأرض كلها، حتى رأيت قصور الشام، وذكر الحديث.
وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر في كتابه "أنباء نجباء الأبناء": أن حليمة بنت أبي ذؤيب قالت: قدم علينا قائف -يعني: رجلا متفرسا
#352#
لا تخطئ فراسته-، فانطلق الناس بأولادهم إلى ذلك القائف يقفون لهم، وانطلق الحارث بن عبد العزي -يعني: زوجها- برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك القائف.
فلما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخذه فقبله، ثم قال: ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون من بني سعد بن بكر.
فقال له الحارث: صدقت، وهو مسترضع فيها، وهو ابني من الرضاعة.
فقال له القائف: اردده على أهله فإن له شأنا عظيما، وستفترق فيه العرب ثم تجتمع عليه.
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله: أن أم النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعته إلى السعدية التي أرضعته، قالت لها: احفظي ابني وأخبرتها بما رأت، فمر بها اليهود، فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا؛ فإني حملته كذا، ورأيت كذا، كما وصفت أمه، فقال بعضهم لبعض: اقتلوه. فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت: لا، هذا أبوه وأنا أمه. فقالوا: لو كان يتيما لقتلناه، قال: فذهبت به حليمة وقالت: كدت أخرب أمانتي.
ويروى عن أبي بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، عن كعب قال: قالت حليمة: ركبت أتاني، وحملت محمدا
#353#
صلى الله عليه وسلم بين يدي أسير به، حتى أتيت إلى الباب الأعظم من أبواب مكة، وعليه جماعة مجتمعة، فوضعته لأقضي حاجتي وأصلح شأني، فسمعت هدة عظيمة، فالتفت فلم أره، فقلت: معاشر الناس، أين الصبي؟
فقالوا: أي الصبيان؟
قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضر الله به وجهي وأشبع جوعي، ربيته، حتى إذا أدركت به سروري أتيت به لأرده وأخرج من أمانتي، اختلس من بين يدي، واللات والعزى لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق هذا الجبل.
قالوا: ما رأينا شيئا.
فوضعت يدي على رأسي وقلت: وامحمداه واولداه. فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي.
فأتيت عبد المطلب فأخبرته، فسل سيفه ونادى: يا لغالب -وكانت دعوتهم في الجاهلية- فأجابته قريش، فقال: ابني محمد!
فقالت قريش: اركب نركب معك، ولو خضت بحرا خضناه معك.
فركب وركبوا، فأخذ أعلى مكة وانحدر إلى أسفلها، فلم ير شيئا، فترك الناس وأقبل إلى البيت الحرام فطاف أسبوعا، ثم أنشأ يقول:
يا رب رد راكبي محمدا ... أده إلي واتخذ عندي يدا
#354#
فسمعوا مناديا في الهواء يقول: معاشر الناس، لا تضجوا، إن لمحمد صلى الله عليه وسلم ربا لا يضيعه.
قال عبد المطلب: أيها الهاتف، ومن أين لنا به؟ وأين هو؟
قال: هو بوادي تهامة.
فمضى عبد المطلب، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يجذب الأغصان، ويعبث بالورق فحمله إلى مكة، وجهز حليمة أحسن الجهاز.
وقد تقدمت هذه القصة مطولة بنحوها من طريق محمد بن زكريا الغلابي بإسناده عن ابن عباس.
وروى أبو محمد دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين" فقال: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عباس بن عبد الرحمن الهاشمي، عن كندير بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول:
#355#
رب أد إلي راكبي محمدا ... رده إلي واصطنع عندي يدا
قال: قلت: من هذا؟
قالوا: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت إبل له، فأرسل ابن ابنه في طلبها، وقد احتبس عليه.
وقال دعلج عقيب الحديث المذكور: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا به محمد بن خالد، حدثنا أبي.
ثم ذكر الحديث بإسناده فيه، وقال فيه: فأرسل ابن ابنه، فقد احتبس عليه ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها.
قال: فما برحت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالإبل، فقال: يا بني؛ لقد حزنت عليك هذه المرة حزنا لا يفارقني أبدا.
تابعهما أبو الحسن مهدي بن عيسى، أخبرنا خالد بن عبد الله الواسطي، فذكره.
وحدث به أبو زرعة الدمشقي وابن أبي خيثمة في "تاريخهما"
#356#
عن سعيد بن سليمان، عن خالد بن عبد الله.
تابعهم أبو بشر إسحاق بن شاهين عن خالد به.
وهو في "تاريخ البخاري الكبير": قال عمرو بن عون، قال: حدثنا خالد، عن داود، عن العباس بن عبد الرحمن الهاشمي، عن كندير بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فبينما أطوف بالبيت إذا راكب يقول:
رب رد إلي راكبي محمدا ... رده إلي واصطنع عندي يدا
قيل: من هو؟ قيل: عبد المطلب بن هاشم، بعث ابن ابنه محمدا بإبله فلم يجئه، فبينما هو كذلك إذ جاءه فقال: يا بني، لقد حزنت عليك حزنا؛ لا تفارقني بعده أبدا.
قال البخاري: ويقال: هو "سعيد بن حيدة".
و"سعيد بن حيدة القشيري أبو كندير": صحابي رضي الله عنه.
وجاء عن خارجة بن مصعب، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده: أن "حيدة بن معاوية" اعتمر في الجاهلية، فذكر نحو حديث سعيد بن حيدة.
و"حيدة بن معاوية" والد "معاوية القشيري"، قيل: له صحبة، قال
#357#
الذهبي: ولم يصح.
قال شيخنا الإمام أبو الفتح محمد بن إبراهيم بن أبي الكرم محمد بن الشهيد في معنى حديث إرسال عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم في إبله، قال: وما يخرج وراء الإبل إلا وهو مراهق، فتكون وفاة "عبد المطلب" بعد أن عدى العاشرة، وهذا أقوى ما حكوه. انتهى.
وهذا الحصر فيه نظر مع [ما] جاءت به الرواية فيما قدمناه من قول حليمة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، وفي الشهر شباب الصبي في سنة، فلا يبعد على هذا أن يخرج في الإبل وعمره دون العشرة، والله أعلم.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الخلاف في سنن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات جده قول: "إنه كان ابن عشر سنين"، والله أعلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا- يخرج وهو طفل، فينظر إلى الصبيان وهم يلعبون، فيعرض عنهم.
وقد تقدم معنى ذلك في رواية محمد الغلابي.
وقال معمر بن راشد: كان النبي صلى الله عليه وسلم ابن سنتين، أو: ثلاث، فقال له
#358#
الصبيان: لم لا تلعب؟ فقال: أللعب خلقت؟!
وقيل: كانت هذه القصة لغيره صلى الله عليه وسلم.
#359#
$إخوته صلى الله عليه وسلم$
وإخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة من "ثويبة" و"حليمة":
فمن "ثويبة":
ابنها "مسروح"، كما تقدم من طريق الواقدي في "طبقات ابن سعد".
وأسد الله "حمزة بن عبد المطلب بن هاشم".
و"أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم".
وفيما ذكره الشريف النسابة محمد بن أسعد الجواني:
"أم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب بن هاشم".
وذكر ابن منده وغير أنها "أم حكيم"، قال ابن منده: وقيل: "أم الحكم، أخت ضباعة بنت الزبير"، وقال عبد الله بن أبي داود: هي بنت عبد المطلب بن هاشم"، ذكرها ابن منده وغيره في الصحابة.
#360#
و"حمزة" رضي الله عنه رضيع النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين:
قال الواقدي: حدثني عمر بن سعيد بن أبي حسين عن أبي مليكة قال: كان "حمزة بن عبد المطلب" رضي الله عنه رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرضعتهما امرأة من العرب، كان "حمزة" مسترضعا له عند قوم في بني سعد بن بكر، وكانت أم حمزة قد أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند أمه حليمة.
فبهذا صار حمزة رضي الله عنه رضيعه من وجهين: من "ثويبة" و"السعدية"، وعلى هذا تكون مراضع النبي صلى الله عليه وسلم سوى أمه آمنة ثلاثا: "ثويبة" و"حليمة السعدية" و"السعدية ظئر حمزة".
وقد جاء أن نسوة أبكارا من بني سليم مررن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجن ثديهن فوضعنها في في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فدرت، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن العواتك من سليم". وتقدم الحديث معللا.
وذكر بعضهم من مراضعه صلى الله عليه وسلم: "أم أيمن بركة" وهو بعيد.
وأبعد منه ما ذكره أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري في الصحابيات، فقال: "أم فروة" ظئر النبي صلى الله عليه وسلم.
#361#
وقال: أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن عباد -هو: أخو القاسم بن عباد البصري، حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أم فروة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أويت إلى فراشك فاقرئي: {قل يأيها الكافرون} فإنها براءة من الشرك".
شبه على جماعة بهذا الحديث ونحوه، فعدوا "أم فروة" في مراضع النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث فيه اضطراب، فقيل، في رواية أيضا: "فروة"، وقيل: "نوفل"، وقيل: "عن فروة بن نوفل، عن جبلة بن حارثة" رواه شريك، عن أبي إسحاق، عن فروة كذلك.
ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن فروة بن نوفل أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني شيئا أقوله إذا أويت إلى فراشي. قال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون} الحديث .
#362#
ورواه يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل، عن أبيه: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره نحوه بمعناه.
خرجهما من طريق شعبة ويحيى بن آدم: الترمذي في "جامعه" قال: وروى "زهير" هذا الحديث، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وهذا أشبه وأصح من حديث شعبة. انتهى.
ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" فقال: حدثنا عبد الواحد بن غياث أبو بحر، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل قال: أتيت المدينة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك؟" قال: قلت: جئت لتعلمني كلمات إذا أخذت مضجعي. قال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون}؛ فإنها براءة من الشرك".
تابعه شبابة، عن عبد العزيز مثله.
ورواه الثوري عن أبي إسحاق كذلك.
والمشهور ما صححه الترمذي عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه مرفوعا به.
وإنما وقعت -والله أعلم- شبهة من عد "أم فروة" في مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم مع ما تقدم في رواية المستغفري عن زاهر: ما جاء من رواية أبي أحمد
#363#
الزبيري محمد بن عبد الله قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه كان النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه ابنة أم سلمة فقال: "إنما كانت ظئري"، ثم ذهب فمكث، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "ما فعلت الجارية -أو: الجويرية-؟" قال: في عافية. قال: "ففيم جئت؟" قال: جئت تعلمني شيئا أقرأه عند المنام. فقال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون} عند منامك؛ فإنها براءة من الشرك".
وخرجه أبو سعيد أحمد بن محمد بن الأعرابي في "معجمه" فقال: حدثنا إسحاق بن أبي إسحاق الصفار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه بنت أم سلمة فقال له: "أنت ظئري".
قال: ثم ذهب، فلبث ما شاء الله، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "ما فعلت الجارية -أو: الجويرية- ؟" فقال: عند أمها، قال: "فمجيء ما جئت؟" قال: جئت تعلمني شيئا أقوله عند المنام. قال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون} عند منامك؛ فإنها براءة من الشرك".
ففي هذا: أن أبا فروة ظئر ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أم سلمة، سماه ظئره بهذا، والله أعلم.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم الطليطلي القرطبي ابن الأمين في استدراكه على أبي عمر بن عبد البر: "خولة بنت المنذر بن زيد بن أسد بن خراش" التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرها العدوي.
#364#
وهذا فيه نظر من غير وجه، فأبو عمر ابن عبد البر قد ذكرها في "الكنى" كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فلا فائدة للاستدراك غير تسميتها بـ "خولة"، فإن أبا عمر لم يسمها.
وقوله: "أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم" فليس كذلك، والله أعلم، فإنها أرضعت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره غير واحد، وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد ولده "إبراهيم" قريب من ستين سنة، فيبعد -والله أعلم- وقوع رضاعها النبي صلى الله عليه وسلم ورضاع ولده "إبراهيم" وبينهما نحو من ستين سنة، ولعل الوهم حصل حين روي عن خولة: أنها أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر "إبراهيم" في الرواية، فتصحفت اللام التي في قوله "للنبي" بهمزة، فقيل: أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة قال: لما ولد "إبراهيم" تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه؟ فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، فكانت ترضعه؟ فكانت يكون عند أبويه في بني النجار، ويأتي رسول الله أم بردة فيقيل عندها ويؤتى بـ "إبراهيم" عليه السلام.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الكنى" الذي وصل به "الاستيعاب": "أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن
#365#
عامر بن غنم بن عدي بن النجار" هي التي أرضعت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليهما وسلم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ساعة وضعته أمته "مارية"، فلم تزل ترضعه حتى مات عندها، وهي: زوج "البراء بن أوس".
.. [7] ..
وجاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم أمه في ألف مقنع، فبكى بكاء شديدا، وبكى المسلمون، فلم أر مثل ذلك اليوم.
قال ابن القيم -رحمه الله وإيانا-: وكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم من جنس ضحكه، لم يكن برفع صوت ولا شهيق، ولكن تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم تارة رحمة للميت، وتارة خوفا وشفقة على أمته، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: [قال] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي؟" فنزلت: {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل.
#366#
وجاء نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما، حكاه عنه أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في كتابه "أسباب النزول"، وقال عقيبه: وهذا على قراءة من قرأ: {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} جزما.
وكذلك حكاه عن ابن عباس أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي في "تفسيره"، وقال: وهذا كما يقال: ولا تسأل عن فلان، أي: قد بلغ فوق ما تحسب.
قال القرطبي: وقد ذكرنا في "التذكرة": أن الله عز وجل أحيا له أبويه حتى آمنا به، وأجبنا عن قوله: "إن أبي وأباك في النار".
وما ذكره القرطبي في "التذكرة" في هذا المعنى أنه قال: جاء في هذا الباب حديث يعارض حديث هذا الباب، وهو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب "السابق واللاحق" وأبو حفص عمر بن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" -له في الحديث- بإسناديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمر بنا
#367#
على "عقبة الحجون" وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه طفر، فنزل، فقال: "يا حميراء، استمسكي"، فاستندت إلى جنب البعير، فمكث عني طويلا، ثم إنه عاد إلي وهو فرح متبسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله، ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم، فعم ماذا يا رسول الله؟ فقال: "ذهبت لقبر أمي آمنة، فسألت الله ربي أن يحييها لي، فأحياها وآمنت بي -أو قال: فآمنت- وردها الله عز وجل".
لفظ الخطيب، قاله القرطبي.
قلت: وإسناده هو ما قال الخطيب: أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي، حدثنا الحسين بن علي بن محمد الحلبي، حدثنا أبو طالب عمر بن الربيع الزاهد، حدثنا علي بن أيوب
#368#
الكعبي، حدثني محمد بن يحيى الزهري أبو غزية، حدثني عبد الوهاب بن موسى، حدثني مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فذكره.
#369#
قال القرطبي: قلت: وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" -له- بإسناد فيه مجهولون: "أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به". انتهى.
قال السهيلي: وروي حديث غريب، لعله أن يصح، وجدته بخط جدي أبي عمر أحمد بن أبي الحسن القاضي -رحمه الله تعالى- بسند فيه مجهولون، ذكر أنه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد، يرفعه إلى أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها
#370#
أخبرت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يحيي له أبويه، فأحياهما له وآمنا به، ثم أماتهما، والله تعالى قادر على كل شيء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل أن يخصه الله تعالى بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
#371#
قلت: وحكى الحافظ محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني في "مسنده": أن النبي صلى الله عليه وسلم أحيا أبويه الله، فأسلما على يديه، وماتا.
قال القرطبي: ولا تعارض والحمد لله؛ لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها: أن ذلك كان في حجة الوداع؛ ولذلك جعله ابن شاهين ناسخا لما ذكر من الأخبار.
[وقد قيل: إن الحديث في إيمان أمه وأبيه موضوع يرده القرآن العظيم والإجماع].
قال: ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية، وفيه نظر، [وذلك] أن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله تعالى وأكرمه به، وليس
#372#
إحياؤهما وإيمانهما به صلى الله عليه وسلم ممتنعا عقلا وشرعا، فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يديه جماعة من الموتى، وإذا ثبت [هذا] فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته صلى الله عليه وسلم، مع ما ورد من الخبر في ذلك، ويكون ذلك خصوصا فيمن مات كافرا".
يعني لما قد قيل: إن الحديث في إيمان أبيه وأمه موضوع يرده القرآن العظيم والإجماع، قال الله تعالى: {ولا الذين يموتون وهم كفار} فمن مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، فكيف بعد الإعادة؟!
ذكر القرطبي لفظ رواية الخطيب في كتابه "السابق واللاحق"، ولم يذكر لفظ رواية ابن شاهين، وهي ما خرجها في كتابه "ناسخ الحديث ومنسوخه"، فقال في أواخر الكتاب: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد مولى الأنصار، حدثنا أحمد بن يحيى الحضرمي بمكة، حدثنا أبو غزية
#373#
محمد بن يحيى الزهري، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى "الحجون" كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء ربه عز وجل، ثم رجع مسرورا، فقلت: يا رسول الله، نزلت إلى "الحجون" كئيبا حزينا، فأقمت به ما شاء الله، ثم رجعت مسرورا؟
فقال: "سألت ربي عز وجل، فأحيا لي أمي، فآمنت بي، ثم ردها".
تابعه القاضي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد الأخضر، حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، فذكره.
و "أبو غزية" هذا رماه الدارقطني والبرقاني بالوضع.
وشيخه قال فيه الذهبي في "الميزان": لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب. انتهى.
#374#
وقد روي أيضا أن الله عز وجل أحيا له جده عبد المطلب وآمن به.
ولا يثبت أيضا.
وقال الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب البخاري الكلاباذي في كتابه "معاني الأخبار":
حدثنا محمد بن إسحاق الخزاعي، حدثنا سعيد بن مسعود المروزي، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي وعبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة -إن شاء الله- قال: قيل: يا رسول الله، فهل أنت شافع لأبويك؟ قال: "إني لشافع لهما، أعطيت أو منعت، وما أرجو لهما".
#375#
وقال إبراهيم بن عبد الله الكجي: حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، حدثنا الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم، عن عثمان بن عمير، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه: قال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أين أبواك؟
قال: "ما شاء ربي فيهما شاء، وإني لقائم المقام المحمود".
وخرجه الطبراني مطولا في "معجمه الأوسط" فقال: حدثنا أبو مسلم، حدثنا عارم أبو النعمان، فذكره، ولفظه: قال: [جاء] ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، إن أمنا كانت تحفظ على البعل، وتكرم الضيف، وقد وأدت في الجاهلية، فأين أمنا؟ قال: "أمكما في النار"، فقاما، وقد شق ذلك عليهما، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعا إليه، فقال: "أمي مع أمكما"، فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمه شيئا، ونحن نطأ عقبيه.
#376#
فقال رجل من الأنصار شاب -لم أر رجلا أكثر سؤالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه-: يا رسول الله، أين أبواك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سألت ربي عز وجل فيهما، وإني لقائم المقام المحمود".
لم يرو هذا الحديث عن أبي وائل إلا عثمان بن عمير، تفرد به الصعق بن حزن.
قاله الطبراني.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا علي بن الحكم البناني، عن عثمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء ابنا مليكة، فذكر الحديث بنحوه.
وحدث به أبو نعيم في "الحلية": عن سليمان بن أحمد -هو: الطبراني- حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عارم أبو النعمان، فذكره، ولفظه: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، إن أمنا كانت تكرم الزوج، وتعطف على الولد، وتكرم الضيف، غير أنها كانت وأدت في الجاهلية؟ قال: "أمكما في النار"، فأدبرا والشر يرى في وجوههما، فأمر بهما فردوا والسرور يرى في وجوههما رجاء أن يكون حدث شيء، قال: "أمي مع أمكما". فقال رجل من المنافقين:
#377#
وما يغني هذا عن أمه ونحن نطأ عقبه؟ فقال رجل من الأنصار ولم أر رجلا قط كان أكثر سؤالا منه: يا رسول الله، هل وعدك ربك فيها أو فيهما؟ قال: "ما سألت ربي، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة" وذكر الحديث بطوله.
تابعهم المقدمي عن عارم.
وخرجه أبو حفص ابن شاهين في كتابه "ناسخ الحديث ومنسوخه" فقال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا إبراهيم بن سعيد وزهير بن محمد -وله اللفظ-، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم، عن عثمان بن عمير، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء ابنا مليكة فقالا: يا رسول الله، إن أمنا كانت تكرم الضيف، وقد وأدت في الجاهلية، فأين أمنا؟ قال: "أمكما في النار"، فقاما وقد شق ذلك عليهما، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إن أمكما مع أمي"، فقال منافق من الناس: أو ما يغني هذا عن أمه إلا ما يغني ابنا مليكة عن أمهما؟ فقال شاب من الأنصار: يا رسول الله، لو أن أبويك؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سألت ربي فيعطيني فيهما".
#378#
وقد جاء الإفصاح بالشفاعة لهما فيما رواه أبو الحارث أحمد بن محمد بن عمارة بن أبي الخطاب الليثي ومحمد بن هارون بن شعيب بن عبد الله، قالا: حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي، حدثنا أبو سليمان أيوب المكتب، حدثنا الوليد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية".
حديث منكر من قبل الوليد بن سلمة، هذا وهو: أبو العباس قاضي الأردن، وقال ابن عدي: قاضي طبرية. انتهى.
يروي عن عبيد الله بن عمر، وعمر بن صهبان، وعمر بن محمد بن زيد العمري، وابن أبي ذئب، وعنه أيضا: أحمد بن نصر بن زياد النيسابوري، وعباس بن محمد الدوري، وابنه: إبراهيم بن الوليد.
سئل أبو زرعة عنه فقال: آه آه، أتينا ابنه - يعني: إبراهيم- وكان صدوقا، وكان يحدثنا بأحاديث مستقيمة، فكلما أخذ في أحاديث أبيه جاء - يعني: بالأوابد.
وقال أبو عبد الله الحاكم: روى عن عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب أحاديث موضوعة. وقال عنه مرة: كذاب يضع الحديث.
وكذبه دحيم وغيره.
#379#
وقال محمد بن المثنى: حدثنا عبيد الله بن محمد القرشي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أترجو لأبي طالب؟ قال: "كل الخير أرجو من ربي عز وجل".
#380#
$كفالة عبد المطلب له صلى الله عليه وسلم$
ولما ماتت أم النبي صلى الله عليه وسلم قبضه جده عبد المطلب، وضمه إليه.
قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري. ح.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله. ح.
وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن المنذر بن جهم. ح.
وحدثنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. ح.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث. ح.
وحدثنا ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير.
دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه ويدنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني، إنه ليؤنس ملكا.
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه.
فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. فكان أبو طالب يحتفظ به.
#381#
وقال عبد المطلب لأم أيمن - وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم-: يا بركة، لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة.
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا قال: علي بابني. فيؤتى به إليه.
وفي سنة سبع من مولده صلى الله عليه وسلم استسقى عبد المطلب ومعه النبي صلى الله عليه وسلم فسقوا.
وفيها: بشر سيف بن ذي يزن عبد المطلب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم ذلك.
وفي هذه السنة: حصل له -فيما يروى- رمد شديد، فعولج بمكة فلم يغن عنه، فقيل لعبد المطلب: إن في ناحية "عكاظ" راهبا يعالج الأعين. فركب إليه، فناداه -وديره مغلق- فلم يجبه، فنزل به ديره حتى خاف أن يسقط عليه، فخرج مبادرا فقال: يا عبد المطلب، هذا الغلام نبي هذه الأمة، ولو لم أخرج إليك لخر علي ديري، فارجع به واحفظه لا يغتاله بعض أهل الكتاب. ثم عالجه وأعطاه ما يعالج به، وألقى الله المحبة في قلوب قومه وكل من يراه.
#382#
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": ومثله: أن جماعة من النصارى قدموا من الشام تجارا إلى مكة، فنزلوا بين الصفا والمروة، فرأوه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- وهو ابن سبع سنين فعرفه بعضهم بصفته في الكتب كتبهم وسمته في فراستهم، فقال له: من أنت؟ وابن من أنت؟
فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب".
فقال له: من رب هذه وأشار إلى الجبال؟
فقال: "الله ربها، لا شريك له".
فقال له: من رب هذه وأشار إلى الأرض؟
فقال: "الله ربها، لا شريك له".
فقال: من رب هذه وأشار إلى السماء؟
فقال: "الله ربها، لا شريك له".
فقال له النصراني: فهل له رب غيره؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تشككني في الله، ما له شريك ولا ضد".
قال: فقام بالتوحيد في صغره، وأفصح النصراني بخبره، وأنذر بنبوته.
وذكر الواقدي: أن عبد المطلب كان يفرش له فراش إلى جدار الكعبة، فيجلس عليه في ظلها، ويحدق به بنوه وسادات قريش، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين، فلا يثنيه عن الفراش شيء حتى يجلس عليه فيزيله عنه أعمامه، فيبكي حتى يردوه إليه، فطلع يوما عبد المطلب
#383#
فرآهم قد زالوه عن الفراش فقال لهم: ردوا ابني إلى مجلسي، فإنه سيكون له شأن، فكان بعد ذلك لا يردونه عنه؛ حضر عبد المطلب أو غاب.
وحدث بنحوه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله.
وقال أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي: حدثنا سعيد بن سالم، حدثني ابن جريج قال: كنا جلوسا مع عطاء بن رباح في المسجد الحرام، فتذاكرنا ابن عباس وفضله، وذكر الحديث، وفيه: قال: فسمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسن الناس وجها، ما رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره ولا يجلس عليه أحد، وكان الندب الندب من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو غلام لم يبلغ، فجلس على المفرش، فجبذه رجل، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد المطلب -وذلك بعدما كف بصره-: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه. فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه بشرف، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده.
#384#
$موت عبد المطلب وكفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم$
ومات عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي، حتى دفن بـ "الحجون".
رواه هكذا القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، عن عبد الله بن شبيب، عن الأزرقي به.
وحدث بنحوه أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن جده.
وقالت أم أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي خلف سرير عبد المطلب.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: ومات عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين، فلم يبك أحد كان قبله بكاءه.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال:
#385#
"نعم، أنا يومئذ ابن ثمان سنين".
هذا هو المشهور في سن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي جده.
وذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي: أن عمره كان حينئذ ثمان سنين وشهرين وعشرة أيام.
وقيل لما توفي عبد المطلب كان للنبي صلى الله عليه وسلم ست سنين.
وقيل: عشر سنين.
وقيل: ثلاث سنين، فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر، وهو بعيد جدا.
والمشهور الأول: أن عبد المطلب توفي في السنة الثامنة من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومات في تلك السنة "حاتم الطائي" المشهور بالكرم، و "كسرى نوشروان" المشهور بالعدل.
ثم انتقل النبي صلى الله عليه وسلم بعد جده إلى عمه أبي طالب؛ لأن "أبا طالب" و"عبد الله" كانا شقيقين كما ذكره غير واحد، منهم: عبد الرزاق في "مغازيه" عن معمر عن الزهري.
#386#
وأيضا كان أخوهما "الزبير" شقيقهما، وكان حينئذ موجودا.
فاختلف العلماء في سبب تقديم أبي طالب في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير، فاختار أبا طالب.
والثاني: أن "أبا طالب" و"الزبير" اقترعا، فخرجت القرعة لأبي طالب.
والثالث: أن عبد المطلب أوصى إلى أبي طالب بذلك. وقد روي: أنه قال لأبي طالب حين حضره الموت:
أوصيك يا عبد مناف بعدي
بموتم بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد
فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد
#387#
حتى إذا خفت نفاد الوعد
أوصيك أرجى أهلنا للرفد
بابن الذي غيبته في اللحد
بالكره مني لم يكن بالعمد
فقال لي والقول ذي مرد
ما ابن أخي إن عشت في معد
إلا بأدنى ولدي في الود
عندي أرى ذلك باب الرشد
بل أحمد أرجو به للرشد
في كل أمر في الأمور ود
قد علمت علام أهل العهد
أن الفتى سيد أهل نجد
يعلو على ذي البدن الأشد
وبلغنا أيضا أنه قال :
أوصيت من كنيته بطالب
عبد مناف وهو ذو تجارب
يا بن الذي قد غاب غير آيب
فلست بالآنس غير الرايب
بأن يحق الله قول الراهب
فيه وأن يفضل آل غالب
#388#
إني سمعت أعجب العجائب
من كل حبر عالم وكاتب
هذا الذي يقتاد بالجنائب
من حل بالأبطح والأخاشب
أيضا ومن ثاب إلى المثاوب
من ساكن الحرم أو مجاوب
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. ح.
وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس. ح.
وحدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة -دخل حديث بعضهم في حديث بعض- قالوا: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حبا شديدا، لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصب صبابة لم يصب مثلها شيء قط، وقد كان يخصه بالطعام، وإذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يغديهم قال: كما أنتم حتى يحضر ابني. فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإذا لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك، وكان الصبيان
#389#
يصبحون رمصا شعثا، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم كحيلا دهينا.
وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا علي بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن محمد بن عمر الشامي، عن أشياخه قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر أبي طالب، وكان أبو طالب قليل المال، كانت له قطعة من إبل، فكان يؤتى بلبنها، فإذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم النبي صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يطعمهم قال: أربعوا حتى يحضر ابني. فيأكل معهم فتفضل من طعامهم، وإن كان لبن شرب أولهم، ثم يناولهم فيشربون فيروون من آخرهم، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك. وكان يصبح الصبيان رمصا ويصبح النبي صلى الله عليه وسلم مدهونا مكحولا.
قالت أم أيمن: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شكى صغيرا ولا كبيرا جوعا ولا عطشا، كان يغدو فيشرب من "زمزم"، فأعرض عليه الغداء فيقول: "لا أريده، أنا شبعان" صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي: حدثنا علي بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان بنو أبي طالب يصبحون غمصا رمصا،
#390#
ويصبح محمد صلى الله عليه وسلم صقيلا دهينا.
وبالإسناد: قال عطاء: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان أبو طالب يقرب إلى الصبيان بصبحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده لا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة.
وروى عبد الله بن عون، عن عمرو بن سعيد الثقفي مولاهم البصري: أن أبا طالب قال: كنت بـ "ذي المجاز" ومعي ابن أخي -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم-، فأدركني العطش، فشكوت إليه فقلت: يا ابن أخي، قد عطشت، وما قلت له وأنا أرى أن عنده شيئا إلا الجزع. قال: فثنى وركه، ثم نزل فقال: "يا عم، أعطشت؟" قلت: نعم. فأهوى بعقبه إلى الأرض، فإذا بالماء، فقال: "اشرب يا عم"، فشربت.
$[مطلب في وفاة والدة علي بن أبي طالب رضي الله عنه][8]$
وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة، حدثنا روح بن صلاح، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: "رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسوني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة"، ثم أمر أن تغسل ثلاثا، فلما
#391#
بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، وألبسها إياه وكفنها فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسامة بن زيد" و"أبا أيوب الأنصاري" و"عمر بن الخطاب" وغلاما أسود يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: "الحمد لله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين"، وكبر عليها أربعا وأدخلها اللحد هو و"العباس" و"أبو بكر الصديق" رضي الله عنهما.
غريب من حديث عاصم والثوري، لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح، تفرد به.
قاله أبو نعيم.
وشيخه: "سليمان بن أحمد" هو: الطبراني، وقد خرج هذا الحديث في "معجمه الأوسط" كذلك، ثم قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول إلا سفيان الثوري، تفرد به روح بن صلاح.
$[مطلب في سفر أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم] [9]$
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة خرج في سفر - فيما روي- مع عمه: الزبير بن عبد المطلب، فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز، فأرادوا الانحراف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكفيكموه"، فدخل أمام الركب، فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله، فنزل
#392#
عن بعيره، فركبه، فسار حتى جاوز الوادي، ثم خلى عنه، فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق، فوقفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتبعوني"، ثم اقتحمه واتبعوه، فأيبس الله عز وجل الماء، فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك، فقال الناس: إن لهذا الغلام شأنا.
ذكره ابن الجوزي في حوادث المولد في كتاب "الوفا".
#393#
$سفر أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر "بحيرا الراهب" وغيره$
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة فيما رواه ابن سعد من قول داود بن الحصين: ارتحل به أبو طالب تاجرا قبل الشام، وقيل: كان ذلك وللنبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين.
#394#
قاله: أبو عبد الله الواقدي، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وأبو الحسن الماوردي.
وقيل: خرج به أبو طالب لعشر خلون من "ربيع الأول" سنة ثلاثة عشر من "الفيل".
وذكر عبد الرزاق في "المغازي" عن معمر عن الزهري قال: فلما ناهز الحلم -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ارتحل به أبو طالب تاجرا قبل الشام، فلما نزل "تيماء" رآه حبر من يهود "تيماء"، فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: هو ابن أخي. قال له: أشفيق أنت عليه؟ قال: نعم.
#395#
قال: فوالله لئن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا، ليقتلونه، إن هذا الغلام عدوهم.
تابعه يونس عن الزهري نحوه مطولا.
وقيل: كانت هذه القصة وعمر النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة سنة وشهرين.
وقيل: وشهرا وعشرة أيام.
وقد رويت هذه القصة من طرق، منها: ما قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا أبو المليح، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: أراد أبو طالب المسير إلى الشام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عم، إلى من تخلفني ههنا؟ ما لي أم تكفلني، ولا أحد يؤويني".
قال: فرق له، ثم أردفه خلفه، فخرج به، فنزلوا على صاحب دير.
فقال صاحب الدير: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني.
قال: ما هو بابنك، ولا ينبغي أن يكون له أب حي.
قال: ولم؟
قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي.
قال: وما النبي ؟
#396#
قال: الذي يوحى إليه بالأمر من السماء ينبئ به أهل الأرض.
قال: الله أجل مما تقول.
قال: فاتق عليه اليهود.
قال: ثم خرج حتى نزل براهب صاحب دير فقال: ما هذا الغلام؟
قال: ابني.
قال: ما هو بابنك، ولا ينبغي أن يكون له أب حي.
قال: ولم ذاك؟
قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي.
قال: سبحان الله، الله أجل مما تقول.
قال: يا ابن أخي، ألا تسمع إلى ما يقولون؟
قال: "أي عم، لا تنكر لله عز وجل قدره".
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن صالح بن دينار وعبد الله بن جعفر الزهري قال: -يعني محمد بن عمر-: وحدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا: لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن ثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب "بصرى" -من الشام- وبها راهب -يقال له: "بحيرا"- في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا بـ "بحيرا" وكانوا كثيرا ما يمرون به لا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا منزلا قريبا من صومعته، قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاما، ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم من
#397#
بين القوم، حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة، وأخضلت أغصان الشجرة على النبي صلى الله عليه وسلم حين استظل تحتها، فلما رأى "بحيرا" ذلك نزل من صومعته، وأمر بذلك الطعام، فأتي به، وأرسل إليهم.
فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا، حرا ولا عبدا؛ فإن هذا شيء تكرمون به.
فقال رجل: إن لك لشأنا يا "بحيرا"، ما كنت تصنع بنا هذا، فما شأنك اليوم؟
قال: فإني أحببت أن أكرمكم، فلكم حق.
فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه، ليس في القوم أصغر منه في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر "بحيرا" إلى القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم، ورآها متخلفة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال "بحيرا": يا معشر قريش، لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي.
قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم.
فقال: ادعوه فليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد منكم! مع أني أراه من أنفسكم.
فقال القوم: هو والله أوسطنا نسبا، وهو ابن أخ هذا الرجل -يعنون: أبا طالب-، وهو من ولد عبد المطلب.
فقال الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف: والله، إن كان بنا للؤم أن نخلف ابن عبد المطلب من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام والغمامة تسير على رأسه صلى الله عليه وسلم، وجعل "بحيرا"
#398#
يلحظه لحظا شديدا، وينظر على أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من صفته، فلما تفرقوا عن طعامه قام إليه الراهب.
فقال: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما".
قال: فبالله، إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
قال: "سلني عما بدا لك".
فجعل يسأله عن أشياء من حاله حتى نومه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده، فقبل موضع الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا. وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه، فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك.
قال أبو طالب: ابني.
قال: ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون لهذا الغلام أب حي.
قال: فابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال: هلك وأمه حبلى به.
قال: فما فعلت أمه؟
قال: توفيت قريبا.
قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه عرفوا منه ما أعرف ليبغنه عنتا؛ فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا، واعلم أني قد أديت إليك
#399#
النصيحة.
فلما فرغوا من تجاراتهم خرج به سريعا، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى "بحيرا" فذكروه أمره، فنهاهم أشد النهي وقال لهم: أتجدون صفته؟
قالوا: نعم.
قال: فما لكم إليه سبيل.
فصدقوه، وتركوه، ورجع به أبو طالب، فما خرج به سفرا بعد ذلك تخوفا عليه.
وقال أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي في "المغازي": حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرنا أبو داود سليمان بن موسى: أن أبا طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج به إلى الشام، فلما قدموا الشام مروا بقرية يقال لها: "ميفعة" من أرض "البلقاء"، وفيها راهب يقال له: "بحيرا"، فخرج إليهم "بحيرا" وكان قبل ذلك يقدمون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، فجعل يتخللهم، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال شيوخ من قدم معه من قريش: وما علمك؟
قال: علمي: أنكم لما أشرفتم من "العقبة" لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبي، وأعرفه بالصفة وبخاتم النبوة مثل التفاحة، أسفل من غضروف كتفه، ثم انطلق "بحيرا" فأتاهم بطعام.
وذكر بقية الحديث، وهو حديث معضل.
#400#
وكذلك: ما رواه معتمر بن سليمان فقال: حدثني أبي، عن أبي مجلز: أن أبا طالب سافر إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم، فنزل منزلا، فأتاه راهب فقال: فيكم رجل صالح، ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال أبو طالب: ها أنا ذا وليه. قال: احتفظ به ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود قوم حسد، وإني أخشاهم عليه. وذكر بقيته.
وقال عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فخلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت.
قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ قريش: ما علمك؟
فقال: إنكم حين أشرفتم من "العقبة" لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وأنا أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما.
فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فقال: انظروا إليه، عليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه.
فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا تذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه. فالتفت فإذا هو بسبعة قد أقبلوا عليهم
#401#
من الروم، فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا.
فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟
قالوا: إنما اخترنا خيرة لطريقك هذا.
قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟
قالوا: لا.
قال: فبايعوه وأقاموا معه.
قال: فأتاهم فقال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
رواه العباس بن محمد الدوري فقال: حدثنا أبو نوح، أخبرنا يونس ابن أبي إسحاق، فذكره.
وخرجه الترمذي فقال: حدثنا الفضل بن سهل أبو العباس البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان، فذكره.
وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وحدث به الطبراني في "معجمه" عن عبيد بن غنام، حدثنا
#402#
أبو بكر ابن أبي شيبة. وعن الحسين بن إسحاق، حدثنا عثمان بن أبي شيبة. قالا: حدثنا قراد أبو نوح، فذكره.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" وصححه.
وخرجه أبو بكر الخرائطي في "هواتف الجنان".
وخرجه البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" من حديث أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: حدثنا العباس بن محمد، حدثنا قراد أبو نوح فذكره، وفي آخره: قال أبو العباس: سمعت العباس [يقول]: ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير "قراد"، وسمعه أحمد ويحيى بن معين من قراد.
قال البيهقي: وإنما أراد أنه بإسناده هذا موصولا، فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة. انتهى.
وليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في "الصحيح"، و"عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح" لقبه: "قراد"، انفرد به البخاري، و"يونس بن أبي إسحاق": انفرد به مسلم، ومع ذلك ففي متنه نكارة
#403#
وهي: إرسال أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا، وكيف وأبو بكر يومئذ لم يبلغ العشر سنين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر رضي الله عنه بأزيد من عامين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة أعوام. على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر عاما على ما قاله آخرون.
وأيضا: فإن بلالا لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما؛ فإنه كان لبني الجمحيين، وعندما عذب في الله تعالى على الإسلام اشتراه أبو بكر رضي الله عنهما رحمة له واستنقاذا من أيديهم، وخبره بذلك مشهور.
قاله أبو الفتح ابن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر".
وخرج الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار هذا الحديث في "مسنده"، وقال فيه: وأرسل معه أبو بكر رجلا ولم يقل: "بلالا".
وذكر مغلطاي فيما أنبأونا عنه في كتابه "الإشارة" أن فيه وهما ثانيا في قوله: فبايعوه، قال: بايعوه على أي شيء؟
وكذلك عده الدمياطي وهما مع الذي قبله، فكأنهما ذهبا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان المبايع، وكان حينئذ طفلا، ولم يكن بعث، فكيف يبايع؟
وليس كما ذهبا إليه، والله أعلم.
#404#
وهذا الحديث عد أبو نعيم وابن منده "بحيرا" من الصحابة، كأنهما ذهبا -والله أعلم- إلى رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول الراوي في الحديث: "فبايعوه" صحيح، أي: بايعوا "بحيرا" أنهم لا يقتلون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤذنوه، أو نحو ذلك، فالضمير عائد على "بحيرا" لا على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعضد هذا قوله: وأقاموا معه أنهم كانوا على دينه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير -رحمه الله وإيانا- في "السيرة" التي جمعها حين ذكر حديث عبد الرحمن بن غزوان هذا، قال: وفيه ذكر الغمامة، ولم أر لها ذكرا في حديث ثابت أعلمه سواه.
#405#
وقال في "تاريخه" نحوه، قال: إن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا الثالث. يعني: حديث ابن غزوان.
وهذا عجيب منه، كيف غفل عن تلك القصة المشهورة الصحيحة المجمع عليها التي ثبتت من حديث عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ: قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني"، وذكر الحديث.
خرجه البخاري: عن عبد الله بن يوسف، ومسلم: عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، وحرملة بن يحيى، وعمرو بن سواد العامري، أربعتهم: عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، به.
وقصة "بحيرا" مع النبي صلى الله عليه وسلم رويت من عدة طرق:
منها: ما حدث به أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، عن أبي الحسين رضوان بن أحمد الصيدلاني، حدثنا أبو عمر أحمد بن
#406#
عبد الجبار بن محمد، حدثنا يونس بن بكير الشيباني في كتابه "المغازي": عن محمد بن إسحاق قال: وكان أبو طالب هو الذي إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان إليه ومعه، ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل صب له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بزمام ناقته وقال: "يا عم، إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم".
فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا. أو كما قال.
قال: فخرج به معه، فلما نزل الركب "بصرى" -من أرض الشام- وبها راهب يقال له: "بحيرا" في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية.. وذكر القصة بطولها.
وفي آخرها: فقال أبو طالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أراد منه أولئك النفر وما قال لهم فيه بحيرا:
إن ابن آمنة النبي محمدا ... عندي كمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته ... والعيس قد قلصن بالأزواد
#407#
فارفض من عيني دمع ذارف ... مثل الجمان مفرق الأفراد
راعيت فيه قرابة موصولة ... وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومة ... بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة ... فلقد تباعد طية المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد
حبرا، فأخبرهم حديثا صادقا ... عنه، ورد معاشر الحساد
قوما يهودا قد رأوا ما قد رأى ... ظل الغمام وعز ذي الأكباد
ساروا لقتل محمد فنهاهم ... عنه وأجهد أحسن الإجهاد
#408#
فثنى بحيراء ذريرا فانثنى ... في القوم بعد تجاول وتعاد
ونهى دريسا فانثنى عن قوله ... حبر يوافق أمره برشاد
وذكر له ابن إسحاق في "المعنى" قصيدتين:
أحدهما أولها:
ألم ترني من بعد هم هممته ... بفرقة حر الوالدين كرام
بأحمد لما أن شددت مطيتي ... رحلي وقد ودعته بسلام
والأخرى أولها:
بكى طربا لما رآنا محمد ... كأن لا يرانا راجعا لمعاد
فبت يجافيني تهلل دمعه ... وقربته من مضجعي ووسادي
#409#
فقلت له قرب قعودك وارتحل ... لا تخش مني جفوة ببلادي
وخل زمام العيس وارتحلن بنا ... على عزمة من أمرنا ورشادي
ومنها:
فقال لهم قولا بحيرا وأيقنوا ... له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا ... وجاهدهم في الله حق جهاد
فقال ولم يملك له النصح رده ... فإن له إرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه ... أخو الكتب مكتوب بكل مداد
و "بحيرا" المذكور قيل: إنه من "عبد القيس"، واسمه:
#410#
"جرجس"، وكان يسكن قرية يقال لها: "الكفر"، بينها وبين "بصرى" - التي هي قصبة حوران من أعمال "دمشق"- ستة أميال. وقيل: كان يسكن "البلقاء" بقرية يقال لها: "ميفعة" وراء زيرا.
خرج أبو أحمد ابن عدي فقال: وحدثنا السعدي -يعني: أحمد بن حفص-، حدثنا أبو الفتح -يعني: سعيد بن عقبة-، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن بحيرا الراهب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا شرب الرجل كأسا من خمر"، الحديث.
وهذا باطل بيقين؛ لأن "بحيرا" لم يدرك المبعث.
و"سعيد بن عقبة": هذا غير ثقة، و"أحمد بن حفص" السعدي: شيخ ابن عدي: صاحب مناكير، وهذا منها، وإنما ذكرت هذا الحديث الباطل لهتك حاله ولئلا يغتر به، والله المستعان.
#411#
$حرب الفجار$
وفي سنة أربع عشرة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم: حضر مع أعمامه حرب الفجار الأخير الذي يقال له: فجار البراض، وهو: "البراض بن قيس" أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، الذي قتل "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" المجير لطيمة "النعمان بن المنذر" إلى سوق عكاظ.
وبسبب ذلك كانت الحرب، تواعدوا لها سنة، والذي ضرب لهم المدة رجل من بني عامر يقال له: "الأدرم بن شعيب"، كان مع "قيس" فتهيأ الفريقان: "قريش" و"قيس عيلان" للحرب سنة، ثم التقوا.
وفي رؤساء قريش: "عبد الله بن جدعان" وإليه أمرهم، وفي قيس عيلان: "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" وإليه أمرهم، وكانت الراية بيده، وهو سوى صفوفهم، فالتقوا بسوق عكاظ.
#412#
فكانت الدبرة أول النهار لـ "قيس" على "قريش"، ثم صارت الدبرة آخر النهار لـ "قريش" على "قيس"، فقتلوهم قتلا ذريعا، حتى نادى "عتبة بن ربيعة" يومئذ وهو شاب ما كملت له ثلاثون سنة إلى الصلح، فاصطلحوا على أن عدوا القتلى ، وودت "قريش" لـ"قيس" ما قتلت، فضلا عن قتلاهم، وعلى هذا القول جماعة منهم: الواقدي.
وقيل: سبب هذه الحرب أن "حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو الفزاري"، قاد "أسدا"، و "غطفان" كلها، وأتى ابنه عيينة سوق عكاظ والناس يتبايعون، فقال: أرى هؤلاء مجتمعين بلا عهد ولا عقد، ولئن بقيت إلى قابل ليعلمن. فغزاهم من قابل، وأغار عليهم، وكانت الحرب فيه بين "كنانة" و"قيس"، والدبرة على "قيس عيلان".
ذكره ابن قتيبة بنحوه.
وسمي "الفجار" لفجورهم في الشهر الحرام بالقتال فيه.
وقال ابن الجوزي: إنما سمي الفجار؛ لأن "بني كنانة" و"هوازن" استحلوا الحرم، ففجروا. انتهى.
وأيام الفجار للعرب ستة على ما قيل، وذكر السهيلي عن
#413#
المسعودي: أنها أربع فجارات، قال آخرها "فجار البراض" المذكور في السيرة، وكان لـ "كنانة" و"قيس" فيه أربعة أيام مذكورة: "يوم شمظة" [و"يوم العبلاء" وهما عند عكاظ]، و"يوم الشرب" وهو أعظمها يوما، و"يوم الحريرة" عند نخلة.
و"يوم الشرب" انهزمت "قيس" إلا "بني نصر" منهم؛ فإنهم ثبتوا. انتهى.
وقيل: كان حرب الفجار في سنة عشرين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وجزم به الواقدي وغيره، قال الواقدي: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الفجار فقال: "قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيهم بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت"، وكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة. انتهى.
وروى الفضل بن الحباب، عن محمد بن سلام، أخبرني عمر بن معاذ
#414#
التيمي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رميت يوم الفجار بضعة عشر سهما من قصي". قال ابن سلام: يعني: من صنعته، أي: عمله.
ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار" أي: أناولهم النبل.
قاله أبو عبيد الهروي.
وقال الواقدي: فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبد الله بن عروة، عن حكيم بن حزام قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفجار قد حضره.
#415#
$أمر دار الندوة$
وقبل العشرين من عمر النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع سادة من قريش في "دار الندوة" يتشاورون في مهم، وحضرهم قيل من أقيال اليمن، وهو ملك دون الملك الأعلى من "حمير"، وكان ذلك القيل نافر إليهم ابن عمه - أي: حاكمه في الرياسة.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم "دار الندوة" وهو غلام يدعو عمه أبا طالب، فأشار إليه فأتاه فناجاه، ثم خرجا جميعا.
فقال ذلك القيل: يا معشر قريش، من هذا الغلام الذي يمشي تكفؤا، ولا يلتفت، وينظر مرة بعيني لبؤة مجرية ومرة بعيني عذراء خفرة؟
قالوا: يتيم أبي طالب وابن أخيه، ثم قالوا له -أو: من قال منهم-: إن وصفك له لينبئ عن عظمه في صدرك؟
فقال: أما و"نسر" - يعني: صنما كانت "حمير" تعبده- لئن بلغ هذا الغلام أشده ليميتن قريشا، ثم ليحيينها، ولقد نظر إليكم نظرة لو كانت
#416#
سهما لانتظم أفئدتكم فؤادا فؤادا، ثم نظر إليكم نظرة أخرى، لو كانت نسيما لأنشرت الموتى.
فقال له -أو من قال منهم-: يا قيل، حسبك، فإن الأمر غير ما تظن.
فقال: سترون.
ذكره أبو هاشم بن ظفر -من بلاغاته- في كتابه "أنباء نجباء الأبناء".
#417#
$أمر "أكثم بن صيفي"$
قال: ونحو ذلك ما بلغني: أن "أكثم بن صيفي" حكيم العرب حج فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سن الحلم يتبع أبا طالب، فقال أكثم لأبي طالب: ما أسرع ما شب أخوك -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- .
فقال له أبو طالب: إنه ليس بأخي، ولكنه ابن أخي عبد الله.
قال: ابن الذبيح؟
قال: نعم.
قال أكثم: إني كنت رأيته وهو في حجر عبد المطلب يوم أرسل السحاب إلى بلاد "مضر"، فظننته ابنه. ثم جعل أكثم يتأمل النبي صلى الله عليه وسلم ويتفرس فيه، ثم قال: يا ابن عبد المطلب، ما تظنون بهذا الفتى؟
فقال أبو طالب: إنا لنحسن به الظن، وإنه لحيي جري وفي سخي.
فقال أكثم: هل غير ما تقول يا ابن عبد المطلب؟
قال: نعم، إنه لذو شدة ولين ومجلس ركين ومفصل مبين.
#418#
فقال أكثم: هل غير ما تقول يا ابن عبد المطلب .
قال: نعم، إنا لنتيمن بمشهده، ونتعرف البركة فيما لمسه بيده.
فقال أكثم: هل غير ما تقول يا ابن عبد المطلب؟
فقال أبو طالب: إنه لغلام بعد وحرية أن يسود، ويتخرق بالجود، ويعلو جده الجدود.
فقال أكثم: لكني أقول غير هذا.
فقال أبو طالب: قل؛ فإنك نقاب غيب وجلاء ريب.
فقال أكثم: أخلق بابن أخيك أن يضرب العرب قامطة بيد خابطة، ورجل لابطة، ثم ينعق بهم إلى مرتع مريع، وورد تشريع،
#419#
فمن اخروط إليه هداه، ومن احرورف عنه أرداه.
فقال أبو طالب: إن عندنا لذروا من ذلك. أي طرفا من العلم به.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشا أتوا كاهنة فقالوا لها: أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام. فقالت: إن أنتم جررتم كساء على هذه السهلة ثم مشيتم عليها أنبأتكم. فجروا ثم مشى الناس عليها، فأبصرت أثر محمد صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا أقربكم شبها به، فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة أو قريبا من عشرين سنة أو ما شاء الله، ثم بعث صلى الله عليه وسلم.
وحدث به ابن ماجه عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يوسف، عن إسرائيل به.
#420#
$ابتداء مجيء الملائكة إليه صلى الله عليه وسلم$
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم عشرين سنة أرسل إليه الله تعالى ملائكة فيما ذكره عبيد بن عمير الليثي المكي قاص أهل مكة، وذلك فيما رواه أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، أخبرنا أبو الحسن بن البراء -يعني: محمد بن أحمد بن البراء العبدي- قال: سأل عبد الله بن الزبير عبيد بن عمير عن مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحدثك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شكى وهو يومئذ ابن عشرين سنة إلى عمه أبي طالب فقال: "يا عم، إني منذ ليال يأتيني آت معه صاحبان له، فينظرون إلي ويقولون، هو هو ولم يأن له، فإذا كان فإنك لرجل منهم ساكت". قال: "فقد هالني ذلك"، فقال: يا ابن أخي، ليس بشيء، حلمت.
ثم رجع إليه بعد ذلك فقال: "يا عم، سطا بي الرجل الذي ذكرت لك فأدخل يده في جوفي، حتى إني لأجد بردها".
قال: فخرج به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطبب بمكة، فحدثه حديثه، وقال: عالجه، فصوب به وصعد وكشف عن قدميه ونظر بين كتفيه فقال: يا ابن عبد مناف، ابنك هذا طيب طيب، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته، وليس الذي به من الشيطان، ولكنه من النواميس الذين يتحسسون القلوب للنبوة.
#421#
فرجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما أحسست حسا ما شاء الله، حتى رأيت في منامي رجلا وضع يده على منكبي، ثم أدخل يده فأخرج قلبي ثم قال: قلب طيب في جسد طيب. ثم رده، فاستيقظت".
قال: "ثم رأيت وأنا نائم سقف البيت الذي أنا فيه نزعت منه خشبة وأدخل سلم فضة، ونزل إلي منه رجلان، فجلس أحدهما جانبا والآخر إلى جنبي، فنزع ضلعي جنبي، ثم استخرج قلبي فقال: نعم القلب قلبه، قلب رجل صالح ونبي مبلغ. ثم ردا قلبي مكانه وضلعي، ثم صعدا، فاستيقظت والسقف على حاله، فشكوت إلى خديجة فقالت: لا يصنع ا لله بك إلا خيرا"، وذكر الحديث.
#422#
$حلف الفضول$
وفي هذه السنة سنة عشرين من مولده صلى الله عليه وسلم حضر حلف الفضول.
قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، حدثني الضحاك بن عثمان، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن أبيه: سمعت حكيم بن حزام رضي الله عنه يقول: كان حلف الفضول منصرف "قريش" من الفجار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنة.
قال محمد بن عمر: وأخبرني غير الضحاك قال: كان الفجار في "شوال"، وهذا الحلف في "ذي القعدة"، وكان أشرف حلف كان قط، وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا لنكونن مع المظلوم حتى نؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التأسي في المعاش. فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول".
وروى أحمد بن حنبل، عن بشر بن المفضل وابن علية فرقهما، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
#423#
"شهدت مع عمومتي حلف المطيبين وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه".
وهذا لفظ "بشر".
وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عبد الله بن محمد يقول: سمعت ابن زنجويه يقول: قدمت "مصر"، فأتيت أحمد بن صالح المصري فقال: من أين أنت؟
قلت: من أهل "بغداد".
فقال: أين منزل أحمد بن حنبل؟
قلت: أنا من أصحابه.
فقال: اكتب لي موضع منزلك؛ فإني أريد أن أدخل العراق حتى تجمع بيني وبين أحمد بن حنبل. فكتبت له، فوافى "أحمد بن صالح" سنة اثنتي عشرة "العراق" إلى "عفان"، فلقيني فقال: الوعد الذي بيني وبينك.
فذهبت به إلى أحمد بن حنبل فاستأذنت له عليه، فقلت له: أحمد بن صالح المصري بالباب.
قال: ابن الطبري؟
قلت: نعم.
فأذن له، فدخل فرحب به وقام إليه وقال: بلغني أنك جمعت حديث الزهري، فهات حتى نذكر ما روى الزهري عن الصحابة.
قال: فجعلا يتذاكران ولا يغرب أحدهما على الآخر، حتى فرغا، فما رأيت مذاكرة أحسن من مذاكرتهما.
#424#
فقال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: فتعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أولاد الصحابة. فجعلا يتذاكران ولا يغرب أحدهما على الآخر، إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: عند الزهري: عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يسرني أن لي حلف المطيبين وأن لي حمر النعم".
فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: أنت الأستاذ وتذكر مثل هذا؟!
فجعل أحمد بن حنبل يتبسم ويقول: روى هذا الحديث عن الزهري رجل صالح أو مقبول: عبد الرحمن بن إسحاق.
فقال أحمد بن صالح: من رواه عنه؟
فقال أحمد بن حنبل: رجلان ثقتان: "إسماعيل ابن علية" و"بشر بن المفضل".
فقال أحمد بن صالح: سألتك بالله إلا أمليته علي.
فقال أحمد بن حنبل: من الكتاب، فقام ودخل البيت وأخرج الكتاب وأملاه عليه.
ثم قال أحمد بن صالح: لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث لكان كثيرا. ثم ودعه وخرج.
#425#
ورواه أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي فقال: حدثنا العباس -يعني: ابن الوليد- النرسي، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه".
وخرجه أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" أيضا فقال: حدثنا
#426#
الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا بنحوه.
تابعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي في "تاريخه" فقال: حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة، فذكره.
ورواه أيضا عن عبد الرحمن بن إسحاق جماعة منهم: "إبراهيم بن طهمان" و"خارجة بن مصعب".
ورواه خالد بن عبد الله الواسطي، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمد بن جبير، عن عبد الرحمن بن عوف به، فأسقط منه "جبيرا".
ورواه الواقدي، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن عبد الرحمن بن أزهر، عن
#427#
عبد الرحمن بن عوف.
وحدث بن عبد العزيز الدراوردي، عن عمر بن عثمان بن موسى، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلف بني هاشم وزهرة، فما سرني أني نقضته، وأن لي حمر النعم".
قال الدارقطني في كتابه "العلل": ووهم فيه -يعني:الدراوردي-، وإنما هو: عثمان بن عمر بن موسى. انتهى.
وقال أبو الربيع خالد بن يوسف بن خالد السمتي: حدثنا أبو عوانة، حدثنا عمر، عن أبي سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شهدت من حلف إلا حلف قريش: حلف المطيبين"، قال: "وما أحب أن لي حمر النعم وأنكثه"، والمطيبون: "هاشم" و"أمية" و"الزهرة" و"مخزوم".
وهذا مرسل، و"عمر" هو: ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: ليس بالقوي.
وأخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه"، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا معلى بن مهدي، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شهدت من حلف قريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم، وأني كنت نقضته".
#428#
قال: والمطيبون: "هاشم"، و"أمية"، و"زهرة"، و"مخزوم".
قال أبو حاتم ابن حبان: أضمر في هذين الخبرين -يعني: خبر أبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما-: "من" يريد به "شهدت من حلف المطيبين"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشهد حلف المطيبين؛ لأن حلف المطيبين كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وهم من المطيبين. انتهى.
وقال بشر بن آدم: حدثنا صالح بن موسى، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان حلف المطيبين بين خمسة رهط من بطون قريش: بني هاشم، وتيم، وزهرة، وأسد بن عبد العزى، والحارث بن عبد مناة"، قال: "وغمسوا أيديهم في طيب كانوا هؤلاء الخمسة رهط".
وفي بعض طرق حديث حلف الفضول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها". الحديث.
وهو مخرج في "مسند الحارث بن [أبي] أسامة".
وأخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث مسروق بن المرزبان، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن سماك، عن
#429#
عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما سرني أن لي حمر النعم، وأني نقضت الحلف الذي في دار الندوة".
وقال عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني القاضي: حدثنا عبد الله بن شبيب أبو سعيد، حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثني عمر بن أبي بكر الرملي، حدثني عثمان بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، سمعت حكيم بن حزام رضي الله عنه -وهو: جد عبد الله بن عروة أبو أمه- يقول: انصرفت قريش من الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنة، وكان "الفجار" في شوال، وكان حلف الفضول أكرم حلف كان قط وأعظمه شرفا، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وذلك أن الرجل من العرب أو العجم ممن كان يقدم مكة بتجارته ربما ظلموا، وكان آخر من ظلم بها رجل من بني زيد بن مذحج، فقدم سلعته فباعها من "العاص بن وائل السهمي"، وكان شريفا عظيم القدر، فظلمه ثمنه، فناشده الزبيدي في حقه قبله، فأبى، فأتى الزبيدي الأحلاف: "عبد الدار" و"مخزوما" و"جمحا" و"سهما" و"عدي بن كعب"، فأبوا أن يعينوه على "العاص بن وائل"، وزبروه، فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على "أبي
#430#
قبيس" قبل طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجر
هل مخفر من بني سهم بخفرته ... فعادل أم حلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك "الزبير بن عبد المطلب" وقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت "هاشم" و"زهرة" و"تيم بن مرة" في "دار ابن جدعان"، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة وما أرسى "حراء" و"ثبير" مكانهما، وعلى التأسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلفا في دار ابن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت هاشما وزهرة وتيما".
#431#
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك:
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم
وهذا أحد الأقوال في سبب تسميته بـ "حلف الفضول".
وحكى الزبير بن بكار ذلك أيضا، وحكى أنه إنما سمي "حلف الفضول" لأنهم تحالفوا على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الرواية بذلك قريبا.
وقيل: إنما سمي بذلك لأنه لما تداعى له من ذكر من قبائل قريش كره ذلك المطيبون والأحلاف بأسرهم، وسموه "حلف الفضول" عيبا له، وقالوا: هذا من الفضول.
وقيل: بل كان هذا الحلف على مثال حلف تقدم إليه نفر من "جرهم" كما حكاه ابن قتيبة فقال: كان سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف "جرهم" في الزمن الأول، فتحالف منهم ثلاثة هم ومن معهم، أحدهم: "الفضل بن فضالة"، والثاني: "الفضل بن وداعة"، والثالث: "فضيل بن الحارث".
#432#
وذكر نحوه أبو عبيد الهروي وقال: فـ"الفضل" واحد "الفضول" كما يقال "سعد" و"سعود" انتهى.
وسماهم الزبير بن بكار: "الفضل بن سراعة" و"الفضل بن وداعة" و"الفضل بن قضاعة".
وقيل: هم "الفضل" و"فضال" و"فضيل"، فسمي حلف قريش الأخير "حلف الفضول" مثل الأول.
#433#
&خروجه صلى الله عليه وسلم في تجارة لـ"خديجة" وتزويجه بها بعد ذلك وذكر أولاده منها والاختلاف في ذلك&
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة لأربع عشرة ليلة بقيت من "ذي الحجة" -وقيل غير ذلك- خرج في تجارة للطاهرة "أم هند خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي" الأسدية القرشية رضي الله عنها قبل أن يتزوجها، مع غلامها "ميسرة" إلى الشام، وكانت استأجرته على أربع بكرات، واستأجرت معه رجلا آخر من قريش، فخرج حتى بلغ سوق بصرى. وقيل: سوق حباشة بـ "تهامة".
قال الواقدي: أخبرنا معمر بن راشد، عن الزهري، عن عروة قال: كان حكيم بن حزام رجلا تاجرا لا يدع سوقا بـ "مكة" ولا "تهامة" إلا حضرها، وكان يقول: كان بـ "تهامة" أسواق أعظمها سوق حباشة، وهي على ثمانية مراحل من مكة "طريق الجند"، فكنت أحضرها، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرها، فاشتريت بها بزا، فقدمت به مكة، فذلك حين أرسلت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى أن يخرج لها إلى "سوق حباشة"، وبعثت معه غلامها "ميسرة".
قال: فخرجا فابتاعا بزا من بز الجند وغيره، ومما فيها من التجارة، فرجعا به إلى مكة، فربحا ربحا حسنا، وكانت سوقا تقوم في كل سنة في شهر رجب ثمانية أيام.
#434#
وقال أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال: فلما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أشده، وليس له كبير مال، استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، وهو سوق بـ "تهامة"، واستأجرت معه رجلا من قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عنها: "ما رأيت من صاحبة لأجير خيرا من خديجة رضي الله عنها، ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا".
وروى أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في كتابه "ما روى أهل الكوفة مخالفا لأهل المدينة" فقال: حدثنا أصبغ بن فرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أشده، وليس له كبير مال، استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلما رجعنا من سوق حباشة قلت لصاحبي: انطلق بنا نتحدث عن خديجة. قال: فجئناها، فبينما نحن عندها دخلت علينا
#435#
منتشية من مولدات قريش، فقالت: محمد، هذا والذي يحلف به أن جاء خاطبا، فعلت، فانطلقت فتزوجتها".
وقال أبو يوسف عقب هذا: و"علي" يومئذ ابن تسع سنين.
قال الذهبي -فيما وجدته بخطه-: هذا لا يصح، وهو باطل بيقين؛ لأن "عليا" ما كان ولد بعد. انتهى.
قلت: وسيأتي -إن شاء الله تعالى- من حديث الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران: أن تزويجه صلى الله عليه وسلم بـ "خديجة" كان قبل أن يولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ" فقال: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر بن راشد. ح.
وروى عبد الرزاق بن همام في كتابه "المغازي" -واللفظ له- عن معمر، عن الزهري قال: فلما استوى -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- وبلغ أشده، وليس له كثير مال استأجرته خديجة ابنة خويلد رضي الله عنها إلى سوق حباشة، وهو سوق بـ "تهامة"، واستأجرت معه رجلا آخر من قريش،
#436#
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عنها: "ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة؛ ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا".
قال: "فلما رجعت من سوق حباشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لصاحبي: انطلق بنا عند خديجة. قال: فجئناها، فبينما نحن عندها إذ دخلت علينا منتشية من مولدات قريش. -و"المنتشية": الناهد التي تشتهي الرجال- فقالت: أمحمد هذا والذي يحلف به أن جاء لخاطبا؟ فقلت: كلا.
فلما خرجنا أنا وصاحبي قال لي: أمن خطبة خديجة تستحيي، فوالله ما من قرشية إلا تراك لها كفؤا.
قال: فرجعت أنا وصاحبي إليها مرة أخرى، فدخلت علينا تلك المنتشية فقالت: أمحمد هذا والذي يحلف به أن جاء لخاطبا".
قال: "فقلت على حياء: أجل".
قال: فلم تعصنا خديجة ولا أختها، فانطلقت إلى أبيها "خويلد بن أسد" وهو ثمل من الشراب، فقالت: هذا ابن أخيك محمد بن عبد الله يخطب خديجة، وقد رضيت خديجة.
فدعاه فسأله عن ذلك، فخطب إليه فأنكحه.
قال: "فخلقت خديجة أباها، وحلت عليه حلة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح صحا الشيخ من سكره قال: ما هذا الخلوق؟ وما هذه الحلة؟
#437#
قالت أخت خديجة: هذه الحلة كساكها ابن أخيك محمد بن عبد الله، أنكحته خديجة وقد بنى بها. فأنكر الشيخ ذلك، ثم صار إلى أن سلم واستحيى.
وطفقت رجاز من رجاز قريش تقول:
لا تزهدي خديج في محمد ... جلد يضيء كضياء الفرقد
ورواه موسى بن المساور الضبي، عن عبد الله بن معاذ الصنعاني بنحوه.
وحدث بنحوه الزبير بن بكار في كتابه في "ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"، عن محمد بن الحسن -وهو: ابن زبالة- قال: حدثني غير واحد من أهل العلم منهم: عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة وأسامة بن حفص، عن يونس، عن ابن شهاب. وعبد الرزاق بن همام، عن معمر، عن ابن شهاب وعبد الله بن وهب عن الليث بن سعد، وبعضهم يزيد على بعض، وإلى كل قد أسندت حديثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استوى وبلغ أشده، وساق الحديث مطولا، وفيه وفيما قبله: "إذ دخلت علينا منتشية من مولدات قريش".
وفسرت في رواية عبد الرزاق في "المغازي" بـ: الناهد التي تشتهي الرجال.
#438#
ورويت هذه اللفظة في بعض طرق الحديث: "مستنشية".
قال أبو عبيد الهروي: قال الأزهري: هو اسم تلك الكاهنة، لا ينون.
وقال غيره: المستنشية: الكاهنة؛ لأنها كانت تستنشي الأخبار، أي: كانت تبحث عنها.
وقال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري -رحمه الله-: أخبرنا عبد الله بن بيان الأنباري، حدثنا محمد بن يعقوب الرازي، حدثنا محمد بن سلم بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا محمد بن بكار بن أبي ميمونة، حدثنا عبد الله بن معبة -وأثنى عليه خيرا-، حدثنا أبو معشر. قال أبو بكر ابن الأنباري: وكتبت من كتاب أبي برزة الحاسب وصرت إليه، فلم يقرأه علي ليمين لحقته في أن لا يحدث ما حيي، حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل، قال: سمعت أبي، حدثنا عبيد بن حكيم كلاهما: عن ابن جريج، عن الزهري رفع الحديث: أن خزيمة بن حكيم السلمي ثم البهزي رضي الله عنه
#439#
كانت بينه وبين خديجة بنت خويلد رضي الله عنهما قرابة، وأنه قدم عليها، وكان إذا قدم عليها أصابته بخير، فوجهته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلام لها يقال له: "ميسرة"، في تجارة إلى "بصرى" من أرض الشام، فأحب "خزيمة" رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا، وكان لا يفارقه في نومه ولا في يقظته، فساروا حتى إذا كانوا بين "الشام" و"الحجاز" قام على "ميسرة" بعيران لخديجة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الركب، فخاف "ميسرة" على نفسه وعلى البعيرين، فانطلق يسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى البعيرين، فوضع يده على أخفافهما وعوذهما، فانطلق البعيران يسعيان في أوائل الركب لهما رغاء، فلما رأى "خزيمة" ذلك علم أن له شأنا عظيما، فحرص على لزومه ومحافظته، فساروا حتى إذا دخلوا الشام نزلوا براهب من رهبان الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، ونزل الناس متفرقين، وكانت الشجرة التي نزل تحتها شجرة يابسة قحلة قد تساقط ورقها ونخر عودها.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن تحتها أنورت وأشرقت، واعشوشبت ما حولها، وأينع ثمرها، وتدلت أغصانها وترفرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بعين الراهب، فلم يتمالك أن انحدر من صومعته، فقال: سألتك باللات والعزى ما اسمك؟
فقال: "إليك عني ثكلتك أمك، فما تكلمت العرب بكلمة أثقل علي من هذه الكلمة".
وكان ذلك مكرا من الراهب وكان معه حين نزل من صومعته رق أبيض، فجعل ينظر فيه مرة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى، ثم أكب ينظر فيه مليا، فقال: هو هو ومنزل الإنجيل.
فلما سمع بذلك "خزيمة" ظن أن الراهب يريد بالنبي صلى الله عليه وسلم مكرا،
#440#
فضرب بيده إلى قائمة سيفه، فانتزعه، وجعل يصيح بأعلى صوته: يا لغالب، يا لغالب.
فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون: ما الذي راعك؟ ما الذي أفزعك؟
فلما نظر الراهب إلى ذلك أسرع إلى صومعته، فدخلها وأغلق عليه بابها، ثم أشرف عليه فقال: يا قوم، ما الذي راعكم مني؟ فوالذي رفع السموات بغير عمد ما نزل بي ركب هو أحب إلي منكم، وإني لأجد في هذه الصحيفة: أن النازل تحت هذه الشجرة، وأومأ بيده إلى الشجرة التي تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو رسول رب العالمين، يبعث بالسيف المسلول وبالذبح الأكبر، وهو خاتم النبيين، فمن أطاعه نجا، ومن عصاه غوى.
ثم أقبل على "خزيمة" فقال: ما تكون من هذا الرجل أرجلا من قومه. يعني: قال: لا، ولكن خادم له. وحدثه بحديث البعيرين، فقال له الراهب: أيها الرجل، إنه النبي الذي يبعث في آخر الزمان، وإني مفوض إليك أمرا ومستكتمك خبرا، وعاهد إليك عهدا.
قال: وما هو؟ فإني سامع لقولك وكاتم لسرك ومطيع لأمرك.
فقال: إني أجد في هذه الصحيفة: أنه يظهر على البلاد، وينصر على العباد، ولا ترد له راية، ولا تدرك له غاية، وإن له أعداء أكثرهم اليهود أعداء الله، فاحذرهم عليه.
فأسر "خزيمة" ذلك في نفسه، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إني لأرى فيك شيئا ما رأيته في أحد من الناس، وإني لأحسبك النبي الذي يذكر أنه يخرج من "تهامة"، وإنك لصريح في ميلادك ولأمين في أنفس قومك، وإني لأرى عليك من الناس محبة،
#441#
وإني مصدقك في قولك، وناصرك على عدوك. فانطلقوا يؤمون الشام، فقضوا بها حوائجهم ثم انصرفوا.
ورجع "خزيمة" إلى بلاده وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعت بخروجك أتيتك. فأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان فتح مكة، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: "مرحبا بالمهاجر الأول، ما الذي أبطأ بك يا خزيمة؟ أين ما وعدتني أنك تأتيني إذا سمعت بخروجي؟"
فقال خزيمة: والله يا رسول الله، لقد أتيتك وعذري عدد أصابعي، فما نهنهني عنك ألا أكون أول من دان بدينك، وأجاب دعوتك، وأقر برسالتك؛ لأني مقر بالقرآن، كافر بالطغيان، بريء من الأوثان، مؤمن بالرحمن عز وجل، ولكنها يا رسول الله أصابتنا سنوات شداد تركت المخ رارا والمطي هارا، غاضت لها الدرة، ونقصت لها الثرة، وعاد لها النقاد مجرنثما، والذيخ محرنجما، والفريش مسحنككا، والعضاه مستحلكا، ألبست الأرض
#442#
الوديس، واجتاحت جميم اليبيس، وأفنت أصول الوشيج، حتى آل السلامى، وأخلف الخزامى، وأينعت العثمة، وسقطت البرمة، وبضت الحنمة، وتفطر اللحاء، وحمل الراعي العجالة، واكتفى من حمله بالقيلة، أتيتك مسرعا غير مبدل لقولي، ولا ناكث لبيعتي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله -تبارك وتعالى- يعرض على عبده كل يوم نصيحة، فإن قبلها سعد وإن تركها شقي، وإن الله عز وجل يبسط لمسيء الليل بالنهار ليتوب؛ فإن تاب تاب الله عليه، ولمسيء النهار بالليل ليتوب، فإن تاب تاب الله عليه، إن الحق ثقيل، كثقله يوم القيامة، وإن الباطل خفيف كخفته يوم القيامة، وإن الجنة محظور عليها بالمكاره، وإن النار محظور عليها بالشهوات، أنعم صباحا تربت يداك".
#443#
قال خزيمة: يا رسول الله، حدثني عن ظلمة الليل وضوء النهار، وعن حر الماء في الشتاء وبرده في الصيف، وعن مخرج السحاب، وعن موضع الماء، وعن قرار ماء الرجل وماء المرأة، وعن موضع النفس من الجسد، وما شراب المولود في بطن أمه؟ وعن مخرج الجراد وعن البلد الأمين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ظلمة الليل وضوء النهار، فإن الله تعالى خلق خلقا من غثاء الماء، باطنه أسود، وظاهره أبيض، طرف له بالمشرق وطرف له بالمغرب، تمدده الملائكة، فإذا أشرق الصبح طردت الملائكة الظلمة، وسلخ الجلباب حتى يجعلوه في المغرب في طرف الهواء، وإذا أظلم الليل طردت الملائكة الضوء حتى يجعلوه في المشرق في الهواء، وهما يتراوحان لا يبليان ولا يتغيران.
وأما حر الماء في الشتاء وبرده في الصيف: فإن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها ، فإذا طال ليلها في الشتاء طال لبثها تحت الأرض، فيسخن الماء لذلك، وإذا كان الصيف مرت مسرعة، لا تلبث تحت الأرض لقصر الليل، فيبيت الماء باردا.
وأما مخرج السحاب: فإنه ينشأ من طرف الخافقين بين السماء والأرض، فيطل عليه العنان المكفوف حوله الملائكة الصفوف، يلجمه الجنوب والصبا، ويخرقه الشمال والدبور.
وأما موضع النفس من الجسد: فإن القلب معلق بالنياط، والنياط عرق يسقي العروق، فإذا هلك القلب انقطع الدم.
وأما قرار مني الرجل: فإنه يخرج ماؤه من الإحليل، وهو عرق يجري من ظهره، حتى يستقر قراره في بيضته اليسرى.
#444#
وأما المرأة: فإنه يلقى ولا يتحرك حتى تدنو عسيلتها.
وأما شراب المولود في بطن أمه: فإنه يكون منيا أربعين، ومشيجا أربعين، ثم علقة أربعين، ثم مضغة أربعين، ثم يكون العظم صكيكا، ثم جنينا، ثم يستهل وينفخ فيه الروح، فإذا أراد الله أن يخرجه قبل تمامه أخرجه، وإن أراد أن يؤخره في الرحم أخره، أمر الله نافذ، وقوله صادق، ينحلب عليه عروق الرحم، وفيها يكون اللبن.
وأما مخرج الجراد: فمن بطن حوت في البحر يقال له: الإيوان.
وأما البلد الأمين: فتلك مكة، مهاجر الغيث والبرق والرعد إليها، لا يدخلها الدجال، وآية ذلك إذا منع الحمى وفشا الربا، وظهر الزنا، ونقص المكيال والميزان، وقام الصغير إلى الكبير".
حديث غريب عجيب.
وقد رواه أبو بكر أحمد بن عبد الكريم بن يعقوب الحلبي المؤدب، عن أبي عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي الأذني، حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل الحراني، حدثنا أبي، فذكره بنحوه وفي آخره أبيات لخزيمة في مقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي:
إني أتيتك يا بن آمنة الذي ... في الكتب يأتينا نبيا مرسلا
فشهدت أنك أحمد ونبيه ... خير البرية حافيا ومنعلا
#445#
أوصى به عيسى ابن مريم بعده ... كانت نبوته لزاما فيصلا
وقد حدث به أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، عن الطبراني، حدثنا محمد بن يعقوب الخطيب الأهوازي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن -هو: ابن عبد الصمد السلمي، يكنى: أبا بكر- حدثنا أبو عمران الحراني يوسف بن يعقوب، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن "خزيمة بن ثابت" -وليس بالأنصاري- [كان في عير لخديجة رضي الله عنها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم][10] كان معه في تلك العير، وذكر الحديث مطولا بنحوه.
تابعه القاضي أبو بكر أحمد بن محمد بن خرزاذ الأهوازي عن محمد بن يعقوب.
وروى آخر الحديث دون أوله أحمد بن محمد بن عبد الله البزاز عن عبد الله بن أحمد بن موسى، حدثنا محمد بن عبد الرحمن السلمي.
ورواه بطوله أحمد بن سيار المروزي، حدثنا أحمد بن النعمان بن الوجيه بن النعمان أبو الحسن، حدثني أبي، حدثني رجل من بني سليم، عن أخيه، عن منصور بن المعتمر، عن قبيصة بن عمرو بن إسحاق الخزاعي، عن خزيمة بن حكيم السلمي البهزي -وكان صهرا
#446#
لخديجة رضي الله عنها-، وذكر الحديث.
وفيه اضطراب غير ما ذكرنا.
ولم يذكره الطبراني في "معجمه"، ولا أبو عبد الله ابن منده، ولا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة"، لكن أشار إليه، فقال أبو نعيم في كتابه: "خزيمة بن حكيم السلمي النهدي": ذكره بعض المتأخرين وزعم أنه كان صهر خديجة بنت خويلد، خرج تاجرا إلى "بصرى" مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن حديثه عند الوجيه بن النعمان، عن منصور، عن قبيصة بن إسحاق، عن خزيمة بن حكيم. لم يزد أبو نعيم على هذا.
وأراد -والله أعلم- بقوله: "بعض المتأخرين" أبا عبد الله بن منده؛ فإنه قال: روى حديثه ابن النعمان، عن أبيه، عن جده: الوجيه، عن منصور، عن قبيصة بن إسحاق.
وقول ابن منده: "النهدي" عده بعضهم تصحيفا، وهو كذلك؛ لأن البهزيين من "بني سليم".
وسفر النبي صلى الله عليه وسلم في تجارة خديجة روي من غير وجه؛ منها: ما قال
#447#
أبو بكر ابن أبي شيبة: حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، حدثني موسى بن شيبة الحزامي، حدثتني عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت: سمعت نفيسة بنت منية -أخت يعلى بن منية رضي الله عنها- تقول: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا "الأمين" مما تكاملت فيه من خصال الخير قال له أبو طالب: يا ابن أخي، إني رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وقد ألحت علينا سنون، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك يتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها لاسترعت إليك وفضلتك على غيرك؛ لما يبلغها عنك من طهارتك، وإني لأكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد بدا من ذلك.
وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش تجارا، ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعلها ترسل إلي في ذلك".
فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبرا.
وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد
#448#
هذا. فأرسلت إليه فقالت: إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك.
ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي أبا طالب فذكر له ذلك، فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك.
فخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام قالت: وكل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم بصرى من الشام فنزل في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان يقال له: "نسطورا"، إذ طلع الراهب إلى "ميسرة" وكان يعرفه.
فقال: يا ميسرة، من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟
فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم.
فقال نسطورا: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي.
ثم قال له: أفي عينيه حمرة؟
قال: نعم، لا تفارقه.
فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، فيا ليتني أدركه حين يؤمر بالخروج، فوعى ذلك ميسرة.
ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى، فباع سلعته التي خرج بها واشترى، وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال له الرجل: احلف باللات والعزى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله، ما حلفت بهما قط".
فقال له الرجل: القول قولك.
#449#
ثم قال الرجل لميسرة خاليا به: يا ميسرة، هذا والله نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو، تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم، فوعى ذلك ميسرة، ثم انصرف أهل العير جميعا.
وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر ينظر إلى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره.
قال: وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة، فلما رجعوا وكانوا بـ "مر الظهران" تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في الظهيرة، وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في الظهيرة، وهو على بعيره والملكان يظلانه، فأرته خديجة نساء لها، فعجبن، فلما دخل ميسرة عليها أخبرت بما رأت.
فقال لها ميسرة: لقد رأيت هذا منذ خرجنا. وأخبرها بقول الراهب وما قال الرجل الذي خالفه في البيع.
فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ضعف ما كانت سمت له، فلما استقر عندها هذا، وكانت امرأة حازمة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها حريص على نكاحها، لو قدروا على ذلك لبذلوا لها الأموال.
قالت: نفيسة: فأرسلتني خديجة دسيسا إليه، فأتيته فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تزوج؟
#450#
قال: "ما بيدي ما أتزوج به" فقلت له: كفيت ذلك ودعيت إلى الكفاية والجمال والشرف والمال، ألا تجيب؟
قال: "بلى".
قال: "فمن؟".
قالت: قلت: خديجة بنت خويلد.
قال: "فكيف لي بذلك؟".
قالت: أنا لك بذلك.
قال: "فأنا أفعل".
قال: فدخلت نفيسة فأخبرت بذلك خديجة، فأرسلت إليه: أن ائت ساعة كذا وكذا.
وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد، فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمومته، فزوجه أحدهم، فقال عمرو بن أسد: هذا البضع لا يقرع أنفه.
وكان تزويج "خديجة" رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الشام، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فولدت له: "القاسم" و"الطاهر" و"زينب"
#451#
و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة" رضي الله عنهم.
وحدث به محمد بن سعد في "الطبقات" عن الواقدي، حدثني موسى بن شيبة، فذكره، وزاد فيه بعد قوله: "وهو ابن خمس وعشرين سنة" قال: وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة، ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة.
وقد روي: أن "ورقة بن نوفل" خاطب "خديجة" بهذه الأبيات في ذلك، فقال فيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق:
أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عني بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... فخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور وبالنجدين حيث الصحاصح
#452#
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص دوالح ،
فخبرنا عن كل خير بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان: هود وصالح
وموسى وإبراهيم حين يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي بن غالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن ارضك في الأرض الفسيحة سائح
#453#
وقد روي هذا الشعر على غير هذا بنحوه، بزيادة في رواية سلمة عن ابن إسحاق؛ وهي:
فمتبع دين الذي أسس الهدى ... وكان له فضل على الناس راجح
وأسس بنيانا بمكة ثابتا ... تلألأ فيه بالظلام المصابح
منيفا على تشييد كل مشيد ... على بابه ذي العروتين الصفائح
مثابا لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الطلائح
حراجيج حدبا قد كللن من السرى ... تعلق في أرساغهن السرائح
قال ابن سعد في "طبقاته الكبرى": وقد أسلمت "نفيسة بنت منية"، وهي التي كانت سعت فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة بنت خويلد، حتى تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف لها ذلك.
وقال أبو الحسين محمد بن غسان بن جبلة العتكي: حدثنا أبو عبد الله محمد بن الحسن العتكي، حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد، حدثنا
#454#
أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان سبب تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد: أنه أقبل "ميسرة" غلام خديجة من سفره ومعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل تحت شجرة.
قال: فرآه الراهب فقال: من هذا السيد الذي معك؟
قال: من أهلي.
قال: إنه ليس من أهلك بيقين، وإنه نبي الله، ما جلس هذا المجلس بعد "عيسى ابن مريم" أحد غيره.
قال: فأقبل إلى خديجة فأخبرها بما قال الراهب، وقال لها: إني كنت آكل معه حتى يشبع، ويبقى الطعام.
فدعت خديجة بقناع عليه رطب، ودعت أختها "هالة" وهي: أم أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، ودعت النبي صلى الله عليه وسلم، فأكلوا حتى شبعوا، فلم ينقص شيئا.
فقالت له خديجة: اخطبني إلى عمي: عمرو بن أسد - وكان شيخا كبيرا، ولم يكن لـ "أسد" يومئذ ولد غيره- فانطلق هو و"حمزة" معه إليها، فذبحت شاة وجعلت طعاما، ثم بعثت إلى "عمرو" فأكل، ثم سقته، فلما أخذ فيه الشراب قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لعمك أبي طالب يخطبني إليه في هذا المجلس.
فأتاه أبو طالب فخطب إليه خديجة على النبي صلى الله عليه وسلم، فزوجه، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، فلما ذهب عنه السكر سمع أصواتا فقال: ما هذا؟ فأخبر، فقال: خدعتني.
فقالت: يا هذا، هو الله كفؤك؛ فأتم له ذلك. ففعل.
#455#
وهذا لا يثبت، وما رواه الكلبي عن أبي صالح لا شيء.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي الله عنهما -فيما يحسب ابن سلمة-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكان أبوها يرغب أن يزوجه ، فصنعت طعاما وشرابا، ودعت أباها وأناسا من قريش، فطعموا وشربوا، فقالت خديجة لأبيها: إن محمد بن عبد الله يخطبني، قم فزوجه. فزوجها إياه، فخلقته وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء إذا زوجوا بناتهم، فلما سري عنه السكر نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة، قال: ما شأني؟ فقالت: زوجتني من "محمد". فقال: أنا زوجتك؟! .. .. الحديث، وفيه: فلم تزل به حتى رضي.
وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد .. .. فذكره.
وقال الطبراني في "معجمه": حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثني أبي، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه -أو: رجل من أصحاب النبي
#456#
صلى الله عليه وسلم- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنما فاستعلى الغنم، فكان في الإبل هو وشريك له، فاكتريا أخت خديجة، فلما قضوا السفر بقي لهم عليها شيء، فجعل شريكه يأتيهم فيتقاضاهم ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: انطلق. فيقول: "اذهب أنت فإني أستحيي".
فقالت مرة وأتاهم: فأين محمد لا يجيء معك. قال: قد قلت له، فزعم أنه يستحيي.
فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء منه، ولا أعف، ولا، ولا.
فوقع في نفس أختها خديجة، فبعثت إليه، فقالت: ائت أبي فاخطبني إليه.
فقال: "أبوك رجل كثير المال، وهو لا يفعل".
قالت: انطلق فالقه وكلمه ثم أنا أكفيك، وائت عند سكره.
ففعل، فأتاه، فزوجه، فلما أصبح جلس في المجلس، فقيل له: قد أحسنت، زوجت محمدا صلى الله عليه وسلم قال: أو قد فعلت؟
قالوا: نعم.
فقام، فدخل عليها فقال: إن الناس يقولون: إني قد زوجت محمدا، وما فعلت؟!
قالت: بلى، فلا تسفهن رأيك، فإن محمدا كذا وكذا. فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوقيتين من فضة أو ذهب، وقالت: اشتر حلة فاهدها له وكبشا وكذا وكذا. ففعل.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا إبراهيم بن المنذر،
#457#
حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم، عن القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن عبد الله بن الحارث حدثه: أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له تربا، وكنت له إلفا وخدنا، وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، حتى إذا كنا بـ "الحزورة" أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟
قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته.
فقال: "بلى، لعمري".
فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا.
فغدونا عليهم، قال: فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا خديجة حلة، وصفرت لحيته، وكلمت أخاها فكلم أباه وقد سقي خمرا، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسأله أن يزوجه، فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاما، فأكلنا منه، ونام أبوها، ثم استيقظ صاحيا فقال: ما هذه الحلة؟ وهذه النقيعة؟ وهذا الطعام.
فقالت له ابنته التي كانت كلمت عمارا: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك حين زوجته خديجة.
#458#
فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرجت بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاؤه فكلموه.
فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته؟
فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجتك فسبيل ذلك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته.
في هذه الأخبار أن أباها زوجها، وهو قول الزهري وابن إسحاق وطائفة، وقد تقدم أن عمها "عمرو بن أسد" زوجها، وهو المشهور.
وروى يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن إبراهيم بن المنذر، عن عمر بن أبي بكر المؤملي أنه قال: والمجتمع: أن عمها "عمرو بن أسد" الذي زوجها. انتهى.
وكان أبو خديجة "خويلد" إذ ذاك هلك فيما قاله أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، وموت أبيها كان يوم حرب الفجار - فيما بلغنا عن الواقدي وغيره.
قال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر بن عبد الله بن مسلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم. ح.
قال: وحدثنا ابن أبي الزناد، عن هشام، عن عروة، عن عائشة.
قال: وحدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن [ابن] عباس رضي الله عنهما: أن عم خديجة "عمرو بن أسد" زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أباها مات "يوم الفجار".
#459#
قال محمد بن عمر: وهذا المجتمع عليه عند أصحابنا، ليس بينهم فيه اختلاف. انتهى.
و"الفجار" كان مرارا كما ذكرناه، فـ "الفجار الأول" كان في سنة عشر من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحرب فيه ثلاث مرار، ولم يحضر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن الجوزي أن القتال حصل في كل مرة بين القوم.
وذكر أبو محمد ابن قتيبة في "المعارف" أنه لم يكن بينهم قتال.
و"الفجار الثاني" ذكرناه قبل، أنه كان في سنة أربع عشرة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: في سنة عشرين.
فظهر بهذا أن أبا خديجة لم يكن حيا حين تزوجت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن ابن إسحاق وغيره: أن أخاها "عمرو بن خويلد" أنكحها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
$[خطبة أبي طالب عند تزويج خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم]:$
وقد جاء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء لتزويج خديجة دخل في عمومته وبني هاشم، فقام أبو طالب فقال: "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا،
#460#
وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا "محمد بن عبد الله" لا يوزن به رجل إلا رجح به برا وفضلا وكرما وعقلا ومجدا ونبلا، وإن كان في المال قل فإن المال زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، و"محمد" قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة وبذلك لها من الصداق ما هو آجله وعاجله من مالي، وهو -والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل"، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكره بنحوه أبو الحسين ابن فارس في "مختصر السيرة".
وذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقها عشرين بكرة.
وقيل: أصدقها اثنتي عشرة أوقية . وقيل: ونشا.
$[ما روي في كم عمر النبي صلى الله عليه وسلم عند زواجه خديجة]:$
وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، وهو المشهور وهو قول أبي عمرو بن العلاء وغيره.
#461#
وقال أبو عمر ابن عبد البر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام في تجارة لخديجة سنة خمس وعشرين، وتزوج خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما في عقب صفر سنة ست وعشرين، وذلك بعد خمس وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام من يوم الفيل.
وقيل: لما تزوج بها كان ابن إحدى وعشرين سنة. قاله الزهري.
وجاء عن ابن جريج: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وهو ابن سبع وثلاثين سنة.
$[ما روي في كم عمر خديجة عند زواجها النبي صلى الله عليه وسلم]:$
وقال أبو عمر ابن عبد البر: وقال أبو بكر ابن عثمان وغيره: كان يومئذ ابن ثلاثين سنة. قال: وخديجة بنت أربعين سنة. انتهى.
وهذا هو المشهور في سن خديجة يومئذ؛ لأنه نقل فيما قدمناه أن مولدها كان قبل "الفيل" بخمس عشرة سنة.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن الأسدي، عن أهله قال: سألوا حكيم بن حزام رضي الله عنه: أيهما كان أسن: رسول الله صلى الله عليه وسلم أو "خديجة"؟ فقال: كانت خديجة أسن منه بخمس عشرة سنة، لقد حرمت على عمتي الصلاة قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#462#
قال أبو عبد الله محمد بن سعيد: قول حكيم: "حرمت عليها الصلاة" يعني: حاضت. ولكنه تكلم بما يتكلم به أهل الإسلام.
وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: نحن نقول ومن عندنا من أهل العلم: أن خديجة ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة وإنما كانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة.
أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المنذر بن عبد الله الحزامي، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، سمعت حكيم بن حزام يقول: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وهي ابنة أربعين سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس وعشرين سنة، وكانت أسن مني بسنتين، ولدت قبل "الفيل" بخمس عشرة سنة، وولدت أنا قبل الفيل بثلاث عشرة سنة.
وقيل: كان سنها لما تزوجها خمسا وأربعين سنة.
وقيل: ثلاثين سنة.
وقيل: ثمان وعشرين سنة.
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت خديجة يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة ثمان وعشرين سنة، ومهرها اثنتي عشرة أوقية، وكذلك كانت مهور نسائه صلى الله عليه وسلم.
#463#
وكانت قد ذكرت "خديجة" إلى "ورقة بن نوفل" فلم يقض بينهما نكح، فتزوجها "عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم".
و"عابد" هذا بالموحدة والدال المهملة، ومن كان من ولد "عمر بن مخزوم" كذلك، وأما من كان من ولد "عمران بن مخزوم" كذلك، وأما من كان من ولد "عمران بن مخزوم" فهو "عائذ" بالهمز والذال المعجمة.
ذكره الزبير بن بكار.
وولدت "خديجة" لـ "عتيق" هذا جارية اسمها: "هند"، وقال ابن سعد -عن "عتيق"-: وهو: ابن عمها، فولدت له "محمدا"، ويقال: لبني محمد هذا بنو الطاهرة؛ لمكان "خديجة"، وكان له بقية وعقب فانقرضوا. انتهى.
ثم خلف عليها "أبو هالة هند بن النباش بن زرادة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدي بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم" حليف بني عبد الدار بن قصي.
وقيل: اسمه: "زرارة".
#464#
وسماه الزبير بن بكار: "مالك بن نباش بن زرارة".
وقال في جده "عدي".
فذكر أبو نصر ابن ماكولا: أن أحمد بن سعيد الدمشقي زعم: أنه "غدي" بضم الغين المعجمة، وأن الزبير صحفه وقال: "عدي".
فولدت "خديجة" لأبي هالة -فيما ذكره ابن حزم-: "هندا"، وبه كانت تكنى خديجة.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال يونس: وولدت له أيضا: "الحارث" و"زينب".
وذكر أبو عمر ابن عبد البر في أولاد أبي هالة: "الطاهر بن [أبي] هالة"، وقال: أخو "هند" و"هالة" بنو أبي هالة الأسدي التميمي، حليف بني عبد الدار بن قصي، أمه "خديجة" زوج النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملا على بعض اليمن. انتهى.
وقيل: إن "عتيقا" خلف عليها بعد "أبي هالة" على ما ذكره ابن سعد وغيره، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت منه بأولاده كلهم إلا "إبراهيم".
#465#
قال الواقدي: وكانت "سلمى" مولاة "صفية بنت عبد المطلب" تقبل "خديجة" في أولادها، قالت: فكانت تعق عن كل غلام شاتين وعن الجارية شاة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتعد ذلك قبل ولادها. انتهى.
[ذكر ما روي في أولاد النبي صلى الله عليه وسلم]:
فأولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها ستة، ولدتهم قبل الإسلام، إلا القاسم فيما قاله أبو عبيدة وغيره.
وروي عن "نفيسة" أخت "يعلى" قالت: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم "خديجة" مرجعه من الشام وهو ابن خمس وعشرين سنة، فولدت له: "القاسم" و"الطاهر" و"زينب" و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة".
قاله البخاري في "تاريخه الصغير".
#466#
وقد قدمناه مطولا.
وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أخي، عن سليمان، عن هشام بن عروة قال: ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من "خديجة" بمكة: "عبد الله" و"القاسم" وماتا قبل الإسلام.
وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد بن عقيل، حدثنا عبد السلام بن راشد الرفاء، حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خديجة ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: "عبد الله" و"القاسم" و"زينب" و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة"، وولدت له "مارية": "إبراهيم".
وخرجه أيضا في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل، حدثنا أبي، حدثنا عبد السلام بن راشد، فذكره.
#467#
وذكر بعضهم: أن "القاسم" بكر النبي صلى الله عليه وسلم وبه كان يكنى.
وقيل: ولد "القاسم" قبل النبوة بمكة، ومات بها وهو ابن سنتين. قاله الزهري.
وقال مجاهد: مات وله سبعة أيام. وخطأ ذلك "الغلابي" وقال: الصواب: أنه عاش سبعة عشر شهرا.
وقال قتادة: عاش "القاسم" حتى مشى.
وحدث أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن أبي عبد الله الجعفي، عن جابر، عن محمد بن علي قال: كان "القاسم" ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ أن يركب الدابة، ويسير على النجيبة،
#468#
فلما قبضه الله عز وجل قال عمرو بن العاص: لقد أصبح محمد صلى الله عليه وسلم أبتر من ابنه. فأنزل الله عز وجل: {إنا أعطيناك الكوثر} عوضا يا محمد عن مصيبتك بـ "القاسم" {فصل لربك وانحر} السورة.
هكذا في هذه الرواية! والمشهور أن القائل للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك هو العاص بن وائل السهمي أحد المستهزئين الذين أهلكهم الله عز وجل.
وذكر الزبير بن بكار: أن "القاسم" مات بمكة، وهو أول ميت مات من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم "عبد الله" مات أيضا بمكة.
وذكر أبو الحسن علي بن الجنيد الرازي في "تاريخه": وهو جزء لطيف أن "القاسم" ولد بعد البنات، و"عبد الله" ولد في الإسلام؛ ولهذا تسمى "الطيب" و"الطاهر"، وقيل: هما غيره، والأول أصح.
#469#
وقال أبو بكر البرقي: ويقال: إن "الطيب" هو "الطاهر" وهو "عبد الله"، وفرق قوم بينهما، ويقال إن "الطيب" و"المطيب" ولدا في بطن، و "الطاهر" و"المطهر" ولدا في بطن.
قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا":الصحيح: أن هذه الألقاب لـ "عبد الله"؛ لأنه ولد في الإسلام.
وقال في كتابه "منتخل المنتخب" فيما وجدته بخطه في "ترجمة عبد الله": وهو "الطيب" و"الطاهر" لقبان له.
وذكره الزبير بن بكار، وهو قول الزهري.
وقال علي بن الجنيد في "تاريخه" في ترجمة "خديجة": وولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناته الأربع: "زينب" و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة"، وولدت بعد البنات: "القاسم" و"الطاهر" و"إبراهيم" و"الطيب"، فذهب الغلمة وهم يرضعون.
كذا قال ابن الجنيد، والصحيح: أن "إبراهيم" من "مارية القبطية" كما في "الصحيح"، ولم تلد له "خديجة" رضي الله عنها ولدا اسمه "إبراهيم"، ولم أر أحدا ذكره إلا ابن الجنيد، كما ذكرناه عن "تاريخه"، ثم ذكر ابن الجنيد بعد ذلك "مارية القبطية"، ثم قال: ولدت له "إبراهيم" فمات.
#470#
وقوله: "فذهب الغلمة وهم يرضعون" في ذلك خلاف ذكر بعضه.
وقد جاء: أن "خديجة" رضي الله عنها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي بعد موت "القاسم" فقالت: يا رسول الله، درت لبينة "القاسم"، فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعه لهون علي. فقال: "إن شئت أسمعتك صوته في الجنة؟"، فقالت: بلى؛ أصدق الله ورسوله.
خرجه الفريابي في "مسنده".
وروينا من طريق أحمد بن محمد بن سلم الكاتب، حدثنا حفص الربالي، حدثنا أبو زياد سهل بن زياد، حدثنا الأزرق بن قيس، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن خديجة ابنة خويلد: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أين أطفالي منك؟ قال: "في الجنة"، قالت: بغير عمل؟ قال: "قد علم الله ما كانوا عاملين"، قالت: فأين أطفالي من أزواجي من المشركين؟ فقال: "في النار"، قالت: بغير عمل؟ قال: "قد علم الله ما كانوا عاملين".
#471#
وهو في "سنن أبي داود" بنحوه.
وذكره بنحوه مختصرا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه "أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال فيه عن أولادها من النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "وإن شئت دعوت الله فأراكهم وأراك منزلهم وأسمعك أصواتهم" أو نحو هذا، فقالت: بل أصدق الله ورسوله.
وقال محمد بن أحمد بن البراء العبدي في كتابه "الروضة الصغيرة" وأبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في "مسند أبيه" واللفظ له إسنادا ومتنا حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي رضي الله عنه قال: سألت خديجة رضي الله عنها النبي عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما في النار".
قال: فلما رأى الكراهية في وجهها قال: "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما"، قالت: يا رسول الله، فولدي منك؟ قال: "في الجنة". قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم}.
"محمد بن عثمان" الراوي عن "زاذان": قال الذهبي عنه في "الميزان": لا ندري من هو؟! فتشت عليه في أماكن، وله خبر منكر.
#472#
ثم ذكر الحديث الذي ذكرناه من رواية عبد الله بن أحمد.
وأخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الفارقي، ومحمد بن محمد البالسي، وأبو بكر بن إبراهيم بن العز المقدسي، وأبو الحسن علي وزينب ولد الفخر عثمان الحلبي، وزينب بنت الإمام عبد الله الحراني، وفاطمة وعائشة: بنتا محمد بن عبد الهادي، وغيرهم: بقراءتي عليهم، سوى الأول: فقراءة عليه، وأنا أسمع، قالوا: أخبرنا أحمد بن أبي طالب البناني قراءة عليه، قال علي وبنت الحراني: ونحن حاضران، وقال الآخرون: ونحن نسمع.
#473#
زاد أبو هريرة فقال: وأخبرنا عيسى بن عبد الرحمن الدلال، وسليمان بن حمزة الحاكم وأبو بكر بن أحمد الضرير وإسماعيل بن يوسف السويدي وزينب بنت شكر، قراءة على الأول وأنا شاهد، وأجازه لي الباقون، قالوا سوى أبي بكر: أخبرنا عبد الله بن عمر الحريمي، وقال الحاكم أيضا وأبو بكر الضرير: أخبرنا الحسين بن المبارك البغدادي، قال الحاكم: حضورا، وقال الضرير: سماعا، قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا محمد بن [أبي] مسعود، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا عبد الله بن محمد أبو القاسم، حدثنا العلاء بن موسى، حدثنا الهيثم بن
#474#
عدي قال: وحدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: فولدت له صلى الله عليه وسلم -يعني: خديجة-: "عبد العزى" و"عبد مناف" و"القاسم". قال: قلت لهشام: فأين "الطيب" و"الطاهر"؟ قال: هذا ما وضعتم أنتم يا أهل العراق، وأما أشياخنا فقالوا: "عبد العزى" و"عبد مناف" و"القاسم". وذكر بقيته.
قال ابن الجوزي في كتابه "تلقيح فهوم أهل الأثر": "الهيثم": كذاب لا يلتفت إلى قوله، قال لنا شيخنا ابن ناصر: لم يسم رسول الله صلى الله عليه وسلم "عبد مناف" ولا "عبد العزى".
قال أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري -رحمه الله وإيانا- فيما وجدته بخطه: لقد صدق الحافظ ابن ناصر، وكان من الصدق والحفظ
#475#
بمكان رفيع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسم "عبد مناف" ولا "عبد العزى" وفي حديث الراهب الذي نزل به في سفره لما رأى علامات النبوة فيه قال له: يا غلام، باللات والعزى، أسألك ألا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما بغضت شيئا بغضهما"، قال: فبالله، ألا أخبرتني عما أسألك عنه. قال: "سلني عما بدا لك". انتهى.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في ترجمة خديجة رضي الله عنها: وولدت له في الجاهلية: "القاسم"، و"عبد مناف"، و"الطيب" وهو "عبد الله" مات رضيعا، و"الطاهر"، فذلك أربع بنات وأربعة بنين، والدليل على ذلك: أن "عبد مناف" لو كان ولد في الإسلام لم يسمه عبد مناف.
وقال أبو محمد ابن حزم: وكان له صلى الله عليه وسلم من الولد "القاسم" وبه يكنى، عاش أياما يسيرة، وولد له قبل النبوة ولدان آخران اختلف في اسم أحدهما: فلا تخرج الرواية في ذلك عن "عبد الله" و"القاسم" و"الطيب" و"المطيب"، و"زينب" و"رقية" و"فاطمة" و"أم كلثوم"، وهؤلاء كلهم ولدوا بمكة من خديجة رضي الله عنها.
#476#
وقال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي: والصحيح في البنين: أنهم ثلاثة، وأول من ولد له "القاسم" ثم "زينب" ثم "رقية" ثم "فاطمة" ثم "أم كلثوم"، ثم في الإسلام: "عبد الله"، ثم "إبراهيم" بالمدينة.
قال: وكلهم ماتوا قبله صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها؛ فإنها عاشت بعده ستة أشهر. انتهى.
وخرج الترمذي في "جامعه" عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي في قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} قال: ما كان ليعيش له فيكم ولد ذكر.
#477#
&تزويجه صلى الله عليه وسلم بناته رضي الله تعالى عنهن&
والبنات الأربع زوجهن كلهن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن عتبة، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يزوج شيئا من بناته جلس إلى خدرها فقال: "إن فلانا يذكر فلانة" يسميها ويسمي الرجل الذي يذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر، فإذا نقرته لم يزوجها.
أما فاطمة رضي الله عنها فكنيتها: "أم أبيها" فيما ذكر عن جعفر بن محمد.
وولدت وقريش تبني البيت، وذلك قبل النبوة بخمس سنين، ذكره ابن سعد في "الطبقات"، وذكر نحوه علي بن محمد المدائني.
وروي عن أبي جعفر قال: دخل العباس على علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنها وهي تقول: أنا أسن منك، فقال العباس رضي الله عنه: أما أنت يا فاطمة، ولدت وقريش تبني البيت، والنبي ابن خمس وثلاثين سنة، وأما أنت يا علي، فولدت قبل ذلك بسنوات.
وقيل: ولدت "فاطمة" رضي الله عنها سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم. قاله عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي.
#478#
$[تزويج علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها]$
تزوجها "علي" رضي الله عنهما على صداق مختلف فيه:
فروى يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم قال: كان صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه خمسمائة درهم، اثنتي عشرة أوقية ونصفا.
وحدث يونس بن بكير في "المغازي" عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي رضي الله عنه قال: خطبت "فاطمة" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لي مولاة لي: هل علمت أن "فاطمة" قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قالت : فقد خطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك؟ فقلت: وعندي شيء أتزوج؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك. فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة وجلال، فلما قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك حاجة؟" فسكت، فقال: "لعلك جئت تخطب فاطمة؟" فقلت: نعم. "هل عندك من شيء تستحلها به؟" فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: "ما فعلت الدرع الذي سلحتكها؟"،
#479#
فوالذي نفس علي بيده إنها لحطمية ما ثمنها أربعة دراهم. فقلت: عندي. فقال: "قد زوجتكها، فابعث بها إليها فاستحلها به"، فإن كانت لصداق بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في رواية ستأتي قريبا - إن شاء الله تعالى- أن الذي حرضه على خطبة فاطمة: سعد بن معاذ رضي الله عنه.
وحدث سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجل سمع عليا رضي الله عنه يقول: أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، فقلت: والله ما لي من شيء، وكيف؟ قال: ثم ذكرت صلته وعائدته، فخطبتها إليه، فقال: "وهل عندك شيء؟" قلت: لا. قال: "وأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟" قلت: هي عندي. قال: "فأعطها إياها".
حدث به أحمد بن حنبل في "مسنده" عن سفيان نحوه.
وقال أبو داود في "سننه": حدثنا كثير بن عبيد الحمصي، حدثنا أبو حيوة، عن شعيب -هو: ابن أبي حمزة-، حدثني غيلان بن أنس، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عليا لما تزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدخل بها، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطها درعك"، فأعطاها إياه ثم دخل بها.
#480#
[حدثنا كثير بن عبيد]، حدثنا أبو حيوة، عن شعيب، عن غيلان، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
وقال إسحاق بن إسماعيل الطالقاني: حدثنا عبدة، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما تزوج علي رضي الله عنه فاطمة رضي الله عنها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئا"، قال: ما عندي شيء. قال: "أين درعك الحطمية؟".
ورواه يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن أيوب بنحوه، وزاد في آخره: قال عكرمة: كان ثمنها -يعني: الدرع- أربعة دراهم.
تابعه حماد بن زيد، عن أيوب.
ورواه يحيى بن أبي كثير وغيره عن عكرمة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "درعك الحطمية" قال شمر: هي من الدروع العريضة الثقيلة، هي التي تكسر السيوف.
#481#
ويقال: منسوبة إلى بطن من "عبد القيس" يقال لهم: "حطمة بن محارب" كانوا يعملون الدروع.
قال ابن عيينة: وهي شر الدروع.
قال أبو عبيد الهروي: وقيده أبو جعفر بن حبيب النحوي في كتابه "المؤتلف والمختلف" بفتح الحاء وتسكين الطاء: "حطمة بن محارب [بن عمرو] بن وديعة بن نكير".
قال القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني في "تهذيب كتاب ابن حبيب": يقال: "حطمة بن محارب" يعني: بضم الحاء وفتح الطاء، ويقول: إنه الذي نسبت إليه الدروع الحطمية.
قاله ابن الكلبي.
وقال الدارقطني وقد حكى قول ابن حبيب في "حطمة بن محارب" الذي تنسب إليه الدروع الحطمية: ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي
#482#
رضي الله عنه: "أين درعك الحطمية؟".
وقال ابن دريد: "الحطم": رجل من عبد القيس تنسب إليه الدروع الحطمية. عرفه ابن الكلبي، وقال الأصمعي:لا أدري إلى ما نسبت؟!
قال القاضي أبو الوليد: وأرى قول ابن دريد وهما، وأن الصواب ما ذكرته عن ابن الكلبي، وكذلك رأيته في "النسب" له؛ قال: ولد "محارب بن عمرو": "حطمة"، إليه تنسب الدروع الحطمية. انتهى.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه في "الدروع": البيضة: "درع حطمية" مضمومة ومفتوحة، وهي شر الدروع عندهم، وعندهم الثقيلة الغليظة الحلق، يقال لها: "حطمية" و"حطمية".
وقال حماد بن إدريس: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، سمعت عكرمة يقول: استحل علي فاطمة رضي الله عنهما ببدن من حديد، البدن: شبه درع، إلا أنه قصير بقدر ما يكون على الجسد، قصير الكمين.
قاله القاسم بن ثابت في "الدلائل".
وقال جعفر بن محمد عن أبيه قال: أصدق علي فاطمة درعا من حديد وجرد برد.
#483#
وروى وكيع بن الجراح، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر: أن عليا تزوج فاطمة على إهاب كبش وجرد حبرة.
تابعه زهير وإسرائيل عن جابر نحوه.
وقال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس -يعني: ابن بكير-، عن عباد بن منصور، عن عطاء بن أبي رباح قال: لما خطب علي فاطمة رضي الله عنهما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن عليا قد ذكرك"، فسكتت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها: وكان تزويج فاطمة بعلي رضي الله عنهما في "رجب" بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بخمسة أشهر، وبنى بها مرجعه من "بدر"، وكان عمرها حين بنى بها علي رضي الله عنهما ثماني عشرة سنة.
وروي عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا حين دخل بفاطمة كان فراشهما إهاب كبش، إذا أرادا أن يناما قلباه على صوفه، ووسادتهما من أدم حشوها ليف.
وقال أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم الأبار في "معجمه": حدثنا الزهري، حدثنا الفريابي -وهو عبيد الله بن محمد المقدمي حدثنا عبد الله بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر
#484#
رضي الله عنه قال: شهدت عرس علي وفاطمة رضي الله عنهما، فما رأيت عرسا قط أحسن منه، حشونا البيت كثيبا ترابا طيبا، وأكلنا زبيبا وتمرا، وكان فراشهما ليلة عرسهما إهاب كبش.
وروي عن مجالد، عن الشعبي قال: قال علي رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها.
ويروى عن هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي نحوه.
وخرجه ابن ماجه من حديث [محمد بن] فضيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لقد أهديت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي، فما كان فراشنا ليلة أهديت إلي إلا مسك كبش.
قال أبو الحسن الدارقطني في كتابه "العلل": وخالفه يحيى بن يمان فرواه عن مجالد عن الشعبي عن علي، ولم يذكر الحارث في قوله، أشبه بالصواب، يعني: المرسل، ويشبه أن يكون هذا عن مجالد. انتهى.
#485#
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو أسامة، أخبرنا زائدة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام في خميل وقربة ووسادة أدم حشوها ليف الإذخر.
وحدث به النسائي في "سننه" عن نصير بن الفرج، عن أبي أسامة، عن زائدة.
وحدث به الإمام أحمد أيضا في "المسند" عن معاوية بن عمرو وأبي سعيد مولى بني هاشم قالا: حدثنا زائدة، فذكره.
قال أحمد: و"الخميل":القطيفة المخملة.
قلت: و"أبو سعيد" هذا هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد، مولى بني هاشم.
وحدث به أحمد أيضا عن عفان، حدثنا حماد، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة عليها السلام بعث معها بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحاءين وسقاء وجرتين.
#486#
وخرجه ابن ماجه عن واصل بن عبد الأعلى، عن محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب بنحوه.
وقال موسى بن إسماعيل: حدثنا دارم بن عبد الرحمن بن ثعلبة الحنفي، حدثنا رجل أخواله الأنصار، أخبرتني جدتي: أنها كانت مع النسوة اللاتي أهدين فاطمة إلى علي رضي الله عنهما، قالت: أهديت في بردين من برود الأول عليها دملوجان من فضة مصفران بزعفران، فدخلنا بيت علي رضي الله عنه، فإذا إهاب شاة على دكان، ووسادة فيها ليف، وقربة ومنخل ومنشفة وقدح.
رواه ابن سعد، عن موسى بن إسماعيل.
وروي أيضا عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي يزيد المديني، وأظنه ذكره عن عكرمة قال: لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فاطمة رضي الله عنهما كان فيما جهزت به سرير مشروط ووسادة من أدم حشوها ليف، وتور من أدم، وقربة.
قال: وجاؤوا ببطحاء فطرحوها في البيت.
قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "إذا أتيت بها فلا تقربنها حتى آتيك".
قال: وكانت اليهود يؤخذون الرجل عن امرأته. قال: فلما أتى بها قعد حييا في ناحية البيت. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتح، فخرجت إليه أم أيمن فقال: "أثم أخي؟" قالت: كيف يكون أخاك وقد
#487#
أنكحته ابنتك؟ قال: "فإنه كذلك".
ثم قال: "أأسماء بنت عميس؟" قالت: نعم.
قال: "جئت تكرمين ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فقالت: نعم. فقال لها خيرا أو دعا لها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فأتي به إما في تور وإما في سراة.
قال: فمج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسه بيده، ثم دعا عليا فنضح عليه من ذلك الماء على كتفيه وصدره وذراعه، ثم دعا فاطمة فأقبلت تعثر في ثوبها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فعل بها مثل ذلك، ثم قال: "يا فاطمة، أما إني ما آليت أن أنكحتك خير أهلي".
ورواه أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله البصري، حدثنا صالح بن حاتم بن وردان، حدثني أبي، حدثني أيوب، عن أبي يزيد المديني، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: كنت في زفاف بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام، فلما أصبحنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الباب فقال: "يا أم أيمن، ادعي لي أخي"، قالت: هو أخوك وتنكحه ابنتك؟ قال: "نعم يا أم أيمن" قالت: فجاء علي رضي الله عنه، فنضح النبي صلى الله عليه وسلم [عليه] من الماء، ودعا له، ثم قال: "ادعوا لي فاطمة". قالت: فجاءت تعثر من الحياء، فقال لها رسول الله
#488#
صلى الله عليه وسلم: "اسكني؛ فقد أنحتك أحب أهل بيتي إلي" ونضح النبي صلى الله عليه وسلم عليها من الماء ودعا لها.
قالت: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى سوادا بين يديه فقال: "من هذا؟"، فقلت: أنا. قال: "أسماء؟"، قلت: نعم. قال: "بنت عميس؟" قلت: نعم. قال: "جئت في زفاف بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة له؟" قلت: نعم. قالت: فدعا لي.
ورواه مطولا أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن شبويه بالكوفة سنة تسع عشرة ومائتين، قال: قلت لعبد العزيز: أخبركم يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، عن حنظلة بن سبرة بن المسيب، عن أبيه، عن جده -سقط من كتابي "عن" فقط- ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت فاطمة عليها السلام تذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يذكرها أحد إلا صد عنه، حتى يئسوا منه، فلقي سعد بن معاذ علي رضي الله عنهما فقال: إني والله ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبسها إلا عليك.
فقال له: بم ترى ذلك؟ فوالله ما أنا بواحد من الرجلين: ما أنا
#489#
بصاحب دنيا فيلتمس ما عندي وقد علم ما لي صفراء ولا بيضاء، وما أنا بالكافر الذي يترقرق لي بهاء عن دينه -يعني: يتألفه بها عن دينه-، إني لأول من أسلم.
فقال سعد رضي الله عنه: فإني أعزم عليك لتفرجنها عني، فإن لي في ذلك فرجا.
قال: أقول ماذا؟ قال: تقول: جئت خاطبا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنة محمد. فانطلق علي رضي الله عنه، فعرض للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ثقيل حصر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا" كلمة ضعيفة.
ثم رجع إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: ما قلت؟ قال: قلت الذي أمرتني به، غير أنه رحب بي كلمة ضعيفة.
فقال سعد: أنكحك والذي بعثه بالحق، إنه لا خلف عنده ولا كذب، أعزم عليك لتأتينه غدا فلتقولن: يا نبي الله، متى تبنيني بأهلي؟ قال علي: هذا أشد من الأول، ولا أقول يا رسول الله، حاجتي؟! قال: قل كما أمرتك.
قال: فانطلق علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، متى تبنيني بأهلي؟ قال: "الليلة إن شاء الله"، ثم دعا "بلالا" فقال: "يا بلال، قد زوجت ابنتي بابن عمي، فأنا أحب أن تكون من سنة أمتي الطعام عند النكاح، ائت الغنم فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة، فاجعل لي قصعة لعلي أن أجمع عليها المهاجرين والأنصار، فإذا فرغت منها فأذني بها" فانطلق ففعل ما أمره به، ثم أتاه بقصعة فوضعها بين يديه، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأسها، ثم قال: "أدخل الناس رفقة رفقة ولا يعادون إلى غيرها"، فجعل الناس يردون، كلما فرغت رفقة وردت رفقة أخرى، حتى فرغ الناس، ثم عمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فضل منها فتفل فيه وبرك وقال:
#490#
يا بلال، احملها إلى أمهاتك وقل لهن: كلن وأطعمن من غشيكن".
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى دخل على النساء فقال: "إني قد زوجت ابنتي ابن عمي، وقد علمتن منزلتها مني، وأنا دافعها، إلا إن شاء الله، فدونكن ابنتكن"، فقمن إليها فغلفنها من طيبهن وحليهن، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل فلما رآه النساء وثبن، وبينهن وبين النبي صلى الله عليه وسلم سترة، وتخلفت أسماء بنت عميس، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "كما أنت، على رسلك، من أنت؟" قالت: أنا التي أحرس ابنتك، فإن الفتاة ليلة يبنى بها لا بد من امرأة تكون قريبا منها، إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أومأت بذلك إليها. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أسأل الله أن يحرسك من بين يديك ومن/ خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، من الشيطان الرجيم".
ثم صرخ بفاطمة عليها السلام فأقبلت، فلما رأت عليا جالسا إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم حضرت وبكت، فأشفق النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون بكاؤها أن عليا لا مال له، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟ ما ألوتك في نفسي، لقد أصبت لك خير أهلي، وايم الذي نفسي بيده لقد زوجتك به سعيدا في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين".
قال أبو بكر: ذهب علي حرف لا أعرفه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسماء، ائتني بالمخضب فاملئيه ماء"، فأتت أسماء بالمخضب فملأته ماء، ثم مج النبي صلى الله عليه وسلم فيه وغسل فيه قدميه،
#491#
ثم دعا فاطمة عليها السلام فأخذ كفا من ماء فضرب بها على رأسها وكفا بين ثديها، ثم رش جلده وجلدها، ثم التزمها ثم قال: "اللهم إنما هما مني وأنا منهما، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرهما".
ثم دعا بمخضب آخر، ثم دعا عليا رضي الله عنه، فصنع به كما صنع بها، ودعا له كما دعا لها، ثم قال: "قوما إلى بيتكما جمع الله بينكما، وبارك" - أراه قال: فيكما- "وأصلح بالكما"، ثم قام فأغلق عليهما بابه بيده.
قال ابن عباس: فأخبرتني أسماء بنت عميس: أنها رمقت النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يدعو لهما خاصة، لا يشركهما في دعائه أحد، حتى توارى في حجره.
وجاء عن عبد الرزاق: أن أسماء بنت عميس قالت: لما أهديت فاطمة إلى علي لم يجد في بيته إلا رملا مبسوطا ووسادة حشوها ليف.
وذكر الحديث بنحوه، وهو غير صحيح، فإن "أسماء بنت عميس" كانت حينئذ بالحبشة.
وقد رويت قصة عرس فاطمة عليها السلام من طرق أخر، ومن رواية كذابين ورافضة، أضربنا عنها، ولله الحمد.
وكذلك أضربنا عن حديث الخطبة عند التزويج التي أولها: "الحمد لله المحمود بنعمته".
وكذلك الخطبة المنسوبة إلى جبريل في ذلك أيضا، وما قيل إنه
#492#
جرى في زفافها؛ لكونه موضوعا لا يحل ذكره إلا للبيان، والله أعلم.
وقال ابن سعد: أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة -عليها السلام- بعث معها بخملة ووسادة أدم حشوها ليف ورحاءين وسقاء وجرتين.
قال: فقال علي لفاطمة رضي الله عنهما ذات يوم: والله، لقد سنوت، حتى قد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي؛ فاذهبي فاستخدميه.
فقالت: أنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما جاء بك، أي بنية؟" قالت: جئت لأسلم عليك. واستحت أن تسأله ورجعت.
فقال: ما فعلت؟ قالت: استحيت أن أسأله شيئا، فأتياه جميعا، فقال علي: والله يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاء الله بسبي وسعة، فأخدمنا.
قال: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق أثمانهم"، فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفهما، إذا غطيا رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مكانكما؛
#493#
ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟" فقالا: بلى. فقال: "كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا،، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين".
فقال: والله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له ابن الكواء: ولا ليلة "صفين"؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ولا ليلة "صفين".
تابعه أحمد في "مسنده" عن عفان بطوله.
#494#
$مرض "فاطمة" عليها السلام ووفاتها، والاختلاف في مكان قبرها، وقدر عمرها$
ولدت فاطمة لعلي رضي الله عنهما: "حسنا" و"حسينا" و"محسنا" مات صغيرا، وولدت أيضا: "أم كلثوم" و"زينب".
ومرضت فاطمة رضي الله عنها أياما وتوفيت.
قال ابن سعد: أخبرنا عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن عامر قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى فاطمة رضي الله عنها حين مرضت، فاستأذن، فقال علي رضي الله عنه: هذا "أبو بكر" على الباب، فإن شئت أن تأذني له. فقالت: وذلك أحب إليك؟ قال: نعم. فدخل عليها واعتذر لها وكلمها، فرضيت عنه.
وتابعه أبو حمزة محمد بن ميمون السكري، فرواه عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما مرضت "فاطمة" عليها السلام أتاها "أبو بكر" رضي الله عنه فاستأذن، فقال علي رضي الله عنه: هذا "أبو بكر" يستأذن عليك. فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له، فدخل عليها يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت. ثم ترضاها حتى رضيت.
#495#
وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن علي بن فلان بن أبي رافع، عن أبيه، عن سلمى قال: مرضت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا، فلما كان اليوم الذي توفيت فيه خرجت علي، فقالت: يا أمه، اسكبي لي غسلا، فسكبت لها، فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل، ثم قالت: ائتني بثيابي الجدد. فأتيتها بها، فلبستها، ثم قالت: اجعلي فراشي وسط البيت، فجعلته، فاضطجعت عليه، واستقبلت القبلة ثم قالت: يا أمه، إني مقبوضة الساعة، وقد اغتسلت، فلا يكشفن لي أحد كنفا، قالت: فماتت، فجاء علي رضي الله عنه فأخبرته، فقال: لا والله، لا يكشف لها أحد كنفا، فاحتملها، فدفنها بغسلها.
تابعه أبو النضر هاشم بن القاسم، عن إبراهيم بن سعد.
ورواه عاصم بن علي ونوح بن يزيد والحكم بن أسلم، عن إبراهيم بن سعد أيضا، إلا أن في روايتهم: عنه: "عن محمد بن إسحاق عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن أمه سلمى قالت: اشتكت فاطمة
#496#
عليها السلام .. الحديث.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن فاطمة اغتسلت، فذكره مرسلا.
وخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق عاصم بن علي، قال: وهذا الحديث لا يصح. انتهى.
وقال محمد بن سعد أيضا: أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا عبد العزيز بن حازم، عن محمد بن موسى: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه غسل فاطمة عليها السلام.
#497#
وسيأتي إن شاء الله تعالى في "ترجمة: زينب بنت جحش" رواية مصرحة بأن "عليا" و"أسماء بنت عميس" غسلاها بوصية منها لأسماء.
وروى من حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: صلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرتها هو و"علي" و"الفضل بن عباس" رضي الله عنهم.
وروى الواقدي عن قيس بن الربيع، عن مجالد، عن الشعبي قال: صلى عليها أبو بكر رضي الله عنه.
وحدث به أحمد بن كامل القاضي، عن محمد بن عثمان، حدثنا عون بن سلام، حدثنا سوار بن مصعب، عن مجالد، عن الشعبي: أن فاطمة عليها السلام لما ماتت دفنها "علي" ليلا، فأخذ بضبعي أبي بكر رضي الله عنهما فقدمه. يعني: للصلاة عليها.
وجاء عن ابن مجيب محمد بن مجيب الصائغ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: لما ماتت فاطمة
#498#
عليها السلام بين المغرب والعشاء قال: فشهدها نفر من المهاجرين فيهم: "أبو بكر" و"عمر" و"عثمان" و"طلحة" و"الزبير" و"عبد الرحمن بن عوف" رضي الله عنهم.
قال: فقال علي رضي الله عنه: يا أبا بكر، صل عليها. فقال أبو بكر: ما كنت لأصلي عليها وأنت شاهد.
قال: فقال علي رضي الله عنه: والله، لا يصلي عليها أحد غيرك.
قال: فتقدم فصلى عليها.
وجاء من طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي المصيصي - وهو واه، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: توفيت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، فجاء "أبو بكر" و"عمر" و"عثمان" و"طلحة" و"الزبير" و"سعد" وجماعة كثيرة سماهم مالك رضي الله عنهم، فقال أبو بكر لعلي رضي الله عنهما: تقدم فصل عليها.
قال: لا والله، لا تقدمت وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فتقدم أبو بكر فصلى عليها فكبر أربعا ودفنها ليلا.
ورواه عن مالك: "كثير بن الوليد" وهو مجهول.
وروى شبابة بن سوار، حدثنا عبد الأعلى بن [أبي] المساور،
#499#
عن حماد، عن إبراهيم قال: صلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر عليها أربعا.
وجاء عن الزهري عن عروة: أن عليا صلى على فاطمة عليها السلام.
وروي عن علي بن حسين قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما: متى دفنتم "فاطمة"؟ قال: دفناها بليل، بعد هدأة. قال: فمن صلى عليها؟ قال: "علي" رضي الله عنهما.
وقال الواقدي: صلى عليها "العباس بن عبد المطلب"، فنزل في حفرتها هو و"علي" و"الفضل بن العباس" رضي الله عنهم.
وقال أيضا: سألت عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: قلت: إن الناس يقولون: إن قبر فاطمة عليها السلام عند المسجد الذي يصلون إليه على جنائزهم بـ "البقيع". قال: والله ما ذاك إلا مسجد "رقية" -يعني: امرأة عمر- وما دفنت "فاطمة" إلا في "زاوية دار عقيل" مما يلي دار الجحشيين، مستقبل "خوخة بني نبيه" من بني عبد الدار بـ "البقيع"، وبين قبرها وبين الطريق سبعة أذرع.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن
#500#
إسماعيل، عن فائد مولى عبادل: أن عبيد الله بن علي أخبره وغيره ممن مضى من أهل بيته: أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصابه بطن، فلما حزبه وعرف بنفسه الموت أرسل إلى "عائشة" أن تأذن أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نعم ما كان بقي إلا موضع قبر واحد. فلما سمعت بذلك بنو أمية أسلوا السلاح هم وبنو هاشم للقتال، وقالت بنو أمية: لا والله لا يدفن أبدا. فبلغ "الحسن بن علي" فأرسل إلى أهله: أما إذا كان هذا فلا حاجة لي به، ادفنوني بالمقبرة إلى جنب أمي "فاطمة". فدفن إلى جنب "فاطمة".
قال فائد: فأخبرني مولاي ومن سميت من أهلي ممن مضى منهم: أن قبر "فاطمة" يواجه الخوخة التي في دار "نبيه بن وهب" طريق الناس بين قبر "فاطمة" وبين "خوخة نبيه"، أظن الطريق سبعة أذرع.
#501#
وقال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثني عبد الله بن حسن قال: وجدت "المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" واقفا ينتظرني بـ "البقيع" نصف النهار في حر شديد، [فقلت]: ما يوقفك يا أبا هشام ههنا؟ قال: انتظرتك، بلغني أن فاطمة رضي الله عنها دفنت في هذا البيت من "دار عقيل" مما يلي الجحشيين، فأحب أن تبتاعه [لي] بما بلغ؛ أدفن فيه. فقال عبد الله: والله لأفعلن. قال: فجهد بالعقيليين، فأبوا.
قال عبد الله بن جعفر: وما رأيت أحدا يشك في ذلك الموضع.
وبلغنا: أن "أبا العباس المزني" كان إذا زار "البقيع" وقف أمام قبلة "العباس" رضي الله عنه، وسلم على "فاطمة" رضي الله عنها.
ويذكر: أنه كشف له عن قبرها ثمة.
قال عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله عن جعفر بن محمد: قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها الذي أدخله "عمر بن عبد العزيز" رحمه الله في المسجد.
#502#
وروينا من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط أبي جعفر الأشجعي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده قال: لما توفيت فاطمة رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشأ علي بن أبي طالب يقول:
لكل اجتماع من حبيبين فرقة ... وإن مقامي بعدكم لقريب
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم حبيب
توفيت "فاطمة" عليها السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر. قالته: "عائشة" و"عروة" و"خلف"، وهو المشهور الصحيح.
قال الواقدي: وهو الثابت عندنا.
وقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني بعض المدنيين عن ابن جريج ومعمر، عن الزهري، عن عروة -قال معمر، عن عائشة-: توفيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.
رواه الحميدي، عن سفيان، عن عمرو، عن ابن شهاب.
#503#
وروي أيضا عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر.
ونقل عن أبي جعفر أيضا: ستة أشهر.
وروى أبو بشر محمد بن أحمد الدولابي في كتابه "الذرية الطاهرة" فقال: حدثني عبيد الله بن سعيد، حدثني أبي، حدثني أبو عون بن عمر بن تميم الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرو الأنصاري، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وتسعين ليلة في سنة إحدى عشرة.
وقيل: توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثمانية أشهر.
رواه جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث من قوله.
وقيل: بعده بشهرين.
وقيل: بسبعين يوما.
واختلف في سنها يوم توفيت، فقيل: توفيت فاطمة رضي الله عنها ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وهي ابنة تسع وعشرين أو نحوها.
#504#
وقال الحافظ أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين في كتابه "دلائل النبوة": قال لنا ابن منيع: قال لنا أبو بكر ابن أبي شيبة: بلغني أن فاطمة عليها السلام توفيت وهي ابنة تسع وعشرين سنة.
وروى ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: توفيت وهي ابنة ثمان وعشرين سنة.
وقال سعيد بن عفير: وهي بنت سبع وعشرين سنة.
وحدث الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة: أن عبد الله بن حسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله بن حسن: يا أبا محمد، كم بلغت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -ورضي عنها- من السن؟ قال: بلغت ثلاثين. فقال الكلبي: ما تقول؟ قال: بلغت خمسا وثلاثين سنة. فقال هشام لعبد الله: ألا تسمع ما يقول الكلبي وقد عني بهذا الأمر؟! فقال عبد الله بن حسن: يا أمير المؤمنين، سلني عن أمي فأنا أعلم بها، وسل الكلبي عن أمه فهو أعلم بها.
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام": والصحيح: أن عمرها أربع وعشرون سنة - رضي الله عنها وأرضاها-.
#505#
وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله فيما وجدته في كتاب "منتخل المنتخب": وكانت "فاطمة" في السن صغرى وفي القدر الكبرى، ولم يرو عنه الحديث من بناته سواها.
قلت: ومن بنيه.
قال: فإنها روت عنه صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثا، أخرج لها منها حديث واحد في الصحيحين.
وذكر الزبير بن بكار وعمه مصعب بن عبد الله: أن أصغر بناته "رقية" رضي الله عنها.
قال أبو عمر ابن عبد البر: وقد اضطرب "مصعب" و"الزبير" في بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيهن أصغر وأكبر- اضطربا يوجب أن لا يلتفت إليهما في ذلك، والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "زينب" الأولى، ثم الثانية: "رقية"، ثم الثالثة: "أم كلثوم"، ثم الرابعة: "فاطمة"، رضي الله تعالى عنهن، والله أعلم. انتهى قول أبي عمر.
وقال محمد بن يونس الكديمي: حدثنا حماد بن عيسى الجهني حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "سلام عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتي من الدنيا خيرا، فعن قليل ينهد ركناك، والله خليفتي عليك".
قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي رضي الله عنه: هذا أحد الركنين الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ماتت فاطمة عليها السلام قال علي رضي الله عنه: هذا
#506#
الركن [الآخر] الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتفرد به حماد بن عيسى غريق الجحفة، وقد ضعفوه.
قال مسدد: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن جحادة، عن حميد الشامي، عن سليمان المنبهي، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله "فاطمة"، وأول من يدخل عليها إذا قدم "فاطمة"، الحديث.
وهو مما أنكر على حميد الشامي، ذكره ابن عدي وقال: لم أعلم غيره. انتهى.
وقال أبو الحسن محمد بن حامد السري خال ولد السني في كتابه "السنة": حدثني محمد بن محمد بن يحيى بن سعيد، حدثني زيد بن الحباب، أخبرني حسين بن واقد، حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من مغازيه قبل فاطمة -رضوان الله عليها-.
#507#
وحدث روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار: قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت قط أحدا أفضل من فاطمة رضي الله عنها غير أبيها، وكان بينهما شيء، فقالت: يا رسول الله، سلها؛ فإنها لا تكذب.
وقال أبو القاسم الطبراني في كتابه "العشرة": حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا عبد الحميد بن بحر الزاهراني الكوفي، حدثنا خالد بن عبد الله، عن بيان، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجمع؛ غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد، فتمر ، وعليها ريطتان خضراوان".
ورويناه في الأول من "مسند أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي" قال: وحدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله العبسي، حدثنا العباس بن الوليد، عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة
#508#
نادى مناد من وراء العرش: غضوا أبصاركم؛ فإن هذه فاطمة تريد أن تمر على الصراط".
وقال أبو العباس أحمد بن مسلم الأبار الحافظ في "جمعه حديث الزهري": حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا الفضل بن عبد الوهاب، عن خالد الطحان، عن بيان، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يا أهل الجمع، غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وعليها ريطتان بيضاوان".
وقال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثتنا سمانة بنت حمدان بن موسى بن زادي الأنبارية - وجدها: الوضاح بن حسان-، قالت: حدثني أبي، حدثنا عمرو بن زياد الثوباني، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا
#509#
كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: أيها الناس غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة إلى الجنة".
وله شاهد فيما رواه قيس بن الربيع، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا بمعناه.
وجاء عن علي بن موسى الرضي، عن آبائه.
قال أبو الحسن علي بن الخضري سليمان بن سعيد السلمي في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم": أخبرنا أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي الحافظ، حدثنا محمد بن سليمان البندار، حدثنا أحمد بن إبراهيم الغلفي، حدثنا محمد بن عبد الله القرشي، حدثنا إسحاق بن الأشقر، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن عمه: ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أم سليم رضي الله عنها قالت: لم ير لفاطمة رضي الله عنها دم حيض ولا نفاس.
#510#
وقد جمع الحاكم أبو عبد الله في مناقب فاطمة عليها السلام وفي فضلها مصنفا.
ونسل النبي صلى الله عليه وسلم منها دون غيرها من أولاده.
وقال أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن بن النجار فيما أملاه في جمادى الأول سنة أربع وأربعين وثلاث مائة، حدثنا جعفر -يعني: ابن محمد بن شاكر الصائغ-، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا قيس بن الربيع. ح.
قال: وحدثنا أبو قلابة الرقاشي: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا قيس بن الربيع، حدثنا عبد الله بن عمران، عن ابن جدعان -يعني: علي بن زيد-، عن سعيد بن المسيب، عن علي ابن أبي طالب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي شيء خير للمرأة؟"، فلم يجبه أحد. قال: فرجعت فذكرت ذلك لفاطمة قالت: فما أجابه إنسان؟! قلت: لا. قالت: ليس شيء خير للمرأة من أن لا ترى الرجل ولا يراها. قال: فأخبرته صلى الله عليه وسلم بما قالت، فقال: "إنها بضعة مني" أو قال: "مضغة مني".
واللفظ لـ"جعفر" عن "أبي غسان".
#511#
وأنشد الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في المجلس الرابع والأربعين بعد الثلاث مائة من إملائه ووجدته بخطه:
لفاطمة البتول الطهر فضل ... تحققه الرجال أولو العقول
أتتنا فيه أخبار صحاح ... تلقتها الأئمة بالقبول
ولو لم يأتنا في ذاك نقل ... كفاها كونها بنت الرسول
وزوج الهاشمي وأم سبطي ... رسول الله ذي العطف الوصول
فأظهر حبها تؤجر عليه ... ويخبر منك عن طيب الأصول
فإن محبها في الحشر ناج ... ستوصله إلى أوفى وصول
وليس يسر للزهراء بغضا ... سوى رجل دعي أو جهول
فرضوان المهيمن كل وقت ... ورحمته على روح البتول
#512#
$"زينب" رضي الله عنها، وتزويجها بابن خالتها "أبي العاص"، وإسلامه رضي الله عنه فيما بعد، ورجوعها إليه بعد إسلامه، وذكر وفاتها رضي الله عنها$
وأما "زينب" فكانت أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، لا خلاف علمته في ذلك إلا ما لا يصح ولا يلتفت إليه، وإنما الاختلاف بين "القاسم" و"زينب" أيهما ولد له صلى الله عليه وسلم أولا؟
فقالت طائفة من أهل العلم بالنسب: أول ولد ولد له صلى الله عليه وسلم : "القاسم" ثم "زينب".
وقال ابن الكلبي: "زينب" ثم "القاسم". قاله أبو عمر ابن عبد البر.
ولفظ "زينب" مختلف في اشتقاقه، وقال بعضهم: "زينب": زين أب، أي: زين أبيها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم محبا لابنته "زينب"، وزوجها من ابن خالتها: أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى -وقيل: "ربيعة" بدل "عبد العزى"- ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.
وأمه: "هالة بنت خويلد بن أسد".
#513#
ولدت له زينب: "عليا"، مات مراهقا، و"أمامة" وهي التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يونس وعفان، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له قلادة من جزع فقال: "لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي"، فقال النساء: ذهبت بها بنت أبي قحافة. فعلقها في عنق أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"أم محمد" هذه: هي امرأة والد الراوي عنها علي بن زيد بن جدعان، قيل : اسمها "أمينة"، وقيل: "أمية"، بنت عبد الله، والله أعلم.
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": أخبرني مصعب بن عبد الله قال: كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند "أبي العاص"، فولدت له: "عليا" انقرض وكان غلاما، زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه يوم فتح مكة، فدخل مكة، وهو رديف النبي صلى الله عليه وسلم.
و"أمامة بنت أبي العاص"، تزوجها "علي" رضي الله عنهما، فهلكت ولم تلد، فليس لـ"زينب" عقب.
قلت: تزوج "علي" رضي الله عنه "أمامة" بعد وفاة خالتها "فاطمة"، أوصته بذلك "فاطمة" رضي الله عنها فيما قاله مصعب الزبيري.
#514#
وبعد موت "علي" تزوجها "المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب" بوصية من "علي" رضي الله عنه، ولم تلد أيضا للمغيرة شيئا، فيما قاله الزبير بن بكار.
ولدت "زينب" سنة ثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت قبل زوجها "أبي العاص"، وأبى حينئذ أن يسلم، وكان فيمن شهد "بدرا" مع المشركين، فأسر يومئذ.
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المنذر بن سعد مولى لبني أسد بن عبد العزى، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله بن الزبيري. ح.
وقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق، حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، -واللفظ لابن سعد- عن عائشة رضي الله عنها: أن "أبا العاص بن الربيع"، كان فيمن شهد بدرا مع المشركين، فأسره عبد
#515#
الله في فداء أسراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع، وبعثت معه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ بمكة قلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد، أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص بن الربيع حتى بنى بها، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها، ورق لها، وذكر "خديجة"، فترحم عليها، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردون إليها متاعها فعلتم"، قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا على "زينب" قلادتها، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص بن الربيع أن يخلي سبيلها إليه، ففعل.
وقال: قال "محمد بن عمر": وهذا أثبت عندنا من رواية من روى أن زينب هاجرت مع أبيها صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذه الرواية فيها انقطاع، جاءت عن "الشعبي" من قوله، وعن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحت "أبي العاص بن الربيع"، فهاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم زوجها فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فردها عليه.
قال قتادة: ثم أنزلت سورة براءة بعد ذلك، فإذا أسلمت المرأة قبل زوجها فلا سبيل له عليها إلا بخطبة، وإسلامها تطليقة بائنة.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل الشيباني
#516#
في كتابه "الآحاد والمثاني" في ذكر أبي العاص بن الربيع: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أيوب، عن سليمان بن بلال، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجها "أبو العاص بن الربيع" كافر، ثم لحق "أبو العاص بن الربيع" بالشام، فأسر المسلمون "أبا العاص"، فقالت زينب رضي الله عنها: قد أجرت أبا العاص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت".
وهذه القصة التي رواها ابن أبي عاصم حدث بها أبو عبد الله الواقدي مطولة فقال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبيه قال: خرج "أبو العاص بن الربيع" إلى الشام في عير لقريش، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك العير قد أقبلت من الشام، فبعث "زيد بن حارثة" في سبعين ومائة راكبا، فلقوا العير بناحية "العيص" في جمادى الأول سنة ست من الهجرة، فأخذوها وما فيها من الأنفال، وأسروا ناسا ممن كان في العير، منهم: "أبو العاص بن الربيع"، فلم يعد أن جاء المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها بسحر وهي امرأته، فاستجار بها، فأجارته، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها: إني قد أجرت "العاص بن الربيع" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟" قالوا: نعم. قال: "فوالذي نفس محمد بيده،
#517#
ما علمت بشيء مما كان، حتى سمعت الذي سمعتم، المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت" فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب رضي الله عنها، فسألته أن يرد على "أبي العاص" ما أخذ منه، ففعل، وأمرها أن لا يقربها فإنها لا تحل له ما دام مشركا، ورجع "أبو العاص" إلى مكة، فأدى إلى كل ذي حق حقه، ثم أسلم ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا في المحرم سنة سبع من الهجرة، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها بذلك النكاح الأول.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على "أبي العاص بن الربيع"، وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، لم يحدث شهادة ولا صداقا.
ورواه أبو داود في "سننه" من حديث سلمة بن الفضل ومحمد بن سلمة ويزيد بن هارون، عن ابن إسحاق.
وهو في "سنن ابن ماجه" ليزيد بن هارون.
ورواه ابن سعد، عن يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته إلى أبي العاص بعد سنتين بنكاحها الأول، ولم يحدث صداقا.
#518#
وحدث به الترمذي في "جامعه" عن هناد، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بمعناه، وفيه: بعد ست سنين، قال الترمذي: ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله جاء هذا من قبل "داود بن حصين" من قبل حفظه، وسمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث، وحديث الحجاج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على "أبي العاص بن الربيع" بمهر جديد ونكاح جديد.
فقال يزيد: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب.
قلت: وحديث "عمرو بن شعيب" خرجه ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا أبو معاوية الضرير ويزيد بن هارون، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد.
وقال يزيد بن هارون: ومهر جديد.
وخرجه الدارقطني في "سننه" من حديث يوسف بن موسى وأيوب بن حسان الواسطي وأبي هشام، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد "زينب" ابنته رضي الله عنها على "أبي العاص بن الربيع" بنكاح جديد.
#519#
قال الدارقطني: هذا لا يثبت، و"حجاج" لا يحتج به، والصواب: حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول، وكذلك رواه مالك عن الزهري في قصة "صفوان بن أمية".
وحدث به الترمذي في "جامعه" عن أحمد بن منيع وهناد، قالا: حدثنا أبو معاوية، فذكره.
ورواه ابن ماجه عن أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه.
وخرج البيهقي حديث "حجاج" هذا: من طريق الشافعي، حدثنا أبو يوسف، حدثنا الحجاج بن أرطاة، فذكره بنحوه.
ثم قال: فقد قال أبو الحسن الدارقطني رحمه الله فيما أخبرني أبو عبد الرحمن عنه: "هذا لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب: حديث ابن عباس"؛ يريد: ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرني عبد الله بن الحسين القاضي، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب رضي الله عنها على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا.
وفيما حكى أبو عيسى الترمذي عن محمد بن إسماعيل البخاري
#520#
أنه قال: حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب.
قال البيهقي: وبلغني أن "الحجاج بن أرطاة" لم يسمعه من "عمرو"، و"الحجاج" مشهور بالتدليس.
ثم قال: ومن ادعى النسخ في حديث أبي العاص من غير حجة لم يقبل منه، وحين أسر يوم "بدر" لم يسلم، وإنما أسلم بعدما أخذت سرية زيد بن حارثة ما معه، قال: فأتى المدينة فأجارته "زينب"، فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جوارها، ودخل عليها فقال: "أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له"، فكان هذا بعد نزول آية الامتحان في الهدنة، ثم إنه رجع بما كان عنده من بضائع أهل مكة إلى مكة، ثم أسلم وخرج إلى المدينة، فكيف يصح ما روى هذا المدعي عن الزهري: أنه أخذ أسيرا يوم بدر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه ابنته، وكان هذا قبل نزول الفرائض.
قال البيهقي: وإنما الحديث في قصة بدر: أنه أطلقه وشرط عليه. يعني: أن يخلي سبيل ابنته رضي الله عنها.
وذلك أن ابنته كانت بمكة، فلما أسر "أبو العاص" يوم بدر أطلقه على أن يرسل إليه ابنته رضي الله عنها، ففعل ذلك، ثم أسلم بعده بزمان.
هذا هو المعروف عند أهل المغازي، والله أعلم.
#521#
وما رواه في ذلك عن الزهري وقتادة منقطع.
وقال البيهقي أيضا: فإن زعم قائل: أن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ردها عليه بعد ست سنين، وفي رواية: سنتين. والعدة لا تبقى في الغالب إلى هذه المدة.
قلت: النكاح كان باقيا إلى وقت نزول الآية في "الممتحنة"، ولم يؤثر إسلامها وبقاؤها على الكفر فيه، فلما نزلت الآية وذلك بعد "صلح الحديبية" توقف نكاحها -والله أعلم- على انقضاء العدة، ثم كان إسلام "أبي العاص" بعد ذلك بزمان يسير، بحيث يمكن أن تكون عدتها لم تنقض في الغالب، فيشبه أن يكون الرد بالنكاح الأول كان لأجل ذلك، والله اعلم. انتهى.
وحديث التوقيت بالسنتين حدث به الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني"، فقال في ترجمة أبي العاص بن الربيع: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة والمقدمي، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب رضي الله عنها إلى "أبي العاص" بنكاحها الأول بعد سنتين. قاله المقدمي، ولم يقله أبو بكر.
تابعهما: محمد بن سعد كاتب الواقدي عن يزيد بن هارون، وقد تقدم.
#522#
وكان "أبو العاص" رضي الله عنه محبا لزوجته "زينب" رضي الله عنها.
حدث هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن معروف بن خربوذ المكي قال: خرج "أبو العاص بن الربيع" في بعض أسفاره إلى الشام، فذكر امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنشأ:
ذكرت زينب لما وركت إرما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة ... وكل بعل سيثني بالذي علما
رواه ابن سعد عن ابن الكلبي.
وخرجه أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في كتابه "الغزل" فقال: حدثنا إبراهيم بن جميل الأندلسي، حدثنا عمر بن شبه، حدثني أحمد بن معاوية، حدثني هشام بن محمد، حدثني معروف بن خربوذ المكي قال: خرج "أبو العاص بن الربيع" إلى بعض ما يسافر فيه إلى الشام، فاشتاق إلى "زينب" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال .. وذكر البيتين، إلا أنه قال:
بنت الرسول جزاها الله صالحة
وذكر القصة أبو عبيد الله المرزباني في "معجم الشعراء" في ترجمة أبي العاص بن الربيع، وقال: اسمه "القاسم"، وهو الثبت، وقيل: "لقيط"، ويقال: "مهشم"، وكان يقال له: "جرو البطحاء". كذا ذكر المرزباني.
#523#
ومن الخلاف في اسمه: ما قيل فيه: "ياسر"، وقيل: "هاشم".
توفي "أبو العاص" في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة رضي الله عنه.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني ابن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: توفيت "زينب" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها في أول سنة ثمان من الهجرة.
واللائي غسلن زينب رضي الله عنها: "أم أيمن" و"سودة بنت زمعة" و"أم سلمة". قاله: "أبو رافع" و"أم عطية نسيبة بنت كعب الأنصارية".
قال ابن سعد: أخبرنا أبو معاوية الضرير، حدثنا عاصم الأحول، عن حفصة، عن أم عطية قالت: لما ماتت "زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الخامسة كافورا أو شيئا من كافور، وإذا غسلتنها فأعلمنني". فلما غسلناها أعلمناه صلى الله عليه وسلم، فأعطانا حقوه، فقال: "أشعرنها إياه".
"الحقو": الإزار في أحد معانيه، وهو بفتح أوله، وذكر النووي رحمه الله أنه يكسر أيضا. قاله أبو عبيد الهروي، وجمعه: "أحق" و"أحقاء" و"حقى".
وحديث أبي معاوية هذا: خرجه مسلم في "صحيحه" فقال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وعمرو الناقد، جميعا عن أبي معاوية. قال
#524#
عمرو: حدثنا محمد بن خازم أبو معاوية، حدثنا عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الخامسة كافورا أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنها فأعلمنني"، قالت: فأعلمناه فأعطانا حقوه وقال: "أشعرنها إياه".
رواه عن "أم الهذيل حفصة بنت سيرين": أخوها محمد بن سيرين، وأيوب بن أبي تميمة السختياني وخالد الحذاء وهشام بن حسان، وله طرق.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسن بناته.
وكان سبب وفاتها: أنها لما أخرجت من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركها "هبار بن الأسود" ورجل آخر، فدفعها أحدهما فيما قيل، فسقطت على صخرة فأسقطت حملها إذ كانت حاملة، فأهراقت الدم، فلم يزل بها وجعها حتى ماتت رضوان الله عليها.
الرجل الذي لم يسم هنا هو: "نافع بن عبد قيس الفهري".
و"هبار": أسلم، وقتل "يوم أجنادين"، ولم يترك عقبا.
#525#
وجاء من طريق سعد بن الصلت، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج بجنازتها، وخرجنا معه، فرأيناه كئيبا حزينا، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قبرها فخرج ملتمع اللون، وسألناه عن ذلك، فقال: "إنها كانت امرأة مسقاما، فذكرت شدة الموت وضغطة القبر، فدعوت الله أن يخفف عنها".
خرجه الحاكم في "مستدركه".
وفيه اضطراب، اختلف فيه على الأعمش، وذكره ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" وقال: هذا حديث لا يصح من جميع طرقه.
#526#
$"رقية" وتزويجها بـ "عثمان" رضي الله عنهما، وهجرتها معه، ووفاتها رضي الله عنها$
وأما "رقية" رضوان الله عليها: فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن سعد في "الطبقات": كان تزوجها "عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب" قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} قال أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته، ففارقها ولم يكن دخل بها.
وأسلمت حين أسلمت أمها "خديجة بنت خويلد" رضي الله عنها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، وهاجرت معه إلى أرض "الحبشة" الهجرتين جميعا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لأول من هاجر إلى الله تبارك وتعالى بعد لوط عليه السلام"، وفي غير قول ابن سعد: بعد "لوط": و"إبراهيم".
وكانت في الهجرة الأولى قد أسقطت من "عثمان" سقطا، ثم ولدت له بعد ذلك ابنا فسماه: "عبد الله"، وكان "عثمان" يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فطم وجهه فمات -في غير قول ابن سعد- في جمادى الأول سنة أربع.
#527#
قال ابن سعد: ولم تلد شيئا بعد ذلك، وهاجرت إلى المدينة مع زوجها "عثمان" حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى "بدر"، فخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر في شهر رمضان على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم "زيد بن حارثة" من بدر بشيرا، فدخل المدينة حين سوي التراب على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا عفان بن مسلم، أخبرنا حماد بن سلمة، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ماتت "رقية" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون"، فبكت النساء على "رقية" رضي الله عنها فجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضربهن بسوطه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: "دعهن يا عمر يبكين"، ثم قال: "ابكين وإياكن ونعيق الشيطان؛ فإنه مهما يكن من القلب والعين فإنه من الله تعالى والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان". فقعدت فاطمة رضي الله عنها على شفير القبر إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت تبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدمع من عينيها بطرف ثوبه.
#528#
قال محمد بن سعد: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر، فقال: الثبت عندنا من جميع الرواية: أن "رقية" رضي الله عنها توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"بدر"، ولم يشهد دفنها، ولعل هذا الحديث في غيرها من بنات النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي شهد دفنهن، فإن كان في "رقية" وكان ثبتا فلعله صلى الله عليه وسلم أتى قبرها بعدما قدم المدينة، وبكى النساء عليها بعد ذلك. انتهى.
وجاء الحديث مطلقا فيما خرجه أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين في كتابه "المواعظ" من طريق أبي العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا أبو يحيى، حدثنا عبيد الله بن محمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بكت "فاطمة" عليها السلام على شفير قبر أختها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى، دموعها بثوبه.
وجاء عن الشعبي، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: أن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفيت، وكان يحملون النساء والرجال على الأسرة سواء، فقلت: يا رسول الله، إني كنت بالحبشة، وهم نصارى أهل الكتاب، وهم يجعلون للمرأة نعشا فوقه أضلاع، يكرهون أن يوصف شيء من
#529#
خلقها، أفلا أجعل لابنتك نعشا مثله؟ فقال: "اجعليه"، فهي أول من جعل لها النعش في الإسلام، لـ"رقية" ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حديث فرد.
وفي أول امرأة جعل لها النعش في الإسلام خلاف يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- في ترجمة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.
وقال محمد بن عبد الرحمن بن طلحة القرشي: حدثنا عثمان بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما عزي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته "رقية" قال: "الحمد لله، دفن البنات من المكرمات".
وخرجه الحافظ أبو نعيم في "الحلية" من حديث عراك بن خالد بن يزيد بن صبيح المري، عن عثمان بن عطاء به.
#530#
وقال: تفرد به عراك بن خالد. انتهى.
وليس كذلك، بل تابعه عليه محمد بن عبد الرحمن بن طلحة القرشي كما ذكرناه، لكنها متابعة لا تساوي شيئا؛ لأن "محمد بن طلحة" أحد السراق، وقد حكم أبو أحمد ابن عدي انه سرق هذا الحديث من عراك بن خالد، فهو حديثه، انفرد به كما حكم به الحافظ أبو نعيم.
وقد حدث الحافظ أبو بكر عبد الله ابن أبي داود، عن محمد بن معمر، حدثنا حميد بن حماد، حدثنا مسعر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موت البنات من المكرمات" إسناده واه، انفرد به محمد بن معمر عن حميد.
#531#
والحديث من أصله لا يعتد به، ذكرته ليعرف، وكان الحافظ أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي يحلف بالله أنه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا شيئا قط، سمعه ابن الجوزي يحلف بذلك.
ولما خلف النبي صلى الله عيه وسلم على ابنته "رقية" عليها السلام "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وحصل الفتح، وقسمت الغنائم: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لـ "عثمان" بسهمه منها وأجره؛ ولهذا ذكره أهل السير فيمن شهد بدرا من المسلمين.
وكذلك تخلف جماعة عن بدر لأعذار حصلت لهم، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهم وأجورهم، فمن المهاجرين:
عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتقدم ذكر تخلفه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم يتحسسان خبر العير، فقدما المدينة يوم وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربان وهو منحدر من بدر يريد المدينة، فضرب لهما بسهمها وأجرهما.
وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على ما ذكره الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" في ترجمته فقال: حدثني علي بن حمشاذ العدل، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله،
#532#
حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ "جعفر بن أبي طالب" يوم بدر سهمه وأجره.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
قال الحاكم: ومن الأنصار:
بشير -وقيل: رفاعة- بن عبد المنذر بن زهير أبو لبابة، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى بدر فرده النبي صلى الله عليه وسلم من "بئر أبي عنبة" وهي على ميل من المدينة مرده واليا على المدينة وضرب له بسهمه وأجره.
وعاصم بن عدي بن الجد بن العجلاني بن ضبيعة، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار، واستخلفه على أهل "قباء" و"العالية"، وضرب له بسهمه وأجره. فيما زاده الواقدي.
والحارث بن حاطب بن عمرو الأنصاري، رده النبي صلى الله عليه وسلم من "الروحاء" إلى "بني عمرو بن عوف" لشيء بلغه عنهم، وضرب له بسهمه وبأجره. فيما قاله الواقدي.
والحارث بن الصمة أبو سعد الأنصاري، كسر بـ "الروحاء" فرجع، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فيما ذكره الواقدي وغيره.
#533#
وخوات بن جبير بن النعمان أبو صالح الأنصاري الأوسي، خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه حجر بـ"الصفراء" فكسر، فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وضرب له بسهمه وبأجره، فيما ذكره ابن الجوزي وغيره.
وسعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة أبو سهل الساعدي، تجهز لـ "بدر" فمات، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، قيل: مات بـ"الروحاء"، وقيل: قبره بالمدينة عند "دار قارظ".
وثم اثنان غير من ذكرنا مختلف فيهما.
أحدهما: أبو ثابت سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف الخزرجي، كان يتهيأ للخروج إلى "بدر" ويأتي دور الأنصار يحضهم على الخروج، فنهش قبل أن يخرج، فأقام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن كان سعد لم يشهدها لقد كان حريصا".
ذكره ابن سعد وقال: وروى بعضهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه وأجره، وليس ذلك بمجمع عليه ولا ثبت، ولم يذكره أحد ممن يروي المغازي في تسمية من شهد بدرا، ولكنه قد شهد "أحدا" و"الخندق" والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أبو الصياح بن ثابت بن النعمان بن أمية الأنصاري، خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى "بدر"، فأصابت ساقه نصل حجر فرجع، فضرب له سهمه وأجره.
#534#
والثالث: صبيح، مولى أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، قال ابن إسحاق: وزعموا أن صبيحا تجهز للخروج إلى "بدر" مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرض، فحمل على بعيره أبا سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم شهد "صبيح" بعد ذلك المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا ذكره ابن إسحاق، لم يزد عليه، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه وأجره، لكنه قيل، والله أعلم.
وقد نظمت أسماء العشرة المذكورة والثلاثة المختلف فيهم في أبيات لتحفظ، فقلت:
لقد غاب عن بدر وحاز من أجرها ... وسهمانها قوم كرام المناقب
هم عشرة: عثمان حارث صمة ... سعيد وخوات وطلحة غالب
وسعد أبو سهل بشير وعاصم ... هو ابن عدي جعفر وابن حاطب
وعد أبو الصياح وابن عبادة ... كذا وصبيح عز نقلا لطالب
#535#
$"أم كلثوم"، وتزويجها "عثمان"، ووفاتها رضي الله عنها$
وأما "أم كلثوم" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها فاسمها: "آمنة" فيما قاله مصعب بن عبد الله الزبيري.
وقال ابن سعد في "الطبقات": تزوجها "عتيبة بن أبي لهب بن عبد المطلب" قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب} قال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته. ففارقها ولم يكن دخل بها، فلم تزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلمت حين أسلمت أمها "خديجة"، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مع عيال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم تزل بها حتى توفيت "رقية" ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خلف عثمان بن عفان رضي الله عنه على "أم كلثوم" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بكرا، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وأدخلت عليه في السنة المذكورة في "جمادى الآخر"، فلم تزل عنده إلى أن ماتت، ولم تلد له شيئا، وماتت في شعبان سنة تسع من الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كن عشرا لزوجتهن عثمان رضي الله عنه".
#536#
وجاء عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا لفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان"، زاد عروة: يعني: "رقية" و"أم كلثوم".
وفي "المستدرك" من حديث ابن لهيعة، حدثني عقيل بن خالد، عن الزهري ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عثمان بن عفان وهو مغموم، فقال: "ما شأنك يا عثمان؟" قال: بأبي أنت يا رسول الله وأمي، هل دخل على الناس ما دخل علي، توفيت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي رحمها الله، وانقطع الصهر فيما بيني وبينك إلى آخر الأبد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتقول ذلك يا عثمان وهذا جبريل عليه السلام يأمرني عن أمر الله أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عدتها"، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
وأخرجه الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني في "تجمعة حديث مالك بن أنس" من طريق حبيب كاتب مالك عن الزهري
#537#
بنحوه، لكنه أدخله في قسم المناكير، وهو كذلك.
وقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني شعيب بن صفوان الثقفي، عن محمد بن عجلان قال: لما توفيت "رقية" بكى "عثمان" وهو على شفير القبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟" قال: انقطاع صهري منك يا رسول الله. قال: "فإنك صهري إلى يوم القيامة"، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي كأنه يحمل ثقيلا، فقال: "الحمد لله الذي صدق مقالتي، إن جبريل أتاني فقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على صداق أختها، وعلى أن تصحبها صحبتها"، فأملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شفير القبر.
وقال أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن عطية بن زياد بن الحداد: حدثنا زكريا أبو يحيى السجزي -ويعرف بـ"خياط السنة" -حدثنا أبو مروان العثماني محمد بن عثمان، حدثنا أبي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي "عثمان" وهو عند باب المسجد فقال: "يا عثمان، هذا جبريل يخبرني أن الله تبارك وتعالى زوجك أم كلثوم على مثل
#538#
صداق رقية، وعلى مثل صحبتها".
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمر بن عبد الله العنسي، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن فاطمة الخزاعية، عن أسماء بنت عميس قالت: أنا غسلت "أم كلثوم" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفية بنت عبد المطلب، وجعلت عليها نعشا، أمرت بجرائد رطبة فواريتها.
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني مالك ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن قالت: غسلها نساء الأنصار، فيهن أم عطية، ونزل في حفرتها أبو طلحة.
وروينا من طريق سلمة بن الفضل، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني نوح بن حكيم، عن داود بن عروة بن مسعود الثقفي: أن
#539#
ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل "أم كلثوم" بنت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأول ما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من كفنها: الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت في الثوب الأكبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الباب يناولنا.
ورويناه في "سنن أبي داود" من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، حدثني نوح بن حكيم الثقفي وكان قارئا للقرآن، عن رجل من بني عروة بن مسعود يقال له: داود قد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن ليلى بنت قانف، فذكره بنحوه.
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس على حفرتها، ونزل في حفرتها: علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس وأسامة بن زيد رضي الله عنهم.
#540#
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني فليح بن سليمان، عن هلال بن أسامة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جالسا على قبرها، فرأيت عيناه تدمعان فقال: "فيكم أحد لم يقارف الليلة؟" فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. قال: "انزل".
تابعه يونس بن محمد وابن المبارك وغيرهما، عن فليح.
وهلال بن أسامة هذا ينسب إلى جده، وهو: هلال بن علي بن أسامة بن أبي ميمونة، ويقال: ابن أبي هلال، الفهري القرشي المدني، مات في آخر خلافة هشام.
قاله الواقدي: وحديثه هذا خرجه البخاري في "صحيحه" عن محمد بن سنان، عن فليح. وعن عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر، عن فليح.
وعلقه عن ابن المبارك، حدثنا فليح، فذكره بنحوه.
وقد قيل: إن التي جلس النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها ودمعت عيناه هي: ابنته
#541#
"رقية" رضي الله عنها، ففي "مستدرك الحاكم" من حديث عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: لما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة"، فلم يدخل عثمان القبر.
صححه الحاكم وقال: على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وحدث به يعقوب بن سفيان أبو يوسف في "تاريخه" عن محفوظ بن أبي توبة عن عفان بنحوه.
قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا الحديث خطأ من حماد بن سلمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد دفن "رقية" ابنته، ولا كان ذلك القول منه في "رقية"، وإنما كان ذلك القول منه صلى الله عليه وسلم في ابنته "أم كلثوم" رضي الله عنها. انتهى.
وما ذكرناه من أن أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة ستة: ذكران، وأربع بنات، هو الصحيح - إن شاء الله تعالى.
وإبراهيم من مارية القبطية، وسيأتي خبره إن شاء الله تعالى عند ذكر أمه.
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سقط من عائشة سماه عبد الله ولم يثبت.
#542#
&مناقب "خديجة" وفضلها رضي الله عنها&
و"خديجة" رضي الله عنها أول زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به مطلقا، وقيل: أول الناس إسلاما: أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما، واختلفوا أيهما أسبق؟
شهدت "خديجة" انشقاق القمر بمكة، وكانت وزير صدق، وقد أشار إليها آدم عليه السلام فيما ذكره الزبيري بن بكار في كتاب "أنساب قريش" عن عبد الرحمن بن زيد قال: قال آدم عليه السلام: مما فضل به علي ابني صاحب البعير: أن زوجة كانت له عونا على تبليغ أمر الله، وأن زوجي كانت عونا على المعصية.
وخرج الخطيب في "تاريخه" من طريق محمد بن الوليد بن أبان -وهو: القلانسي البغدادي مولى بني هاشم- حدثنا إبراهيم بن صرمة، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على آدم بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم، وكن أزواجا عونا لي، وكان شيطان آدم كافرا، وكانت زوجته عونا له على خطيئته".
#543#
القلانسي رمي بالوضع.
ويروى الحديث من طريق آخر: ولفظه: "إن آدم عليه السلام قال: إني لسيد البشر يوم القيامة، إلا رجلا من ذريتي فضل علي باثنتين: كانت زوجته عونا له، وكانت زوجتي عونا علي. وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطاني".
وثبت في "الصحيحين" من حديث محمد بن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
إنما يعني به: قصب اللؤلؤ فيما قاله الترمذي في "جامعه".
و"القصب" من الجوهر في اللغة: ما كان مستطيلا أجوف.
وقال أبو عبيد الهروي: قال أهل العلم واللغة: "القصب" في هذا الحديث: لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف. وهكذا نقله الخطابي.
ووقع في رواية ابن وهب: قال: قلت: يا رسول الله، وما بيت من قصب؟ قال: "بيت من لؤلؤة مجوفة".
#544#
وفي رواية: "مجوبة" بدل "مجوفة".
ووقع في كتاب الخطابي: "مجوبة" وزان: مصونة.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث أبي اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان بن عمرو، عن مهاجر بن ميمون، عن فاطمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أمنا "خديجة"؟ قال: "في بيت من قصب، لا لغو فيه ولا نصب، بين مريم وآيسة امرأة فرعون"، قالت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا، بل من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت".
لا يروى هذا الحديث عن فاطمة إلا بهذا الإسناد، تفرد به صفوان بن عمرو. قاله الطبراني.
وقال أبو الحسن محمد بن حامد بن السري خال ولد السني في كتابه "السنة": حدثا الحسن بن عرفة، حدثنا شبابة بن سوار، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه قال: قالت فاطمة رضي الله عنها: والله يا رسول الله، لا ينفعني عيش حتى تسأل جبريل عليه السلام: أين أمي؟ فسأله، قال: هي بين مريم وسارة في الجنة.
وقال أبو الربيع الزهراني: حدثنا جعفر بن سليمان، سمعت ثابتا يقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما جالسا ومعه جبريل عليه السلام يحدثه إذ
#545#
جاءت "خديجة" تمشي في درع وهي لا ترى جبريل عليه السلام، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، هذه "خديجة" مقبلة فبشرها أن الله تعالى قد بنى لها في الجنة بيتا من قصب، لا تسمع فيه صخبا ولا نصبا.
قال ثابت: والله الذي لا إله هو من الدر والياقوت.
وقال أبو الوليد الأزرقي: حدثنا جدي أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الجبار بن الورد المكي، سمعت ابن أبي مليكة يقول: جاءت خديجة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحيس وهو في "حراء"، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، هذه خديجة قد جاءت تحمل حيسا معها، والله تعالى يأمرك أن تقرئها السلام وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فلما أن رقيت "خديجة" رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خديجة، إن جبريل عليه السلام جاءني، والله تعالى يقرئك السلام ويبشرك ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"، فقالت خديجة رضي الله عنها: الله السلام، ومن الله السلام وعلى جبريل السلام.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه "أمارات النبوة": حدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الأشجعي -من أهل "جرير"-، حدثنا مروان بن معاوية، عن وائل بن داود، حدثنا
#546#
عبد[الله] البهي قال: أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم "خديجة" رضي الله عنها من عنب الجنة.
وقال الحسين بن إسماعيل المحاملي: حدثنا سلم بن جنادة، حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت تأتي النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فيكرمها، فقلت له؛ فقال: "هذه كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".
وروينا من حديث أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، حدثنا صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "من أنت؟"
قالت: أنا جثامة المزنية.
فقال: "بل أنت: حسانة المزنية كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟" قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قالت عائشة - رضي الله عنها: فلما خرجت فقلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! قال: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".
#547#
أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" من طريق الكديمي عن أبي عاصم، وقال فيه: "بل أنت حضانة".
وأخرجه أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب" من طريق محمد بن يونس الكديمي، عن الضحاك بن مخلد: نحوه، وقال: "بل أنت حسانة".
هذه الرواية أولى بالصواب من رواية من روى ذلك في "الحولاء بنت تويت"، والله أعلم، والحديث عند أبي عاصم، واختلف عليه فيه. انتهى.
#548#
وقد خرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط الشيخين، وليس له علة.
قلت: هو من أفراد الكديمي، وهي علته، والله أعلم.
وقل أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي: حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: "اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت صديقة لخديجة. اذهبوا به إلى فلانة؛ فإنها كانت تحب خديجة".
وخرج الترمذي من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذلك إلا لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن.
وصح عن علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت "هالة بنت خويلد" أخت "خديجة" على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
#549#
فعرف استئذان خديجة؛ فارتاع لذلك فقال: "اللهم هالة"، قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها؟!
وروينا من حديث أبي عبد الله أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، قال: حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثني أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: "لا، والله ما أبدلني الله خيرا منها؛ آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء". قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدا.
ورويناه من طريق علي بن المديني، عن حماد بن سلمة عن مجالد بنحوه، وفي آخره: فقلت: والله لا أعاتبك فيها بعد اليوم.
ووجدت بخط الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده في كتابه "مسانيد عبد العزيز بن سياه وغيره": أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوهاب النصري، حدثنا موسى بن أيوب، قال:
#550#
حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن وائل بن داود، عن عبد الله البهي قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، وذكرها يوما فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن. فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبا أسقط في خلدي، فقلت في نفسي: اللهم إنك إن أذهبت غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني لم أعد لذكرها بسوء أبدا ما بقيت./ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: "كيف قلت؟! والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقت منها الولد حين حرمتموه"، قالت: فغدا وراح بها علي شهرا.
وحدث يونس بن بكير في "المغازي" عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي، حدثني أبو نجيح أبو عبد الله بن أبي نجيح قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا، وقال: فأخذ عظما منها فناوله الرسول بيده فقال: "اذهب به إلى فلانة"، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لم؛ عمرت يداك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خديجة أوصتني بها"، فغارت عائشة رضي الله عنها وقالت: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة؟! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، فلبث ما شاء الله ثم رجع، فإذا أم رومان فقالت: يا رسول الله؛ إنها حديثة سن، وأنت أحق من تجاوز عنها. فأخذ صلى الله عليه وسلم بشدق عائشة رضي الله عنها وقال: "ألست القائلة: ليس في الأرض امرأة إلا خديجة؟! والله؛ لقد آمنت بي إذ كفر قومي، ورزقت منها الولد وحرمتموه".
#551#
$وفاة "خديجة" رضي الله عنها$
توفيت "خديجة" رضي الله عنها بمكة لعشر ليال خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح.
قال أبو بشر الدولابي: حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، حدثنا زهير بن العلاء، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: توفيت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي أول من آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: توفيت قبل الهجرة بخمس سنين. وقيل: بأربع سنين. بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل بشهر وخمسة أيام.
وقيل: ماتت في حياة أبي طالب.
قال الواقدي: توفيت "خديجة" قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة.
قلت: المشهور: أنها ماتت بعد أبي طالب ودفنت بـ"الحجون" فيما قاله الواقدي وغيره.
وبـ"الحجون" قبر معروف مقصود بالزيارة إلى الآن، يقال: هو قبر خديجة رضي الله عنها.
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المنذر بن عبد الله الحزامي، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى
#552#
الزبير، سمعت حكيم بن حزام رضي الله عنه يقول: توفيت "خديجة" رضي الله عنها في شهر رمضان سنة عشر من النبوة، وهي يومئذ بنت خمس وستين سنة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بـ "الحجون"، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفرتها، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها. قيل: ومتى ذلك يا أبا خالد؟ قال: قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها وبعد خروج بني هاشم من الشعب بيسير.
وقد جاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في تجارة لـ "خديجة" سفرتين غير السفرة الأولى:
قال أبو سعد أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي البصري: حدثنا الهيثم بن سهل التستري، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص".
وقد أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الذهبي: أن يحيى بن سعيد أخبره، عن أبي الحسن علي بن مختار، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي سماعا، أخبرنا محمد بن [عبد] السلام أبو
#553#
الفضل الأنصاري ببغداد، أخبرنا الحسن بن أحمد بن شاذان، أخبرنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن معاذ الهروي الرفاء، أخبرنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا الربيع بن بدر، حدثني أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: استأجرت "خديجة" رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش، كل سفرة بقلوص.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، عن جابر، ولفظه: أجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من "خديجة بنت خويلد" رضي الله عنها سفرتين إلى جرش، كل سفرة بقلوص.
وصحح الحاكم إسناده، وأنى له الصحة؛ وراويه الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد أبو العلاء التميمي الملقب عليلة، وقد ضعفه غير واحد من الحفاظ كقتيبة بن سعيد، ويحيى بن معين، وأبي داود، والنسائي، وابن عدي.
قال ابن القيم في "الهدي": و"كأن الحاكم [ظنه] الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيد الله".
كذا وجدته في نسخة بـ"الهدي"- لكنها غير معتمدة- مولى طلحة بن
#554#
عبيد الله مصغرا، وصوابه: طلحة بن عبد الله؛ لأن مولى الربيع هذا طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، سمع: أبا هريرة وعبد الله بن عمرو، وروى عن: عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
وجرش: بضم أوله وفتح ثانيه، بلد بـ"اليمن" أو مخلاف منها.
وجرش بالفتح: بلد بالشام.
والقلوص: من الإبل بمنزلة الجارية من النساء، وهي الشابة.
وجاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك في تجارة:
قال أبو أحمد الزبيري: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن السائب بن عبد الله رضي الله عنه قال: جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، جاء بي عثمان بن عفان وزهير بن أبي أمية، قال: فاستأذنوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأثنوا علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعلماني به، فقد كان شريكي في الجاهلية" قال: قلت: صدقت يا رسول الله، كنت شريكي، فنعم الشريك أنت، كنت لا تماري ولا تداري. فقال النبي صلى اله عليه وسلم: "يا سائب، انظر الأخلاق التي كنت تصنعها في الجاهلية فاصنعها في الإسلام: أحسن إلى اليتيم، وأقر الضيف، وأكرم الجار".
#555#
وحدث به أبو داود في "مسنده" عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يثنون علي ويذكروني، وذكر الحديث بنحوه.
أخرجه النسائي في "عمل اليوم الليلة" من حديث أبي هشام المغيرة بن سلمة المخزومي، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب، فذكره بنحوه، ولم يذكر "قائد السائب".
تابعه عفان بن مسلم عن وهيب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والسائب هو: ابن أبي السائب، واسمه: صيفي بن عابد بن عبد الله بن ميمون بن عمر بن مخزوم العابدي المكي، وهو: أبو عبد الله ابن السائب قارئ مكة.
وقد روي أن هذه القصة كانت يوم فتح مكة.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب: أنه كان يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري".
#556#
تابعه الحسن بن المثنى، عن عفان، وزاد بعد قوله: "ولا يماري": "يا سائب، قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تقبل منك، وكان ذلك سلفا وصلة، وإنها تقبل منك اليوم".
وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عفان.
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
يعني: نحو ما رواه أيضا عن أبيه قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن مجاهد: أن قيس بن السائب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شريكي في الجاهلية، فكان خير شريك، كان لا يشاري ولا يماري.
وأخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث سعيد بن سليمان، عن منصور بن أبي الأسود، عن الأعمش، عن مجاهد، عن مولاه عبد الله بن السائب قال: كنت شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فلما قدمت المدينة قال: "تعرفني؟" قلت: نعم، كنت نعم الشريك، لا تماري ولا تداري.
ذكر الطبراني أنه لم يروه عن منصور إلا سعيد بن سليمان.
#557#
وحدث به أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "ذم الغيبة" عن سعيد بن سليمان بنحوه.
تابعه أبو بكر بن أبي خيثمة فرواه في "التاريخ" عن سعدويه بنحوه.
وقد اختلف إبراهيم بن ميسرة وإبراهيم بن مهاجر والأعمش عن مجاهد:
فقال إبراهيم بن ميسرة: عن قيس بن السائب.
وقال إبراهيم بن مهاجر: عن قائد السائب.
وقال الأعمش: عبد الله بن السائب.
قلت: وقد قدمنا رواية إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن السائب بن عبد الله. ورواية عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب. وهو المشهور في اسمه كما تقدم نسبه. والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يداري" روي بغير همز، أي: لا يخاتل ولا يخدع، درأ الصيد يدريه إذا ختله ولا ينه لئلا ينفر، ومنه مدارة الناس أي: ملاينتهم وترك مقاطعتهم ومخاشنتهم.
وروي: "ولا يدارئ" مهموزا أي: لا يدفع ذا الحق عن حقه، مأخوذ من درأته أدرأه: دفعته.
وقيل: "لا يداري ولا يماري" أي: لا يشاغب ولا يخاصم.
وأما الرواية الأخرى: "كان لا يشاري" أي: يلاحي، وقيل: هو "يشار" من الشر، فقلبت إحدى الرائين ياء فقيل: يشاري.
[1] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[2] [[من طبعة دار الكتب العلمية]].
[3] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[4] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي مكانها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل، ولعل مكانه: وخرج]]
[5] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي مكانها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل، ولعل مكانه: وحدث]]
[6] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي مكانها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل، ولعل مكانه: وحدث]]
[7] [[يوجد سقط في طبعة دار الفلاح، وهو موجود في طبعة دار الكتب العلمية 2/ 1044 - 1082]]
[8] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[9] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[10] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
ج 4.هدم قريش الكعبة، وبنيانها، وأسماء مكة، وكم بُنيت الكعبة مرة، ووضعه صلى الله عليه وسلم الحجر بيده&
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة هدمت قريش الكعبة وبنتها، وهذا هو المشهور.
وقيل: كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ خمسا وعشرين سنة.
وقيل: ثلاثين سنة، وهو غريب.
وقيل: كان بنيان قريش الكعبة وقد ناهز النبي صلى الله عليه وسلم الحلم قبل خروجه في تجارة خديجة.
روى عبد الرزاق في "مغازيه" عن معمر، عن الزهري قال: فلما بلع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترقت ووهت، فتشاورت قريش في هدمها.
فقال لهم الوليد بن المغيرة: ما تريدون بهدمها؛ الإصلاح أم تريدون الإساءة؟
#6#
قالوا: بل نريد / الإصلاح.
قال: فإن الله عز وجل لا يهلك المصلح.
قالوا: فمن الذي يعلوها فيهدمها؟
قال الوليد بن المغيرة: أنا أعلوها فأهدمها.
فارتقى الوليد بن المغيرة على ظهر البيت ومعه الفأس، فقال: اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح. ثم هدم, فلما رأته قريش قد هدم منها ولم يأتهم ما خافوا من العذاب هدموا معه, حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن: أي القبائل تلي رفعه, حتى كاد يشجر بينهم.
فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة, فاصطلحوا على ذلك, فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة, فحكموه, فأمر بالركن، فوضع في ثوب, ثم أمر سيد كل قبيلة, فأعطاه ناحية من الثوب, ثم ارتقى، ورفعوا الركن, فكان هو صلى الله عليه وسلم يضعه.
وحدث به أبو الوليد الأزرقي في "التاريخ" عن مهدي بن أبي المهدي, حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني, عن معمر, عن الزهري: سمعت بعض مشايخنا الكبار يقول ما معناه: لما قال الله عز وجل للسموات والأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} أجابته السماء طائعة بلسان وهو مكان البيت المعمور, فجعله الله بيتاً محجوجاً للملائكة, يدخله كل يوم سبعون ألف ملك, إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه إلى يوم القيامة, وأجابته الأرض طائعة بلسان وهو مكان البيت العتيق, فجعله الله بيتاً محجوجاً يحجه بنو آدم في الأرض. انتهى.
#7#
وقد وجدت معنى ذلك قد علقه الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" فقال في قول الله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين}, قال: وفي قولهما ذلك وجهان:
أحدهما: أن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما.
والثاني: أنه تبارك وتعالى خلق فيهما كلاماً نطق بذلك.
وقال أبو نصر السكسكي: فنطق من الأرض موضع الكعبة, ونطق من السماء ما بحيالها, فوضع الله تعالى فيهما حرمه.
قال الماوردي: وأما مكة فلها اسمان: "مكة" و "بكة", وقد جاء القرآن بهما.
واختلف في الاسمين هل هما لمسمى واحد أو لمسميين؟ على قولين:
أحدهما: أنه لمسمى واحد؛ لأن العرب تبدل الميم بالباء، فتقول: "ضربة لازم" و "لازب"؛ لقرب المخرجين.
والقول الثاني: -وهو أشبه: أنهما اسمان لمسميين.
واختلف من قال هذا الاسم في المسمى بهما على قولين:
أحدهما:
#8#
أن "مكة" اسم البلد, و "بكة" اسم البيت, وهذا قول إبراهيم / النخعي.
والقول الثاني: أن "مكة" الحرم كله, وبكة المسجد كله. وهذا قول زيد بن أسلم. انتهى.
وقيل: اسم مكان البيت العتيق "مكة" بالميم, واسم البلد "بكة" بالموحدة.
قال الماوردي: فأما "مكة" مأخوذة من قولهم: "تمككت المخ" إذا استخرجته؛ لأنها تمك الفاجر, أي: تخرجه, وفي ذلك يقول الشاعر:
يا مكة, الفاجر مكي مكا ... ولا تمكي مذحجاً وعكا
وأما "بكة": قال الأصمعي: سميت بذلك لأن الناس يبك بعضهم بعضاً, أي: يدفع. وأنشد قول الشاعر حيث قال:
إذا الشريب أخذته أكه ... فخله حتى يبك بكه.
وفي "مختصر العين" للزبيدي: و"بك الناس بعضهم بعضاً": إذا ازدحموا, وبه سميت "بكة".
#9#
وقال نحوه أبو عبيدة.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سنيد, حدثنا وكيع، عن سفيان, عن الأسود بن قيس, عن أخيه, عن ابن الزبير قال: إنما سميت "بكة".
لأنهم يأتونها من كل جانب حجاجاً.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا إسماعيل بن زكريا, عن سفيان, عن حماد قال: سألت سعيد بن جبير, يعني: عن قوله: "إنما سميت: "بكة" لأن الرجال يتباكون فيها والنساء جميعاً". فقال: التباك: التدافع. أي: يدفع بعضهم بعضاً, كما تقدم عن الأصمعي.
وقيل: سميت "بكة" لأنها تبك أعناق الجبابرة, إذا ألحدوا فيها لم يمهلوا.
وقال ياقوت الحموي في "معجم البلدان": ويقال: إنما سميت "بكة" لأن العرب كانت تقول في الجاهلية: لا يتم حجناً حتى نأتي مكان الكعبة فنمك فيه. أي: نصفر صفير المكاء حول الكعبة, وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها, و "المكاء" بتشديد الكاف: طائر يأوي الرياض.
#10#
قال: ويقال: إنما سميت "مكة" من "مك الثدي" أي: مصه لقلة مائها؛ لأنهم كانوا يتمكون الماء أي: يستخرجونه. وقيل: إنها تمك الذنوب, أي: تذهب بها, كما يمص الفصيل ضرع أمه فلا يبقي فيه شيئاً.
$[مطلب في أسماء مكة [1]]$
ومن أسماء "مكة" – شرفها الله تعالى: "الناسة" بالنون والسين المهملة؛ لأنه من بغى فيها أو أحدث فيها حدثاً أخرج عنها, فكأنها نسته, أي: ساقته.
وتسمى أيضاً "النساسة" على المعنى الأول, و "الناشة" بالشين المعجمة أيضاً, و "الناسة" بالمهملة.
ذكره الإمام مجد الدين الشيرازي في كتابه "تحبير الموشين في التعبير بالسين والشين".
ومن أسمائها: "الباسة" بالموحدة المهملة؛ لأنها تبس من ألحد فيها, أي: تحطمه وتهلكه, وكذا "البساسة", و "الحاطمة" يعني: "الباسة" بالموحدة, و "السيل" وزان "خيل".
#11#
و"مخرج الصدق والنية" / و "المعاد" بالدال المهملة, و "أم رحم" بالراء المهملة, و"أم راحم", و "الرحم" و "الرحم" في اللغة: الرحمة والعظمة.
و"أم زم" بالزاي, و "أم صلح", و "أم القرى", و "البلد", و "البلد الأمين", و "المأمون", و "البلد الحرام", و "البلدة", و "بلد الله".
و"المقدسة", و "القادسية", و "القاديس" مأخوذ من التقديس, وهو التطهير.
و "الرتاج", و "حرم الله", و "فاران", و "طيبة", و "قرية النمل", و "نقرة الغراب", و "قرية الخمس".
و "صلاح" بفتح أولها وبالحاء المهملة في آخرها, مؤنثة لا تجري, قاله أبو عبيد البكري في "المعجم", وقيل: بكسر أولها. وقيل: بالفتح مع بنائها على الكسر كـ: "قطام".
و"صلاح" بالتنوين.
و "كوثى" وهو اسم لمحلة بني عبد الدار من مكة.
و "سبوحة", و "السلام", و "العذراء", و "نادرة", و "الوادي", و "الحرم", و "النجر", و "القرية", و "بكة", و "مكة", و "العرش",
#12#
و "العرش", و "العريش", و "العروش", ومن معاني "العرش" في اللغة: الملك والعز, وقوام الأمر, وسرير الملك وما يستظل به.
و "الحرمة" بالضم,, و "الحرمة" بالكسر, و "برة", و "ساق", و "البيت العتيق", و "الرأس", و "المسجد الحرام", و "المعطشة", و "المكتان" على التثنية, و "النابية", و "أم روح", "وأم كوثى", و"الدوار" بفتح الدال المهملة وضمها ذكره ياقوت في "معجم البلدان".
وليس تخلو من طائف لله عز وجل حتى لقد بلغنا: أن يوم قتل ابن الزبير رضي الله عنهما اشتد الحرب واشتغل الناس، فلم ير طائف يطوف بالبيت, إلا جمل يطوف به.
#13#
$[ما روي في بناء البيت في سالف الدهر]$
وبعد هذه الفتنة: نقض البيت, وبني, وكان بناؤه في سالف الدهر مرات:
خرج الحاكم من طريق أبي يحيى – وهو: زاذان القتات – عن مجاهد, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان البيت قبل الأرض بألفي سنة, {وإذا الأرض مدت} قال: من تحته مداً.
تابعه منصور عن مجاهد.
وجاء عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وضع البيت على أربعة أركان, قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام, ثم دحيت الأرض من تحت البيت.
وعن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله سبحانه أن يخلق الخلق خلق الريح, فأرسلها فسجت الماء, حتى جرت على حشفة, وهي التي تحت الكعبة, ثم مد الله الأرض منها حتى بلغت حيث شاء في الطول والعرض.
#14#
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت الكعبة حشفة على الماء قبل الأرض بألفي سنة, وعليها ملكان يسبحان الليل والنهار.
وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت الكعبة حشفة على الماء.
قيل: وقد جاء: أن الملائكة بنت البيت حين أسسته انشقت الأرض إلى منتهاها, وقذفت فيها حجارة أمثال الإبل.
فتلك القواعد من البيت التي رفع عليها إبراهيم – عليه / السلام, وإسماعيل عليه السلام: البيت, ثم بناه بعد الملائكة: آدم عليه السلام.
خرج الحاكم من طريق ابن لهيعة, عن يزيد, عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بعث الله عز وجل جبريل إلى آدم وحواء عليهما السلام, فقال لهما: ابنيا لي بناء. فخط لهما جبريل عليه السلام فجعل آدم يحفر وحواء تنقل, حتى أجابه الماء نودي من تحته: حسبك يا آدم. فلما بنياه أوحى الله إليه أن يطوف به, وقيل له: أنت أول الناس, وهذا أول بيت, ثم تناسخت القرون, حتى حجه نوح عليه السلام ثم تناسخت القرون, حتى رفع إبراهيم القواعد منه)).
تفرد برفعه ابن لهيعة.
وقد قدمنا ما رواه عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة: وضع الله البيت مع آدم عليه السلام أهبط الله آدم إلى الأرض, وكان مهبطه بأرض الهند, وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض, فكانت الملائكة تهابه, فنقص إلى ستين ذراعاً, فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم, فشكا ذلك إلى الله تعالى, فقال الله تعالى: يا آدم, إني قد أهبطت لك
#15#
بيتاً تطوف فيه كما يطاف حول عرشي, وتصلي عنده كما يصلى عند العرش. الحديث, وفي آخره: فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
وخرج البيهقي في "الدعوات" من طريق: سليمان بن بريدة [عن أبيه] رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أهبط الله عز وجل آدم عليه السلام طاف بالبيت أسبوعاً, وصلى حذاء المقام ركعتين .... )) الحديث.
وقال الشافعي: أخبرنا سفيان, عن [ابن] أبي لبيد, عن محمد بن كعب القرظي وغيره: حج آدم فلقيته الملائكة عليهم السلام, فقالوا: بر نسكك, لقد حججنا قبلك بألفي عام.
وقال أحمد بن إسحاق بن نيخاب الطيبي: حدثنا الحسن بن بشر الكوفي, حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري, عن القاسم بن عبد الرحمن, عن أبي جعفر, عن أبيه.
#16#
وعن أبي حازم, عن ابن عباس رضي الله عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أتى آدم عليه السلام ألف آتية من الهند على رجليه لم يركب فيهن)).
قال محمد: من ذلك ثلاث مائة حجة وسبعمائة عمرة.
فأول حجة حجها آدم وهو واقف بعرفات أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا آدم, بر الله نسكك, أما إنا فقد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسة آلاف سنة.
وبعد آدم عليه السلام بنى البيت شيث بن آدم / عليهما السلام بالطين والحجارة, ثم بناه إبراهيم عليه السلام, وقصة بنائه البيت مخرجة في "الصحيح" من طريق سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ويروى: أن "يعرب" قال لهود عليه السلام: ألا بنيته؟
قال: إنما يبنيه نبي كريم يأتي من بعدي, يتخذه الرحمن خليلاً. فلما بعث الله إبراهيم عليه السلام وشب إسماعيل عليه السلام بمكة أمر إبراهيم ببناء الكعبة, فدلته عليه السكينة وظللت على موضع البيت, فكانت عليه كالجحفة, وبناه من خمسة أجبل, كانت الملائكة تأتيه بالحجارة منها, وهي: "طور سيناء", و "طور زيتا" اللذين بالشام, و "الجودي"
#17#
وهو بالجزيرة, و "لبنان" و "حراء" وهما في الحرم.
وحدث سعيد بن أبي عروبة في كتابه "المناسك" – من تأليفه – عن قتادة قال: ذكر لنا: أن قواعد البيت من "حراء", وذكر لنا: أن البيت بني من خمسة أجبل: من "حراء", و "لبنان", و "الجودي" و "طور سيناء" و "طور زيتا".
وجاء عن سماك بن حرب, عن خالد بن عرعرة, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسأله رجل عن {أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} , هو أول بيت بني في الأرض؟ قال: لا, ولكنه أول بيت وضع فيه البركة, والهدى, ومقام إبراهيم, ومن دخله كان آمناً.
قال علي رضي الله عنه: وإن شئت أنبأتك كيف بناه – يعني: إبراهيم – إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم: أن ابن لي بيتاً في الأرض.
فضاق به ذرعاً, فأرسل الله السكينة – وهي: ريح خجوخ لها رأس – فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت, ثم تطوقت إلى موضع البيت تطوق الحية, فبنى إبراهيم, فكان يبني هو ساقاً كل يوم, حتى إذا بلغ مكان الحجر قال لابنه: أبغني حجراً. فالتمس ثم حجراً حتى أتاه به, فوجد الحجر الأسود قد ركب. فقال له ابنه: من أين لك هذا؟
قال: جاء به من لم يتكل على بنائك, جاء به جبريل عليه السلام فأتمه.
قال علي: فمر الدهر عليه فانهدم, فبنته العمالقة, فمر عليه الدهر,
#18#
فانهدم, فبنته جرهم, فمر عليه الدهر, فانهدم, فبنته قريش.
وهذه المرة التي شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم, وساعد في بنائه.
وبناه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حين احترقت في عهده.
قال الواقدي: عن عبد الله بن جعفر الزهري قال: سألت أبا عون: متى كان احتراق الكعبة؟ قال: يوم السبت لليال خلون من شهر ربيع الأول, قبل أن يأتينا نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يوماً, وجاء نعيه في هلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين.
قلت: وما كان سبب احتراقها؟ قال: جاءنا موت يزيد توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين, وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر, والحصين بن نمير يومئذ عندنا, وكان احتراقها بعد الصاعقة التي أصابت أهل الشام بعشرين ليلة.
قال أبو عون: ما كان احتراقها إلا منا, وذلك أن رجلاً منا وهو: مسلم بن أبي خليفة المذحجي كان هو وأصحابه يوقدون في خصاص له حول البيت, فأخذ ناراً في زج رمحه في النفط, وكان يوم ريح,
#19#
فطارت منها شرارة فاحترقت الكعبة حتى صارت إلى الخشب, فقلنا لهم: هذا عملكم, رميتم بيت الله بالنار والنفط. فأنكروا ذلك.
وحدث سعيد بن سالم القداح, عن عثمان بن ساج, قال: أخبرتني عجوز من أهل مكة كانت مع عبد الله بن الزبير بمكة, فقلت لها: أخبريني عن احتراق الكعبة كيف كان؟
قالت: كان المسجد فيه خيام كثيرة, فطارت النار من خيمة منها, فاحترقت الخيام والتهب المسجد, حتى تعلقت النار بالبيت فاحترق.
وقال عثمان: وبلغني: أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح, والمسجد يومئذ خيام وفساطيط, فمشى الحريق حتى أخذ بالبيت فظن الفريقان كلاهما أنهم هالكون, فضعف بناء البيت, حتى إن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته.
وقيل: احترقت من امرأة أرادت أن تجمرها, فطارت شرارة من المجمرة في أستارها, فاحترقت.
والمشهور: [أن] ذلك كان في الجاهلية, وبسبب ذلك بنت قريش الكعبة في رواية عبد الله بن معاذ الصنعاني عن معمر عن الزهري قوله.
وقيل: طارت نار من أبي قبيس فوقعت في أستارها فاحترفت.
#20#
والأول أكثر؛ لأن عبد الله بن الزبير لما تخلف عن بيعة يزيد بن معاوية ولجأ إلى الحرم وبلغ "يزيد" فحلف لا يؤتى به إلا مغلولاً, وأرسل إليه رجلاً في خيل من أهل الشام, فعمل له على فضة, وكلمه ليناً, فأبى عن إتيان يزيد وجمع مواليه ومن تألف إليه من المكيين وغيرهم, فكان يقال لهم: "الزبيرية", فجهز يزيد إلى المدينة ومكة مسلم بن عقبة المري في أهل الشام للقتال, فبلغ المري المدينة, ففعل فيها الأفاعيل الشنيعة, وأسرف في القتل, فسمي مسرفاً لذلك, ثم خرج إلى مكة, فهلك قبل أن يصل إليها.
وكان عهد إلى برذعة الحمار: الحصين بن نمير الكندي بإذن يزيد, فمضى إلى مكة, وحصر ابن الزبير وأصحابه / في المسجد الحرام, ونصب المنجنيق على أبي قبيس والأحمر – أخشبي مكة – فضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خياماً ورقاقاً يكتنون من الشمس ومن حجارة المنجنيق.
قال ابن المرتفع: كنا مع الزبير في الحجر, فأول حجر من المنجنيق وقع في الكعبة فسمعنا له أنيناً كأنين المريض: "آه آه" انتهى.
وكانت الكعبة يومئذ مبنية بناء قريش: مدماك من ساج ومدماك
#21#
من حجارة, من أسفلها إلى أعلاها, فكان الخشب خمسة عشر مدماكاً, والحجارة ستة عشر مدماكاً, وكان عليها الكسوة.
فذهب رجل من أصحاب الزبير يوقد ناراً في تلك الخيام مما يلي "الصفا" بين: الركن الأسود والركن اليماني, فطارت شرارة في الخيمة فاحترفت, وكان في ذلك اليوم رياح شديدة, فاحترفت كسوة الكعبة, واحترق الساج بين البناء.
وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر "ربيع الأول" قبل أن يأتي نعي يزيد بتسعة وعشرين يوماً, وجاء نعيه في هلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين.
واحترق الركن الأسود فتصدع, وضعفت جدران الكعبة, حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها, وفزع لذلك أهل الشام.
ثم إن الحصين بن نمير لما بلغه موت يزيد رجع بعسكره إلى الشام, وكان خروجه من مكة لخمس ليال خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين, فلما أدبر جيش الشام استشار ابن الزبير أشراف الناس في هدم الكعبة وبنائها أو إصلاح ما وهى منها, فاختلفوا عليه.
وكان ممن أشار بهدمها وبنائها: جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في آخرين.
وممن أبى هدمها: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقال لابن الزبير فيما ثبت في "صحيح مسلم" عن عطاء قال: أرى أن تصلح ما وهى منها, وتدع بيتاً أسلم الناس عليه, وأحجاراً أسلم الناس عليها, وبعث عليها [النبي] صلى الله عليه وسلم.
#22#
فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده, فكيف بيت ربكم؟! إني مستخير ربي ثلاثاً, ثم عازم على أمري, فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها, فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء.
وفي رواية لغير مسلم: أن ابن عباس قال لابن الزبير: دعها على ما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها, فلا تزال تنهدم وتبنى, فيتهاون الناس بحرمتها, / ولكن أرقعها.
فقال ابن الزبير: ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه, فكيف أرقع بيت الله سبحانه وتعالى وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلا أسفله, حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته.
ثم أجمع على هدمها, فخرج أهل مكة إلى منى فأقاموا بها ثلاثاً, فرقا من العذاب أن ينزل عليهم لهدمها.
#23#
قال داود بن سابور عن مجاهد قال: لما عزم ابن الزبير على هدم الكعبة خرجنا إلى منى ننتظر العذاب ثلاثاً. انتهى.
فأمر ابن الزبير عبيداً من الحبش يهدمونها, رجاء أن يكون فيها الحبشي المذكور في حديث الزهري عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)).
فما ترجلت الشمس من ذلك اليوم الذي ابتدأ فيه بهدم الكعبة, حتى هدموها إلى الأرض من جوانبها جميعاً، وكان هدمها في يوم السبت النصف من جمادى الآخر سنة أربع وستين.
وأرسل ابن عباس إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور، حتى يطوف الناس بها من ورائها، ويصلون إليها.
ففعل، فلما سواها إلى الأرض كشف عن أساس إبراهيم عليه السلام فوجده داخلا في الحجر نحوا من ستة أذرع وشبر، [وأصاب فيه
#24#
موضع قبر وهو سفط من الحجارة أخضر، فأعلم أنه قبر إسماعيل، فقال ابن الزبير: هذا قبر إسماعيل عليه السلام.
وذلك الموضع فيما يرون ما بين "الميزاب" إلى باب الحجر الغربي.
ووجد حجارة الأساس] كأنها أعناق الإبل آخذا بعضها بعضا كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من أعيان الناس وأشرفهم، فأشهدهم على ذلك الأساس وموضع القبر، وكان منهم عبد الله بن مطيع العدوي، وكان شديدا، وكان في يده عتلة، فأدخلها في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان كلها. ويقال: إن مكة رجفت من ذلك رجفة شديدة، وخاف الناس حتى ندم من أشار بهدمها، فأقروا الأساس على حاله، ثم عزم على بناء البيت على تلك القواعد.
وكان أراد أن يبنيها بالورس، فقيل: إن الورس يزفت ويذهب، ولكن ابنها بالقصة، فسأل عن القصة، وأخبر: أن القصة صنعاء هي خير القصة وأجودها، فأرسل / إلى "صنعاء" بأربع مائة دينار يشتري له بها قصة، ويكترى عليها، ثم سأل رجالا من أهل العلم عن مقلع الحجارة التي بنت منه قريش الكعبة، فأعلموه أنه من جبل "حراء" و "ثبير"،
#25#
أو من الجبل المشرف على مسجد القاسم بن عبيد بن خلف بن الأسود الخزاعي، وهو "المقطع" من قافية الخندمة، والجبل: جبل في أرض أبي قبيس في شعب أبي سفيان دون شعب الخوز، ومن جبل عند المثنية البيضاء التي في طريق "جدة"، وهو الجبل المشرف على "ذي طوى" يقال له: "حلحلة"، وبين جبل بأسفل مكة على يسار من انحدر من ثنية بني عضل، ويقال لهذا الجبل: "مقلع الكعبة"، ومن "مزدلفة" من حجر بها يقال له: "المفجري"، فمن هذه السبعة بنتها قريش.
وأعلم أهل العلم ابن الزبير بذلك، فنقل منها حجارة قدر ما يحتاج إليه، ثم بناها من تلك الحجارة على مقتضى حديث خالته عائشة رضي الله عنها، وهو ما قال إسماعيل بن زكريا، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير، حدثتني عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((إن قومك استقصروا حين بنوا هذا البيت، فتركوا بعضه فيه الحجر)).
فلما هدمه ابن الزبير وجد القواعد داخلة في الحجر، فدعا قريشا فاستشارهم فقال: كيف ترون هذا القواعد؟ قالوا: ابن عليها.
#26#
فبنى عليها، وأدخلها البيت، وجعل له بابين فلما جاء الحجاج قال: إن ابن الزبير لم يدعه الشيطان حتى أدخل في البيت ما ليس منه فهدمه وبناه كما كان.
وثبت من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة رضي الله عنها تسر إليك كثيرا، فما حدثتك في الكعبة؟
قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون منه))، ففعله عبد الله بن الزبير.
تابعه الأشعث بن سليمان، عن الأسود بن يزيد نحوه.
وصح أيضا من حديث مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم ابن عبد الله، أن ابن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟))، فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال: ((لولا حدثان قومك بالكفر .. )) الحديث رواه / عن مالك: عبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الله بن
#27#
يوسف، ويحيى بن يحيى، وغيرهم.
وابن أبي بكر المذكور هو: عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو: ابن أبي عتيق.
وحدث به أبو جعفر هارون بن سعيد بن الهيثم الأيلي السعدي وغيرهم، عن عبد الله بن وهب، أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة يحدث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية – أو قال: بكفر – لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر)).
ولما هدم ابن الزبير الكعبة أخذ الحجر وكان قد تصدع من الحريق بثلاث فرق وطارت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك دهرا طويلا، فشد ابن الزبير الحجر بفضة، إلا تلك الشظية من أعلاها، فموضعها في أعلى الركن.
حدث الواقدي، عن شرحبيل، عن أبي عون، عن أبيه قال: رأيت الحجر قد انفلق واسود من الحريق، فأنظر إلى جوفه أبيض كأنه الفضة.
وقال عكرمة بن خالد المخزومي: فرأيت الحجر، فإذا هو ذراع وأزيد.
#28#
ولما أخذ ابن الزبير الحجر الأسود جعله في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه ووضعه عنده في "دار الندوة" وعمد على ما كان في الكعبة من حلية فوضعه في خزانة الكعبة في "دار شيبة بن عثمان" ثم شرع في البناء من وراء الستر، فكانوا يبنون والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن الأسود أمر ابن الزبير ولده: عبادا وجبير بن شيبة بن عثمان الحجبي أن يجعلا الركن الأسود في ثوب، وقال لهما: إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملاه واجعلاه في موضعه / فأنا أطول الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى أخفف صلاتي.
فخرج عباد وجبير بالحجر من دار الندوة والناس في صلاة الظهر، وكان حرا شديدا، فخرقا به الصفوف حتى أدخلا في الستر، فوضعه عباد مكانه، وأعانه عليه جبير، فلما أقراه مكانه وطوبق عليه الحجران كبروا، فخفف ابن الزبير الصلاة، ثم علم الناس بذلك فغضب رجال من قريش. حيث لم يحضرهم ابن الزبير.
فلما بلغ البناء ثمانية عشر ذراعا في السماء، وكان ذلك ارتفاعها في بناء قريش، فقصرت للزيادة التي زيدت فيها من الحجر، وصارت عريضة لا طول لها.
قال ابن الزبير: فكانت قبل قريش سبعة أذرع، فزادت فيها قريش تسعة أذرع، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى فجعل طولها سبعة وعشرين ذراعا، وهي سبعة وعشرون مدماكا، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف، وكانت قريش جعلت فيها ست دعائم في صفين.
#29#
وأرسل ابن الزبير إلى "صنعاء" فأتى منها برخام يقال له: "البلق" فجعل في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة مصراعا واحد، فجعله ابن الزبير مصراعين طولهما إحدى عشر ذراعا من الأرض إلى منتهى أعلى الباب اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل له درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة يصعد فيها على ظهرها، وجعل ميزابا في سطحها وروازن للضوء، فلما فرغ من بناء ذلك خلق الكعبة من داخلها وخارجها، من أعلاها إلى أسفلها، بالمسك والعنبر، وألطخها بالمسك، وكساها القباطي، وقال: من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر أن ينحر بدنه فليفعل، ومن لم فليذبح شاة، فمن لم يقدر فليتصدق بقدر [طوله، وخرج ماشيا، وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم] شكرا لله سبحانه وتعالى.
ولم ير يوما كان أكثر عتيقا ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوجة ولا صدقة من يومئذ، ونحر ابن الزبير مائة بدنه، فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف الطائف استلم الأركان كلها؛ لأن البيت صار تاما، ويدخل الناس من الباب الشرقي ويخرجون من الباب الغربي، والبابان لاصقان بالأرض، إلى أن قتل ابن الزبير رضي الله عنه، فنقض ما بناه وأعيد على ما بنته قريش.
#30#
وهذه هي المرة الخامسة في بناء البيت، وذلك أن عبد الملك بن مروان لما استقام له الأمر ودخل الحجاج مكة كتب على عبد الملك: أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه، وأحدث فيه بابا آخر. فكتب إليه يأمره بسد الباب الغربي الذي فتحه ابن الزبير وهدم ما زاد فيها.
ففعل ذلك الحجاج، هدم منها ستة أذرع وشبرا مما يلي الحجر وبناها على أساس قريش، وسد الباب الغربي، وترك سائرها، لم يحرك منه شيئا، فكل شيء فيها بناء ابن الزبير، إلا الجدران الذي في الحجر، فإنه بناء الحجاج.
وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل / منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا فإنه بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضا من بناء الحجاج.
وبعد فراغ الحجاج من ذلك وفد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب – يعني: ابن الزبير – سمع من عائشة رضي الله عنها ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة.
فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة رضي الله عنها.
قال: سمعتها تقول ماذا؟
قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قومك استقصروا في بناء البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر أعدت فيها ما تركوا، فإن بدا
#31#
لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا))، فأراها قريبا من سبعة أذرع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض: بابا شرقيا يدخل الناس منه وبابا غربيا يخرج الناس منه)).
قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا سمعت هذا منها.
فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت أني كنت تركت ابن الزبير على ما تحمل من ذلك.
خرج قصة الرفادة بنحوها مسلم في "صحيحه" من طريق ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء, عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة.
ولما ولي أبو جعفر المنصور أراد أن يبينها على ما بناها ابن الزبير, وشاور في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه فقال له: أنشدك الله يا أمير المؤمنين بأن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك, لا يريد أحد منهم أن يغيره إلا غيره, فتذهب هيبته من قلوب الناس. فصرفه عن رأيه فيه.
وذكر موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهري في سبب بنيان قريش الكعبة غير ما ذكرناه من رواية عبد الرزاق في "المغازي" عن
#32#
معمر عن الزهري, فذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أنه قال: وإنما حمل قريشاً على بنيانها: أن السيل كان أتى من فوقها من فوق الردم الذي صنعوا فأخربه, فخافوا أن يدخلها الماء, فكان رجل يقال له: "مليح" سرق طيب الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها ويرفعوا بابها حتى لا يدخل إلا من شاءوا, فأعدوا لذلك نفقة وعمالاً, ثم عمدوا إليها ليهدموها على حذر وشفق أن يمنعهم الله الذي أرادوا.
فكان أول رجل / طلعها وهدم منها شيئاً الوليد بن المغيرة, فلما رأوا الذي فعل الوليد بن المغيرة تتابعوا فوضعوها, فأعجبهم ذلك, فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم, فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدمه, وزعموا أنهم قد رأوا حية أحاطت بالبيت, رأسها عند ذنبها, فأشفقوا منها شفقة شديدة, وخشوا أن يكونوا مما فعلوه في هلكة, وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفاً لهم.
فأشار عليهم المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بالذي ذكر في هذه الحية, فلما فعلوا ذهبت الحية في السماء فتغيبت منهم, ورأوا أن ذلك من الله عز وجل.
يقول بعض الناس: خطفها طائر فألقاها نحو جياد الصغير.
وفي غير رواية موسى بن عقبة: أن الزبير بن عبد المطلب قال فيما كان من أمر الحية والطائر:
#33#
عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحياناً يكون لها وثاب.
إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الرجز جاءت ... عقاب تتلئب لها أنصاب
فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب
غداة ترفع التأسيس منه ... وليس على مسوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزاً ... وعند الله يلتمس الثواب
#34#
ويروى: أن الطائر الذي اختطف الحية من بئر الكعبة طرحها بـ "الحجون" فالتقمتها الأرض, فهي الدابة التي تكلم الناس قبل يوم القيامة.
قاله النقاش في "تفسيره".
رجعنا إلى رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب:
قال: فلما سقط في أيديهم ولبس عليهم أمرهم قام المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, فزعموا أنه قال: هل لكم في أمر تتبعون فيه مرضات رب هذا البيت, فإذا أشهدتم رأيكم وحمدتم جهدكم نظرتم, فإن خلى الله بينكم وبين بنيانها فذلك الذي أردتم, وإن حال بينكم وبينه كان ذلك وقد اجتهدتم؟
قالوا: أشر / علينا.
قال: إنكم قد جمعتم لنفقة هذا البيت ما قد علمتم, وإنكم قد أخذتم في هدمه وبنيانه على تحاسد بينكم, وإني أرى أن تقسموا البيت على أربعة أقسام على منازلكم في الآل والأرحام, ولا يخلو أحد بجانب من جواب البيت كاملاً بكل ربع, ولكن اقسموا أنصافاً من كل جانب من جوانب البيت, فإذا فعلتم ذلك فليبن كل ربع منكم نصيبه, ولا تجعلن في نفقة هذا البيت شيئاً أصبتموه غصباً أو قطعتم به رحماً ولا انتهكتم فيه ذمة بينكم وبين أحد من الناس, فإذا فعلتم ذلك فاقترعوا أيضاً بفناء
#35#
الكعبة, ولا تنازعوا, ولا تنافسوا, وليصر كل ربع منكم بموضع سهمه, ثم انطلقوا بعمالكم, فلعلكم إذا فعلتم ذلك أن تخلصوا إليها.
فلما سمعوا قول المغيرة رضوا به, وانتهوا إليه، وفعلوا الذي أمرهم, فيزعم علماء أولية قريش أن باب الكعبة إلى الحجر الأسود بالنصف من جابنها الذي يلي اليمن صار في سهم ابن عبد مناف.
فلما انتهى البنيان إلى موضع الحجر الأسود تنافسوا في رفعه وتحاسدوا عليه, فحكموا فيهم أول رجل يطلع عليهم, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما بلغنا – ذلك الرجل, فأعانوه على رفعه على اصطلاح منهم، وجماعة. فيزعمون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه وسط ثوب ثم قال لهم: ((خذوا بزواياه وجوانبه كلها)), وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يرفع الحجر, فوضعه صلى الله عليه وسلم بيده موضعه, وذلك قبل مبعثه بخمس عشرة سنة.
وزعم ابن عباس: أن أولية قريش كانوا يتحدثون: أن رجالاً من قريش لما اجتمعوا ليقلعوا الحجارة انتهوا إلى أساس إبراهيم عليه السلام عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول, فرفعه وهو لا يدري أنه من الأساس الأول, فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلمع بصر الرجل, ونز الحجر من يده فوقع في موضعه, وفزع الرجل والبناءة.
فلما ستر الحجة ما تحته عادوا إلى بنيانهم وقالوا: لا تخرجوا هذا الحجر ولا شيئاً بحذائه.
#36#
فلما انتهوا إلى أس البيت الأول وجدوا في حجر منها – ولا أدري لعله ذكر أنه في أسفل المقام – كتاباً لم يدروا ما هو, حتى أتاهم حبر من يهود اليمن, فنظر إلى الكتاب فحدثهم أنه قرأه, فاستحلفوه لتحدثنا بما فيه, ولتصدقنا عنه.
فأخبرهم / أن فيه: إني أنا الله ذو "بكة", حرمتها يوم خلقت السموات والأرض والشمس والقمر ويوم وضعت هذين الجبلين, وحففتها بسبعة أملاك حنفاء.
وهذا الرجل الذي عهد إلى حجر من الأساس الأول فرفعه, ونز من يده, فوقع في موضعه هو: حزن بن أبي وهب بن عمرو المخزومي جد سعيد بن المسيب.
وقيل: هو: أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, وذلك فيما حدث به أبو الوليد الأزرقي في "تاريخه": عن جده, حدثنا مسلم بن خالد الزنجي, عن ابن أبي نجيح, عن أبيه قال: جل رجال من قريش في المسجد الحرام, فيهم حويطب بن عبد العزى
#37#
ومخرمة بن نوفل, فتذاكروا بنيان الكعبة وما هاجهم على ذلك, وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك. قالوا: كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدر, وكان بابها بالأرض, ولم يكن لها سقف, وإنما تدلى الكسوة على الجدر من خارج, وتربط من أعلى الجدر من بطنها, وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جب يكون فيه ما يهدى للكعبة من مال وحلية, كهيئة الخزانة, وكان يكون على ذلك الجب حية تحرسه، بعثها الله عز وجل منذ زمن جرهم, وذلك أنه عدا على ذلك الجب قوم من "جرهم", فسرقوا مالها وحليتها مرة بعد مرة, فبعث الله تلك الحية فحرست الكعبة وما فيها خمسمائة سنة, فلم تزل كذلك حتى بنت قريش الكعبة.
وذكر القصة مطولة, وفيها: فهدمت قريش معه – أي: مع الوليد بن المغيرة – حتى بلغوا الأساس الذي رفع عليه إبراهيم وإسماعيل عليها السلام القواعد من البيت, فأبصروا حجارة كأنها الإبل الخلف, لا يطيق الحجر منها ثلاثون رجلاً يحرك الحجر منها, فترتج جوانبها, قد تشبك بعضها ببعض, أدخل الوليد بن المغيرة عتلة بين الحجرين فانفلقت منه فلقة, فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم, فنزت من يده فلقة الحجر حتى عادت في مكانها, وطارت من تحتها برقة كادت أن تخطف أبصارهم, ورجفت "مكة" بأسرها, فلما رأوا ذلك أمسكوا أن ينظروا ما تحت ذلك .... وذكر باقي القصة.
#38#
وأبو وهب الذي نزت من يده فلقة الحجر هو: جد سعيد بن المسيب بن حزن بن وهب.
وروى عبد الرزاق بن همام في "جامعه" / عن معمر, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر, وكانت قدر ما تقتحمها العناق, وكانت غير مسقوفة, إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل سدلاً عليها, وكان الركن الأسود موضوعاً على سورها بادياً, وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة, فأقبلت سفينة من أرض الروم,, حتى إذا كانوا قريباً من جدة انكسرت السفينة, فخرجت قريش ليأخذوا خشبها, فوجدوا رومياً عندها، فأخذوا الخشب أعطاهم إياه, وكانت السفينة تريد الحبشة, وكان الرومي الذي في السفينة نجاراً, فقدموا بالخشب وقدموا بالرومي, فقالت قريش: نبني بهذا الخشب الذي في السفينة بيت ربنا.
فلما أرادوا هدمه إذا هم بحية على سور البيت مثل قطعة الجائز سوداء الظهر بيضاء البطن, فجعلت كلما دنا أحد إلى البيت ليهدمه ويأخذ من حجارته سعت إليه فاتحة فاها, فاجتمعت قريش عند المقام, فعجوا إلى الله عز وجل وقالوا: ربنا لم نزع, أردنا تشريف بيتك وتزيينه, فإن كنت ترضى بذلك, وإلا فما بدا لك فافعل.
فسمعوا خواراً في السماء, فإذا هم بطائر أسود الظهر أبيض البطن والرجلين, أعظم من النسر, فغرز مخلابه في رأس الحية حتى انطلق بها يجرها, ذنبها أعظم من كذا وكذا ساقطاً, فانطلق بها نحو "أجياد"
#39#
فهدمتها "قريش", وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي, تحملها "قريش" على رقابها, فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً.
فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من "أجياد" وعليه نمرة, فذهب يضع النمرة على عاتقه فتبرز عورته من صغر النمرة, فنودي: يا محمد, خمر عورتك. فلم ير عرياناً بعد ذلك, وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل الله عليه خمس سنين, وبين مخرجها وبنيانها خمس عشرة سنة.
وخرجه الطبراني في "معجمه" عن إسحاق بن إبراهيم, عن عبد الرزاق, فذكره كذلك.
وأخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الرزاق مختصراُ دون ذكر قصة السفينة والحية.
وحدث به أبو الوليد الأزرقي في "تاريخه" عن جده, عن داود بن عبد الرحمن العطار, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري, عن أبي الطفيل قال: قلت: يا خالي, حدثني / عن بنيان الكعبة قبل أن تبنيها "قريش" قال: كانت برضم يابس بمدر, وذكر القصة بنحوها.
ورواه محمد بن كثير المصيصي, عن عبد الله بن واقد, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن نافع بن جرجس قال: سألت أبا الطفيل, فذكره بنحوه.
#40#
وفي هذا الحديث قوله: "فضاقت عليه النمرة فخالف الما".
قال الحافظ أبو محمد روح بن عبادة بن العلاء بن حسان القيسي البصري أحد الأعيان: حدثنا زكريا بن إسحاق, حدثنا عمرو بن دينار, سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره, فقال له العباس عمه: يا ابن أخي, لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة. قال: فحله فجعله على منكبه، فسقط مغشياً عليه, فما رئي بعد ذلك عرياناً صلى الله عليه وسلم.
أخرجه البخاري عن مطر بن الفضل, ومسلم عن زهير, قالا: حدثنا روح, فذكره.
وقد رواه عبد الرزاق مرة على اللفظ المشهور, فقال الحاكم في "مستدركه": أخبرناه محمد بن علي بن عبد الحميد الصنعاني [ثنا] إسحاق بن إبراهيم بن عباد, أخبرنا عبد الرزاق [أنبأ] معمر, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: لما بني البيت كان الناس ينقلون الحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم معهم, فأخذ الثوب ووضعه على عاتقه, فنودي: لا تكشف عورتك. فألقى الحجر ولبس ثوبه.
قال الحاكم: وهذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
#41#
وقال عاصم بن علي: حدثنا سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: قال العباس بن عبد المطلب: كنا ننقل الحجارة إلى البيت حين كانت "قريش" تبني البيت, وكان الرجال من قريش ينقلون الحجارة, وكانت النساء تنقل, وكنت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم, فكنا نحمل الحجارة على رقابنا, وأزرنا تحت الحجارة, فإذا غشينا الناس اتزرنا, فبينا أنا أمشي ومحمد صلى الله عليه وسلم أمامي ليس عليه شيء إذ خر محمد صلى الله عليه وسلم فانبطح. قال: فألقيت حجري وجئت أسعى, فإذا هو ينظر إلى السماء فوقه, فقلت: ما شأنك؟ فقام فأخذ إزاره فقال: ((نهيت أن أمشي عرياناً)) قال: وكنت أكتمه الناس مخافة أن يقولوا: مجنون, حتى أظهر الله عز وجل نبوته صلى الله عليه وسلم.
أخرجه الدينوري في "المجالسة" فقال: حدثنا أحمد بن ملاعب, حدثنا عصام, فذكره.
وأخرج الحاكم في "مستدركه" فقال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا العباس بن محمد الدوري, حدثنا أبو يحيى الحماني عبد الحميد بن عبد الرحمن, حدثنا النضر أبو عمر الخزاز, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أبو طالب يعالج زمزم, وكان النبي صلى الله عليه وسلم ممن ينقل الحجارة وهو يومئذ غلام, فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم إزاره
#42#
فتعرى واتقى به الحجر, فقيل لأبي طالب: أدرك ابنك فقد غشي عليه.
فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم من غشيته سأله أبو طالب عن غشيته فقال: ((أتاني آت عليه ثياب بياض, فقال: استتر)) فقال ابن عباس رضي الله عنهما: فكان ذلك أول ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة, أن قيل له: "استتر", فما رئيت عورته من يومئذ.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وشاهده حديث أبي الطفيل. ثم ذكر الحاكم حديثه الذي قدمناه عنه.
وفي مسند حديث ابن عباس هذا: أبو يحيى الحماني: ضعفه أحمد بن حنبل, لكن وثقه يحيى بن معين.
وشيخه النضر بن عبد الرحمن الخزاز الكوفي: متروك, ضعفه جماعة, حتى قال يحيى بن معين مرة: لا يحل لأحد أن يروي عنه.
وهذه القصة مشهورة في بنيان قريش الكعبة كما تقدم, وفيها كانت قصة تحكيم قريش النبي صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود, كما تقدمت من رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب.
وقال إسماعيل بن محمد الصفار: حدثنا الحسن بن مكرم, حدثنا عبيد الله بن محمد, حدثنا حماد بن سلمة, عن داود بن أبي هند, عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه، وذكر في عقب بناء الكعبة لما تشاجروا في الحجر أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب, فكان أول من دخل النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: قد جاء الأمين.
#43#
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الصمد, حدثنا ثابت – يعني: أبا زيد – حدثنا هلال –يعني: ابن خباب – عن مجاهد, عن مولاه أنه حدثه: أنه كان فيمن يبني في الجاهلية, قال: ولي حجر أنا نحته بيدي أعبده من دون الله, فأجيء باللبن الخاثر الذي أنفسه على نفسي, فأصب عليه, فيجيء الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول, فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر, وما يرى الحجر أحد / فإذا هو وسط حجارتنا مثل رأس الرجل, يكاد يترايا منه وجه الرجل, فقال بطن من "قريش": نحن نضعه.
قال آخرون: نحن نضعه. فقالوا: اجعلوا بينكم حكماً. قالوا: أول رجل يطلع من الفج, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له, فوضعه في ثوب, ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه معه, فوضعه هو صلى الله عليه وسلم.
مولى مجاهد هو: السائب بن أبي السائب صيفي بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي رضي الله عنه, وتقدم ذكره في حديث مشاركته للنبي صلى الله عليه وسلم في التجارة.
وقد رويت قصة التحكيم بلفظ آخر, وهي: أن القبائل اختصموا في رفعه, فكل قبيلة تريد أن ترفعه, حتى تواعدوا للقتال, وقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً, وأدخلوا أيديهم في الدم وتعاقدوا على الموت, فسموا "لعقة الدم", فمكثوا على ذلك ليالي, ثم تشاوروا للقتال, فقال
#44#
أبو أمية بن المغيرة – وهو أسن قريش – اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب هذا المسجد, فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رأوه قالوا: هذا الأمين, قد رضينا. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: ((هلموا ثوباً)), فأتي به, فأخذ الركن, فوضعه فيه بيده صلى الله عليه وسلم, ثم أمر كل قبيلة أن ترفع بقرنة من قرن الثوب, ففعلوا, فلما وصل إلى مكانه أخذه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ووضعه مكانه, ثم بني عليه.
والثوب الذي وضع فيه النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود اختلفت الرواية فيه:
قال الواقدي: حدثنا خالد بن القاسم,. عن ابن أبي تجراة, عن أمه قالت: أنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع الركن بيده, فقلت: لمن الثوب الذي [وضع] فيه الحجر؟ قالت: للوليد بن المغيرة.
وروي: أن الثوب كان كساء طارونياً للنبي صلى الله عليه وسلم.
والطاروني: ضرب من الخز.
وروى عبد الرزاق في "مغازيه" عن معمر, عن الزهري عقب قصة وضع الحجر الأسود مكانه, قال: ثم طفق – يعني. النبي صلى الله عليه وسلم – لا يزداد فيهم بمر السنين إلا رضى, حتى سموه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي, وطفقوا لا ينحرون جزوراً إلا دعوه ليدعو لهم فيها.
#45#
كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعرف بـ "الأمين" لما شاهدوا من صدقه وأمانته, واختبروه من / عفته وطهارته, فكان أفضلهم مروءة, وأحسنهم خلقاً, وأكرمهم مخالطة, وأحسنهم جوداً, وأعظمهم حلماً وأمانة, وأصدقهم حديثاَ, وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رئي صلى الله عليه وسلم ملاحياً ولا ممارياً أحداً, حتى سماه قومه "الأمين" لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة, كما قاله داود بن الحصين وغيره.
وقال معاوية بن هشام: عن الثوري, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب, عن علي رضي الله عنه قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك, وإنما أنت فينا بمكذب, ولكن نكذب الذي جئت به. فأنزل الله عز وجل: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}.
وجاء عن الثوري, عن أبي إسحاق, عن ناجية مرسلاً.
وهو المحفوظ فيما ذكره الدارقطني في "العلل".
ورواه إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": لما دنا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة رسولاً, وإلى الخلق بشيراً ونذيراً انتشر في الأمم أن الله سيبعث نبياً في هذا الزمان, وأن ظهوره قد قرب, وآن, فكانت كل أمة لها كتاب, تعرف ذلك من كتابها, والتي لا كتاب لها ترى من الآيات المنذرة ما تستدل عليه بعقولها, وتتنبه عليه بهواجس فطرها إلهاماً أعان به الفطن اللبيب, وأنذر به الحازم الأريب, هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم غافل عنها وغير عالم أنه مراد بها ومؤهل لها, لم يشعر حتى نودي, ولا تحققها حتى
#46#
نوجي؛ ليكون أبعد من التهمة وأسلم من الظنة, فيكون برهانه أظهر, وحجابه أقهر, وكان صلى الله عليه وسلم مع تميزه عن قومه بشرف أخلاقه, وكرم طباعه, لم يعبد معهم صنماً, ولا عظم وثناً, وكان متديناً بفرائض العقول في قول جميع الفقهاء والمتكلمين من توحيد الله تعالى وقدمه وحدوث العالم وفنائه. وشكر المنعم وتحريم المظالم, ووجوب الإنصاف وأداء الأمانة. انتهى.
وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس, حدثنا أبو الأحوص, عن سعيد بن مسروق, عن منذر قال: قال الربيع بن خثيم – رحمة الله عليه: كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم / في الجاهلية قبل الإسلام, ثم اختص في الإسلام, قال ربيع: حرف وما حرف: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} آمنه؛ أي: أن الله عز وجل آمنه على وحيه.
قال الإمام أحمد بن حنبل: فيمن قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه" فهو على قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب.
وأما ما قال أبو الحسن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن سفيان الثوري, عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب, عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم .... الحديث.
#47#
فهو حديث باطل, ووهم فيه عثمان؛ لأن جريراً إنما رواه: عن سفيان الثوري عن عبد الله بن جرير بن زياد القمي مرسلاً فيما ذكر.
لكن قال الخطيب: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن جرير غير عثمان بن أبي شيبة, وقال الأزدي: وقد رواه أبو يعلى عن عثمان, تفرد به جرير, إن كان عثمان حفظه فإنه لم يتابع عليه. انتهى.
وقد قال عبد الله اابن الإمام أحمد في كتاب "العلل": وعرضت على أبي حديثاً حدثنا عثمان, عن جرير, عن شيبة, عن نعامة, عن فاطمة بنت حسين, عن فاطمة الكبرى, عن النبي صلى الله عليه وسلم في العصبة, وحديث جرير, عن الثوري, عن ابن عقيل, عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد عيداً للمشركين. فأنكرها جداً, وعدة أحاديث من هذا النحو, فأنكرها جداً وقال: هذه أحاديث موضوعة, أو كأنها موضوعة. وقال: ما كان أخوه – يعني عبد الله بن شيبة – يطنف نفسه لشيء من هذه الأحاديث, نسأل الله السلامة في الدين والدنيا. وقال: نراه يتوهم هذه الأحاديث, نسأل الله السلامة, اللهم سلم سلم.
#48#
وقال القاضي عياض في "الشفا": وقد سئل أحمد بن حنبل عن حديث رواه عثمان بن أبي شيبة بسند له عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه. فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام، فلم يشهدهم بعد.
فأنكره أحمد بن حنبل جدا وقال: هو موضوع، أو شبه الموضوع.
وقال عياض: "وقال الدارقطني: يقال: إن عثمان وهم في إسناده".
والحديث بالجملة منكر / غير متفق على إسناده، فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه عند أهل العلم من قوله صلى الله عليه وسلم: ((بغضت إلي الأصنام)).
وقوله في الحديث الآخر الذي روته أم أيمن حين كلمه عمه وآله في حضور بعض أعيادهم وعزموا عليه فيه بعد كراهيته لذلك، فخرج معهم ورجع مرعوبا فقال: ((كلما دنوت منها من صنم تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك، لا تمسه))، فما شهد بعد لهم عيدا، وقوله في قصة "بحيرا" حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي، ورأى فيه علامات النبوة، فاختبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ((لا تسألني بهما، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما)) فقال له "بحيرا": فبالله إلا [ما] أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال: ((اسأل عما بدا لك)).
#49#
وكذلك المعروف من سيرته صلى الله عليه وسلم وتوفيق الله تعالى: أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بـ"مزدلفة" في الحج، فكان هو يقف بـ"عرفة" لأنه كان يقف موضع إبراهيم -صلوات الله عليهما وسلامه. انتهى.
وخبر أم أيمن الذي أشار إليه القاضي عياض هو: ما رواه الواقدي، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال حدثتني أم أيمن رضي الله عنها قالت: كانت "بوانة" صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له النسائك، ويحلقون رءوسهم عنده، ويعكفون عنده يوما إلى الليل، وذلك يوما في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العبد، فيأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعلن يقلن: يا محمد، ما تريد أن تحضر لقومك عيدا، ولا تكثر لهم جمعا. قال: فلم يزالوا به صلى الله عليه وسلم حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعوبا فزعا، فقلن عماته: ما دهاك؟ فقال: ((إني أخشى أن يكون بي لمم)) فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما / فيك، فما الذي رأيت؟ قال: ((إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه)) قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وتعظيما.
#50#
وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده": حدثنا محمد بن إسحاق وأبو علي الرازي، قالا: أخبرنا يعلى بن عبيد، حدثنا صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: دخل جبريل عليه السلام مسجد الحرام، فطفق يتقلب، فبصر بالنبي صلى الله عليه وسلم نائما في ظل الكعبة، فأيقظه، فقام ينفض رأسه ولحيته من التراب، فانطلق به نحو باب بني شيبة، فلقيهما ميكائيل عليه السلام فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام: ما يمنعك أن تصافح النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجد من يده ريح النحاس. فكأن جبريل أنكر ذلك فقال: أوفعلت ذلك؟ وكان النبي صلى الله عليه و سلم نسي ثم ذكر، فقال: ((صدق أخي، مررت أول من أمس على "إساف" و "نائلة" فوضعت يدي على أحدهما فقلت: إن قوما رضوا بكما إلها لقوم سوء)).
قال صالح: فقلت لابن بريدة: ما "إساف" و "نائلة"؟ فقال: كانا إنسانين من "قريش" فكانا يطوفان بالكعبة، فأصابا منه خلوة، فأراد أحدهما صاحبه، فنكسهما الله تعالى نحاسا، فجاءتهما قريش فقالوا: إن الله تعالى رضي أن نعبد هؤلاء الإنسانين لما نكسهما نحاسا.
قال ابن بريدة: فأما "إساف" فرجل، وأما "نائل" فامرأة من بني عبد الدار بن قصي.
وقال الحاكم أبو عبد الله: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب: أخبرنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا
#51#
محمد بن عمرو، عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد بن حارثة، عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان صنم من نحاس يقال له "إساف" أو "نائلة" يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمسه)) قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسه حتى أنظر ما يكون فمسحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تنه؟!))
رواه أبو يعلى الموصلي عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن محمد بن عمرو، مطولا بقصة فزيد بن عمرو بن نفيل في أوله.
وجاء من طريق أخرى: عن محمد بن عمرو، وفيه: قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه / الكتاب ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه.
وقال أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن الحسن بن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله عز وجل منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم أهلنا نرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر
#52#
الفتيان قال: نعم. فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة -لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش- فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت، حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك، فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل، فسمعت كما سمعت، حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت.؟ قلت: ما فعلت شيئا)).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فو الله، ما هممت بعدهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية، حتى أكرمني الله بنبوته)).
أخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا عمر بن محمد الهمداني، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، فذكره.
تابعه أبو الفضل يحيى بن الفياض الرماني في "المغازي" عن وهب عن أبيه.
ورواه أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق.
وله شاهد عن عمار بن ياسر.
#53#
$هل كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة متعبدا بشرع أم لا؟$
قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا": قال أبو الوفاء بن عقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متدينا قبل بعثه ونزول الوحي عليه بما يصح عنده أنه من شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقال بعضهم: وهو الأشبه الأقوى، وحكى القاضي عياض في "الشفا" اختلاف الناس في حال نبينا صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه: هل كان متبعا لشرع قبله أم لا.
قال: فقال جماعة: لم يكن متبعا لشيء. وهو قول الجمهور. وقال: ثم اختلفت حجج القائلين هذه المقالة عليها، فذهب سيف السنة ومقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل وموارد الخبر من طريق السمع.
وحجته: أنه لو كان ذلك لنقل ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان من مهم أمره وأول ما اهتبل به من سيرته صلى الله عليه وسلم، ولفخر أهل تلك الشريعة ولاحتجوا به عليه، ولم يؤثر شيء من ذلك جملة.
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا
#54#
من عرف تابعا، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح، وهي طريقه غير سديدة.
قال: وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره صلى الله عليه وسلم وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك، إذا لم يحل الوجهين منها العقل ولا استبان عندها في أحدهما طريق النقل. وهذا مذهب أبي المعالي.
وقالت فرقة ثالثة: إنه كان صلى الله عليه وسلم عاملا بشرع من قبله، ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟؟ فوقف بعضهم عن تعيينه وأحجم، وحبس بعضهم على التعيين وصمم، ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع، فقيل: نوح. وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى صلوات الله عليهم.
فهذه جملة المذاهب في هذا المسألة، والأظهر فيها: ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، وأبعدها: مذاهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمناه، ولم يخف جملة ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء، فلزمت شريعته من جاء بعدها، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح: أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم، ولا حجة أيضا للآخرين في قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) ، والأخرى في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً) فحمل هذه الآية على اتباعهم في التوحيد. انتهى.
ومذهب الفرقة الأولى حكاه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" عن أكثر المتكلمين وبعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما وحكى مذهب الفرقة الثالثة عن بعض المتكلمين وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بشريعة
#55#
من تقدمه من الأنبياء. قال الماوردي: لأنهم دعوا إلى شرائعهم / من عاصرهم ومن يأتي بعدهم، ما لم ينسخ بنبوة حادثه، فدخل الرسول الله صلى الله عليه وسلم في عموم الدعاء قبل مبعثه، لأن الله تعالى لا يخلي زمانا من شرع متبوع ولا متدينا من متعبد مسموع.
ثم حكى اختلاف أهل هذا المذهب بنحو ما حكاه القاضي عياض، ثم قال: فسلم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه من جرح في دينه وقدح في نفسه، وهذا من أمارات الاصطفاء ومقدمات الاجتباء.
قال أبو محمد ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا من دين إسماعيل عليه السلام من ذلك حج البيت، والختان، وإيقاع الطلاق ثلاثا، وأن للزوج الرجعة بالواحدة والاثنتين، ودية النفس مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الإيمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج.
قال: وقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} يعني به: شرائع إيمان، ولم يرد به الإيمان الذي هو الإقرار بالله عز وجل، لأن آباءه الذين ماتوا في الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له مع شركهم. انتهى.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه: جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على بعير له بـ"عرفات" من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله تعالى له صلى الله عليه وسلم.
#56#
&بعثته ونبوته صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا&
ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين العناية ملحوظا، محروسا من دنس الجاهلية محفوظا، مؤيدا بعصمة الله ورعايته، إلى أن اختصه الله تعالى برسالته، وأيده بالسكينة والقوة، وأكرمه بالبعثة، وأجله بالنبوة، وأرسله كافة للناس أجمعين، وجعله خاتما للأنبياء والمرسلين، الذين عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، منهم ثلاث مائة وثلاثة عشر رسولا، كما هو مصرح به في حديث إبراهيم بن هشام بن يحيى بن الغساني، عن أبيه، عن جده، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعا به.
وجاء في طريق محمد بن مصفى التي قدمنا ذكرها عن بقية بن الوليد، حدثني شيخ / من أهل "فلسطين" عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فقال: ((يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وتحيته: ركعتان)) الحديث بطوله، وفيه: قلت: يا رسول، كم الأنبياء؟ قال: ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا)) قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: ((ثلاث مائة وخمسة عشر)).
وخرج الطبراني من حديث معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام: أنه سمع أبا سلام، حدثني أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله ، أنبي كان آدم؟ قال: ((نعم)) قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: ((عشرون)).
#57#
قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: ((عشرة قرون)). قال: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: ((ثلاث مائة وخمسة عشر رجلا)).
تفرد به معاوية بن سلام.
وروي عن عمر بن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن جده، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني لخاتم ألف نبي أو أكثر)) الحديث.
ورواه عبيد الله بن عمر القواريري، عن يحيى - وهو: القطان - عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لخاتم ألف نبي وأكثر، ما من نبي بعث إلا وقد أنذر أمته الدجال)) الحديث.
وروى زكريا بن عبدي، عن مسلم بن خالد، عن زياد بن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بعثت على [أثر] ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل)).
وحدث به محمد بن سعد في "الطبقات" عن أحمد بن محمد بن الوليد، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، فذكره.
#58#
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سليمان بن داود الزهراني أبو الربيع، حدثنا محمد بن ثابت العبدي، حدثنا معبد بن خالد الأنصاري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا بعده)).
تابعه موسى بن عبيدة الربذي، عن الرقاشي.
وقال جعفر بن محمد بن عبد الرحمن الصغار: حدثنا أحمد بن سعيد – يعني: الدارقي - حدثنا / أبو معاوية – هو: الزعفراني – عن صالح بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أصدق الرؤيا ما كان نهارا، لان الله عز وجل خصني بالوحي نهارا)).
#59#
$[ابتداء البعثة واليوم الذي بعث فيه صلى الله عليه وسلم وزاده شرفاً [2]]$
كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين من عمره، وهو سن الكمال،, ولها تبعث الرسل فيما قيل.
حدث الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثنا أبي, حدثنا نافع أبو غالب الباهلي, شهد أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: فقال العلاء بن زياد العدوي: يا أبا حمزة, لسن [أي] الرجال كان نبي صلى الله عليه وسلم إذ بعث؟ قال: ابن أربعين سنة ويوماً, وروي عن مجاهد.
وقيل: أربعين سنة وشهرين.
وقيل: بعث صلى الله عليه وسلم بعد ثنتين وأربعين سنة, وروي عن مكحول.
وقيل: كان ذلك سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة للإسكندر, وسنة عشرين من ملك كسرى أنوشروان.
وكان ابتداء البعثة نهاراً: كما تقدم من طريق أبي الزبير عن جابر, وكان الاثنين.
#60#
حدث غيلان بن جرير, عن عبد الله بن معبد الزماني, عن أبي قتادة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين, قال: ((ذلك يوم أنزلت علي فيه النبوة)).
حدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن سليمان بن حرب, حدثنا أبو هلال, عن غيلان, فذكره.
وحدث به أيضاً عن موسى بن إسماعيل [عن] أبي هلال, حدثنا غيلان بن جرير, عن عبد الله بن معبد الزماني, عن أبي قتادة, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مررنا برجل, فقال: يا رسول الله, صوم يوم الاثنين؟ قال: ((ذاك يوم أنزلت علي فيه النبوة)).
ورواه الحسن بن عبد الملك, عن قتادة, عن عبد الله بن معبد, عن
#61#
أبي قتادة قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: ((فيه أنزل علي)), لم يذكر عمر رضي الله عنه.
وجاء عن محمد بن المنكدر, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أما الاثنين فهو اليوم الذي أنزل علي الوحي فيه)).
واختلف في أي شهر كان المبعث:
فقال أبو محمد ابن حزم: يوم الاثنين لثمان مضين من / ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل.
وبهذا قال الجمهور, وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل: لثمان بقين من ربيع الأول.
وقيل: في أوله.
وقيل: لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وقيل: لليلتين خلتا منه. قاله ابن زيد.
وقيل: كان في شهر رمضان, وبه قال جماعة, وذكره الشيخ أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري – رحمه الله تعالى – في قوله مادحاً للنبي صلى الله عليه وسلم:
وأتت عليه أربعون فأشرقت ... نور النبوة منه في رمضان
#62#
واختلف القائلون أن البعثة في رمضان، على أقوال:
فقيل: كانت البعثة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان. وروي عن البراء بن عازب وغيره.
قال الواقدي: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة, عن أبي جعفر قال: نزل الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "حراء" يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أربعين سنة, وجبريل الذي كان ينزل عليه بالوحي.
وقيل: لسبع خلت من رمضان.
وقيل: لأربعة وعشرين ليلة خلت منه.
واحتج من قال: "في رمضان" بقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان} .
قالوا: أول ما أكرمه الله بنبوته أنزل عليه القرآن.
وأجيب عن هذا: أن إنزال القرآن في شهر رمضان إنما كان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا, ثم أنزل منجماً بحسب الوقائع, في ثلاث وعشرين سنة.
وقيل في قوله تعالى: {أنزل فيه القرءان}: أي: في شأنه وتعظيمه وفرض صومه.
والظاهر – والله أعلم: أن ابتداء النبوة كان في شهر ربيع الأول كما تقدم.
#63#
وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا في النوم, وتم ذلك إلى "مضان", فأنزل الله عليه القرآن في "غار حراء".
قال أبو جعفر الباقر: نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة السبت وليلة الأحد, ثم ظهر له بـ"حراء" برسالة الله عز وجل يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان.
وذكره أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي.
وبهذا المعنى فسروا قوله صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)), لأنا / إذا قلنا: إن مبدأ النبوة كان في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه على خلاف في ذلك, وعددنا من ثم إلى السابع عشر من رمضان كان ستة أشهر ونيفاً, ومدة النبوة كانت ثلاثاً وعشرين سنة, فحينئذ كانت الرؤيا جزءاً من أربعين جزءاً من النبوة.
وبهذا يجمع بين قول من قال: "إن مبدأ النبوة في شهر ربيع الأول" ومن قال: "في شهر رمضان", والله أعلم.
وقيل: كان المبعث في شهر رجب.
يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سبع وعشرين من شهر رجب, وهو أول يوم هبط فيه. وبهذا قال الليث بن سعد.
قال مغلطاي فيما أنبأونا عنه: في كتاب "العتقي": ابن خمس وأربعين لسبع وعشرين من رجب – يعني: أنزل عليه – قاله الحسين – يعني: ابن علي – وجمع بأن ذلك حين حمي الوحي وتتابع.
#64#
وقيل: إن إسرافيل عليه السلام وكل به صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين قبل جبريل عليه السلام وأنكر ذلك الواقدي, وصححه الحاكم. انتهى.
وإنكار الواقدي هذا قاله عنه ابن سعد, لكن سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا: أن الواقدي ما أنكؤه, وإنما ذكره الواقدي لمحمد بن صالح بن دينار التمار المدني, فأخبره: أن عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعاصم بن عمر بن قتادة أنكروا ذلك حين ذكره لهما رجل من "العراق".
#65#
$[ما روي في كم كان بين الأنبياء, وما روي في نبوة خالد بن سنان, وأنه كان بعد عيسى عليه السلام]$
قال أبو بكر بن أبي خيثمة: منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام إلى أن بعث محمداً صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة.
وذكر ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير الشيباني عنه في "المغازي" قال: كان من آدم إلى نوح عليه السلام ألف ومائتا سنة, وبين نوح إلى إبراهيم, عليهما السلام ألف ومائة واثنتان وأربعون سنة, وبين إبراهيم وموسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة, ومن موسى إلى داود عليهما السلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة, ومن داود إلى عيسى عليهما السلام ألف وثلاث مائة سنة وستة وخمسون, ومن عيسى عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة؛ فذلك خمسة آلاف وأربع مائة سنة.
وخالف ابن إسحاق: أيوب بن عتبة. فقال: يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثني ابن نمير, حدثنا إسحاق – ابن بنت داود أبي هند – حدثني عامر بن يساف اليمامي, عن أيوب بن عتبة قال: كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة آباء / وذلك ألف سنة, وكان بين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة آباء, وذلك ألف سنة, وكان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام سبعة آباء, ولم يسم السنين, وكان بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف وخمسمائة سنة, وكان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة, وهي الفترة.
#66#
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "العلل": حدثني أبي، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه, حدثني عبد الصمد, أنه سمع وهباً يقول: قد خلا من الدنيا – يعني: خمسة آلاف وستمائة سنة – إني لأعرف كل زمان منها ما كان فيه من الملوك والأنبياء, قلنا لوهب: كم الدنيا؟ قال: ستة آلاف سنة.
وذكر القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي في كتابه "عيون المعارف" عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ما بين آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وسبعمائة وخمسون سنة.
وذكره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه "سير العالم": أن اليهود تزعم أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة التي في أيديهم اليوم من عهد آدم عليه السلام إلى هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف سنة وستمائة سنة واثنتان وأربعون سنة.
ثم قال ابن جرير بعد ذلك: وأما اليونانية من النصارى فإنها تزعم أن الذي ادعت اليهود من ذلك باطل، وأن الصحيح من القول في التوراة التي في أيديهم من مدة أيام الدنيا من لدم خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى وقت
#67#
الهجرة على سياق ما عندهم خمسة آلاف وتسع مائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر.
وقال أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "تاريخه": حدثنا هارون بن معروف, حدثنا ضمرة بن هاشم قال: قال سعيد بن جبير: إنما الدنيا جمعة من جمع الآخرة.
هذا آخر حديث في "التاريخ".
وخرجه ابن جرير في "تاريخه" من طريق يحيى بن واضح, حدثنا يحيى بن يعقوب, عن حماد, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة, سبعة آلاف سنة.
وخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" بزيادة فقال: حدثنا أبي, حدثنا يزيد بن عبد العزيز, حدثنا أبو يوسف يعقوب القاضي, عن يحيى بن يعقوب: أبي طالب, عن حماد بن أبي سليمان, عن سعيد بن جبير,
#68#
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة, فقد مضى منها ستة آلاف ومائتان من سنين, وتبقى الدنيا وليس عليها مؤخر.
قال أبو طالب: أظنه مائتين من سنين.
وفي لفظ: وليس عليها موحد.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا ابن الأصبهاني, أخبرنا معاوية بن هشام, عن سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن كعب قال: الدنيا ستة آلاف سنة. الحديث.
وخرجه أبو نعيم في "الحلية" من حديث منجاب بن الحارث, حدثنا أبو عامر الأسدي, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن كعب قال: الدنيا ستة آلاف سنة.
وحديث ابن قبيصة, عن سفيان, عن الأعمش, عن كعب، فلم يذكر أبا صالح.
#69#
ورواه ابن نمير, عن وكيع, حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة, ثم جعل مع كل يوم ألف سنة.
وقال أبو اليمان الحكم بن نافع, أخبرنا أبو بكر بن عبد الله, عن راشد بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربي أن يؤخرهم نصف يوم)) فقيل لسعد: وكم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة.
تابعه يحيى بن عبد الله البابلتي, عن أبي بكر بن عبد الله. مثله.
وحدث ابن جرير, عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب, حدثني عمر ابن عبد الله بن وهب, حدثني معاوية بن صالح, عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير, عن أبيه: جبير بن نفير, أنه سمع أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم الذي كان مقداره ألف سنة)).
#70#
ثم قال ابن جرير في كلام له: وإذا كان ذلك كذلك وكان الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً بأنه أخبر عن الباقي من ذلك في حياته أنه نصف يوم ذلك خمسمائة عام, أو كان ذلك نصف يوم من الأيام التي قدر اليوم الواحد منها ألف عام كان معلوماً أن الماضي من الدنيا إلى وقت قول النبي صلى الله عليه وسلم ما رويناه عن أبي ثعلبة عنه: كان سبعة آلاف سنة وخمس مائة سنة, أو نحواً من ذلك أو قريباً منه, والله أعلم. انتهى.
وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثني إبراهيم بن أيوب / الحوراني سمعت الوليد بن مسلم يقول: إذا أفنى الله عز وجل الخلق أقام يمجد نفسه قبل أن يبعثهم مثل عمر الدنيا أربع مرات. قال أحمد: وكان يقال: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة.
وجاء عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة.
وثبت من حديث أبي عوانة, عن عاصم الأحول, عن أبي عثمان, عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: فترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ستمائة سنة.
وبهذا قال مقاتل والجمهور.
#71#
ويروى عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان بين ميلاد عيسى عليه السلام وبين ميلاد نبينا صلى الله عليه وسلم خمسمائة وتسعة وستون سنة, وهي فترة, فكان بعد عيسى من الرسل, فذلك قوله عز وجل: {إذا أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} قال: الرابع لا أدري من هو, فكان بين السنين مائة سنة وأربع وثلاثون سنة نبوة, وسائرها فترة.
قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع – والله أعلم: خالد بن سنان الذي فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضيعه قومه)).
قلت: وهذا الحديث مطروح, رواه عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني, حدثنا المنذر – وهو: ابن محمد القابوسي – حدثنا الحسين – وهو: ابن محمد بن علي الأزدي – حدثنا عائذ بن حبيب العبسي, عن أبيه, حدثني مشيخة من بني عبس, عن سباع بن يزيد العبسي: أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له خالد بن سنان فقال: ((ذلك نبي ضيعه قومه)).
#72#
أو: جاء الحديث من أفراد قيس بن الربيع الأسدي – ذلك الجوال الذي أتي من قبل ابنه – رواه عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فبسط لها ثوبه وقال: ((بنت نبي ضيعه قومه)) لا أعلم أحداً رواه عن قيس سوى محمد بن الصلت الأسدي, ولا عن ابن الصلت سوى يحيى بن المعلى بن منصور الرازي, وعنه انتشر, فرواه عن يحيى بنحوه الحافظ أبو بكر البزار.
وحدث به الطبراني عن أحمد بن زهير التستري, حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي فذكره.
وخالف قيساً الثوري فرواه – فيما قاله البزار – عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير مرسلاً.
قلت: حدث بذلك محمد / بن عبد الله بن زبر, عن الخضر بن أبان, حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا سفيان الثوري, عن سالم, عن سعيد بن جبير قال: أتت ابنة خالد بن سنان العبسي رسول الله صلى الله عله وسلم فقال: ((مرحبا بابنة أخي, نبي ضيعه قومه)).
#73#
وابنة خالد هذه اسمها: المحياة.
فجاء عن هشام بن محمد ابن الكلبي, عن أبيه, عن أبي بن عمارة العنسي, عن أبيه قال: كان خالد بن سنان بن غيث بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس نبياً يوحى إليه, وكانت "حرة الحدثان" إذا كان الليل فهي نار تأجج, وإذا كان النهار فهي دخان يسطع.
قال هشام بن محمد: قال أبي: فحدثني عمرو بن سالم, عن أبيه: أن طيباً كانت تغشى إبلها بضوئها من مسيرة سبع ليال, وكانت تلك النار قد أضرمت بالناس, وربما خرج منها العنق فساح, فلا يمر بشيء إلا يأكله.
قال هشام: ثم رجع الحديث إلى أبي بن عمارة, قال أبي: وأخبرني أبي قال: أتانا خالد بن سنان فقال: يا معاشر بني عبس, إن الله قد أمرني بإطفاء هذه النار, فليقم معي من كل بطن منكم رجل.
قال أبي: وكان عمارة أبي هو الذي قام معه من بين بني خزيم. قال فانتهى بهم إلى طرف الحرة, فإذا عنق لها قد خرج علينا, ثم أحدق بنا, فصرنا في مثل كفة الميزان, ثم جعل يدنو, وجعلنا نتقيه بالعصي والنعال والقلانس وهو يدنو, فقلنا: يا خالد؛ أهلكتنا. فقال: كلا. فجعل يضربه بالدرة, ويقول: بداً بداً, كل هدى لله مؤدى, أنا عبد الله, أنا خالد بن سنان.
#74#
قال: فرجع ذلك العنق من حيث أقبل, وتبعه خالد حتى انتهى إلى قليب في وسط الحرة فانساب فيه.
قال: وانقدم عليه خالد وعليه إزار ورداء, فمكث ملياً, فقال ابن عم لخالد – يقال له: عروة بن سنة بن غيث بن مريط: لا يخرج منها أبداً, فما كان بأسرع مما خرج علينا وثوباه تنطفان عرقاً وهو يقول: زعم ابن راعية المعز أن لا أخرج منها، وجندي تندي. قال: فسموا بني راعية المعزى إلى اليوم, وأطفئت النار إلى اليوم, وذكر الحديث بطوله, وفيه:
ثم قال: إني ميت لسبع, فإذا رأيتم العير الأبتر يطوف بقبري ويشوف بمنخره فانبشوني تجدوني حياً أخبركم بما يكون إلى أن تقوم الساعة.
فمكث ثلاثاُ, ثم مات, فدفن, فمكثوا ثلاثاً, فرأوا العير الأبتر كما وصف خالد, فأرادوا نبشه فقال بنو مخزوم بن مالك – رهطه: لا لعمري لا تنبشوا موتانا فتعيرنا به العرب. فترك على حاله.
قال هشام: فقدمت المحياة بنت خالد بن سنان على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مرحبا بابنة أخي, نبي ضيعه قومه)).
ورواه محمد بن عمر الرازي الحافظ, حدثني عمرو بن إسحاق بن العلاء, حدثني جدي: إبراهيم بن العلاء, حدثنا أبو محمد القرشي الهاشمي, حدثنا هشام بن عروة, عن ابن عمارة, عن أبيه: عمارة بن حزن بن شيطان؛ بقصة خالد بن سنان, وفيها: فلما بعث الله عز وجل
#75#
محمداً صلى الله عليه وسلم أتته محياة بنت خالد, فانتسبت له, فبسط لها رداءه وأجلسها عليه وقال: ((ابنة أخي, نبياً ضيعه قومه)).
وقد خرج القصة مطولة الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا علي بن عبد العزيز وخلف بن عمرو العكبري, قالا: حدثنا معلى بن مهدي الموصلي, حدثنا أبو عوانة, عن أبي يونس, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً من بني عبس يقال له: خالد بن سنان قال لقومه: أنا أطفئ عنكم نار الحدثان. قال: فقال له عمارة بن زياد – رجل من قومه: والله ما قلت لنا يا خالد إلا حقاً, فما شأنك وشأن النار؟! تزعم أنك تطفئها. قال: فانطلق معه عمارة بن زياد في ناس من قومه حتى أتوها وهي تخرج من شق جبل في حرة يقال لها: "حرة أشجع". قال: فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها وقال: إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي, فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضاً, فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاة ويقول: بداً بداً, كل هدى مرداً, زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي تندى, حتى دخل معها الشق, فأبطأ عليهم.
قال: فقال عمارة بن زياد: والله لو كان صاحبكم حياً لقد خرج عليكم, فقالوا: إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه, قال: فادعوه باسمه, فوالله لو كان صاحبكم حياً لقد خرج إليكم بعد. قال: فدعوه باسمه, فخرج عليهم وقد أخذ برأسه وقال: ألم أنهكم أن تدعوني باسمي, فقد والله قتلتموني فادفنوني, فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانبشوني؛
#76#
فإنكم ستجدونني حياً. قال: فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر, فقالوا: أنبشوه؛ فإنه قد أمرنا أن ننبشه, فقال لهم عمارة: / لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا, ولا تنبشوه أبداً.
وقد كان خالد أخبرهم أن في عكم امرأته لوحين, فإذا أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما؛ فإنكم سترون ما تسألون عنه. وقال: لا تمسهما حائض.
قال: فلما رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما وهي حائض فذهب ما كان فيهما من علم.
قال: وقال يونس: قال ابن سماك: إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مرحباً بابن أخي)).
تابعهما أبو يعلى الموصلي, عن المعلى بن مهدي الموصلي. روى علي بن المبارك, عن زيد بن المبارك, حدثنا محمد بن ثور, عن ابن جرير قال: وسمعت غير واحد من أهل أرضنا. وذكر قصة خالد بن سنان, ثم قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ابنه قال: ((تعال يا ابن أخي)) لا يقول ذلك لغيره, وسمعت أخته النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {قل هو الله أحد} فقالت: قد كنت أسمع أخي يقرأ هذه السورة.
#77#
وقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى, الأنبياء أبناء علات, وليس بيني وبين عيسى نبي)).
وقيل: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة. وقيل: أربع مائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة. قاله الضحاك. وقيل: خمسمائة وأربعين سنة.
قاله ابن السائب الكلبي.
#78#
$[كيف كان مبدأ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم]$
وكان مبدأ الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا, كما قدمناه, فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح:
خرج البخاري ومسلم في "الصحيحين" من حديث الزهري, عن عروة, عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح, الحديث.
وقال يونس بن بكير: أخبرنا محمد بن إسحاق, حدثني الزهري، عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به أنه لا يرى شيئاً إلا جاءت كفلق الصبح, فمكث على ذلك ما شاء الله أن يمكث, وحبب إليه الخلوة, فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو.
أخرجه الترمذي لابن بكير, وقال: "هذا حديث حسن غريب". وفي نسخة: "صحيح".
وهذه الرؤيا أحد أنواع الوحي وأولها؛ لأن الوحي أتى النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع, وكان له صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي حالات:
منها: ما صح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه – وفي لفظ – وغمض عينيه –
#79#
وكنا نعرف ذلك منه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور, حدثنا عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي تربد وجهه, وأمسك عنه أصحابه ولم يكلمه أحد منهم.
وروي عن الفلتان بن عاصم رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه, وكان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل.
ورآه يعلى بن أمية لما رفع له عمر طرف الثوب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه بـ"الجعرانة" قال: فإذا هو محمر الوجه, وهو يغط كما يغط البكر.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرني يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد, عن ابن شهاب, عن عروة, عن عبد الرحمن بن عبد القاري, سمعت ابن الخطاب عمر رضي الله عنه يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل, الحديث بطوله في نزول: {قد أفلح المؤمنون}.
#80#
وحدث به أبو محمد عبد بن حميد بن نصر الكسي – بكسر الكاف وتشديد السين المهملة يليه ياء ساكنة النسب – في "مسنده" عن عبد الرزاق بنحوه, إلا أنه سقط يونس بن يزيد من روايته بين ابن سليم وابن شهاب.
وحدث به عن عبد بن حميد: الترمذي في "جامعه" فقال: حدثنا يحيى بن موسى وعبد بن حميد وغير واحد, المعنى واحد, قالوا: حدثنا عبد الرزاق, عن يونس بن سليم عن الزهري عن عروة, فأسقط يونس بن يزيد.
ثم رواه عن غير محمد بن أبان, حدثنا عبد الرزاق, عن يونس بن سليم, عن يونس بن يزيد, عن الزهري: بهذا الإسناد نحوه بمعناه, وقال: هذا أصح من الحديث الأول.
وقال: وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد وربما لم يذكره, وإذ لم يذكر فيه يونس مرسل. انتهى.
وحدث به النسائي في "مسنده" عن إسحاق بن إبراهيم, عن عبد الرزاق, عن / يونس بن سليم, قال: أملى علي يونس بن يزيد, عن الزهري, فذكره.
هذا حديث منكر, لا نعلم أحداً رواه غير يونس بن سليم, ويونس: لا نعرفه. قاله النسائي.
#81#
وقال أبو جعفر العقيلي عن يونس بن سليم: لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به. انتهى.
وجاء عن ابن لهيعة, حدثني يزيد بن أبي حبيب, عن عمرو بن الوليد, عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قلت: يا رسول الله, هل تحس بالوحي؟ قال: ((نعم, أسمع صلاصل, ثم أثبت عند ذلك, وما من مرة يوحى إلي [إلا] ظننت أن نفسي تفيض منه)).
$[مطلب في حالاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي [3]]$
ومن حالاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي: أنه يعرق في اليوم الشديد البرد ويتحدر منه عرقه كالجمان, من ثقل الوحي الذي ينزل عليه, وكانت [في] هذه الحالة تحدث له عند نوع من أنواع الوحي, وهو أشدها عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوحي أتاه كما تقدم على أنواع:
منها: ما تقدم من أحاديث الرؤيا في النوم, جعلها الله تعالى توطئة للإتيان في اليقظة.
ومنها: أن الملك وهو جبريل عليه السلام كان يتمثل له رجلاً, فيكلمه ويعي عنه ما يقول له.
قال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا إسحاق بن أبي
#82#
حسان الأنماطي, حدثنا هشام بن عمار الدمشقي, حدثنا خالد بن عبد الرحمن, حدثنا إبراهيم بن عثمان, عن الحكم بن عتيبة, عن مقسم, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من الأنبياء من يسمع الصوت, فيكون بذلك نبياً, وكان منهم من بنفث في أذنه وقلبه, فيكون بذلك نبياً, وإن جبريل عليه السلام يأتيني فيكلمني كما يكلم أحدكم صاحبه)),
وكان منها: أن إسرافيل عليه السلام وكل به, فكان يتراءى له ثلاث سنين, ويأتيه بالكلمة من الوحي, ثم وكل به جبريل عليه السلام فجاءه بالقرآن والوحي.
قال الشعبي فيما رواه أحمد بن حنبل وابن المثنى واللفظ له, قالا: حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن عامر قال: أنزلت عليه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – النبوة, وهو ابن أربعين سنة, فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين, فكان بعلمه الكلمة والشيء, لم ينزل القرآن على لسانه, فلما مضى ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام, فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بالمدينة.
ورواه أحمد بن حنبل أيضاً عن هشيم, أخبرنا داود, عن الشعبي.
وحدث بنحوه يعقوب بن سفيان في "التاريخ" عن الحجاج, حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, فذكره.
#83#
ورواه ابن أبي خيثمة في "التاريخ" عن موسى بن إسماعيل, عن حماد بن سلمة.
ورواه الهيثم بن عدي في "تاريخه" فقال: أنبأني إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي قال: قرن إسرافيل عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثلاث سنين, يسمع الصوت ولا يرى أحداً, ثم قرن به جبريل عليه السلام عشرين سنة, وذلك حين أوحي إليه.
ورواه الواقدي, عن الثوري, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي, وعن منصور, عن أشعث, عن الشعبي قال: قرن إسرافيل بنبوة رسول الله صلى الله وسلم ثلاث سنين, يسمع حسه ولا يرى شخصه.
قال الواقدي: فذكرت ذلك لمحمد بن صالح بن دينار فقال: والله, يا ابن أخي لقد سمعت عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعاصم بن عمر بن قتادة يتحدثان في المسجد, ورجل عراقي يقول لهما هذا, فأنكراه جميعاً وقالا: ما سمعنا ولا علمنا, إلا أن جبريل عليه السلام هو الذي قرن به, وكان يأتيه الوحي من يوم نبئ إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن سعد في "الطبقات" بعد أن روى قول الشعبي المذكور من طريق وهيب بن خالد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي قال: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر – يعني: الواقدي – فقال:
#84#
ليس يعرف أهل العلم ببلدنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم, وأن علماءهم وأهل السيرة منهم يقولون: لم يقرن به غير جبريل عليه السلام من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الوحي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس, يخالطه الملك فيشتد عليه الأمر حتى يعرق في اليوم الشديد البرد, ومرة أتاه الوحي على هذه الصفة وهو على ناقته فكادت أن تبرك إلى الأرض.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي, حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة, عن صالح بن محمد, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي أروى الدوسي رضي الله عنه قال: رأيت الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنه على راحلته فترغو وتفتل يديها, حتى أظن أن ذراعها ينفصم فربما بركت وربما قامت موتدة يديها, حتى يسرى عنه, من ثقل الوحي, وإنه ليتحدر منه مثل الجمان.
أبو أروي اسمه: ربيعة.
وأتاه الوحي مدة على هذه الصفة, وكانت فخذه على فخذ زيد بن ثابت رضي الله عنه, فثقلت فخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد حتى خاف أن ترض فخذه, وكان هذا النوع أشد أنواع الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الملك كان يلقي الوحي في قلبه وخلده صلى الله عليه وسلم من غير أن يراه, كما جاء من حديث عفير بن معدان, عن سليم بن عامر, عن
#85#
أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نفث روح القدس في روعي أن نفساً لم تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها, فأجملوا في الطلب, ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى, فإن الله عز وجل لا ينال ما عنده إلا بطاعته)).
أخرجه الطبراني في "معجمه" من طريق عفير.
وله شاهد عن: ابن مسعود والمطلب بن حنطب.
ومنها: أن يري الملك في صورته التي خلقه الله عز وجل عليها, فيوحي إليه, وهذا وقع له في الإسراء: كما صح أن أبا إسحاق الشيباني قال: سألت زر بن حبيش عن قول الله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى} قال: حدثنا ابن مسعود: أنه رأى جبريل عليه السلام له ست مائة جناح.
ورواه أبو وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته له ستمائة جناح, قد سد الأفق, يسقط من جناحه ما الله به أعلم من الياقوت والدر.
وروي نحوه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ولكن قد رأى جبريل عليه السلام في صورته وخلقته ساداً ما بين الأفق.
#86#
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان, حدثنا حماد, أخبرنا عطاء بن السائب, عن الشعبي, عن مسروق, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيت جبريل منهبطاً, قد ملأ ما بين السماء والأرض, عليه ثياب سندس معلقاً / به اللؤلؤ والياقوت)).
وقال أيضاً: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا أبو بكر بن عياش, عن إدريس بن منبه, عن وهب بن منبه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام أن يراه في صورته, فقال: ادع ربك. فدعا ربه. قال: فطلع عليه سواد من قبل المشرق. قال: فجعل يرتفع وينتشر, فلما رآه صعق, فأتاه فنعشه ومسح البزاق عن شدقه.
وقال عبد الله بن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا الليث بن سعد, عن عقيل, عن ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته, فقال جبريل: إنك لن تطيق ذلك, فقال: ((إني أحب أن تفعل)), فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة, فأتاه جبريل عليه السلام في صورته, فغشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه, ثم أفاق وجبريل مسنده واضع إحدى يديه على صدره, والأخرى بين كتفيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله, سبحان الله, ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا)), فقال جبريل: فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام إن له لاثني عشر
#87#
جناحاً, جناح منها في المشرق وجناح في المغرب, وإن العرش لعلى كاهله, وإنه ليتضاءل الأحيان لعظمة الله تعالى, حتى يصير مثل الوصع – والوصع: عصفور صغير – حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته سبحانه وتعالى.
الوصع بالمهملات المحركات, ويقال أيضاً بإسكان الصاد, والصعوة مثله لكنه بإسكان العين فقط.
ومنها: وحي الله سبحانه وتعالى فوق سبع سموات ليلة المعراج, كفرض الصلاة وغيره.
ومنها: تكليم الله تعالى له بغير واسطة, إما في اليقظة: كما كلمه ليلة الإسراء, وإما في النوم: كما في حديث معاذ رضي الله عنه مرفوعاُ: ((أتاني ربي في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى)) ... الحديث.
ومنها: سماع كلام الله تعالى مع رؤيته كفاحاً بغير حجاب, وفي ذلك خلاف أشرنا إليه في قصة المعراج, وسيأتي إن شاء الله.
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": والذي تدرجت إليه أحواله صلى الله عليه وسلم في النبوة حتى علم أنه نبي مبعوث ورسول مبلغ, ترتب تدريجاً, على ست أحوال, نقل فيهن إلى منزلة بعد منزلة, حتى بلغ غايتها.
والمنزلة الأولى: الرؤيا / الصادقة في منامه بما سيؤول إليه أمره, فكان ذلك إنكاراً بها ليروض لها نفسه, وتجبر فيها حواسه, فيقوم بها إذا بعث, وهو عليها قوي, وبها ملي.
#88#
ثم قال: والمنزلة الثانية: ما ميز به عن سائر الخلق من تقديسه عن الأرجاس وتطهيره من الأدناس؛ ليصفو فيصطفى ويخلص فيستخلص, فيكون ذلك إنذاراً بالأمر وتنبيهاً على العاقبة.
قال: والمنزلة الثالثة: البشرى بالنبوة من ملك أخبره بها عن ربه عز وجل اختصت بشراه بالإشعار, وتجردت عن تكليف وإنذار, ولم يسمع بها وحيا, ولا أرى معها شخصاً, وإنما كان إحساساً بالملك, اقترن بآية دلت وأمارة ظهرت, اكتفي بها عن مشاهدته واستغني بها عن نطقه؛ ليعلم أنه من أنبياء الله، فيتأهب لوحيه، ويعان بإمهاله, فيكون على البلوى أصبر وعلى النعمة أشكر.
قال: والمنزلة الرابعة: أنه نزل عليه جبريل بوحي ربه حتى رأى شخصه وسمع مناجاته, وأخبره أنه نبي الله ورسوله, واقتصر به على الإخبار, ولم يأمره بالإنذار, ليعلمها بعد البشرى عياناً, ويقطع بها يقيناً, فتكون نفسه بها أوثق وعلمه بها أصدق, فلا يعترضه وهم ولا يخالجه ريب.
ثم قال: والمنزلة الخامسة: أنه أمر بعد النبوة بالإنذار, فصار به رسولاً، ونزل عليه القرآن بالأمر والنهي, فصار [به] مبعوثاً, ولم يؤمر بالجهر وعموم الإنذار, ليختص بمن أمنه ويشتد بمن أجابه.
ثم قال: والمنزلة السادسة: أن أمر بأن يعم بالإنذار بعد خصوصه, ويجهر بالدعاء إلى الإسلام بعد استسراره, فأنزل الله تعالى عليه قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فجهر بالدعاء.
#89#
ثم قال: فصار بعموم الإنذار والجهر بالدعاء إلى التوحيد والإسلام عام النبوة مبعوثا إلى كافة الأمة، وكمل الله تعالى بذلك نبوته، وتمم به رسالته، فصدع بأمره، وقام بحقه، وجاهر بإنذاره، وعم بدعائه، وجاهد في الله حق جهاده، حتى خصم قريشا حين جادلوه، وصابرهم حين عاندوه، وكابد من الشدائد ما لا يثبت عليها إلا معصوم، ولا يسلم منها إلا منصور، وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق، لأن الله لا يهدي كيد الخائنين، ولا يصلح عمل المفسدين. انتهى.
قال محمد بن عائذ: حدثني الوليد، أخبرني معاوية / بن سلام، عن جده: أبي سلام الأسود، عمن حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا بأعلى مكة، وإذا أنا براكب عليه سواد، فقال: هل بهذه القرية رجل يقال له: أحمد؟ فقلت: ما بها أحمد ولا محمد غيري. فضرب ذراع راحلته فاستاخت، ثم أقبل حتى كشف عن كتفي حتى نظر إلى الخاتم الذي بين كتفي، قال: أنت نبي الله. قلت: ((ونبي أنا؟)) قال: نعم. قلت ((بما أبعث؟)) قال: يضرب أعناق قومك. قال: فهل من زاد؟ فخرجت حتى أتيت خديجة فأخبرتها، فقالت: حريا أو خليقا أن لا يكون ذلك، فهي أكبر كلمة تكلمت بها في أمري، فأتيته بالزاد فأخذه وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى زودني نبي الله صلى الله عليه وسلم طعاما وحمله لي في ثوبه)).
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني: حدثنا سليمان بن أحمد إملاء، حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على
#90#
رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، أراه الله تعالى رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه، ورأى: أنه بينما هو بمكة أتي إلى سقف بيته فتنزع شيحة، حتى إذا نزع دخل فيه سلم من فضة فيما يخيل إليه، ثم نزل رجلان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأردت أن أستغيث، فحبساني مكاني، ومنعت الكلام، فقعد أحدهما إلي والآخر إلى جنبي، فأدخل أحدهما يده في جنبي، فنزع ضلعي منه، كما ينزع غلق الصندوق الشديد، فأخل يده في جوفي، وأنا أجد بردها، فأخرج قلبي فوضعه على كفه، وقال لصاحبه: نعم القلب. وقال: قلب رجل صالح، ثم أدخلا القلب مكانه، ورد الضلع كما يرد غلق الصندوق، ثم ارتفعا ورفعا سلمهما فاستيقظت، فإذا السقف كما هو، فقلت: تحلم)).
وذكره النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بنت خويلد فعصمها الله تعالى من التكذيب، فقالت: أبشر، فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا.
أخبرها: أنه رأى بطنه طهر وغسل ثم أعيد كما كان.
قالت: هذا والله خير، فأبشر.
ثم استعلن به جبريل عليه السلام وهو بأعلى مكة من قبل حراء فوضع يده على رأسه وفؤاده، وقال: لا تخف، أنا جبريل، وأجلسه معه على مجلس كريم كهيئة الدرنوك، فيه الياقوت واللؤلؤ، فبشره صلى الله عليه وسلم برسالات الله عز وجل حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل /ثم قال: اقرأ. قال ((كيف أقرأ؟)) قال: {اقر باسم ربك الذي خلق} إلى قوله: {ما لم يعلم}، وأبدى له جبريل نفسه له جناحان من ياقوت يخطفان البصر،
#91#
ففتح جبريل عينا من ماء، فتوضأ ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فوضأ وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين، ونضح فرجه، وسجد سجدتين مواخية البيت، ففعل محمد صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يفعل.
وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه، وسألها الله عز وجل بحقها، واتبع الذي نزل به جبريل من عند رب العرش العظيم، فلما قضى جبريل عليه السلام الذي أمره انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
فرجع إلى بيته، وهو مؤمن قد رأى أمره عظيما، فلما دخل على خديجة فأخبرها، قال: ((أرأيتك الذي كنت أحدثك أني رأيته في المنام، فإنه جبريل عليه السلام قد استعلن لي، أرسله إلي ربي عز وجل)).
وأخبرها [بالذي] جاء من الله عز وجل وسمع.
فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي أتاك من الله عز وجل فإنك رسول الله عز وجل حقا.
ثم انطلقت مكانه حتى أتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له: عداس، فقالت، يا عداس، أذكرك بالله، هل عندك علم: من جبريل؟
فلما سمعها عداس تذكر جبريل عليه السلام قال.: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان؟
قالت: أحب أن تحدثني بعلمك فيه.
قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام.
#92#
فرجعت خديجة من عنده، فأتت ورقة بن نوفل. وكان ورقة يكره عبادة الأوثان هو وزيد بن عمرو بن نفيل وكان زيد قد حرم كل شيء حرمه الله من الدم والذبيحة على النصب، وكل شيء من أبواب الظلم في الجاهلية، وأخبر ذلك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكرت له جبريل، وما جاء به من عند الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال لها ورقة: يا ابنة أخي، والله ما أرى، لعل صاحبك الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، وأقسم بالله لئن كان إياه ثم دعا إلى الله عز وجل وأنا حي لأبلين الله عز وجل في طاعة / رسوله صلى الله عليه وسلم وحسن المؤازرة والنصرة.
فمات ورقة، والله أعلم.
ورواه موسى بن عقبة عن الزهري، بنحو رواية عروة هذه.
وجاء عن سليمان التيمي أتم سياقا مما تقدم.
وقال سعيد بن عيسى بن تليد: حدثني المفضل بن فضالة، عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمه: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه كان من بدء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام رؤيا، فشق ذلك عليه، فذكر ذلك لصاحبته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
#93#
فقالت له: أبشر، فإن الله لا يصنع بك إلا خيرا. فذكر لها: أنه رأى بطنه أخرج فطهر وغسل، ثم أعيد كما كان.
قال: هذا خير فأبشر.
ثم استعلن له جبريل عليه السلام فأجلسه على ما شاء الله أن يجلسه عليه، وبشره برسالة الله عز وجل حتى اطمأن، ثم قال له اقرأ. قال: ((كيف أقرأ؟)) قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }.
فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه عز وجل واتبع الذي جاء به جبريل من عند الله عز وجل وانصرف إلى أهله، فلما دخل على خديجة قال: ((أرأيتك الذي كنت أحدثك ورأيته في المنام، فإنه جبريل استعلن)) فأخبرها بالذي جاءه من الله وسمع.
فقالت: أبشر، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، فاقبل الذي آتاك الله، وأبشر فإنك رسول الله حقا.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذر أن يعتكف شهرا بـ "حراء"، فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فسمع: السلام عليك، قال: ((فظننتها فجاءة الجن، فجئت مسرعا حتى دخلت على خديجة، فسجتني ثوبا، وقالت: ما شأنك؟ فأخبرتها فقالت: أبشر، فإن السلام خير)).
#94#
حدث به أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الأنصاري الدولابي، عن محمد بن حميد أبي قرة، حدثنا سعيد بن عيسى بن تليد، فذكره.
و "قصة حراء" مخرجة في "الصحيحين" من حديث الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها واللفظ للبخاري أنها قالت: أول ما بدئ / به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بـ "غار حراء" فيتحنث فيه – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها.
حتى جاءه الحق وهو في "غار حراء"، فجاءه الملك فقال: اقرأ.
فقلت ((ما أنا بقارئ)) فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: أقرا فقلت: ((ما أنا بقارئ)).
فأخذني، فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف بها فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي)).
فقالت خديجة رضي الله عنها: كلا والله ما يحزنك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم،
#95#
وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان أمرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة رضي الله عنها: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا ابن أخي، ما ترى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى عليه السلام يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذا يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم؟)) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
رواه يحيى بن بكير وشعيب بن الليث، عن الليث.
تابعهما عبد الله بن يوسف عن الليث، مختصرا.
وقال أبو صالح سلمويه: حدثنا عبد الله، حدثنا يونس، عن الزهري، فذكره.
وعبد الله هو: ابن المبارك.
#96#
تابعه ابن وهب عن يونس.
وروى أسد بن موسى عن روح بن مسافر، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما / عن ورقة ابن نوفل قال: قلت: يا محمد، أخبرني عن هذا الذي يأتيك – يعني جبريل عليه السلام- فقال: ((يأتيني جناحاه لؤلؤ، وباطن قدمه أخضر)).
هذا حديث غريب من حديث الأعمش، لا يعرف عنه إلا من حديث روح بن مسافر، قاله عبد الله بن مندة.
وروى علي بن سهل بن المغيرة النسائي، وإبراهيم بن الحارث بن إسماعيل أبو إسحاق البغدادي نزيل نيسابور، عن أبي زكريا يحيى بن أبي بكر الكرماني، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع مناديا يناديه: يا محمد، فإذا سمع الصوت انطلق هاربا، فأتى خديجة رضي الله عنها، فذكر ذلك لها. فقال: ((يا خديجة قد خشيت أن يكون خالط عقلي شيء، إني إذا برزت أسمع شيئا ينادي فلا أرى شيئا فأنطلق هاربا)) فقالت: ما كان الله وعز وجل ليفعل.
#97#
ذلك بك. فأسرت ذلك إلى أبي بكر وكان نديما في الجاهلية، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة: فقال: ((وما ذاك؟)) فحدثه أبو بكر بما حدثته خديجة رضي الله عنها فأتى ورقة فذكر ذلك له.
فقال له ورقة: هل ترى شيئا؟ قال: ((ولكني إذا برزت سمعت النداء ولا أرى شيئا فانطلق هاربا، فإذا هو عندي ينادي)).
قال: فلا تفعل، إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك.
فلما برز سمع النداء: يا محمد. قال: ((لبيك)) قال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: قل: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، حتى فرغ من فاتحة الكتاب.
ثم أتى ورقة فذكر ذلك له؛ فقال له: أبشر ثم أبشر؛ أشهد أنك أنت الرسول الذي بشر به عيسى: {برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد}، فأنا أشهد أنك أحمد، وأنا أشهد أنك محمد، وأنا أشهد أنك رسول الله، توشك أن تؤمر بالقتال، وإن أمرت بالقتال وأنا حي لأقاتلن معك. فمات ورقة.
رواه يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. فذكره مختصرا.
وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن صالح بن سهيل مولى أبي زائدة، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، به مطولا.
#98#
ورواه يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل به.
وفي مغازي إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – يعني: لما سمع أول ما سمع – قال: ((لا تحدث به قريش عني أبدا إلا عمدت إلى حالق من الجبل، فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن)) قال:
((فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل)).
قال: ((فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، ما أتقدم ولا أتأخر، وجعلت أصرف وجهي في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي ولا أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا وأنا واقف في مكاني، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفا. فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؛ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا ورجعوا إلي؟ قلت لها: إن الأبعد لشاعر أو مجنون)).
فقالت: أعيذك بالله من ذلك يا أبا القاسم، ما كان الله ليصنع بك ذلك من صدق حديثك، وعظم أمانتك، وحسن خلقك، وصلتك رحمك، وما ذاك يا ابن عم لقد رأيت شيئا؟ قال: قلت: نعم ثم حدثتها الذي رأيت.
#99#
فقالت: أبشر يا ابن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها أنه رأى وسمع فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسيج وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت.
وهو في مغازي ابن إسحاق – رواية ابن جرير بن حازم عنه - عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير الليثي من قوله بنحوه، وفيه قال: فرجعت خديجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال ورقة وثبتته حتى خف عنه بعض ما كان يجد.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجاورته بدأ بالكعبة كما كان يصنع فلقيه ورقة بن / نوفل فقال له: بني أخي، أخبرني بما رأيت وما كلمت، فأخبره فقال: بني أخي، أثبت، فوالذي نفس ورقة بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولتؤذين ولتكذبن ولتخرجن ولتقاتلن، ولئن أنا أدركت ذلك لأنصرن الله تبارك وتعالى نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وتتامت له كرامته من الله عز وجل.
#100#
وقال الطبراني في "معجمه الكبير" حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما يحسب حماد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله عنها: ((إني أسمع أصواتا وأرى ضوءا، وأخشى أن يكون [بي خبل] فقالت خديجة رضي الله عنها: لم يكن الله ليفعل بك ذلك يا ابن عبد الله.
ثم أتت ورقة بن نوفل فذكرت ذلك له فقال: إن يكن صادقا فإن هذا ناموس مثل ناموس موسى، وإن يبعث وأنا حي فسأعزره وأنصره وأعينه.
أخرج الترمذي في "جامعه" من حديث عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقالت له خديجة: إنه كان صدقك ولكنه مات قبل تظهر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أريته في المنام وعليه ثياب بياض، ولو كان من أهل النار لكان على لباس غير ذلك)).
وحدث به أحمد في "مسنده" عن حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "ورقة بن نوفل"، فقال: ((قد رأيته في المنام فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه بياض)).
#101#
وخرج الحاكم في "المستدرك" من حديث أبي معاوية، عن هشام عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين)).
وخرجه البزار في "مسنده".
#102#
وقال أبو بكر محمد بن حميد بن سهل المخرمي: حدثنا أحمد بن الحسن الصوفي، حدثنا سريح بن يونس، حدثنا إسماعيل بن مجالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن "ورقة بن نوفل" فقال: ((أبصرته يمشي في بطنان الجنة، عليه قميص من سندس)).
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني" في ذكر ورقة بن نوفل: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد بن
#103#
أبان بن سعيد بن العاص، حدثنا أبي، حدثنا مجالد، عن عامر، عن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أرأيت "ورقة بن نوفل"، فإنه كان يستقبل القبلة ويقول: إلهي إله "زيد" وديني دين "زيد", ومدحه وكان مدحه فقال:
رشدت وأنعمت ابن عمرو, وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حاميا
بدينك رباً ليس رب كمثله ... وتركك جنان الخبال كما هيا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيته في بطنان الجنة, عليه جبة سندس)).
ومدحة "ورقة" هذه رثى بها "زيد بن عمرو", وذاك أن "زيداً" لما خرج يطلب الدين الصحيح – دين إبراهيم عليه السلام – ويسأل الأحبار والرهبان حتى بلغ "الموصل" و "الجزيرة" كلها, ثم أقبل فجال الشام كلها, حتى أتى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون, فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم.
فقال: إنك لتطلب ديناً ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم, ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها, يبعث بدين إبراهيم الحنيفية, فالحق بها؛ فإنه مبعوث الآن, هذا زمانه.
وقد كان شام اليهودية والنصرانية, فلم يرض شيئاً منها, فخرج سريعاً – حين قال له ذلك الراهب ما قال – يريد مكة حتى إذا توسط
#104#
بلاد "لخم" عدوا عليه, فتلوه, فقال "ورقة بن نوفل بن أسد" يبكيه:
رشدت وأنعمت ابن عمرو, وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حاميا
بدينك رباً ليس رب كغيره ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جباراً إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
ذكره ابن إسحاق وغيره.
وجاء عن الواقدي: أن الذي قتل ببلاد "لخم" و "جذام": "ورقة بن نوفل", لما كان بالشام وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقتال بعد الهجرة أقبل يريده, حتى إذا كان ببلاد "لخم" و "جذام" قتلوه وأخذوا ما كان / معه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يترحم عليه.
#105#
وقال الإمام أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري: قال بعضهم: إن "ورقة" مات بمكة بعد المبعث ودفن بها.
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ: حدثنا عمر بن محمد بن جعفر, حدثنا إبراهيم بن علي, حدثنا النضر بن سلمة, حدثنا عبد الله بن عمرو الفهري ومحمد بن سلمة, عن الحارث بن محمد الفهري, عن إسماعيل بن [أبي] حكيم, عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, عن أم سلمة, عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن عم, تستطيع إذا جاءك هذا الذي يأتيك أن تخبرني به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعم)), فقالت خديجة: فجاءه جبريل عليه السلام ذات يوم وأنا عنده, فقال: ((يا خديجة, هذا صاحبي الذي يأتيني قد جاء)), فقلت له: قم فاجلس على فخذي. فجلس عليها, فقلت: هل تراه؟ قال: ((نعم)), فقلت: تحول فاجلس على فخذي اليسرى. فجلس عليها, فقلت هل تراه؟ قال: ((نعم)), قالت خديجة: فتخمرت فطرحت خماري فقلت: هل تراه؟ قال: ((لا)), فقلت: هذا والله ملك كريم، لا والله ما هذا شيطان.
فقالت خديجة: قلت لـ "ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي": ذلك مما أخبرني محمد صلى الله عليه وسلم. فقال ورقة شعراً:
#106#
فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فـ "أحمد" مرسل
يفوز به من فاز فيما ينوبهم ... ويشقى به العاني الغوي المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخري بأجواز الجحيم تغلل
إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعوا ... مقامع في هاماتهم ثم منعل
فسبحان من تهوي الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأحكامه في خلقه لا تبدل
غيره: وقال أيضاً:
يا للرجال وصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه الله من غير
حتى "خديجة" تدعوني لأخبرها ... وما لنا في خفي الغيب من خبر
#107#
فكان ما سألت عنه لأخبرها ... أمراً أراه سيأتي الناس عن أخر
فخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الناس والعصر
بأن "أحمد" يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر
فقلت إن الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجي الخير وانتظري /
وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقاً عجباًَ ... يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت في أهيب الصور
ثم استمر وكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم ما حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري سيصدقني ... أن سوف تبعث تتلوا منزل السور
وسوف أوليك إن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا من ولا كدر
#108#
$ابتداء نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم$
وقال أبو بشر يونس بن حبيب: حدثنا أبو داود, حدثنا حماد بن سلمة, عن أبي عمران الجوني, عن رجل, عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف هو و"خديجة" شهراً, فوافق ذلك شهر رمضان, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع: "السلام عليكم" قالت: فظننا أنه فجأه الجن, فقال: ((أبشروا؛ فإن السلام خير)).
ثم رأى يوماً آخر جبريل عليه السلام على الشمس له جناح بالمشرق وجناح
#109#
بالمغرب, قال: ((فهلت منه)).
قال: فانطلق يريد أهله, فإذا هو بـ "جبريل" بينه وبين الباب, قال: ((فكلمني حتى أنست به, ثم وعدني موعداً)), قال: ((فجئت لموعده, فاحتبس علي جبريل)), فلما أراد أن يرجع إذا هو به وبـ "ميكائيل", فهبط "جبريل" عليه السلام إلى الأرض, وبقي "ميكائيل" بين السماء والأرض, قال: ((فأخذني جبريل عليه السلام فصلقني لحلاوة القفا, وشق عن بطني فأخرج منه ما شاء الله, ثم غسله في طست من ذهب, ثم أعاده فيه, ثم كفأني كما يكفأ الإناء, ثم ختم في ظهري, حتى وجدت مس الخاتم, ثم قال لي: اقرأ باسم ربك. ولم أقرأ كتاباً قط, فأخذ بحلقي حتى أجهشت بالبكاء, ثم قال: {أقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} إلى قوله: {ما لم يعلم}))، قال: ((فما نسيت شيئاً بعد. ثم وزنني برجل فوزنته, ثم وزنني بآخر فوزنته, ثم وزنني بمائة, فقال مكائيل عليه السلام: تبعته أمته ورب الكعبة)).
قال: ((ثم جئت إلى منزلي, فما يلقاني حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. حتى دخلت على خديجة فقالت: السلام عليك يا رسول الله)).
وروي من وجه آخر ضعيف عن عائشة.
#110#
وقال أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين: حدثنا عبد الله بن سليمان, حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد, حدثنا يعقوب بن محمد, حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة, عن هشام بن عروة, عن أبيه، / عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال "ورقة بن نوفل" لما ذكرت له "خديجة" رضي الله عنها أنه ذكر لها جبريل عليه السلام سبوح سبوح, وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان, جبريل أمين الله بينه وبين رسله، اذهبي به إلى المكان الذي رأى ما رأى, فإذا أتاه فتحسري, فإن يك من عند الله فإنه لا يراه. ففعلت, فلما تحسرت تغيب "جبريل" عليه السلام فلم يره, فرجعت فأخبرت "ورقة", فقال: إنه يأتيه الناموس الأكبر الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم. ثم قام ورقة ينتظر إظهار الدعوة, فقال في ذلك:
لججت وكنت في الدنيا لجوجاً ... لهم طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتيين على رجائي ... حديثك لو رأى منه خروجا
#111#
بأن محمداً سيسود قوماً ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... تقام به البرية إذ تعوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
وفي رواية:
سيأتي بالذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
بما خبرتنا من قول قس ... من الركبان أكسره أن يعوجا
وفي رواية:
ولوجاً في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجي بالذي كرهوا جميعاً ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
#112#
وهل أمر السفالة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خلوجا
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه": حدثنا عمرو – يعني: ابن خالد – وحسان – يعني: ابن عبد الله -, قال: حدثنا ابن لهيعة, عن أبي الأسود, عن عروة قال: استعلن جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة من قبل "حراء", فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه وقال: لا تخف, أنا "جبريل" فأجلسه على مجلس كريم جميل معجب, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اجلسني على بساط كهيئة الدرنوك, فيه اليواقيت واللؤلؤ)).
فبشره برسالات / الله عز وجل حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام, ثم قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} السورة كلها, وأبدى له جبريل عليه السلام نفسه له جناحان من ياقوت يخطفان البصر, ففتح جبريل عليه السلام عيناً من ماء, فتوضأ, ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه, فوضأ وجهه ويديه إلى المرفقين, ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين, ثم نضخ فرجه, وسجد سجدتين مواجهة البيت, ففعل محمد صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل عليه السلام يفعل.
#113#
تابعه الوليد بن مسلم فيما رواه عنه هشام بن عمار في كتاب "المبعث" قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة, فذكره نحوه, وفي آخره: وفعل محمد صلى الله عليه وسلم كذلك وقبل رسالات ربه, ثم انصرف إلى أهله, لا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
وخرجه أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, عن عقيل, عن الزهري, عن عروة, عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبريل عليه السلام أتاه في أول ما أوحي إليه, فعلمه الوضوء والصلاة, فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء, فنضح بها فرجه.
وقال محمد بن عائذ القرشي: حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ابن مجاهد, عن أبيه قال: إن أول ما لقي جبريل عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم لقيه بـ "أجياد الأصغر" خلف "أبي قبيس", فنشر معه نمطاً من استبرق مكتوب فيه: {أقرأ باسم ربك الذي خلق}, فقال له: يا محمد, اقرأه. ففزع فأعرض بوجهه, فتحول الكتاب تلقاء وجهه, ثم إن جبريل عليه السلام احتمله موضعه في الأرض, فغطه, ثم أرسله فقال {أقرأ} حتى ختم السورة.
وحدث أيضاً عن محمد بن شعيب, عن عثمان بن عطاء, عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ثم استعلن جبريل عليه السلام إلى
#114#
النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة من قبل "حراء", فوضع يده على رأسه وفؤاده وبين كتفيه, وقال: لا نخف, أنا جبريل. فأجلسه معه على مجلس كريم جميل معجب, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يقول: ((أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت واللؤلؤ)), فبشره برسالة ربه, حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: اقرأ. قال: ((وما أقرأ؟)). قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق}, فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالات ربه, ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم / منقلباً إلى أهله, لا يأتي على حجر ولا شجر إلا سلم عليه: سلام عليك يا رسول الله, الحديث.
وروى إبراهيم بن طهمان, عن سماك, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث)).
خرجه مسلم في "صحيحه" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا إبراهيم بن طهمان, فذكره.
وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا سليمان بن معاذ الضبي, عن سماك بن حرب, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بمكة لحجراً كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه إذا مررت به)).
#115#
وحدث به الترمذي, عن بندار محمد بن بشار ومحمود بن غيلان, عن سليمان بن داود الطيالسي.
هذا حديث حسن غريب. قاله الترمذي.
وقد قيل: إنه الحجر الأسود.
وخرج ابن سعد في "طبقاته الكبرى" من حديث منصور بن عبد الرحمن, عن أمه, عن برة بنت أبي تجراة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى به كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى لا يرى بيتاً, ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية, فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قالت: السلام عليك يا رسول الله, فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه, فلا يرى شيئاً.
وحدث الترمذي عن عباد بن يعقوب, عن الوليد بن أبي ثور, عن السدي, عن عباد بن أبي يزيد, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت
#116#
مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة, فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله .
قال الترمذي: هذا حديث غريب. انتهى.
تابعه عنبسة بن الأزهر وغيره عن السدي.
وروى غير واحد عن الوليد بن أبي ثور, وقال: عن عباد أبي يزيد.
ورواه زياد بن أبي خيثمة, عن السدي, عن أبي يزيد الخيواني, عن علي.
قلت: وممن تابع عباد بن يعقوب الكوفي, وقال مثله: "عن عباد بن أبي يزيد": فروة بن أبي المغراء, وذلك فيما خرجه خال ولد السني أبو الحسين محمد بن السري في كتاب "الأولياء" – من تأليفه – فقال:
حدثنا إبراهيم – يعني: ابن عبيد – حدثنا فروة, فذكره.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه أبو بكر / بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف" فقال: حدثنا محمد بن بكار, حدثنا الوليد بن أبي ثور الهمداني, حدثنا السدي, عن عباد بن أبي يزيد, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, فذكره بنحوه.
#117#
وحدث أبو هارون عمران بن محمد الهمداني في كتابه "طبقات الهمدانيين", عن محمد بن علي بن خلف العطار, حدثنا حسين الأشقر, حدثنا أسباط بن نصر الهمداني, عن إسماعيل السدي, عن أبي يزيد – وهو: عباد بن يزيد –, فذكره بنحوه.
قال أيوب بن سليمان: حدثنا أبو بكر, عن سليمان بن بلال, عن يحيى بن سعيد, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما استعلن لي جبريل عليه السلام جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله)).
وفي الأحاديث التي ذكرناها قبل ما يدل: أن "جبريل" عليه السلام هو أول من أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقد قيل: إن "إسرافيل" عليه السلام وكل بالنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين قبل "جبريل" عليه السلام, قاله الشعبي, وذكرناه قبل.
#118#
$أول ما نزل من القرآن$
وفي حديث أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل الذي قدمناه ما يشعر أن أول شيء نزل من القرآن أوائل سورة {اقرأ} كما ذكرنا من حديث عائشة المتفق عليه.
وقد روى أبو روق, عن الضحاك, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول شيء نزل من القرآن خمس آيات: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} إلى قوله تعالى: {ما لم يعلم}، وآخر شيء نزل من القرآن: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله}.
وقال الواقدي: حدثني معمر بن راشد, عن الزهري عن محمد بن عباد بن جعفر, سمعت بعض غلماننا يقول: كان أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم}, فهذا صدرها الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم "يوم حراء", ثم أنزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى.
ونقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: أول ما نزل عليه: {يا أيها المدثر} .
والذي عليه الجمهور: قول عائشة رضي الله عنها كما قدمناه, وهو المرجح على قول جابر لوجوه:
#119#
منها: أن حديثه الذي احتج به قال فيه: فرفعت / رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض, فجئثت منه, فرجعت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر . قم فأنذر}.
فهذا صريح أنه تقدم نزول الملك عليه بـ "حراء" أولاً, وهو الذي أنزل عليه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق} دل على تأخر نزول: {يا أيها المدثر}.
قال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" بعد روايته حديث جابر في نزول: {يا أيها المدثر} قال: في خبر جابر هذا: إن أول ما نزل من القرآن: {يا أيها المدثر} , وفي خبر عائشة: {اقرأ باسم ربك}, وليس بين هذين الخبرين تضاد, إذ الله عز وجل أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الغار بـ "حراء", فلما رجع إلى بيته دثرته خديجة وصبت عليه الماء البارد, وأنزل الله عليه في بيت خديجة: {يا أيها المدثر . قم فأنذر} الآية من غير أن يكون بين الخبرين تهاتر وتضاد. انتهى.
#120#
$ذكر القرآن العظيم وأسمائه$
فالنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته النبوة من الملك العلام أكرمه بتنزيل القرآن الذي هو معجزة باقية في كل زمان تكفل الله بحفظه وأودع الحكمة في محكم لفظه, وجمع فيه مع وجازة الكلم أضعاف ما في الكتب السابقة من الحكم.
له: حسن التأليف, والتئام الكلام, واتساق الآيات, وحسن ضروب النظام, أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع مغيبات فوقعت, وأنبأ عن قصص قرون سلفت, وأعلم بأخبار أمم سلفت, أنزله الله بكل خير آمراً, وعن كل شر زاجراً, وجعله سنة خالية ومثلاً مضروباً وحجة قائمة, وعلماً منصوباً, من عمل به أجر الأجر العظيم, ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم, وله أسماء عظيمة منزلة فيه وفي غيره, وهي دالة على شرفه وبركاته وخيره, فمنها:
"البشير", و"البشرى"، و"البلاغ", و"البيان"، و"البينة"، و"التبيان"، و "التذكرة"، و"التنزيل", و"الحبل", و"الحق"، و"الحكم", و"الحكيم", و"الدين"، و"الذكر"، و"الرحمة"، و"الروح", و"السراج", و"الشفاء", و"الصحف", و "الصراط", و"العزيز", و"العظيم", و"العلم", و"العلي", و"الفرقان"، و"الفصل", و"القرآن", و"القصص", و"القول", و"الكتاب", و"الكريم", و"الكلام", و"المبارك", و"المتين", و"المثاني", و"المجيد", و"المصدق", و "المهيمن", و"الموعظة", و"النبأ", و"النجاة", و"النذير", و"النعمة", و"النور", و"الهدى"، و"الوحي".
#121#
فهو أجل آيات نبينا صلى الله عليه وسلم وأكبر كراماته / وأبهر دلائل نبوته وأعظم معجزاته.
#122#
$معجزاته صلى الله عليه وسلم وأعظمها القرآن العظيم$
ولم نذكر ما وقع لنا من المعجزات مجموعة في باب, بل ذكرنا بعضها مفرقة في هذا الكتاب, من تتبعها فيه رآها, ومن أراد جمعها منه حواها, وجوامع معجزات نبينا – عليه أفضل الصلاة وأتم السلام – راجعة إلى سبعة أقسام:
أولها:
معجزات الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين, ووجه عدها في معجزاته وإدخالها في جملة آياته مستفاد من قول الله عز وجل: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} الآية، فالمراد بالرسول هنا: نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كما جاءت الرواية عن علي وابن عباس رضي الله عنهم وآخرين, وكل معجزة لنبي هي دلالة على تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وقاله, ومن جملة ما أخبر به كل من الأنبياء لأتباعه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه, فمعجزاتهم داخلة في معجزاته, وآياتهم داخلة معدودة في جملة آياته.
والقسم الثاني:
ما ظهر في زمن الفترة من الخوارق والهواتف والطوارق والبشارات في جملة آياته بالحقائق.
والقسم الثالث:
ما ظهر عند ميلاده وبرز وقت إيجاده, كإضاءة الأقطار من نوره,
#123#
وجمود نيران المجوس لظهوره, وانشقاق إيوان كسرى, وسقوط الشرفات منه جهراً, وما رأته أمه وقابلته من العجائب, وما هتف به من الغرائب.
والقسم الرابع:
ما ظهر فيما بين ميلاده إلى بعثته, كشرح صدره, وشق قلبه, وغسل حشوته, ورمي الشياطين بالشهب, وأخبار الهواتف وأهل الكتب.
والقسم الخامس:
ما وجد بعد نبوته والوحي إليه وأفيض من المدد الإلهي عليه.
والقسم السادس:
الإخبار بالمغيبات والإنباء على الكائنات, والإعلام بقيام الساعة, وما قبلها من الآيات.
والقسم السابع:
كرامات الأولياء ومقامات الأصفياء.
ووجه عدها في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه كرامات التابع, فالمتبوع أجل وأعظم.
وخامس هذه الأقسام أبهرها وأعظمها معجزة وأكثرها, دون منه العلماء الكثير, وجمع منه الأئمة النفيس الخطير, ومع ذلك لا يحصى تفصيله, ولا يطاق حصره وتحصيله,
وقد وجدت مجال القول ذا سعة ... فإن وجدت لساناً قائلا فقل
وأعظم هذا القسم شأناً, وأقطعه بياناً, وأمضاه برهاناً, وأغلبه قوة, وأعلنه سلطاناً القرآن العظيم والذكر الحكيم, المحكم المعاني والبيان, وكان ابتداء نزوله في شهر رمضان.
قال إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق: فابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان, يقول الله عز وجل: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان},
#124#
وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} السورة، وقال تعالى: {حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة}, وقال تعالى: {إن كنتم ءامنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان}, وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمشركين من قريش بـ"بدر".
ثم روى ابن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون من قريش بـ"بدر" يوم الجمعة صبيحة سبعة عشر من رمضان.
وروى أيضاً من لا يتهم من أهل البصرة عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أنه كان يقول فيما بلغه وانتهى إليه من العلم: أنزلت التوراة على موسى عليه السلام لست ليال مضين من رمضان, وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان, وأنزل الفرقان على رسول الله صلى الله عليه وسلم لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان.
والله أعلم أي ذلك كان.
وروي أيضاً عمن لا يتهم عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أبي الجلد قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان, وأنزلت
#125#
التوراة في ست مضين, وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان, وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلون من رمضان.
والله أعلم أي ذلك كان.
وخرجه أبو عبد الله محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس البجلي في كتابه "فضائل القرآن" فقال: أخبرنا العباس بن الوليد, حدثنا / يزيد – يعني: ابن زريع -, حدثنا سعيد, عن قتادة قال: حدثنا صاحب لنا, عن أبي الجلد, فذكره بنحوه.
ورواه عمران بن داور القطان أبو العوام, عن قتادة, عن أبي المليح, عن واثلة رضي الله عنه مرفوعاً نحوه.
وقال أحمد بن عمير بن جوصا: حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا بقية بن الوليد, حدثني عتبة بن أبي حكيم, حدثني شيخ منهم, عن واثلة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لقي إبراهيم الصحف في أول ليلة من رمضان, وأنزلت التوراة على موسى في ست من رمضان, وأنزل الله الزبور على
#126#
داود في عشر من رمضان, وأنزل الله الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين من رمضان)).
وهو في "مسند أحمد بن حنبل".
وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا حجاج بن أبي بكر, حدثنا أبو المليح, عن جابر قال: إن الله أنزل صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان, وأنزل التوراة على موسى لست ليال خلون من رمضان, وأنزل الإنجيل على عيسى لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان, وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان.
وقال سعيد بن أبي مريم: أخبرنا عبد الرحمن بن نجي الصدفي أبو شيبة, حدثنا حيان بن أبي جبلة, عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: أنزلت الصحف الأولى أول يوم من رمضان, وأنزلت التوراة في ستة من رمضان, وأنزل الإنجيل في اثني عشر من رمضان, وأنزل الزبور في ثمانية عشر من رمضان, وأنزل القرآن في أربع وعشرين من رمضان.
وروى أبو عمر محمد بن موسى بن فضالة القرشي من حديث علي, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلت الصحف على إبراهيم عليه السلام في ليلتين من شهر رمضان, وأنزل الزبور على داود عليه السلام في ست من رمضان, وأنزلت التوراة على موسى عليه السلام لثماني عشرة من رمضان, وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم لأربع وعشرين من رمضان)).
#127#
"علي" هذا هو: "ابن أبي طلحة", المشهور لم يسمع التفسير من ابن عباس, بل أخذه عن مجاهد عنه, فلم يذكر مجاهداً, وأرسله / عن ابن عباس ومعاوية بن صالح, وروى عن علي عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسيراً كثيراً.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث محمد بن بلال, حدثنا عمران القطان, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة, ثم أنزل نجوماً.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن "قتادة" إلا "عمران", تفرد به "محمد بن بلال", وهو في "المعجم الكبير" أيضاً.
وقال أبو عبد الله محمد بن أيوب بن يحيى [بن] الضريس البجلي في كتابه "فضائل القرآن": أخبرنا علي بن الحسن, حدثنا عبد الأعلى, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى سماء الدنيا, فكان الله تعالى إذا أراد أن يحدث في الأرض شيئاً أنزل منه حتى جمعه.
وقال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في كتابه "ثواب القرآن وفضائله": أخبرنا قتيبة بن سعيد, حدثنا ابن أبي عدي, حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن في رمضان ليلة
#128#
القدر, فكان في السماء الدنيا, فكان الله عز وجل إذا أراد أن يحدث شيئاً نزل, وكان بين أوله إلى آخره عشرون سنة.
حدثنا إسماعيل بن مسعود, حدثنا يزيد – يعني: ابن زريع -, حدثنا داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل القرآن جملة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا, فكان إذا أراد الله تعالى أن يحدث شيئاً منه أحدثه.
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم, حدثنا الفريابي، عن سفيان, عن الأعمش, عن حسان, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فصل القرآن من الذكر, فوضع في "بيت العزة" في السماء الدنيا, فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلاً, قال سفيان: خمس آيات ونحوها.
وهكذا حدث به الفريابي المذكور "محمد بن يوسف" عن الثوري.
وحدث به أبو عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس في "فضائل القرآن" عن محمد بن عبد الله بن نمير, حدثنا يحيى بن عيسى / الرملي, حدثنا الأعمش, عن حسان – يعني: أبا الأشرس -, عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان, فجعل في "بيت العزة".
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء
#129#
الدنيا في ليلة القدر, ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة, ثم قرأ: {وقرءاناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}.
صحيح الإسناد, وهذا يشعر أن مبتدأ التنزيل كان حين تم للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وأربعون سنة.
وكذلك ما قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يحيى, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشراً وبالمدينة عشراً, وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وسلم.
المراد بهذا: النزول – والله أعلم – نزول التتابع, ويحتمل أن يكون من حين قرن به جبريل عليه السلام كما تقدم من أن إسرافيل عليه السلام قرن بنبوته صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.
وقد روى هذا الحديث روح بن عبادة والنضر بن شميل وغيرهما عن هشام, وهذا لفظ روح, حدثنا هشام, حدثنا عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة, فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه, ثم أمر بالهجرة, فهاجر عشر سنين, ومات وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الصحيح المعروف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أنزل عليه أوائل سورة {اقرأ باسم ربك}. في أول البعثة, ثم فتر عنه الوحي فترة, ثم إن الله تابع نزول الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء كل وقت بما
#130#
يحتاج إليه, ولم تقع فترة بعد الفترة الأولى التي كانت بعد نزول الملك أول مرة لقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك} كما تقدم, فإنه مكث الوحي بعدها حيناً لم ينزل, قيل: كانت مدة ذلك سنتين أو أكثر, ثم حمي الوحي وتتابع.
ثبت من حديث صالح بن كيسان, عن ابن شهاب, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن الله تعالى تابع الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته, وأكثر ما كان الوحي يوم توفي صلى الله عليه وسلم.
وحدث يونس بن بكير, عن عمر بن ذر, عن مجاهد قال: كان إذا نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأه على الرجال, ثم على النساء وأول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلك الفترة: {يا أيها المدثر}.
قال الزهري: سمعت أبا سلمة, أخبرني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ثم فتر عني الوحي فترة, فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء, فرفعت بصري قبل السماء, فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعداً على كرسي بين السماء والأرض, فجئثت منه, حتى هويت إلى الأرض, فجئت أهلي, فقلت: زملوني زملوني. فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} إلى {فاهجر} متفق عليه.
ومعنى "فجئثت": ففرقت, يقال: جئث الرجل جؤوثاً: فزع. وروي: "فجثثت" بالجيم والمثلثة المكررة, وهي بمعنى الأولى.
وفي رواية يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة, عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جاورت في حراء, فلما قضيت جواري هبطت,
#131#
فاستبطنت الوادي فنوديت, فنظرت أمامي وخلفي, وعن يميني وعن شمالي, فإذا هو جالس على كرسي بين السماء والأرض, فأتيت خديجة, فقلت: دثروني وصبوا علي ماء بارداً, فأنزل الله تعالى علي {يا أيها المدثر . ثم فأنذر . وربك فكبر})).
خرجاه في الصحيحين, واللفظ للبخاري.
قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن ابن إبراهيم, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا عفير بن معدان, عن سليم ابن عامر, عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنزلت علي النبوة)) في ثلاثة أمكنة: بمكة, وبالمدينة, وبالشام)).
* [4] والقسم السابع: كرامات الأولياء ومقامات الأصفياء, ووجه عدها في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه كرامات التابع, فالمتبوع أجل وأعظم.
وخامس هذه الأقسام أبهرها وأعظمها معجزة وأكثرها, دون منه العلماء الكثير, وجمع منه الأئمة / النفيس الخطير, ومع ذلك لا يحصى تفصيله, ولا يطاق حصره وتحصيله.
وقد وجدت مجال القول ذا سعة ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل
وأعظم هذا القسم شأناً وأقطعه بياناً وأمضاه برهاناً, وأغلبه قوة وأعلنه سلطاناً:
#132#
"لقرآن العظيم", و "الذكر الحكيم" المحكم المعاني والبيان, وكان ابتداء نزوله في شهر رمضان.
قال إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق: فابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان، يقول الله عز وجل: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان}.*
#133#
$تنكس الأصنام لبعثته صلى الله عليه وسلم$
وتتابع الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرحمن, وبطل الزور والبهتان, وذل أولياء الشيطان, وتنكست للبعثة الأصنام والأصنام.
روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكساً, فأتت الشياطين إلى إبليس، فقالت له: ما على وجه الأرض صنم إلا وقد أصبح منكساً؟!
فقال: هذا نبي قد بعث, فالتمسوه في قرى الأرياف.
فالتمسوه / فقالوا: لم نجده [قال: أنا صاحبه, فخرج يلتمسه] فنودي: عليك بحبة القلب – يعني: مكة – فالتمسه بها, فوجده عند قرن الثعالب, فخرج إلى الشياطين, فقال: قد وجدته معه جبريل فما عندكم؟
قالوا: نزين الشهوات في أعين أصحابه, ونحببها إليهم.
قال: فلا آسى إذن.
خرجه الحافظ أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" من حديث الواقدي, قال: فحدثني محمد بن صالح, [عن] ابن أبي حكيم – يعني: إسحاق – عن عطاء بن يسار, عن أبي هريرة, فذكره نحوه.
#134#
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب, عن مسلم بن جندب, عن النضر بن سفيان الهذلي, عن أبيه, قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام, فلما كنا بين الزرقاء ومعان وقد عرسنا من الليل إذا بفارس يقول: أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد, وقد خرج أحمد وطردت الجن كل مطرد, ففزعنا, ونحن رفقة جرارة, كلهم قد سمع هذا, فرجعنا إلى أهلنا, فإذا هم يذكرون اختلافاً بمكة بين قريش بنبي, قد خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد.
وقال أبو أيوب الدمشقي سليمان بن عبد الرحمن: حدثنا عبد الرحمن ابن بشير الشيباني, عن محمد بن إسحاق, عن ابن شهاب, عن عبد الله بن كعب, حدثني نافع الجرشي أنه حين بعث الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم كان كاهن في رأس جبل فدعوه, فقال: انظر لنا في أمر هذا الرجل, فإنه قد حدث بأرض العرب حدث, فنزل إليهم, فقال: إن الله تبارك وتعالى أكرم محمداً صلى الله عليه وسلم واصطفاه, وطهر قلبه, واجتباه, وبعث إليكم أيها الناس فعما قليل.
وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن بشير الطيالسي, حدثنا عبد الجبار بن عاصم أبو طالب, حدثنا أبو المليح الرقي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن جابر بن عبد الله
#135#
رضي الله عنهما قال: أول خبر جاءنا بالمدينة – يعني: حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع من الجن جاء في صورة طير حتى وقع على جذع لهم, فقالت: ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك وتخبرنا ونخبرك, فقال: لا, إنه قد بعث بمكة نبي, حرم الزنا, ومنع القرار.
وخرجه في كتابه "الأوائل" عن أحمد بن بشير هذا بنحوه, وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال محمد بن إسحاق: / حدثني شيخ من الأنصار يقال له: عبد الله بن محمود من آل محمد بن مسلمة, قال: بلغني أن رجالاً من خثعم كانوا يقولون: إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوماً نعبد الأوثان, فبينما نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه يرجون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم, إذ هتف بهم هاتف من الصنم فجعل يقول
يا أيها الناس ذوي الأجسام
من بين أشياخ إلى غلام
ما أنتم وطائش الأحلام
ومسند الحكم إلى الأصنام
أكلكم في حيرة نيام
أم لا ترون ما أرى أمام
من ساطع يجلو دجى الظلام
[قد لاح للناظر من تهام
ذاك نبي سيد الأنام][5]
قد جاء بعد الكفر بالإسلام
#136#
أكرمه الرحمن من إمام
ومن رسول صادق الكلام
أعدل في الحكم من الحكام
يأمر بالصلاة والصيام
والبر والصلة للأرحام
ويزجر الناس عن الآثام
والرجس والأوثان والحرام
من هاشم في ذروة الأرحام
مستعلنا بالبلد الحرام
قال: فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه, وأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمنا.
وخرجه أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار الجن" من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث, أخبرنا أبو عامر الأسدي, عن ابن خربوذ المكي, عن رجل من خثعم، قال: كانت العرب، لا تحرم حلالا ولا تحل حراما، وكانوا يعبدون الأوثان، ويتحاكمون إليها قال: فبينما نحن ذات ليلة عند وثن لنا جلوس قد تقاضينا إليه في شيء وقع بيننا ننتظر أن يفرق إذ هتف هاتف يقول:
يا أيها الناس ذوي الأجسام
وذكر الأبيات بنحوه مختصرة.
ورواه الواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله.
وعلقه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" عن إبراهيم بن سلامة، عن إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان
#137#
يحدث عن رجل من خثعم فذكره.
وروي عن سعيد بن عمرو الهذلي، عن أبيه / قال: حضرت مع رجال من قومي صنما سواعا، فسمعنا من جوفه العجب كل العجب: خروج نبي بين الأخاشب يحرم الزنا، ويحرم الذبائح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي، عن عبد الله بن ساعدة الهذلي، عن أبيه قال: كنا عند صنمنا سواع وقد جلبت إليه غنما إلى مائتي شاة، قد كان أصابها جرب، فأدنيتها منه أطلب بركته، فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي: قد ذهب كيد الجن ورمينا بالشهب؛ لنبي اسمه أحمد: قال: قلت: عبرت والله، فأصرف وجه غنمي منحدرا إلى أهلي، فلقيت رجلا فخبرني بظهور النبي صلى الله عليه وسلم.
تابعه حاتم بن إسماعيل، عن عبد الله بن يزيد الهذلي.
وقال أبو المنذر هشام بن المنذر بن السائب الكلبي: حدثنا أبو كبران المرادي الحسن بن كثير، حدثني يحيى بن هانئ بن عروة المرادي، عن أبي خيثمة عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي قال: كان لسعد العشيرة صنم يقال له "قراص" يعظمونه، وكان سادنه رجلا من أنس الله بن سعد العشيرة يقال له "ابن رقيبة" قال عبد الرحمن بن أبي سبرة: فحدثني
#138#
ذباب بن الحارث ابن أنس الله قال: كان لابن رقيبة رئي من الجن يخبره بما يكون، فأتاه ذات يوم، فأخبره بشيء، فنظر إلي فقال:
يا ذباب يا ذباب
اسمع العجب العجاب
بعث محمد بالكتاب
يدعو بمكة فلا يجاب
فقلت له: ما هذا؟ فقال: لا أدري، كذا قيل لي، فلم يكن إلا قليل حتى سمعت بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلمت وثرت إلى الصنم، فكسرته، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وقال ذباب في ذلك:
تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت قراصا بدار هوان
شددت عليه شدة فكسرته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان
ولما رأيت الله أظهر دينه ... أجبت رسول الله حين دعاني
فأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألفيت فيه كلكلي وجراني
فمن مبلغ سعد العشيرة أنني ... شريت الذي يبقى بآخر فان
#139#
وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر في الطوالات": حدثنا علي بن حرب، حدثني أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن عبد الله العماني، قال: كان منا رجل يقال له: مازن بن الغضوبة وأخواله من مهرة، وأمه زينب بنت عبد الله بن أبي ربيعة بن حويص أحد بني قران، وكان يسدن صنما يقال له: "باحر" بقرية يقال لها: "سمايل" من أرض عمان، يعظمه بنو خطامة وبنو الصلت من طيء ومهرة.
قال مازن: فعترنا ذات يوم عنده عتيرة – وهي الذبيحة – فسمعت صوتا من الصنم يقول:
يا مازن اسمع تسر
ظهر خير وبطن شر
بعث نبي من مضر
بدين الله الكبر
فدع نحيتا من حجر
تسلم من حر سقر
قال مازن: ففزعت لذلك ثم قلت: إن هذا العجب، ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا من الصنم يقول:
أقبل إلي أقبل
تسمع ما لا يجهل
#140#
هذا نبي مرسل
جاء بحق منزل
آمن به كي تعدل
عن حر نار تشعل
وقودها بالجندل
فقلت: إن هذا لعجب، وإنه لخير يراد بي، فبينا نحن كذلك إذ قدم رجل من أهل الحجاز، قلنا: ما الخبر وراءك؟ قال: ظهر رجل يقال له: "أحمد" يقول لمن أتاه: "أجيبوا داعي الله" قلت: والله هذا نبأ ما سمعت، فسرت إلى الصنم فكسرته أجذاذا، وركبت راحلتي، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام فأسلمت وقلت:
كسرت باجر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلالي
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه مني على بال
يا راكبا أبلغن عمرا وإخوته ... أني لمن قال ربي باحر قال
يعني: به عمرو بن الصامت وإخوته: بني خطامة من طيء، ذكر بقية الحديث.
#141#
وقال أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن الجنيد الرازي الحافظ في "فوائده": حدثنا أبو الحارث محمد بن الحارث بن هانئ بن مدلج بن المقداد بن زمل بن عمرو العذري [من لفظه، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن زمل بن عمرو العذري] قال: كان لبني عذرة صنم يقال له "خمام" وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن رحام بن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة، وكان سادنه رجل يقال له "طارق" وكانوا يعترون عنده، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول:
يا بني هند بن حرام
ظهر الحق وأوذي خمام
ودفع الشرك الإسلام
قال: ففزعنا لذلك، وهالنا، فمكثنا أياما، ثم سمعنا صوتا يقول:
يا طارق يا طارق
بعث النبي الصادق
#142#
[جاء] بوحي ناطق
صدع صادع بأرض تهمامه
لناصريه السلامه
ولخاذليه الندامة
هذا الوداع مني إلى يوم القيامة
قال زمل بن عمرو: فوقع الصنم لوجهه.
قال زمل: فابتعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي وأنشدته شعرا قلت:
إليك رسول الله أعملت نصها ... أكلفها حزنا وقوزا من الرمل
لأنصر خير الخلق نصرا مؤزرا ... وأعقد حبلا من حبالك في حبلي
وأشهد أن الله لا شيء غيره ... أدين له ما أثقلت قدمي نعلي
قال: فأسلمت وتابعته، وأخبرناه بما سمعنا، فقال: ((ذلك من كلام الجن))، ثم قال ((يا مشعر العرب، إني رسول الله إلى الأنام كافة،
#143#
أدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده وإلى رسوله وعبده)) وذكر الحديث.
وقال أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار العرب": أخبرنا محمد بن الحسن بن ذر، حدثنا السكن بن سعيد، عن محمد [بن] عباد، عن ابن الكلبي، قال: كان العوام بن جهيل الشامي من همدان يسدن يغوث، فكان يحدث بعد إسلامه قال: كنت كثيرا أسمر مع جماعة من قومي فإذا أكربنا أوى أصحابي إلى رحالهم، وبت في بيت الصنم، فبت في ليلة ذات ريح ورعد وبرق فلما ابهار الليل سمعت هاتفا من الصنم يقول: -ولم نكن سمعنا منه قبل ذلك كلاما:
يا ابن جهيل حل بالأصنام الويل، هذا نور سطع من الأرض الحرام، فأرب الآطام، ثم انتشر فمن يمن وشام، فودع يغوث بالسلام.
قال: فألقى الله في قلبي البراءة من الأصنام، وكتمت قومي ما سمعت، فلما حال الحول في مثل تلك الليلة وقد نسيت ما كنت سمعت إذا الهاتف يقول:
هل تسمعن القول يا عوام
أو قد صممت قد ثنا الكلام
#144#
قد كشفت دياجر الظلام
وأصفق الناس على الإسلام
فقلت:
يا أيها الهاتف بالنوام
لست بذي وقر عن الكلام
فبينن عن سنة الإسلام
[قال] والله ما عرفت الإسلام قبل ذلك، فأجانبي يقول:
ارحل على اسم الله والتوفيق
رحلة لا وان ولا مشيق
إلى فريق خير ما فريق
إلى النبي الصادق المصدوق
بين فعال اللات والفلوق
تفز بدين غير ما مزيق
فرفضت الصنم، وخرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم، فصادفت وفد همدان يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فصحبتهم حتى وردوا المدينة، فدخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث في إسلامهم ورجوعهم.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": وحدثني أبي، عن
#145#
هشام بن محمد، حدثنا خالد بن سعيد، عن رجل من جهينة من بني دهمان، عن أبيه وقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: حدثني رجل من جهينة من أهل الشام، قال: قال عمرو بن مرة الجهني: خرجت حاجا في الجاهلية في جماعة من قومي، فرأيت في الطريق وأنا في المنام أن نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء لي نخل يثرب والأشعر والأحرد -جبلي جهينة – وسمعت صوتا وهو يقول:
أقبل حق فسطع، ودمغ باطل فانقمع
فانتبهت فزعا، فقلت لأصحابي: والله ليحدثن بمكة حدث في هذا الحي من قريش، وأخبرتهم بما رأيت، فلما انصرفنا إلى بلادنا جاءنا مخبر فأخبر أن رجلا من قريش يقال له: "أحمد" قد بعث.
قال: وكان لنا صنم نعظمه، وكنت سادنه، فكسرته وخرجت حتى أقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما رأيت.
فقال: ((يا عمرو بن مرة، أنا النبي المرسل إلى العباد، أدعوهم إلى
#146#
الإسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصلة الأرحام، وعبادة الرحمن، ورفض الأوثان، وحج البيت، وصوم شهر رمضان، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النار، فآمن بالله تأمن يوم القيامة من النار)).
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، آمنت بما جئت به من حلال وحرام.
فأدان ذلك كثير من قومي، وقال عمرو فيه:
شهدت بأن الله حق وإنني ... لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... إليك أجوب الوعث بعد الدكادك
لأصحب خير الخلق نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك
فقلت: يا رسول الله، ابعثني إلى قومي لعل الله تعالى أن يمن عليهم كما من بك علي، فبعثني وقال لي: ((عليك بالرفق والقول السداد، ولا تك فظا / ولا غليظا ولا حسودا)) قال: فأتيت قومي، فقلت: يا بني رفاعة، لا، بل يا معشر جهينة إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أدعوكم إلى
#147#
الجنة وأحذركم النار، يا معشر جهينة، إن الله وله الحمد قد جعلكم خيار من أنتم معه، فبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من العرب مما كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل على امرأة أبيه، وإغارتهم في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا النبي تنالوا شرف الدهر، وكرامة الآخرة، وسارعوا إلى أمره يكن لكم بذلك عند الله فضيلة، فأجابوه إلا رجلا واحدا، فإنه قال: يا عمرو بن مرة، أمر الله عيشك أتأمرنا برفض آلهتنا، ومخالفة دين آبائنا ومن مضى من أقربائنا من أهل تهامة، لا، ولا حبا ولا كرامة.
وأنشأ يقول:
إن ابن مرة قد أقام مقالة ... ليست مقالة من يريد صلاحا
إني لأحسب قوله وصنيعه ... يوما وإن طال الزمان رباحا
ليسفه الأشياخ ممن قد مضى ... من رام ذلك لا أصاب صلاحا
فقال له عمرو: والكاذب مني ومنك أمر الله عيشه، وأبكم لسانه، وأكمه أسنانه، قال: فوالله ما مات حتى سقط فوه، فما كان يقدر الكلام وعمي واحتاج.
وخرجه الحافظ أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر في الطوالات" فقال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله السمرقندي،
#148#
حدثني عبد الله بن داود بن دلهاث الجهني الرهاوي، حدثني أبي: داود، عن أبيه الدلهاث، عن أبيه وهو إسماعيل، عن أبيه عبد الله أن أباه مسرعا حدثه أباه ياسرا بني سويد حدثه: سمعت عمرو بن مرة الجهني يقول: خرجت حاجا، فذكره مطولا بنحوه، وفيه بعد ذكر إسلامه، قال: ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به، ثم قال: لحقت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول:
شهدت بأن الله حق وإنني ... لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... أجوب إليك الوعث بعد الدكادك.
لأصحب خير الخلق نفسا ووالدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك
وحدث به أبو القاسم الطبراني في "معجمه" مطولا فقال: حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي، حدثنا عبد الله بن داود بن دلهاث ابن إسماعيل بن عبد الله / بن مسرع بن ياسر بن سويد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا أبي، عن أبيه دلهاث، عن أبيه إسماعيل: أن أباه عبد الله، حدثه عن أبيه مسرع، أن أباه ياسر بن سويد رضي الله عنه حدثه عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه.
قال عبد الله بن دلهاث: وحدثني به الوليد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مسرع، عن أبيه - أظنه - عن جده محمد بن عبد الله، عن جده مسرع بن ياسر أن أباه ياسرا حدثه عن عمرو بن مرة رضي الله عنه قال: خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في
#149#
المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة، وذكر الحديث بطوله.
تابعهما مكحول السروي، عن عبد الله بن داود بن دلهاث، عن آبائه بطوله.
وخرج أبو الحسن الدارقطني في كتابه "الأفراد" من حديث عبد الله ابن شبيب، حدثني يعقوب بن محمد، حدثنا محمد بن أبي شملة، حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، قال: سمعت أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص تقول: لما كان قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بينا خالد بن سعيد ذات ليلة نائم قال: رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينا هو كذلك إذ خرج نور ساطع من زمزم، ثم علا في السماء، فأضاء في البيت، ثم أصاب مكة كلها ثم إلى نجد، ثم إلى يثرب، فأضاء لها حتى أني لأنظر إلى البسر في النخل.
قال: فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي، فقال أخي: إن هذا الأمر ليكون في بني عبد المطلب ألا ترى أنه خرج من حفيرة أبيهم. قال خالد: فإنه لما هداني الله عز وجل للإسلام.
قالت أم خالد: فأول من أسلم أبي وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا خالد أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله)). فقص عليه ما بعثه الله عز وجل به، فأسلم خالد، وأسلم عمرو بعده.
محمد بن أبي شملة هو الواقدي.
#150#
وقال ابن أبي الدنيا في كتابه "الدلائل": حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم القرشي، حدثنا عمي يعقوب، حدثنا أبي قال: كان خالد بن سعيد بن العاص يحدث قال: رأيت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أن ظلمة غشيت مكة حتى والله ما أبصر منها سهلا ولا جبلا، ثم رأيت نورا خرج من زمزم كضوء المصباح كلما علا عظم، حتى طلع فسطع في السماء، فأضاء لي الركن، ثم ذهب في السماء، حتى أضاء لي يثرب، ولم يبق من مكة سهل ولا جبل إلا أضاء لي، فسمعت قائلا يقول في ذلك النور: سبحانه سبحانه! بلغ الكتاب أجله، وهلك ابن مارد بحطمة، - الحطمة ما بين أزرح والأكمه -وخرج النبي الأمي، سبحانه سبحانه!!
وذكر المنام وفيه: فاستيقظت، فقصصت رؤياي على عمرو بن سعيد، فقال: يالعمر أخي والله لقد رأيت عجيبا، وإن هذا ليكون في بني عبد المطلب، ذكر باقيه.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد، عن سعيد ابن خالد وغيره، عن صالح بن كيسان، عن خالد بن سعيد بنحوه.
ويروى أن وائل بن حجر كان ملكا مطاعا وكان له صنم من العقيق يعبده ويحبه حبا شديدا، ولم يكن يكلم منه إلا أنه كان يرجو ذلك فيكثر له السجود ويعتر له العتائر، وكان يستنزل كلام الصنم استنزالا شديدا، فبينما هو قائم في الظهيرة أيقظه صوت منكر من المخدع الذي فيه الصنم، فقام من مضجعه، فأتاه، وسجد أمامه، فإذا بقائل يقول:
#151#
يا عجبا لوائل بن حجر
الحال يدري وهو ليس يدري
ماذا يرجي من نحيب صخر
ليس بذي عرف ولا ذي نكري
ولا بذي نفع ولا ذي ضر
لو كان ذا حجر أطاع أمري
قال وائل: فرفعت رأسي، واستويت جالسا، ثم قلت: أسمعت أيها الناصح فما تأمرني؟ فقال:
ارحل إلى يثرب ذات النخل
وسر إليها سير مشمعل
تدن بدين الصائم المصلي
محمد المرسل خير الرسل
فقد تقضى العمر المولي
قال وائل: ثم خر الصنم لوجهه، فانكسر أنفه، واندقت عيناه، فقمت إليه فجعلته رفاتا، ثم سرت معدا مسرعا حتى أتيت المدينة، وذكر الحديث، وفيه إسلامه رضي الله عنه.
وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن الصقر البغدادي بن النمط وكان شيخا دينا صالحا مستجاب الدعوة -رحمه الله تعالى وإيانا-: حدثنا يوسف – يعني: ابن يعقوب النجيرمي – حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل، حدثنا العباس بن الفرج الرياشي، حدثنا سليمان بن عبد العزيز
#152#
ابن أبي ثابت [حدثنا أبي] عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حضرموت في حاجة قبل الهجرة، فشخصت وتركته بمكة، فلما كنت في بعض الطريق عرست ساعة من الليل فسمعت هاتفا يقول:
أبا عمرو تأوبني السهود ... وزاح النوم وامتنع الهجود
بذكر عصابة سلفوا وبادوا ... وكل الخلق قصرهم يبيد
فولوا واردين إلى المنايا ... حياض ليس ينهلها الورود
مضوا لسبيلهم وبقيت خلفا ... وحيدا ليس يشفعني وحيد
#153#
سدى لا أستطيع علاج أمري ... إذا ما عالج الطفل الوليد
فلأيا ما بقيت إلى أريب ... وقد بانت بمهلكها ثمود
وعاد والقرون بذي شعوم ... سواء كلهم إرم حصيد
قال: فناده آخر: بار القلب يا زاء الكعب، إن أعجب العجب، بين زهرة ويثرب.
قال: وما ذاك يا شناصر؟ قال:
نبي السلام
أرسل بخير الكلام
إلى جميع الأنام
فأخرج من البلد الحرام
إلى تل وآكام
فقال له آخر:
ما هذا النبي المرسل
#154#
والكتاب المنزل
لآي المفصل
قال: هذا رجل من لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. قال: هيهات مر عني، هذا زمني، وفات عن هذا سني، لقد رأيتني والنضر بن كنانة، نرمي غرضا واحد، ونشرب حلبا باردا، ولقد عددت به من حلبة في غداة شبمة، فطلع مع الشمس، وغرب معها، يروي ما سمع، ويثبت ما يبصر، فلئن كان هذا من ولده لقد سل السيف، وذهب الخوف، ودحض الزنا، وهلك الربا.
قال فأخبرني ما يكون.
قال: ذهبت الضراء المجاعة والجبانة والشجاعة إلا بقية في خزاعة، وذهبت النميمة والغدر والخيلاء والفخر إلا بقية في بني بكر – يعني بكر بن عبد مناف - وذهب الفعال المندم، والعمل المؤثم إلا بقية في خثعم، وذهبت الضراء والبؤس والخلق المعبوس إلا بقية في الخزرج والأوس.
قال: فأخبرني بما يكون.
قال إذا غلت البرة وتحطمت الجرة فاخرج من بلد الهجرة، فإذا كف الإسلام وقطعت الأرحام فاخرج من بلد الشام.
#155#
قال: فأخبرني بما يكون.
فقال: لولا عين تسمع، وأذن تلمع، لأخبرتك بما تقرع.
قال: ثم صاح: لا متاب هداية بنعيم يابن، ولا صباح أتانا.
قال: وسمعت صرخة كأنها صرخة حبلى.
قال: فطلع الفجر، فذهبت أنظر فإذا أنا بعظاية وثعبان ميتين.
قال: فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث.
فقال: فقدمت فإذا هو قد خرج إلى المدينة.
حديث غريب، وأنكر ما فيه: أنه عن سعد بن عبادة، وقوله فيه: فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث. مع أن سعد بن عبادة كان أحد النقباء ليلة العقبة بايع على الهجرة، فيحتمل - والله أعلم - أن سفر سعد بعد بيعة العقبة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ففي غيبته حصلت الهجرة وهذا بعيد، والأقرب أن يكون الراوي غلط في تسمية سعد بن عبادة وإنما هو سعد بن عباد، وهو رجل، معدود في الصحابة، والله أعلم.
#156#
وقد قدمنا في أول الكتاب في البشارات أخبارا من هذا النوع وآثارا من هذا الضرب، حدثت بعد البعثة إليه، وجرت بعد الهجرة إلى طيبة الزكية كالخبر الذي حدت به أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد فقال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن العباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن أبي مسكين، عن أشياخ [من] مراد، عن رجل منهم يقال له "الجعد بن قيس" أحد بني غطيف وكان قد بلغ مائة سنة قال: خرجنا أربعة نفر نريد الحج في الجاهلية، فنزلنا واديا من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي من الجن، وعلقنا رواحلنا، وتوسدنا أذرعها، فلما هدأ الليل، وقد نام أصحابي إذا بهاتف من بعض جوانب الوادي يقول:
ألا أيها الركب المعرس بلغوا ... إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما
محمدا المبعوث عنا تحية ... تشيعه من حيث سار ويمما
وقولوا له إنا لدينك شيعة ... بذلك وصانا المسيح ابن مريما
ونحن لمن حاربت حرب مبيرة ... تكون له طيرا من الشر أشأما
#157#
ونحن لمن سالمت سلم ورحمة ... نؤمل أن نحظى بذاك ونرحما
فأجبته فقلت:
هتفت بروبي قد رمى بهم الونى ... جوانب جعجاع من الأرض أحزما
سأبلغ عنك القول ذو قد وصفته ... وأودعه سمعي صحيحا مسلما
"ذو" بلغة طيء: بمعنى الذي.
قال: ثم قدمنا مكة فلم يكن لنا شاغل حتى سألت عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت أنه هاجر ورأيت قريشا تتلظى عليه، فنزلنا منزلا في بعض الشعاب مع حجاج قومنا، فتذاكرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثت أصحابي بما سمعت وأنشدتهم الشعر وجوابي، ثم بت مبيتي، وإذا بهاتف يقول:
ألا أيها الركب اليماني بلغن ... أخانا جواب الشعر لقيت مغنما
بأنا على دين النبي محمد ... على رغم من أضحى بذلك مرغما
وإنا وجدناه أمينا مباركا ... كما قال في الإنجيل عيسى ابن مريما
فمسك هداك الله بالعروة التي ... أبى الواحد المعبود أن تتقصما
وعاد قريب الرحم إن كان كافرا ... ووال بعيد الدار إن كان مسلما
#158#
تفز يوم تلقى الله بالعفوة والرضى ... وتحظى بجنات النعيم مكرما
قال: فوعيت الشعر، ورجعنا إلى بلادنا، فقلنا في ذلك الوادي، وراح أصحابي، فقلت: إني لست برائح حتى أؤدي الأمانة.
فقالوا: لقد غلبت على عقلك، اثبت بهذا المكان الموحش، والله ما نحن بتاركيك أبدا.
فقلت: والله لا أبرح حتى أبلغ ما حملته، فلما أيسوا من اتباعهم ارتحلوا، وقالوا: نحن لك بمكان كذا وكذا، فلما جن الليل علي رفعت أقول:
أتسمع مودعي الشعر الرصينا ... إلى المبعوث خير العالمينا
فقد حملت أبياتا إليه ... عن النفر الكرام المسلمينا
ثم أنشدته الشعر، فإذا بهاتف يقول:
رعاك الله رب العالمينا ... فقد ألفيت ذا كرم أمينا
وأديت الأمانة لم تخنها ... جزاك الله أجر المحسنينا
ولا تجذع لخذل الراحلينا ... فقد جاورت قوما أكرمينا
ستهدى بعد إقطاع الدياجي ... وتمنع من بغاة ظالمينا
#159#
فلما تهور الليل إذا الهاتف يقول:
ارحل على اسم الله ذي الجلال ... رحلة ذي أمن من الأوجال
يهدك سوار على الإقلال ... أروع مقدام على الأهوال
قال: فارتحلت، وإذا كالشهاب بين يدي يضيء ما حوله حتى أقحمني على أصحابي وهم نيام.
وقال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو النقاش، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا إسماعيل بن سعدان الفارسي، حدثنا أبو القاسم الطيب بن علي التيمي، حدثنا محمد ابن الحسن بن يزيد، حدثنا السكن بن سعيد، عن أبيه، عن الكلبي، عن عوانة قال: قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما لجلسائه: هل فيكم أحد وقع إليه خبر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في
#160#
الجاهلية قبل ظهوره؟
فقال طفيل بن زيد الحارثي – وقد أتت عليه مائة وستون سنة -: نعم يا أمير المؤمنين كان المأمون بن معاوية على ما بلغك من كهانته وعلمه, وكانت عقاب لا تزال تأتيه بين الأيام فتقع أمامه فتصيح, وتقول كذا وكذا, فيجد كما يقول, وكان نصرانياً وكان يخرج إلينا كل يوم أحد، عليه برنس أسود, فيخطب, ويجتمع إليه الناس قال: فأقبلت العقاب يوم عروبة في أول النهار, فصرت ثم نهضت, فلما تعالت الشمس خرج علينا في ثياب بيض من ثياب مصر يتوكأ على عصاه, فاجتمعنا عليه, فأسند العصا إلى صدره, وأطرق طويلاً.
فقال بعض القوم: أنام أبو الكيثم؟
فقال: كلا, فرفع رأسه. وصعد بطرفه إلى السماء, ثم صوبه إلى الأرض, ثم رمى به غرباً وشرقاً, ثم قال: نهار يحول, وليل يزول, وشمس تجري, وقمر يسري، ونجوم تمور, وفلك يدور, وسحاب مكفهر, وبحر مسبطر, وجبال غبر, وأشجار خضر, وخلق يمور بعضه في بعض بين سماء وأرض, والد يتلف، وولد يخلف, ما خلق الله تبارك وتعالى هذا باطلاً, وإن بعد ما ترون لثوابا وعقاباً وحشراً ونشراً, ووقوفاً بين يدي الجبار.
فقلنا: من الجبار؟
قال: الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواًَ أحد.
قال: فنهض عظيم الأساقف, فقال: أنشدك الله في النصرانية, فوالله لئن تسامعت العرب لقولك لا يجتمع علينا منهم اثنان.
فقال: إليك عني كيف أنت إذا ظهر العبد الأمين, بخير دين, يا ليت أني ألحقه، وليتني لا أسبقه, إن فؤادي يصدقه.
#161#
قال: فقلت له – وكنت أقرب القوم له قرابة -: يا أبا الكيثم, وأين مخرجه؟
قال: غور تهامة.
قلت: ومتى يكون؟
قلت: إذا جاء الحق لم يكن له خفاء, ثم أقبلت العقاب, فوقعت بين يديه وصرت صراً شديداً, فسمعناه يقول: .. .. ..[6]
#162#
بسم الله الرحمن الرحيم
[هو حسبي وكفى]
&فصل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وحوادث سنيها مع نبذة من شمائله وصفاته صلى الله عليه وسلم مندرج فيها&
الهجرة وقعت في الإسلام على أمور:
أحدها: إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم ذكرها.
والهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة, وهي الهجرة العظمى التي أظهر الله بها الدين, وأعز بها المسلمين, وهذا الفصل الذي عقدناه هنا لذكرها إن شاء الله تعالى.
والثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة, ثم يرجع إلى مكة.
والخامسة: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم؛ لتخلفهم عن غزوة تبوك إلى حين التوبة, ونحو هذه الهجرة.
والسادسة: هجرة ما نهى الله عنه.
#163#
فأما الهجرة الثانية السنية, فهي الهجرة العظيمة النبوية التي كانت فرقاناً بين أولياء الرحمن وبين قرناء الشيطان, وفاتحة وإظهاراً لإقامة الدين, ونصراً وإعزازاً لسيد المرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثني عيسى, أخبرنا ابن الأشجعي, عن أبيه, عن سفيان, عن قابوس بن أبي ظبيان, عن أبيه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بمكة نبياً، فنزلت: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} فهاجر إلى المدينة.
وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبي, حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن قابوس, عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأمر بالهجرة, وأنزل عليه: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً}.
#164#
قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري في كتابه "معاني القرآن وإعرابه": وقوله تعالى: {أدخلني مدخل صدق} ومدخل, وكذلك مخرج ومخرج: من مكة إلى المدينة, وجاء أيضاً دخوله المدينة وخروجه من مكة.
وجاء أيضاً الإدخال في الدين والخروج من الدنيا وهو على الحق.
وجاء أيضاً – وهو حسن – دخوله في الرسالة وخروجه مما يجب عليه فيها, وكل ذلك حسن, فمن قرأ بضم الميم فهو مصدر: أدخلته مدخلاً, ومن فتح الميم فهو على: أدخلته فدخل مدخل صدق, وكذلك شرح "مخرج".
قلت: وعلى القول الثاني في تفسير الآية الشريفة – جل منزلها – ما قال أبو محمد عبد الله بن ثابت بن يعقوب التوزي المقرئ: حدثني أبي, حدثني الهذيل بن حبيب أبو صالح الرنداني, عن مقاتل بن سليمان, عن جماعة من أشياخه في هذه الآية قالوا: قال له جبريل عليه السلام: وقل رب أدخلني المدينة مدخل صدق – يعني آمناً على رغم أنف
#165#
اليهود – وأخرجني من مكة إلى المدينة مخرج صدق – يعني آمناً على رغم أنف كفار مكة ظاهراً عليهم – واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً يعني النصر على أهل مكة – ففعل الله عز وجل به ذلك فافتتحها.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثني يحيى بن معين, حدثنا عبيدة بن حميد، حدثني سليمان الأعمش, عن أبي صالح قال: قال كعب: نجد محمداً صلى الله عليه وسلم في الكتب هجرته بطيبة.
وله طرق إلى أبي صالح تقدم بعضها.
وقال أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي, حدثنا محمد بن عبد العزيز الماوردي, حدثنا زياد بن سهل, حدثني بشر بن حجل, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل أيدني بأشد العرب لساناً وأذرعاً بابني قيلة الأوس والخزرج)).
#166#
$[مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة]$
كانت إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد بعثته إلى حين هجرته ثلاث عشرة سنة على الصحيح:
قال روح بن عبادة: حدثنا هشام, حدثنا عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة,. فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه, ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين, ومات وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.
تابعه يزيد بن هارون ومحمد بن جعفر غندر والنضر, عن هشام.
وهو عند حماد بن سلمة, عن أبي جمرة الضبعي, عن ابن عباس قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.
حدث به ابن [أبي] خيثمة في "تاريخه": عن موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد بن سلمة.
وخرج الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا يحيى, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث
#167
وأربعين سنة, فمكث بمكة عشراً وبالمدينة عشراً, وقبض وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمناه في أوائل البعثة.
ورواه عمرو بن دينار, عن ابن عباس, بنحوه.
وله شاهد من حديث عائشة, وغيرها.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "كتاب العلل": وجدت في كتاب أبي بخط يده قال: حدثنا أبو المغيرة الخولاني, حدثنا صفوان, حدثني أيفع بن عبد قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة, فأسر عشراً, وجاهر عشراً, فتوفي وهو ابن ثلاث وستين صلى الله عليه وسلم.
وصح من حديث مالك بن أنس, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن, عن أنس رضي الله عنه أنه سمعه يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ... " الحديث, وفيه: بعثه الله على رأس أربعين سنة, فأقام بمكة عشر سنين, وبالمدينة عشر سنين.
تابعه إسماعيل بن جعفر، وسعيد بن أبي هلال, وسليمان بن
#168#
بلال, وأبو زكريا يحيى بن محمد بن قيس المدني, عن ربيعة.
وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن عمر القصبي, حدثنا عبد الوارث, حدثنا نافع أبو غالب, عن أنس قال: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين.
وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن المثنى, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا يحيى بن سعيد, سمعت سعيد بن المسيب يقول: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين, فأقام بمكة عشراً.
تابعه حماد بن زيد, عن يحيى بن سعيد.
وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا الحجاج, حدثنا حماد: ح.
وقال الإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة, عن عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة: ثماني سنين أو سبعاً يرى
#169#
صلى الله عليه وسلم الضوء ويسمع الصوت, وثماني أو سبعاً يوحى إليه, وأقام بالمدينة عشراً.
وقال أيضاً: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة, سبع سنين يرى الضوء ويسمع الصوت, وثماني سنين يوحى إليه, وأقام بالمدينة عشر سنين.
تابعهما جماعة منهم: يحيى بن عباد, عن حماد بن سلمة, بنحوه.
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا حجاج .... فذكره.
وحدث بنحوه ابن سعد, عن محمد بن عمر, عن إبراهيم بن إسماعيل, عن داود بن الحصين, عن عكرمة, عن ابن عباس.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: ويحمل قول من قال: "عشر سنين" – يعني إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة – على مدة إظهار النبوة؛ فإنه لما بعث صلى الله عليه وسلم استخفى ثلاث سنين, ويحمل قول من قال: خمس عشرة سنة على مبدأ ما كان يري قبل النبوة من أعلامها. انتهى.
#170#
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا ابن نمير, حدثنا العلاء بن صالح, حدثنا المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير: أن رجلاً أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عشراً بمكة, وعشراً بالمدينة, فقال: من يقول ذاك؟! لقد أنزل عليه بمكة عشراً وخمساً وسنتين وأكثر.
وحدث مسلم في "صحيحه" فقال: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان, عن عمرو قال: قلت لعروة: كم لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال: عشراً, قلت: فإن ابن عباس يقول: بضع عشرة, قال: فغفره, وقال: إنما أخذه من قول الشاعر.
تابعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي في "تاريخه", فرواه عن محمد بن أبي عمر نحوه, وزاد في روايته: قال سفيان: وقال يحيى – يعني ابن سعيد -: عن عجوز منهم قالت:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو ألقى صديقاً مواتيا
#171#
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعياً
وحدث بهذا أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن جده, حدثنا ابن عيينة, حدثنا يحيى بن سعيد, عن عجوز منهم قالت: رأيت ابن عباس يختلف إلى صرمة بن قيس الأنصاري يروي هذه الأبيات:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو لاقى صديقاً مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي ولم ير داعياً
#172#
فلما أتانا واطمأنت به النوى ... وأصبح مسروراً بطيبة راضياً
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس باغياً
نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعاً ولو كان الحبيب المصافيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن حامد بن يحيى بن هانئ, حدثنا سفيان. فذكره بنحوه.
#173#
$[عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل]$
في مدة إظهاره صلى الله عليه وسلم الدعوة بمكة, وإنذاره الناس كان يوافي الموسم كل سنة يتبع الحاج في منازلهم, ويقصد الناس في مواسمهم بعكاظ وذي المجاز ومجنة أسواق الجاهلية, فيدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وأن يؤووه ويمنعوه حتى يبلغ ما أمر به:
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي, حدثنا إسرائيل – يعني: ابن يونس – عن عثمان بن المغيرة الثقفي, عن سالم بن أبي الجعد, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ((ألا رجل يعرض علي قومه, فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل)).
تابعه الأسود بن عامر, عن عثمان بن المغيرة.
وحدث به أبو داود, عن محمد بن كثير, عن إسرائيل ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: ((هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)).
ومن هذا الطريق هو على شرط البخاري.
#174#
وحدث خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة": فقال: حدثنا الفريابي, حدثنا إسرائيل, عن عثمان بن المغيرة الثقفي, عن سالم بن أبي الجعد, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في الموسم على الناس في الموقف, يقول: ((هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل)) قال: فأتاه رجل من همدان, فقال: أنا. قال: ((وعند قومك لي منعة؟)) وسأله ممن هو, قال: من همدان, قال: ثم إن الرجل الهمداني خشي أن يخفره قومه, فقال: يا رسول الله، آتيهم فأخبرهم، ثم ألقاك من قابل فانطلق، وجاءت وفود الأنصار في رجب.
وقال أبو حاتم محمد بن حبان في كتابه "الثقات": حدثنا الحسن بن سفيان, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا يزيد بن زياد بن [أبي] الجعد, حدثنا أبو صخرة جامع بن شداد, عن طارق المحاربي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز – وأنا في بياعة أبيعها قال: فمر وعليه جبة له حمراء, وهو ينادي بأعلى صوته: ((يا أيها الناس, قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) ورجل يتبعه بالحجارة, قد أدمى كعبيه وعرقوبيه, ويقول: يا أيها الناس, لا تطيعوه فإنه كذاب, قلت: من هذا؟ قالوا: هذا غلام بني عبد المطلب، قال: قلت: فمن هذا الذي يتبعه يدميه؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى أبو لهب.
#175#
ورواه أحمد بن عبد الجبار, عن يونس بن بكير, عن يزيد بن زياد به, وهو صحيح الإسناد, ألزم الدارقطني البخاري ومسلماً إخراجه في "الصحيح".
وقال الحارث بن أبي أسامة في "مسنده": حدثنا الحكم – يعني ابن موسى – حدثنا عباد بن عباد, عن محمد بن عمرو, عن ربيعة بن عباد رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام بذي المجاز, وخلفه رجل أحول, وهو يقول: لا يفتنكم عن دينكم ودين آبائكم, فقلت لأبي: من هذا الأحول الذي يمشي خلفه؟ فقال: هذا عمه أبو لهب.
ورواه أبو غسان بهلول بن مورق, وعبد الله بن نافع, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب, عن سعيد بن خالد بن عبد الله القارظي, عن ربيعة بن عباد بنحوه.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث, حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام أبو عمرو المديني, عن زيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر, عن ربيعة به.
وألزم الدارقطني البخاري ومسلماً إخراجه.
#176#
ورواه إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي فقال: حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام, حدثنا محمد بن المنكدر: أنه سمع ربيعة بن عباد أو عباد الدؤلي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: ((يا أيها الناس, إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ... ) الحديث.
قال يحيى بن معين: من قال: "عباد" فقد أخطأ إنما هو "عِباد".
رواه عباس الدوري, عن محمد بن معين في "تاريخه".
وقال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى المصري, أخبرنا ابن وهب, أخبرني ابن أبي الزناد, عن أبيه, أخبرني ربيعة بن عباد – رجل من بني الديل وكان جاهلياً فأسلم – قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يسوق ذي المجاز, وهو يمشي بين ظهراني الناس وهو يقول: ((يا أيها الناس, قولوا لا إله إلا الله؛ تفلحوا)) قال: مراراً يرددها, والناس يتقصفون عليه يتبعونه, وإذا رجل أحول وضئ ذو غديرتين, وضئ الوجه يقول: إنه صابئ كذاب, فسألت: من هذا وراءه؟ قال: هذا عمه أبو لهب, قال: قال
#177#
لي ربيعة: وأنا يومئذ أزفر القربة لأهلي, يقول: ذلك مبلغي يومئذ من السن.
ورواه عيسى بن حماد عن ابن وهب نحوه.
ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا داود بن عمرو الضبي أبو سليمان, أخبرنا ابن أبي الزناد, عن أبيه, عن ربيعة بن عباد الديلي – وكان جاهلياً فأسلم – قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يقول: ((يا أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) والناس منقصفون عليه, فما رأيت أحداً يقول شيئاً وهو لا يسكت.
تابعهما سليمان بن داود الهاشمي وعاصم, عن ابن أبي الزناد.
ورواه الإمام أحمد في "مسنده": عن إبراهيم بن أبي العباس, عن عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه.
وفي لفظ من طرق هذا الحديث عن ربيعة رضي الله عنه أنه قال: أما ما أسمعكم تقولون: إن قريشاً كانت تنال من النبي صلى الله عليه وسلم, فإن أكثر ما رأيت أن منزله كان [بين] منزل أبي لهب وعقبة بن أبي معيط,
#178#
وكان يتقلب إلى بيته فيجد الأرحام والدماء والأرواث قد نضدت على بابه؛ فينحي ذلك بسية قوسه, ويقول: ((بئس الجوار هذا يا معشر قريش)) وقال: رأيت أبا لهب يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يقول: إن هذا يدعوكم إلى غير دين آبائكم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يلوذ منه.
وقال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتابه "عقلاء المجانين": أخبرنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم الصريمي المروزي قدم علينا حاجاً, حدثنا عبدان بن محمد بن عيسى, حدثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال, عن عبد الله بن المبارك, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس قال: قدم أبو العراف اليماني وكان أشراف أهل اليمن فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء وهو يقول
#179#
للناس: ((قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) وإذا خلفه شيخ يقول: إياكم وإياه فإنه مجنون كذاب, فسأل أبو العراف عن الشيخ فقيل: عمه أبو لهب, فأتاه فقال: ما تقول في ابن أخيك؟ قال: لم نزل نداويه من الجنون, فقال: تبا لك سائر دهرك إن كلام المجانين متفاوت غير مستقيم, وما يشبه ابن أخيك المجانين بوجه من الوجوه, فقال له أبو لهب: فما هذا الذي يقول؟ قال: وحي ورسالة وحق وصدق, أشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله, ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أظهر دعوته, واستفحل أمره في ثمانين فارساً من قومه مسلمين.
وقال الطبراني في "معجمه الأوسط", وكتابه "الأوائل", وهذا لفظه في "الأوائل": حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشير الطيالسي, حدثنا عبد الجبار بن عاصم, حدثنا أبو المليح الرقي الحسن بن عمرو, عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أول خبر جاء إلى المدينة بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع من الجن، جاء في صورة طير حتى وقع على جذع لهم، فقالت له: ألا تنزل فتحدثنا بحديثك وتخبرنا بخبرك، فقال: إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا ومنع منا القرار.
#180#
تابعه الحسن بن علي بن الوليد، عن عبد الجبار، بن عاصم أبي طالب.
وخرجه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "الأسماء المبهمة" في باب الفاء من طريق عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل، ثم قال: "واسم هذه المرأة صاحبة التابع فطيمة الكاهنة".
ويقال: أنها أم نعيمان بن عمرو الأنصاري الحجة في ذلك.
ثم روى بإسناده من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، أخبرني علي بن حسين قال: إن أول خبر قدم المدينة أن امرأة من أهل يثرب تدعى فطيمة كان لها تابع من الجن فجاءها يوما فوقع على جدارها فقالت: ما لك لا تدخل؟ قال: إنه قد بعث نبي يحرم الزنا، فحدثت بذلك المرأة عن تابعها من الجن، فكان أول خبر تحدث بالمدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا الطريق خرجه عبد الغني بن سعيد في كتابه "الغوامض والمبهمات".
#181#
وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن علي بن حسين قال: كانت امرأة في بني النجار يقال لها فاطمة ابنه النعمان ... وذكر الحديث.
وقال الحافظ أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة": حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في الموسم على الناس في الموقف يقول: ((هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل)) قال: فأتاه رجل من همدان قال: أنا، قال: ((وعند قومك لي منعة؟)) وسأله ممن هو، قال: من همدان، [قال]: ثم إن الرجل الهمداني خشي أن يخفره قومه فقال: يا رسول الله، آتيهم فأخبرهم ثم ألقاك من قابل، فانطلق، وجاءت وفود الأنصار في رجب.
وقال عبد الجبار بن كثير بن سنان الحنظلي الرقي: حدثنا محمد بن بشر، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب – وكان عربانيا [أي عربي اللهجة]- عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
#182#
حدثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج ومعه أبو بكر رضي الله عنه حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم – وكان رجلا نسابا، وكان مقدما في كل خير - فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة.
قال: ومن أي ربيعة أنتم، أمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى.
قال: وأي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال أبو بكر: فمنكم عوف الذي يقال [له]: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا.
قال فمنكم جساس بن مرة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا.
قال فمكنم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا.
قال فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا.
قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا.
قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر، أنتم ذهل الأصغر.
#183#
#184#
فقام إليه غلام من بني شيبان حين بقل وجهه يقال له: دغفل، فقال:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا، إنك قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، فمن الرجل؟
قال أبو بكر: أنا من قريش.
قال له دغفل: بخ بخ أهل الشرف والرياسة فمن أي قريش أنت؟
قال: من ولد تيم بن مرة.
قال: أمكنت والله الرامي من صفاء الثغرة، أفمنكم قصي الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى في القبائل قريش مجمعا؟
قال: لا.
#185#
قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ [قال: لا).
قال: فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الإفاضة بالناس أنت؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الرفادة؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل السقاية؟ قال: لا.
قال: أفمن أهل الحجابة؟ قال:لا.
واجتذب أبو بكر رضي الله عنه زمام الناقة فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#186#
#187#
فقال الغلام:
صادف درء السيل درءا يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصدعه
أما والله يا أخا قريش لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش، ولست من الذوائب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال علي رضي الله عنه: يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقعة، فقال لي: أجل يا أبا حسن ما من طامة إلا فوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق.
#188#
قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم، قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر في قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو، وهائي بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك.
وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا، وكان له غريرتان تسقطان على تريبتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟
فقال له مفروق: إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة.
فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال مفروق: علينا الجهد ولكل قوم جد.
فقال أبو بكر فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة، ويديل علينا، لعلك أخو قريش؟!
فقال أبو بكر: وقد بلغكم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هو ذا، فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، قال: [إلي] ما تدعو يا أخا قريش؟
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني فإن
#189#
قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو العني الحميد)).
فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ بن قبيصة، شيخنا وصاحب ديننا.
فقال هائي: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى إن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن روائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.
وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثه، فقال: وهذا المثنى بن حارثه شيخنا وصاحب حربنا.
#190#
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هائي بن قبيصة، في تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإنا إنما نزلنا بين صريين: اليمامة والشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذان الصريان))؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما [ما] كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعو إليه أنت مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك، وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم، وديارهم، وأموالهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟)).
فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذاك.
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً . وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فقال: ((يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق الجاهلية، ما أشرفها؟! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم)).
#191#
[قال]: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا صدقا صبرا.
رواه بهذا السياق قاسم بن ثابت في "الدلائل" عن علي بن عبدك، عن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، عن عبد الجبار بن كثير به، قال ابن عبدك: إلا أن أبا حاتم لم يذكر في حديث أحرفا من مراجعة دغفل أبا بكر سكت عنها، فحدثنا به جعفر بن عنبسة اليشكري بالكوفة، وذكر ذلك الكلام.
تابعهما الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان فيما رواه أبو حاتم محمد بن حبان في كتاب "الثقات" بطوله عنه، وأبو العباس محمد بن إسحاق السراج، عن عبد الجبار بن كثير.
#192#
ورواه أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، عن أبي بكر محمد ابن علي بن إسماعيل الفقيه الشاشي، حدثنا الحسن بن صاحب بن حميد، حدثني عبد الجبار بن كثير فذكره بنحوه.
وخرجه أبو جعفر العقيلي في كتاب "الضعفاء"، فقال: حدثنا إبراهيم بن أحمد الناقد، حدثني جدي إسماعيل بن مهران، حدثنا أحمد بن محمد السكري، عن أبان بن عثمان الأحمر، عن أبان بن تغلب.. فذكره، وقال: ليس لهذا أصل. انتهى.
ورواه أبو بكر بن مردويه، عن أحمد بن محمد بن السري، عن إسحاق بن يحيى الدهقان، عن يحيى بن زكريا اللؤلؤي، عن إسماعيل بن مهران به.
ورواه أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان، عن أبي يحيى عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي، عن إسماعيل بن مهران.
ورواه الحسن بن عليل العنزي الإخباري العلامة، عن علي بن مسلم بن الهيثم الشروي، عن فلان، عن أبان بن عثمان .. فذكره.
وفلان هذا هو إسماعيل بن مهران السكوني فيما ذكره الصوري، سقط منه قبل أبان: أحمد بن محمد السكري.
#193#
ورواه الغلابي فقال: حدثنا شعيب بن واقد، حدثنا أبان بن عثمان.. فذكره.
وأمثل هذه الطرق: الأولى على ضعفها، فأبان بن عبد الله هو ابن أبي حازم البجلي الكوفي: حسن الحديث.
وجاء توثيقه عن يحيى بن معين.
وقال أحمد بن حنبل: صدوق صالح.
وذكر ابن حبان: أنه ممن فحش خطؤه، وانفرد بالمناكير.
وشيخه أبان بن تغلب الكوفي مذموم المذهب، وكان يعتقد أن عليا أفضل من الشيخين رضي الله عنهم لكنه صدوق، جاء توثيقه عن أحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وغيرهم، فلنا صدقه وعليه بدعته.
#194#
ورواية العقيلي فيها أحمد بن محمد، هو ابن أبي نصر السكري، وقد أدخل في الضعفاء لروايته هذا عن أبان بن عثمان الأحمر، وأبان هذا تكلم فيه واتهمه العقيلي.
وطريق الغلابي فيها شعيب بن واقد، وقد ضرب أبو حفص عمرو بن علي الحافظ الفلاس على حديثه، مع أن الغلابي أبا جعفر محمد بن زكريا رماه الدارقطني بالوضع، وضعفه غيره.
وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" فقال: حدثني زهير بن حرب، حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني حصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبو الحيسر – أنس بن رافع – مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على
#195#
قومهم من الخزرج، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم، فقال لهم: ((هل لكم في خير مما جئتم له؟)) قالوا: وما ذاك؟ قال ((أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، لا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب)).
ثم ذكرهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ – وكان غلاما حدثا-: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له.
قال محمود: فأخبرني من حضرة من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده حتى مات، فما كان يشك أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما سمع.
قال البخاري: وقال زياد، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن.
وخرجه ابن جرير في "تاريخه" عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، حدثني الحصين بن عبد الرحمن.. فذكره.
#196#
وقال أبو نعيم - أحمد بن عبد الله – في كتابه "معرفة الصحابة": أنس بن رافع أبو الحيسم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، في فتية من بني عبد الأشهل .. وذكر الحديث بنحوه.
#197#
$[بيعة العقبة الأولى]$
وقال ابن إسحاق: لما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج، فذكروا أنه قال لهم: ((ممن أنتم؟)) فقالوا: من الخزرج، قال: ((أفلا تجلسون أكلمكم؟)) قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله تعالى، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وقد كانوا يسمعون من اليهود أن نبيا مبعوثا قد أظل زمانه،
فقال بعضهم لبعض: يا قوم، والله إن هذا النبي الذي تعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه، وهم فيما يزعمون ستة: أسعد بن زرارة، وعوف بن مالك -وهو ابن عفراء- ورافع بن مالك العجلان، وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب - رضي الله عنهم - فلما انصرفوا إلى بلادهم – وقد آمنوا – ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم اثنا عشر رجلا من الأنصار، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي العقبة الأولى، فبايعوا بيعة النساء قبل أن يفترض الحرب، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعوذ
#198#
ابنا الحارث، ورافع بن مالك بن العجلان، وذكوان بن عبد قيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، والعباس بن عبادة بن نضلة، وعقبة بن عامر بن نابي، وقطبة بن عامر، وشهدها من الأوس حليفان لهم: أبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة رضي الله عنهم.
قلت: جابر بن عبد الله بن رئاب المذكور هو أحد المقلين، ليس له حديث مسند غير واحد أعلم، بخلاف جابر بن عبد الله بن عمرو المكثر الذي هو من أصحاب الألوف.
وحديث جابر بن عبد الله بن رئاب الذي ليس له غيره هو ما قال البغوي: حدثنا شجاع بن مخلد، حدثنا علي بن ثابت، حدثنا الوازع بن نافع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة بدر فصلى العصر فتبسم في الصلاة، فقالوا له: يا رسول الله، تبسمت في الصلاة؟! فقال: ((مر بي ميكائيل ومعه ملك فضحك إلي فتبسمت إليه)) قال: ((وعلى جناحه غبار وهو راجع في طلب القوم)) ولا أعلم لجابر بن عبد الله بن رئاب حديثا مسندا غير هذا، والذي رواه ضعيف جدا، وهو الوازع بن نافع، قاله البغوي.
#199#
وكان الذي أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البيعة – وهي الأولى -: ما رواه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو أحد النقباء ليلة العقبة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – وحوله عصابة من أصحابه: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه)) قال: فبايعناه على ذلك.
خرجاه في "الصحيحين" لليث.
وخرجه مسلم أيضا عن قتيبة، حدثنا ليث، عن ابن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن الصنابحي به، والصنابحي: أبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:
بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرا أنا منهم، فتلا عليهم آية النساء.. الحديث.
خرجه مسلم لعبد الرزاق بنحوه.
وخرجه البخاري لسفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: وتابعه عبد الرزاق، عن معمر.
#200#
وخرجه أيضا من حديث هشام عن عمرو من حديث الليث، عن يونس، ومن حديث أبي اليمان، عن شعيب، ومن حديث يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري: كلهم [عن الزهري]، عن أبي إدريس، عن عبادة به.
وقال أبو عبيد محمد بن عبيد: حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن عائذ بن عبد الله أبي إدريس الخولاني، عن عقبة بن عامر الجهني، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ونحن اثنا عشر رجلا على أن لا نشرك بالله شيئا .. وذكر الحديث بنحو ما تقدم.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب: ذكر عقبة بن عامر في هذا الحديث زيادة لم يتابع أبو عبيد عليها، ولا يحتاج إليها؛ لأن أبا إدريس سمعه من عبادة، وقد رواه عبد الله بن محمد النفيلي، عن محمد بن سلمة على الصواب، وكذلك رواه سفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وعبيد الله بن أبي زياد الرصافي، وشعيب بن أبي حمزة، ومعاوية بن يحيى، عن الزهري.
قلت: وقد خرجه الحافظ أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا أبو طلحة الخزاعي، حدثنا بكر بن سليمان، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عائذ بن عبد الله
#201#
أبي إدريس الخولاني أن عبادة بن الصامت حدثه أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى ... وذكر الحديث.
#202#
$[أول جمعة صليت في الإسلام]$
ولما توجه القوم نحو المدينة، بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – فيما روي – مصعب بن عمير، وعمرو بن أم مكتوم رضي الله عنهما ليعلما من أسلم القرآن، ويفقهاه في الدين، فنزلا على أسعد بن زرارة، وكان مصعب يؤم الناس، وجمع بهم حين بلغوا أربعين.
وقال أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد الحافظ الفقيه: حدثنا أبو خالد يزيد بن الهيثم بن طهمان الدقاق، حدثنا صبح بن دينار، حدثنا المعافى بن عمران، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ فجمع بهم، وهم اثنا عشر رجلا، وذبح لهم يومئذ شاة.
وقال: قرئ على عبد الملك بن محمد وأنا أسمع، حدثني رجاء بن سلمة، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا ابن جريج قال: قال ابن شهاب: بلغنا أن مصعب بن عمير جمع باثني عشر رجلا في دار أسعد بن زرارة بالمدينة. كذا قال.
#203#
وهذه الجمعة كانت أول جمعة جمعت في الإسلام.
قال هاشم بن القاسم: حدثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: بلغنا أن أول ما جمعت الجمعة بالمدينة - قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فجمع بالمسلمين مصعب بن عمير بن عبد مناف.
وقال هاشم أيضا: حدثنا ابن وهب، أخبرني ابن جريج، عن سليمان بن موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه يأمره بذلك.
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أسعد بن زرارة، وهو ما رواه علي بن إبراهيم الواسطي، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل – يعني: ابن حنيف – عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب - يعني: ابن مالك – قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة، واستغفر له، أظنه قال: فلبث كثيرا لا يسمع أذان الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت: يا أبت أرأيت استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال أي بني، كان أول من جمع بنا في هزم من حرة بني بياضة يقال له: نقيع الخضمات، قال: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا.
ورواه أبو داود فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل فذكره، إلا أنه قال:
#204#
أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة.
وحدث به أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود في كتابه "المنتقى في الأحكام": عن محمد بن يحيى، حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا ابن إدريس، فذكره بنحوه.
ورواه أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق.
وخرجه القاضي أحمد بن علي بن سعيد المروزي في "كتاب الجمعة" من تأليفه فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب البصري، حدثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق.. فذكر نحوه.
و"نقيع الخضمات" ورد بالباء، وقيده البكري بالنون، وذكر الخطابي: أن الصواب بالنون.
#205#
وذكر البكري عن هذا الهزم: أنه جبل على بريد من المدينة.
وكان تجميع أهل المدينة الجمعة هداية من الله تعالى قبل الأمر بها، ثم نزل فرضها، واستقر حكمها بعد الهجرة إلى المدينة.
ذكر معناه السهيلي.
وقال عبد بن حميد: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة .. الحديث.
وقد قيل: إن تجميع أهل المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمناه عن سليمان بن موسى، وهو في "سنن الدارقطني" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بها قبل الهجرة.
قال البيهقي في "المعارف" حين روى حديث كعب بن مالك واستغفاره لأبي أمامة أسعد بن زرارة:
قلت: وهذا لا يخالف ما روي عن الزهري: أن مصعب بن عمير حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا، فإنه إنما أراد به
#206#
أنه أقام الجمعة بمعونة النفر الذين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحبتهم، أو على إثرهم وهم اثنا عشر، الذين بايعوه في العقبة الأولى، منهم: أسعد بن زرارة وذلك حين كتب من أسلم من أهل المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ليبعث إليهم رجلا من أصحابه يقرئهم القرآن، ويفقههم في الإسلام، ويؤمهم في صلاتهم فبعثه.
قال الزهري: وكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالزهري أضاف التجمع إلى مصعب؛ لكونه إماما في الجمعة، وكعب بن مالك أضافه إلى أسعد لنزول مصعب بالمدينة أولا في داره، ونصرة أسعد إياه، وخروجه به إلى دور الأنصار يدعوهم إلى الإسلام، وذكر الزهري: أنه جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا، وهو يريد عدد النقباء الذين خرجوا به إلى المدينة وكانوا له ظهرا.
وذكر كعب أنه جمع بهم وهم أربعون رجلا، وهو يريد جميع من صلى معه ممن أسلم من أهل المدينة مع النقباء.
هذا وقول كعب متصل، وقول الزهري منقطع، وبيان الجمعة مأخوذ من أفعالهم، فيجوز حيث أقاموها وتعدد من أقاموها بهم، وبالله التوفيق. انتهى.
#207#
$[إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما وبني عبد الأشهل وقصة الأنصار]$
وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر، على بئر يقال لها بئر ابن مرق فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب:
#208#
إن يجلس أكلمه، قال: فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا - فيما يذكر عنه -: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهيله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام، فاغتسل، وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم قام، وركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن – سعد بن معاذ – ثم أخذ حربته، فانصرف إلى سعد وقومه – وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم
#209#
خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، لولا [ما] بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في ديارنا بما نكره، وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان، فقال له مصعب: أوتقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلناك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة، فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهيله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، وركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما
#210#
أو مسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية وزيد وخطمة ووائل وواقف وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وهو صيفي، وكان شاعرا لهم وقائدا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم على الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق.
قال: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته والنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم، وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله.
#211#
$[بيعة العقبة الثانية وأسماء من شهدها]$
قال عبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب العلل":حدثني محمد بن حاتم أبو عبيد الله الزمي، أخبرنا علي بن ثابت، حدثني عبد الحميد بن جعفر، أخبرني أبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرجنا يوم العقبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعون: أربعون رجلا وثلاثون غلاما، يردف الرجل ابنه وراءه، فكنت رديفا وراء أبي.
وهؤلاء السبعون كان معهم امرأتان، كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وهذا ذكرهم مرتبين وهم:
أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة من بني غنم بن مالك بن النجار نقيب النقباء.
أسيد بن حضير بن سماك الأشهلي أحد النقباء، كنيته أبو يحيى على الأشهر، وقيل: أبو عيسى، وقيل: أبو عتيك، وقيل: أبو الحضير، وقيل: أبو الحصين، وقيل أبو عتيق.
أوس بن ثابت بن المنذر أبو شداد، وهو أخو حسان من بني عمرو بن النجار وهم بنو جديلة.
#212#
البراء بن معرور بن صخر السلمي أحد النقباء، وأول من أوصى بثلث ماله.
بشر بن البراء ولده.
بشير بن سعد بن ثعلبة – أبو النعمان الخزرجي – من بلحارث بن الخزرج.
ثابت بن الجزع واسم الجزع ثعلبة بن زيد السلمي.
ثعلبة بن غنمة [بن عدي] بن نابي السلمي ابن أخته.
جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي.
جبار بن صخر بن أمية –أبو عبد الله السلمي – وقيل في: جابر، وقيل: هما اثنان، والأصح أنه جبار.
الحارث بن قيس بن خالد بن مخلد أبو خالد الزرقي، وهو بكنيته أشهر.
حنش بن عمرو بن عدي بن نابي السلمي.
خارجة بن زيد بن أبي زهير – أبو زيد الخزرجي – من بلحارث بن الخزرج، وخارجة الذي تكلم ابنه زيد بعد موته في زمن عثمان، وخارجة هو حمو أبي بكر رضي الله عنهما.
خالد بن زيد بن كليب – أبو أيوب – من بني غنم بن مالك بن النجار.
خالد بن عمرو بن عدي بن نابي السلمي.
خالد بن قيس بن مالك الخزرجي البياضي.
#213#
خديج بن سلامة، ويقال: ابن سالم بن أوس أبو شباث البلوي حليف بني حرام، وقاله عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة: حديج - بضم الحاء المهملة وفتح الدال.
ومن طريقه خرجه أبو القاسم بن عساكر في كتاب "من وافقت كنيته كنية زوجته من الصحابة" وقيده فيما وجدته بخطه بإهمال أوله مضموما وفتح ثانيه.
وقيل فيه: جريح – بالجيم والراء - وكذلك ذكره الذهبي في "التجريد" في حرف الجيم، وحكي أن ابن شاهين كناه أبا شاة، وهذا غير مشهور في كنيته، وجريح تصحيف من خديج، والله أعلم.
وذكره الذهبي على الصواب في باب الخاء المعجمة، ولم يشر إلى الخلاف فيه، فكأنه وما قبله اثنان عنده وليس كذلك، والله أعلم.
خلاد بن سويد بن ثعلبة الخزرجي بن بلحارث بن الخزرج.
ذكوان بن عبد قيس بن خلدة أبو السبع الزرقي شهد العقبتين، وسار من المدينة مهاجرا إلى مكة فكان يقال له: أنصاري مهاجري.
رافع بن مالك بن العجلان الزرقي أحد النقباء وهو فيما قال ابن إسحاق: أول من قدم المدينة بسورة يوسف.
رفاعة بن عبد المنذر بن رفاعة بن دينار من بني عمرو بن عوف أحد النقباء وهو أخو أبي لبابة بشير على خلاف في ذلك.
#214#
رفاعة بن عمرو بن زيد بن عمرو السالمي، أبو الوليد من بني الحبلي.
زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان أبو عبد الله البياضي الزرقي, وقيل فيه: زيد, والأول أصح, ولما أسلم سكن مكة, ثم هاجر, فهو أنصاري مهاجري.
زيد بن سهل بن الأسود أبو طلحة النقيب من بني عمرو بن مالك بن النجار.
سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك أبو خيثمة وقيل: أبو عبد الله الأوسي, أحد النقباء.
سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الخزرجي أحد النقباء.
سعد بن زيد بن مالك الأوسي الأشهلي, ذكره في السبعين الواقدي.
سعد بن عبادة بن دليم أبو ثابت الخزرجي الساعدي أحد النقباء, وأحد الأجواد, ويقال كان أسود.
سلمة بن سلامة بن وقش الأشهلي.
سليم بن عمرو ويقال ابن عامر بن حديدة السلمي.
سنان بن صيفي بن صخر السلمي.
سهل بن عتيك بن النعمان من بني عمرو بن مبذول بن مالك بن النجار, وصحف بعضهم اسم أبيه, فقال: عبيد.
صيفي بن سواد بن عبادة, وقيل ابن عباد السلمي.
الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة السلمي.
الطفيل بن النعمان بن خنساء السلمي.
#215#
ظهير بن رافع بن عدي, عم رافع بن خديج من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج.
عامر بن نابي بن زيد بن حرام, ذكر هشام ابن الكلبي أنه شهد العقبة.
عباد بن قيس بن عامر الزرقي.
عبادة بن الصامت بن قيس – أبو الوليد الخزرجي – أحد النقباء.
عباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي – شهد العقبة وهو الذي أكد البيعة ليلتئذ, ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [بمكة], ثم قدم إلى المدينة فكان يقال له: المهاجر, وهو أنصاري.
عبد الله بن أنيس بن أسعد, وقيل: سعد – أبو يحيى الجهني – حليف الأنصار.
عبد الله [بن جبير] بن النعمان الأوسي من بني عمرو بن عوف، وكان أمير الرماة الخمسين يوم أحد, وهو أخو خوات بن جبير.
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة أبو محمد الخزرجي أحد النقباء.
عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أبو محمد الخزرجي من بلحارث ابن الخزرج, وهو الذي أري الأذان.
عبد الله بن عمرو بن حرام – أبو جابر السلمي أحد النقباء.
عبس بن عامر بن عدي بن نابي السلمي.
عبيد بن التيهان أخو أبي الهيثم الآتي ذكره – إن شاء الله تعالى – وقيل في اسمه عتيك, فيما قاله موسى بن عقبة وابن الكلبي, وسماه عبيداً ابن إسحاق والواقدي.
#216#
عقبة بن عمرو بن ثعلبة – أبو مسعود الخزرجي – من بلحارت بن الخزرج, وكان أصغر من شهد العقبة كما ستأتي الرواية إن شاء الله تعالى.
عقبة بن وهب بن كلدة بن الجعد الغطفاني من قيس عيلان حليف بني الحبلي شهد العقبتين, ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلم يزل معه حتى هاجر, فهاجر عقبة معه إلى المدينة, فهو مهاجري أنصاري.
عمارة بن حزم بن زيد من بني غنم بن مالك بن النجار أخو عمرو ابن حزم.
عمرو بن الحارث بن لبدة الخزرجي.
عمرو بن غنمة بن عدي بن نابي السلمي وهو أحد البكائين.
عوف بن الحارث بن رفاعة, وهو ابن عفراء ابنة عبيد بن ثعلبة من بني غنم بن مالك بن النجار.
عويم بن ساعدة بن عائش أبو عبد الرحمن الأوسي وأصله من بلي، وانفرد ابن إسحاق فقال في نسبه مكان عائش: "ضلعجة", قال ابن سعد: ولم نجد "ضلعجة" في النسب.
فروة بن عمرو بن وذفة بن عبيد البياضي الزرقي.
قتادة بن النعمان بن زيد – أبو عثمان – وقيل أبو عبد الله, وقيل أبو عمرو, وقيل أبو عمر الأوسي ثم الظفري أحد الرماة المشهورين من الصحابة, رميت عينه يوم أحد فسالت حدقته على وجنته فأتى
#217#
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إن عندي امرأة أحبها وإن هي رأت عيني خشيت أن تقذرني, فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فاستوت ورجعت، وكانت أقوي عينيه وأصحهما بعد أن كبر.
وروي أن هذه القصة كانت يوم بدر.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل, حدثنا ابن الغسيل, حدثني عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان, عن جده قتادة رضي الله عنه أنه أصيبت عينه يوم بدر, فسالت حدقته على وجنته, فأراد القوم أن يقطعوها فقالوا: نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم نستشيره في ذلك, فجئنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فأدناه نبي الله صلى الله عليه وسلم منه, فرفع حدقته حتى وضعها في موضعها, ثم غمزها براحته, فقال: ((اللهم اكسه جمالاً)) فمات وما يدري من لقيه أي عينيه أصيبت.
تابعه يحيى بن عبد الحميد الحماني, عن عبد الرحمن ابن الغسيل كذلك.
وجاء عن عاصم, عن أبيه, عن جده فيما رواه دعلج في "مسند المقلين" فقال: حدثنا محمد بن يونس، حدثنا مالك بن إسماعيل,
#218#
حدثنا عبد الرحمن بن سليمان, حدثني عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان, عن أبيه, عن جده قتادة: أنه أصيبت عينه يوم بدر ... فذكره نحوه,. وقال: فعادت أحسن ما كانت فلقد مات يوم مات لا يدرى أيهما ذهبت من حسنها.
قطبة بن عامر بن حديدة أبو زيد السلمي.
قيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد من بني مازن بن النجار, وكان أمير الساقة يوم بدر.
كعب بن عمرو بن عبادة أبو اليسر السلمي.
كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين السلمي، أحد الثلاثة الذين تيب عليهم.
مالك بن التيهان أبو الهيثم البلوي – حليف بني عبد الأشهل, وقيل: هو من الأوس من أنفسهم, وممن جزم بأنه من بلي وحليف لبني عبد الأشهل: موسى بن عقبة, وابن إسحاق، وأبو معشر, والواقدي وغيرهم، وقال بالثاني: عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري وغيره، وأبو الهيثم أحد النقباء, وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم.
مسعود بن يزيد بن سبيع أبو محمد السلمي.
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس السلمي.
معاذ بن الحارث بن رفاعة, وهو ابن عفراء من بني غنم بن مالك ابن النجار.
#219#
معاذ بن عمرو بن الجموح بن زيد السلمي.
معقل بن المنذر بن سرح السلمي.
معن بن عدي بن الجد بن العجلان البلوي بلي قضاعة, وهو من حلفاء بني زيد بن مالك بن عوف, وقيل: حليف بني عمرو بن عوف.
المنذر بن عمرو بن خنيس الخزرجي الساعدي أحد النقباء, والأمير يوم بئر معونة.
يزيد بن ثعلبة بن حزمة بن أصرم أبو عبد الرحمن البلوي حليف الخزرج.
يزيد بن خدام بن خنساء وفي اسمه واسم أبيه خلاف السلمي.
يزيد بن عامر بن حديدة أبو المنذر السلمي أخو قطبة.
يزيد بن المنذر بن سرح السلمي أخو معقل.
أبو بردة بن نيار بن عمرو البلوي حليف بني حارثة بن الحارث, اسمه هانئ على المشهور, وقيل: اسمه الحارث بن عمرو, وقيل: مالك بن هبيرة, وأبو بردة هذا خال البراء بن عازب رضي الله عنهم أجمعين.
فهؤلاء رجال أهل العقبة وفي بعضهم خلاف.
وأما المرأتان فإحداهما: أم منيع, أسماء بنت عمرو بن عدي بن سنان بن نابي بن عمر بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمية,
#220#
زوج خديج بن سلامة المذكور, ولدت له شباثاُ – الذي يكنى به – ليلة العقبة، ومن مشاهد أم منيع أيضاً خيبر شهدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت عمة معاذ بن جبل.
والثانية: أم عمارة واسمها نسيبة – وزان كريمة – على الصحيح المشهور, وكذلك سماها الواقدي وكاتبه ابن سعد وأبو بكر بن أبي خيثمة وخلق, ولم يسمها أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة" بل ذكرها في الكنى, وهي بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار, كذلك نسبها ابن إسحاق وابن سعد وغيرهما.
ومن مشاهدها أيضاً: أحد, والحديبية, وخيبر, وعمرة القضية, وحنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودعا لها مع أهل بيتها يوم أحد, فقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أجعلهم رفقائي في الجنة)). فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا.
ومن مشاهدها أيضاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم يوم اليمامة, وأبلت يومئذ بلاء حسناً.
قال ابن إسحاق: فخرجت إلى اليمامة مع المسلمين, فباشرت
#221#
الحرب بنفسها حتى قتل الله مسيلمة, ورجعت وبها اثنا عشر جرحاً من بين طعنة وضربة.
حدثني بهذا الحديث عنها محمد بن يحيى بن حبان, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة – هكذا في روايتنا – من طريق زياد بن عبد الله, عن ابن إسحاق.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا وهب بن جرير, حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق, قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن منقذ بن عمرو: أن نسيبة شهدت اليمامة مع المسلمين, فقاتلت حتى أصيبت يدها, وجرحت ثنتي عشرة جراحة.
وقد ذكر الواقدي أنها أبلت يوم أحد بلاء حسناً, وجرحت اثني عشر جرحا من طعنة برمح أو ضربة بسيف.
وكانت أم سعد بنت سعد بن الربيع تقول: دخلت عليها فقلت: حدثيني خبرك يوم أحد, قالت: خرجت أول النهار إلى أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين, فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أباشر القتال, وأذب عن رسول
#222#
الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وأرمي بالقوس حتى خلصت إلي الجراح.
قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً له غور أجوف.
فقلت لها: يا أم عمارة, من أصابك هذا؟
قالت: أقبل ابن قمئة وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني وهو يقول: "دلوني على محمد لا نجوت إن نجا", فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه, وكنت فيهم فضربني هذه الضربة, ولقد ضربته على ذلك ضربات, ولكن عدو الله كان عليه درعان.
قال: وكان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء.
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان)) وكان صلى الله عليه وسلم يراها يومئذ تقاتل أشد القتال, وإنها لحاجة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً.
قلت: ووهم بعضهم فجعل أم عمارة أختاً لأم منيع المذكور, اللهم إلا أن يريد أختها في شهود بيعة العقبة, فإنه لم يشهدها سوى هاتين المرأتين مع أولئك السبعين.
وقصتهم في المبايعة رويت على وجوه:
#223#
$[أوجه رواية بيعة العقبة الثانية]$
خرج أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه", وأبو حاتم بن حبان في "صحيحه" واللفظ له: من حديث سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق, حدثني معبد بن كعب بن مالك, عن أخيه عبيد الله بن كعب بن مالك, عن أبيه وغيره: أنهم واعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوه من العام القابل بمكة فيمن تبعهم من قومهم, فخرجوا من العام القابل سبعون رجلاً فيمن خرج من أهل الشرك من قومهم.
قال كعب بن مالك رضي الله عنه: حتى إذا كنا بظاهر البيداء قال البراء بن معرور بن صخر بن خنساء – وكان كبيرنا وسيدنا -: قد رأيت رأياً والله ما أدري أتوافقوني عليه أم لا, إني رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر – يريد الكعبة – وأني أصلي إليها, فقلنا: لا تفعل, [وما بلغنا] أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام, وما كنا نصلي إلى غير قبلته, فأبينا عليه ذلك وأبى علينا, وخرجنا في وجهنا ذلك, فإذا حانت الصلاة صلى إلى الكعبة, وصلينا إلى الشام, حتى قدمنا مكة، قال كعب بن مالك: قال لي البراء بن معرور: والله يا ابن أخي, لقد وقع في نفسي مما صنعت في سفري هذا.
#224#
قال: وكنا لا نعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا نعرف العباس بن عبد المطلب, كان يختلف إلينا بالتجارة ونراه, فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى إذا كنا بالبطحاء لقينا رجلاً, فسألناه عنه, قال: هل تعرفانه؟ قلنا: لا والله, قال: فإذا دخلتم فانظروا الرجل الذي مع العباس جالساً فهو هو تركته معه الآن جالساً, قال: فخرجنا حتى جئناه صلى الله عليه وسلم فإذا هو مع العباس فسلمنا عليهما وجلسنا إليهما, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تعرف هذين الرجلين يا عباس؟)) قال: نعم, هذان الرجلان من الخزرج – وكانت الأنصار إنما تدعى في ذلك الزمان أوسها وخزرجها [الخزرج] – هذا البراء بن معرور وهو رجل من رجال قومه, وهذا كعب بن مالك, فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشاعر؟)) قال: نعم, قال البراء بن معرور: يا رسول الله, إني قد صنعت في سفري هذا شيئاً أحببت أن تخبرني عنه، فإنه قد وقع في نفسي منه شيء إني قد رأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر, وصليت إليها فعنفني أصحابي وخالفوني حتى وقع في نفسي من ذلك ما وقع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنك قد كنت على قبلة لو صبرت عليها)) ولم يزده على ذلك.
قال: ثم خرجنا إلى منى, فقضينا الحج حتى إذا كان وسط أيام التشريق أتعدنا نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، فخرجنا من جوف الليل نتسلل من رحالنا, ونخفي ذلك ممن معنا من مشركي قومنا حتى إذا
#225#
اجتمعنا عند العقبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فتلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فأجبناه, وصدقناه, وآمنا به, ورضينا بما قال, ثم إن العباس بن عبد المطلب تكلم فقال: يا معشر الخزرج, إن محمداً صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم, وإنا قد منعناه ممن هو على مثل ما نحن عليه, وهو في عشيرته وقومه ممنوع، فتكلم البراء بن معرور وأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بايعنا، قال: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم)) قال: نعم والذي بعثك بالحق, فنحن والله أهل الحرب ورثناه كابراً عن كابر.
وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في آخر "مسنده" فقال: حدثنا أبو طلحة موسى بن عبد الله, أخبرنا بكر بن سليمان, أخبرنا محمد بن إسحاق.. فذكره بنحوه.
قال أبو حاتم ابن حبان: وأما ترك أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم إياه – يعني البراء بن معرور – بإعادة الصلاة التي صلاها نحو الكعبة حيث كان الفرض عليهم استقبال بيت المقدس, كان ذلك لأن البراء أسلم لما شاهد المصطفى صلى الله عليه وسلم, فمن أجله لم يأمره بإعادة تلك الصلاة. انتهى.
وقال أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان: حدثنا أبو يحيى – يعني: عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا
#226#
شعيب, عن الزهري قال: بلغنا أن الأنصار وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجة التي خرج بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول مهاجراً إلى المدينة ... فذكر الحديث, وفيه قال: والبراء أول من استقبل القبلة [من] الأحياء, وأول من أمر بقبره أن يدفن عليها ميتاً, كان من أسلم من الأنصار يدعونه إلى الإسلام من قبل أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة, فأسلم, وقال لهم: لستم تذكرون من الإسلام شيئاً إلا وأنا مطمئن إليه به عارف, غير أن نفسي لا تطمئن [إلى] غير قبلة البيت, فقالوا له: استقبل بيت المقدس فصل [إلى] قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: والله لا أصلي قبلها أبداً حتى ألقاه.
فخالفهم في القبلة، فطفق يصلي قبل البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس حتى إذا لقي رسول الله عليه وسلم ليلة العقبة قال بعض أصحابه: يا رسول الله، هذا صاحبنا الذي ذكرنا لك, وهو أعجبنا عندنا إلا ما يخالفنا من القبلة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا, إن القبلة اليوم قبل بيت المقدس)), فلما سمع بذلك البراء بن معرور استقبل بيت المقدس حتى قدم المدينة, فاشتكى بعدما قدم المدينة وجعه الذي توفي فيه, فلما حضرته الوفاة، قال: لا والله لا تدفنوني إلا على قبله البيت [فدفن على قبلة البيت], فكان أول من استقبل القبلة حياً,
#227#
وأول من استقبلها ميتاً, فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة سأل الأنصار عنه: ((ما فعل المعجب)), فقالوا: توفي يا رسول الله.
[فلبث رسول الله] صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً, ثم صرفت القبلة إلى البيت في جمادى الأولى, وأفضل مساجد الأنصار في أنفسهم كل مسجد صليت فيه القبلتان جميعاً.
وقد جاء حديث كعب بن مالك الذي قدمناه قبل: من طريق أخرى عن كعب ولفظه: قال خرجنا في الحجة التي بايعنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة مع مشركي قومنا, فواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أوسط أيام التشريق ونحن سبعون رجلاً ومعهم امرأتان.
فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نمنا أول الليل مع قومنا، فلما استثقل الناس من النوم تسللنا من فرشنا تسلل القطا حتى اجتمعنا بالعقبة، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس رضي الله عنه ليس معه غيره, فكان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج, وإنما كانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار: أوسها وخزرجها الخزرج – فقال العباس رضي الله عنه: يا معشر الخزرج, إن محمداً صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم, وهو في منعة في قومه وبلاده قد منعناه ممن هو على مثل رأينا فيه، وقد أبى إلا الانقطاع إليكم وإلى ما دعوتموه إليه, فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما وعدتموه, فأنتم وما تحملتم, وإن كنتم تخشون من أنفسكم
#228#
خذلاناً, فاتركوه في قومه, فإنه في منعة من عشيرته وقومه.
فقلنا: قد سمعنا ما قلت, تكلم يا رسول الله، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الله عز وجل، وتلا القرآن ورغب في الإسلام، فأجبناه بالإيمان والتصديق له، وقلنا له: يا رسول الله، خذ لربك ولنفسك، فقال: ((إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم به أبناءكم ونساءكم)) فأجابه البراء بن معرور، فقال: نعم، والذي بعثك بالحق مما نمتع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب، وأهل الحلقة - يعني: السلاح - ورثناها كابرا عن كابر، فعرض في الحديث أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين أقوام حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن الله أظهرك أن ترجع إلى قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم)) فقال له البراء بن معرور:
#229#
ابسط يدك يا رسول الله نبايعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا)) فأخرجوهم.
فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني سلمة: البراء بن معرور وعبد الله بن حرام.
وكان نقيب بني ساعدة: [سعد] بن عبادة والمنذر بن عمرو.
وكان نقيب بني زريق، رافع بن مالك بن العجلان.
وكان نقيب بن الحارث: عبد الله بن رواحة وسعد بن الربيع.
وكان نقيب القوافل من بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت، ومن الأوس من بني عبد الأشهل: أسيد بن حضير وأبو الهيثم بن التيهان.
#230#
وكان نقيب بني عمرو بن عوف: سعد بن خيثمة، فأخذ البراء بن معرور بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عليها وكان أول من بايع، وتتابع الناس فبايعوا.
ففي هذا أن أول من بايع البراء بن معرور.
وقد روى سعيد بن بزيع، وزياد البكائي وغيرهما، عن ابن إسحاق أنه قال: بنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم ابن التيهان.
وحدث ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة: ((أخرجوا إلي اثني عشر منكم يكونوا كفلاء على قومهم، كما تكفلت الحواريون لعيسى ابن مريم)) فأخرجوا اثني عشر رجلا.
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقب أسعد بن زرارة على النقباء.
#231#
وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا مالك، قال: كان أسيد بن حضير أحد النقباء، قال: وكانت الأنصار فيهم اثنا عشر نقيبا، وكانوا سبعين رجلا ، قال مالك: فحدثني شيخ من الأنصار: أن جبريل عليه السلام كان يشير له صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا، قال مالك بن أنس: كنت أعجب كيف جاء من كل قبيلة رجلان ومن قبيله رجل، حتى حدثني هذا الشيخ: أن جبريل عليه السلام كان يشير إليهم يوم البيعة يوم العقبة، قال لي مالك: عدة النقباء اثنا عشر رجلا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
وقال عبد الأعلى بن حماد: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، حدثنا ابن خثيم – وهو عبد الله بن عثمان بن خثيم - عن أبي الزبير محمد بن مسلم: أنه حدثه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في الموسم بمجنة وعكاظ، ومنازلهم بمنى: ((من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة)) فلا يجد أحدا يؤويه وينصره، حتى إن الرجل ليرحل صاحبه من مصر واليمن فيأتيه قومه أو ذو رحمه، فيقول: احذر فتى قريش لا يفتننك، يمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله، يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله له من يثرب، فيأتيه الرجل منا، فيؤمن به، فيقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من
#232#
دور يثرب إلا وفيها من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا، واجتمعنا سبعون رجلا منا، فقلنا: حتى متى نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف، فدخلنا حتى قدمنا عليه صلى الله عليه وسلم في الموسم، فواعدنا شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده.
فقنا: يا رسول، علام نبايعك؟
قال: ((بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لومه لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمنا عليكم يثرب، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)).
فقمنا نبايعه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا -فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنه لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، عند إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف فإما أنتم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافة فخذوه آجركم الله عليه، وإما أنتم تخافون [من] أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.
#233#
قالوا: أمط عنا يدك يا أسعد بن زرارة، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقبلها، فقمنا إليه نبايعه رجل فرجل، لقد أخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة.
تابعه خلف بن هشام وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي عن داود العطار، بنحوه.
وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .. فذكره بنحوه.
وخرج أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث عقيل بن أبي طالب والشعبي والزهري واللفظ له: أن العباس بن
#234#
عبد المطلب رضي الله عنه مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فنزل وعقل راحلته، ثم قال لهم: يا مشعر الأوس والخزرج، هذا ابن أخي وهو أحب الناس إلي، فإن كنتم قد صدقتم وآمنتم به وأردتم إخراجه معكم فإني أريد أن آخذ عليكم موثقا تطمئن به نفسي ولا تخذلوه ولا تغروه، فإن جيرانكم اليهود وهم له عدو، ولا آمن مكرهم عليه.
فقال أسعد بن زرارة رضي الله عنه وشق عليه قول العباس حين اتهم عليه أسعد وأصحابه رضي الله عنهم: يا رسول الله، ائذن لنا فلنجبه غير مخشنين لصدرك ولا متعرضين بشيء مما تكره إلا تصديقا لإيخائنا إياك، وإيمانا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أجيبوه غير متهمين)).
فقال أسعد بن زرارة وأقبل على رسول الله [بوجهه فقال]: يا رسول الله، إن لكل دعوة سبيلا، إن لين وإن شدة، وقد دعوتنا اليوم إلى دعوة متجهمة للناس متوعرة عليهم، دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك على دينك، وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار والأرحام البعيد والقريب، وتلك رتبة صعبة، فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا ونحن جماعة في دار عزة ومنعة لا يطمع
#235#
فينا أحد أن يرأس علينا رجل من غيرنا، قد أفرده قومه وأسلمه أعمامه، وتلك رتبة صعبة، فأجبناك إلى ذلك، وكل هؤلاء الرتب مكروه عند الناس إلا من عزم الله على رشده، والتمس الخير في عواقبها، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا وصدورنا إيمانا بما جئت به، وتصديقا بمعرفة ثبتت في قلوبنا، نبايعك على ذلك، ونبايع الله ربنا وربك يد الله فوق أيدينا، دماؤنا دون دمك، وأيدينا دون يدك، ونمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، فإن نفي بذلك فلله عز وجل نفي، ونحن به أسعد، وإن نغدر فبالله نغدر ونحن به أشقى، هذا الصدق منا يا رسول الله، والله المستعان.
ثم أقبل على العباس بن عبد المطلب بوجهه، فقال: وأما أنت أيها المعترض لنا بالقول دون النبي صلى الله عليه وسلم فالله أعلم ما أردت بذلك، ذكرت أنه ابن أخيك وأنه أحب الناس إليك، فنحن قد قطعنا القريب والبعيد وذا الرحم، ونشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله من عنده ليس بكذاب، وأن ما جاء به لا يشبه كلام البشر، وأما ما ذكرت أنك لا تطمئن إلينا في أمره حتى تأخذ مواثيقنا وهذه خصلة لا نردها على أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ ما شئت.
ثم التفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشترط لربي أن تعبدوه لا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم))، قالوا: فذلك لك يا رسول الله.
#236#
وفي رواية: قالوا: فإن فعلنا فما لنا؟ قال: ((لكم الجنة)) قالوا: ربح البيع.
وكانت هذه البيعة في السنة الثالثة عشر من النبوة، في أوسط أيام التشريق على ما جزم به جماعة.
وقال عبد بن حميد في "مسنده": حدثني ابن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل العقبة يوم الأضحى ونحن سبعون رجلا، قال عقبة: إني لأصغرهم سنا، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أوجزوا في الخطبة فإني أخاف عليكم كفار قريش))، قال: قلنا: يا رسول الله، سلنا لنفسك، وسلنا لربك، وسلنا لأصحابك، وأخبرنا ما الثواب على الله وعليك؟
قال: ((أسألكم لربي أن تؤمنوا بالله ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم أن تطيعوني أهدكم سبيل الرشاد، وأسألكم لي ولأصحابي أن تواسونا في ذات أيديكم، وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، فإذا فعلتم ذلك فلكم على الله الجنة وعلي)).
قال: فمددنا أيدينا فبايعناه صلى الله عليه وسلم.
#237#
$[صياح إبليس بأهل العقبة]$
وقال أبو سهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان: حدثنا أبو يحيى يعني: -عبد الكريم بن الهيثم – حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: بلغنا أن الأنصار وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجة التي خرج بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول مهاجرا إلى المدينة، فوافق تلك الحجة سبعون رجلا قد اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب الذي عنده عقبة منى، فانتقب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم اثني عشر نقيبا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عاهدهم على نصر الإسلام: ((قولوا)).
[فقالوا]: بل أنت يا رسول الله فقل، فما قلت فقد وجب علينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أنتم قولوا)).
[فقالوا]: فلك عهد الله علينا أن لا نكذبك ولا نخذلك ولا نعصيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد رضيت)).
فخرج الشيطان تلك الليلة من تعاهدهم في الإسلام فصاح في أهل منى فقال: قد اجتمع الصباة في شعب العقبة، فثارت قريش إلى عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان عظيم يثرب من الأوس والخزرج قبل
#238#
الإسلام، فقالوا له: ما كنا نخشى أن نؤتى من قبلك، قد اجتمع قومك فخلوا بصاحبنا، يريدون أن يستخرجوه من بين أظهرنا، فقال لهم ابن أبي ابن سلول - وكان جاهلا بخبر المسلمين يكتمونه أخبارهم؛ لشدة كفره: كفيتكم ما ورائي ما كان من شيء، فانصرف كفار قريش، وانتهوا إلى ذلك من قول عبد الله بن أبي ابن سلول، وفي الأنصار ليلتئذ البراء بن معرور الأنصاري ثم من بني سلمة، والبراء أول من استقبل القبلة حيا، وأول من أمر بقبره أن يدفن عليها ميتا .. وذكر بقيته، وقد تقدم.
وفي رواية ابن إسحاق، عن معبد بن كعب بن مالك، قال: فحدثني في حديثه عن أخيه عبيد الله بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك، [قال]: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب – والجباجب: المنازل – هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يقول عدو الله؟ هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، اسمع،
#239#
أي عدو الله أما والله لأفرغن لك)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارفضوا إلى رحالكم)) فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنملين على أهل منى بأسيافنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم)).
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج [إنا]، قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه، قال: وصدقوا، لم يعلموا وبعضنا ينظر إلى بعض.
قال ابن إسحاق: وحدثني (عبد الله بن أبي بكر، أنهم أتوا) عبد الله بن أبي ابن سلول، فقال مثلما ذكر كعب من القول، فقال: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفقوا علي بمثل هذا، وما علمته
#240#
كان. قال: فانصرفوا عنه، ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، وخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحلة، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير.
قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليهم نفر من قريش فيهم رجل وضيء أبيض شعشاع حلو من الرجال.
قال: قلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، قال: فلما دنا مني لكمني لكمة شديدة.
قال: فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا خير.
قال: والله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أومأ إلي رجل [ممن] معهم، فقال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟
قال: قلت بلي والله، لقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
#241#
قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما.
قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما بالمسجد عند الكعبة فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح وإنه ليهتف بكما، ويذكر أن بينكما وبينه جوار.
قالا: ومن هو؟
قال: سعد بن عبادة.
قالا: صدق، والله إن كان ليجير لنا تجارتنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده.
قال: فجاءا فحملا سعدا من أيديهم فانطلق، وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي.
#242#
$[أمر عمرو بن الجموح وإسلامه]$
قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن غنم بن كعب بن سلمة، وكان ابنه معاذ بن عمرو شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة وشريفا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يقال له: مناة – كما كانت الأشراف يصنعون – يتخذه إلها يعظمه ويطهره، فلما أسلم فتيان بني سلمة – معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو – في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة – كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة – وفيها عذر الناس – منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو ويلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه؟ فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، وفعلا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من
#243#
حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعقله عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى عمرو عدوا عليه فألقوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة – فيها عذر من عذر الناس – وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان فيه، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم – يرحمه الله – وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه [ذلك] وما أبصر من أمره وشكر الله الذي أنقذه مما فيه من العمى والضلالة، فقال:
والله لو كنت إلها لم تكن
أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلها مستدن
الآن فتشناك عن سوء الغبن
#244#
الحمد لله العلي ذي المنن
الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذي أنقذني من قبل أن
أكون في ظلمه قبر مرتهن
#245#
$[هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى المدينة وامرأة أبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه]$
وبعد انصراف أهل العقبة من مكة إلى المدينة واستقرارهم بها، أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، وذلك بعد أن أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، كما ذكره ابن إسحاق وغيره، فخرج الناس أرسالا يتبع بعضهم بأموالهم وذراريهم وأطفالهم، وكان أولهم خروجا أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد هاجر قبل بيعة أصحاب العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة.
قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس – يعني ابن بكير – عن ابن إسحاق، قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما
#246#
أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيرا له وحملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال من بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، رأيت صاحبتنا هذه على ما تترك، تسير بها في البلاد، فنزعوا خطام البعير من يده، وأخذوه من يده.
وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها، إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني.
قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبها، حتى مر بي رجل من بني عمي من بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: أما تحرجون من هذه المسكينة! فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لي: الحقي بأهلك أو بزوجك إن شئت، ورد علي بنو عبد الأسد عند ذلك ابني.
فرحلت بعيري ثم أخذت بني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن
#247#
أبي طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: أين يا بنت أبي أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا والله، إلا الله وبني هذا، قال: والله ما لك من منزل.
فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلا من العرب أراه كان أكرم منه، إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم تأخر عني حتى إذا نزلت دنا إلى البعير فحط عنه، ثم قيده في الشجر، ثم تنحى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه، ثم استأخر عني، فقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ينزل، فلم يزل يصنع ذلك حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية – وكان أبو سلمة نازلا بها - فادخلها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة، وكانت تقول: ما أعلم أهل بيت أصابهم في الإسلام ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
قلت: كان عثمان يومئذ مشركا، ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.
وقال يونس بن بكير أيضا: عن ابن إسحاق قال: وكان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبيد الله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، وعبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن
#248#
صبرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد حليف بني أمية بن عبد شمس احتمل بأهله وأخيه عبيد الله بن جحش وهو أبو أحمد، وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان أبو أحمد شاعرا.. وذكر بقيته، وفيه قال: ثم قدم المهاجرون أرسالا.
#249#
$[هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه]$
وقال قيس بن محمد البصري: حدثنا يحيى بن عبد الله، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما منا رجل هاجر إلا مستخفيا ما خلا عمر رضي الله عنه فلما أراد الهجرة خرج من منزله ولبس لأمته، ثم أتى الكعبة، فطاف بها أسبوعا، ثم أتى المقام فصلى خلفه ركعتين، وخلق قريش ينظرون إليه، فلما سلم قام إليهم فقال: إني قد أرى ما بهذه الوجوه من الخزي فزادها الله عز وجل خزيا، أنا مهاجر إلى الله ورسوله، فمن أراد أن يتبعني فليتبعني إذا قطعت بكم الوادي، فوالله لأيتمن ولده ولأرملن نساءه، فما تبعه أحد.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: قال البراء: كان أول من قدم علينا رجل من المهاجرين يقال له: مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار بن قصي، فقلنا له: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو مكانه، وأصحابه على أثري، ثم أتانا بعده عمرو بن أم مكتوم الأعمى أحد بني فهر، فقلت له: ما فعل من وراءك: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ قال: هم على أثري، ثم أتانا بعده عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وعبد الله بن مسعود، ثم أتانا بعدهم عمر بن الخطاب
#250#
[رضي الله عنه] في عشرين [رضي الله عنهم]، ثم أتانا بعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه معه.
وخرجه مسلم في "الصحيح".
ورواه شعبة عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب.
وقال عبد العز بن محمد الدراوردي: عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة، عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة وكان يؤمهم سالم؛ لأنه كان أكثرهم قرآنا.
"العصبة": بضم العين المهملة وإسكان الصاد المهملة على الصحيح، وحكى ابن الأثير عن بعضهم الفتح فيهما.
وضبطه بعض من أدركته بالفتح مع سكون الصاد ولم أره لأحد من أهل اللغة، والعصبة - فبما ذكره ابن الأثير -: موضع بالمدينة عند قباء.
وصح من حديث شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، وكانا
#251#
يقرئان الناس، فقدم بلال، وسعد، وعمار بن ياسر، ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ... وذكر الحديث.
#252#
$[أمر عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص]$
كان من هؤلاء العشرين عياش بن أبي ربيعة المخزومي رضي الله عنه:
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فحدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اجتمعنا للهجرة اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا: الميعاد بيننا التناضب من أضاة بني غفار، فمن أصبح منكم لم يأتها فقد حبس فليمض صاحباه فأصبحت عندها أنا وعياش ابن أبي ربيعة، وحبس هشام وفتن فافتتن، وقدمنا المدينة فكنا نقول: ما الله بقابل من هؤلاء توبة، قوم عرفوا الله وآمنوا به، وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا عن ذلك، لبلاء أصابهم من الدنيا، فكانوا يقولونه لأنفسهم، فأنزل الله عز وجل فيهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} الآية. قال عمر: فكتبتها بيدي كتابا، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاص، فقال هشام: فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى، فجعلت أصعد بها وأصوب لأفهمها،
#253#
فقلت: الله هم فهمنيها، فعرفت أنها نزلت فينا لما كنا تقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل هشام شهيدا بأجنادين في ولاية أبي بكر رضي الله عنهما.
وروي أن عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه لما هاجر إلى المدينة خرج أبو جهل والحارث بن هشام -وكان عياش أخاهما لأمهما أسماء بنت مخربة – فقدما المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالا لعياش بن أبي ربيعة: إن أمك قد نذرت أن لا يظلها ظل ولا يمس رأسها دهن حتى تراك، فقال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه]: والله إن يريدانك إلا على دينك، ولو قد وجدت أمك حر مكة استظلت، ولو قد آذاها القمل لقد امتشطت، فقال: إن لي بمكة مالا لعلي آخذه،، فقلت له: لك نصف مالي ولا ترجع إلى القوم، فأبى إلا الرجوع، فقلت له: خذ هذه الناقة فإنها ناقة ذلول ناجية فالزم ظهرها، فإن أرابك القوم بشيء فانجه، فخرجوا حتى إذا أتوا قريبا من مكة قال له أبو جهل: يا أخي، لقد شق علي بعيري فأعقبني على ناقتك فإنها أوطأ من بعيري، فنزلا فلما وقعا إلى الأرض أوثقاه وربطاه ودخلا به مكة وقالوا: هكذا
#254#
يا أهل مكة فافعلوا بسفهائكم، ثم فتن فافتتن. قاله ابن إسحاق.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: ((من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؟)).
فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟
قالت: أريد هذين المحبوسين – تعنيهما.
فتبعها حتى عرف موضعهما، وكان محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه: ذو المروة لذلك، ثم حملهما على بعيره وساق بها فعثر فدميت أصبعه، فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
#255#
&[هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنهُ]&
ولما هاجر المسلمون [إلى المدينة] بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما:
قال عبد الله بن المبارك: حدثنا مسعر بن كدام وشعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل [عليه السلام]: ((من يهاجر معي؟)) قال: أبو بكر الصديق.
ولهذا والله أعلم لما هم أبو بكر رضي الله عنه بالهجرة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((على رسلك))، فأقام حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه.
قال أبو عبد الله البخاري في أول "تاريخه الأوسط" وفي "تاريخه الصغير": سمعت أبا محمد الكوفي، يقول: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر سمعوا صوتا بمكة يقول:
#256#
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... من الأمن لا يخشى خلاف المخالف
قال: فقالت قريش: لو علمنا من السعدان لفعلنا وفعلنا، [قال] فسمعوا من القابلة وهو يقول:
فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدي وتمنيا ... على الله في الفردوس زلفة عارف
قال البخاري: سعد الأوس: يعني سعد بن معاذ، وسعد الخزرجين: سعد بن عبادة. انتهى.
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه"، فقال: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، حدثنا عبد الحميد بن أبي عبس بن محمد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:
إن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فلما أصحوا قال أبو سفيان: من السعدان: سعد بكر، سعد تميم،
#257
سعد هذيم؟ فلما كانت الليلة الثانية سمعوه [يقول]:
يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى تمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.
تابعه علي بن حرب وغيره عن هشام.
وحدث به أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف": عن أبيه، عن هشام بن محمد، أخبرنا عبد الحميد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، عن جده [قال]: سمعت قريش صائحا [يصيح] على أبي قبيس .. فذكره بنحوه، زاد فيه عن جده.
#258#
ورواه أحمد بن محمد الجوهري، فقال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، حدثنا علي بن الصباح بن الفرات، وابن أبي حسان، قالا: حدثنا هشام بن محمد الكلبي عن عبد الحميد بن أبي عبس، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: سمعت قريش مناديا على أبي قبيس [وهو يقول]:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف
وذكره.
وفي إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد خروج المهاجرين إلى المدينة كان لا يخفى عليه بمكة أمر يكون بالمدينة إلا بلغه وأخبر به: قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس، عن ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كانت حواء – ابنه زيد بن السكن عند قيس بن الخطيم بالمدينة، وكانت أمها عقرب ابنه معاذ أخت سعد بن معاذ فأسلمت حواء فحسن إسلامها، وكان زوجها قيس على
#259#
كفره، فكان يدخل عليها وهي تصلي، فيأخذ بقنتها فيضعها على رأسها، ويقول: إنك لتدينين دينا ما ندري ما هو.
فتقول: ويلك، مهلا فإني أخاف عليك، إنك والله ما أراك منتهيا حتى يصيبك الله منه بشر.
وكان لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أمر يكون بالمدينة إلا بلغه وأخبر به.
قال قيس: فقدمت مكة في رهط من مشركي قومنا حجاجا فبينا نحن إذ جاء رجل يسأل عني فدل علي فأتاني، فقال: ((أنت قيس بن الخطيم؟))
قلت: نعم.
قال: ((زوج حواء؟)).
قلت: نعم.
قال: ((فما لك تعبث بامرأتك وتؤذيها على دينها)).
فقلت: إني لأفعل.
فقال: ((لا تفعل ذلك بها دعها لي)).
قلت: نعم.
قال: فلما قدم قيس المدينة قال لامرأته: يا حواء، هل علمت أن الرجل الذي تدينين دينه أتاني، فسألني أن أكف عنك وأن أدعك له؟
قلت: قد فعلت فشأنك بدينك فوالله ما رأيته إلا حسن الوجه حسن الهيئة.
#260#
$اجتماع قريش في دار الندوة للتشاور ونوم علي رضي الله عنه في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه مهاجرا ونزول: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية$
ولما رأى المشركون ما صنع المسلمون من الهجرة وعلموا أن المدينة دار منعة، وأن القوم الذين لجأ المسلمون إليهم أهل شدة وبأس، خافوا من خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فيشتد أمرهم به تآمروا في أمره أي شيء يفعلون به.
قال عبد الله بن لهيعة: عن أبي الأسود، عن عروة قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وأن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإما أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه, فأخبره الله بمكرهم في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من تحت الليل قبل الغار بثور, وعمد علي فرقد على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يواري عنه العيون.
#261#
وقال أبو عبد الله محمد بن عائذ في "مغازيه": أخبرني محمد بن شعيب, حدثنا عثمان بن عطاء, عن أبيه، عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صدر الحاج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر, ثم إن مشركي قريش لما علموا أن الله عز وجل قد جعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مأوى ومنعة، وبلغهم إسلام الأنصار, أجمعوا أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلوه, أو يسجنوه, أو يخرجوه بعد ما يوثقونه, فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بمكرهم بقوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} حتى أتم الآية, وبلغ [ذلك] رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهار فخرج إلى الغار, ورقد علي رضي الله عنه على فراشه.
فسأل أبو بكر علياً رضي الله عنهما فأخبره بمذهبه فخرج [لطلبه] حتى أصبحا بالغار, وغدا المشركون فإذا علي رضي الله عنه على فراشه، فأخبرهم أنه قد هرب منهم, فبعثوا في طلبه إلى أهل المياه, وأتوا ثوراً – الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فسمعا الأصوات وأشفق أبي بكر رضي الله عنه وألقى الله عليه الهم والحزن, فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحزن إن الله معنا)), فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم, وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عامر بن فهيرة – يعني ابن آد – وكان أمينا مؤتمناً, وأتاهما به, ومكثا في الغار يومين وليلة, فأتاهم علي بالرواحل والدليل من آخر الليلتين سوى التي خرجا فيها.
#262#
ورواه الأموي في "مغازيه": عن ابن عباس بنحوه.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر, أخبرني عثمان الجزري: أن مقسماً مولى ابن عباس أخبره, عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} قال: تشاورت قريش ليلة بمكة.. فذكر القصة بنحوها, وفيها: فمروا – أي الكفار – بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فمكث فيه ثلاث ليال.
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه": فحدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة, حدثني محمد بن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج, عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال – يعني: ابن إسحاق-: وحدثني الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس. والحسن بن عمارة, عن الحكم بن عتيبة, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوا في اليوم الذي اتعدوا فيه, وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة, فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بت له فوقف على باب الدار, فلما رأوه واقفاً على
#263#
بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون, وعسى أن لا يعدمكم منه رأي ونصح, قالوا: أجل, فأدخل, [فدخل] معهم, وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة, من بني عبد شمس: شيبة وعتبة ابنا ربيعة, وأبو سفيان بن حرب، ومن نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي, وجبير بن مطعم، والحارث بن عامر بن نوفل, ومن بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة, ومن بني أسد بن عبد العزى: أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن المطلب, وحكيم بن حزام, ومن بني مخزوم: أبو جهل بن هشام, ومن بني سهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج, ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن كان منهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان, وما قد رأيتم, وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً.
قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله زهير والنابغة, ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه منه ما أصابهم.
قال: فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي, والله لو حبستموه كما تقولون لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه
#264#
دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فيتنزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم, وهذا ما هو لكم برأي, فانظروا في غيره, ثم تشاوروا.
فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا, فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي إلى أين يذهب ولا حيث وقع، غاب عنا أذاه, وفرغنا منه، وأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه, وحلاوة منطقه, وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به, والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه [حتى] يتابعوه عليه، [ثم يسير بهم حتى يطأكم بهم, فيأخذ أمركم من أيديكم], ثم يفعل ما أراد, أديروا فيه رأياً غير هذا.
قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟
فقال: أرى أن تأخذوا من كل قبلة فتى شاباً جلداً نسيباً وسيطاً فينا, ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً, ثم تعمدون إليه, ثم يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً,
#265#
ورضوا منا بالعقل فعلقناه لهم.
قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل, هذا الرأي لا رأي لكم غيره, فتفرق القوم على ذلك, وهم مجمعون له, فأتى جبريل [عليه السلام] رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، قال: فلما كانت العتمة من الليل اجتمعوا على بابه, ثم ترصدوه متى ينام فيثبون عليه, فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((نم على فراشي, واتشح ببردي الحضرمي فنم فيه, فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم)) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
قال ابن جرير: زاد بعضهم في هذه القصة في هذا الموضع وقال له: ((إن أتاك ابن أبي قحافة فأخبره أني توجهت إلى ثور فمره فليلحق بي، وأرسل إلي بطعام, واستأجر لي دليلاً يدلني على طريق المدينة, واشتر لي راحلة)).
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعمى الله أبصار الذين [كفروا – و] كانوا يرصدونه – عنه, وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#266#
قال: فحدثنا ابن حميد, حدثنا سلمة, حدثني محمد بن إسحاق, حدثني يزيد بن زياد, عن محمد بن كعب القرظي, قال: اجتمعوا له وفيهم أبو جهل ابن هشام فقالوا وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعل لكم جنان كجنان الأردن, وإن لم تفعلوا كان لكم منه ذبح, ثم بعثتم بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب, ثم قال: ((نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم)), وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه, وجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات [من]: {يس . والقرءان الحكيم . إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . علي صراط مستقيم) إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}
حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات, فلم يبق منهم رجل إلا وضع على رأسه تراباً, ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم, فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا محمداً, قال: خيبكم الله, قد والله خرج عليكم محمد صلى الله عليه وسلم, ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً, وانطلق لحاجته أفما
#267#
ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه, فإذا عليه تراب, ثم جعلوا يطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده, فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي من الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا، وكان مما نزل من القرآن في ذلك اليوم، وما كانوا اجتمعوا له: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وقول الله عز وجل: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون . قل تربصوا فإني معكم من المتربصين}.
#268#
$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه الغار]$
وروى الواقدي, عن أشياخه: أن الذين كانوا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار: أبو جهل, والحكم بن أبي العاص, وعقبة بن أبي معيط, والنضر بن الحارث, وأمية بن خلف, وابن الغيطلة, وزمعة بن الأسود, وطعيمة بن عدي, وأبو لهب, وأبي بن خلف, ونبيه ومنبه ابنا الحجاج.
قال ابن جرير: وقد زعم بعضهم أن أبا بكر أتى علياً رضي الله عنهما فسأله عن نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه لحق بالغار من ثور, وقال: إن كان [لك] فيه حاجة فالحقه, فخرج أبو بكر مسرعاً فلحق نبي الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم جرس أبي بكر في ظلمة الليل, فحسبه من المشركين, فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي, فانقطع قبال نعله فعلق إبهامه حجر فكثر دمها, وأسرع السعي, فخاف أبو بكر رضي الله عنه أن يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع صوته وتكلم, فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام حتى أتاه, فانطلقا ورجل رسول الله تستن دماً حتى انتهى إلى الغار مع الصبح, فدخلاه, وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا الدار وقام علي عن فراشه فلما دنوا منه عرفوه, فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا أدري أورقيبا كنت عليه، أمرتموه بالخروج فخرج,
#269#
فانتهروه وضربوه، وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ثم تركوه, ونجى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم من مكرهم, وأنزل عليه في ذلك: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
وهذه القصة مشهورة معروفة متفق على معناها بين المحدثين والإخباريين والمفسرين, ذكرها في تفسير الآية: يحيى بن زياد الفراء، وأبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج وغيرهما.
ووقع في كتاب "جمهرة النسب" لأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي: أن إبليس أتى أهل دار الندوة في صورة سراقة بن مالك؛ لأن أبا المنذر ابن الكلبي ذكر بعد نسب سراقة أنه الذي كان إبليس يأتي المشركين في صورته وعلى لسانه يقول إبليس يوم اجتمعت قريش في دار الندوة للشورى, فأشار أبو جعل برأي حمده إبليس فقال إبليس:
الرأي رأيان رأي ليس نعرفه ... هار ورأي كنصل السيف معروف
#270#
يكون أوله عزاً ومكرمة ... يوماً وآخره مجد وتشريف.
ومما يروى أن عليا رضي الله عنه قال في وقايته النبي صلى الله عليه وسلم بنومه على فراشه ليلة الغار:
وقيت بنفسي خير من وطئ الثري ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر
قال أبو بكر أحمد بن مروان بن محمد الدينوري: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي, حدثني الفرات بن السائب, عن ميمون بن مهران, عن ضبة بن محصن العنزي, قال: كان علينا أبو موسى الأشعري أميراً بالبصرة, فوجهني في بعثة إلى عمر بن الخطاب, فقدمت على عمر، فضربت عليه الباب، فخرج إلي, فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة بن محصن العنزي، قال:
#271#
فأدخلني منزله وقدم إلي طعاماً, فأكلت ثم ذكرت له أبا بكر الصديق رضي الله عنه فبكى، فقلت له: أنت خير من أبي بكر, فازداد بكاء لذلك, ثم قال وهو يبكي: والله ليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر, هل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين.
فال: أما الليلة فإنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة خرج ليلاً فاتبعه أبو بكر رضي الله عنه فجعل مرة يمشي أمامه, ومرة خلفه, ومرة عن يمينه, ومرة عن يساره, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعالك؟!)) فقال: يا رسول الله, أذكر الرصد فأكون أمامك, وأذكر الطلب فأكون خلفك, ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك, لا آمن عليك.
قال: فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله كله حتى أدغل أطراف أصابعه, فلما رآه أبو بكر حمله على عاتقه، وجعل يشتد به حتى أتى به فم الغار فأنزله, ثم قال: والذي بعثك بالحق (نبياً) لا تدخله حتى أدخله أنا قبلك, فإن يكن فيه شيء نزل بي دونك, (قال: فدخل أبو بكر فلم ير شيئاً, فقال له: أجلس, فإن في الغار خرقاً أسده, وكان عليه رداء فمزقه، وجعل) يسد به خرقاً خرقاً, فبقي حجران فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم فحمله فأدخله الغار، ثم ألقم قدميه الحجرين, فجعل الأفاعي والحيات يضربنه ويلسعنه إلى الصباح و[جعل] هو يتقلى من شدة الألم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم بذلك ويقول له: ((يا
#272#
أبا بكر لا تحزن إن الله معنا)) فأنزل الله تعالى [عليه] وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم السكينة, والطمأنينة لأبي بكر رضي الله عنه, فهذه ليلته.
وأما يومه: فلما توفي النبي صل الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي, وقال بعضهم: نزكي ولا نصلي، فأتيته لا آلوه نصحاُ, فقلت: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفق بالناس, وقال غيري ذلك, فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي, ووالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه, فقاتل وقاتلنا معه, وكان والله رشيداً [شديد] الأمر, فهذا يومه.
وحدث به أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد الفقيه, عن أحمد ابن جعفر, عن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي, عن الفرات بنحوه.
كذا قال: عن أحمد بن عبد الرحمن, والصواب: عبد الرحمن بن إبراهيم دون ذكر "أحمد بن", كما تقدم, والله أعلم.
وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" فقال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس, حدثنا السري بن يحيى البصري, عن ابن سيرين, قال: كان رجال
#273#
على عهد عمر رضي الله عنه كأنهم فضلوا عمر على أبي بكر رضي الله عنهما فقال عمر: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر, وليوم من أبي بكر خير من آل عمر لقد انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الغار ومعه أبو بكر رضي الله عنه.
وذكر الحديث نحو ما تقدم.
ورواه أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه, أخبرنا موسى بن الحسن بن عباد، حدثنا عفان بن مسلم, حدثنا السري بن يحيى ... فذكره.
وجاء عن ابن أبي مليكة من قوله.
#274#
$[وصف الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه]$
والغار المذكور هو بجبل ثور أمحل وهو مطل على مكة، وهو على مقدار ثلاثة أميال من مكة في الجهة اليمينية منها، وهو صعب المرتقى جدا.
وطول الغار: فيما ذكره أبو الحسين محمد بن جبير الغرناطي في "التذكرة" ثمانية عشر شبرا، وسعته أحد عشر شبرا، وطول فمه الضيق خمسة أشبار، وسعته وارتفاعه عن الأرض مقدار شبر في الوسط منه وفي جانبيه ثلثا شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع مدخله خمسة أشبار أيضا؛ لأن له بابين حسبما ذكرناه.
[قلت]: الذي ذكره في ذلك قوله "فمنها" أي: من الآيات البينات أنه صلى الله عليه وسلم دخل مع صاحبه على شق فيه سعته ثلثا شبر وطوله ذراع، ثم حكى قصة مجيء الكفار وانصرافهم، ثم [إنه] قال: فقال الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، لو ولجوا علينا من فم الغار ما كنا نصنع؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: ((لو ولجوا علينا منه كنا نخرج من هنا)) وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر من الغار ولم يكن فيه شق فانفتح للحين فيه باب بقدرة الله تعالى، وهو سبحانه قدير على ما يشاء.
#275#
ثم قال ابن جبير: وعلى مقدمة من هذا الغار في الجبل بعينه عمود منقطع من الجبل قد قام شبه الذراع المرتفعة بمقدار نصف القامة، وانبسط له في أعلاه شبة الكف خارجا عن الذراع كأنه القبة المبسوطة بقدرة الله عز وجل يستظل تحتها نحو العشرين رجلا، وتسمى قبة جبريل عليه السلام. انتهى.
وهذا الباب الذي انفتح في الصخر بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ذكره أبو محمد ابن حزم في "أعلام النبوة" من "التاريخ"، فقال: واستتر عليه الصلاة والسلام في غار صغير، وقد اتبعته قريش بقائف فطمس الله عليهم أثره، وفتح له في الصخرة الصماء بابا باقيا إلى اليوم، ولو كان هنالك يومئذ لم يخف على أحد منهم.
وقال أبو نعيم الأصبهاني: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم [الغار] مال برأسه واستروح إلى حجر من جبل أصم فلان له حتى أثر فيه بذراعه وساعده وذلك مشهور يقصده الحجاج ويزورونه.
وقال القاضي أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد: حدثنا عبد الرحمن
#276#
ابن صالح، حدثنا يونس بن بكير، عن الحسن بن عمارة، عن سعيد بن عمرو بن سعد بن هبيرة المخزومي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: [قال] لي أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نريد الغار، فلما صعدنا في الجبل تفطرت رجلا رسول الله دما، وأما رجلا فكانتا كأنهما صفاة، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعوذ من الشقاء ما تعوذت أنت.
روى يونس بن بكير، عن عنبسة بن الأزهر، عن أبي الأسود، عن أبيه، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، قال: نكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى الغار، فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وأصل الحديث في "الصحيحين" من رواية الأسود بن قيس، عن جندب.
وقد جاء من طريق عن الأسود بن عامر شاذان، حدثنا إسرائيل، عن الأسود عن جندب رضي الله عنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار فأصاب يده حجر فقال:
إن أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
ورويناه من حديث يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان، قال:
#277#
لما انطلق أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، قال له أبو بكر: لا تدخل يا رسول الله حتى أستبرئه، قال: فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعه، وهو يقول:
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وروى أبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت في "مسنده" فقال: حدثنا الخليل بن عبد الله الجبلي، أخبرنا ظفر بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرحمن بن قيس، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كانت ليلة الغار قال أبو بكر: يا رسول الله، ائذن لي فأدخل قبلك، فإن كانت وجبة أو قال: حية، أو شيء كانت بي دونك، فأذن له، فدخل، فجعل يلتمس الغار بيده ـ فلا يمر بجحر إلا شق من ثوبه فألقمه الجحر، فلما أتى على الثوب كله بقي جحر واحد، فألقمه عقبه، ثم قال: ادخل يا رسول الله، فلما أضاء لهما الصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل ثوبك)) فأخبره بما صنع، فرفع يده وقال: ((اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة)) فأوحى الله إليه: أن قد استجيب لك.
إسناده واه من قبل أبي معاوية عبد الرحمن بن قيس الضبي البصري الزاعفراني: رمي بالكذب وعلي بن زيد: فيه لين.
#278#
وقال أبو نعيم الأصبهاني في "الحلية": حدثنا محمد بن علي بن سلم العقيلي، ومحمد بن غالب، قالا: حدثنا محمد بن سهل البغدادي، حدثنا عثمان، حدثنا شيخ من أهل الكوفة يكنى أبا زيد حماد بن موسى التيمي في مجلس أبي عاصم النبيل، حدثنا مسعر بن كدام، حدثنا قتادة: عن أنس قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار أراد أن يدخله فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أرفق فداك أبي أمي يا رسول الله، أدخل قبلك.. وذكر القصة بنحوها.
وجاءت من حديث عبد الرحمن بن محمد بن سلام، فقال: حدثنا عبد الرحمن بن قيس الضبي، حدثني هلال بن عبد الرحمن، حدثنا أبو معاذ عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس رضي الله عنه.. نحوه.
تابعه أبو معاوية عن هلال كذلك.
ورواه سلمة بن شبيب النيسابوري، عن عبد الرحمن [بن قيس البصري، عن هلال بن عبد الرحمن]، عن سعيد بن المسيب، عن عطاء بن أبي ميمونة [به].
#279#
$لطيف صنع الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في الغار من نسج العنكبوت وتعشيش الحمامتين وإنبات الشجرة وغير ذلك$
وقال محمد بن الحسين بن مكرم: حدثنا أبو حفص، حدثنا عون بن عمرو القيسي، حدثني أبو مصعب المكي، قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم فسمعتهم يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله عز وجل شجرة، فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم تستره، وأن الله بعث العنكبوت، فنسجت ما بينهما فسترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر حمامتين وحشيتين، فأقبلتا تذفان حتى وقفنا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبل فتيان من قريش من كل بطن منهم، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على قدر مائتي ذراع، قال الدليل سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي: هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله، فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة حتى إذا أصبحوا قال: انظروا في الغار فاستقدم القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم قدر خمسين ذراعا فإذا الحمامتان فرجع، فقالوا: قال ما ردك؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم
#280#
الغار، فعرفت أنه ليس فيه أحد.
ورواه خيثمة بن سليمان في كتابه "فضائل الصحابة" رضي الله عنهم فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الدورقي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عون بن عمرو القيسي أخو رباح القيسي، حدثنا أبو مصعب المكي.. فذكره بنحوه.
وفي لفظ: فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال – يعني: سراقة - فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه بهما – أي: بالحمامتين -، فدعا لهن [النبي] صلى الله عليه وسلم وسمت عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم.
حدث به ابن سعد في "الطبقات" بطوله عن مسلم بن إبراهيم.
وذكر السهيلي: أن حمام الحرم من نسل حمامتي الغار. انتهى.
وقد جاء أن الشجرة التي نبتت على الغار هي الراءة:
#281#
علق القاسم بن ثابت في "الدلائل" بغير إسناد فقال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما كان في الغار: أمر الله عز وجل راءة، فنبتت على باب الغار.
قال الأصمعي: الراءة وجمعها راءات، وهي من نبات السهل.
وقال غير القاسم بن ثابت: هي شجرة لها ثمر أبيض من شجر العضاه.
وقيل: هي من أعلاث الشجر، وتكون مثل قامة الإنسان، لها خيطان، وزهر أبيض يحشى منه المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن.
وأنشدوا:
ترى ودك الشريف على لحاهم ... كمثل الراء لبده الصقيع
وفي رواية عن سراقة بن مالك رضي الله عنه أنه قال: وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار، فقال بعضهم: إنه عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد فانصرفوا.
#282#
والقائل هذا هو أمية بن خلف.
وقد جاء أن كرز بن علقمة بن هلال هو الذي قفا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه حين خرجا من مكة، فانتهى إلى باب الغار الذي هما فيه، فقال: هاهنا انقطع الأثر، فرأوا على باب الغار نسج العنكبوت، فانصرفوا، ونظر كرز إلى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذه القدم من تلك القدم التي في المقام – يعني قدم إبراهيم - عليه السلام.
قاله ابن سعد في الطبقات.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا في الغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.
وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه": عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت
#283#
فنسجت بالباب))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقتلوهن)).
وقد نظم بعضهم [معنى ذلك فقال]:
وخافت عليك العنكبوت من العدا ... فأرخت بباب الغار مكرا بهم سترا
ووافقها في الذب عنك حمائم ... أتين سراعا فابتنين به وكرا
فلما أتى الكفار طرن خديعة ... فحيا الحيا تلك الخديعة والمكرا
وثبت من حديث حبان بن هلال، وموسى بن إسماعيل واللفظ له، عن همام عن ثابت، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر رضي الله عنها قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: ((اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما)).
تابعه محمد بن سنان العوقي وعفان بن مسلم، عن همام، ولفظ العوقي: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)).
#284#
خرجاه في "الصحيحين" لهمام.
وقال أبو أحمد ابن عدي في كتابه "الكامل": حدثنا عبد الله بن أحمد الأنصاري بمصر، حدثنا محمد بن الوليد بن أبان، حدثنا شبابة، حدثنا أبو العطوف الجزري، عن الزهري:
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: ((هل قلت في أبي بكر [شيئا؟])) قال: نعم، قال: ((قل وأنا أسمع))، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: ((صدقت يا حسان هو كما قلت)).
وهذا الحديث مرسلا موصولا منكر، والبلاء فيه من أبي العطوف، قاله ابن عدي بعد أن ذكر للحديث طريقا مرسلة من رواية محمد بن عبيد الهمداني، حدثنا شبابة، حدثنا أبو العطوف الجزري، عن الزهري
#285#
مرسلا لم يذكر أنسا.
وجاء عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق [رضي الله عنه] أنه قال في مجلسه رجل: وايم الله ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من موطن إلا وعلي رضي الله عنه معه فيه، فقال القاسم: يا أخي لا تحلف، قال: هلم قال: بلى ما لا ترده قال الله عز وجل: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}
وقال محمد بن محمد الباغندي: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا علي بن مجاهد، عن أشعث بن إسحاق - يعني القمي - عن جعفر بن أبي المغيرة - يعني الخزاعي عن سعيد بن جبير:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} قال: على أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة عليه. وحكي عن علي نحوه.
#286#
وروي عن حبيب بن أبي ثابت في تفسير هذه الآية نحوه.
ورواه أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، عن عبد العزيز بن سياه.
عن حبيب من قوله.
وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام، فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها إلا أنها تشبه القدم التي في المقام.
ويروى أن أمية بن خلف - وقيل: عقبة بن أبي معيط - بال في الغار مستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سال بوله، قال أبو بكر: فقلت: يا رسول الله، ما أرى إلا وقد أبصرنا، [قال: ((لو أبصرنا] ما استقبلنا بعورته))، وقال أبو جهل حينئذ: أما والله إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ أبصارنا، وانصرفوا وانحدروا.
وقال محمد بن الحسن بن زبالة: حدثني علي بن عبد الحميد بن زياد بن صيفي عن صهيب، عن أبيه، عن جده، عن صهيب: أن المشركين لما طافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الغار وأدبروا قال: واصهيباه، ولا صهيب لي، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج بعث أبا بكر مرتين أو ثلاثا إلى صهيب فوجده يصلي.
فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: وجدته يصلي وكرهت أن أقطع عليه صلاته فقال: ((أصبت)).
وخرجا من ليلتهما فلما أصبحا خرج حتى أتى أم رومان – زوجة أبي بكر رضي الله عنه فقالت: ألا أراك هاهنا وقد خرج أخواك ووضعا لك شيئا من أزوادهما.
#287#
قال صهيب: فخرجت حتى دخلت على زوجتي فأخذت سيفي وجعبتي وقوسي حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأجده وأبا بكر جالسين.. وذكر الحديث.
#288#
$[مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار]$
كانت إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاث ليال:
وحدث أبو أسامة الكوفي: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان الذي يختلف بالطعام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار: عبد الله وعبد الرحمن ابنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وثبت عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش كبائت فيهم، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام،
#289#
ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفهما – حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه رجلا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا – والخريت: الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، وانطلق معها عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل.
هذا الدليل هو عبد الله بن الأريقط الليثي لم يعرف له إسلام.
وطريق الساحل الذي أخذ بهم أسفل من عسفان، ثم عارض بهما الطريق.
وقالوا [من القيلولة] يوم الثلاثاء عند أم معبد بقديد؛ لأنهم خرجوا من الغار ليلة الاثنين، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
#290#
$[حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لمكة]$
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف قبل هجرته بالحزورة، - وكانت سوقا بمكة فأدخلت في المسجد الحرام – فقال ما رواه الحميدي قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحزورة، فقال: ((والله إني لأعلم أنك خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)).
تفرد به الدراوردي، عن ابن أخي الزهري.
ورواه يعقوب بن سفيان في "تاريخه" وأبو الحسن علي بن محمد بن عيسى واللفظ له قالا: حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب، عن الزهري،
#291#
أخبرني أبو سلمة؛ أن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري، أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: (( إنك لخير أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)).
تابعه عقيل، ويونس، وعبيد الله بن أبي زياد، وعثمان التيمي، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن [أخي] الزهري، بنحوه.
والحديث في "جامع الترمذي"، و"سنن ابن ماجه"، و"تاريخ ابن
#292#
أبي خيثمة" من طريق الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن أبي سلمة كذلك.
وفي "سنن النسائي الكبرى": من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح، عن ابن شهاب به.
وهو في "صحيح ابن حبان".
وهو أحد الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها في "الصحيح".
وحدث به الواقدي، عن معمر وابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء .. فذكره.
#293#
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وحدث به النسائي، عن إبراهيم بن خالد، عن معمر كذلك.
تابعه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقال إبراهيم بن خالد الصنعاني: عن رباح وهو ابن زيد الصنعاني عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن بعضهم.
وقال زمعة بن صالح المكي: عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، عن الزهري، عن أبي سلمة، عمن أخبره.
#294#
ووقع في رواية ابن سعد، عن الواقدي، عن أشياخه، أن هذه المقالة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة.
وجاء عن سعيد بن سالم القداح، عن عثمان بن ساج، أخبرني محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عام الفتح على الحجون ثم قال: ((والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولو لم أخرج منك ما خرجت..)) وذكر بقيته.
خرجه أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن جده، عن سعيد بن سالم.
وحدث أيضا عن جده، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخرج من مكة: ((أما والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب البلاد إلى الله تعالى، وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) .. الحديث.
#295#
وهو في "جامع الترمذي" وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقال نصر بن عاصم: حدثنا الوليد، حدثنا طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك)).
وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وجاء الحديث أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ومن لفظه: ((ليس بلد أحب إلى الله عز وجل ولا إلي منها، ولكن قومي أخرجوني فخرجت، ولو لم يخرجوني لم أخرج)) وفي الحديث طول.
قال صاحبنا الحافظ الشريف أبو الطيب محمد بن أحمد الحسني قاضي مكة: وتوهم بعض من عاصرناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين هاجر، وليس كذلك؛ لأنه حين قال ذلك كان راكبا على راحلته بالحزورة، ولم يكن كذلك حين هاجر، قاله في كتابه "تحصيل المرام من تاريخ البلد الحرام".
#296#
وقد تقدم ما خرجه الأزرقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخرج من مكة .. الحديث.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي، فأسكني أحب البلاد إليك)) فأسكنه الله عز وجل المدينة.
وروي عن محمد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً} قال: {مدخل صدق}: المدينة، و{مخرج صدق}:
مكة، و{سُلْطَاناً نَّصِيراً} الأنصار.
#297#
$[تاريخ خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ومن الغار]$
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة لهلال ربيع الأول، ومن الغار ليلة الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الأول، وقيل في صفر، وكان سنه صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاثا وخمسين سنة على الصحيح، وقيل: خمس وخمسون سنة والله أعلم.
قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا ابن بكير، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج نبيكم صلى الله عليه وسلم من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وفتح مكة يوم الاثنين، ورفع الركن يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين.
تابعه جماعة منهم عمرو بن خالد وموسى بن داود، عن ابن لهيعة بنحوه، وتقدم.
#298#
$[من حديث الهجرة]$
وثبت عن النضر بن شميل، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن أبي بكر رضي الله عنه قال:
أخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلا فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، قال: ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع قد أقبل في غنمه يريد من الصخرة مثل الذي أردنا، فسألته لمن أنت يا غلام؟ فقال: أن لفلان.
فقلت له: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم.
قلت له: هل أنت حالب؟ قال: نعم، فاخذ شاة من غنمه.
فقلت له: انفض الضرع، قال: فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء وعليها خرقة قد رويتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصببت على اللبن حتى برد أسفله ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت، ثم ارتحلنا والطلب في أثرنا.
تابعه عثمان بن عمر، وغيره، عن إسرائيل.
وهو عند النضر، عن شعبة، عن أبي إسحاق.
#299#
تابعه غندر، عن شعبة.
وقال يحيى بن يحيى: أخبرنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، سمعت إيادا يحدث، عن قيس بن النعمان السكوني رضي الله عنه قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه [معه] يستخفيان بالغار، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه من اللبن، فقال: والله ما لي شاة تحلب غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، فما بقي لها لبن وقد امتحشت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ائتنا بها)) فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها بالبركة، ثم حلب، فسقى أبا بكر، ثم حلب آخر فسقى الأعرابي، ثم حلب آخر فشرب.
فقال العبد: بالله من أنت، (والله ما رأيت أحدا) مثلك قط؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتراك إذا أخبرتك تكتم علي))؟.
قال: فقال: نعم، قال: ((فإني محمد رسول الله)).
قال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: ((إنهم ليقولون ذلك)).
فقال: إني أشهد أنك لرسول الله، وأن ما جئت به لحق، وأنه ليس يفعل ما فعلت إلا نبي.
ثم قال: أتبعك؟ قال: ((لا، حتى تسمع أنا قد ظهرنا، فإذا بلغك ذاك فاخرج))، قال: فاتبعه بعدما خرج من الغار.
#300#
ورواه أبو الوليد الطيالسي من حديث قيس بن النعمان، قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يستخفيان، مرا بعبد ولم يذكر: "يستخفيان بالغار"، وذكر الحديث، وفيه قال: غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء وقد أخرجته، ولم يذكر فيه (قال: فاتبعه بعدما خرج من الغار).
وقال حجاج بن منهال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر عن عبد الله رضي [الله] عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وقد فر من المشركين وأنا أرعى غمنا لابن أبي معيط بجياد، فقال: ((يا غلام، عندك لبن تسقينا))؟ فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكم، فقال: ((عندك جذعة لم ينز عليها الفحل))؟ فقلت: نعم، فأتيته بها فمسح الضرع، فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر رضي الله عنه بصخرة منقعرة فحلب وشرب، وسقى أبا بكر رضي الله عنه وسقاني وقال للضرع: ((اقلص))، [فقلص]، ثم أتيته بعد ذلك، فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، أو من هذا القرآن، قال: ((إنك غلام معلم)) قال: فأخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد.
وحدث به أحمد بن حنبل في "مسنده": عن عفان، حدثنا حماد بن سلمة، فذكره.
#301#
وحدث به أبو داود الطيالسي في "مسنده": عن حماد، بنحوه.
تابعه أبو عوانة، عن عاصم نحوه.
ورواه أبو أيوب الأفريقي، عن عاصم مختصرا.
#302#
$[حديث نزول النبي صلى الله عليه وسلم بأم معبد وارتحاله عنها]$
وروينا عن ابن إسحاق قال: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت:
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر رضي الله عنه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة، فانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة، قالت: وقد ذهب بصره.
فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه.
قالت: فقلت كلا يا أبه، قد ترك لنا خيرا كثيرا، فأخذت أحجار فوضعتها في كوة في البيت كان أبي يضغ ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبه، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، والله ما ترك لنا شيئا، ولكتن أردن [أن] أسكن الشيخ بذلك.
وقال ابن إسحاق أيضا: وحدثت عن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنه قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر رضي الله عنه فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي.
#303#
قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا، ومكثنا ثلاث ليال لا ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل [من الجن] من أسفل مكة يغني بأبيات من الشعر غناء العرب، والناس يتبعونه يسمعون صوته ولا برونه حتى خرج من أعلى مكة [وهو] يقول:
جزي الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتائهم ... ومقعدهم للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.
وما ذكره ابن إسحاق عن أسماء حدث به أبو الحسين عمر بن
#304#
الحسن بن علي بن مالك الأشناني: أخبرنا يحيى بن إسماعيل، حدثنا جعفر بن علي، حدثنا سيف، عن هشام بن عروة: عن أسماء ابنة أبي بكر رضي الله عنها قالت: ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه فلبثنا أياما ثلاثة أو أربعة، أو خمس ليال لا ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، [وذكر نحو ما تقدم.
وزاد بعد قولها: وإن وجهه إلى المدينة، قالت: ورجع الطلب بنجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم] وعرف علي والعباس وبناته خبره وأن قد أنجاه الله عز وجل ممن يطلبه.
وفي الأبيات تصريح أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأم معبد واتحل عنها، وقصة ذلك مشهورة ولها طرق:
منها ما قال أحمد بن سنان أبو جعفر القطان الحافظ: حدثنا يعقوب الزهري، عن عبد الرحمن بن عقبة، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه مهاجرين مرا بخباء أم معبد فبعث النبي
#305#
صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا قال: ((ادع هذه الشاة)) ثم قال: ((يا غلام، هات فرقا)) فأرسلت أن لا لبن فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هات)) فمسح ظهرها، فاجترت ودرت، ثم حلب فشرب، وسقى أبا بكر وعامرا ومعبد بن أبي معبد ثم رد الشاة.
وقال أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني رحمه الله في "معجمه الكبير" حدثنا علي بن عبد العزيز وموسى بن هارون الحمال، وعلي بن سعيد الرازي، وزكريا بن يحيى الساجي، قالوا: حدثنا مكرم بن محرز بن مهدي، حدثنا أبي محرز بن مهدي، عن حزام بن هشام بن خالد، عن أبيه هشام بن حبيش، عن أبيه حبيش بن خالد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة رضي الله عنهما ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء الكعبة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا
#306#
من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد؟)) قالت: خلفها الجهد عن الغنم، قال: ((فهل بها من لبن؟)) قالت: هي أجهد من ذلك، قال: ((أتأذنين أن أحلبها))؟ قالت: بلي بأبي أنت وأمي، نعم إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله عز وجل ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيها ثجا حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أراضوا ثم حلب فيها ثانيا بعد بدو حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم تابعها وارتحلوا عنها.
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا، ما تساوكن هزلا ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب حيال ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من
#307#
بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق فصل لا هذر ولا نزر، كأن منطقة خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا بأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن من بين غصنين، وهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره محفود محسود، لا عابس ولا مفند، قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، فأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزي الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... عليه صريحا ضرة الشاة مزبد
#308#
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد
فلما سمع حسان بن ثابت رضي الله عنه بذلك شبب يجيب الهاتف وهو يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتد
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
#309#
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
تابعهم أحمد بن إسحاق بن صالح الوزان، وأحمد بن موسى الشطوي، وأحمد بن الهيثم البزار، وأحمد بن يونس بن المسيب الضبي، وأبو محمد الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني، وعبد الله بن الحسن الهاشمي، ومحمد بن أحمد بن النضر الأزدي، ومحمد بن إسحاق الثقفي، ومحمد بن جرير الطبري، ومحمد بن محمد بن عقبة، ومحمد بن موسى بن عيسى أبو جعفر الحلواني، ومحمد بن وضاح، وأبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة المشرفة"، وأبو حريش الكوفي بمصر، وغيرهم، عن أبي القاسم مكرم بن محرز بن مهدي بن عبد الرحمن بن عمرو بن خويلد بن خليف بن منقذ بن زمعة بن حزام بن حبيش الخزاعي.
#310#
هكذا نسبه الحافظ أبو بكر محمد بن هارون الروياني لما حدث عنه بهذا الحديث في كتابه "الغرر في الطوالات" وذكر أنه حدثه بقديد قال: "وكان يسكن قرب خيمتي أم معبد".
وممن رواه عن مكرم: يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه" مع تقدمه؛ لأنه مات سنة سبع وسبعين ومائتين.
وآخر من رواه عنه أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، ومات في آخر سنة ثمان وستين وتلاثمائة.
قال الحاكم أبو عبد الله: سمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن جعفر القطيعي يقول: حدثنا مكرم بن محرز عن آبائه، فذكر الحديث،
#311#
فقلت له: سمعته من مكرم؟ فقال: إي والله، حج بي أبي وأنا ابن سبع سنين فأدخلني على مكرم.
وممن رواه عن مكرم أيضا فيما قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو أحمد هارون بن يوسف بن زياد التاجر، حدثنا مكرم بن محرز بن المهدي نسبه إلى الأزد، ويكنى مكرم بأبي القاسم، حدثنا بهذا الحديث في سوق قديد: قال مكرم: حدثني أبي، عن حزام بن هشام بن حبيش صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيل البطحاء يوم الفتح، حزام المحدث، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد، وهو أخو عاتكة بنت خالد التي كنيتها أم معبد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين خرج من مكة، خرج منها مهاجرا إلى المدينة، وساق الحديث مطولا بنحوه.
وممن رواه عن مكرم – أيضا - أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن ثعلبة الخشني الأندلسي الحافظ، ثم قال في آخره بعد قوله:: "للمؤمنين بمرصد" قال لنا مكرم: حدثنا يحيى بن قرة الخزاعي، ثم الكعبي، قال:
#312#
لما هتف الهائف بمكة سمع به كل بيت كان بمكة من المشركين، فلما أصبحوا اجتمعوا فقالوا: أسمعتم ما كان البارحة؟ فقالوا: نعم، قالوا: فأين خيمتا أم معبد التي نزل بها؟ قالوا: على طريق الشام من حيث تأتيكم الميرة، قالوا: فاطلبوه فردوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب، فخرجت منهم سرية في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أن نزلوا بأم معبد وكانت قد أسلمت فحسن إسلامها فسألوها عنه فتعاجمت عليهم، وأشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فقالت: إنكم تسألوني عن رجل ما سمعت به قبل عامي هذا - وصدقت أم معبد لم تسمعه إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم – وإني لأستوحش منكم تخبروني عن رجل يخبركم بما في السماء، فانصرفوا عني وإلا صحت في قومي عليكم - وكانت في منعة من قومها في الجاهلية – فانصرفوا عنها ولم يعلموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أين توجه، ولو قضى الله عز وجل لهم أن يسألوا الشاة: من حلبك؟ لقالت: رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنها جعلت شاهدا؛ لأنه قال ((إن تسألوا الشاة تشهد)) لكن الله لم يهدهم لذلك فعمى الله عنهم مسألة الشاة، وسألوا أم معبد فكتمتهم.
وهذه الزيادة من قول مكرم: حدثني يحيى بن قرة، إلى آخرها، رواها أبو بكر الآجري آخر الحديث بالإسناد المتقدم إلى مكرم وقال في آخره: قد حدثنا بهذا الحديث ابن صاعد في كتاب "دلائل
#313#
النبوة": عن مكرم وغيره من طرق مختصرا في باب دلائل النبوة. انتهى.
وزيادة يحيى بن قرة رواها أيضا عن مكرم: جعفر بن أحمد بن عمران الشامي، رواها عنه أبو بكر أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي في كتابه "المنود في الوفود"، وأبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي فحدث به في "مسنده" عن مكرم هذا، لكنه جمع بين روايته ورواية عبد الملك بن وهب المذحجي، فقال: حدثنا الحسن بن عثمان، حدثنا بشر بن محمد بن أبان بن مسلم، حدثني عبد الملك بن وهب المذحجي، عن الحر بن صياح النخعي، عن أبي معبد الخزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية.
وقال أبو يوسف: وحدثني مكرم بن محرز بن مهدي بن عبد الرحمن ابن عمرو بن خويلد الخزاعي الكعبي، حدثني أبي، عن حزام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة خرج منها مهاجرا إلى المدينة هو
#314#
وأبو بكر ومولى لأبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية.
ومعنى حديثهما واحد، وقد يختلفان في اللفظ، قالا في حديثهما: وكانت امرأة برزة - قال أحدهما: جلدة وقال الآخر: جليلة، تحتبي وتجلس بفناء الخيمة. وقال الآخر: بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم فسألوها تمرا أو لحما. وقال الآخر: تمرا أو لحما ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وإذا القوم مرملون مسنتون وقال الآخر: مشتون، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر خيمتها. وقال الآخر: في كسر الخيمة، فقال: ((ما هذه الشاة يا أم معبد؟))
قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: ((هل بها من لبن؟)).
قالت: هي أجهد من ذاك، وقال الآخر: هي والله أجهد من ذاك، قال: ((أتأذنين لي أن أحلبها؟)) قالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله، وقال الآخر: وسمى، ودعا لها في شاتها، وقال الآخر: اللهم بارك لها في شاتها فتفاجت عليه، ودرت واجترت فدعا بإناء لها يريض الرهط، وقال الآخر يربض الرهط، فحلب فيه ثجا حتى علاه
#315#
البهاء، وقال الآخر: حتى غلبه الثمال، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه فشربوا حتى رووا، وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم. قال أحدهما في حديثه دون الآخر وقال: ((ساقي القوم آخرهم)) فشربوا جميعا عللا بعد نهل حتى أراضوا. وقالا جميعاً: أراضوا, ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء, وقال الآخر: بعد بدء حتى ملأ الإناء, وقالا جميعاً: فغادره عندها. قال أحدهما: وتابعها.
وقالا: وارتحلوا عنها فقل ما لبثت أن جاء زوجها. قال أحدهما: أبو معبد, وقالا: يسوق. وقال أحدهما: أعنزاً حيلاً. وقال الآخر: أعنزا عجافاً تشاركن. وقال الآخر: ما تساوك هزلاً هزلى. قال أحدهما: ضحى. وقالا: مخهن قليل. وقال أحدهما: لا نقي بهن فلما رأى. قال أحدهما: أبو معبد. وقالا: اللبن عجب, وقال: من أين لكم هذا؟ قال أحدهما: يا أم معبد. وقالا: والشاء عازب. قال أحدهما: حيال. وقالا: ولا حلوبة في البيت، قالت: لا والله, إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، قال: صفية لي يا أم معبد. وقال الآخر: مبارك, كان من حديثه كيت وكيت.
فقال: والله إن أراه صاحب قريش الذي تطلب, صفيه لي يا أم معبد, قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة. قال أحدهما: أبلج الوجه. وقال الآخر: متبلج الوجه, حسن الخلق لم تعبه نحلة. وقال الآخر: ثجلة,
#316#
ولم تزر به صقلة, وقال الأخر: صعلة.
قال أحدهما: يعني الدقة, وسيم قسيم, في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف. وقال الآخر: عطف, وفي صوته صحل. وقال الآخر: صهل, وفي لحيته كثافة. وقال الآخر: كثاثة, وفي عنقه سطع. قال أحدهما: أحور أكحل. وقالا: أزج أقرن.
قال أحدهما: رجل شديد سواد الشعر, إن صمت فعليه الوقار, وإن تكلم سما وعلاه البهاء. زاد أحدهما: كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن, حلو المنطق, فصل لا نزر ولا هذر, أجهر الناس وأجملهم من بعيد, وقال الآخر: أجمل الناس وأبهاه من بعيد, وأحلاه وأحسنه من قريب, ربعة. قال أحدهما: لا تشنؤه من طول. وقال الآخر: لا يأس من طول, ولا تقتحمه عين من قصر, غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً, له رفقاء يحفون به, إن قال استمعوا لقوله. وقال الآخر: أنصتوا لقوله, وإن أمر تبادروا إلى أمره, محفود محشود. وقال الآخر: محسود, لا عابس ولا مفند. وقال الآخر: ولا معتد.
قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر.
قال أحدهما: بمكة, ولقد هممت أن أصحبه. وقال الآخر: ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه, ولأفعلنه إن وجدت إلى ذلك سبيلاً, وأصبح صوت بمكة عالياً. وقال الآخر: ببكة [علياً] بين السماء
#317#
والأرض, يسمعون ولا يرون من يقوله. وقال الآخر: يدرون من صاحبه, وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
وقال الآخر: حلا.
هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
وقال الآخر:
هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجازى وسؤدد
زاد أحدهما:
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلو أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد
وقال الآخر:
..................فتحلبت ... عليه صريحاً ضرة الشاة مزبد
#318#
فغادره رهناً لديها لحالب ... بدرتها في مصدر ثم مورد
وقال الآخر:
لحالب يرددها في مصدر ثم مورد
زاد أحدهما: فأصبح الناس قد وقفوا نبيهم صلى الله عليه وسلم, وأخذوا على خيمتي أم معبد ليلحقوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شبب وهو يجاوب الهاتف, وهو يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
وقال الآخر: فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال:
وقدس من يسري إليه ويغتدي
وقال الآخر:
................. ... ... وقدس من يسري إليه ويغتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
وقال الآخر: فضلت عقولهم.
زاتد أحدهما:
#319#
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تكسعوا ... عمى وهداة يقتدون بمهتد
وقال الآخر:
هل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتد
زاد أحدهما:
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يري الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وقال الآخر:
................... ... ............ "في كل مسجد"
وإن قال في قوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
وقال الآخر:
.............. ............... ... "فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد"
#320#
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
ويهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
وقال الآخر:
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
تابعه الحسن بن محمد الزعفراني, وعباس بن محمد الدوري, ومحمد بن شداد المسمعي, وعمر بن شبة, وعبد الرحمن بن عيسى بن ساسان السوسي وغيرهم, فرووه عن أبي أحمد بشر بن محمد بن أبان بن مسلم السكري البصري – سكن بغداد – حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ... فذكره.
وحدث به الحارث بن محمد بن أبي أسامة في زيادته على ابن سعد في "الطبقات", فقال: أخبرني غير واحد من أصحابنا منهم محمد بن المثنى البزار وغيره, قالوا: حدثنا بشر بن محمد الواسطي – ويكنى أبا أحمد السكري – حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي ..... فذكره بنحوه.
#321#
ورواه البخاري في "تاريخه الكبير", فقال: قال لي عمرو بن زرارة: حدثنا بشر, حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي, عن الحر بن صياح النخعي, عن أبي معبد الخزاعي، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة وأبو بكر وعامر بن فهيرة. لم يزد على هذا.
وقال: "الحر" ما أدري أدرك "أبا معبد"؛ "أبو معبد" قتل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فالحديث فيه إرسال, وقد صرح بإرساله في موضع آخر من "التاريخ".
وحبيش بن خالد هذا هو أخو أم معبد عاتكة بنت خالد، وقيل: خليد, وقيل: هو أبو معبد، وهو ضعيف.
وقيل: اسم أبي معبد أكثم بن الجون, ويقال: ابن أبي الجون, وقيل: اسمه عبد الله.
وحديث أم معبد هذا حديث مشهور، خرجه جماعة من أئمة الحديث في كتبهم غير من ذكرنا:
منهم الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني خرجه في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث جماعة ممن ذكرنا, عن مكرم.
وخرجه أيضاً من حديث يحيى بن فضالة المدني: حدثنا حزام
#322#
ابن هشام القديدي، عن أبيه هشام بن حبيش, عن أبيه حبيش بن خالد.. فذكره مختصراً.
ورواه أحمد بن يوسف بن تميم البصري, وبشر بن أنس أبو الحسين, وعبد الله بن محمد بن عيسى بن الحكم بن أيوب بن سليمان وغيرهم, عن أبي هشام محمد بن سليمان بن الحكم [بن أيوب بن سليمان بن زيد بن ثابت بن سيار الكعبي الربعي الخزاعي, عن عمه أيوب بن الحكم], عن حزام بن هشام مطولاً.
وصحح الحاكم إسناده.
ورواه أبو العباس أحمد بن يونس بن المسيب الضبي, عن سليمان بن الحكم بن أيوب أبي أيوب, حدثني أخي أيوب بن الحكم, عن حزام ابن هشام .... فذكره.
تابعه الحسين بن حميد بن الربيع اللخمي, والحسين بن إسحاق الدقيقي, فقالا: حدثنا سليمان بن الحكم بن أيوب بن سليمان بن يسار الخزاعي, قال: حدثنا أخي أيوب بن الحكم, وسالم بن محمد الخزاعي) جميعاً, عن حزام بن هشام ..... فذكره.
#323#
وحدث به أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتابه "أشعار الجن": عن أحمد بن عبد الله العسكري, حدثنا عبيد الله بن محمد الناقد, حدثنا محمد بن سليمان بن الحكم بن أيوب، حدثني عمي أيوب بن الحكم .... فذكره مختصراً.
ورواه محمد بن يونس الكديمي, فقال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى مولى العباس بن عبد المطلب, حدثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري, حدثني أبي, عن أبيه, عن جده أبي سليط – وكان بدرياً – قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .... فذكر الحديث بنحوه.
#324#
وحدث به أبو القاسم الطبراني: عن محمد بن علي الصائغ المكي, حدثنا عبد العزيز بن يحيى المدني .... فذكره إلا أنه لم يذكر "أبا سليط" بل جعل الحديث عن "سليط" نفسه.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وقد روى حديث أم معبد [جماعة] بتمامه وكماله, عن أم معبد, وعن أبي معبد زوجها, وعن حبيش بن خالد أخيها, كلهم يرويه بمعنى واحد, وفيه ألفاظ مختلفة قليلة بمعنى متقارب. انتهى.
#325#
$[تفسير غريب ألفاظ حديث أم معبد]$
وفي هذا الحديث المشهور ألفاظ غريبة, وكلمات عربية عجيبة, رأينا أن نذكر من تفسير غريبها ما يفتح مقفله, ويوضخ مغفله, حسبما رأيناه في كتب الغريب ورويناه, ونورد ذلك ملخصاً مع بيان معناه:
فقوله: "برزة": البرزة العفيفة الموثوق برأيها وعفافها, وقيل: هي الكهلة التي قد خلا بها سن فخرجت عن حد المحجوبات فتبرز للرجال ويتحدثون إليها.
و"الجلدة": القوية الصلبة من قولهم: "جلد" بضم اللام وكسرها, جلداً بالتحريك وجلادة: صبر وصلب فهو جلد وجليد.
و"المرملون": الذين نفد زادهم فضعف حالهم, مأخوذ من الرمل الذي هو نسج خفيف ضعيف, وقيل: هو من الرمل المعروف, كأنهم قد لصقوا بالرمل لفقرهم.
#326#
و"المسنتون": من أجدبت سنتهم فأصابتهم الأزمة والمجاعة.
وقوله في الرواية الأخرى: "مشتون" يقال لمن دخل في الشتاء: مشت، هذا أصله, ثم يقال لمن أجدب: مشت؛ لفقدانه ما يحتاج إليه في الشتاء.
و"كسر الخيمة" – بفتح الكاف وكسرها -: جانبها, وقيل: مؤخرها, وقيل: هو الشقة السفلى من الخباء ترفع وقتاً وترخى وقتاً, وتكون في مقدم الخباء, أو في مؤخره.
#327#
و"الحلب": ساكن ويحرك من قولهم: حلبت الناقة وغيرها حلباً وحلباً, وقال بعضهم: هو بالتحريك مصدر حلبته, كالطلب من طلبته ولا يسكنان.
و"تفاجت": أي, وسعت بين رجليها, وباعدت إحداهما من الأخرى. وأصله من الفجج: وهو في ذوات الأربع تباعد العرقوبين، وتفعل الشاة ذلك عند الحلب والبول.
و"درت": صبت اللبن من قولهم: در الماء وغيره: جرى كثيراً.
و"اجترت": أخرجت الجرة من جوفها إلى فيها رددتها للمضغ, وإنما يفعله من الإبل والغنم الممتلئ [علفا].
وقوله "يربض الرهط": أي يرويهم شربة حتى يثقلوا, ويقعوا على
#328#
الأرض فيربضوا كما تربض الغنم على الأرض إذا شبعت.
وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب "تربض الرهط": أي تسعهم, وقربة ربوض وشجرة ودرع: أي واسعة.
وفي "مختصر العين" للزبيدي خلافه.
وأما الرواية الأخرى: "يربض" بالياء المثناة من تحت مكان الموحدة, أي: تروي الرهط بعض الري.
والروض نحو من نصف قربة, وأراض الحوض: إذا صب فيه ماء يواري أرضه.
وقيل: هو مأخوذ من الروضة وهي الموضع المستنقع فيه الماء, ومنه قوله في هذا الحديث: "فشربوا حتى أراضوا" يعني: رووا من قولهم: أراض الأرض فهم مريضون, إذا ثملوا من اللبن وثقلوا على الأرض.
وقيل: أراضوا يعني: شربوا لبناً صب على لبن، يقال: أراض القوم وأراضوا, إذا صبوا اللبن على اللبن.
ويحتمل أنه أريد به كثرة شربهم اللبن لصبهم إياه في أجوافهم مرة فوق أخرى, ويفسره قوله: "حتى أراضوا عللاً بعد نهل": أي: ارتواء
#329#
من الشرب مرة بعد مرة, و"النهل": الشرب في أول الورد, و"العلل" الشربة الثانية.
و"الثج": من قولهم: ثج المطر [إذا] انصب.
وقيل: هو السيلان الكثير, ومنه الحديث: سئل عن الحج, فقال: "هو العج والثج", فالعج: رفع الصوت بالتلبية, والثج: نحر البدن وسيلان دمائها.
وقيل: الثج صوت الدماء إذا نحرت الإبل أو نحوها.
و"البهاء" هنا وميض رغوة اللبن وبريقها بعد امتلاء الإناء.
و"الثمال" في الرواية الأخرى بضم الثاء جمع ثمالة بضمها, وهي الرغوة بضم الراء وفتحها, قال أبو زيد الأنصاري في كتابه: "اللبأ واللبن": والثمال من الحليب الرغوة. انتهى.
و"العجاف": من العجف وهو ذهاب السمن, والذكر أعجف,
#330#
والأنثى عجفاء, وليس في الكلام "أفعل" على "فعال" مجموعاً إلا "أعجف"، و"عجاف" قاله أبو الحسين أحمد بن فارس في "مجمله".
و"تساوكن": من التساوك وهو التمايل من الضعف, وكأنهن يمشين مشياً ضعيفا يحركن رءوسهن لضعفهن.
وقوله في الرواية الأخرى: "تشاركن هزلاً": أي عمهن الهزال كأنهن اشتركن فيه فصار لكل واحدة منهن حظ من الهزال.
وفي رواية "يتتاركن" وهو قريب من معنى الأول: أي: يترك يعضها بعضاً ويتخلف بعضها عن بعض لضعفهن.
وروي "تساوقن" من قولهم: فلان يسوق أصحابه: أي يمسي خلفهم, فكأن بعضها يسوق بعضاً لتأخره من الهزال.
وقوله "ضحى": هذه اللفظة سقطت من بعض الطرق لرواية عبد الملك بن وهب المذحجي التي تقدمت.
#331#
وقد استغرب هذه اللفظة الحافظ أبو موسى محمد بن عمر بن أحمد بن عمر الأصفهاني المديني فقال في كتابه "طوال الأحاديث والأخبار":
هذه اللفظة كانت تنبو عن قلبي؛ فإن وقوعها بين صفات الغنم بعيد وكان يغلب على ظني أنه تصحيف, ولم أكن أقف على حقيقته, ومن الرواة من رواه هكذا, ومنهم من ترك هذه اللفظة؛ لأنه ربما وقع له ما وقع لي حتى وجدت القاضي أبا أحمد العسال الحافظ – رحمه الله – رواه في "معجمه": عن يحيى بن صاعد, عن إبراهيم بن سلام مولى بني هاشم, عن مروان بن معاوية, عن هاشم بن حزام [بن هشام] وقال فيه: يتتاركن هزلى مخاخهن قليل.
ثم قال عقيبه: "كذا قال ابن سلام" فدل هذا أنه ضبطه عنه هكذا, ولا أظن الصحيح إلا كما رواه؛ لأن المخاخ جمع المخ كما أن الكمام جمع الكم.
وذكر أبو موسى أمثلة غير هذا ثم قال: ومما يدل على صحة ذلك
#332#
أيضاً أنه في أكثر النسخ مكتوب بالألف ولو كان ضحى كما رووه لكان بالياء.
وقد روينا في بعض الروايات أن زوجها جاء مساء لا ضحى, وأيضاً قول الشاعر يدل عليه حيث قال: "رفيقين قالا خيمتي أم معبد".
قلت: وفي هذا نظر؛ لأن الرواية الأخرى: "رفيقين حلا خيمتي أم معبد" فليست تلك الرواية بأحق من هذه مع أن "قالا" في الرواية الأولى فسرت بـ "قصدا" من قولهم: قال برأسه كذا, وقال بيده كذا, أي قصد وأشار فيكون قوله: "ضحى" على بابها أي: مجئ معبد بالأعنز ضحى عقيب ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من عندها كما في الحديث: فقل ما لبثت أن جاء زوجها, وعن الفراء في قوله تعالى: {والضحى . والليل} قال: النهار كله.
فيكون على هذا قوله: "قالا خيمتي أم معبد" على حالها من القيلولة التي هي النزول في القائلة عند شدة الحر نصف النهار لاستراحة أو نوم أو غيرهما, ويحتمل أن تكون اللفظة ضحى بالفتح من قولهم: "ضحى الطريق" إذا ظهر وبدا, فكأن هزالهن ظهر من تساوكهن الذي هو مشيهن متمايلات من الضعف وهذا هو الأليق لو ثبتت الرواية بالفتح، والله أعلم.
و"الهزل" في قوله في رواية الطبراني: "يساوكهن هزلا" من قولهم: هزلت الدابة أهزلها بالكسر هزلاً "أعجفتها" فكأنه – والله أعلم –
#333#
يميلها بسوقه نحو المنزل فيزداد ضعفها لذلك.
وقد حكى صاحب "الأفعال" ابن القطاع: الهزل بالفتح كالهزل الذي هو ضد السمن وتفسيره بهذا أقوى, والله أعلم.
وقد روي "هزلى" جمع هزيل بمعنى مهزول كقتيل وقتلى.
و"هلا" في رواية عباس الدوري وغيره, عن أبي أحمد بشر بن محمد السكوني, عن عبد الملك بن وهب, عن الحر بن الصياح النخعي, عن أبي معبد الخزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة .... وذكر الحديث بطوله, وفيه: فقل ما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافا هزلى مخهن قليل لا نقي بهن ... الحديث.
قال الشاعر:
إلى الله نشكو ما نرى بجيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل
وقوله: "والشاء عازب" يعني: قد عزبن عن اللبن فخرجن إلى المرعى, قاله أبو عبيد.
ويحتمل أن يكون من قولهم: إبل عزيب لا تروح عن الحي، ويقال: عزب [يعزب] بضم الزاي وكسرها غاب وخفي فهو عازب، وقيل: العازب: البعيد من قولهم: "كلأ عازب" أي: بعيد.
#334#
وقوله: "الشاء عازب": ولم يقل: عازبة حملاً على لفظ الشاء؛ لأنه كالجنس.
و"الحلوب" بالفتح: ذات لبن تحلب, وفي الرواية الأخرى: "ولا حلوبة" بالهاء, قيل: على أصل التأنيث, وقيل هو الحلوب واحد والحلوبة جماعة,وقيل: هما سواء, وهذا أكثر.
قال الزبيدي في "مختصر العين": وناقة حلوبة [وحلباة] وحلبانة للتي تحلب.
و"الوضاءة": الجمال, يقال: رجل وضئ بين الوضاءة, وامراة وضيئة بينة الوضاءة.
و"الأبلج الوجه", والمتبلج: الحسن المشرق المضئ, ولم ترد به بلج الحواجب: وهو البياض بين الحاجبين؛ لأنها وصفته بالقرن، وسيأتي تعليل ذلك قريباً – إن شاء الله تعالى.
#335#
وقولها: "حسن الخلق" هو بالضم كناية عن حسن الأوصاف الباطنة من الحلم والكرم والشجاعة والمروءة, ونحو ذلك, وحسن الخلق بالفتح كناية عن حسن الأوصاف الظاهرة في الوجه والبدن والأعضاء.
و"الثجلة" بالمثلثة والجيم عظم البطن مع استرخاء أسفله, ومن رواه بالنون والحاء المهملة فمعناه النحول وهو الدقة وضعف التركيب، إلا أنهم لم يستعملوا النحلة بمعنى النحول.
و"الصقلة" بالقاف: طول الصقل وهو الخصر كالخاصرة التي هي وسط الإنسان, وقيل: ضمور ذلك وقلة لحمه من قولهم: صقلت الناقة إذا أضمرتها بالسير.
ويروى "سقلة" بالسيين وهو بمعناه على إبدال الصاد سيناً لأجل القاف.
و"الصعلة" بفتح الصاد: صغر الرأس, يقال: صعل يصعل صعلاً فهو
#336#
صعل وأصعل, أي: دقيق الرأس, وقيل: الصعلة دقة العنق مع صغر الرأس.
و"الوسيم": المشهور بالحسن, كأن الحسن صار له سمة – يعني علامة.
و"القسيم": الحسن القسيمة وهي أسفل الوجه عند محجر الدمع, وقيل: هو من القسام وهو الحسن، ورجل مقسم الوجه, وقسيم الوجه, كأن كل موضع منه قد أخذ من الحسن والجمال قسماً فهو كله جميل ليس فيه ما يستقبح.
وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب: القسيم الحسن الخلق والخلق.
و"الدعج": شدة سواد العين مع سعتها, يقال: عين دعجاء.
#337#
وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب: الدعج شدة سواد العين وبياضها.
وكذا قال الزبيدي في "مختصره" لكنه لم يذكر: وبياضها.
وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي الضرير في كتابه "المحكم": الدعج والدعجة: السواد, وقيل: شدة السواد, وقيل: الدعج: شدة سواد سواد العين, وشدة بياض بياضها, دعج دعجاً.
وهو معنى قولها في الرواية الأخري: أحور.
وقولها: "وفي أشفاره وطف" الأشفار: حروف الأجفان التي تلتقي عند التغميض والشعر نابت عليها, وذلك الشعر الهدب والأهداب.
و"الوطف": طول شعر الأشفار, وقيل: كثرة شعر الحاجبين
#338#
والأشفار واسترخاؤه مع الطول.
وأرادت بقولها: "وفي أشفاره" أي في شعر أشفاره، فحذفت المضاف.
ويروى "وفي أشفاره غطف" بالغين المعجمة.
قال أبو عبد الله الزبيدي في "مختصر العين": الغطف مثل الوطف, وقد غطف.
وقال أبو الحسين بن فارس: ويقال إن الغطف في الأشفار أن تطول ثم تنثني.
وفي رواية: "عطف" بالمهملة: من قولهم عطفت الشيء أملته, وظبية عاطف: تعطف عنقها, فعلى هذا يكون مرادها انعطاف شعر الأجفان
#339#
لطولها, والله اعلم.
و"الصحل": صوت شبيه بالبحة، ومعناه ليس بصافي الصوت ولا بشديده, ولكنه حسن.
وفي الرواية الأخرى: "صهل" بالهاء: أي: حدة, فلصلابته وقوته قالت: "وفي صوته صهل" مأخوذ من صهيل الفرس؛ لأنه بشدة وقوة يصهل.
و"السطع" – بالتحريك -: طول العنق, يقال: ظليم أسطع, أي: طويل العنق, وعنق سطعاء، وهو مما يمتدح به.
وقولها: "وفي لحيته كثافة" وهي اجتماع الشعر والتفافه مع الكثرة, وفي الرواية الأخرى "كثاثة", يقال: لحية كثة: أي: مجتمعة, وهو بمعنى الأول, وقيل: الكثة التي كثر نباتها من غير طول ولا رقة.
و"الأزج": المقوس الحاجبين في طول وامتداد إلى محاذاة آخر
#340#
العين مع الدقة والسبوغ.
وقال أبو الحسين [بن] فارس: والزجج دقة الحاجبين وحسنهما.
وقولها "أقرن": يشابه ما قدمناه في البشارات العيسوية به صلى الله عليه وسلم, وهو المقرون الحاجبين, ومعناه معنى الأقرن وهو المتصل رأسي حاجبيه مما يلي أعلى الأنف وهو غير محمود عند العرب.
ووصفه صلى الله عليه وسلم بالقرن في هذا غير المعروف من صفته صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد: ولم نسمع بهذه الكلمة في شيء من صفته صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الحديث إنما صفته في الحاجبين البلج. انتهى.
ونفي القرن في صفته صلى الله عليه وسلم هو الصحيح كما جاء في حديث هند بن أبي هالة وغيره، قيل: ويمكن الجمع بينهما على أنه لم يكن بالأقرن ظاهرا ولا بالأبلج إذا تحقق بل كان بين حاجبيه فرجه يسيرة لا تبين اتصال شعر الحاجبين فيها، إلا لمن حقق النظر إليها، كما ذكر في صفة أنفه صلى الله عليه وسلم، فقال: يحسبه من لم يتأمله أشم، ولم يكن أشم، قاله بعضهم بنحوه.
#341#
وقولها: "إذا تكلم سما وعلاه البهاء" أي من كلامه بيان وارتفاع، قاله بعضهم، وقيل: سما أي: علا برأسه، أو بيده. قاله أبو موسى المديني.
و"النزر" القليل، وقيل: الاحتثاث والاستعجال كقوله عائشة -رضي الله عنها: لا يسرد الحديث كسردكم.
و"الهذر" -بالتحريك والمعجمة-: الهذيان، قاله أبو الحسين بن فارس.
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب في "مختضر العين" هذر يهذر هذرا الكلام لا يعبأ به.
وكذا قال الزبيدي في "مختصره" لكنه سكن المصدر فقال: هذرا إذا أكثر الكلام بما لا ينتفع به.
وقولها في الرواية الأخرى: "أجهر الناس" الأجهر: الجميل الذي يروعك جماله وبهاؤه.
#342#
و"الربعة" من الرجال ما بين الطويل والقصير، يقال: "رجل ربعة" بسكون ثانيه ويحرك أيضا، و"رجل ربع" أيضا ومرتبع ومربوع: معتدل.
وقولها: "لا يأس من طول" يأس مصدر يئس منه ييأس، ويئس: أي انقطع أمله و"يأس" في قولها نكرة مفنوحة بلا النافية وخبره محذوف تقديره لا بأس منه أو فيه من طول، ومعناه - والله أعلم - أن ميله كان إلى جانب الطول أكثر من ميله إلى جانب القصر.
وفي الرواية الأخرى: "لا يائس من طول": فاعل بمعنى مفعول أي لا ميئوس منه لإفراط طوله.
وفي رواية: "لا تشنؤه من طول" أي لا تبغضه لفرط طوله.
وقولها: "ولا تقتحمه عين من قصر" كأنه من القحمة، وهي الأمر العظيم لا يركبه أحد فكأن العين لا تصل إلى احتقاره لقصره بل تقف
#343#
عند اعتداله ولا تجاوزه.
قال أبو عبيد: لا تزدريه فتنبذه ولكن تقبله وتهابه.
وفولها: "غصن بين غصنين": الغصن: ما تشعب عن سوق الشجر.
وقولها: "بين غصنين": أي ضرب اللحم ليس بنحيف ولا جسيم، قاله بعضهم.
ويحتمل أنها أرادت أن رفيقيه وهما أبو بكر وعامر بن فهيرة رضي الله عنهما كانا يكتنفانه في غدوه ورواحه كملازمة الغصنين للثالث بينهما، ويدل عليه قولها فيما بعد: "له رفقاء يحفون به" ثم أبانت حسنه وجماله وبهاءه على رفيقيه فقالت: "فهو أنضر الثلاثة منظرا".
وقيل: "يحفون به" أي يخدمونه ويجتمعون عليه ويقومون بأمره.
وقولها: "محفود" المحفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته، يقال حفدت وأحفدت لغتان، إذا خدمت.
وقولها: "محشود" من قولهم: حشد القوم، اجتمعوا وحفوا في التعاون، فالمحشود الذي عنده حشد من الناس يخدمونه، واحتشد
#344#
القوم لفلان أي: جمعوا له.
فأرادت أم معبد بقولها: "محفود محشود" أن أصحابه يخدمونه ويعظمونه ويجتمعون إليه ويحفونه به صلى الله عليه وسلم.
وفي الرواية الأخرى: "محسود" بالسين المهملة بدل محشود، من الحسد: أي يحسد على ما جمع الله عز وجل فيه من الأخلاق الرضية والأوصاف الزكية والمعاني العلية المكتسبة والضرورية.
وقولها:" لا عابس ولا مفند".
"العابس" الكالح الوجه، المقطب عند اللقاء.
و"المفند": المنسوب إلى الجهل وقلة العقل، مأخوذ من "الفند" وهو إنكار العقل من هرم [يقال]: شيخ مفند، قاله الزبيدي في "مختصر العين".
وذكره بنحو أبو عبد الله الخطيب في "مختصره" وزاد بعد قوله: شيخ مفند، قال: ولا يقال: عجوز مفندة، لانها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها انتهى.
#345#
يقال: فند بالكسر فندا: ضعف رأيه من الهرم، وأفند في كلامه: أخطأ، وأفندته: خطأته، وأفنده الكبر مثله، وإذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند بفتح النون وكسرها، والتفنيد في أحد معانيه: ضعف الرأي، وأيضا اللوم والتكذيب والتعجيز.
وقولها في الرواية الأخرى: "معتد" بدل "مفند"، وهو مفتعل من العدوان والظلم.
وقوله في الشعر: "فيا لقصي" هو بكسر اللام للتعجب.
وقوله: "ليهن" يروى بالهمز وتركه على التخفيف من الهنيء. وزان كريم، وهو كل أمر أتاك بلا مشقة ولا تبعة ولا مكروه.
و"المرصد": موضع الرصد، وهم القوم الذين يرصدون الطريق.
و"الصريح" اللبن الخالص الذي لم يمزج، وقال أبو زيد الأنصاري في كتابه "اللبأ واللبن": ومنه الصريح وهو ما ذهبت رغوته. انتهى.
و"ضرة الشاة": أصل ضرعها الذي لا يخلو من اللبن، وقيل: هي الضرع كله، وقيل: ضرة الضرع لحمته.
و"المزبد": الذي علاه الزبد، وإنما يكون ذلك مع كثرة نزوله وخروجه من الضرع، ومزبد: صفة لصريح.
#346#
وأما الرواية الأخري: "فتحلبت عليه صريحا ضرة الشاة مزبد" فيكون جر مزبد على الجوار، كقولهم: جحر ضب، وإنما هو بالرفع لأنه صفة الجحر.
و"مزبد": صفة للصريح، فيكون منصوبا، لكن جر للمجاورة كما ذكرنا، وقيل: إنه مجرور على البدل من الشاة، وإنما لم يؤنثه حيث لم يجعله وصفا للشاة؛ لأنها معرفة، ومزبد نكرة فلا توصف بها، وأبدله منها لجواز إبدال النكرة من المعرفة وعكسه، والمذكر من المؤنث وعكسه.
وقوله: "فغادرها رهنا لديها لحالب.." البيت. أي: ترك الشاة عندها لتكون معجزة له عند من أراد حلبها وتصديقا لحكاية أم معبد عنه.
وقوله في الرواية الأخرى:
هل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتد
قال ابن الأنباري: هكذا أنشدناه ابن ناجية: - يعني: عن مكرم – وهو صحيح الوزن مضطرب المعنى.
قال بعضهم: يريد أن البيت يحتاج إلى واو العطف: أي: هل يستوي ضلال قوم سفهاء وهاد به كل مهتد، فاضطراب معناه بحذف الواو.
ويمكن أن يخرج له وجه حسن ويكون "يستوي" بمعنى "يستقيم
#347#
ويكمل" أي: هل يستقيم ضلال قوم سفهاء، ويكون قوله: "هاد به كل مهتد" كلام مستأنف راجع إلى قوله: "ربهم" في البيت قبله يعني قوله: "هداهم به بعد الضلالة ربهم".
قال: أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم: به يهتدي كل مهتد، ويجوز أن تكون "به" متعقة بـ"هاد" أي مهتد هاد به.
ويجوز أن تجعل "يستوي" على بابها من التسوية بين الشيئين وحذف المساوي بينهما: كقوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} فحذف ذكر الثاني وهو في التقدير: ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، ودل عليه بقوله تعالى: {أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}.
قال ابن الأنباري: وفي غير روايته – يعني غير رواية ابن ناحية:
وما يستوي جهال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتد
قال: فهذا على هذه الرواية ثبت صحيح الوزن والمعنى. انتهى.
وقد تقدم في رواية يعقوب بن شيبة من "مسنده" لكنه قال: "يقتدون بمهتد".
وقوله في هذا البيت: "تسكعوا" أي ترددوا في الباطل وتحيروا وتمادوا فيه.
وقوله: "حلت عليهم بأسعد" جمع قلة للسعد وهو اليمن.
#348#
$[معجزة]$
ومن الغرائب في قصة أم معبد ما قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد، عن يعقوب بن داود، عن شيخ من بني جمح قال: لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم أم معبد فقال: ((هل من قرى؟)) قالت: لا، فانتبذ هو وأبو بكر، وراح ابنها بشويهات، فقال لأمه: ما هذا السواد الذي أراه منتبذا؟ قالت: قوم طلبوا القرى، فقلت: ما عندنا قرى، فأتاهم ابنها، فاعتذر وقال: امرأة ضعيفة، وعندنا ما تحتاجون إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انطلق فائت بشاة من غنمك)) فجاء وأخذ عناقا، فقالت أمه: أين تذهب؟ قال: سألاني شاة، قالت: يصنعان بها ماذا؟ قال: ما أحبا، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها وصرتها فتحفلت، فحلب حتى ملأ قعبا، وتركها أحفل ما كانت، وقال: ((انطلق بها إلى أمك وائتني بشاة أخرى من غنمك)) فأتى أمه بالقعب، فقالت: أنى لك بهذا؟ قال: من لبن فلانة، قالت: وكيف ولم تقر سائلا قط، أظن هذا واللات الصابئ الذي بمكة، وشربت منه.
#349#
ثم جاء بعناق أخرى فحلبها حتى ملأ القعب، ثم تركها أحفل ما كانت، ثم قال ((اشرب)) فشرب، ثم قال: ((جئني بأخرى)) فأتاه بهلا فحلب وسقى أبا بكر ثم قال: ((جئني بأخرى)) فأتاه بها، فحلب، ثم شرب وتركهن أحفل ما كن.
وروى يحيى بن زكريا بن [أبي] زائدة: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى:
عن أبي بكر رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمررنا بخباء أعرابية عجوز، فجلسنا قريبا منه، فرفعت جانب الخباء، فقالت: يا هذان، إن كنتما تريدان القرى فعليكم بعظيم الحي، فسكتا عنها، فلما كان عند المساء جاء بني لها يفعة بأعنز لها، فأخذت شفرة فدفعتها إليه، فجاء بالشفرة وبعنز من تلك الأعنز، فقال: تقرئكما أمي السلام وتقول: اذبحا هذا فكلا وأطعمانا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام: ((رد الشفرة وائتني بقعب أو قدح)) قال: إن غنمنا قد غرزت، قال: فذهب الغلام فجاء به فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرع الشاة، ثم حلب، فملأ القدح فقال: ((اذهب بهذا إلى أمك، وائتني بأخرى)) فمسح الضرع، ثم حلب فسقى الغلام، ثم حلب فسقاني، ثم حلب فشرب، فنمت غنم المرأة وكثرت وأقبلت تقول: مذ رأينا المبارك، ومذ مر بنا المبارك، قال:
#350#
فجلبت جلبا إلى المدينة، فرآني ابنها، فقال: يا أماه، هذا والله الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إلي وسلمت علي، وقالت: يا هذا من الرجل الذي كان معك، فوالله ما زلنا ننظر في خير مذ رأيناه؟
قال: قلت لها: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فدلني عليه.
قال: فانطلقت وهي معي، فدخلت عليه وأهدت له شيئا من أقط من متاع الأعراب، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت.
هذه القصة كانت في خروج أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة، ذكر ذلك يعقوب بن شيبة في "مسنده" وقال: والحديث إلى الضعف ما هو، وصالح ليس بالساقط، وابن أبي ليلى قد روى الناس عنه، وفي حديثه ضعف، حدثناه محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة .. فذكره.
قلت: تابعه أسد بن موسى بن إبراهيم الأموي – أسد السنة – فرواه عن يحيى، والحديث فيه انقطاع بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر رضي الله عنه.
#351#
&[حديث هند بن أبي هالة وما في معناه في نعوت النبي صلى الله عليه وسلم]&
وحديث أم معبد الذي ذكرناه واتبعناه بما يوضح غريبه، ومعناه من أقوال الأئمة وعلماء الأمة قد احتوى على جملة من الصفات النبوية والشمائل المحمدية، وهي مندرجة مع غيرها في الحديث المعظم المنسوب إلى هند بن أبي هالة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم وأخي أولاده من أمهم خديجة.
وهو حديث عظيم، وإن تكلم فيه وضعف بعض من يرويه، فقد احتوى على جملة من الأخلاق الشريفة وانطوى على عدة من الأوصاف العالية المنيفة، لم نسمع في الطوالات مثله، ولم نر فيهن شكله، حاشا حديثا واهي السند، فيه من ليس بالمعتمد، آثار التركيب عليه ظاهرة، وعلامات التوليد به دائرة: من رواية صبيح بن عبد الله القرشي الفرغاني بن درغشتك وهو صاحب مناكير، كما قاله الخطيب في "التخليص" عن عبد العزيز بن عبد الصمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وهشام بن عروة، عن أبيه:
#352#
عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن ...وذكر الحديث مطولا جدا – سيأتي إن شاء الله تعالى بكماله، لأنه من ضرب حديث هند وأمثاله، لكن حديث هند، وإن كان يتكلم في حديثه كما قاله البخاري، فإنه أمثل إسنادا من ذلك عند من يباري، وقد رأينا أن نجعله لحديث أم معبد تاليا ليكون كتابنا بالحلية الشريفة حاليا.
$[طرق حديث هند بن أبي هالة]:$
وليس كل الحديث من قول هند، كما يأتي بيانه فيما بعد، وقد اشتهر بهند بين الأئمة.
وروي من طريق جمة، خرج الترمذي غالبه في كتابه "الشمائل" مقطعا في أماكن، رواه عن سفيان بن وكيع، حدثنا جميع بن عمير بن عبد الرحمن العجلي إملاء من كتابه، حدثني رجل من بني تمبم: من ولد هند بن أبي هالة زوج خديجة – أم المؤمنين [رضي الله عنه]- يكنى أبا عبد الله، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سألت خالي هند بن أبي هالة ...وذكره.
تابعه زكريا بن يحيى السجزي، وأبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر" وأبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، وعنه حدث به أبو بكر الآجري في كتابه "الشريعة" عن سفيان.
#353#
وأبو عبد الله التميمي هذا ذكره ابن حبان في "الثقات".
وخرج الحديث أبو محمد دعلج في "مسند المقلين" فقال: حدثنا ابن شيرويه، حدثنا إسحاق، أخبرنا عمرو بن محمد القرشي، حدثنا جميع بن عمير العجلي، عن رجل من بني تميم من ولد أبي هالة – سماه غير عمرو: يزيد بن عمر - عن أبيه، عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سألت هند بن أبي هالة، وأشار إلى الحديث، ولم يذكره، إسحاق - هو ابن راهويه.
ورواه زكريا بن يحيى السجزي عنه، وعن علي بن محمد بن أبي الخصيب قالا: أخبرنا عمرو بن محمد العنقزي، حدثنا جميع بن عمر العجلي – من بني ضبيعة – فذكر الحديث.
ورويناه من طريق محمد بن أبي يحيى بن عمر العدني، حدثنا عمر بن خالد القرشي حدثنا عبد الرحيم بن مطرف الرؤاسي، عن عمرو بن محمد، عن جميع بن عمير العجلي - من بني ضبيعة – عن يزيد بن فلان التميمي - من ولد أبي هالة - عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله – يعني مثل حديث قبله في صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث علي بن عبد العزيز،
#354#
حدثنا أبو غسان، حدثنا جميع بن عمير العجلي، حدثني رجل من ولد أبي هالة التميمي، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي –وكان وصافا- عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكر الحديث بطوله.
اختصره الحاكم.
تابعه محمد بن سعد في "الطبقات" وأبو بكر أحمد بن أبي خيثمة، ويعقوب بن سفيان في "تاريخيهما" عن مالك بن إسماعيل النهدي، زاد يعقوب وسعيد بن حماد الأنصاري المصري جميعا، عن جميع به.
ورواه يعقوب شيبة في "مسنده" فقال: حدثناه أبو غسان مالك ابن إسماعيل النهدي، حدثنا جميع بن عمر - كذا – بن عبد الرحمن العجلي .. فذكر ما كان في الحديث عن الحسن، عن الحسين بن علي، عن علي رضي الله عنه فقط.
وقال يعقوب: وليس إسناده بالقوي، وذكر أن يحيى بن معين ضعفه ووهى مخرجه.
وقال أبو القاسم بن عساكر: حديث محفوظ من حديث جميع بن عمر الكوفي رواه عنه الكبار: كعمرو بن محمد العنقزي وأبو غسان مالك بن
#355#
إسماعيل بن زياد النهدي وغيرهما، كما رواه سفيان بن وكيع بن الجراح الرؤاسي عنه ... . انتهى.
وهو من أفراد جميع.
وحدث به الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ, عن أبي محمد: الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العقيقي صاحب كتاب "النسب" ابن أخي أبي طاهر العلوي قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمدينة سنة ثلاث وستين ومائتين, حدثنا علي بن جعفر بن محمد, عن أخيه موسى بن جعفر, عن جعفر بن محمد, عن أبيه محمد بن علي, عن علي بن الحسين قال:
قال الحسن بن علي: سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان وصافاً – فذكر الحديث بطوله.
قال إسماعيل بن محمد حين فرغ من الحديث: حدثنا علي بن جعفر بن محمد سنة تسع ومائتين قيل له: من حفظه؟ قال: نعم,
#356#
قيل له: متى مات علي بن جعفر؟ قال: سنة عشر ومائتين بعدما حدثنا بسنة.
قال الحاكم: هذا حديث غريب عال, من حديث أهل البيت متصل متين, ثقات رجاله, لا أعلم أحداً حدث به غير إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر الصادق بإسناده.
قال: وإنما يعرف هذا الحديث من حديث سفيان بن وكيع بن الجراح, عن جميع بن عمير بن عبد الرحمن, عن جماعة من المجهولين, عن الحسن. انتهى.
ورويناه من طريق أبي علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان, حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله ... فذكره بطوله.
ورواه الطبراني فقال: حدثنا البغوي, حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر الصادق, حدثني عمي علي بن جعفر، عن أخيه موسى.... فذكر كثيراً من الحديث.
ورواه سعد بن طريف, عن أصبغ بن نباتة، عن الحسن، عن هند.
وجاء من حديث ابن عباس, عن هند, وذلك فيما قال يعقوب بن
#357#
سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو بشر بن قعنب، حدثني إسحاق بن صالح المخزومي, عن يعقوب التيمي: عن عبد الله بن عباس أنه قال لهند بن أبي هالة التميمي – وكان وصافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: - صف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعلك أن تكون أثبتنا به معرفة, قال: كان – بأبي هو وأمي – طويل الصمت, دائم الفكر, متواتر الأحزان, إذا تكلم تكلم بجوامع الكلام, لا فضل ولا تقصير, إذا حدث أعاد, وإذا وعظ جد وماد, وإذا خولف أعرض وأشاح, يتروح إلى حديث أصحابه, يعظم النعمة وإن دقت, ولا يذم ذواقاً, ويتبسم عن مثل حب الغمام.
تابعه بشر بن موسى, وأبو حاتم محمد بن إدريس، عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب, حدثني إسحاق بن صالح .... فذكره.
ويعقوب التيمي هو ابن زيد بن طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي أبو عرفة، وقيل: أبو يوسف حجازي، لم يلق ابن عباس, فحديثه هذا منقطع.
#358#
وأتم الطرق سياقاً لحديث هند رواية جعفر بن محمد التي ذكرنا إسنادها قبل, ومن طريقه نورد الحديث الآن مع شواهد وقعت لنا نذكرها في أماكنها مميزة من الحديث.
#359#
$[شواهد حديث هند بن أبي هالة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]$
قال جعفر بن محمد, عن أبيه محمد بن علي, عن علي بن الحسين قال: قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: سألت خالي هند بن [أبي] هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان وصافاً وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به – قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً.
"الفخم": الضخم وسيأتي – إن شاء الله تعالى – في قول هند في وصفه صلى الله عليه وسلم: عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس, وفيه أيضاً: بادناً: أي: ضخماً تام اللحم.
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما المتفق عليه: بعيد ما بين المنكبين.
وخرج أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" في مسند جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: حدثنا ابن معمر, حدثنا أبو داود, حدثنا قيس, عن عبد الملك بن عمير, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير, ضخم الرأس واللحية، ضخم الكراديس مشرباً حمرة إذا مشى تكفأ تكفؤاً, كأنما يمشي في صعد, حسن الثغر لم أر قبله مثله.
#360#
ورواه يزيد بن هارون: حدثنا شريك، عن عبد الملك بن عمير, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن أبيه, عن علي رضي الله عنه: أنه وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان عظيم الهامة, أبيض مشرباً حمرة, عظيم اللحية ضخم الكراديس, شثن الكفين والقدمين, طويل المسربة, كثير شعر الرأس رجله يتكفأ في مشيته كأنما يتحدر في صبب, لا طويل ولا قصير، لم أر مثله قبله ولا بعده.
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة, وعلي بن حكيم، وإسماعيل بن بنت السدي, ومحمد بن سعيد بن الأصبهاني وعبد الله بن محمد, عن شريك, عن عبد الملك بن عمير، عن نافع بن جبير بن مطعم.
ورواه المسعودي, عن عثمان بن مسلم بن هرمز, عن نافع بن جبير، عن علي نحوه.
تابعه مسعر, عن عثمان بن عبد الله بن هرمز, عن نافع. كذا قال مسعر: "عثمان بن عبد الله" بخلاف المسعودي.
#361#
وجاء في "مسند أحمد" على الصواب فقال: حدثنا وكيع، أخبرنا المسعودي, عن عثمان بن عبد الله بن هرمز، عن نافع بن جبير بن مطعم, عن علي رضي الله عنه .... فذكره.
وهكذا حدث به أحمد بن سنان القطان في "مسنده", عن يزيد بن هارون، عن المسعودي.
وجاء من حديث ابن جريج, عن صالح بن سعيد أو سعيد، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن علي نحوه.
ومن حديث أبي خالد الأحمر سليمان بن حيان, عن حجاج، عن عثمان, عن أبي عبد الله المكي، عن نافع بن جبير قال: سئل علي
#362#
رضي الله عنه عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره بنحوه.
وهذا الحديث له طرق إلى علي رضي الله عنه منها: ما روي عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي بن أبي طالب, عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس, عظيم العينين, هدب الأشفار, مشرب العينين بحمرة, كث اللحية, أزهر اللون, شثن الكفين والقدمين, إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد, وإذا التفت التفت جميعاً.
خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" قال: فحدثناه حجاج بن المنهال وداود بن المحبر بن قحذم قالا: حدثنا حماد بن سلمة .... فذكره.
وحدث به أحمد في "مسنده" عن عفان وحسن بن موسى, قالا: حدثنا حماد ... فذكره.
تابعهما يونس عن حماد.
#363#
وقال يعقوب في "مسنده" أيضا: حدثناه عبد الله بن مسلمة, ومسدد بن مسرهد, وعبد الله بن محمد, وسياق الحديث عن ابن قعنب, قالوا: حدثنا عيسى بن يونس، عن عمر مولي غفرة قال: حدثني إبراهيم بن محمد من ولد علي قال: كان [علي] رضي الله عنه إذا نعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد, كان ربعة من القوم لم يكن بالجعد القطط ولا السبط, كان جعداً رجلا, لم يكن بالمطهم ولا المكلثم, وكان في الوجه تدوير أبيض مشرب, أدعج العين, أهدب الأشفار جليل المشاش والكتد، أجرد, ذو مسربة, شثن القدمين والكفين, إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً, بين كتفيه خاتم النبوة,وهو خاتم النبيين, أجود الناس كفا, وأجرأ الناس صدرا, وأصدق الناس لهجة, وأوفى الناس بذمة, وألينهم عريكة, وأكرمهم عشرة, من رآه بديهة هابه, ومن خالطه معرفة أحبه, يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
#364#
تابعهم إسحاق بن إسماعيل والعلاء بن عمرو الحنفي، عن عيسى بن يونس السبيعي.
فيه انقطاع؛ لأن إبراهيم هو ابن محمد ابن الحنفية.
قال يعقوب بن شيبة: ولو كان عن إبراهيم بن محمد, عن أبيه محمد ابن الحنفية لكان مسنداً, ولكنه نقص من إسناده رجلا، وقد أخرجه غير واحد من أصحابنا في "المسند", وإنما ذكرناه لتعرف قصته ولا يشتبه أمره.
وقد قال علي بن المديني في هذا الحديث: كنت أرى أن إبراهيم بن محمد الذي روى عنه عمر مولى غفرة هذا الحديث: إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
#365#
قال علي: فبلغني عن الثقة أنه رواه عن عمر مولى غفرة، عن إبراهيم بن محمد بن علي بن أبي طالب وأمه الحنفية وعمر بن عبد الله مولى غفرة, وغفرة بنت رباح أخت بلال بن رباح – يعني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان عمر يكنى أبا حفص, مات بعد مخرج محمد بن عبد الله بالمدينة سنة خمس وأربعين ومائة.
ورواه يعقوب أيضاً في "المسند" قال: فحدثناه يعلى بن عبيد، حدثنا مجمع بن يحيى، عن عبد الله بن عمران, عن رجل من الأنصار سأل علياً رضي الله عنه عن نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشربا بحمرة, أدعج العين, سبط الشعر, كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة, كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب, ليس في صدره ولا في بطنه شعر غيره, شثن الكف والقدم, إذا مشى كأنما يتحدر في صبب، وإذا ما مشى فكأنما يتقلع من صخر, إذا التفت التفت جميعاً, كأن عرقه اللؤلؤ ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر, ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا العاجز ولا اللئيم لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
#366#
وخرجه أحمد في "مسنده" عن وكيع، عن مجمع بن يحيى, عن عبد الله بن عمران الأنصاري, عن علي.
وقال يعقوب أيضاً: حدثناه مسدد, حدثنا خالد بن عبد الله – يعني الواسطي – حدثنا عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه: عن جده قالوا: يا أبا حسن, انعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان أبيض مشرباً بياضه حمرة, أهدب الأشفار, أسود الحدقة لا قصير ولا طويل, وهو إلى الطول أقرب، من رآه جهره, عظيم المناكب, في صدره مسربة, لا جعد ولا سبط, شثن الكف والقدم، كأن عرقه اللؤلؤ, إذا مشى تكفأ كأنه يمشي في صعد, لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
وحدث به مختصراً يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن سعيد – يعني: ابن منصور – حدثنا خالد بن عبد الله .... فذكره.
وحدث به مختصراً قاسم بن ثابت في "الدلائل" فقال: أخبرناه أبو العلاء, حدثنا عمر بن السكن الواسطي, حدثنا خالد بن عبد الله، عن عبيد الله بن محمد بن عمر, عن أبيه, عن جده علي بن أبي طالب ... فذكره.
#367#
$[شرح حديث هند بن أبي هالة في نعت النبي صلى الله عليه وسلم]$
وهذه الأحاديث التي ذكرناها فيها ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان فخماً في بعض خلقته: كصدره العريض، وبعد ما بين منكبيه وعظم هامته وضخامة كراديسه, وجلالة مشاشه وكتده.
وقال ابن الأنباري والقتبي فيما حكاه عنهما أبو عبيد الهروي في قول هند: "فخماً مفخماً" قالا: أراد أنه كان عظيماً معظماً في الصدور, ولم تكن خلقته في جسمه الضخامة ومنه قول العجاج:
دع ذا وبهج حسبا مبهجاً ... فخما وسنن منطقاً مزوجاً
وحكي عن أبي نصر أحمد بن حاتم: الفخامة الجهارة, وعن أبي عبيد: الفخامة في الوجه نبله وامتلاؤه مع الجمال والمهابة انتهى.
وهذا هو الأليق بتفسير قوله: "فخماً" والله أعلم؛ لأن الفخم الضخم, وقد قدمنا ما كان من خلقته صلى الله عليه وسلم ضخماً جسيماً جاءت الأحاديث الصريحة بذلك ولكنها ضخامة مع جمال وبهجة, وفخامة مع حسن وهيبة, ولهذا والله أعلم أتبع هند قوله: "فخماً" قوله: "مفخماً"
#368#
أي: معظماً مهيباً عند الناس, كما في حديث خالد بن عبد الله الواسطي المذكور آنفاً.
قوله: "من رآه جهره":
قال قاسم بن ثابت في "الدلائل" أي: أكبره وأعظمه, يقال: أجتهرت الجيش, إذا كبروا في عبني, ويقال منه: رجل جهير, إذا كان ذا منظرة بن الجهارة.
#369#
قال: وأخبرني محمد بن عبد الله, عن الرياشي قال: اجتهرت الجيش إذا كبر في عينك, واجتهرني الرجل إذا كبرت في عينه.
قال هند: "يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر":
التلألؤ: الإشراق والاستنارة, ويسمى القمر لليلة الرابعة عشر من الشهر بدراَ؛ لأنه يبادر ليلتئذ غروب الشمس بطلوعه من المشرق, وقال ابن فارس: وسمي البدر بدراً لتمامه.
جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه, وإذا ضحك يتلألأ في الجدر.
خرجه الترمذي بنحوه في "جامعه" و"الشمائل".
وفي رواية: كأن القمر يجري في جبهته.
وجاء عن محمد بن السائب الكلبي, عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل, ولم يقم مع الشمس قط إلا علا ضوؤه على ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه على ضوء السراج.
#370#
وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر - وعليه صلى الله عليه وسلم حلة حمراء – فإذا هو عندي أحسن من القمر.
خرجه الترمذي في "جامعه" وقال: هذا حديث حسن غريب.
وفي رواية: قال جابر: فكان في عيني أزين من القمر.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" بنحوه, وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وحدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز الرملي، حدثنا القاسم بن غصن، عن الأشعث, عن أبي إسحاق: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم [في] ليلة ضحياء وعليه حلة حمراء، فجعلت أمايل بينه وبين القمر، فلهو أحسن في عيني من القمر.
وللحديث طرق:
منها: ما حدث به القاسم بن ثابت في "الدلائل" عن موسى بن هارون, حدثنا الحسن بن حماد الوراق, حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, سمعت أشعث بن سوار, عن أبي إسحاق .... فذكره.
وقال: قال الفراء: ليلة أضحيانة وضحياء إذا كانت مضيئة.
وقال غيره: ليلة ضحيانة ويوم أضحيان, وهو الذي لا غيم فيه.
#371#
وقال: [قال] أبو حاتم: عن أبي عبيدة: وهي الليلة التي لا يغيب فيها القمر, ولا يستره غيم ولا غيره, يقال: أضحيان وأضحيانة وضحياء, ومنه قيل: فرس أضحى ولا يقولون: أبيض.
قال: والأضحى منه أخذ؛ لأنهم لا يصلون حتى تطلع الشمس.
وخرج دعلج في كتابه "مسند المقلين" فقال: حدثنا ابن شيرويه, حدثنا إسحاق, أخبرنا الفضل بن موسى, عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد, عن جامع بن شداد, عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول: ((يا أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه وهو يقول: أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب.
فقلت: من هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب.
قلت: من هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة؟ فقالوا: هذا عبد العزي أبو لهب.
قال: فلما ظهر الإسلام خرجنا في ركب حتى نزلنا قرب المدينة ومعنا ظعينة فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة – قال: ومعنا جمل – قال: أتبيعون هذا الجمل؟ قلنا: نعم, قال: بكم: بكذا وكذا
#372#
صاعاً من تمر, قال: فأخذه ولم يستنقصنا, وقال: قد أخذته.
قال: ثم توارى بحيطان المدينة, قال: فتلاومنا فيما بيننا فقلنا: أعطيتم جملكم رجلاً لا تعرفونه, قال: فقالت الظعينة: لا تلاوموا, فإني رأيت وجه رجل لم يكن ليخفركم, ما رأيت شيئاً أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه.
قال: فلما كان من العشاء أتانا رجل فسلم فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول: إن لكم أن تأكلوا حتى تشبعوا, وتكتالوا حتى تستوفوا, فأكلنا حتى شبعنا, واكتلنا حتى استوفينا.
ثم قدمنا المدينة من الغد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب على المنبر وهو يقول: ((يد المعطي العليا, وابدأ بمن تعول: أمك وأباك, وأختك وأخاك, ثم أدناك أدناك)) .... الحديث.
تابعه سنان بن هارون, وعبد الله بن نمير, ويونس بن بكير, عن يزيد بن زياد مختصرا, ورواية سنان مطولة.
وقدمنا رواية ابن نمير.
ورواه عثمان بن أبي شيبة، عن ابن نمير مطولاً.
وألزم الدارقطني الشيخين إخراجه في "الصحيح" كذلك, وقد
#373#
ذكرناه قبل.
ورواه إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن أبي حية, عن جامع بن شداد بنحوه.
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين, حدثنا أبو جناب وهو يحيى بن أبي حية, عن أبي صخرة جامع بن شداد .... فذكره بنحوه مطولا.
وخرجه الدارقطني في "سننه" فقال: حدثنا أبو عبيد القاسم بن إسماعيل, حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا ابن نمير, عن يزيد بن زياد .... فذكره بطوله.
وحدث محمد بن يونس الكديمي, عن شاصونة بن عبيد، حدثني معرض بن عبد الله بن معيقيب اليماني, عن أبيه, عن جده قال: حججت حجة الوداع, فدخلت داراً بمكة فرأيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه كأنه دارة القمر .... الحديث.
وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى.
#374#
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد, حدثنا يونس بن أبي يعفور العبدي, عن أبي إسحاق الهمداني, عن امرأة من همدان سماها قالت: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم مرات على بعير له يطوف بالكعبة بيده محجن, عليه بردان أحمران يكاد يمس منكبه، إذا مر بالحجر استلمه بالمحجن, ثم يرفعه إليه فيقبله.
قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبهيه, قالت: كالقمر ليلة البدر لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
وثبت عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال وسأله رجل: كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا, بل مثل الشمس والقمر, وكان مستديراً.
وقال أبو حسان بن الحسن بن عثمان: أخبرني عبد الله بن محمد بن حميد, حدثني إبراهيم بن عيسى، حدثنا عبد الله بن موسى التيمي, عن أسامة بن زيد, عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار, قال: قلت للربيع ابنة معوذ: صفي لنا النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كنت إذا رأيته رأيت الشمس طالعة.
تابعه إبراهيم بن المنذر الحزامي، ويعقوب بن محمد الزهري، عن عبد الله بن موسى التيمي.
#375#
وتقدم من حديث علي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكان في الوجه تدوير.
وروى سعيد بن منصور: حدثنا خالد بن عبد الله, عن سعيد بن إياس الجريري, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض مليح الوجه.
تابعه وهب بن بقية الواسطي وغيره, عن خالد الواسطي.
وله طرق سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.
وقال الواقدي: حدثني شيبان, عن جابر, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فما أنسى [شدة] بياض وجهه وشدة [سواد] شعره, إن من الرجال من هو أطول منه, ومنهم من هو أقصر منه, يمشي ويمشون حوله, قلت لأمي: من هذا؟ قالت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#376#
ورواه دعلج في كتابه "مسند المقلين" من طريق إسرائيل, عن جابر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وحدث أبو الأحوص, عن عبد الله – يعني ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه ويساره حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله.
ورواه أبو إسحاق السبيعي, عن عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه وعلقمة, عن ابن مسعود نحوه، وفيه: حتى يرى بياض خديه .... الحديث.
وقال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى السلمي في كتابه "المواعظ والوصايا": أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز المحتسب, حدثنا داود بن سليمان بن خزيمة البخاري – بكرمينية – حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى, حدثني هشام بن عروة, عن أبيه: عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كنت قاعدة أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله, فجعل جبينه يعرق, وجعل عرقه يتولد نوراً, فبهت, فنظر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما لك يا عائشة بهت؟!)) قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نوراً, ولو رآك أبو [كبير] الهذلي لعلم أنك أحق بشعره, فقال: ((وما يقول أبو كبير؟)) قلت يقول:
#377#
ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل بين عيني، وقال: ((جزاك الله يا عائشة خيراً, ما سررت كسروري منك)).
وحدث به الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "الحلية" عن إبراهيم بن أحمد الهمداني, حدثنا أوس بن أحمد بن أوس, حدثنا داود بن سليمان بن خزيمة .... فذكره إلى آخر الشعر.
تابعه أبو بكر أحمد بن محمد بن يوسف بن الحكم بن موسى بن هميان البخاري, عن البخاري.
#378#
وقوله: "ومبرأ" قيل: هو منصوب عطفاً على قوله:
فأتت به حوش الفؤاد مبطناً ... سهداً إذا ما نام ليل الهوجل
وأنشده الجوهري في "صحاحه" مجروراً, وذكر أنه معطوف على قوله: "ولقد سريت على الظلام بمغشم".
وهو قوي؛ لأن أبا تمام حبيب بن أوس الطائي أنشده في كتاب "الحماسة" قبل قوله: "فأتت به حوش الفؤاد".
فقال: وقال أبو كبير الهذلي:
ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مثقل
ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فشب غير مهبل
ومبرأ من كل غير حيضة ... .... البيت.
و "أبو كبير" هذا بفتح الكاف وكسر الموحدة وآخره راء, واسمه
#379#
عامر بن ثابت بن عبد شمس بن خالد بن عمرو بن عبد كعب بن مالك بن كعب بن كاهلة بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي الشاعر وقيل: اسم أبيه الحليس, وقيل: الحلس.
وحدث أبو كريب, عن معاوية بن هشام, عن شيبان، عن جابر الجعفي، عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فما أنسى بياض وجهه مع شدة سواد شعره فقلت لأمي: من هذا؟ فقالت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[وخرج الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق" عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم] أحسن الناس وجهاً وأحسنه خلقاً.
#380#
*قال هند: "أطول من المربوع وأقصر من المشذب":
"المشذب": من قولهم فرس مشذب أي: طويل, وكل شيء محيته عن شيء فقد شذبته، وجذع مشذب ونخلة مشذبة: شذب عنها سعفها فيتفحش طولها عند الرائي. وبهذا المعنى فسر المشذب بالبائن الطول في نحافة.
وأما تفسير أبي محمد عبد الله بن قتيبة "المشذب" بأنه الطويل البائن الطول, فغلطه أبو بكر بن الأنباري في ذلك فقال: هذا غلط لأنه لا يقال للبائن الطول إذا كان كثير اللحم مشذب حتى يكون في لحمه بعض النقصان. انتهى.
وصح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان [النبي صلى الله عليه وسلم] ليس بالطويل
#381#
البائن ولا بالقصير.
وقال البراء رضي الله عنه في حديثه: لم يكن بالقصير ولا بالطويل.
وتقدم في حديث علي رضي الله عنه: لا طويل ولا قصير.
وأيضاً في رواية عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده علي: لا قصير ولا طويل وهو إلى الطول أقرب.
وجاء عن أبي هريرة نحوه.
وفي رواية: لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد.
والممغط – بتشديد الميم الثانية وزانه أصلا "منفعل" وأدغمت النون
#382#
في الميم فقيل: ممغط: [من قولهم] مغطت الشيء إذا مددته، وقيل في معناه هنا: هو الطويل المضطرب، وقيل: معناه معنى المشذب.
والقصير المتردد: الداخل بعضه في بعض قصرا، وقال أبو الحسين ابن فارس: والمتردد المجتمع الخلق.
وأما قول البراء رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا، لا ينافي قول هند: كان أطول من المربوع، فمراد هند – والله أعلم - أنه صلى الله عليه وسلم كان إلى الطول أقرب، كما في حديث علي رضي الله عنه.
وقال البراء: كان رجلا مربوعا، على بابه أي: معتدلا بين الطويل والقصير كما جاء مصرحا به عن البراء نفسه كما قدمناه عن علي رضي الله عنه وغيره.
ويحتمل أن يكون المربوع في قول هند كالمتردد في حديث علي.
وقد حكى أبو زيد سعيد بن أوس: رمح مربوع أي: قصير.
وحكى غيره منهم الزبيدي في "مختضر العين" وأبو الحسين ابن فارس في "مجمله" رمح مربوع: بين الطويل والقصير.
فعلى ما حكاه أبو زيد: يتنزل قول هند، وعلى ما حكاه الآخرون: يتنزل قول البراء، والله أعلم.
#383#
قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في كتابه "الأوسط في الأحكام": وذكر أبو محمد – يعني: ابن حزم - في المرتبة الرابعة في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان [النبي] صلى الله عليه وسلم ربعة فإذا مشى مع الطوال طالهم.
قلت: جاءت الرواية بنحوه فيما قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، وابن سعد في "الطبقات" والفظ له: أخبرنا سعيد بن منصور، حدثنا نوح بن قيس الحداني، حدثني خالد بن خالد التميمي، عن يوسف بن مازن الراسبي، أن رجلا قال لعلي [بن أبي طالب] رضي الله عنه: انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم، صفه لنا. قال: كان ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، أبيض ... وذكر الحديث.
تابعه نصر بن علي، عن نوح فيما حدث به عنه الإمام أحمد في "مسنده".
وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو بكر قاسم بن زكريا المطرز، حدثنا نصر بن علي، أخبرنا نوح بن قيس
#384#
الحداني، حدثنا خالد بن خالد، عن يوسف بن مازن: أن رجلا سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، انعت لنا النبي صلى الله عليه وسلم، صفه لنا قال: كان ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، أبيض شديد الوضح، ضحم الهامة، أغر أبلج هدب الأشفار، شثن الكفين والقدمين إذا مشى يتقلع كأنما ينحدر في صبب كأن العرق في وجهه اللؤلؤ، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
وتقدم في "البشارات العيسوية" [به] صلى الله عليه وسلم: إذا جاء مع الناس غمرهم.
وتقدم في أحاديث ذكر الخاتم الشريف في حديث مصنوع إسناده واه بمرة، عن علي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا قام غمر الناس، وإذا قعد [علا] على الناس.
#385#
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته لم يكن بالطويل البائن ولا المشذب الذاهب -والمشذب: الطول نفسه، إلا أنه المخفف – ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالقصير المتردد وكأنه ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسبا إلى الطول ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة ويقول صلى الله عليه وسلم: ((جعل الخير كله في الربعة)).
وسيأتي الحديث بطوله إن شاء الله تعالى.
*قال هند: "عظيم الهامة":
"الهامة" الرأس أو وسطه ومعظمه، أو ما بين حرفيه، وفي حديث علي رضي الله عنه: عظيم الهامة أيضا، وفي بعض طرقه: ضحم الرأس.
*قال هند: "رجل الشعر".
يقال: شعر رجل وزان كتف، ورجل وزان سبب ويسكن: أي ليس بشديد الجعودة ولا السبوطة، بل بينهما.
وفسره أنس رضي الله عنه في حديثه المتفق عليه فقال: وكان شعره ليس بجعد
#386#
ولا سبط.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" وفي بعض طرقه: ليس بالجعد القطط ولا السبط.
وعن علي رضي الله عنه نحوه.
و"الشعر الجعد القطط": المتناهي الجعودة كشعر الزنوج، يقال: قطط الشعر بالكسر - وهو نادر فيما عده ابن فارس في "المجمل" قططا بفتحتين: اشتدت جعودته.
وروي قوله: "ليس بالجعد القطط" بفتح القاف وكسر الطاء بعدها، ولا يأباه القياس.
و"السبط" بفتح أوله وكسر ثانيه، وبفتح ثانيه أيضا ويسكن، وقد تكسر السين مع السكون لثانيه ككتف وكتف وهو الشعر المسترسل الذي لا جعودة فيه أصلا.
*قال هند: "إن انفردت عقيقته"، -وفي رواية: عقيصته – "فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره".
و"العقيقة": في الأصل: شعر الرأس الذي يولد الصبي به، وسميت الذبيحة عن المولود في سابعه عقيقة؛ لأن شعره الذي هو
#387#
العقيقة يحلق في السابع وتركه بلا حلق تعده العرب عيبا وشحا وسمي شعر النبي صلى الله عليه وسلم عقيقة كما هو في هذا الحديث؛ لأن العقيقة أصله ومنها نباته.
وذهب بعضهم إلى أن العقيقة في هذا الحديث تصحيف من العقيصة بالصاد مكان القاف الثانية، وليس بشيء وقد وردت بها الراواية أيضا.
و"العقيصة" الشعر المجموع كهيئة المضفور، وقيل: هي الخصلة من الشعر إذا عقصت، والعقص أن تأخذ المرأة الخصلة من الشعر فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى التواؤها ثم ترسلها.
ومعنى قوله: "إن انفرقت عقيقته فرق وإلا فلا" أي: إن انفرق من ذات نفسه فرق وإلا تركه مسدولا، لأنه صلى الله عليه وسلم كان في صدر الإسلام يحب
#388#
موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بأمر، فسدل ثم فرق بعد كما في حديث ابن عباس- رضي الله عنه.
و "الفرق": أن يجعل شعر رأسه فرقتين كل فرقة ذؤابة.
و "السدل" إرسال الشعر على الوجه كالقصة شعر الناصية.
وقوله: "وفره" أي: أعفاه عن الأخذ منه، فإذا أعفاه تجاوز شحمة أذنيه وإذا لم يعفه لا يجاوزها.
وشحمة الأذن: طرفها الأسفل.
وحدث إسماعيل ابن علية، عن حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شعره إلى أنصاف أذنيه.
وروى العلاء بن سالم: حدثنا أبو الوليد المخزومي، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم وفرة إلى شحمة أذنبه .. الحديث.
قال الحافظ ابو محمد يحيى بن صاعد: ليس هذا بسهيل بن أبي صالح، هذا شيخ من أهل المدينة.
#389#
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "المزيد" أبو الوليد المخزومي اسمه خالد بن إسماعيل، وقد حدث عن عبيد الله بن عمر العمري فلا تستنكر أن يروي عن سهيل بن أبي صالح السمان، ويغلب على ظني أنه عنه روى هذا الحديث الحديث. انتهى.
وقال أبو أمية الطرسوسي: حدثنا محمد بن الصلت الأسدي، حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، حدثنا إياد، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه بردان أخضران وله وفره بها ردع حناء.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا عفان، حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط .. فذكره مطولا.
وسيأتي إن شاء الله قريبا.
وخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" وذكر أنه أنه من أفراد ابن أبي الزناد.
#390#
وجاء في حديث محمد بن جعفر - غندر - حدثنا شعبة، سمعت أبا إسحاق، سمعت البراء رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه.
خرجه أحمد في "مسنده" عن غندر.
وخرجه أبو جعفر أحمد بن منيع بن عبد الرحمن البغوي في "مسنده" فقال: حدثنا أبو قطن، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: كانت جمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضرب شحمة أذنيه.
وأبو قطن: شيخ البغوي، وهو عمرو بن الهيثم بن قطن بن كعب القطعي البصري أحد الثقات.
وفي بعض طرقه الصحيحة عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، وقال في آخره: قال أبو إسحاق: سمعته - يعني البراء - يحدث بهذا الحديث مرارا وما حدث به قط إلا ضحك.
وروى الحسين بن إسماعيل المحاملي من حديث أنس رضي الله عنه قال:
#391#
كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جمة جعدة، فإذا كان الشعر إلى شحمة الأذنين سمي وفرة، فإذا زاد فوق الوفرة سمي جمة فإذا بلغ المنكبين فهو لمة.
وقد صح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم له شعر يضرب منكبيه.
وجاء في حديث سيأتي - إن شاء الله تعالى - بطوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشطه بالمشط كأنه حبل الرمل أو كأنه المتون التي تكون في الغدر إذا سقفتها الرياح فإذا نكثه بالمرجل أخذ بعضه بعضا، وتحلق حتى يكون متحلقا كالخواتم.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان له ضفائر أربع.
وروي عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مكة وله أربع غدائر.
رواه أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن مسلم ويحيى بن عبد الحميد وغيرهم عن سفيان بن عيينه، عن ابن أبي نجيح.
حدث به أبو داود عن النفيلي، حدثنا سفيان.
وخرجه الترمذي في "جامعه" وحكى عقيبه عن البخاري أنه قال: لا أعرف لمجاهد سماعا من أم هانئ.
#392#
و"الغذائر": عقائص الشعر.
وفي رواية عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا ضفائر أربع.
وقال دعلج بن أحمد في "مسند المقلين" حدثنا إسحاق بن خالويه، حدثنا عباس بن الوليد، حدثنا سفيان، [عن ابن أبي نجيح ومنصور، عن مجاهد، عن رجل من ثقيف قال منصور: سفيان بن الحكم] أو الحكم بن سفيان أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قدومه إلى مكة وله أربع غدائر يعني به الشعر.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن إدريس الحلبي، حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي، حدثنا وكيع، عن همام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ضفائر في رأسه.
وفي حديث خرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه" يأتي إن شاء الله تعالى بطوله فيه في ذكر شعره: ربما جعله غدائر أربع تخرج الأذن اليمنى من بين
#393#
غديرتين يكتنفانها، وتخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين يكتنفانها، وتخرج الأذنان ببياضهما من بين تلك الغدائر كأنها توقد الكواكب الدرية بين سواد شعره صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" أخبرنا معاذ بن المثنى، حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود واسمه عبد الله بن محمد بن حميد ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي، حدثني محمد بن سليمان القرشي ويقال له: ابن المسمول، حدثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام، عن أبيه، عن ميل بنت مسرع الأشعرية: أن أباها كان يأخذ من شعره وأظفاره ثم يدفنه ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله هكذا قال: "بنت مسرع"، وقال غيره: بنت مشرح.
وروي عن وكيع، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر تسريح رأسه ولحيته بالماء.
رواه أبو الشيخ الأصبهاني عن مسلم بن سعيد، حدثنا مجاشع، حدثنا
#394#
وكيع .. فذكره.
ورواه هشام بن علي، عن سهل بن تمام، عن الربيع بن صبيح، عن يزيد، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه، وكان يسرح لحيته بالماء وكان يكثر القناع.
*قال هتد: "أزهر اللون":
"الأزهر" في أحد معانيه: الأبيض، وأيضا القمر، والزاهر والأزهر من ألوان الرجال المشرق، وبه يفسر أزهر اللون أي: مشرقه منيره، وقيل: حسنه.
#395#
وقد ورد تفسيره في حديث أنس الصحيح أنه قال: أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آدم، وهو أحسن الألوان.
وفسر قول أنس رضي الله عنه هذا: "ليس بأبيض أمهق": أي: ليس بكريه البياض كالجص، بل كان نير البياض.
وقال محمود بن غيلان المروزي في "تاريخه": حدثنا النضر بن شميل، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض كأنما صيغ من فضة.
وحدث به الترمذي في "الشمائل": عن أبي داود المصاحفي سليمان بن سلم، حدثنا النضر بن شميل.. فذكره.
وقال أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا منصور بن أبي مزاحم التركي، أخبرنا روح بن مسافر، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد البياض كثير الشعر، يضرب شعره
#396#
منكبيه.
وروي من حديث عمرو بن عون، حدثنا خالد، عن الجريري، حدثني أبو الطفيل رضي الله عنه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وما بقي أحد اليوم رآه غيري. قلت: ما كانت صفته؟ قال: كان أبيض مليح الوجه.
تابعه سعيد بن زيد، وعباد بن العوام، وعبد الوارث، وعبد الأعلى السامي، وغيرهم، عن سعيد الجريري نحوه، ولفظه: قال قلت: فهل تنعت من رؤيته؟ قال: نعم، كان مقصدا أبيض مليحا.
وله طرق، وهو في "صحيح مسلم" و "سنن أبي داود"، و"الشمائل" تأليف الترمذي.
و "المقصد": المعتدل الذي ليس بجسيم ولا قصير.
وقال النسائي في "السنن الكبرى": وأخبرنا قتيبة، حدثنا سعيد بن
#397#
أبي مزاحم، [قال: حدثنا مزاحم بن أبي مزاحم] عن عبد العزيز بن عبد الله، عن محرش الكعبي رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجعرانة فعلم أهل الجعرانة بمدخله فاجتمعوا عليه وكثروا فكأني أنظر إلى بياض جنبه كأنه بياض قضبان فضة، فرقع يديه ثم قال: (( أيها الناس، إليكم عني)) فتنحوا عنه حتى جاء إلى المسجد، فركع ما شاء الله، ثم أحرم، ثم استوى على راحلته، فاستقبل بطن سرف حتى لقي طريق مكة فأصبح بمكة كبائت.
وقال أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "تاريخه" حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر، حدثنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، عن مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله: أن محرشا الكعبي أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرنة ثم أصبح كبائت، قال: فرأيت ظهره كأنه سبيكة فضة.
#398#
تابعهما ابن جريج، فرواه عن مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بنحوه، وفي حديثه: فنظرت إلى ظهره صلى الله عليه وسلم كأنه سبيكة فضة.
خرجه الترمذي في "جامعه" من طريق ابن جريج وقال: حديث غريب، ولا يعرف لمحرش الكعبي غير هذا الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا قال أبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي: جاء عنه حديث.
لكنه ذكر ابن الجوزي في أصحاب الثلاثة، وذكر قول البرقي بنحوه، وقال في ترجمة محرش: وأكثر الروايات محرش بكسر المين مع الحاء المهملة، وقيل: مخرش بكسرها مع الخاء المعجمة. انتهى.
وهكذا قاله ابن جريج.
قال الشافعي: وأصاب ابن جريج لأن ولده عندنا بنو مخرش.
وذكره الأمير أبو نصر ابن ماكولا في "إكماله" بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء، وآخره شين معجمة.
وقال أبو بكر أحمد بن عبد الله البرقي في "تاريخه" في ترجمة محرش هذا: قال الحميدي: كان سفيان يقول: "محرش" مرة،
#399#
ومرة يقول: "مخرش".
وقال يونس بن عبد الأعلى: حدثنا عبد الله بن وهب، وأخبرني [ابن] لهيعة والليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين حين سأله الناس فأعطاهم من البقر والغنم والإبل حتى لم يبق من ذلك شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد أعطيتكم من البقر والغنم والإبل حتى لم يبق من ذلك شيء فماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخلوني؟ ما أنا بالبخيل ولا جبان ولا كذوب)) فجذبوا ثوبه حتى بدت رقبته فكأنما حين بدا منكبه مثل شقة القمر من بياضه.
وفي حديث أم معبد عاتكة بنت خالد الذي قدمناه قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضائة.
وتقدم في حديث علي رضي الله عنه: أبيض مشرباً حمرة.
وفي رواية: أبيض اللون مشرباً حمرة.
وفي رواية: أبيض اللون ومشرباً بياضه حمرة.
وفي رواية عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرباً وجهه حمرة.
وخرج أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" حديثاً في الوصف الشريف, سيأتي إن شاء الله تعالى.
#400#
وقد نعته صلى الله عليه وسلم بعض من نعته بذلك بأنه مشرب حمرة, وقد صدق من نعته بذلك, ولكن إنما كان المشرب منه حمرة ما ضحا للشمس والرياح فقد كان بياضه من ذلك قد أشرب حمرة, [و] ما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر لا يشك فيه أحد, فمن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أبيض أزهر فعنى ما تحت الثياب فقد أصاب, ومن نعت ما ضحا للشمس والرياح بأنه أزهر مشرب حمرة فقد أصاب, ولونه الذي لا يشك فيه الأبيض الأزهر, وإنما الحمرة من قبل الشمس والرياح, وكان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه مثل اللؤلؤ أطيب من المسك الأذفر صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حبيب العباس بن القاضي أحمد بن محمد البرتي: حدثنا عبد الأعلى بن حماد, حدثنا معتمر, عن حميد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس لوناً.
#401#
*قال هند: "واسع الجبين".
جاء في طريق الزبيدي, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان مفاض الجبين.
"المفاض": الضخم.
وتقدم في "البشارات العيسوية" به صلى الله عليه وسلم: الصلت الجبين, والصلت: الأملس.
وروينا أن عائشة رضي الله عنها وصفت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان والله كما قال فيه شاعره حسان بن ثابت رضي الله عنه:
متي يبد في الداج البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد
قال هند: "أزج الحواجب سوابغ من غير قرن":
"الزجج": دقة الحاجبين مع التقوس.
#402#
و"سوابغ": أي: طوال إلى محاذاة آخر العين.
وقوله: "من غير قرن" أي: من غير التقاء طرفيهما متصلاً مما يلي أعلى الأنف, والعرب يستحبون البلج ويستحسنونه على القرن.
و"البلج": خلو ما بين رأس الحاجبين مما يلي أعلى الأنف من الشعر.
وقول أم معبد في وصفه صلى الله عليه وسلم: "أزج أقرن" تقدم تعليله, ولله الحمد.
#403#
وقوله: "الحواجب" وإنما هما حاجبان جمعهما لأن كل اثنين فما فوقهما جمع. قال الله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين}.
وصاحبا الحكم: داود وسليمان عليهما السلام.
*قال هند: "بينهما عرق يدره الغضب":
"بينهما": أي بين الحاجبين, ولم يذكرهما قبل بلفظ التثنية, بل قال: "الحواجب" وضعها – وهي جمع – موضع الحاجبين على مذهب من جعل التثنية جمعاً, ومنه قوله تعالى في شأن داود وسليمان – عليهما السلام – {وكنا لحكمهم شاهدين} على أحد التأويلين وقد تقدم فلما قال هند: "بينهما" رد الضمير إلى التثنية على المعنى دون اللفظ.
ومعنى "يدره" هنا يحركه ويظهره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا غضب امتلأ ذلك العرق دماً فيظهر ويرتفع.
وفي "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: وإذا كره شيئاً عرفناه في وجهه.
وله شاهد من حديث عمران بن حصين.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني من طريق يحيى بن أبي بكير, عن جعفر بن زياد، عن جامع بن [أبي] راشد – قال جعفر: أحسبه عن
#404#
منذر الثوري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمر وجهه.
وله شاهد عن المقداد بن الأسود.
وجاء عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته.
وخرجه أبو محمد ابن حيان أيضا: من حديث عبد الرحمن بن عبيد الله الحلبي, حدثنا عبيد الله بن إدريس, عن محمد بن عمرو بن علقمة, عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب .... فذكره.
وحدث أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "تاريخه" عن الهيثم بن خارجة, حدثنا رشدين بن سعد المهري.
وقال: حدثنا محمد بن بكير الحضرمي, حدثنا رشدين, عن عقيل, عن الزهري, عن أبي سلمة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اهتم أكثر مس لحيته.
#405#
قال: وقال بعضهم: يقبض عليها أو يخللها.
وقال الحسن بن سليمان: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا رشدين بن سعد, عن عقيل, عن ابن شهاب, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم أكثر مسح رأسه ولحيته فما أدري أيفتل عليها أم يخللها.
*قال هند: "أقني العرنين":
"القنا": احديداب في الأنف, قاله ابن فارس في "المجمل".
وقال الزبيدي في "مختصر العين": هو ارتفاع في أعلى الأنف, وقيل: القنا طول الأنف ودقة أرنبته مع ارتفاع وسطه.
و"العرنين": الأنف, وقيل: هو ما صلب من عظم الأنف, وقيل: العرنين أعلى الأنف وما دون القصبة.
#406#
قال ذو الرمة:
تثني النقاب على عرنين أرنبة ... شماء مارنها بالمسك مرثوم.
وبعضهم يطلق العرنين على الأنف كله خيشوماً ومرسناً ومعطساً, وعليه قول ذي الرمة أيضاً:
سافت بطيبة العرنين مارنها ... بالمسك والعنبر الهندي مختضب.
"سافت": شمت.
و"المارن": ما لان من طرف الأنف.
فعلى هذا: العرنين الأنف كله.
*قال هند: "له نور يعلوه": تقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه: كأن
#407#
الشمس تجري في وجهه, وإذا ضحك يتلألأ في الجدر.
*قال هند: "ويحسبه من لم يتأمله أشم": الشمم: ارتفاع الأنف, وقيل: ارتفاع رأس الأنف مع طول القصبة ومعنى قول هند أن النبي صلى الله عليه وسلم لحسن قناه يحسبه الناظر إليه أشم؛ لأن قناه يميل قليلاً إلى الشمم.
وذكر أبو محمد عبد الحق الإشبيلي أنه صلى الله عليه وسلم كان حسن الأنف.
*قال هند: "كث اللحية": تقدم في حديث أم معبد قولها: "في لحيته كثاثة".
يقال: لحية كثة أي: مجتمعة الشعر. وقيل: الكثة التي كثر نباتها من غير طول ولا رقة.
وتقدم في حديث علي رضي الله عنه كث اللحية.
وفي رواية: عظيم اللحية.
وخرج يعقوب بن سفيان في "تاريخه": من طريق الزبيدي [قال: أخبرني الزهري محمد بن مسلم] عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود
#408#
اللحية حسن الثغر.
وقال قيس بن حفص بن القعقاع الدارمي أبو محمد: حدثنا سليم ابن الحارث [أخو خالد بن الحارث], سمعت جهضم بن الضحاك يقول: مررنا بالزجيج, فرأينا فيها شيخاً, فإذا هو العداء ابن خالد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: صفه لي, قال: كان حسن السبلة قال: وكانت العرب أهل الجاهلية يسمون اللحية: السبلة.
خرجه دعلج في "مسند المقلين" لقيس بن حفص.
وحدث بنحوه البخاري في "تاريخه الكبير" فقال: قال لي قيس بن حفص، حدثنا سليم, سمعت جهضم بن الضحاك .... فذكره.
وعلقه في "التاريخ" عن عبدة, عن عبد الصمد, حدثنا جهضم .... فذكره.
#409#
وفي "مختصر العين" للزبيدي: والسبلة ما على الشفة العليا من الشعر.
وقال أبو الشيخ الأصبهاني: قال عبدان: حدثنا أبو كامل, حدثنا عمر بن هارون بن أسامة بن زيد, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ من طول لحيته وعرضها.
وحدث به الترمذي في "جامعه" عن هناد, عن عمر بن هارون به، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها.
تابعه مطين, عن هناد.
وقال الترمذي: غريب، وسمعت محمداً يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث, لا أعرف له حديثاً ليس له أصل – أو قال: ينفرد به – إلا هذا الحديث.
قال الذهبي: وكان من أوعية العلم على ضعفه وكثرة مناكيره, وما أظنه ممن يتعمد الباطل.
وحدث الحسن بن صالح, عن سماك، عن عكرمة, عن ابن عباس
#410#
رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص شاربه, وكان أبوكم إبراهيم عليه السلام من قبله يقص شاربه.
خرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" للحسن.
وروي عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شاربه على سواك.
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن [أبي] عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني": حدثنا ابن كاسب, حدثنا ابن أبي فديك, عن إبراهيم بن قدامة الجمحي, عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من شاربه وظفره يوم الجمعة.
قال أبو بكر بن أبي عاصم: أحسب هذا – يعني: عبد الله بن عمرو – رجلاً من بني جمح أدخله يعقوب في "مسند قريش" في الجمحيين.
وحدث به أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" عن ابن أبي عاصم النبيل, حدثنا الحسن بن علي الحلواني, حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، حدثنا محمد بن سليمان المسمولي, حدثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام, عن أبيه, عن
#411#
عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ شاربه وأظفاره كل جمعة, وفيه اضطراب.
منه ما رواه أبو الشيخ أيضاً عن علي بن الحسين الدوري, حدثنا أبو مصعب, حدثني إبراهيم بن قدامة, عن عبد الله بن محمد بن حاطب, عن أبيه, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من شاربه أو ظفره يوم الجمعة.
وحدث به أيضاً عن بهلول الأنباري, حدثنا عتيق بن يعقوب, حدثنا إبراهيم بن قدامة، [عن أبي قدامة], عن أبي عبد الله الأغر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه ويأخذ من أظفاره قبل أن يروح إلى صلاة الجمعة.
وخرج أيضاً من طريق يعقوب بن الوليد الأزدي, حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا احتجم أو أخذ من شعره أو من ظفره بعث به إلى البقيع فدفنه.
#412#
$[ما روي في شعر رسول الله وشيبه وخضابه]$
وقد جاء أن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد السواد.
قال أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين": حدثنا محمد بن يونس,. حدثنا عبد الله بن داود، عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فما أنسى شدة بياض وجهه وشدة سواد شعره, لا بالطويل ولا بالقصير, رأيته يمشي وأصحابه حوله منهم من هو أقصر منه, ومنهم من هو أطول منه، كأن عليه شعاع الشمس.
وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم شاب لكن لم يبلغ شيبه في رأسه ولحيته عشرين شعرة بيضاء, كما صح عن أنس أنس رضي الله عنه.
وورد تقليل الشيب أيضاً عن ابن عمر, وجابر بن سمرة, وعبد الله بن بشر, وغيرهم رضي الله عنهم.
وحدث أحمد بن سلمان النجاد الفقيه, عن هلال بن العلاء الرقي, حدثنا حسين بن عياش الرقي, حدثنا جعفر بن برقان, حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قدم أنس بن مالك المدينة, وعمر بن عبد العزيز وال عليها فبعث إليه عمر وقال للرسول: سله هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني رأيت شعراً من شعره قد لون؟ فقال أنس – رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد متع بالسواد ولو عددت ما أقبل علي من شيبه ولحيته ما كنت أزيدهن
#413#
على إحدى عشرة شعرة شيبة، وإنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي غير لونه.
وخرج الترمذي في "الشمائل": من طريق عبد الرزاق, عن معمر, عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: ما عددت في رأس النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربع عشرة [شعرة] بيضاء.
وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا علي بن الجعد, حدثنا زهير, عن حميد الطويل قال: سئل أنس رضي الله عنه عن الخضاب، قال: خضب أبو بكر بالحناء والكتم, وخضب عمر بالحناء وحده, قيل له: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء, وأصغى حميد إلى رجل عن يمينه قال: كن سبع عشرة شعرة.
وحدث يعقوب بن سفيان، عن الحجاج بن منهال, حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا ثابت قال: قيل لأنس رضي الله عنه: هل كان شاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما شانه الله بالشيب,ما كان في رأسه إلا سبع عشرة أو ثمان عشرة شعرة.
#414#
وحدث الواقدي عن عمر بن عقبة بن أبي عائشة الأسلمي, عن المنذر بن جهم, عن الهيثم بن ذهر قال: رأيت شيب النبي صلى الله عليه وسلم في عنفقته وناصيته, حزرته يكون ثلاثين شيبة عدداً.
كذا قال الواقدي: ذهر.
وفي "صحيح مسلم" من حديث المثنى بن سعيد, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته, قال: ولم يخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ.
وجاء عن المثنى بن سعيد أيضاً ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يختضب إنما كان شمط العنفقة يسيراً, وفي الصدغين يسيراً, وفي الرأس يسيراً.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: سمعت أبا جحيفة رضي الله عنه يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يشبهه, قلت لأبي جحيفة: صفه لي، قال: كان أبيض قد شمط.
يقال: "شمط" بالكسر شمطاً بالتحريك إذا خالط سواد لحيته بياض.
وفي "المجمل" لابن فارس: الشمط اختلاط الشيب بالشباب.
وفي "مختصر العين" للزبيدي: الشمط اختلاط الشعر بالشيب.
وفي حديث أبي جحيفة هذا: أن الحسن رضي الله عنه كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء هذا القول عن أبي بكر وعلي وأنس رضي الله عنهم.
#415#
$[ذكر جماعة ممن يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم]$
وقد كان جماعة يشبهون بالنبي صلى الله عليه وسلم:
أنشد الحافظ أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد ابن سيد الناس اليعمري الربعي – رحمه الله وإيانا – في كتابه "الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير" بيتين من نظمه جمع فيهما خمسة يشبهون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال:
لخمسة شبه المختار من مضر ... يا حسن ما خولوا من شبهه الحسن
لجعفر وابن عم المصطفى قثم ... وسائب وأبي سفيان والحسن
#416#
[قلت]: كأن أبا الفتح – رحمه الله [تعالى] – قلد الإمام الحافظ أبا عمر ابن عبد البر رحمه الله فإنه قال في كتابه "الاستعياب" في ترجمة أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه: يقال: إن الذين كانوا يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب, والحسن بن علي، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب, والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. انتهى.
وقد فاتهما أحد عشر رجلاً لم يذكرهم أبو الفتح في البيتين المذكورين, ولا أبو عمر بن عبد البر.
*فالأول: إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حدث عن لقيه إبقراهيم – عليه الصلاة والسلام – ليلة المعراج قال صلى الله عليه وسلم: ((لم أر رجلاً أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه)).
#417#
وتقدم في قصة المعراج.
*والثاني: إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية:
وسيأتي [في] ترجمته إن شاء الله تعالى عند ذكر أمه.
قال أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "اعتلال القلوب": حدثنا القنطري, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عبد الرحمن بن شماسة المهري، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم إبراهيم مارية القبطية وهي حامل منه بإبراهيم ... وذكر الحديث, وفيه فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاماً وأنه أشبه الخلق بي, وأمرني أن أسميه إبراهيم, وكناني بأبي إبراهيم، فلولا أني أكره أن أحول كنيتي التي [قد] عرفت بها لاكتنيت بأبي إبراهيم كما كناني جبريل عليه السلام)).
#418#
*والثالث: الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنهما.
صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الحسين كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عيسى الترمذي في "جامعه": حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن, أخبرنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن هانئ بن هانئ, عن علي رضي الله عنه قال: الحسن أشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك.
هذا حديث حسن غريب قاله أبو عيسى.
وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" عن مالك بن إسماعيل, حدثنا إسرائيل .... فذكره.
وهو في "صحيح أبي حاتم بن حبان" عن الحسن بن محمد بن الصباح, حدثنا شبابة, حدثنا إسرائيل ... فذكره بنحوه.
#419#
وخرجه أحمد في "مسنده" عن أسود بن عامر وحجاج – فرقهما – عن إسرائيل بنحوه.
ورواه إسماعيل بن مسلم, عن أبي إسحاق, عن رجل قد سماه، عن علي رضي الله عنه والرجل هو: هانئ بن هانئ المذكور قبل.
وجاء عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عاصم بن ضمرة, عن علي رضي الله عنه.
أخبرنا المسند الكبير الشهاب عبد الرحمن بن أبي عبد الله الفارقي, أخبرنا القاسم بن المظفر الدمشقي, أخبرناه أبو الحسن علي بن أبي عبد الله البغدادي – قراءة عليه وأنا أشهد – ومحمد بن أحمد القطيعي, ومحمد بن عبد الواحد بن المتوكل – إجازة – أن أبا بكر محمد بن عبيد الله بن الراعوني, أنبأهم, زاد البغدادي فقال: وأنبأنا أيضاً نضر بن نصر أبو القاسم الواعظ: ح.
وأخبرنا ابن الفارقي, حدثنا القاسم بن محمد الإشبيلي الحافظ، أخبرنا التقي إبراهيم بن علي وعبد الرحمن بن الزين أحمد، ومحمد بن مؤمن، قال: أخبرنا داود بن أحمد بن محمد، أخبرنا محمد بن عبيد الله الكرخي [ح] وقال التقي وابن الزين أيضا: [أخبرنا الحسن بن إسحاق بن موهوب]، أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الراعوني، قالوا: أخبرنا علي بن أحمد بن البسري – قراءة عليه ونحن نسمع –
#420#
أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن الذهبي، حدثنا أحمد – يعني ابن إسحاق بن البهلول القاضي - أخبرنا جعفر، حدثنا سفيان بن محمد بن سفيان المصيصي، حدثنا أشعث بن شعبة، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: كان الحسن بن علي أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من شعر إلى سرته، وكان الحسين بن علي أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن قدميه إلى سرته. اقتسما شبهه صلى الله عليه وسلم.
*والرابع: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد في "المسند" في مسند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي سمعت محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثه، فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة، فلقوا العدو، وذكر الحديث في قتل الأمراء ونعي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم، وفيه: قال: ثم أمهل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي ابني أخي)) قال: فجيء بنا كأنا أفراخ فقال: ((ادعوا لي الحلاق)).
#421#
فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: (( أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي)) ثم أخذ بيدي فأشالها فقال: ((اللهم اخلف جعفرا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه)) قالها ثلاث مرات، وذكر بقية الحديث.
تابعه محمد بن سعد [فرواه] في "الطبقات" عن وهب بن جرير به.
وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحراني فيما أملاه بجامع المنصور من بغداد: حدثنا محمد بن عبد الله الشافعى، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب – سكن البادية – حدثني موسى بن جعفر بن إبراهيم، عن أبيه جعفر قال: قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة ما أحب أن لي بها حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((جعفر أشبه خلقي وخلقي)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأما أنت يا عبد الله فأشبه خلق الله بأبيك)).
*والخامس: عون بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي أخو عبد الله
#422#
رضي الله عنهما:
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن منده في كتابه "معرفة الصحابة": عون بن جعفر بن أبي طالب رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ((أشبهت خلقي وخلقي)).
أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، حدثنا العلاء بن عبد الجبار، حدثنا مهدي بن ميمون، عن محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعون: ((أشبهت خلقي وخلقي)).
*والسادس: عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي ابن خالة عثمان بن عفان [لأن أم عثمان بن عفان] -أروى بنت كريز بن ربيعة وأم أروى وعامر ولهما صحبة [و] أم حكيم البيضاء: بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الزبير بن بكار في كتاب "النسب": فولد عامر بن كريز
#423#
عبد الله بن عامر رضي الله عنهما استعمله عثمان رضي الله عنه على البصرة، وعزل أبا موسى الأشعري فقال أبو موسى: قد أتاكم فتى قريش كريم الأمهات والخالات والعمات يقول بالمال فيكم هكذا وهكذا.
وقال الزبير أيضا: كان – يعني: عبد الله بن عامر – كثير المناقب هو افتتح خراسان وقتل كسرى في ولايته وأحرم من نيسابور شكرا لله عز وجل وهو الذي عمل السقايات بعرفة، قال عمي مصعب بن عبد الله: ويقال: إنه أتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فقال: ((هذا شبهنا)) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفل عليه ويعوذه فجعل عبد الله يتسوغ ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه لمسقى)) فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء.
وأخرج الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": من طريق مصعب بن عبد الله، عن أبيه، عن جده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن حنظلة بن قيس أن عبد الله بن عامر بن كريز أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير فقال: ((هذا شبهنا)) وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفل عليه ويعوذه.
وحدث به محمد بن سليمان بن فارس، حدثننا عمر بن شبة، أخبرني أبو عبيدة النحوي أن عامر بن كريز أتى بابنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين أو ست سنين فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في فيه فجعل يزدرد ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلمظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ابنك هذا يسقى)) فكان
#424#
يقال: لو أن عبد الله قدح حجرا أماهه – يعني: - يخرج من الحجر الماء من بركته.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وقيل لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني عبد شمس: ((هذا أشبه بنا منه بكم)) ثم تفل في فيه فازدرده فقال: ((أرجو أن يكون مسقيا)) فكان كما قال صلى الله عليه وسلم. ذكره في "الاستيعاب".
ودليل قوله: "فكان كما قال" أن عثمان رضي الله عنه لما جمع لعبد الله بن عامر بن كريز بين ولاية البصرة وفارس شق نهر البصرة وعمل السقايات بعرفة، وكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء.
قال خليفة بن خياط: وفي سنة تسع وعشرين عزل عثمان أبا موسى الأشعري رضي الله عنه عن البصرة، وعثمان بن أبي العاص عن فارس، وجمع ذلك كله لعبد الله بن عامر بن كريز.
وقاله صالح بن الوجبه وزاد: وهو ابن أربع وعشرين سنة.
وذكر غيره أن عبد الله بن عامر أوصى إلى عبد الله بن الزبير ومات قبله بيسير، وكانت وفاته بمكة ودفن بعرفات، وكان كثير المناقب شيخا كريما، روي أن أضاف رجلا فأحسن قراه فلما عزم الرجل على الرحيل لم يعنه غلمان عبد الله بن عامر فقيل له في ذلك: فقال: [عن] غلماني لا يعينون من يرتحل عنا.
وقال أبو بكر عبد الله بن أبي الدنيا في كتابه "قضاء الحوائج" من
#425#
تأليفه: حدثنا الحسين بن عبد الرحمن يعني العرجي قال: دخل زياد الأعجم على عبد الله بن عامر بن كريز وأنشده:
أخ لك لا تراه الدهر إلا ... على العلات بساما جوادا
أخ لك ما مودته بمذق ... إذا ما عاد فقر أخيه عادا
سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مرارا لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكا وثني الوسادا
لكن قال الحاكم في "مستدركه": أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا ابن عائشة، قال: دخل زياد الأعجم على عبد الله بن جعفر فسأله في خمس ديات فأعطاه، ثم عاد فسأله في خمس ديات أخر فأعطاه، ثم عاد فسأله في عشر ديات فأعطاه، فأنشد [يقول]:
#426#
سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وذكر البيتين بعده فقط.
*والسابع: كابس بن ربيعة بن مالك بن عدي بن الأسود بن حسم – بضم الحاء المهملة، وسكون السين المهملة، وقيل بفتحها – ابن ربيعة ابن الحارث بن سامة بن لؤي.
قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتابه "المؤتلف والمختلف": ولأهل البصرة رجل يقال له: كابس بن ربيعة - بالكاف - ابن مالك من بني سامة بن لؤي كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم فوجه إليه معاوية رضي الله عنه فأشخصه لذلك فنظر إليه وقبل بين عينيه وأقطعه المرغاب، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا رآه بكى وقال: هذا أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى حديثه عباد بن منصور، رواه أبو الفتح عبد الكريم بن أحمد [بن محمد] بن القاسم المحاملي، وأبو القاسم الأزهري وغيرهما، عن الدارقطني.
قال ريحان بن سعيد الناجي - وكان صدوقا – : سمعت عباد بن
#427#
منصور - وهو الناجي - يقول: كان رجل منا يقال له: كابس بن ربيعة، فرآه أنس بن مالك رضي الله عنه فعانقه وبكى وقال: من أحب أن ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى كابس بن ربيعة... وذكر فيه قصة طويلة منها: فدفعه إلى معاوية رضي الله عنه وشهد سبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له بما شهد أنس رضي الله عنهم.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: حدثني إبراهيم بن نعيم وأبو عثمان قالا: حدثنا محمد بن عمر المقدمي، حدثنا ريحان بن سعيد، سمعت عباد بن منصور، قال: كان رجل منا يقال له: كابس بن ربيعة يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه به من إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحد حسنا منه.
وقال إبراهيم الحربي: يعني أرق منه رقة حسن.
*والثامن: حفيد الحسن من وجه، وحفيد الحسين من آخر، وهو إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أمه: فاطمة بنت الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
يقال: إنه كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في "تاريخ بغداد".
وقال عبد الله بن صالح العجلي: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن إبراهيم بن الحسن قال: دخل علي المغيرة بن سعيد وأنا شاب، وكنت
#428#
أشبه – وأنا شاب – برسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر من قرابتي وشبهي وأمله في، ثم ذكر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يعني سبهما، فقلت: يا عدو الله أعندي، قال فخنقته خنقا حتى أدلع لسانه.
المغيرة هذا هو ذلك الرافضي الكذاب الساحر، ذو الافتراء على الله تعالى، وكان رأس الفرقة المغيرية، ادعت طائفة نبوته، قتله في جماعة من أتباعه خالد بن عبد الله القسري أمير العراق بالكوفة في حدود العشرين ومائة.
وإبراهين بن الحسن هذا روى عن أبيه عن جده، وعنه ابنه إسماعيل وكثير النواء. مات في حبس أبي جعفر المنصور بالهاشمية في شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين ومائة وهو ابن سبع وستين سنة، وهو أول من مات في الحبس من بني الحسن فيما قاله أبو نعيم الفضل بن دكين وغيره.
وكان سبب حبس بني الحسن أن أبا جعفر المنصور عام حج في حياة أخيه أبي العباس السفاح فشهده بنو هاشم، وتخلف محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وكان محمد بن عبد الله بن حسن يذكر أن أبا جعفر ممن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان مع سائر المعتزلة الذين كانوا معه هنالك، فلما استخلف أبو جعفر لم يكن لهم هم إلا طلب محمد، وبالغ في ذلك حتى اشترى رقيقا من رقيق الأعراب وفرق عليهم إبلا من الذود إلى البعيرين إلى البعير، وثبتهم
#429#
في طلب محمد.
فلما حج في سنة أربعين ومائة، أتاه والد محمد بن عبد الله وأخوه حسن ابنا حسن، فقال لعبد الله: أين ابنك؟ قال: لا أدري، قال: لتأتيني به، قال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه،، قال: يا ربيع، قم به إلى الحبس.
وانصرف أبو جعفر قافلا، وعبد الله بن حسن محبوس، وأقام في الحبس ثلاث سنين، وجد أبو جعفر في طلب ابنيه، ثم استعمل أبو جعفر على المدينة رياح بن عثمان بن حبان المرسي، وفي ولايته المدينة في سنة أربع وأربعين قيل لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين تطمع أن يخرج لك محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلون، والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد، فأمر أبو جعفر رياحا بأخذ بني حسن، فأخذ حسنا وإبراهيم ابني حسن بن حسن، وحسن بن جعفر بن حسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، ومحمدا وإسماعيل وإسحاق بني إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس بن حسن بن حسن بن حسن، وأخاه عليا العابد.
والعابد هذا لما أخذ بنو حسن أتى إلى رياح متلففا في ساج له، فقال له رياح: مرحبا بك وأهلا ما حاجتك؟ قال: جئتك لتحبسني مع قومي، فحبسه معهم، فكانوا مدة إقامتهم في الحبس لا يعرفون وقت الصلوات إلا بأجزاء كان يقرؤها علي بن الحسن العابد، وحملوا من المدينة إلى العراق مقيدين في تلك السنة سنة أربع وأربعين إلى أن حبسوا بالهاشمية، وحبس معهم العثماني محمد بن عبد الله بن عمرو بن
#430#
عثمان وابنان له.
قال أبو نعيم الفضل بن دكين في قصر ابن هبيرة وكان في شرقي الكوفة مما يلي بغداد، فكان أول من مات منهم إبراهيم بن حسن ثم عبد الله بن حسن فدفن من حيث مات.
*والتاسع: العقيلي القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل ابن أبي طالب الهاشمي.
وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا عبيد بن إسحاق العطار، حدثنا القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل وكان أشبه خلق الله تعالى برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حدثني أبي عبد الله بن محمد - وكان يدعو جده أباه – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((من أنا))؟ قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((نعم)) .. وذكر الحديث.
ورواه محمد بن عمرو بن البختري الرزاز، حدثنا أحمد بن ملاعب، حدثنا عبيد بن إسحاق، حدثنا القاسم بن محمد.. وذكر الحديث مطولا بقصة في أوله.
#431#
*والعاشر: الرفاعي وهو أبو إسماعيل علي بن علي بن نجاد بن رفاعة اليشكري البصري العابد:
سماه مالك بن دينار راهب العرب، سمع أبا المتوكل الناجي والحسن وغيرهما، سمع منه أبو نعيم ووكيع وابن المبارك وعفان وعلي بن الجعد وآخرون.
قال أحمد بن حنبل: لم يكن به بأس.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني في كتابه "اللقط": قرأت على أبي الطيب بن جعفر الحلواني بها حدثكم أبو جعفر محمد بن موسى بن عيسى التمار الحلواني، حدثنا الفضل بن زياد، سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر علي بن علي الرفاعي فقال: كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر: وكل شيء روى نيف وعشرون حديثا.
وقال محمد بن عبد الله بن عمار: ما أظن له عشرين حديثا.
وقال: وكان زعموا يصلي كل يوم ستمائة ركعة، وكان تشبه عيناه – يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
#432#
وقال عفان وأبو نعيم: كان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حاتم: كان حسن الصوت بالقرآن ليس به بأس ولا يحتج به.
*الحادي عشر: الشبه، ويقال له: الشبيه، وهو أبو محمد يحيى بن القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي: وإنما لقب الشبيه لشبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان له في مثل موضع خاتم النبوة من النبي صلى الله عليه وسلم شامة عظيمة وكان إذا دخل الحمام ورآها الناس كبروا وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قدم مصر من أرض الحجاز لما أشخصه ابن طولون في مصادرة الرسيين وأهله، فخلت دور مصر ليلة قدومه ودخل مصر ووجهه مبرقع، وخرج في جملة أهل مصر الذين خرجوا لقدومه شخص يهودي أعمى يقال له: أبو إسرائيل فيما ذكره شيخنا أبو حفص عمر بن أبي الحسن الأنصاري المصري وغيره – ومع اليهودي ابنة له فقال لها: خذي بيدي وإذا رأيت هذا الرجل فأخبريني، فلما رأته قالت: هاهو يا أبة، فقال: اللهم إن كان هذا شبيها بنبيك في خلقه وهو على الحق فاردد علي بصري، فرد الله تعالى عليه بصره، فما عاد إلى مصر إلا وهو يمشي مع الناس بصيرا فأسلم وحسن إسلامه.
توفي أبو محمد الشيبه – رحمه الله تعالى – يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر رجب سنة ثلاث وستين ومائتين ودفن بمصر بمشهد يحيى أخي السيدة نفيسة، وكان له بمصر عقب إلى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة.
#433#
وقد نظمت الخمسة الذين ذكرهم الحسن بن علي الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس في بيتيه المتقدمين مع الأحد عشر الذين استدركتهم عليه في بيتين وهما:
شبه النبي ابنه سبطاه حافدهم ... وجعفر ابناه أبو سفيان والقثم
وسائب والعقيلي الخليل وكابس ... الكريزي الرفاعي الشبه قد ختموا
"شبه النبي صلى الله عليه وسلم": إبراهيم ابن مارية القبطية.
"سبطاه": الحسن والحسين ابنا علي بن ِأبي طالب.
"حافدهم" إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي.
"وجفر ابناه": عبد الله وعون ابنا جعفر.
"أبو سفيان": ابن الحارث بن عبد المطلب.
"والقثم": ابن العباس بن عبد المطلب.
و"سائب": ابن عبيد بن عبد يزيد القرشي.
"والعقيلي": القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب.
#434#
"الخليل" خليل الرحمن إبرهيم عليه السلام.
"وكابس": ابن ربيعة بن مالك بن عدي.
"الكريزي": عبد الله بن عامر بن كريز العبشمي.
"الرفاعي": علي بن [علي بن] نجاد بن رفاعة اليشكري.
"الشبه": يحيى بن القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
#435#
$[ذكر من يلحق بمن تقدم من المشبهين بالنبي صلى الله عليه وسلم]$
وربما يلحق بهؤلاء آدم أبو البشر عليه الصلاة والسلام: فقد قال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، وعن هشام بن عروة، عن أبيه: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن.. الحديث، وسيأتي بطوله إن شاء الله تعالى، وفي آخر الحديث: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((أنا أشبه الناس بأبي آدم، وكان أبي إبراهيم خليل الرحمن أشبه الناس بي خلقا وخلقا)).
ومما يقرب منه ما قال أبو داود في "سننه": وحدثت عن هارون بن المغيرة، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن شعيب بن خالد، عن أبي إسحاق قال: قال: علي رضي الله عنه ونظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنه فقال: إن ابني هذا سيد كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم [و] سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صلى الله عليه وسلم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخٌلق - ثم ذكر قصة - يملأ الأرض عدلا.
#436#
ومنه ما جاء عن موسى بن محمد بن عطاء البلقاوي وكان واهيا: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: لما زوج النبي صلى الله عليه وسلم الأخيرة من بناته عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل عليها فقال: ((يا بنية، كيف تجدين زوجك؟)) قال: فذكرت خيرا، فقال: ((أي بنية، إنه أشبه أباك وجدك)) يعني: بأبيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبجدها إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وجاء عن عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان رضي الله عنه فقال: ((يشبه بإبراهيم عليه السلام وإن الملائكة لتستحيي منه)).
وروينا من حديث القاسم بن زكريا المطرز: حدثنا الخليل بن عمرو، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن محمد بن عبد الله، عن المطلب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان بن عفان فقالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي آنفا رجلت رأسه، فقال: ((كيف تجدين أبا عبد الله؟)) قلت: بخير، قال: ((أكرميه فإنه من أشبه أصحابي خلقا)) هكذا رويناه خُلقا بالضم.
#437#
وممن يلحق بمن تقدم من المشبهين بالنبي صلى الله عليه وسلم:
*عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم يكنى أبا محمد، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وهو أول من ولي القضاء بالمدينة في زمن مروان، وتوفي سنة أربع وثمانين، وذكر أهل بيته أنه توفي في زمن معاوية وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا أن يكون ولي القضاء.
حكاه أبو موسى المديني، عن ابن شاهين، وأنه أورد عبد الله في الصحابة.
وذكره أبو عمر بن عبد البر قال: وقال العدوي: قتل يوم الحرة وذلك سنة ثلاث وستين وهو أخو الحارث بن نوفل، وكان عبد الله بن نوفل يشبه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقلت: وأخوه الحارث وأبوهما نوفل ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم الحارث: صحابيان، ونوفل كان أسن الصحابة من بني هاشم رضي الله عنهم.
#438#
*ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان القرشي الأموي العثماني، أمه فاطمة ابنه الحسين بن علي بن أبي طالب، كانت عند الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولدت له عبد الله وحسنا، ثم مات عنها، فخلف عليها بعده عبد الله بن عمرو بن عثمان، فولدت له محمدا هذا، وكان يسمى الديباج، وإنما سمي الديباج فيما ذكره أبو سعد بن السمعاني لحسن وجهه؛ ولأن ديباجة وجهه كانت تشبه ديباجة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقال له: سمي النبي صلى الله عليه وسلم وشبيهه وزرع الخليفة المقتول ظلما.
مات الديباج في حبس المنصور في قصر ابن هبيرة شرقي الكوفة مما يلي بغداد كما تقدم، وقيل: قتله المنصور ليلة جاءه خروج محمد بن عبد الله بن حسن المدينة سنة خمس وأربعين ومائة.
وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "الحلية" حدثنا أبو بكر بن مالك، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي قال: بلغني: أن أنسا رضي الله عنه قال لثابت: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فما زال يبكي حتى عمشت عيناه.
#439#
قلت: هو في كتاب "العلل" لكن لم يصرح عبد الله بن أحمد فيه بالسماع من أبيه، فقال في "العلل": قال أبي: بلغني أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لثابت: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما زال يبكي حتى عمشت عيناه.
وقال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن شعر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما رأيت شعرا أشبه بشعر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر قتادة، ففرح قتادة يومئذ.
وروي أن أبا جعفر محمد بن علي نظر إلى الصلت بن زبيد وشمط سائل على عنفقته فقال: هكذا كان شمط النبي صلى الله عليه وسلم سائلا على عنفقته، ففرح الصلت بذلك فرحا شديدا.
#440#
$[شمط عارضي النبي صلى الله عليه وسلم وعنفقته والخضاب بالصفرة والحناء والكتم]$
والشمط مذكور في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه الذي تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أبيض قد شمط.
وقد يفهم من هذا الحديث كثرة الشيب في جميع لحيته وعارضيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشمط اختلاط الشيب [بالشباب] كما قدمنا وليس كذلك، بل مراد أبي جحيفة – والله أعلم - بقوله "قد شمط" أي: عارضاه وعنفقته، وقد جاء ذلك مفسرا عن أبي جحيفة رضي الله عنه.
قال محمد بن الحسن بن قتيبة: حدثنا ابن أبي السري، حدثنا مروان، حدثنا صالح بن مسعود، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شمط عارضاه.
وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "السابق واللاحق" من طريق أبي عمرو يوسف بن يعقوب بن يوسف النيسابوري، عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه منه بيضاء - ووضع زهير
#441#
يده على عنفقته – فقيل لأبي جحيفة: مثل من أنت يومئذ؟ فقال: أبري النبل وأريشها.
وأصله في "الصحيح".
وله شا هد من حديث أنس وغيره.
وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته، فكان إذا ادهن لم يتبين وإذا أشعث رأسه تبين، وكان كثير اللحية ... الحديث.
ورواه أبو داود الطيالسي فقال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، سمعت جابر بن سمرة رضي الله عنه وذكر شمط النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا ادهن لم ير وإذا لم يدهن تبين لنا.
$*[الخضاب بالصفرة]$
وخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله من حديث عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن جعفر بن محمد وهشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أكثر شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأس في فودي
#442#
رأسه، وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن، وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين سواد الشعر فإذا مسه بصفرة - وكان كثيرا ما يفعل ذلك - صار كأنه خيوط الذهب.
وفي هذا الحديث الخضاب بالصفرة.
وله شاهد في "الصحيحين" من حديث عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ورأيتك تصبغ بالصفرة؟ فقال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بها.
وقال أحمد في "مسنده" حدثنا سريج، حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصفر لحيته ويلبس النعال السبتية ويسلتم الركنين ويلبي إذا استوت به راحلته ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
وخرجه من طريق أخرى مطولا.
وقال أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج أن رجلا يقال له: حميد بن نافع قال لابن عمر: رأيتك تصنع أشياء لا يصنعها غيرك! قال ابن عمر: إنك لا تزال طاعنا في شيء، ما هو؟ قال: رأيتك تصفر لحيتك، وتلبس النعال السبتية ولا تهل في الحج والعمرة حتى تنبعث بك ناقتك ولا تستلم إلا هذين الركنين الشرقيين
#443#
قال: أما ما ذكرت من تصفير لحيتي فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته... وذكر الحديث.
وحدث به [أبو] الوليد أيضا عن أحمد بن ميسرة المكي، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن أبيه قال: سمعت غير واحد من أهل المدينة يذكرون أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن نراك تفعل خصالا أربعا لا يفعلها الناس: تزال لا تستلم من الأركان إلا الحجر والركن اليماني، ونراك لا تلبس من النعال إلا السبتية، ونراك تصفر شعرك ويصبغ الناس بالحناء، ونراك لا تحرم حتى تستوي راحلتك وتوجه، فقال عبد الله: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
قال عبد العزيز: وقد سمعت نافعا يذكر هذه الخصال عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقد خرج النسائي وأبو داود من حديث عمرو بن محمد – هو العنقزي – حدثنا ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث خصيف، عن عطاء
#444#
ابن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخضب أخذ شيئا من دهن وزعفران، فمرسه بيديه، ثم يمرسه على لحيته صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن يزيد القاري: حدثنا صدقة، عن الأوزاعي، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صفر لحيته وما فيها عشرون شعرة بيضاء.
وحدث بمعناه سوار بن عبد الله التميمي، عن مبارك بن فضالة، سمعت عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: قلت لأنس: هل كان شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أراه كان في رأسه ولحيته خمس عشرة شعرة بيضاء.
قال: فإني قد رأيت من شعره عندنا شعرا فيه صفرة.
قال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسها بالصفرة.
وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ" عن يوسف بن كامل، حدثنا مبارك بن فضالة .. فذكره.
#445#
$*[الخضاب بالحناء والكتم]:$
وورد أنه صلى الله عليه وسلم خضب بالحناء والكتم فيما رواه جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جعفر قال: شمط عارضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضبه بحناء وكتم.
وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث غيلان بن جامع، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخضب بالحناء والكتم وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه.
وخرج دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين" من حديث عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا سفيان، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل: ((من هذا))؟ قال: ابني. قال: ((لا يجني عليك ولا تجني عليه)) قال: وقد رأيته لطخ لحيته بالحناء.
وقال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا عفان، حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط، حدثنا إياد، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأيته قال لي أبي: هل تدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقشعررت وكنت أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا يشبه الناس، فإذا بشر ذو وفرة بها ردع من حناء، عليه ثوبان أخضران فسلم
#446#
عليه أبي ثم جلسنا فتحدثنا ساعة.. وذكر الحديث.
وخرجه أبو داود في "سننه": عن أحمد بن يونس، عن عبيد الله بن إياد بنحوه، والترمذي والنسائي عن بندار، عن ابن مهدي، عن عبيد الله.
تابعهم أبو نعيم ومحمد بن الصلت الأسدي، عن عبيد الله.
وخرجه أبو داود أيضا عن محمد بن العلاء، عن ابن إدريس، سمعت ابن أبجر، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة .. فذكره بنحوه.
وخرجه النسائي أيضا: عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، وعن قراد أبي نوح عن جرير بن حازم، عن عبد الملك بن عمير كلاهما عن إياد بن لقيط بنحوه.
وقال البخاري في "صحيحه": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا سلام، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلت على أم سلمة فأخرجت لنا شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوبا.
#447#
وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة، عن موسى بن إسماعيل، وزاد في آخره: "بالحناء والكتم".
وجاءت هذه الزيادة أيضا في غير رواية التبوذكي، فقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني أبو الحسن الخولاني، أخبرنا سلام بن أبي مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فأخرجت إلينا شعرا أحمر مخضوبا بحناء وكتم، فقالت: هذا شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، حدثنا سلام بن أبي مطيع، فذكره بنحو رواية أبي حسان.
وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم في كتابه في "الخضاب" عن إبراهيم بن الحجاج، عن سلام بن أبي مطيع.
تابعهم عفان بن مسلم، ومسلم بن إبراهيم، ويونس بن محمد قالوا: أخبرنا سلام بن [أبي] مطيع. فذكره.
#448#
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا سلام ابن أبي مطيع، حدثنا عثمان بن عبد الله بن موهب قال: دخلنا على أم سلمة فأخرجت إلينا صرة من شعر مخضوب بالحناء، فقالت: هذا شعر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن عثمان، عن أبي حمزة السكري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب القرشي، قال: دخلنا على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجت إلينا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أحمر مصبوغ بالحناء والكتم.
وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن عاصم في كتاب "الخضاب" أيضا: عن يعقوب بن حميد، حدثنا سلمة بن رجاء، عن عثمان بن عبد الله ابن موهب فذكره.
ثم قال: وروي عن جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جعفر، قال: شاب عارضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضبه بالحناء والكتم.
وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ" فقال: حدثنا ابن عثمان -يعني: عبد الله - حدثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي جعفر، قال: شمط عارض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضبه بحناء وكتم.. وذكر بقيته.
وقال أبو حسان الزيادي: أخبرني الوليد بن محمد الموقري، سمعت
#449#
الزهري يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختضب بالحناء.
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا كهمس، عن عبد الله بن بريدة، قال: قيل له: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم.
حدث به ابن سعد، عن الأنصاري.
وحدث عن سعيد بن محمد الثقفي، عن الأحوص بن حكيم، عن أبيه، عن عبد الرحمن الثمالي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير لحيته بماء السدر، ويامر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في "كتاب العلل" لأبيه: حدثني سفيان بن وكيع، حدثنا أبي، عن شريك، عن عثمان بن موهب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل أخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
تابعه الترمذي فرواه في "الشمائل" عن سفيان بن وكيع، وقال: رواه أبو عوانة، عن عثمان بن موهب، عن أم سلمة.
#450#
قلت: فيه سلام بن أبي مطيع وغيره، عن عثمان، عن أم سلمة كما تقدم.
وقال: أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب "الخضاب": حدثنا محمد بن مسكين، حدثنا عمارة بن عقبة، عن محمد بن جابر، عن ابن بريدة، قال: قلت لأبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم خضب؟ قال: نعم.
وله شاهد من حديث عبد الله بن زيد صاحب الأذان، وغيره.
وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا ابن الأصبهاني، أخبرنا شريك، عن سدير الصيرفي، عن أبيه، قال: كان علي رضي الله عنه لا يخضب، فذكرت ذلك لمحمد بن علي، قال: قد خضب من هو خير منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: حدثنا هارون، حدثنا ضمرة، عن علي بن أبي حملة، قال: كان رجاء بن حيوة لا يغير الشيب، فحج فشهد عنده أربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم غير، قال: فغير في بعض المياه.
#451#
$[ما روي في ترك الخضاب]$
وقد جاءت أحاديث في نفي الخضاب منها: [ما روى] أبو يعلى الموصلي من حديث ثابت: سئل أنس رضي الله عنه عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لم يخضب.
وفي "الصحيح": من حديث قتادة قال: سألت أنسا رضي الله عنه هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، إنما كان شيء في صدغيه.
وروى محمد بن سعد، عن الواقدي حدثني بكير بن مسمار، عن زياد - مولى سعد – قال: سألت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا، ولا هم به، كان شيبه في عنفقته وناصيته، ولو أشاء أن أعدها لعددتها.
وجاء من حديث جابر رضي الله عنه من طريق الواقدي أيضا، بنحوه.
وذكر الإمام أحمد بن حنبل: أن من نقل الخضاب مثبت وغيره ناف، والإثبات مقدم على النفي، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي خصوصا.
#452#
وحديث سعد وجابر من رواية الواقدي، وحاله في الحديث معروف.
وأما حديث أنس فقد اختلف عليه فيه، لكن رواية من روى عنه نفي الخضاب في "الصحيح".
وقال أبو الحسن أحمد بن سلمان بن أيوب بن خدام الأسدي القاضي: حدثنا يزيد بن محمد – يعني: ابن عبد الصمد – حدثنا عبيد الله بن يزيد القارئ، حدثنا صدقة، عن الأوزاعي، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صفر لحيته، وما فيها عشرون شعرة بيضاء.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا سلمة بن رجاء، حدثنا عائذ بن شريح، أنه سمع أنس بن مالك، وشعيب بن عمرو، وناجية بن عمرو، قالوا: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يخضب.
#453#
وحدث به أبو بكر أحمد بن عمرو بن [أبي] عاصم النبيل في كتابه في "الخضاب" [عن ابن كاسب ولفظه: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يخضب بالحناء والكتم.
فقد اجتمع على إثبات الخضاب] أحد عشر نفسا من الصحابة رضي الله عنهم كما تقدمت الرواية عنهم بذلك، وهم: أنس بن مالك في إحدى الروايتين، وبريدة بن الحصيب، وأبو رمثة رفاعة بن يثربي، وشعيب بن عمرو التميمي، وعبد الله بن يزيد – صاحب الأذان - وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وناجية بن عمرو، وعائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهم [أجمعين].
وخرج الترمذي في "الشمائل": من حديث إياد بن لقيط، عن الجهذمة رضي الله عنها قالت: أنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من بيته ينفض رأسه قد اغتسل، وبرأسه ردغ من حناء.
#454#
$*[منع نتف الشيب]:$
وجاء عن يوسف بن طلق بن حبيب: أن حجاما أخذ من شارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى شيبة في لحيته فأهوى إليها فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: ((من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة)).
#455#
$[سبب شيبه صلى الله عليه وسلم]$
وقد ورد أن سبب شيبه صلى الله عليه وسلم مواعظ القرآن:
قال الترمذي في "الشمائل": حدثنا سفيان بن وكيع.
وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده"، فحدثناه محمد بن عبد الله بن نمير قالا: واللفظ لابن نمير: حدثنا [محمد بن بشر]، حدثنا علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله، نراك قد شبت، قال: ((شيبتني هود وأخواتها)).
تابعه عباد بن ثابت القطواني، عن علي بن صالح.
وحدث به محمد بن محمد بن سلمان الباغندي، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن محمد بن بشر، عن العلاء بن صالح بن حي، عن أبي إسحاق، عن البراء، فوهم فيه في موضعين:
في قوله "عن العلاء" وإنما هو "عن علي" وفي قوله: "عن البراء" وإنما هو "عن أبي جحيفة" نبه عليه الدارقطني في كتابه "العلل".
وخرجه الترمذي في "الشمائل" أيضا فقال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن أبي
#456#
إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، شبت، قال: ((شيبتني هود والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)).
تابعه أحمد بن علي بن سعيد القاضي، عن ابن أبي ذئب.
ورواه عبد الله بن محمد بن ناجية، عن عن خلاد بن أسلم، عن النضر بن شميل، عن إسرائيل، حدثنا يونس وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنهم: يا رسول الله، شبت. قال: ((شيبتني هود، والوقعة، وإذا الشمس كورت))
تابعه سعيد بن عثمان الخزاز وإسماعيل بن صبيح الكوفيان، عن إسرائيل.
وقال أبو الحسن الدارقطني في كتابه "العلل": حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثني يوسف بن مسلم: ح.
وحدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد، حدثنا محمد بن الفرج الأزرق، قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال أبو بكر رضي الله عنهم: يا رسول الله. وقال النيسابوري: وهذا لفظه عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم قال: قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشيب سريعا، قال: ((شيبتني هود، وعم يتساءلون، وإذا وقعت، وإذا الشمس كورت)).
#457#
وحدث به يعقوب بن شيبة في "مسنده": عن عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرئيل، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، أن أبا بكر رضي الله عنه قال: ألا أراك قد شبت يا رسول الله فقال: ((شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت))
ورواه وكيع وعبد الله بن رجاء، ومخول بن إبراهيم، عن إسرائيل كذلك مرسلا.
ورواه عبد الملك بن سعيد بن أبجر، عن أبي إسحاق، عن عكرمة مرسلا.
تابعهما أبو الأحوص، عن سلام بن سليم فيما رواه عن مسدد فقال:
حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم ما شيبك؟ قال: ((شيبتني سورة هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)).
وتابعه عفان بن مسلم، وإسحاق بن عيسى، عن أبي الأحوص.
ورواه محمد بن عوف الحمصي، عن محمد بن مصفى، عن بقية بن الوليد، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، فوصله.
ورواه حسين بن أبي السري، وأبو مروان - أبان بن عبد الله بن كردوس الحراني - عن الحسن بن محمد بن أعين، عن زهير - هو ابن معاوية - عن إسحاق، كذلك.
وحدث به الدارقطني في "العلل": عن أحمد بن محمد بن سعيد، حدثنا أحمد بن عبد الملك الأودي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعود بن سعد الجعفي، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال أبو بكر رضي الله عنهم .. فذكره.
#458#
خالفه أبو عبد الله محمد بن سعد فحدث به في كتابه "الطبقات": عن الفضل بن دكين - هو أبو نعيم - حدثنا مسعود بن سعد، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: شبت أو عجل عليك الشيب، قال: ((شيبتني هود، وأخواتها)) أو: ذواتها.
ورواه علي بن عبد العزيز، ومحمد بن الحسين الحنيني، والسري بن يحيى، والهيثم بن خالد - أبو صالح – قالوا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعود بن سعد، عن أبي إسحاق، عن عكرمة، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله .. فذكر نحوه.
ورواه عبد الرحيم بن سليمان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، عن أبي بكر رضي الله عنه.
وخالفه أبو معاوية الضرير، وأبو أسامة، وأشعث بن عبد الله الخراساني، فرووه عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن مسروق بن الأجدع، عن أبي بكر.
ورواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جبارة – يعني: ابن مغلس، حدثنا عبد الكريم بن عبد الرحمن الخزاز، حدثنا أبو إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: [يا] رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شبت قال: ((شيبتني هود، والواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت)).
#459#
فذكر الدارقطني في كتابه "العلل": أن جبارة وهم فيه فقال مرة: عن عامر بن سعد، عن أبيه، وقال مرة: عن عامر بن سعد، عن أبي بكر.
وحدث به جبارة أيضا: عن أبي شيبة يزيد بن معاوية النخعي، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد، عن أبيه.
ورواه محمد بن أيوب بن الضريس الرازي، عن الحسن بن محمد الطنافسي، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا ربيعة الرأي، عن أنس بن مالك، قال: قال أبو بكر رضي الله عنهما: شبت يا رسول الله، قال ((شيبتني سورة هود، والواقعة)).
ورواه حماد بن يحيى الأبح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، بنحوه، ولفظه: عن أنس رضي الله عنه أنه قيل: عجل عليك الشيب يا رسول [الله] فقال: ((شيبتني هود وأخواتها)).
#460#
قال ابن طاهر المقدسي: عن حماد الأبح، ولعله مما انفرد به، قاله في كتابه "ذخيرة الحفاظ".
#461#
$[عود إلى شرح حديث هند ابن أبي هالة في نعته صلى الله عليه وسلم]$
*قال هند: "أدعج": قد قدمنا أن الدعج السواد على أحد الأقوال، وقيل: السواد مع سعة العين.
وقد صرح بذلك علي رضي الله عنه في حديثه الذي قدمناه، فقال: "أسود الحدقة" وفي الرواية الأخرى عنه: "عظيم العينين".
وجاء عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: وكنت إذا نظرت إليه صلى الله عليه وسلم قلت: أكحل العينين، وليس بأكحل.
خرجه الترمذي في "جامعه" و "الشمائل".
"الكحل" بالتحريك -: سواد أصول هدب العين خلقة.
وفي "صحيح مسلم" عن شعبة، عن سماك بن حرب، سمعت جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشكل العينين، منهوس العقبين، قال: قلت لسماك، ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قال: قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين، قال: قلت: ما منهوس العقب؟ قال: قليل لحن العقب.
#462#
والحديث عند الترمذي في "جامعه" و"الشمائل" عن شعبة.
وخرج الحديث أبو زرعة في كتاب "التاريخ": من طريق شعبة بتمامه وفيه: قال شعبة: فسألت سماكا ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: وما أشكل العين؟ قال: طويل شفر العين.
والمعروف في اللغة أن الأشكل المختلط بياضه بحمرة أو سواد.
قال جرير:
فما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
أي مختلط بالدم، ومن ثم قيل: أشكل الأمر: أي: اختلط، ويقال: شكلت العين - بالكسر - شكلة وشكلا فهي شكلاء: إذا كان في بياضها حمرة يسيرة.
وقد ورد هذا في صفة عينيه صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث.
#463#
من ذلك حديث حماد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرب العينين بحمرة.
ومن حديث البشارة به صلى الله عليه وسلم الذي خرجه أبو نعيم في "الدلائل": من حديث مالك بن سنان الخدري أنه سمع يوشع اليهودي، يقول: أظل خروج نبي، يقال له أحمد، يخرج من الحرم، فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به: ما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينية حمرة.. الحديث، وتقدم.
وذكر أبو محمد عبد الحق الأشبيلي: أنه كان في بياضهما عروق رقاق حمر.
قلت: وهذه هي الشكلة.
وخرج أبو داود حديث جابر بن سمرة المتقدم، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشهل العينين، منهوس العقب.
قال أبو عبيد: الشهلة حمرة في سواد العين.
#464#
وقد صح من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
قال الشافعي في رواية حرملة عنه قوله: ((إني لأراكم وراء ظهري)) كرامة من الله عز وجل أبانه بها من خلقه.
وقال أبو طالب مكي بن علي بن عبد الرزاق الحريري: حدثنا أبو عمرو عثمان بن عمر الدراج، حدثنا أبو سليمان علقمة [بن] يحيى بن علقمة الجوهري – بالفسطاط – حدثنا أبي، حدثنا زهير بن عباد، حدثنا عبد الله بن المغيرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء.
ورواء أبو أحمد بن عدي، فقال: حدثنا ابن أسلم، حدثنا
#465#
عباس – [بموحدة وسين مهملة] - ابن الوليد الخلال، حدثنا زهير بن عباد.. فذكره.
ورواه الحسن بن رشيق، حدثنا الحسين بن أحمد العكي، حدثنا زهير بن عباد الرؤاسي .. فذكره.
وله طريق أخرى قال الحافظ أبو عبد الله الحاكم: حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس، حدثنا أبو إسحاق بن سعيد، حدثنا أبو عبد الله محمد بن الخليل النيسابوري، حدثنا عبد الرحمن بن عمار الشهيد، حدثنا مغيرة بن مسلم، عن عطاء: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار من الضوء.
وهذا محمول على رؤية العين، كما حكاه القاضي عياض "الشفا": عن أحمد بن حنبل وغيره.
وقال قبل ذلك: وقد حكي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرى في الثريا
#466#
أحد عشر نجما.
قلت: حدث أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": عن يحيى بن معين، حدثنا عبيد بن أبي قرة، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي قبيل، قال: سمعت أبا ميسرة يقول: سمعت العباس رضي الله عنه يقول: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: ((انظر، هل ترى في السماء نجما))؟ قال: قلت: نعم، قال: ((ما ترى؟)) قلت: الثريا، قال: ((أما إنه يملك هذه الأمة بعددها من صلبك اثنا عشر)).
#467#
*وقال هند: "سهل الخدين":
أي: ليس فيهما نتق ولا ارتفاع مأخوذ من سهل الأرض ضد الحزن.
وقيل: أراد أن خديه صلى الله عليه وسلم أسيلان قليلا اللحم رقيقا الجلد، هكذا قال بعضهم، فرق بين السهل والأسيل، وهما بمعنى واحد.
قال الزبيدي في "مختصر العين": والخد الأسيل: السهل.
وقد ورد في بعض طرق حديث علي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مفلج الثنايا أسيل الخد على شفته السفلى خال، كأن عنقه إبريق فضة، بعيد ما بين المنكبين كأن كفه من لينها مس أرنب كأن عرقه اللؤلؤ، وإذا جاء مع القوم غمرهم، وإذا ضحك تبسم، ليس بسخاب.
* قال هند: "ضليع الفم":
يعني: تام الفم، قاله أبو عبد الله محمد بن عبد [الله] الخطيب في "مختصر العين".
وقال ثعلب: أراد واسعه.
وقال شمر: معناه عظيم الأسنان متراصفها، والعرب تمدح بكبر
#468#
الفم، وتذم بصغره.
وفي حديث شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم.
قال شعبة: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: واسع الفم.
خرجه الترمذي، وتقدم قريبا رواية مسلم وأبي زرعة الدمشقي الحديث في "تاريخه" عن شعبة، وفيه قال: فسألت سماكا ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم.
وقال أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري في كتابه في "صفة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي، حدثنا ليث بن الحارث، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا صالح بن أبي
#469#
الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طاوي الحشا ضليع الفم، شثن القدمين.
*قال هند: "أشنب".
الشنب: ماء ورقة تجري على الثغر، قاله الزبيدي في "مختصر العين".
وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر" في تفسيره أشنب قال: من الشنب في الأسنان وهو تحدد في أطرافها. انتهى.
وقد قال الجرمي: سمعت الأصمعي يقول: الشنب برد الفم والأسنان. فقلت: إن أصحابنا يقولون: هو حدتها حين تطلع فيراد بذلك حداثتها وطراوتها، لأنها إذا أتت عليها السنون تغيرت، فقال: ما هو إلا بردها.
قلت: وممن قال: إن الشنب تحديد أطراف الأسنان للحداثة أبو زيد، وابن الأعرابي، وأبو حزام العكلي وغيرهم.
وقال أبو الحسين ابن فارس في "المجمل": الشنب رقة في الأسنان وعذوبة. وقال غيره: الشنب رونق الأسنان وبهاؤها.
وقيل: بردها وعذوبتها.
#470#
قال الأصمعي: سألت رؤبة بن العجاج عن الشنب ما هو؟ فأخذ حبة رمان وأومأ إلى بصيصها، أي: هذا هو الشنب.
ومنه قولهم: رمانة شنباء، أي: عذبة الطعم كثيرة الماء.
وفسر الزبيدي في "مختصر العين" الرمانة الشنباء قال: وهي الأمليسية.
*قال هند: "مفلج الأسنان":
قال الخليل بن أحمد صاحب كتاب "العين" إن ثبت، فإن جماعة أنكروا نسبة كتاب "العين" إلى الخليل بن أحمد.
قال أبو الفتح عثمان بن جني عن صاحب كتاب "العين" قال: وهو مجهول، وذاكرت أبا علي رحمه الله تعالى يوما بهذا الكتاب فسألناه فقلت: إن تصنيفه أصح وأمثل من كتاب "الجمهرة" فقال: الساعة لو صنف إنسان لغة بالتركية تصنيفا جيدا كانت تعد عربية.
وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في مقدمة مختصره لكتاب "العين": ومذهبنا أن نصلح ما ألفيناه مختلا في الكتاب، وأن نوقع كل شيء منه مواقعه، وأن نضعه في بابه – إن شاء الله تعالى – ونحن نربأ بالخليل رحمه الله عن نسبة هذا الخلل إليه والتعرض للمقاومة له والرد عليه، بل نقول: إن الكتاب لا يصح له ولا يثبت عنه، فقد كان جلة البصريين الذين أخذوا عن أصحابه وحملوا علمه عن رواته ينكرون هذا الكتاب ويدفعونه إذ لم يرو إلا عن رجل واحد غير مشهور في
#471#
أصحابه، وأكبر الظن فيه أن الخليل سبب أصله ورام تثقيف كلام العرب به، ثم هلك قبل كماله، فتعاطى إتمامه من لا يقوم في ذلك مقامه، فكان ذلك سبب الخلل الواقع به والخطأ الموجود فيه.
وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده في مقدمة كتابه "المحكم في اللغة": وأما ما ضمناه كتابنا هذا من كتب اللغة فمصنف أبي عبيد.. وذكر الكتب، ثم قال: والكتاب الموسوم بـ "العين" ما صح لدينا منه وأخذناه بالوثيقة عنه.
وقال أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي في كتابه "أخبار النحويين" في ترجمة الخليل بن أحمد قال: وهو أول من استخرج العروض وحصر أشعار العرب بها وعمل أول الكتاب "العين" المعروف المشهور الذي به يتهيأ ضبط اللغة. انتهى
فمن قول الخليل في كتاب "العين" إن ثبت: الفلج: فرجة بين الثنايا.
وفي مختصر الكتاب للزبيدي: تباعد ما بين الثنايا.
وكذا قال أبو عبد الله الخطيب في مختصر الكتاب لكنه زاد الرباعيات، فإن تكلف ذلك فهو التفليج.
وفي "المجمل" وغيره: الفلج تباعد ما بين الثنايا والرباعيات.
ويشهد لقول الخليل ما رواه عبد العزيز بن أبي ثابت الزهري: حدثنا
#472#
إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" من طريق موسى بن عقبة.
ومن طريقه أيضا خرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" بنحوه دون قوله: "أفلج الثنيتين"، وقال: لا يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
*قال هند: "دقيق المسربة":
[المسربة] بضم الراء: شعرات وسط الصدر إلى أسفل السرة كالقضيب. هكذا فسرها أبو عبد الله الخطيب في "مختصر العين".
وقال الزبيدي في "المختصر": شعرات تتصل من الصدر إلى السرة.
#473#
وقيل: هي شعر وسط الصدر.
وحدث عثمان بن عمر بن فارس فقال: حدثنا حرب بن شريح الخلقاني، حدثني رجل من بلعدوية، حدثني جدي قال: انطلقت إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من لدن نحره إلى سرته كالخيط الممدود شعره، ورأيته بين طمرين، فدنا مني، فقال: ((السلام عليك)).
وتقدم في بعض طرق حديث علي رضي الله عنه في الوصف الشريف: دقيق المسربة، وفي بعضها طويل المسربة، وفي بعضها: في صدره مسربة وسيأتي ذكرها في حديث هند إن شاء الله تعالى.
*قال هند: "كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة":
الجيد: أصل العتق، وقيل: الجيد العنق، وإنما ذكرها لئلا يتكرر بلفظ واحد.
#474#
والدمية – [بالضم] – الصنم والصور المنقشة وجمعها دمى.
وفي بعض طرق حديث علي رضي الله عنه: كأن عنقه إبريق فضة.
قال أبو جعفر أحمد بن سنان القطان في "مسنده" حدثنا محمد بن بن عبيد، حدثنا مجمع بن يحيى، عن عبد الله بن عمران، عن رجل من الأنصار، قال: أتيت عليا رضي الله عنه وهو محتب بحمائل سيفه فسألته عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشربا حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، دقيق المسربة، سهل الخد، كث اللحية، ذو وفرة كأن عنقه إبريق فضة، له شعر من لبته إلى سرته تجري كالقصيب، لم يكن يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعا، ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا العاجز ولا اللئيم، كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر، لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
وقال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا مجمع بن يحيى، حدثني عبد الله بن عمران، حدثني رجل من الأنصار - لم يسمه – أن رجلا سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فذكره.
#475#
*قال هند: "معتدل الخلق":
أي بين النحيف والسمين والطويل والقصير.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف ابن أبي جميلة، عن يزيد الفارسي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم زمن ابن عباس – قال: وكان يزيد يكتب المصاحف – قال: فقلت لابن عباس رضي الله عنهما: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم.
قال ابن عباس: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إن الشيطان لا يستطيع يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآتي)) فهل تستطيع أن تنعت لنا هذا الرجل الذي رأيت؟ قال: قلت: نعم، رأيت رجلا بين الرجلين جسمه ولحمه، أسمر إلى البياض، حسن المضحك، أكحل العينين، جميل دوائر الوجه قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه حتى كاد تملأ نحره، قال عوف: لا أدري ما كان مع هذا من النعت.
قال: فقال ابن عباس: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا.
*قال هند: "بادنا متماسكا":
يقال: رجل بادن ومتبدن، أي: سمين، وقيل: البادن التام اللحم الضخم، وقد تقدم معنى ذلك في تفسير قول هند: "فخما".
وقوله: "متماسكا" أي: يمسك بعضه بعضا ليس خلقه بمسترخ ولا متهدل.
#476#
وفي حديث علي رضي الله عنه: لم يكن بالمطهم ولا المكلثم.
قيل: "المطهم" الفاحش السمن أو النحيف الجسم، أو المسترخي اللحم، أو المنتفخ الوجه، أو من قولهم: تطهمت الطعام أي: كرهته.
و"المكلثم" الغليظ الوجه، وقيل: الكلثمة اجتماع لحم الوجه من غير جهومة: وقيل: المكلثم القصير الذقن.
#477#
*قال هند: "سواء البطن والصدر":
أي: متساويهما، فبطنه غير خارج عن صدره، صدره عريض فهو مساو لبطنه.
*قال هند: "عريض الصدر"
وهذه اللفظة في روايتنا من طريق الترمذي في "الشمائل" ومن رواية أبي علي أحمد بن محمد بن رزين، وأبي بكر محمد بن هارون الروياني، عن سفيان بن وكيع شيخ الترمذي.
وساقه القاضي عياض في "الشفا" من طريق الترمذي في "الشمائل" ومن طريق أبي علي الحسن بن أحمد بن شاذان من حديث موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه - كما قدمناه قبل – واللفظ له فقال بدل قوله: "عريض الصدر": "مشيح الصدر"، ثم قال في تفسير مشيح: إن صحت هذه اللفظة فتكون من الإقبال وهو
#478#
أحد معاني أشاح أي: أنه صلى الله عليه وسلم كان بادي الصدر، ولم يكن في صدره قعس، وهو تطامن فيه، وبه يتضح قوله قبل: "سواء البطن والصدر" أي: ليس بمتقاعس ولا مفاض البطن، ولعل اللفظ مسيح – بالسين وفتح الميم – بمعنى عريض كما وقع في الرواية الأخري ابن دريد.
قلت: تأويلة مشيح – بالمعجمة - فيه تكلف وإنما هو – والله اعلم - مسيح – بالمهملة مع فتح أوله - وهو معنى رواية الترمذي وغيره: عريض الصدر، قال الأزهري: رجل ممسوح الوجه ومسيح وذلك أن لا يبقى على أحد شقي وجهه عين ولا حاجب إلا استوى.
فعلى هذا قوله: "مسيح الصدر" أي: مستويه ليس فيه شيء نافر، ويعضده قوله قبل: "سواء البطن والصدر".
*قال هند: "بعيد ما بين المنكبين":
"المنكب": مجتمع رأس العضد والكتف، وبعد ما بين المنكبين دليل على سعة الصدر والظهر.
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما: بعيد ما بين المنكبين.
وفي حديث علي رضي الله عنه: عظيم المناكب.
*قال هند: "ضخم الكراديس".
"الكراديس": جمع "كردوس" وهو رأس كل عظم كبير وملتقى كل
#479#
عظمين ضخمين كالمنكبين والمرفقين والوركين والركبتين.
وفي "المجمل": والكردوس فقرة من فقر الكاهل إذا عظمت، ويقال: بل كل عظم عظمت مخضته فهو كردوس.
قوله: "مخضته" هي القطعة الضخمة من اللحم.
وتقدم في حديث علي رضي الله عنه: ضحم الكراديس. وفي رواية: عظيم الكراديس. وتقدم في رواية: جليل المشاش والكتد، وهو بمعناه.
و"المشاش": رؤوس المنكبين والمرفقين والركبتين واحدها مشاشة، ويقال: ما لا مخ فيه من العظام فهو مشاش.
وقال الجوهري: المشاش رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها.
وكذا قال ابن فارس في "المجمل"، لكنه قال: المشاش: العظام، ولم يذكر رؤوس.
#480#
و"الكتد" بفتح التاء وكسرها - هو مجتمع الكتفين.
وقيل: هو ما بين الكاهل إلى الظهر.
وقيل: هو مغرز العنق في الكاهل عند الحارك.
*قال هند: "أنور المتجرد":
"المتجرد" ما كشف عنه الثوب من البدن.
و"أنور" بمعنى نير، أي: نير الجسد مشرق اللون، وتقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض كأنما صيغ من فضة.
وجاء عن أنس رضي الله عنه في وصفه صلى الله عليه وسلم: حسن الجسم.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا موسى بن عبيدة، أخبرنا أيوب بن خالد، عمن أخبره أنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه قال: فما رأيت رجلا مثله متجردا كأنه فلقة قمر.
#481#
وقال، أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا شيبان، عن جابر، عن أبي صالح، عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: ما رأيت بطن النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا ذكرت القراطيس المثنية بعضها على بعض.
*قال هند: "موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط":
"اللبة": الوهدة التي في أعلى الصدر في أسفل الحلق بين الترقوتين.
وفي "مختصر العين" للزبيدي: "اللبة" موضع القلادة، زاد ابن فارس وغيره: موضع القلادة من الصدر.
و"السرة" الوقبة في البطن، وهي ما يبقى.
ومراد هند بقوله هذا: "المسربة" التي ذكرها قبل في قوله: "دقيق المسربة".
*قال هند: "عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك":
يعني: أن ثديه وبطنه ليس عليها شعر إلا المسربة التي من لبته إلى سرته فإنها موصولة بالشعر.
وقد ورد معنى ذلك في قول علي رضي الله عنه الذي قدمناه أنه قال: أجرد ذو مسربة.
*قال هند: "أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر":
أي: على هذا كله شعر.
#482#
*قال هند: "طويل الزندين":
"الزندان": طرفا عظم الساعد.
وقيل: هما عظما الذراع اللذان يليان الكف منه، رأس أحدهما يلي الإبهام، ورأس الآخر يلي الخنصر.
*قال هند: "رحب الراحة":
أي: واسعها، وكانت العرب تحمد ذلك وتمدح به وتذم صغير الكف وضيق الراحة، قاله أبو بكر محمد بن هارون الروياني.
وقيل: هو كناية عن جوده صلى الله عليه وسلم.
#483#
*قال هند: "شثن الكفين والقدمين":
وجاء وصفها بذلك في حديث علي رضي الله عنه.
يقال: شثنت أصابعه – بالكسر وتضم أيضا –: غلظت، وكل ما غلظ من عضو فهو شثن.
وفسر قول هند بأن معناه: غليظ الكفين والقدمين، وقيل: لحمهما، وقيل غليظ الأصابع.
وقال أبو بكر الروياني: يريد أنهما – يعني الكفين والقدمين – إلى الغلظ والقصر. انتهى.
#484#
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن أنس، أو عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم القدمين ضخم الكفين لم أر بعده شبيها له صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا الفضيل بن دكين، حدثنا يوسف بن صهيب، عن عبد الله بن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن البشر قدما.
ومع هذا فكانت هذه الأعضاء منه صلى الله عليه وسلم ألين مسا من الحرير.
#485#
وروى أبو نعيم الأصبهاني من حديث يزيد بن عبد الله القرشي، عن عثمان بن عبد الملك، حدثني خالي، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم صفين، عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق البشرة.
وصح عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ولا مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الحارث بن أبي اسامة: حدثنا عاصم بن علي، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: ما شممت مسكا ولا عنبرا ولا سكا أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مسست ديباجا ولا حريرا ألين مسا من النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: يا أبا حمزة، أليس كأنك تنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنك تسمع نغمته. قال: والله إني لأرجو أن ألقاه يوم القيامة فأقول: يا رسول الله، خويدمك.
وخرج الطبراني في "معجمة الكبير" من حديث الوليد بن مسلم، [حدثنا الوليد بن مسلم]، حدثنا شيبان، عن إسماعيل بن أبي خالد،
#486#
عن قيس بن أبي حازم، عن المستورد بن شداد، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت بيدة فإذا هي ألين من الحرير وأبرد من الثلج.
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ":
حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فقلت: يا رسول الله، ناولني يدك فناولنيها فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب من ريح المسك.
وقال البخاري في "تاريخه الكبير": قال آدم: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، سمع جابر بن يزيد بن الأسود - يعني: الجرشي الخزاعي - عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يأخذون بيده فيمسحون بها وجوههم فأخذت بيده فمسحت بها وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب من المسك.
هذا مختصر، وفي أوله قصة ستأتي – إن شاء الله تعالى – في ذكر حجة الوداع.
وخرج دعلج في "مسند المقلين" من حديث سعيد بن عامر الضبعي، حدثنا شعبة، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير فسلمت ثم
#487#
جلست.
قال دعلج: ثم ذكر نحو حديث غندر، وزاد فيه: فلما قمنا من عنده جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلون يده.
قال: فأخذت يده فوضعتها على وجهي فإذا هي أطيب من المسك وأبرد من الثلج.
#488#
$[ما ورد في طيب رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم]$
وهذا الحديث وما قبله فيه التصريح بطيب رائحة أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها كانت أطيب رائحة من المسك.
وصح ذلك وثبت من حديث أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم والأحاديث في ذلك كثيرة:
ومنها: ما قال أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في "معجمه" حدثنا بشر بن سيحان، حدثنا حلبس بن غالب، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزناد، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني زوجت ابنتي، وأنا أحب أن تعينني بشيء فقال: ((ما عندي شيء، ولكن إذا كان غدا فائتني بقارورة [واسعة الرأس] وعود شجرة، وإنه بيني وبينك أن أجيف ناحية الباب)) فلما كان من الغد أتاه بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة. فقال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكب العرق من ذراعيه حتى امتلأت القارورة فقال: ((خدها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة فتتطيب به)) قال: فكانت إذا تطيبت شم أهل
#489#
المدينة رائحة ذلك الطيب فسموا بيت المطيبين.
ويعضده قصة أم سليم في جمعها عرق النبي صلى الله عليه وسلم لما قال عندها على نطع.
قال أنس رضي الله عنه: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟)) قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب.
وقال عبدان بن محمد المروزي: حدثنا الرفاعي، عن أبي بكر عياش، عن حبيب بن خدرة، عن الحريش قال: كنت مع أبي حين رجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا فلما أخذته الحجارة أرعدت فضمني النبي صلى الله عليه وسلم فسال علي من عرقه مثل ريح المسك.
#490#
وقال الطبراني في "معجمه": حدثنا أحمد بن عبد الله اللحياني العكاوي - بمدينة عكا سنة خمس وسبعين ومائتين - حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا شيبان أبو معاوية [و] ورقاء بن عمر اليشكري، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، حدثتني أم عاصم – امرأة عتبة بن فرقد السلمي – قالت: كنا عند عتبة أربع نسوة ما منا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمس عتبة الطيب إلا أن يمس دهنا يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحا منا، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة فقلت له يوما: إنا لنجتهد في الطيب ولأنت أطيب ريحا منا فمم ذاك؟ فقال: أخذني الشرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرد، فتجردت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده، ثم مسح ظهري وبطني، فعبق بي هذا الطيب من يومئذ.
وخرجه أبو أحمد دعلج بن أحمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" من حديث علي بن عاصم، عن حصين بن عبد الرحمن بنحوه.
#491#
ورواه عمرو بن عون، عن هشيم، عن حصين، عن بعض آل عتبة، عن عتبة بن فرقد رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتفل في كفه فمسح بها جلدي فكنت من أطيب الناس ريحا.
قال حصين: فأخبرتني أم عاصم امرأته قالت: كنا عنده أربع نسوة وكنا نجتهد في الطيب فما نفارقه.
وقال مجاشع بن عمرو: حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم وأبو خيثمة وأبو عوانة وأبو بكر بن عياش وابن المبارك وأبو الأحوص كلهم عن الأعمش، عن إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم يعرف بريح الطيب.
وقال عمر بن سعيد الأبح: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: كنا نعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل بطيب ريحه.
#492#
وقال علي بن عبد العزيز البغوي: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسحاق بن الفضل الهاشمي، أخبرني المغيرة بن عطية، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم خصال: لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه أو ريح عرفه – الشك من إسحاق – ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له.
خرجه البيهقي في "دلائل النبوة" للبغوي.
وأما الحديث الذي حدث به أبو الفضل محمد بن أحمد الجارودي، عن محمد بن علي بن الحسين بن الفرج الثلجي – هو أبو عبد الله الجباخاني الحافظ – حدثني محمد بن علي بن إبراهيم بن الكردي الجوزجاني، حدثنا أبو القاسم الخضر بن أبان بن زياد الهاشمي – بالكوفة – ومحمد بن شجاع البغدادي قالا: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا مالك بن دينار:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أسري بي إلى السماء بكت الأرض من فقدي فنبت الآصف من مائها، فلما رجعت إليها فضحكت فقطر من عرقي عليها فنبت الورد الأحمر، ألا من أراد [أن] يشم رائحتى فليشم الورد الأحمر)) فهذا حديث باطل اتهم به الجوزجاني هذا مع أنه تكلم في شيخه.
وإنما ذكرت هذا الحديث للمعرفة به، ولما اشتهر ين عوام الناس أن
#493#
الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو الحسن الدارقطني في كتابه "الأفراد": حدثنا أبو جعفر محمد بن سليمان بن محمد الباهلي النعماني، حدثنا محمد بن حسان الأموي، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إني أراك تدخل الخلاء ثم يجيء الذي يدخل بعدك فلا نري لما يخرج منك أثرا؟ فقال: ((يا عائشة أما علمت أن الله عز وجل أمر الأرض أن تبتلع ما خرج من الأنبياء)).
هذا حديث غريب من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، تفرد به محمد بن حسان الأموي، عن عبدة بن سليمان عنه، ولم نكنبه إلا عن شيخنا هذا وكان من الثقات، قاله الدارقطني.
#494#
*قال هند: "سائل الأطراف":
أي: طويل الأصابع، ليست بمنعقدة ولا متجعدة.
وروي على الشك: "أو سائر الأطراف" بالراء، قيل: هو كناية عن فخامة جوارحه صلى الله عليه وسلم.
#495#
وجاء في رواية: "سائن الأطراف" بالنون مكان الراء، وهي بمعنى سائل -باللام – ذكره ابن الأنباري، وأن اللام تبدل من النون إن صحت الراوية بها.
قال: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القرطبي في كتابه "جامع أحكام القرآن": السبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام، وكانت في الجاهلية تدعى بالسبابة لأنهم كانوا يسبون بها فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسموها المشيرة، لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله عز وجل بالتوحيد، وتسمى أيضا بالسباحة.
قال: وروي عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى.
ورى يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي، حدثتني عمتي سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب - وأنا جارية - من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه.
#496#
ليس في هذا الحديث دليل على ما قاله القرطبي، وقد سبقه إلى ذلك أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم، وكأن القرطبي منه أخذ، فقال في كتابه "نوادر الأصول" في الأصل الرابع والعشرين: وقد روي لنا عن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشيرة منها كانت أطول من الوسطى، ثم الوسطى أقصر منها، ثم البنصر أقصر من الوسطى.
ثم قال بعد ذلك: حدثنا الفضل بن محمد الواسطي، أخبرنا عبد الرحمن بن خالد القطان الرقي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الله بن مقسم الطائفي، حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم رضي الله عنها قالت: خرجت في حجة حجها رسول الله صلى الله عليه سلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وسأله أبي عن أشياء، فلقد رأيتني أتعجب - وأنا جارية - من طول أصبعه التي تلي الإبهام على سائر أصابعه.
قالت: فحدثني أبي قال: ذكرت ذلك لعبد الله بن الحسن، فقال: نعم، كذلك كانت أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيما حكاه القرطبي وقبله الترمذي الحكيم نظر؛ لأن الحديث الذي رواه الترمذي الحكيم وعلقه القرطبي ليس فيه دليل على ذلك، ولو نظرا في طرق الحديث وحملا مطلقة على مقيده كان أسلم، وعلما أن المراد بالأصبع المطلقة في الحديث هي الأصبع التي تلي الإبهام من رجل النبي صلى الله عليه وسلم.
خرج الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" الحديث المذكور من رواية ابن هارون، أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم - وهو ابن ضبة
#497#
حدثتني عمتي سارة بنت مقسم، عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو على ناقة له وأنا مع أبي، فأخذ بقدمه، فأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
وحدث بنحوه أبو داود في "سننه" عن الحسن بن علي، ومحمد بن مثنى كلاهما عن يزيد بن هارون.
وقال أحمد بن منيع في "مسنده": حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مقسم، حدثتني عمتي سارة بنت مقسم، عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهو على ناقة وأنا مع أبي وبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية الطبطبية، فدنا منه أبي فأخذ بقدمه، وأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
الطبطبية: صوت تلاطم السيل.
وحدث بالحديث يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثني
#498#
عبد العظيم بن عبد الله بن يزيد بن ضبة الثقفي، سمعت أبي عبد الله بن يزيد، عن عمته سارة بنت مقسم:
عن ميمونة بنت كردم الثقفية قالت: إني لرديفة على عجز دابة أبي في حجة الوداع إذ قيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا منه أبي حتى أخذ بقدمه فكاني أنظر إلى طول أصبعه التي تلي الإبهام، وفضلها على سائر أصابعه.
وذكر الإمام أحمد في "مسنده" قال: حدثنا [يزيد بن هارون، قال أنا عبد الله بن] يزيد بن مقسم، حدثتني عمتي سارة بنت مقسم، عن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو على ناقته، وأنا مع أبي، وبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية الطبطبية، فدنا منه أبي، فأخذ بقدمه، فأقر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.
قالت: فقال له أبي: إني شهدت جيش عثران قالت: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الجيش.
قال طارق بن المرقع: من يعطيني رمحا بثوابه؟
قال: قلت وما ثوابه؟ قال: أزوجه أول بنت تكون لي.
قال: فأعطيته رمحي ثم تركته حتى ولدت له ابنة فبلغت فأتيته، فقلت: جهز لي أهلي، فقال: لا والله لا أجهزهم حتى تحدث صداقا
#499#
غير ذلك، فحلفت أن لا أفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وتقدر أي النساء هي))؟ قلت: قد رأت القتير، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعها عنك لا خير لك فيها)) قال: فراعني ذلك ونظرت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تأثم ولا يأثم صاحبك)).
قالت: فقال له أبي في ذلك المقام: إني نذرت أن أذبح عددا من الغنم – قال: لا أعلمه إلا قال: خمسين شاة - على رأس بوانة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل عليها من هذه الأوثان شيء))؟
قال: لا، قال: ((فأوف لله بما نذرت له)) قالت: فجمعها أبي فجعل يذبحها، وانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول: اللهم أوف عني بنذري حتى أجدها، فذبحها.
وقال أيضا: وحدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الله بن يزيد بن ضبة الطائفي، حدثتني عمة لي يقال لها: سارة بنت مقسم، عن مولاتها ميمونة بنت كردم أنها كانت مع أبيها، فذكرت أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة وبيده درة .. فذكر الحديث.
وقال أيضا: حدثني أبو أحمد، وحدثنا عبد الله -يعني: ابن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي – عن يزيد بن مقسم، عن مولاته ميمونة بنت كردم قالت: كنت ردف أبي فسمعته يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر ببوانة، فقال: ((أبها وثن أم طاغية؟)) فقال: لا، قال: ((أوف بنذرك)).
#500#
وأخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق يحيى بن يمان، حدثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كانت أصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم خنصره من رجله متظاهرة.
*قال هند: "خمصان الأخمصين":
"خمصان" بضم الخاء المعجمة، وجاء فتحها لغة، وحكى أبو عمرو بن العلاء في لغة: خمصانة، والرجل خمصان أي: بالفتح والخمص بالتحريك، وتسكن الميم مع ضم الخاء: الضمور، يقال: خمص الرجل – مثلث الميم – فهو خمصان وخميص إذا كان ضامر البطن.
وفسر قول هند بأنه إشارة إلى ضمور الأخمصين منه صلى الله عليه وسلم، والأخمصان خصر القدمين اللذان لا ينالهما الأرض من وسط القدمين.
قال أبو بكر محمد بن هارون الروياني: يريد أنه ليس بالذي يستوي باطن قدميه حتى يمس خمصيه الأرض. انتهى.
#501#
وقد جاءت الرواية بخلاف ذلك، فروي عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان يطأ بقدميه ليس له أخمص يقبل جميعا ويدبر جميعا، لم أر مثله صلى الله عليه وسلم.
حدث به إسحاق بن راهويه، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الله بن سالم، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد.
رواه مقطعا في "تاريخه" يعقوب بن سفيان، عن إسحاق.
وقال النضر بن شميل: حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر مفاض البطن عظيم مشاش المنكبين يطأ بقدمه جميعا، إذا أقبل أقبل جميعا، وإذا أدبر [أدبر] جميعا.
فيكون قول هند: "خمصان الأخمصين" أي: ذاهبهما؛ لأن أصل
#502#
الخمص ضمور البارز وذهابه، فكأنه قال: ذاهب الأخمصين، كما فسر في حديث أبي هريرة آنفا.
وصرح به أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما أخبرنا أبو محمد عبد القادر بن أبي إسحاق الحريري بقراءتي عليه، أخبرتك فاطمة بنت أبي عمرو الصالحية، أخبرنا أحمد بن أبي محمد الناسخ، أخبرنا إسماعيل بن أحمد، أخبرنا عبد الدائم الهلالي، أخبرنا عبد الوهاب الكلابي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي، عن أبيه: عن رجل من الأنصار أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال لأبي أمامة الباهلي: صف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض تعلوه حمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار، شثن الأطراف، ذو مسربة، عظيم الهامة، كثير الشعر، كأن في شعره اللؤلؤ، أعنق الناس، أديم وجه، لم أر مثله قبله ولا بعده في الرجال من هو أطول منه، وفي الرجال من هو أقصر منه، إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعا، منفتق الخاصرة، لا أخمص له، يطأ على قدميه كلها، عليه سحوليتان، إزاره تحت ركبتيه بأربع أصابع، ورداؤه إذا تعطف به لم يحط به، فهو واضعه تحت إبطه، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو أقرب إلى كتفه اليمنى .. الحديث بطوله.
#503#
وفي حديث شعبة، عن سماك عن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم أشكل العين منهوس العقب.
[روي قوله: "منهوس العقب"] بالسين المهملة وبالمعجمة أيضا، وفسره راويه سماك بن حرب بقليل لحم العقب.
*قال هند: "مسيح القدمين ينبو عنهما الماء":
قال أبو عبيد الهروي: أراد أنهما ملساوان، ليس فيهما وسخ ولا شقاق ولا تكسن، فإذا أصابهما الماء نبا عنهما. وقال غيره في معناه: أي: أن ظاهرهما ممسوح غير منعقد، فعيل بمعنى مفعول، فإذا صب عليها الماء مر سريعا فينبو عنهما الماء ولا يقف.
وقال أبو بكر الروياني: يعني: أنه ممسوح ظاهر القدمين، فالماء إذا صب عليهما مر عليهما مرا سريعا لاستوائهما وامتلاسهما.
#504#
قال ابن الجوزي في كتاب "الوفا": قال بعض البلغاء - يعني: في قدمي النبي صلى الله عليه وسلم: [شعر]
يا رب بالقدم التي أوطأتها ... من قاب قوسين المحل الأعظما
وبحرمة القدم التي جعلت لها ... كف المؤيد بالرسالة سلما
ثبت على متن الصراط تكرما ... قدمي وكن لي منقذا ومسلما
واجعلهما ذخري ومن كانا له ... أمن العذاب ولا يخاف جهنما
*قال هند: "إذا زال زال قلعا":
اختلف في ضبط هذه اللفظة، فقال أبو عبيد الهروي: قرأت هذا الحرف في كتاب "غريب الحديث" لابن الأنباري: قلعا بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري. قال: وهذا كما جاء
#505#
في حديث آخر: "كأنما ينحط من صب" والانحدار: من الصبب، [و] التقلع: من الأرض قريب بعضه من بعض، أراد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمل التثبت ولا يبين منه في هذه الحالة استعجال، ولا مبادرة شديدة.
وقيل: هو بفتح القاف وسكون اللام مصدر بمعنى [الفاعل أي: إذا زال زال قالعا لرجله من الأرض.
وقيل: بضم القاف وسكون اللام مصدر بمعنى] الأول.
وفي رواية: "إذا زال زال تقلعا".
وفي حديث علي رضي الله عنه: إذا مشى يتقلع.
وخرج البيهقي في "سننه الكبري" من حديث عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه: أنه أتى عائشة هو وصاحبان له يطلبان رسول الله
#506#
صلى الله عليه وسلم، فلم يجداه، فأطعمتهما عائشة – رضي الله عنها – تمرا وعصيدا فلم يلبثا أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلع يتكفأ فقال: ((هل أطعمكما أحد؟)) فقلت: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث.
*قال هند: "ويخطو تكفؤا ويمشي هونا، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب": معنى قوله: "يخطو تكفؤا" أي: مائلا إلى جهة ممشاه وغرضه.
وقيل: التكفؤ التمايل إلى قدام، وروي مهموزا على الأصل، وغير مهموز كما جاء في رواية: "إذا مشى تكفى تكفيا".
وقوله: "ويمشي هونا" أي: في رفق ولين، وبالسكينة والوقار، غير مختال ولا معجب.
#507#
وقوله "ذريع المشية" أي: سريعها، وظاهره ضد قوله: "ويمشي هونا" ولا تضاد بينهما؛ لأن معنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم مع تثبته في المشي يتابع بين الخطوات ويوسعها فيسبق غيره، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: وما رأيت أحدا أسرع من رسول الله صلى الله عليه سلم في مشيه، كأنما الأرض تطوى له .. الحديث وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.
وقال القاضي عياض في تفسير "ذريع المشي" أي: أن مشيه صلى الله عليه وسلم كان يرفع فيه رجليه بسرعة ويمد خطوه خلاف مشية المختال، ويقصد سمته، وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة، كما قال: كأنما ينحط من صبب.
قول القاضي رحمه الله: "برفق وتثبت دون عجلة"، لا يسلم له مع قوله: "يرفع فيه رجليه بسرعة" إلا أن يريد بذلك المعنى الذي قدمناه من الجمع بين قوله ويمشي هونا وذريع المشية.
وقد روى ابن لهيعة، عن أبي يونس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه،
#508#
وما رأيت أحدا أسرع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشيته، كأنما تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث.
خرجه الترمذي لابن لهيعة وقال: هذا حديث غريب.
وخرجه أحمد في "مسنده" من طريق ابن لهيعة.
تابعه عمرو بن الحارث فيما حدث به ابن المبارك في كتابه "الزهد" فقال: أخبرنا رشدين بن سعد، حدثني عمرو بن الحارث، عن أبي يونس مولى أبي هريرة أنه سمع أبا هريرة فذكره.
وأبو يونس اسمه سليم بن جبير، سماه البخاري في "تاريخه" ومسلم في كتاب "الكنى" وغيرهما.
وروى الحديث ابن حبان في "تاريخه" ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فكنت إذا مشيت يسبقني فأهرول، فقال رجل إلى جنبي: إن الأرض تطوى له. غريب.
ورواه أبو بكر سعيد بن يعقوب الطالقاني – وهو ثقة - عن ابن المبارك، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، حدثني فلان، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن
#509#
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى مشى مجتمعا ليس فيه كسل.
ورواه أبو عروبة الحسين بن أبي معشر الحراني فقال: حدثنا عبدة - يعني: ابن عبد الله - حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن رجل، عن ابن عباس، فذكره بنحوه.
تابعهما هدبة بن خالد وغيره عن حماد.
والرجل المبهم هو عكرمة، صرح به أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في روايته عن المقدمي، حدثنا يحيى بن راشد، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مشيا يعرف أنه ليس بمشي عاجز ولا كسلان.
وقال ابن المبارك في كتابه "الزهد" أخبرنا أبو إسرائيل، عن سيار أبي الحكم حدثه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مشية السوقي لا العاجز ولا الكسلان.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث يحيى بن أيوب عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ.
لم يروه عن حميد إلا يحيى بن أيوب، قاله الطبراني.
وليس كذلك، فإنه لم ينفرد به يحيى بن أيوب بل تابعه عليه غيره فقد خرجه أبو داود في "سننه" وأبو يعلى الموصلي في "مسنده"
#510#
عن وهب بن بقية، عن خالد هو ابن عبد الله الواسطي الطحان، عن حميد، عن أنس.
وخرجه الترمذي، عن حميد بن مسعدة عن عبد الوهاب، عن حميد به، وقال: حسن صحيح غريب.
وهذه الروايات تدل على أن مشيته صلى الله عليه وسلم لم تكن بتماوت ولا بمهانة بل بسكينة ووقار، ومع هذا كأنما ينحط من صبب كمشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء.
والصيب: الموضع المنحدر من الأرض.
وروي: "كأنما يهوي في صبوب".
قال أبو داود في "سننه": حدثنا حسين بن معاذ، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد الجريري، عن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت كيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا إذا مشى كأنما يهوي في صبوب.
روى "صبوب" بفتح الصاد وضمها، وبالضم: جمع صبب، وهو ما انحدر من الأرض، وبالفتح اسم لما يصب على الإنسان من ماء ونحوه.
ومعنى يهوي: ينزل وذلك مشية القوي من الرجال.
#511#
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي حافيا ومنتعلا.
*قال هند: "وإذا التفت التفت جميعا":
وفي حديث علي رضي الله عنه: "وإذا التفت التفت معا".
وقال وكيع بن الجراج في كتابه في "الزهد": حدثنا مسعر، عن عون بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تبسما ولا يلتفت إلا جميعا.
وقال أحمد بن صالح: حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا ابن أبي ذئب عن صالح بن أبي صالح - مولى التوأمة - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان ينعت النبي صلى الله عليه وسلم: شبح الذراعين أهدب أشفار العينين بعيد ما بين المنكبين
#512#
يقبل جميعا ويدبر جميعا .. الحديث.
قال أحمد بن صالح: يعني: بشبح الذراعين تام الذراعين.
ومعنى: "التفت معا" ونحوه: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلوي عنقه ورأسه إذا أراد أن يلتفت إلى ورائه فعل الطائش العجل إنما يدير بدنه جميعا وينظر.
وقيل: أراد أنه لا يسارق النظر.
*قال هند: "خافض الطرف":
أصل الطرف: تحرك البصر بالنظر، يقال: طرف البصر يطرف – بالكسر – طرفا تحرك، ثم سمي البصر طرفا.
ومعنى "خافض الطرف" أي: يغض بصره ويطرفه، كما قال بعده: نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء.
*[قال هند]: "جل نظره الملاحظة":
الملاحظة: أن ينظر إلى الشيء بلحظ عينه، وهو شقها الذي يلي الصدغ والأذن، ولا يحدق إليه تحديقا، وفي هذا دليل الحياء والكرم.
#513#
*قال هند: "يسوق أصحابه":
ويروى "ينس أصحابه" وهما بمعني، يقال: نس إبله نسا، أي: ساقها، أي: يقدمهم أمامه ويمشي وراءهم.
وروى الحارث بن أبي أسامة، عن عبد العزيز بن أبان، حدثنا سفيان، عن الأسود بن قيس العبدي، عن نبيح أبي عمرو، عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: ((امشوا أمامي وخلوا ظهري للملائكة)).
وخرجه ابن ماجه في "سننه" عن علي بن محمد، عن وكيع، عن سفيان ولفظه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى أصحابه أمامه وتركوا ظهره للملائكة.
#514#
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بنحوه.
وقيل: إن ظهره صلى الله عليه وسلم كان للملائكة لتعظيم خاتم النبوة الذي عند نغض كتفه، أو يكون لغيره من الإكرام الزائد الذي لا يعبر عنه.
وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ثابت البناني، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه رضي الله عنه قال: ما رئي النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا ولا يطأ عقبه رجلان.
وخرجه أبو بكر أحمد بن السني في كتابه "رياضة المتعلمين" فقال: حدثني عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا أحمد بن يحيى الأودي، حدثنا أبو أسامة، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئا ولا يطأ عقبه رجلان.
وقال: أخبرنا محمد بن علي بن بحر، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثنا السميط: أن أبا السوار حدثه، عن خاله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأناس يتبعونه قال: فاتبعته معهم قال: فعجبني القوم يسعون،
#515#
وأتقي القوم، فأتى علي فضربني بعسيب أو قضيب أو بسواك كان معه - والله ما أوجعني - فلما أصبحنا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم إن ناسا يتبعوني وإني لا أحب أن يتبعوني، اللهم فمن ضربته أو شتمته فاجعلها له كفارة وأجرا)) أو قال: ((مغفرة ورحمة)).
*قال هند: "ويبدأ من لقيه بالسلام":
هكذا في رواية ابن شاذان، وفي رواية الترمذي وغيره: "ويبدر من لقيه بالسلام" والمعنى واحد، إلا أنه يقال: بدأ بالأمر قدمه على غيره، وبدر إليه أسرع.
وقال الحسن – رضوان الله عليه - قلت: صف لي منطقه صلى الله عليه وسلم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة:
وفي رواية ابن عباس التي ذكرناها عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه قال: كان – بأبي وأمي – طويل الصمت، دائم الفكرة، متواتر الأحزان.
ومتواتر ومتواصل، معناهما قريب.
وتواصل أحزانه صلى الله عليه وسلم، ودوام فكره، وعدم راحته؛ لاهتمامه بأمر الدين والقيام بما بعث به وكلف تبليغه، وخوفه من أمور الآخرة.
وقد وردت أحاديث تشعر بذلك منها: ما قال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ وحسين بن محمد المعنى، قالا: أخبرنا أبو رجاء عبد الله بن واقد الهروي، حدثنا محمد بن مالك، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
#516#
بصر بجماعة فقال: ((علام اجتمع عليه هؤلاء))؟ قيل: على قبر يحفرونه، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه. قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، قال: فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: ((أي إخواني، لمثل هذا اليوم فأعدوا)).
وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتابه في "الزهد": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثابت أبو سلمة الدوسي، عن سالم بن عبد الله قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ارزقني عينين هطالتين تبكيان بذروف الدموع ويشفياني من خشيتك قبل أن يكون الدمع دما والأضراس جمرا)).
وقال وكيع بن الجراح في كتابه في "الزهد": حدثنا زياد بن أبي مسلم أبو عمرو، عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت: {أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون} فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكا أو مبتسما.
#517#
وخرج الترمذي في "الشمائل" من حديث ثابت، عن مطرف عن أبيه رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وقال يحيى بن سعيد القطان: حدثنا قدامة بن عبد الله، حدثتني جسرة، سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح الآية: {إن تعذبهم فإنهم عبادك}.
وخرجه النسائي، عن نوح بن حبيب، وابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف – ختن المقرئ – كلاهما عن يحيى بن سعيد.
وقال عبد الله بن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا أيضا – يعني: إسماعيل بن مسلم العبدي – عن أبي المتوكل الناجي: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة بآية من القرآن يكررها على نفسه.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق روح بن مسافر، عن محمد بن الملائي، عن أبيه، عن أبي هريرة، أو عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة فقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فبكى حتى سقط، فقرأها عشرين
#518#
مرة كل ذلك يبكي حتى سقط ثم قال في آخر ذلك: ((لقد خاب من لم يرحمه الرحمن الرحيم)).
روح أبو بشر، وكناه لوين: "أبا المعطل" أحد المتروكين، قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، لا تحل الرواية عنه.
وخرج أيضا من طريق أبي جناب وهو يحيى بن أبي حية الكلبي، أخبرنا عطاء قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حدثيني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلة حتى دخل معي في لحافي، وألزق جلده بجلدي قال: ((يا عائشة، ائذني لي أتعبد لربي عز وجل)) فقلت: إني أحب قربك وهواك. قالت: فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صب الماء، ثم قام
#519#
فقرأ القرآن قالت: ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت [حجره، ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ثم وضع يده اليمنى تحت خده، ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت] الأرض. قال: فجاءه بلال فآذنه بصلاة الفجر، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا)) وقال: ((ألا أبكي وقد أنزل علي الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} إلى قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها)).
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث عمرو بن هاشم البيروتي، حدثنا سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
#520#
عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل عني أو من سره أن ينظر إلى، فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه، اليوم المضمار وغدا السباق، والغاية الجنة أو النار)).
وقال محمد بن مصفى الحمصي: حدثنا محمد بن حمير، عن أبي بكر، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اشترى أسامة بن زيد رضي الله عنهما وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر، إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده، ما طرفت عيناي إلا وظننت أن شفري لا يلتقيان حتى أقبض، ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت))، ثم قال: ((يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين)).
تفرد به محمد بن حمير فيما قاله أبو نعيم.
#521#
وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا مسدد، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي السفر، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أطين حائطا أنا وأمي فقال: ((ما هذا يا عبد الله))؟ فقلت: يا رسول الله شيء أصلحه، قال: ((الأمر أسرع من ذاك)).
وخرج الطبراني من حديث سليمان بن موسى، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة، حدثني خبيب بن سليمان بن سمرة، [عن أبيه، عن سمرة] بن جندب رضي الله عنه فذكر أحاديث منها: قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إني لألج هذه الغرفة ما ألجها حينئذ إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه)).
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عصمة بن الفضل، حدثنا يحيى بن يحيى، عن عبد الله بن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج فيهرق الماء فيتمسح
#522#
بالتراب فأقول: يا رسول، إن الماء منك قريب قال: ((ما أدري لعلي لا أبلغه)).
وقال أحمد: حدثني يحيى مرة كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فأهراق الماء فتيمم فقيل له: إن الماء منا قريب. تفرد به ابن لهيعة فيما أعلم.
تابع موسى بن داود ويحيى بن يحيى: عبد الله بن المبارك فحدث به في كتابه "الزهد" عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش، فلم يذكر الأعرج.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله بن المبارك .. فذكره كذلك.
وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا عتاب بن زياد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد جنازة أكثر الصمات، وأكثر حديث نفسه، وكانوا يرون أنما يحدث نفسه بأمر الميت وما يرد عليه وما هو مسئول عنه.
#523#
*قال هند: "ولا يتكلم في غير حاجة":
خرج أبو داود في "سننه" من حديث عبيد الله بن الأخنس، أخبرني الوليد بن عبد الله، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه [من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه] ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)).
وخرجه أحمد بن حنبل فقال: حدثنا يزيد بن هارون، ومحمد بن يزيد قالا: أخبرنا ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن
#524#
جده بنحوه.
تابعهما عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن ابن إسحاق.
ورواه محمد بن عبيد الله العرزمي ومحمد بن مثنى بن الصباح ودويد بن طارق وغيرهم عن عمرو، ولفظ المثنى أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: ((نعم))، قال: وفي الغضب والرضا؟ قال: ((نعم، إني لا أقول في الغضب والرضا إلا الحق)).
وخرَّجه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "(تقييد العلم" من طرق منها: طريق عبد الرحيم بن هارون الغساني، حدثنا إسماعيل المكي، عن داود بن شابور، عن عمرو بن شعيب، بنحوه.
قال عبد الرحيم: فحدثت به شعبة بن الحجاج فقال: سمعته كما سمع إسماعيل من داود بن شابور عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله.
ورواه أبو كدينة يحيى بن المهلب، عن عطاء بن السائب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو كذلك.
ورواه ابن وهب فقال: حدثني عبد الرحمن بن سلمان، عن عقيل بن خالد، عن عمرو بن شعيب أن شعيبا حدثه ومجاهدا: أن عبد الله بن عمرو حدثهما أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكتب ما أسمع منك؟ قال: ((نعم))
قال عبد الله: عند الغضب وعند الرضا؟!
قال: ((نعم، إنه لا ينبغي لي أن
#525#
أقول إلا حقا))
*قال هند: "طويل السكوت": روي عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سَمُرَة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم، فكان كثير الصمت.
وفي رواية: كان طويل الصمت، وكان أصحابه يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر الجاهلية، ويتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*قال هند: "يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه": معناه من قولهم خطيب أشدق، إذا فتح فمه بالكلام وأخرج كل حرف من مكانه بغير تكلف، وقيل فيما حكاه أبو الحسن علي ابن الأثير: أنه صلى الله عليه وسلم [كان] لا يتشدق في كلامه بأن يفتح فاه كله ويتقعر في الكلام، والأول عندي أظهر، والله أعلم.
والشدق - بكسر الشين المعجمة وفتحها -: جانب الفم وإلى الشدقين ينتهي شق الفم.
[1] [[هذا العنوان من طبعة الكتب العلمية]]
[2] [[هذا العنوان من طبعة الكتب العلمية]]
[3] [[هذا العنوان زيادة من طبعة الكتب العلمية]]
[4] [[ من هنا إلى نهاية صفحة (132) لم يرد في طبعة الكتب العلمية، ولا مكان له هنا، وقد تقدم بنصه في هذه الطبعة صفحة (123)]]
[5] [[ هذين البيتين من طبعة الكتب العلمية]]
[6] انتهى هاهنا ما وجد من النسخة الخطية المصورة من جامعة الإمام محمد بن سعود بالمملكة السعودية حفظها الله.
[[وقد سقط من هذه الطبعة (350) صفحة، وهي موجودة في طبعة دار الكتب العلمية، من الصفحة (1374) من المجلد الثالث إلى آخر هذا المجلد صفحة (1724)]]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق