الاثنين، 10 أبريل 2023

ج3. «خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام» (مطبوع مع: منهج الإمام جمال الدين السُّرَّمَرِّي في تقرير العقيدة)/جمال الدين السُّرَّمَرِّي

ج3. «خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام» (مطبوع مع: منهج الإمام جمال الدين السُّرَّمَرِّي في تقرير العقيدة)/جمال الدين السُّرَّمَرِّي

مقدمة التحقيق

وفيها ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: التعريف بالكتاب , وفيه سبعة مطالب:

المطلب الأول: اسم الكتاب.

المطلب الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف.

المطلب الثالث: موضوع الكتاب , ومجمل مباحثه.

المطلب الرابع: أهمية الكتاب , وقيمته العلمية.

المطلب الخامس: منهج المؤلف فيه.

المطلب السادس: مصادره في كتابه.

المطلب السابع: تقويم الكتاب.

المبحث الثاني: التعريف بالخصائص والمناقب والمعجزات.

المبحث الثالث: وصف النسخ الخطية.

المبحث الأول

التعريف بالكتاب

المطلب الأول: اسم الكتاب:

اختلفت النسختين والمراجع التي ذكرت الكتاب في اسم الكتاب على ثلاثة أسماء:

ففي نسخة المكتبة الظاهرية , والتي رمزت لها بحرف "أ" وهي النسخة التي اعتمدتها أصلاً , ذكر الاسم هكذا:

"خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام"

وقد ذَكر هذا الاسم مختصراً بذكر أوله "خصائص سيد العالمين": صلاح الدين المنجد في (معجم ما أُلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (1) , وذُكر أيضاً في (الفهرس الشامل للتراث العربي المخطوط -السيرة والمدائح النبوية-) (2) , وكلاهما يحكون عن نسخة الظاهرية.

وفي نسخة مكتبة آستان قدس رضوي المركزية بمشهد الإيرانية , والتي رمزت لها بحرف "ب" , كتب العنوان هكذا:

"الخصائص والمفاخر"

وفي نسخة مكتبة برلين ذكر من وقف عليها مثل: بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) (3) , والفهرس المخطوط الموجود في مكتبة برلين والخاص بها (4) , أن عنوانها كتب هكذا:

"الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر"

وقد ذكر هذا الاسم أيضاً: الزركلي في (الأعلام) (5) عند ترجمته لجمال الدين السرمري ,

 (1) معجم ما أُلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ص 188.

(2) الفهرس الشامل للتراث العربي المخطوط , السيرة والمدائح النبوية (1/ 283).

(3) تاريخ الأدب العربي (7/ 21).

(4) سيأتي -إن شاء الله- صورة هذا الفهرس ومعلومات عنه في مطلب: وصف النسخ الخطية.

(5) الأعلام (8/ 251).

ورمز له بأنه مخطوط ولم يشر إلى مكانه.

ومن خلال النظر في الأسماء الثلاثة نجد ما يلي:

أما الاسم الأول "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام": ففيه عدة مرجحات:

1 - كتب في نسخة خطية أصلية , فقد قوبلت على نسخة المؤلف , وقُرئت عليه , وعليها قيد السماع والإجازة من الإمام جمال الدين السرمري بخط يده.

2 - أنه قد وضع في النسخة خطاً تحت قول المؤلف: "ونحن نذكر إن شاء الله ما نُقل عن كلّ نبي من المعجزات , وما ثبت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - من الخصائص , وماله من الفضائل الفواضل , وما أُوتي من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" (1) , وكُتب في هامشها: "سبب تسمية الكتاب" , وإذا نظرنا في الاسم المكتوب على النسخة وما جاء في النص السابق من قول المؤلف نجد المقاربة الواضحة بينهما , وتبرز أهمية هذا الهامش عند معرفة أن النسخة مكتوبة بخط تلميذ السرمري , ومقروءة على السرمري كاملة.

3 - أنه جاء في صفحة العنوان ما يلي: خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام , تأليف الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمال الدين يوسف السرمري رضي الله عنه , آمين" , ووصف جمال الدين السرمري بـ (الإمام العالم العامل الزاهد المفيد) هو نفس الوصف الذي جاء في آخر المخطوطة بعد ختم الكتاب , فقد كتب تلميذ السرمري: "يسّر الله تعالى كَتْب هذا الكتاب الشريف من أصل المصنّف الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمع الله تعالى له ولأولاده وأهل بيته سعادات الدور الثلاثة دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ورضي عنه وعن والديه. آمين , بيد العبد المستعيذ بعفو الله الكريم من عقابه محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله أعاذهم الله تعالى من عذاب القبر وعذاب النار. آمين , في شهر جمادى الأولى من سنة سبعين وسبعمائة

 (1) [ق 4/و].

بدمشق المحروسة" (1) , كما أن الدعاء بـ (رضي الله عنه) مشعرٌ في الغالب بأنه مكتوب في حياة المؤلف , وهذا المرجح غير قطعي وإنما هو مما يستأنس به.

أما الاسم الثاني "الخصائص والمفاخر": فقد كتب في نسخة خطية فرعية , نُسخت سنة 891 , أي بعد وفاة المؤلف , وهي مقابلة على منتسخ أصل المؤلف.

أما الاسم الثالث "الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر": فهو مسجوع , والإمام جمال الدين السرمري كثيراً ما يجنح عند تسمية مؤلفاته إلى تلك الأسماء المشتملة على سجع , فهو الذي سمى تلك الكتب بهذه الأسماء: (إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة) , (الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة) , (الأرجوزة الجلية في الفرائض الحنبلية) , (الإفادات المنظومة في العبادات المختومة) , (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية) , (رفع الباس في حياة الخضر وإلياس) , (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام) ... وهكذا.

وعند الترجيح بين الأسماء الثلاثة نجد أن أقواها في النظر هو الاسم الأول "خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" لأن نسخته أصلية , وأما الثاني: فنسخته فرعية , وأما الثالث: فهو وإن كان الذوق يميل إليه إلا أن جهالة نسخته يضعفه , {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: من الآية 81].

المطلب الثاني: توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:

لا أشك أن كتاب "خصائص سيد العالمين وماله من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" من مؤلفات جمال الدين السرمري رحمه الله , وذلك للأسباب التالية:

1 - قيد السماعات على الإمام جمال الدين السرمري وإجازته في نهاية النسخة الأصلية , والتي صُرِّح فيها بنسبة الكتاب للسرمري رحمه الله.

 (1) [ق 91/ظ-ق 92/و].

2 - كتب جمال الدين السرمري في ختم النسخة الأصلية بخط يده بعد تصحيحه للسماع والإجازة: "وكتب يوسف السرمري المصنف عفا الله عنه".

3 - نقل عنه وعزا إليه ابن حجر الهيتمي في كتابه (المنح المكية) فقال: "وذكر الحافظ السرمري الحنبلي تلميذ ابن القيم ذلك -يقصد إلانة الحجارة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في (خصائصه) فقال: وأما إلانة الحديد لداود - عليه السلام - ... " (1).

4 - أشار المؤلف في [ق 2/أ] إلى شيخه ابن الخباز بقوله "كما أخبرنا الشيخ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري" , وابن الخباز ولد سنة 667 وتوفي سنة 756 (2) , والإمام جمال الدين السرمري ولد سنة 696 وتوفي سنة 676 , وقد تقدم في ترجمة إبراهيم بن جمال الدين السرمري أنه أُسمع على ابن الخباز وهو دون السادسة من عمره , وهذا يدل على أن الكتاب أُلِّف في عصر جمال الدين السرمري.

المطلب الثالث: موضوع الكتاب , ومجمل مباحثه:

قد أوضح جمال الدين السرمري موضوع الكتاب فقال: "وموضوع هذا الكتاب أنه لم يكن لنبي من الأنبياء معجزة أو فضيلة إلا ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - من جنسها ما هو أكمل منها أو مثلها , وأنه اختص بأشياء لم يشركه فيها غيره كما قد ذكرناه في أماكنه والله يختص بفضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم" (3) , وقال أيضاً في مقدمته: "ونحن نذكر إن شاء الله تعالى مانُقل عن كل نبيّ من المعجزات وماثبت لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - من الخصائص وماله من الفضائل الفواضل وما أُوتي من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام" (4) , فموضوعها: معجزات الأنبياء

 (1) المنح المكية في شرح الهمزية ص 368 - 369, تحقيق: أحمد جاسم المحمد وبوجمعة مكري, الطبعة الثانية 1426, دار المنهاج, جدة.

(2) سيأتي ترجمته في موضعه إن شاء الله.

(3) [ق 85/و-ظ]

(4) [ق 4/و].

عليهم السلام التي ثبت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أفضل منها , وما اختص به من المعجزات والمزايا الكريمة مما فاق به على غيره.

أما مجمل مباحث الكتاب , فهي كالتالي:

بدأه بمقدمة في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: تحدث فيه عن موضوع الكتاب.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي أول أولي العزم من الرسل وهو نوح - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبيَّن أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي ثاني أولي العزم وهو إبراهيم - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم عقد مبحثاً في المفاضلة بين إتمام إبراهيم - عليه السلام - لما ابتلاه الله به من كلمات وبين إتمام نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لهن.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي ثالث أولي العزم وهو موسى - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي رابع أولي العزم وهو عيسى - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي إدريس وهود عليهما السلام وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي صالح - عليه السلام - من معجزة إخراج الناقة وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من جنسها ما هو أعجب منها , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يوشع بن نون - عليه السلام - من معجزة حبس الشمس وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجنس ما هو أعظم , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي داود - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين

أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي سليمان - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يعقوب - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يوسف - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: فاضل فيه بين ما أوتي يحيى - عليه السلام - وبين ما أوتي نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - , وبين أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: نبَّه فيه عن أن المقصود من هذا التفضيل ليس التنقص من المفضول , بل كل الأنبياء كان عند الله وجيهاً , وكان كل منهم نبيّاً نبيهاً صلى الله عليهم وبارك وسلم , وأجاب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تفضّلوني على يونس بن متى» وقوله: «لا تفضّلوا بين أنبياء الله».

ثم كتب فصلاً: أورد فيه فضله - صلى الله عليه وسلم - على سائر الأنبياء عموماً.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - التي اختص بها دون غيره من واجبات ومحظورات ومباحات وتكرُّمات.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل الصلاة عليه.

ثم كتب فصلاً: سرد فيه جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - في ميلاده.

ثم كتب فصلاً: سرد فيه جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في طيب ريحه.

ثم كتب فصلاً: سرد فيه جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: ذكر خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسمائه.

ثم كتب فصلاً: سرد جملة من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفاته الخَلقية والخُلقية.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء به.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه الحكمة من ابتداء الخبر بالإسراء قبل المعراج.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه الفوائد في حديث الإسراء والمعراج.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه الخلاف في مسألة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج.

ثم كتب فصلاً جامعاً لمقاصد الكتاب.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه ما خص الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفاته.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه ما خص الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه منهجه في هذا الكتاب في إيراد الأحاديث الضعيفة.

ثم كتب فصلاً لطيفاً في ذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضلها.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه خصيصة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر اسمه والصلاة عليه.

ثم كتب فصلاً: ذكر فيه فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره في الأجر.

ثم ذكر فصلاً خاتماً لمباحث لكتاب.

المطلب الرابع: أهمية الكتاب , وقيمته العلمية:

مما يبين أهمية هذا الكتاب وقيمته العلمية ما يلي:

- أن في الكتاب إضافة علمية فريدة , فلم أقف على من صنف في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء عليهم السلام كتاباً مستقلاً على غيره , وإنما عامة الكتب في هذا الباب إما في الدلائل على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإما في الخصائص وإما في السيرة , أما هذا الكتاب فقد جمع السرمري فيه ما اشترك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غيره في المعجزات وبيَّن أوجه فضله - صلى الله عليه وسلم - , وبين ما اختص به من الفضائل دون غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

- حسن التقسيم ودقيق الاستنباط من المؤلف -رحمه الله- , فقد جعل لكل نبي فصلاً يذكر فيه ما أوتي من المعجزات ثم يورد نظائر هذه المعجزات التي وقعت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أو الكرامات للصالحين من أمته ثم يوازن بينهما ويستنبط فضله - صلى الله عليه وسلم -.

- إيراد المؤلف لجملة من المسائل المشكلة والجواب عنها , مثال ذلك قال رحمه الله: "فإن قيل: في قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: من الآية 26] وأن الله سبحانه استجاب له فأغرق الأرض ومَن عليها دليل على أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان مُرسلاً إلى جميع أهل الأرض فكيف يقال: بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أُرسِل إلى الناس كافةً , فالجواب ... " (1) , والكتاب مملوء بـ (فإن قيل/الجواب).

- لم يقتصر المؤلف -رحمه الله- في كتابه على سرد الأحاديث والآثار وإنما كان له شرح وبيان في كثير من المواضع , والكتاب فيه تحقيق كبير , فمن ذلك ما ذكره في الرواية التي جاء فيها أن إدريس - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء والمعراج «مرحباً بالأخ الصالح»: "وكذلك إدريس أنه قال: «مرحباً بالأخ الصالح» قد يكون غلطاً من الراوي لأنه أب بلا شك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذرّية نوح ونوح من ذرية إدريس قاله شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ولا يتنبّه لمثل هذا إلا النحرير؛ قلت: وقد وقع لي في هذا محمل لا بأسَ به يُقرُّ الروايةَ الصحيحة على ماهي علَيه ويبين عذر إدريس إذ لم يقل: والابن الصالح , وذلك أن ما ظهر من عظم شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام أجل من منزلة الأبوة فكيف بمنزلة البنوة فلم يتهجّم لما رأى من علوّ الرتبة أن يجعل نفسه أباً له فيكون أرفع منه ولا سيما ولم يَذكرُ له جبريل ما ذكر لآدم ولإبراهيم من قوله: «هذا أبوك آدم فسلم عليه» , «هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه» , فإنه لما أنَّسَ آدم بأن قال لمحمد: «هذا أبوك آدم فسلم عليه» حَسُن أن يقول له آدم: «مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح» وكذلك لما قال له: «هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه» حَسُن أن يقول له إبراهيم: «مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح» فأما إدريس فقال له عنه: «هذا إدريس فسلم عليه» ولم

 (1) [ق 7/ظ].

يقل له: هذا أبوك إدريس , فلم يحسن التهجم عليه بمزيّة الأبوة مع ما هنالك من علوِّ الدَّرجة وعظيم المنزلة وما أكرم به من القرب , فلم يجد إدريس ما يُمِتُّ به مِمّا لا عَتبَ فيه إلا الأخوّة في النبوة التي رُفع بها مكاناً علياً فقال ما يناسِبُ حالَه: «مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح» , وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأنبياء إخوة أولاد علّاتٍ دينهم واحد وأمهاتهم شتى» على أن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 33 - 34] فبعض الأنبياء من نسل بعض وقد سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إخوةً , فيكون قول إدريس «الأخ الصالح» من هذا القبيل , ولا يَضُرّ قول إدريس بالأخ الصالح , فالأخوّة في الدين والنبوة صادقة عليهما , كما أن النبوة والأخوّة صادقة عليه وعلى إبراهيم عليهما الصلاة والسلام , وكما لم يَضُرّ سارة عليها السلام حين أوصاها إبراهيم - عليه السلام - أن تقول للجبّار الذي دَعاها أن تقول: «إنه أخي» , وهي زوجته فالأخوّة صادقة عليهما بالإيمان كما قال إبراهيم: فإني لا أعلم على وجه الأرض مؤمناً غيري وغيرك , لكن قصّة سارة كانت من باب المعاريض وقصّة إدريس من باب الأدب والله أعلم , إذ كان ذلك المقام لا يقتضي غيره لما رأى من عظم العناية الإلهيّة والوِلاية الربانية وهذا تأويل لا بأسَ به إن شاء الله تعالى , وإن جعلنا رَدّ السلام والترحيب بلفظ الأخوّة والخلافة من خزنة السموات لم يبق إشكال فإن في سياق حديث الثعلبي أن كل باب يُفتح لهم يقال له: «حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء» لكن الروايات الأخرى لا تساعد على هذا المعنى وكذلك يَردُ قولُ آدم وإبراهيم: «مرحباً بالابن الصالح» والله تعالى أعلم؛ وفي هذا السياق لطيفة أخرى: وهي قول خَزَنة أبواب السموات: «حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة» فإنه مشعر بالاعتذار عن قولهم حين قال الله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية 30] ... " (1).

 (1) [ق 77/ظ-ق 78/و].

وإن القارئ للمخطوطة ليشعر من صفحاتها الأولى بعظيم قدرها , فقد جمع فيها بين الرواية والدراية , كيف لا يكون وهو من أهل الحديث؟ كما أن موضوعها مهم في زمن كثر المخالفون فيه من أهل الديانات الباطلة والمنسوخة الطاعنون في الرسالة وفي القرآن بل وفي كل الشريعة والدين , وإن معرفة فضائله - صلى الله عليه وسلم - وما أيده الله من الآيات وخوارق العادات من الأمور العظيمة التي تطمئن بها النفوس وتركن بها القلوب إلى تقبل ما جاء به وتطبيقه والسير على منهجه - صلى الله عليه وسلم -.

المطلب الخامس: منهج المؤلف فيه:

تقدم في القسم الأول من البحث الكلام على منهج السرمري عموماً في كتبه -ومنها كتابه خصائص سيد العالمين- , فلذلك سأذكر هنا نقاط المنهج الخاصة في هذا الكتاب بإيجاز.

1 - الاعتماد على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة في الاستدلال: وهذا كثير في هذا الكتاب , وإذا كان هذا منهج كثير من علماء المسلمين , فإن جمال الدين السرمري قد تميز في ذلك.

2 - طول النفس: لقد اتسم منهج جمال الدين السرمري في هذا الكتاب بطول النفس , وحسبك أن تقرأ فصل خصائصه - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء فقد سرد الروايات المطولة في ذلك.

3 - السعة والشمول: إن ظاهرة السعة والشمول في معالجته لكل قضية طرقها من قضايا الكتاب الأساسية معالجة شاملة بحيث لا يدع شاردة ولا واردة إلا ذكرها.

4 - المناقشة والتحليل: وهذا يظهر جلياً في موزانته بين ما أوتي الأنبياء وبين ما أوتي نبيه - صلى الله عليه وسلم - , وأوجه فضله - صلى الله عليه وسلم - , والكتاب مملوء بـ (فإن قيل/الجواب).

5 - الأمانة في النقل: كان جمال الدين السرمري أميناً في نقله , فهو كثيراً ما يذكر اسم الكتاب والمؤلف فيقول: قال فلان في كتابه كذا , وأحياناً يصرح باسم المؤلف فقط.

6 - الأسلوب الأدبي: تميز أسلوب جمال الدين السرمري بالبيان , والجاذبية , وحسن الصياغة , والعرض , والإكثار من المحسنات الأدبية , كالاقتباس , والتضمين , والسجع .. وغيرها مع قوة المعنى وعمق الفكرة , كيف لا وهو إمام في اللغة؟ .

المطلب السادس: مصادره في الكتاب:

لقد نقل جمال الدين السرمري عن كثير من كتب الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها من كتب السير وكتب العلم كما سيأتي ذكرها في فهرس المصادر والمراجع -إن شاء الله- , وسأورد هنا ما صرح فيه جمال الدين السرمري بذكر اسم الكتاب والمؤلف , أو باسم المؤلف فقط , أو باسم الكتاب فقط ونقل عنه , أو أحال على الكتاب ولم ينقل منه , وذلك عدا كتب الصحاح والمسانيد المشهورة.

1 - كان من أكثر الكتب التي رجع إليها جمال الدين السرمري في هذا الكتاب (دلائل النبوة) لأبي نعيم الأصبهاني. (انظر: ص 368 , ص 370 , ص 409 , ص 412 , ص 413 , ص 414 , ص 442 , ص 448 , ص 457).

2 - الكشف والبيان , لأبي إسحاق الثعلبي. (انظر: ص 541 - 559).

3 - الفوائد , لأبي القاسم تمام بن محمد. (انظر: ص 514).

4 - المقام المحمود , لأبي بكر المروذي. (انظر: ص 518).

5 - الوفا بأحوال المصطفى, لأبي الفرج ابن الجوزي. (انظر: ص 502 , ص 509 , ص 515).

6 - شفاء السول في أعلام نبوة الرسول وخصائصه , لابن سبع. (انظر: ص 580 , ص 586).

7 - عيون الحكايات لابن الجوزي. (انظر: ص 487).

8 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب , لابن عبدالبر. (انظر: ص 449).

9 - كتاب الشريعة , للإمام أبي بكر الآجري. (انظر: ص 580).

المطلب السابع: تقويم الكتاب:

إذا كان كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - , فإن المصنف مع إمامته وسعة علمه وطول باعه لم يخل كتابه هذا من بعض ما يخالف فيه الأولى مما قد يعرض لأي عالم أو باحث , فلذا لا يأخذني الإعجاب بالمصنف رحمه الله فأثبت له كل حسن وأنفي عنه كل ما يخالف ذلك رغم قصر باعي وقلة اطلاعي , وقديماً قيل:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

فمما خالف فيه الأولى ما يلي:

1 - ذكره لمسائل معتمدها أحاديث موضوعة: وهو وإن كان قد نبه في آخر الكتاب على منهجه في ذكر الأحاديث الضعيفة بقوله: "كلما في هذا الكتاب من حديث فيه ضعف أو وهن فالعمدة إنما هي على ما ثبت من جنسه من آيةٍ أو خبر , وإنما ذكرناه لما عساه يكون فيه من فائدة إما توضيح معنى أو زيادة بيان كما يذكره أهل الحديث من الشواهد والمُتابَعات , أو كما يقول الفقهاء في مثله: هذا سند الدليل" , إلا أن هذه الأغراض التي ذكرها لا تدخل في الأحاديث المكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن أمثلة هذه المسائل: تولد النور من عرقه - صلى الله عليه وسلم - (1) , وكسوة نور وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - من نور العرش (2) , وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ظل له (3)؛ وهي قليلة -والحمد لله- موازنة بين مجمل مسائل الكتاب؛ إضافة إلى أن ذكر الأحاديث الموضوعة لم تكن منهجاً للسرمري في الكتاب, يدل على ذلك تعليقه على حديث قتال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للجنّ بقوله: "وإن صح حديث قتال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - للجنّ في بئر ذات العلم كان

غاية في هذا

 (1) انظر: ص 478.

(2) انظر: ص 478.

(3) انظر: ص 477.

الموضع, وقد رواه من الحفاظ أبو الفضل ابن ناصر شيخ ابن الجوزي ولكن ردّه غيره وقالوا الحديث فيه موضوع فالله أعلم" (1) , ويدل عليه أيضاً نقده لكتاب الخصائص لابن سبع بقوله: " وفي الحديث طُولٌ ذكَره أبو الربيع سليمان بن سبع السبتي في كتاب الخصائص له والله أعلم بحال هذا الحديث , وفي كتابه هذا أحاديث فيها ما فيها" (2).

2 - إكثاره من رواية الأحاديث بالمعنى: هذا وإن كان جائزاً من عالمٍ وعارف بما يحيل من المعاني كالسرمري رحمه الله , إلا أنه لا خلاف بين أهل العلم أن رواية الحديث بلفظه المسموع منه - صلى الله عليه وسلم - هو الأصل الذي ينبغي لكل راوٍ وناقل أن يلتزمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

3 - وقوع بعض الأوهام في الكتاب: وهي قليلة -والحمد لله- , فمن ذلك ما ذكره في قصة العلاء بن الحضرمي وأن الراوي لها (منجاب) , والصواب أن الراوي لها هو ابنه (سهم بن منجاب)؛ ومن ذلك أيضاً: ما ذكره في قصة فتح كسرى وأنه صاحب الأقباض هو (قيس بن سعد - رضي الله عنه -) , والصواب أنه (عامر بن عبدقيس -التابعي-).

ولكن مع هذا ففي الكتاب إضافة علمية كبيرة , فهو فريد في بابه كما تقدم , كما قد جمع فيه فضائل للنبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة من معجزاته وما آتاه الله تعالى من الكرامات والمزايا الكريمة والعطايا العظيمة مالم تجمع في غيره؛ بل الكتاب فيه فوائد مستنبطة من السرمري نفسه لا توجد في غيره , وقد سبق بيانها في أهمية الكتاب وقيمته العليمة.

 (1) [ق 43/ظ].

(2) [ق 86/ظ]

المبحث الثاني

التعريف بالخصائص والمناقب والمعجزات

المطلب الأول: التعريف بالخصائص:

الخصائص لغة: قال صاحب القاموس: خصه بالشيء خصاً وخصوصاً وخصوصية: فضَّله (1).

وقال ابن منظور: خصّه بالشيء يخُصّه خَصّاً وخُصوصاً وخَصوصيّة وخُصوصيّة والفتح أفصح: أفرده به دون غيره (2).

وفي المعجم الوسيط: "الخصيصة: الصفة التي تميز الشيء وتحدده , والجمع: خصائص" (3).

فمن التعريفات اللغوية السابقة يُستنتج أن معنى الخَصِيْصة يدور على الآتي:

1 - الفضل ... 2 - الانفراد 3 - التميز.

الخصائص اصطلاحاً: هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء وإما عن سائر البشر (4).

المطلب الثاني: التعريف بالمناقب:

المناقب لغة: قال ابن فارس: "النون والقاف والباء أصل صحيح يدل على فتح في

 (1) انظر: القاموس المحيط ص 617.

(2) لسان العرب (7/ 24).

(3) المعجم الوسيط (1/ 238).

(4) خصائص المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بين الغلو والجفاء ص 16 , الصادق بن محمد بن إبراهيم , الطبعة الأولى 1426 , دار المنهاج , الرياض.

شيء ... والمنقبة: الفعلة الكريمة , وقياسها صحيح , لأنها شيء حسن قد شُهر , كأنه نُقِّب عنه" (1).

وقال الزبيدي: المنقبة: المفخرة , وهي ضد المثلبة , وفي اللسان: كرم الفعل , وجمعها المناقب , يقال: في فلان مناقب جميلة: أي أخلاق حسنة (2).

أما تعريفها في الاصطلاح: هي المفاخر التي اشترك في جنسها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إخوانه من الأنبياء عليهم السلام.

وقد أشار الإمام جمال الدين السرمري إلى هذا المعنى في مقدمته فقال:

"اعلم أن التفضيل إنما يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لايوجد للمفضول مثلُه , فإذا استويا في أسباب الفضل وانفرد أحدهما بخصائص لم يَشْرَكْه فيها الآخر كان أفضل منه , وأمَّا ماكان مشتركاً بين الرجل وغيره من المحاسن فتلك مناقب وفضائل ومآثر لكن لاتُوجب تفضيله على غيره إذا كانت مشتركة ليست من خصائصه , وإذا اتَّحَدت الفضيلتان فكانتا من جنسٍ واحد لكن كانت إحداهما أكمل من الأخرى وأعظم أو أعجب أو أبلغ فلا ريب أنَّ صاحب ذلك أفضل في ذلك" (3).

المطلب الثالث: التعريف بالمعجزات:

المعجزة لغة: أصلها من (عجز) , قال ابن فارس: "العين والجيم والزاء أصلان صحيحان , يدل أحدهما على الضعف , والآخر على مؤخر الشيء؛ فالأول عجز عن الشيء يعجز عجزاً فهو عاجز: أي ضعيف ... ويقال: أعجزني فلان , إذا عجزت عن

طلبه وإدراكه" (4).

 (1) معجم مقاييس اللغة (5/ 466).

(2) انظر: تاج العروس من جواهر القاموس (4/ 301).

(3) [ق 4/و].

(4) معجم مقاييس اللغة (4/ 232).

وقال الفيروزآبادي: "العَجْز والمَعْجِز والمَعْجِزَة وتفتح جيمهما والعَجَزان محركة والعُجُوزُ بالضم: الضعف ... ومعجزة النبي: ما أعجز به الخصم عند التحدي والهاء للمبالغة" (1).

أما تعريفها في الاصطلاح: قال الباحث: "آية الله الخارقة الدالة على النبوة الصادقة".

وعلى هذا التعريف تدخل حتى خوارق الأولياء في المعجزة , لكونها تدل على نبوة من اتبعه الولي , وعلى هذا جرى الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد وغيره (2) , وهو ما صرح به الإمام جمال الدين السرمري بقوله: "كل كرامة لوليّ من أمّة من الأمم هي مضافة إلى معجزاتِ مَتبوعِهِ من الأنبياء كما أشرنا إليه , فإن الكرامات لا تحصل إلا بمتابعة الرسل صلى الله عليهم وسلم , وتصديقهم , والتزام طريقتهم" (3).

 (1) القاموس المحيط ص 515 - 516.

(2) مجموع الفتاوى (11/ 311 - 312).

(3) [ق 59/ظ].

المبحث الثالث وصف النسخ الخطية

يوجد للكتاب ثلاث نسخ خطية  :

النسخة الأولى:

وهي نسخة أصلية توجد في المكتبة الظاهرية برقم [9452] وعنها نسخة مصورة في مركز الملك فيصل برقم [24284] وأخرى في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث برقم [238892] وأخرى في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم [1056] , وقد رمزت لها بالحرف "أ".

- تحوي 92 لوحة , في كل لوحة 19 سطراً , متوسط مافي كل سطر 16 كلمة.

- النسخة قديمة وقيمة.

-فيها آثار رطوبة رممت أطراف أوراقها الأولى.

-خرم أسفل الورقة 29.

- مكتوبة بخط واضح.

- تأريخ نسخها: في جمادى الأولى سنة 770 في حياة المؤلف.

-منسوخة عن أصل المصنف.

- جاء في نهاية الكتاب ما يلي: "يسّر الله تعالى كَتْب هذا الكتاب الشريف من أصل المصنّف الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمع الله تعالى له ولأولاده وأهل بيته سعادات الدور الثلاثة دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار ورضي عنه وعن والديه. آمين , بيد العبد المستعيذ بعفو الله الكريم من عقابه محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالله أعاذهم الله تعالى من

عذاب القبر وعذاب النار. آمين , في شهر جمادى الأولى من سنة سبعين وسبعمائة بدمشق المحروسة , والحمد لله المنعم المتفضّل الذي بنعمته تتم الصالحات وأفضل الصلوات والسلام

وأكمل الرحمة والبركات على محمّد المصطفى المبعوث بأعظم المعجزات المنعوت بأكرم صفات البريات الذي شهدت بصدق دعوته العجماوات والجمادات ربّ اجعل أهواءنا تابعة لما جاء به رسولك محمّد سيد ولد آدم أطهر أطهار العالم صلى الله عليه وبارك وسلم والحمد لله رب العالمين".

-كتب جمال الدين السرمري بخطه في آخرها ما يلي: "السماع والإجازة صحيحان , وكتب يوسف السرمري المصنف عفا الله عنه".

سماع النسخة "أ":

"الحمد لله

قرأت هذا الكتاب الشريف الذي هو بالحقيقة بحار فوائد على مؤلّفه شيخنا الإمام العالم العامل الزّاهد المفيد العلامة المحقق أحد دعاة السنة النقية البيضاء جامع أنواع من المعالي والفضائل والكمالات الفائقة ذي التصنيفات الشريفة النافعة باسط بساط الإفادة جمال الدين يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد بن علي السرّمرّي جزاه الله تعالى خيراً ورضي عنه وعن والديه ولا حرمنا من بركات أنفاسه الشريفة آمين في مجالس آخرها يوم الخميس العاشر من جمادى الأولى سنة سبعين وسبعمائة الهلاليّة وسمع الشيخ عماد الدين على بن إبراهيم بن علي بن عثمان المشهدي الفستجاني بقراءتي من أول الكتاب إلى قوله: (فصل وأما دواد - عليه السلام -) ثم سمع من قوله: (فصل ومن خصائصه الكبار ما قدمنا الإشارة إليه في ليلة الإسراء ... ) إلى آخر الكتاب؛ وسمع الفاضل شمس الدين محمد بن نور النيرين أبي بكر بن محمد بن علي المهرجاني البيابانكي الهروي من قوله: (وأما يوسف الصديق الكريم - عليه السلام - الموصوف بالحسن والجمال والعلم والعقل والأفضال ... ) إلى آخر الكتاب , وأجاز المؤلف المذكور مد الله تعالى ظلال بركاته للقارئ المذكور والسامعين رواية ماله روايته بشرطه المعتبر عند أهل الحديث والحمد لله وحده وصلّى الله وسلم وبارك على محمد المصطفى الأعظم الرسول الأحلم الأكرم النبيّ

الأعلم سيّد ولد آدم أطهر أطهار العالم؛ والقراءة المذكورة بمنزل المسمع بمدرسة شرف الإسلام بدمشق المحروسة وهذا خطّ المشّرف بقراءة الكتاب المستعيذ بعفو الله تعالى من عقابه محمد بن

عبدالله بن محمد بن عبدالله الإيجي غفر الله تعالى لهم ولمن استغفر لهم مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً. آمين."

ثم كتب جمالُ الدين السرمري بخطه بعد السماع:

"السماع والإجازة صحيحان وكتبَ يوسُف السُرمري المصنف عفا الله عنه".

النسخة الثانية:

وهي نسخة توجد في مكتبة آستان قدس رضوي المركزية بمشهد الإيرانية برقم [2009] وعنها نسخة في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث برقم [310433] , وقد رمزت لها بالحرف "ب".

- تحوي 75 لوحة , في كل لوحة 27 سطراً , متوسط مافي كل سطر 13 كلمة.

- تأريخ نسخها: في منتصف صفر سنة 891.

-منسوخة عن منتسخ أصل المصنف.

- جاء في نهاية الكتاب ما يلي: "يسّر الله تعالى كَتْب هذا الكتاب الشريف من منتسخ أصل المصنفِ الشيخِ الإمام العالم العامل الزاهد المفيد جمع الله تعالى له ولأولاده ولأهل بيته سعادات الدورِ الثلاثة دارِ الدنيا ودار البروج ودار القرار ورضي عنه وعن والديه آمين بيد الفقير المستعيذ بعفو الله الكريم العليّ موسى بن هارون بن موسى العمري الجيابي أعاذهم الله تعالى من عذاب القبر وعذاب النار. آمين , في منتصف شهر صفر من سنة إحدى وتسعين وثمانمائة الهجرية المصطفوية والحمد لله المنعم المتفضّل الذي بنعمته تتم الصالحات وأفضل الصلاة والسلام وأكمل الرحمة والبركات على محمد المصطفى المبعوث بأعظم المعجزات المنعوت بأكرم صفات البريات الذي شهدَتْ بصدق دعوته العجماوات والجمادات رب اجعل أهواءنا

تابعة لما جاء به رسولك محمدٌ سيد ولد آدم أظهَرُ أطهار العالَم صلى الله عليه وبارك وسلّم والحمد لله رب العالمين. تمت".

النسخة الثالثة:

وهي نسخة توجد في مكتبة برلين برقم [oct.1444] , وقد ذكرها بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) (1).

وقد حاولت جاهداً الحصول على هذه النسخة , فراسلت ابتداءاً مكتبة برلين عن طريق مركز الملك فيصل فأجابوا بخطاب اعتذار عن التصوير , وعللوا اعتذارهم بأن (حالة المخطوطة الصحية لا يسمح بتصويرها) , ثم راسلتهم مرة ثانية أسألهم فيها: هل يمكنني رؤية المخطوطة فقط وليس تصويرها عند قدومي برلين؟ , لكن لم أجد إجابة , فكررت المراسلة مرات عدة ولم أجد إجابة , فلم أجد بدًا غير السفر إلى برلين علّي أن أجد إجابة سؤالي الملح: هل نسخة برلين صورة عن إحدى النسختين السابقتين أم نسخة ثالثة؟

فلما قدمت إلى المكتبة أوضح لي العاملون في قسم المخطوطات في مكتبة برلين أن حالة الكتاب لا يمكن معه التصوير , فأوراقه معتفسة جداً , فطلبت منهم الرؤية فقط , فأمهلوني ريثما يأت الموظف المختص بالمخطوطات العربية , فطلبت منهم وصف هذه النسخة الموجود في فهرس المكتبة , فأعطوني وصفها من الفهرس الموجود في حاسب المكتبة , ولم يكن فيه أي معلومة جديدة سوى أن عدد أوراقها (72) , ثم لما حضر بعد أيام الموظف المختص بالمخطوطات العربية وهو (Christoph Rauch) اعتذر عن السماح بالرؤية ولم يوضح لي سبب اعتذاره عن الرؤية , فطلبت منه وصف هذه النسخة , فدخل وأحضر لي فهرساً مخطوطاً خاصاً بالمكتبة وفيه وصف النسخة , قد كُتب فيه: اسمها (الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر) , واسم المؤلف (جمال الدين السرمري) , ووفاته (736) (2) , وأن النسخة

(كُتبت في حياة المؤلف) , وأن عدد أوراقها (134) , وأن بروكلمان ترجم له في تاريخ الأدب العربي

(1) تاريخ الأدب العربي (7/ 21).

(2) نقلوا هذا الخطأ في تأريخ الوفاة عن بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي) , كما سيأتي في نهاية الوصف.

(3) هذه رقم الصفحة لتاريخ الأدب العربي بالنسخة الألمانية.

وقد مكثت في برلين ما يقارب الخمسة عشر يوماً (1) , أتردد فيها على المكتبة محاولاً الإذن برؤية المخطوطة , لكن كل محاولاتي قوبلت بالرفض القاطع من مدير المكتبة والموظف المختص بالمخطوطات العربية.

 (1) لأني كنت أمنِّي النفس أن الممتنع هو التصوير فقط وأنهم سيأذنوا لي بالاطلاع على المخطوط , فأقابل النسخة في المكتبة , وهو متيسر خاصة أني كنت قد أنهيت مقابلة النسختين.

خطاب الاعتذار من مكتبة برلين والمرسل إلى الباحث عن طريق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وفيه مكتوب: (حالة المخطوط الصحية لا يسمح بتصويرها).

بيانات النسخة من الفهرس الموجود في مكتبة برلين، وفيه: أن عدد صفحاتها (72).

بيانات النسخة من الفهرس المخطوط الخاص بمكتبة برلين، وفيه من اليسار: رقم المخطوط بالمكتبة (1444)، الخصائص والمفاخر لمعرفة الأوائل والأواخر، جمال الدين السرمري، (توفي سنة 736 هـ)، المخطوط مكتوب في حياة مؤلفه، عدد صفحاته 134، ذكره بروكلمان في كتابه ص 204.

نماذج من النسختين الخطية

صورة صفحة العنوان من النسخة "أ"

صورة الصفحة الأولى من النسخة "أ"

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة "أ"

صورة صفحة العنوان من النسخة "ب"

صورة الصفحة الأولى من النسخة "ب"

صورة الصفحة الأخيرة من النسخة "ب"

تحقيق كتاب

"خصائص سيد العالمين وما له من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام"

بسم الله الرحمن الرحيم , رب يسر وأعن ووفق.

الحمد لله الذي رفع بعض الكائنات فوق بعض درجات وفَضّل , وأتْحَف مَن شاء ما شاء ووهب ونحَل ونفَّل (1) , وخصّص من أحب بما أحب وأعطى وأجزل , وغاير بين المخلوقات وخالف وميَّز وفَضَّل , لتظهر آثار حكمته ومشيئته في خليقته ويتحصَّل (2) , أحمده على ماحكم فأغنى وأقنى وأفقر فأرمل (3) , وجاد وتطوَّل (4) , ومنح فأحسن وأجمل , وأشكره على ماخوَّل (5) ومَوَّل (6) ونوَّل (7) , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له القديم الأوَّل , الآخر الظاهِر الباطِن القادر القائم (8) فلا يتحوَّل , الملك القدُّوس السلام (المؤمِن) (9) المهيمن المحيط علماً بالعالي والأسفل , العزيز الجبَّار المتكبر الذي كسَر الأكاسرة وقصر القياصرة ودوَّخ وذلَّل , الخالق البارئ المصوِّر الذي أحسن كلَّ شيء خلقه وأكمل , سبحانه وتعالى عما يقول من أشرك به وتمحَّل (10) , وأشهد أن محمداً عبده المرسل ونبيُّه المفضَّل , الذي جمع أحاسن المحاسِن وأفاخِر المفاخِر وذَيَّل , ورقى على أعلى قُلَلِ العلاء وأَشْرفِ شُرَف الشَّرَف وتوقَّل (11) , فهو خير

من أكل وأكرم من توكَّل , وأنجح من توسل به (12) وأقرب من تَوسَّل , وأحسن من تُجمِّل به وأزين من

 (1) نفل: قال ابن فارس: "النون والفاء واللام أصل صحيح يدل على عَطاء وإعطاء ... والنوفل: الرجل الكثير العطاء". معجم مقاييس اللغة (5/ 455).

(2) يتحصل: أي يتبين ويثبت. انظر: لسان العرب (11/ 153) , مادة حصل.

(3) أرمل: أي أنفد الزاد , وصار المكان ذا رمل , والمرأة مات زوجها. انظر: المعجم الوسيط (1/ 374).

(4) تطول بمعنى: تفضل. المعجم الوسيط (2/ 572).

(5) خول: الخول ما أعطى الله سبحانه وتعالى من النعم. لسان العرب (11/ 234) , مادة خول.

(6) مول: "موله" قدم له ما يحتاج من مال. المعجم الوسيط (2/ 892).

(7) نول: قال ابن فارس: "النون والواو واللام أصل صحيح يدل على إعطاء". معجم مقاييس اللغة

(8) في ب "القاهر".

(9) " المؤمن " ليس في ب.

(10) تمحل: احتال , ورجل مَحِل أي ذو كيد. انظر: المعجم الوسيط (2/ 856) , لسان العرب (11/ 616).

(11) توقل: صعد , ويقال توقل في مصاعد الشرف. المعجم الوسيط (2/ 1052).

(12) هذه من الألفاظ الموهمة, ولم تضبط بالشكل في النسختين, ولعل تشكيلها بفتح التاء "تَوسل" أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - , "به" =

تَجمَّل (1) , وأعظم الخلق عند الله تعالى منزلة وأفخم وأنبل , صلى الله عليه وسلم وكرَّم وعظم وبجَّل , وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وزاد وأفضل.

أما بعد: فلله سبحانه في خلقه وأمره أسرار , وفي قدرته ومشيئته وتدبيره أمور كبار , لاتدركها الأبصار ولاتحيط بكُنهها الأفكار , قال [الله] (2) سبحانه وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: من الآية 68].

لما خلق الله تعالى الخلق قسَمه قسمين: جماداً وذا حياة , فاختار ذا الحياة على الجماد وفضَّله عليه , ثم قسم [ق 1/ظ] ذا الحياة قسمين: حيواناً ونباتاً , فاختار الحيوان على النبات وفضَّله عليه , ثم قسم الحيوان [إلى] (3) قسمين: ناطقاً وصامتاً ,

فاختار النَّاطق على الصَّامت وفضَّله عليه , ثم قسم الناطق قسمين: آدميّاً وغيره , فاختار الآدميَّ على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم الآدمي قسمين: عاقلاً وغير عاقل ,

= أي: بالله - عز وجل - كما الضمير في قوله: "وأشهد أن محمداً عبده المرسل ونبيه المفضل"؛ وعلى تقدير تشكيلها بالضم "تُوسِّل به" لعل قصده بمحبته والاقتداء بسنته - صلى الله عليه وسلم - التي هي من العمل الصالح, وإذا كان من القواعد المقررة في الشريعة إحسان الظن بالمسلمين, فكيف وهذا المسلم إمام من أئمة أهل السنة والجماعة؟ ! فإن إحسان الظن في حقة آكد, لاسيما وقد تقدم كلام له فيه اعتدال ومجانبة طرفي الغلوِّ والجفاء, ومن ذلك: ما تقدم من كلامه في حكم الاحتفال بالمولد النبوي, وأن خلاف السلف في تأريخ ميلاده من أي شهر وفيما مضى منه يدل على أنهم لم يكونوا يجعلون ذلك موسماً للاجتماع والولائم والاحتفال في صُنع الأطعمة والأشربة والسماعات إذ السلف كانوا أعظم الناس توقيراً ومحبة وتعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأحرص الخلق على نشر محاسنه فلو كان يوم مولده عندهم موسماً لتوفّرت هِمَمُهم على حفظه ولم يكن عندهم ولا عند غيرهم فيه خلافٌ؛ كما تقدم أيضاً: رده على تقي الدين السبكي في مسألة شد الرحال بقصد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الصلاة في مسجده؛ كما تقدم أيضاً: في مخطوطته (منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية) الإنكار على بعض الفقراء التوسل بغير الله من المخلوقين؛ والأصل أن نحمل كلام الأئمة على أحسن الوجوه ما وجدنا لذلك محملاً, متبعين في ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: من الآية 10] وحمل كلامهم على أحسن المحامل داخل في الاستغفار لهم, والله أعلم.

(1) في ب "تحمل" بالحاء المهملة , وفي الهامش "تكاليف الله وطاعاته".

(2) لفظ "الله" زيادة من ب.

(3) "إلى" زيادة من ب.

فاختار العاقل على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم العاقل قسمين: مؤمناً وغيره , فاختار المؤمن على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم المؤمن قسمين: عالماً وغيره , فاختار العالم على غيره وفضَّله عليه , ثم قسم العالم قسمين: أنبياء وغيرهم , فاختار الأنبياء على غيرهم وفضَّلهم عليهم (1) , وهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي (2) , فهم خيرته من خلقه , ثم قسم الأنبياء قسمين: رسُلاً وغيرهم , فاختار الرسل على غيرهم وفضَّلهم عليهم , وهم ثلاثمائة وثلاثة (3) عشر رسولاً , فهم خيرته من الأنبياء , ثم قسم الرسل قسمين: أولي عزم وغيرهم , فاختار أولى العزم على غيرهم وفضَّلهم عليهم وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم , فهم خيرته من رسله عليهم الصلاة والسلام , ثم اختار من أولي العزم [الخليلين] (4) إبراهيم ومحمّداً صلى الله عليهما وسلم , فهما خيرته من أولي العزم من الرسل , ثم اختار منهما [الحبيب] (5)

محمداً - صلى الله عليه وسلم - (6) , فهو المختار المصطفى من جميع الخلق , كما أخبرنا الشيخ أبو عبدالله

 (1) في ب "عليه" , فالضمير فيه يعود إلى العالم.

(2) ورد في عدة أحاديث تعداد الأنبياء والرسل , ولكن الأحاديث في الباب لا تخلو من ضعف على كثرتها والأولى التوقف , قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "وجاء في حديث أبي ذر عند أبي حاتم بن حبان وغيره أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرسل وعن الأنبياء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفا والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر» وفي رواية أبي أمامة: «ثلاثمائة وخمسة عشر»، ولكنهما حديثان ضعيفان عند أهل العلم، ولهما شواهد ولكنها ضعيفة أيضاً، كما ذكرنا آنفاً، وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة والسلام: «ألف نبي فأكثر»، وفي بعضها «أن الأنبياء ثلاثة آلاف» , وجميع الأحاديث في هذا الباب ضعيفة، بل عد ابن الجوزي حديث أبي ذر من الموضوعات؛ والمقصود أنه ليس في عدد الأنبياء والرسل خبر يعتمد عليه، فلا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى، لكنهم جم غفير، قص الله علينا أخبار بعضهم ولم يقص علينا أخبار البعض الآخر، لحكمته البالغة جل وعلا". مجموع فتاوى العلامة عبدالعزيز بن باز (2/ 66 - 67) , جمع وترتيب: محمد الشويعر , موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء.

(3) في ب "ثلاث".

(4) مابين المعقوفتين طمس في الأصل , وما ذكرته من ب.

(5) مابين المعقوفتين طمس في الأصل , وما ذكرته من ب.

(6) تفضيله لوصف المحبة على وصف الخلة فيه ضعف , قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقول بعض الناس: إن محمداً حبيب الله , وإبراهيم خليل الله , وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف ... وما يروى «أن العباس يُحشر بين حبيب وخليل» وأمثال ذلك فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها". مجموع الفتاوى (10/ 204)؛ وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل , وقال محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله , وهذا باطل من وجوه كثيرة: منها: إن الخلة خاصة والمحبة عامة , فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين , وقال في عباده المؤمنين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: من الآية 54] , ومنها: أن النبي نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل , وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة , ومن الرجال أبوها , ومنها: أنه قال «إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً» , ومنها: أنه قال: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ومودته». روضة المحبين ونزهة المشتاقين ص 49 , لابن القيم , 1412 , دار الكتب العلمية , بيروت.

محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الأنصاري (1) -بقراءتي عليه- قلت له: أخبرك جماعة من شيوخك؛ منهم: أبو العباس أحمد بن عبدالدائم بن نِعْمة المقدسي (2) وأبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليُسْر التنُوخي (3) قراءةً عليهما وإلا فإذناً (4) , قالا: أخبرنا

الإمام أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي إجازة, قال المقدسي وحده:

 (1) هو محمد بن اسماعيل بن ابراهيم بن سالم بن بركات بن سعد بن بركات بن سعد الانصاري الخزرجي العبادي -من ذرية عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أبو عبدالله , المعروف بابن الخباز , ولد سنة 667 , بكر به أبوه فأحضره على أحمد بن عبدالدائم وغيره , كان مسند الآفاق في زمانه , روى عنه الأئمة والحفاظ كالذهبي , وزين الدين العراقي , وابن رجب , وغيرهم , وقد أُسمع عليه أيضاً إبراهيم بن جمال الدين السرمري -تقدم ذلك في ترجمة إبراهيم , انظر: ص 48 - , وكان رجلاً صبوراً على الإسماع محباً للحديث وأهله , توفي سنة 756.

انظر: المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/ 381)؛ ذيل التقييد في رواة السنن والمسانيد (1/ 98) , لمحمد بن أحمد الفاسي المكي , تحقيق: كمال يوسف الحوت , الطبعة الأولى 1410 , دار الكتب العلمية , بيروت؛ الدرر الكامنة (5/ 119 - 120).

(2) هو أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، أبو العباس، زين الدين: نساخ، من شيوخ الحنابلة، عالم بالحديث , ولد في نابلس سنة 575 , وانتقل إلى دمشق، وتوفي بها , له كتاب (مشيخة) 15 و (تاريخ) جمعه لنفسه , وكان حسن الخط سريعاً فيه، مكثراً من نسخ الكتب له وبالأجرة. لازم الكتابة أكثر من 50 سنة , وكان يكتب في اليوم إذا تفرغ تسعة كراريس ويقال إنه كتب بيده ألفي مجلدة، منها تاريخ الشام لابن عساكر مرتين، والمغني لموفق الدين مرات. وكف بصره في آخر عمره , وتوفي سنة 668. انظر: الأعلام للزركلي (1/ 145).

(3) هو إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر , مسند الشام تقي الدين شرف الفضلاء , أبو محمد التنوخي المعري الأصل , الدمشقي المولد , ولد سنة 589 , وأجاز له جماعة وروى الكثير , ومات سنة 672.

انظر: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي (2/ 383 - 385) , ليوسف بن تغري بردي الأتابكي , تحقيق: د. محمد محمد أمين , 1984 م , الهيئة المصرية العامة للكتاب.

(4) إذناً: عبارة تدل على التحمل بالإجازة أو المناولة , وهي بمعنى: فيما أذن له فيه.

انظر: منهج النقد في علوم الحديث ص 225 , لنور الدين عتر , الطبعة الثالثة 1418 , دار الفكر , دمشق.

إن لم يكن سماعاً قال: أخبرنا أحمد بن علي بن المُجْلِي (1) قال أخبرنا أبو الحسين بن المهتدي (2) قال أخبرنا عبيدالله بن أحمد الصَّيدلاني (3) (4) قال أخبرنا الحسين بن إسماعيل المحاملي (5) قال حدثنا يوسف بن موسى (6) قال حدثنا عبيدالله (7) بن موسى (8)

 (1) هو أبو السعود أحمد بن علي المجلي -بضم الميم وسكون الجيم وتخفيف اللام المكسورة- من شيوخ ابن الجوزي , توفي سنة 525.

انظر: توضيح المشتبه (8/ 59) , سير أعلام النبلاء (19/ 584).

(2) هو محمد بن علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله , أبو الحسين , الخطيب القاضي الهاشمي المعروف بابن الغريق , كان ثقة صالحاً , حدث عنه جماعة منهم أبو السعود أحمد بن علي بن المجلي وغيره , توفي مستهل ذي الحجة من سنة 465.

انظر: التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد ص 94 , لمحمد بن عبدالغني البغدادي , تحقيق: كمال يوسف الحوت , 1408 , دار الكتب العلمية , بيروت.

(3) في ب " الصيدلافي" , وهو تصحيف.

(4) هو أبو القاسم عبيدالله بن أحمد بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن المقرئ المعروف بابن الصيدلاني، من أهل بغداد، كان شيخاً صالحاً ثقة مأموناً , وكانت ولادته في رجب سنة سبع وقيل: سنة تسع وثلاثمائة، ووفاته في رجب سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ببغداد.

انظر: الأنساب , للإمام السمعاني (2/ 574) , تعليق: عبدالله البارودي , الطبعة الأولى 1408 , دار جنان.

(5) هو الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل , أبو عبدالله الضبي , القاضي , المحاملي , البغدادي , الحافظ , ولد سنة 235 , سمع من يوسف بن موسى القطان , وتوفي سنة 330.

انظر: أمالي المحاملي ص 15 - 29 , تحقيق وتخريج: د. إبراهيم القيسي , الطبعة الأولى 1412 , دار ابن القيم , الدمام.

(6) هو يوسف بن موسى بن راشد بن بلال القطان , أبو يعقوب الكوفي , اشتهر بطلب الحديث والرحلة إليه في الآفاق , حدث عن عبيد الله بن موسى وغيره , وروى عنه أبو عبدالله المحاملي وغيره , وكتب عنه ابن المعين: صدوق , وذكره ابن حبان في الثقات , ووثقه الخطيب البغدادي , توفي سنة 253 ببغداد , وقيل غير ذلك.

انظر: تاريخ بغداد (16/ 445) , للخطيب البغدادي , تحقيق: د. بشار عواد معروف , الطبعة الأولى 1422 , دار الغرب الإسلامي , بيروت؛ تهذيب التهذيب (11/ 374) , لابن حجر العسقلاني , الطبعة الأولى 1404 , دار الفكر.

(7) في ب " عبدالله " , وهو تصحيف.

(8) هو عبيدالله بن موسى بن أبي المختار , واسمه باذام العبسي مولاهم الكوفي , أبو محمد الحافظ , روى عن إسماعيل بن أبي خالد وغيره , كان يروي أحاديث في التشيع منكرة , توفي سنة 213 , وقيل سنة 214.

انظر: تهذيب التهذيب (7/ 46 - 48).

عن إسماعيل بن أبي خالد (1) عن يزيد بن أبي زياد (2) عن عبدالله بن الحارث بن [ق 2/و] نوفل (3) عن العباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله إنّ قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم (فجعلوا) (4) مَثَلك مَثل نخلة نَبَتتْ في كَبْوة (5) من الأرض فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله - عز وجل - يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم ثم حين فرَّقهم جعلني في خير الفريقين , ثم حين جعل القبائل جعلني في خير قبيلة , ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم , فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً» (6) , وقد خلق الله تبارك وتعالى النفوس

مختلفة , فمنها الغاية في الجَودة والجوهريَّة , ومنها المتوسط ومنها الكدر , وجعل في

 (1) هو إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم , كان أعلم الناس بالشعبي وأثبتهم فيه , روى عنه عبيدالله بن موسى وغيره , وأخرج له الجماعة , توفي سنة 146.

انظر: تهذيب التهذيب (1/ 254 - 255).

(2) هو يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي , أبو عبدالله مولاهم الكوفي , روى عن عبدالله بن الحارث بن نوفل وغيره , وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد وغيره , كان من شيعة الكوفة , قال ابن حبان: كان صدوقاً إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير وكان يلقن ما لقن فوقعت المناكير في حديثه , توفي سنة 137 , وقيل سنة 136.

انظر: تهذيب التهذيب (11/ 287).

(3) هو عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي - رضي الله عنه - , أبو محمد المدني , ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحنكه النبي - صلى الله عليه وسلم - , وتحول إلى البصرة , واصطلح عليه أهل البصرة حين مات يزيد بن معاوية , روى عن عم جده العباس بن عبدالمطلب وغيره , وروى عنه يزيد بن أبي زياد وغيره , وأخرج له الجماعة , توفي سنة 84 عند انقضاء فتنة الأشعث , وكان خرج إليها هارباً من الحجاج.

انظر: تهذيب التهذيب (5/ 157 - 158).

(4) " فجعلوا " ليس في ب.

(5) الكبوة: أصلها من كبو وهو يدل على سقوط وتزيُّل , والكبوة: هي الكناسة والتراب الذي يُكنس من البيت. انظر: النهاية في غريب الأثر (4/ 251) , معجم مقايسس اللغة (5/ 155 - 156).

(6) أخرجه الترمذي (5/ 584) بمعناه في كتاب المناقب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , باب في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - , ح 3607 , تحقيق: إبراهيم عطوة , الطبعة الثانية 1395 , مطبعة مصطفى البابي الحلبي , مصر , وقال: حديث حسن؛ وذكره ابن كثير بمثله في البداية والنهاية (2/ 315 - 316)؛ وأخرجه البيهقي بنحوه في دلائل النبوة (1/ 167) , تحقيق: د. عبدالمعطي قلعجي , الطبعة الأولى 1408 , دار الكتب العلمية , بيروت.

وقال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف الجامع الصغير وزيادته ص 232 , الطبعة الثالثة 1408 , المكتب الإسلامي , بيروت.

كل مرتبة درجات لتظهر أسرارُ حكمته في الخلق , فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الغاية في الجودة , خُلقت أبدانهم سليمة من عيب فصلحت لحلول النفوس الكاملة , ثم هم يتفاوتون أيضاً في المراتب , ويتميَّز (1) بعضهم على بعض في المناقب وعلوِّ المناصب , وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أصحَّ الأنبياء مزاجاً , وأكملهم (2) بدناً , وأصفاهم رُوحاً , وبمعرفة ما نذكره من أحواله وأخلاقه وصفاته يتبين فضله , ولذلك قدَّمه الله تعالى على الكُل , فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم خلاصة الوجود , وواسطة العقود , وهم خيرة الخلائق , وصفوة الخالق , وهم في الفضل طبقات , وفي القدر درجات قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: من الآية 55] فكلٌ له رتبة (لايتعدَّاها) (3) , ومنزلة لايدرك غيره مَداها , وغاية إذا بلغ منتهاها تناهى , وجعل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الرتب أعلاها , ومن المنازل أسماها , ومن المعجزات أعظمهما وأقواها , ومن المنقبات أجملها وأبهاها , ومن الفضائل أُولاها وأُخراها , ومن المحاسن أَوْلاها وأَحراها , ففي حديث الإسراء عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى جمع الأنبياء والملائكة صفوفاً قال فقدَّمني وأمرني أن أصلِّي بهم فصليت بهم ركعتين , ثم إنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أثنوا على ربهم سبحانه , فقال إبراهيم - عليه السلام -[ق 2/ظ]: الحمد لله الذي اتخذني خليلاً وأعطاني مُلكاً عظيماً وجعلني أمَّة قانتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليَّ برداً وسلاماً , ثم إن موسى - عليه السلام - أثنى على ربه تعالى فقال: الحمد لله رب العالمين الذي كَلَّمني تكليماً وجعل هلاك فرعون على يدي ونجَّا بني إسرائيل على يدي وجعل من أمتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون , ثم إن داود - عليه السلام - أثنى على ربه تعالى فقال: الحمد لله

الذي جعل لي مُلكاً عظيماً وعلَّمني الزَّبور وألان لي الحديد وسخَّر لي الجبال يسبّحن والطير وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب , ثم إن سليمان - عليه السلام - أثنى على ربه فقال:

 (1) في ب " يتمايز ".

(2) في ب " أجملهم ".

(3) " لايتعداها " ليس في ب.

الحمد لله الذي سخَّر لي الرياح وسخَّر لي جنود الشياطين يعملون لي ماشئت من محاريب وثماثيل وجفان (1) كالجوابي (2) (3) وقدور راسيات وعلَّمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلاً وآتاني ملكاً عظيماً لاينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكاً طيِّباً ليس عليَّ فيه حساب , ثم إن عيسى - عليه السلام - أثنى على ربِّه فقال: الحمد لله رب العالمين الذي جعلني كلمةً منه وجعل مَثَلي مَثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون , وعلَّمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ورفعني وطهّرني وأعاذني وأمّي من الشيطان الرجيم ولم يكن للشيطان علينا سبيل , ثم إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قال: كلُّكم قد أثنى على ربّه وإني مُثْنٍ على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمةً للعالمين وكافةً للناس بشيراً ونذيراً وأنزل عليّ الفرقان (4) فيه تبيان كل شيء وجعل أمَّتي خير أمَّة أخرجت للناس وجعل أمَّتي (أمَّة) (5) وَسَطاً وجعل أمَّتي هم الأولين والأخرين وشرح لي صدري ووضع عنِّي وِزْري ورفع لي ذكري وجعلني فاتِحاً وخاتِماً فقال

إبراهيم - عليه السلام -: بهذا فَضَلَكم محمد - صلى الله عليه وسلم -» (6) , وفي حديث الإسراء أيضاً [ق 3/و] أنه قال: «قيل لي: سل , فقلتُ: ياربِّ اتخذتَ إبراهيم خليلاً وكلَّمتَ موسى تكليماً ورفعت

 (1) جفان: جمع جفنة اسم للقدر الكبيرة. الجدول في إعراب القرآن (22/ 210) , لمحمود صافي , الطبعة الرابعة 1418 , دار الرشيد , دمشق.

(2) في ب "كالجواب" , وقد قرأ ابن كثير بإثبات الياء (الجوابي) وصلاً ووقفاً , وأبو عمرو وورش بإثباتها وصلاً , وحذفها وقفاً , والباقون بحذفها في الحالين , فمن قرأ بالياء فلأنه الأصل , ومن حذفه فلاكتفائه بكسر الياء. انظر: الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (9/ 161 - 162) , للسمين الحلبي , تحقيق د. أحمد الخراط , دار القلم , دمشق؛ بحر العلوم , لأبي الليث السمرقندي (3/ 78) , تحقيق: د. محمود مطرجي , دار الفكر , بيروت.

(3) كالجوابي: جمع جابية , والجابية: الحوض العظيم , سُميت بذلك لأنه يُجبى إليها الماء. انظر: الدر المصون (9/ 162).

(4) في ب "القرآن".

(5) "أمة" ليس في ب.

(6) سيأتي تخريجه عند التعليق على الحديث التالي.

إدريس مكاناً علياً وآتيت سليمان ملكاً عظيماً وآتيتَ داود زبوراً فما لي ياربّ , فقال لي ربي - عز وجل -: يا محمد اتخذتك حبيباً كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلَّمتك كما كلَّمتُ موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة وكانا من كنوز عرشي ولم أعطها نبيّاً قبلك وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودِهم إنسهم وجنِّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبيّاً قبلك وجعلت الأرض كلّها بَرَّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأُمَّتك وأطعمت أمَّتك الفيء ولم أُطعمه أمَّة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوّك مسيرة شهر وأنزلت عليك سيِّد الكتب كُلِّها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك حتى تُذكَر كلَّما ذُكرتُ من [أجلِّ] (1) شرائع ديني وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الإنجيل المئين (2) ومكان الزبور الحواميم وفضّلتك بالمُفصَّل وشرحتُ لك صدرك ووضعتُ عنك وزرك وجعلتُ أمَّتك خير أمَّة أخرجت للنَّاس وجعلتهم (3) أمَّة وسطاً وجعلتهم (4) الأولين وهم الآخرون (5) فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ثم أفضى إليَّ بعدها أموراً لم يُؤذن لي أن أخبركم بها ... » وذكر باقي (6) الحديث (7)؛ و (في) (8) حديث

 (1) "أجل" زيادة من ب.

(2) في هامش ب "سُوَرٌ يكون عدد آياتها مائةً أو جاوزت منها ولم يبلغ إلى الألف".

(3) في ب "وجعلتها".

(4) في ب "وجعلهم".

(5) في ب "الآخرين".

(6) في ب "وذكرنا في".

(7) الخبر بطوله ذكره بنحوه ابن جرير في تفسيره (17/ 337) وفي تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار (1/ 437) , تحقيق: محمود شاكر , مطبعة المدني , القاهرة؛ كما أخرجه البزار في مسنده من طريق أبي العالية (17/ 7 - 12) ح 9518 , تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله , الطبعة الأولى 1988 م , مكتبة العلوم والحكم , المدينة , كما ذكره البيهقي في دلائل النبوة (2/ 397 - 403)؛ وهذا الحديث من رواية (أبو جعفر الرازي) , قال الحافظ ابن كثير: "قلت: (أبو جعفر الرازي) قال فيه الحافظ أبو زرعة: يهم في الحديث كثيراً , وقد ضعفه غيره أيضاً , ووثقه بعضهم , والأظهر أنه سيئ الحفظ ففيما تفرد به نظر , وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابه ونكارة شديدة , وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري , ويشبه أن يكون مجموعاً من أحاديث شتى , أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء , والله أعلم".

تفسير القرآن العظيم (5/ 38) , لابن كثير , تحقيق: سامي بن محمد سلامة , الطبعة الثانية 1420 , دار طيبة.

(8) "في" ليس في ب.

أنس - رضي الله عنه -[أيضاً] (1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لواء الحمد بيدي ولا فخر , (آدم) (2) ومَن دونه من النبيين تحت لوائي يوم القيامة ولافخر» (3) وفي حديث أنس - رضي الله عنه - أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويجيء النبي ومعه الرجلان وأنا أكثر الناس تَبَعاً يوم القيامة» رواه البخاري (4)؛ وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنَّ لكل نبي دعوة دعا بها في أمَّته , وخبأتُ دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين [ق 3/ظ] من حديث أنس مثلَه سواء (5)؛ وفي رواية: «اختبأت دعوتي شفاعةً لأمَّتي لأنَّها أعمُّ وأكفأ» (6) , وفي هذا الحديث

الشريف

_________

(1) "أيضاً" زيادة من ب.

(2) "آدم" ليس في ب.

(3) أخرجه ابن خزيمة بنحوه في كتاب التوحيد ص 446 , تحقيق: عبدالعزيز الشهوان , الطبعة الخامسة 1414 , مكتبة الرشد , الرياض.

قال الألباني: ضعيف. انظر: ضعيف الجامع , ص 190.

(4) أخرجه البخاري (7/ 134) , في كتاب الطب , باب من لم يرق , ح 5752 , بلفظ: «عرضت علي الأمم , فجعل النبي يمر معه الرجل , والنبي معه الرجلان , والنبي معه الرهط , والنبي ليس معه أحد , ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق , فرجوت أن تكون أمتي , فقيل: هذا موسى وقومه , ثم قيل لي: انظر , فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق , فقيل لي: انظر هكذا وهكذا , فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق , فقيل: هؤلاء أمتك , ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب»؛ وأخرجه مسلم (1/ 188) , كتاب الإيمان , باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً" , ح 196 , بلفظ: «أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً».

(5) أخرجه البخاري (8/ 67) , في كتاب الدعوات , باب لكل نبي دعوة مستجابة , ح 6305 , بلفظ: «لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب , فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة»؛ وأخرجه مسلم (1/ 190) بنحوه في كتاب الإيمان , باب اختباء النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة الشفاعة لأمته , ح 201.

(6) أخرجه أحمد في مسنده (9/ 327) ح 5452 , بلفظ: «خيرت بين الشفاعة أو يدخل نصف أمتي الجنة , فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى ... » الحديث؛ وأخرجه ابن ماجه (2/ 1441) بنحو لفظ المسند في كتاب الزهد , باب ذكر الشفاعة , ح 4311؛ كما ذكره الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 107) ح 6994 , تحقيق: طارق بن عوض الله , 1415 , دار الحرمين , القاهرة , بلفظ: «إن الله خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي وروجوت أن تكون أعم لأمتي ... » الحديث.

قال الألباني: ضعيف بهذا التمام , وصحيح دون قوله: «لأنها ... ». انظر: ضعيف سنن ابن ماجه ص 359 , الطبعة الأولى 1417 , مكتبة المعارف , الرياض.

دليل ظاهر على فضل نبيِّنا [محمد] (1) - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين , وإشارة بيِّنة إلى أن كل فضيلةٍ لنبي من الأنبياء قد شاركه فيها وزاد عليه فيما يشابهها ويُقاربُها مما تظاهرت به الأخبار وتواطئت عليه الآثار عن علماء الأمصار.

فصل

اعلم أن التفضيل إنما يكون إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لايوجد للمفضول مثلُه , فإذا استويا في أسباب الفضل وانفرد أحدهما بخصائص لم يَشْرَكْه فيها الآخر كان أفضل منه , وأمَّا ماكان مشتركاً بين الرجل وغيره من المحاسن فتلك مناقب وفضائل ومآثر لكن لاتُوجب تفضيله على غيره إذا كانت مشتركة ليست من خصائصه , وإذا اتَّحَدت الفضيلتان فكانتا من جنسٍ واحد لكن كانت إحداهما أكمل من الأخرى وأعظم أو أعجب أو أبلغ فلا ريب أنَّ صاحب ذلك أفضل في ذلك , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد امتاز عن غيره بأمور لم يشركه (2) فيها غيرُه وشارك غيرَه في أمور كثيرة على الوجه الأكمل فظهرت مزيَّته على مزية غيره وفضيلتُه على مَن عداه كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى , ونحن نذكر إن شاء الله تعالى مانُقل عن كل نبيّ من المعجزات وماثبت لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - من الخصائص وماله من الفضائل الفواضل وما أُوتي من المناقب العجائب على جميع الأنبياء عليهم السلام , فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - من خصائصه أنه أُرسِل إلى جميع الخلق أسودهم وأحمرهم وجنِّهم وإنسهم وأن الله تعالى أخذ العهد على جميع النبيين لئن بُعث وهم

أحياء ليؤمننَّ به ولينصرنَّه وخَتم به النَّبيِّين وجعل أمَّته خير أمة أُخرجت للناس وآتاه السبعَ المثاني والقرآن العظيم وأُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم عُرج به إلى فوق سبع سموات وإلى سدرة المنتهى وإلى ماشاء الله تعالى مما فوق ذلك وأشياء

 (1) "محمد" زيادة من ب.

(2) كذا في أونسخة بهامش ب , وفي ب "يشاركه".

غير ذلك نذكرها فيما [ق 4/و] بعد إن شاء الله تعالى في مواضعها يتبيَّن بها فضله على غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين , ونذكر من معجزاته وما آتاه الله تعالى من الكرامات والمزايا الكريمة والعطايا العظيمة ممَّا فاق به عليهم من الآيات البيِّنات والمفاخر الظاهرات , فمن ذلك: أولو العزم (1) من الرسل وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى [ابن مريم] (2) ومحمد صلى الله عليهم وسلم , فمحمد - صلى الله عليه وسلم - آخرهم بعْثاً وأوّلهم في الذّكْر والفضيلة قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7].

 (1) قال ابن عباس: معنى أولي العزم: ذوو الحزم , وقال الضحاك: ذوو الجد والصبر.

انظر: الكشف والبيان (9/ 24) , لأبي إسحاق الثعلبي , تحقيق: ابن عاشور , الطبعة الأولى 1422 , دار إحياء التراث , بيروت؛ الجدول في إعراب القرآن (26/ 204) , لمحمود صافي؛ وقد اختلف العلماء فيمن هم أولي العزم من الرسل , فقال ابن زيد: كل الرسل كانوا أولي عزم، وكل الأنبياء ذوو حزم وصبر ورأي وكمال وعقل , وهذا القول هو اختيار فخر الدين الرازي , وفسرت (من) في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] للتبيين لا للتبعيض، كما تقول ثوب من خز , وقال قوم: هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام , وهم ثمانية عشر لقوله بعد ذكرهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: من الآية 90] , وقال الكلبي: هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء الله , وقيل: هم ستة: نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء , وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، ويعقوب صبر على فقد ولده وغشاوة بصره، ويوسف صبر على الجب والسجن، وأيوب صبر على الضر , وقال ابن عباس وقتادة: هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين، فهم أصحاب الشرائع، وقد ذكرهم الله على التخصيص والتعيين في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: من الآية 7] , ولعله الراجح , والله أعلم.

انظر: الكشف والبيان (9/ 25 - 26) للثعلبي , الجدول في إعراب القرآن (26/ 204) لمحمود صافي.

(2) "ابن مريم" زيادة من ب.

فصل

فأمّا فضيلة نوح - عليه السلام - فظاهرة , ومعجزته (1) باهرة , وهو أوَّل رسول أُرسِل إلى بني آدم في أحد قولي العلماء , وآيته التي أوتي نجاته في السفينة بمن آمن معه وإغراق عدوّه بدعوته وهي لعَمري فضيلة عظيمة ومعجزة كريمة , ولاشك أن الماشي على وجه الماء من غير سفينةٍ أعظم من الماشي عليه في السفينة , وقد أعطى الله تعالى نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - في أمَّته مَن مشى على وجه الماء بغير سفينة , فكثير من أولياء أمَّة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مشى (2) على الماء , فمن ذلك ماروى مِنْجابٌ (3) قال: "غزونا مع العلاء بن الحَضْرمي (4) دَارِينَ (5) فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له , نزلنا منزلاً فطَلَب الماء فلم يجدْه فقام فصلى ركعتين

وقال: اللهم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوَّك اللهم اسقنا غيثاً نتوضَّأ به ونشرب ولايكون لأحد فيه نصيب غيرنا , فسِرْنا قليلاً فإذا نحن بماءٍ حين أقلعت السماء عنه

 (1) كذا في أونسخة بهامش ب , وفي ب "ومعجزاته".

(2) في ب "يمشي".

(3) الصواب أن الراوي هو ابنه: سهم بن منجاب بن راشد الضبي الكوفي.

انظر: الثقات (4/ 344) , لابن حبان , تحقيق: شرف الدين أحمد , الطبعة الأولى 1395 , دار الفكر؛ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 7) , لأبي نعيم الأصبهاني , الطبعة الرابعة 1405 , دار الكتاب العربي , بيروت؛ موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا (4/ص 39 - 40) , تحقيق: زياد حمدان , الطبعة الأولى 1414 , مؤسسة الكتب الثقافية , بيروت؛ صفة الصفوة (1/ 695) , لابن الجوزي , تحقيق: محمود فاخوري ود. محمد رواس قلعه جي , الطبعة الثانية 1399 , دار المعرفة , بيروت؛ منهاج السنة النبوية (8/ 106) , البداية والنهاية (9/ 311).

(4) هو الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي -واسم الحضرمي عبدالله- بن عباد بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن الخزرج , كان من حضرموت , ولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - البحرين , وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عليها فأقره أبو بكر خلافته كلها , ثم أقره عمر , وتوفي في خلافة عمر سنة 14 , وقيل: توفي سنة 21 والياً على البحرين.

انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة (4/ 71) , لابن الأثير , تحقيق: علي معوض وعادل عبدالموجود , الطبعة الأولى 1415 , دار الكتب العلمية.

(5) دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند , والنسبة إليها (داري) , وهي حالياً قرية أو جزيرة من شرق المملكة العربية السعودية بالقرب من القطيف. انظر: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص 115 , لمحمد بن محمد حسن شراب , الطبعة الأولى 1411 , دار القلم , دمشق؛ معجم البلدان (2/ 432).

فتوضأنا منه وتزوّدنا وملأت إداوتي (1) وتركتها مكانها حتى أنظر هل يستجيب له أم لا فسرنا قليلاً ثم قلت: لأصحابي نسيت إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنَّه لم يصبه ماء قط , ثم سرنا حتى أتينا دَارِينَ والبحر بيننا وبينهم فقال: يا عليم يا حليم يا عليّ يا عظيم إنَّا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوّك اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلاً فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لُبُودَنا (2) ومشينا على متن الماء ولم يَبْتلّ لنا شيء [ق 4/ظ] فلما رجع أخذه وجع البطن فمات فطلبنا ماء نغسله فلم نجده فلففناه في ثيابه ودفنَّاه فَسِرنا غير بعيدٍ فإذا نحن بماء كثير فقال بعضنا لبعضٍ: لو رجعنا فاستخرجناه ثم غسلناه فَرُحْنا (3) فطلبناه فلم نجده فقال رجل من القوم إني سمعته يقول: يا عظيم (4) يا حليم يا علي يا عظيم أخْفِ عليهم موتي - أو كلمة نحوها - ولا تُطلع على عيوبي أحداً فرحَلْنا وتركناه" (5) , وقال عمر بن ثابت: "دخلتْ في أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطبَّاء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى سِماخه (6) فأسهرت ليلَهُ ونغَّصت عيشَ نهاره

فأتى رجلاً من أصحاب الحَسَن فشكا إليه فقال له: ويحك إن كان شيء ينفعُك الله به فدعوة العلاء بن الحَضْرمي التي دعا بها في البحر والمفازة , قال: وما هي رحمك الله ,

 (1) الإداوة بالكسر: المطهرة , وهي إناء صغير من جلد يُتخذ للماء , وجمعها أداوى.

انظر: تاجر العروس من جواهر القاموس (37/ 51) , النهاية في غريب الأثر (1/ 63).

(2) لبود: جمع لبد , وهو كل شعر أو صوف ملتصق بعضه ببعض التصاقاً شديداً.

انظر: إكمال الأعلام بتثليث الكلام , لمحمد الطائي الجياني , تحقيق: سعد الغامدي , 1404 , جامعة أم القرى , مكة.

(3) كذا في أونسخة بهامش ب , وفي ب "فرجعنا".

(4) في هامش أ: الظاهر "عليم".

(5) أخرجه بنحوه ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة -موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا- (4/ص 39 - 40) , كما ذكر هذه الرواية بنحوها ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 695) , وابن كثير في البداية والنهاية (9/ 311) , والبيهقي مختصراً في الدلائل (6/ 191)؛ قال ابن حبان في الثقات (4/ 344): "سهم بن منجاب يروي عن العلاء بن الحضرمي في دعواته المستجابة".

(6) في ب "صِماخه" وهو صحيح , قال ابن الأثير في السماخ: "ويقال بالصاد لمكان الخاء"؛ والسماخ: هو ثقب الأذن يدخل فيه الصوت. النهاية (2/ 992).

قال: يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم فدعا بها فوالله ما برحنا حتى خرجت من أذنه ولها طنين حتى أصابت الحائط وبرأ" (1)؛ والمشي على الماء في السفينة أمر معلوم معهود والنجاة فيه غير مستبعدة , ومشيُ العلاء بن الحَضرمي وأصحابه بخيولهم ودوابِّهم وحمُولهم على متن الماء بلا سفينة أعظم بالنسبة إلى معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - مِن مشي نوح - عليه السلام - ومن معه في السفينة واستجيبت دعواته كما استجيبت دعوة نوح - عليه السلام - أيضاً , فكرامة الأمَّة (2) من معجزة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - , وسيأتي قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وأصحابه في فتح أبيض كسرى (3) إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: إن الله تعالى أعطى نوحاً عليه الصلاة والسلام ما سأل من شِفَاء غيظه في إجابة دعوته على قومه بتعجيل النقمة عليهم حين كذَّبوه وكفروا بما أُرسل به فأهلك بدعوته مَن على بسيط الأرض مِن صامتٍ وناطقٍ إلا مَن آمن به ودخل معه السفينةَ وكانوا قليلاً كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: من الآية 40] وكانوا فيما قيل: ثمانين نفساً أو نحوها , قلنا: هذه فضيلة عظيمة وآية جسيمة وافقَتْ سابِق القَدَر في هلاك مَن هلك لكن فضيلة نبيِّنا صلوات الله عليه وسلامه أكمل , ومعجزته أجمل , وعاقبتها أحسن , وصورة الواقع فيها أبين , وذلك أنه لمَّا كذَّبه قومُه [ق 5/و] وآذوه وبالغوا في أذاه جاءه الملك من ربِّه يُخيِّره في أن يُطبِق عليهم الأخشبَيْن: أخشبَي مكة يعني: الجبلين المكتنفين لها , فقال: «بل أرجو أن يُخرج الله من

أصلابهم مَن يعبد الله لايشركُ به شيئاً» (4) , فكان ما رَجَا من ذلك وزيادة , ولمَّا أسْرَف

 (1) أخرجه ابن أبي الدنيا بنحوه في مجابي الدعوة -موسوعة رسائل ابن أبي الدنيا- (4/ 41) , كما ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 696 - 697).

(2) في ب "الأولياء".

(3) أبيض كسرى: مُلك كسرى , وإنما قال الأبيض لبياض ألوانهم ولأن الغالب على أموالهم الفضة. انظر: النهاية (1/ 541).

(4) أخرجه البخاري (4/ 115) بنحوه في كتاب بدء الخلق , باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم من ذنبه , ح 3231؛ وأخرجه مسلم (3/ 1420) كتاب الجهاد والسير , باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين , ح 1795.

من أسْرَف في عداوته وبلغ الغاية في أذيَّته حين ألقى عُقبة بن أبي مُعَيْط على ظهره - صلى الله عليه وسلم - سَلَا (1) الجزور وهو ساجد والحديث فيه مشهور وهو ما رُوي عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة وجَمْعٌ (2) من قريش ينظرون فقال قائل منهم: ألا ترون إلى هذا المُرائِي أيُّكم يقوم إلى جَزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودَمِها وسَلاها حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه , فانطلق أشقاهم فجاء به حتى إذا سجد - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه , وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجداً , وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك , فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية (3) فأقبلت تسعى وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً حتى نَحَّتْهُ عنه وأقبلت عليهم تسبُّهم , فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته استقبل الكعبة فقال (4): «اللهم عليك الملأ من قريش» ثم سمّاهم فقال: اللهم عليك بعَمرو بن هشام وشيبة وعُتبة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي مُعَيط وعُمَارة بن (5) الوليد» قال عبدالله: والذي توفّى نفْسَه لقد رأيتهم صرعى يُسحَبون إلى القليب قليب بدْر , قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أتبع أهل القليب لعنةً» (6) فلم يَدْعُ عليهم بالبوار

 (1) السلى: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفاً فيه. النهاية (2/ 986).

(2) كذا في أونسخة بهامش ب , وفي ب "وجميع" وهو خطأ.

(3) في هامش ب "أي شابة قليلة السنِّ".

(4) في ب "قال" بدون الفاء.

(5) في ب "ابن" بزيادة الهمزة , وهو خطأ.

(6) أخرجه البخاري (1/ 110) بنحوه في كتاب الصلاة , باب المرأة تطرح عن المصلي شيئاً من الأذى , ح 520 , بلفظ: «اللهم عليك بقريش , اللهم عليك بقريش , اللهم عليك بقريش» ثم سمى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام , وعتبة بن ربيعة , وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عتبة , وأمية بن خلف , وعقبة بن أبي معيط , وعمارة بن الوليد» ... ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وأتبع أصحاب القليب لعنة»؛ وأخرجه مسلم (3/ 1419) , كتاب الجهاد والسير , باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين , ح 1794 , بلفظ: «اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل , وعتبة بن ربيعة , وعقبة بن أبي معيط , وشيبة بن ربيعة , وأمية بن خلف - أو أبي بن خلف شعبة الشاك-».

كلِّهم ولا باستئصال شأفتهم (1) (2) , وكذلك لما استعان عليهم بدعائه أن يعينه عليهم بسبع كسبع يوسف فأجْدبوا حتى أكلوا العظام من الجوع حتى جاء إليه - صلى الله عليه وسلم - أكابرهم يسألونه أن يدعو لهم بكشف ذلك عنهم , فلما دعا قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] , فلما عادوا انتقم الله منهم قال تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] فانتقم منهم بالقتل يوم بدر (3)؛ والسِّرُّ في دعائه - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء النَّفر خاصَّةً أنهم اتّفقوا [ق 5/ظ] على هذا الفعل القبيح , وادَّعوا أنه مُراءٍ بصلاته , وانتهكوا حرمة الصلاة مع حرمته - صلى الله عليه وسلم - , فكان غضبه ودعاؤه لأجل انتهاك حرمة الصلاة لله تعالى في ذلك المكان فلم يَحسُن العفو حينئذ بل تعيَّن الانتصار والانتصاف فإنه كان (4) من عادته - صلى الله عليه وسلم - أن لاينتصر لنفسه كما لم يعاقب الذين سَمُّوه ولا الذين سَحروه ولا الذي أراد اغتياله في أشياء نحو ذلك وإنما غضب هنا (5) وانتصر لحقِّ الله تعالى فدعا عليهم فاستجاب الله تعالى له فيهم وأظهر تكذيبهم في اعتقادهم أنه مُراءٍ فاجتمع له - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة من الفضائل ما يضيق هذا المكان عن ذكره مما لم يحصل لنوح - عليه السلام - منه إلا البعض , فإنَّ نوحاً عليه الصلاة والسلام لمَّا اشتدَّ عليه الأذى من قومه دعا ربَّه أنِّي مغلوب فانتصر فقال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا

جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 11 - 14] فكان دعاؤه - عليه السلام - دعاء منتقمٍ مستنصرٍ (6)

 (1) في ب "ساقتهم" , وفي هامشه "ساقة الجيش مُؤخّره".

(2) شأفة الرجل: أهله وعياله. تاج العروس من جواهر القاموس (23/ 487).

(3) القصة أخرجها البخاري (6/ 131) , كتاب تفسير القرآن , باب قوله: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] , ح 4822؛ وأخرجها مسلم (4/ 2155) , كتاب صفة القيامة والجنة والنار , باب الدخان , ح 2798.

(4) في ب "فكان" بدون إنه.

(5) في ب "هاهنا".

(6) في ب "منتصر".

فاستجاب الله تعالى له فشفى صدره منهم وأغرقهم ودعوة نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - كانت رحمةً و (كانت) (1) أكثر نفعاً وأعظم أثراً في الخير والبركة كما روى أنس - رضي الله عنه - قال: أصاب أهلَ المدينة قحط على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه الناس يوم جمعة وهو على المنبر يخطب فقالوا: يا رسول الله غلَتِ الأسعار واحتَبَست الأمطار فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَده واستسقى قال: فمُطِرنا ولم نزل نُمطَرُ حتى كانت الجمعة المُقبلة فقام إليه الناس فقالوا: ادع الله يَحْبِسْها عنَّا فتبسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفع يده فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» قال: فتخرَّقَتْ (2) فصارت المدينة كأنَّها إكْليل (3) وما حولها ممطور (4) , وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ربَّما ذكرتُ قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النّبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقى (فما ينزل حتى يجيش [ق 6/و] كل مِيزاب (5)) (6)

وأبيض يُسْتسقى الغَمام بوجهه ... ثِمَالَ (7) اليتامى عصمةً للأرامل (8)

 (1) "كانت" ليس في ب.

(2) في هامش ب "أي انكشفت الغيم".

(3) إكليل: الإكليل -بكسر الهمزة وسكون الكاف-: كل شيء دار من جوانبه , يُريد أن الغيم تقشَّع عنها واستدار بآفاقها. انظر: فتح الباري (2/ 506) , تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم ص 102 , لمحمد بن أبي نصر فتوح الأزدي الحميدي , تحقيق: زبيدة محمد سعيد , الطبعة الأولى 1415 , مكتبة السنة , القاهرة؛ النهاية (4/ 353).

(4) أخرجه البخاري (4/ 195) , كتاب المناقب , باب علامات النبوة في الإسلام , ح 3582 , بلفظ: "أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فبينا هو يخطب يوم الجمعة , إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلكت الكراع , هلكت الشاء , فادع الله يسقينا , «فمد يديه ودعا» , قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة , فهاجت ريح أنشأت سحاباً , ثم اجتمع ثم أرسلت السماء عزاليها , فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا , فلم نزل نمطر إلى الجمعة الأخرى , فقام إليه ذلك الرجل أو غيره , فقال: يا رسول الله: تهدمت البيوت فادع الله يحبسه , فتبسم , ثم قال: «حوالينا ولا علينا» فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة كأنه إكليل , وأخرجه مسلم (2/ 614) , بنحوه في كتاب صلاة الاستسقاء , باب الدعاء في الاستسقاء , ح 897.

(5) مِيزاب بكسر الميم: وهو ما يسيل منه الماء من موضع عال. انظر: فتح الباري (2/ 497).

(6) مابين القوسين ليس في ب.

(7) ثِمَال بكسر المثلثة وتخفيف الميم: هو العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي , قد أطلق على كل من ذلك. فتح الباري (2/ 496).

(8) عصمة للأرامل: أي يمنعهم مما يضرهم , والأرامل جمع أرملة: وهي الفقيرة التي لا زوج لها.

فتح الباري (2/ 496).

وهو قول عمه أبي طالب (1) رواه البخاري (2) , فكانت دعوته نعمة في الأوَّل [و] (3) رحمة في الآخر (4) , ولم تكن دعوة نوح عليه الصلاة والسلام إلا مجرَّد عذابٍ شفى الله تعالى به قلبه؛ ولبث نوح - عليه السلام - في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فبلغ جميع من آمن به من الرجال والنساء الذين ركبوا معه في السفينة وهم دون المائة نفْسٍ كما أشرنا إليه , ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كانت مدَّة دعائه (5) الخلق إلى الحقِّ نحو عشرين سنة فآمن فيها من الخلق شرقاً وغرباً ما لايُحصى ودانت له جبابرة الأرض وملوكها وخافته على ملْكها ككسرى وقيصر وأسلم النَّجاشي والأقيال (6) رغبة في دين الله تعالى ممن رآه وممن سمع به ولم يره لِمَا ألقى الله في قلوب الخلق من هيبته , والتزم مَن لم يؤمن به من أقطار الأرض الجزية والأتاوة (7) عن صَغار كأهل نجران وهجر وأيلة وغيرهم فأذلَّهم الله بما ألقى في قلوبهم من الرعب الذي كان يسير أمامه مسيرة شهر حتى جاءه نصر الله والفتح

 (1) هذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب , ذكرها ابن إسحاق في السيرة بطولها , وهي أكثر من ثمانين بيتاً , قالها لما تمالأت قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفَّروا عنه من يريد الإسلام , أولها:

ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرا والوسائل. فتح الباري (2/ 496).

(2) أخرجه البخاري (2/ 27) , كتاب أبواب الاستسقاء , باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا , ح 1009.

(3) "و" زيادة من ب.

(4) في أ "في الثاني" , وما أثبته من ب هو الصواب , لأن العرب لا يسمون (الثاني) إلا ما كان له ثالث. انظر: عمدة الكتاب , لأبي جعفر النحاس ص 100 , تحقيق: بسام الجابي , الطبعة الأولى 1425 , دار ابن حزم.

(5) في هامش ب "دعوته".

(6) الأقيال: جمع قيل وهو أحد ملوك حِمْيَر دون الملك الأعظم , مأخوذ من القول بمعنى نفوذ القول والأمر؛ وقد أسلم وائل بن حجر الحضرمي , وكان قيلاً من أقيال حضرموت وكان أبوه من ملوكهم , وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بشر أصحابه بقدومه قبل أن يصل يأيام وقال: «يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً راغباً في الله - عز وجل - وفي رسوله , وهو بقية أبناء الملوك» , واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأقيال من حضرموت. انظر: النهاية في غريب الأثر (4/ 226,206) , غريب الحديث (2/ 275) , لابن الجوزي , تحقيق: د. عبدالمعطي أمين قلعجي , الطبعة الأولى 1985 , دار الكتب العلمية , بيروت؛ أسد الغابة (5/

(7) الأتاوة: وهو الخراج. النهاية (1/ 27).

ودخل الناس في دين الله أفواجاً فهذه منزلة لم تحصل لا (1) لنوح ولا لغيره من النبيين صلوات الله عليهم أجمعين , ولا بلغ مُلْك مَلك ما بلغ مُلكه ودينَه كما قال: «زُويت (2) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن مُلك أمّتي سَيبلغ (3) ذلك» (4).

وأما فضيلة نوح - عليه السلام - بأن الله تعالى سماه شكوراً باسم من أسماءه سبحانه , فنبيّنا - صلى الله عليه وسلم - قد خصَّه باسمين من أسماءه جمعهما له لم يشركه فيهما أحد فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] , ونوح - عليه السلام - لمَّا خاطبه الله تعالى قال له: {يَانُوحُ [اهْبِطْ بِسَلَامٍ] (5)} [هود: من الآية 48] , ولمَّا خاطب - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له: يامحمد بل قال له: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 41 , 67] , {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: من الآية 64 , 65 , 70 / التوبة: من الآية 73 / الأحزاب: من الآية 1 , 28 , 45 , 50 , 59 / الممتحنة: من الآية 12 / الطلاق: من الآية 1 / التحريم: من الآية 1 , 9] , {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزَّمل: 1] , {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدَّثر: 1] , فخاطبه بصفات الشَّرف والرِّفعة التي تقوم مقام الكنية واللقب بل أعظم , والخطاب بالكنية واللقب أعظم من

الخطاب بالاسم المجرَّد , وكذلك باقي الأنبياء خاطبهم [ق 6/ظ] بأسمائهم المجرَّدة فقال: {يَاإِبْرَاهِيمُ} [هود: من الآية 76 / مريم: من الآية 46 / الأنبياء: من الآية 62 / الصافات: من الآية 104] , {يَامُوسَى} [البقرة: من الآية 55 , 61 / المائدة: من الآية 22 , 24 / الأعراف: من الآية

 (1) في ب "إلا" , وهو خطأ.

(2) زويت: جُمعت , ويقال: انزوى القوم بعضهم إلى بعض إذا تدانوا وتضاموا. غريب الحديث (1/ 3) , القاسم بن سلام , تحقيق: د. محمد عبدالمعيد خان , الطبعة الأولى 1396 , دار الكتاب العربي , بيروت.

(3) في ب "يبلغ".

(4) أخرجه مسلم (4/ 2215) , كتاب الفتن وأشراط الساعة , باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض , ح 2889 , بلفظ: «إن الله زوى لي الأرض , فرأيت مشارقها ومغاربها , وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها ... » الحديث.

(5) {اهْبِطْ بِسَلَامٍ} زيادة من ب.

115 , 134 , 138 , 144 / الإسراء: من الآية 101 / طه: من الآية 11 , 17 , 19 , 36 , 40 , 49 , 57 , 65 , 83 / النمل: من الآية 9 , 10 / القصص: من الآية 19 , 20 , 30 , 31] , {يَايَحْيَى} [مريم: من الآية 12] , {يَادَاوُودُ} [ص: من الآية 26] , {يَاعِيسَى} [آل عمران: من الآية 55 / المائدة: من الآية 110 , 112 , 116] ولم يكنهم ولم يخاطبهم بما يقوم مقام الكنية واللقب , ولمَّا خاطبهم كلّهم وكان محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم داخلاً (1) فيهم خاطبهم بالتعظيم فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ... } (الآية) (2) [المؤمنون: 51] , فظهر فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - عليهم كلهم في هذه المسئلة وفي غيرها كما سنذكره إن شاء الله تعالى , وقريبٌ من هذا المعنى أن كل نبيّ لما آذاه قومُه وكذَّبوه وسبّوه تولى هو الذب عن نفسه بنفسه , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - صفح عنهم وأعرض عن إجابتهم فتولى الله سبحانه الجواب عنه وانتصر له وكذَّبهم فيما نسبوه (3) - صلى الله عليه وسلم - إليه , وذلك نحو قول قوم نوح لنوح عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: من الآية 60] فأجابهم: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية 61] , ونحو قول قوم هود لهود عليه الصلاة والسلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: من الآية 66] فقال مجيباً لهم: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: من الآية 67] , وقول فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: من الآية 101] فرد عليه بقوله: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ

مَثْبُورًا} [الإسراء: من الآية 102] وأشباه هذا , ونبينا - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قال له المشركون: شاعر أو مجنون صبر على أذاهم ووكل أمره إلى ربه سبحانه فتولى الجواب عنه ونصَره عليهم وكذّبهم بوحي يُتلى

 (1) في ب "داخلهم".

(2) "الآية" ليس في ب.

(3) كذا في أونسخة بهامش ب , وفي ب "سبُّوه".

فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ [وَمَا يَنْبَغِي لَهُ] (1)} [يس: من الآية 69] وقال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] وزاد على الانتصار له بمدحه إيّاه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وهدَّد مَن نسب إليه خلاف الصحة (2) فقال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 5 - 6] ولما قالت قريش: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: من الآية 103] و {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: من الآية 4] دفع الله عنه ما قالوا وانتصر له وكذبهم وبكتهم وبكعهم (3) وأظهر حجَّته له عليهم وكسر حجتهم وأبطل دعواهم فقال سبحانه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: من الآية 103] وقال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: من الآية 6] في أمثال (هذا) (4) , وكمال هذه الأمور [ق 7/و] لم تحصل لغير نبينا - صلى الله عليه وسلم -.

فإن قيل: في قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: من الآية 26] وأن الله سبحانه استجاب له فأغرق الأرض ومَن عليها دليل على أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان مُرسلاً إلى جميع أهل الأرض فكيف يقال: بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أُرسِل إلى الناس كافةً , فالجواب: أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامَّة في جميع الأمكنة والأزمنة والأصناف , فإنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث إلى جميع أهل الأرض إنسهم وجنِّهم ودعوته - صلى الله عليه وسلم - باقية إلى يوم القيامة لا يُبعث بعده نبي يَنسخ (5) شريعته , وهذه الخصيصة ليست لنوح عليه

الصلاة والسلام ولا لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , وقوم نوح عليه الصلاة والسلام إذا كانوا هم الذين أُغْرِقُوا فدعوته مختصة بهم لم تتناول مَن بعدهم من القرون ,

 (1) {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} زيادة من ب.

(2) في هامش ب "أي المرض والجنون تعالى الرسول من ذلك".

(3) بكعت الرجل بكعاً: إذا استقبلته بما يكره وهو نحو التقريع. النهاية (1/ 388).

(4) "هذا" ليس في ب.

(5) كذا في أونسخة بهامش ب , وفي ب "يمسخ".

ودعوة موسى عليه الصلاة والسلام وإن كانت متناولة لبني إسرائيل قرناً بعد قرن إلى المسيح عليه الصلاة والسلام فلم تكن متناولة لغيرهم ولهذا لم يكن مبعوثاً إلى الخضر وما جرى بينهما من المحاورة دليل على ذلك والله أعلم.

فصل         .

وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو خليل الله وناهيك بها فضيلة قد جمع الله تعالى له بين النُّبوة والرِّسالة والخلَّة (والعزيمة) (1) , لكن قد أُعطي نبينا - صلى الله عليه وسلم - ذلك وزاد , فهو نبي رسول خليل حبيب , ففيه ما في إبراهيم والزيادة التي لم تتحصَّل لغيره من الرسل , فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - خليل الله ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أيضاً خليل الله , ولكن محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم الخليلين , وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً» أو كما قال (2) , ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله» (3) , وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتخذ اللهُ إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً - ثم قال - وعزَّتي لأُوثرنَّ حبيبي على خليلي ونجيِّي» (4) , وهو - صلى الله عليه وسلم - في

 (1) "والعزيمة" ليس في ب.

(2) أخرجه مسلم (1/ 377) , بنحوه في كتاب الصلاة , باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد , ح 523.

(3) أخرجه مسلم (4/ 1896) , بنحوه في كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - , باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - , ح 2383.

(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 81) ح 1413 , تحقيق: د. عبدالعلي عبدالحميد , الطبعة الأولى 1423 , مكتبة الرشد , الرياض , وقال البيهقي في راويه مسلمة بن علي: "مسلمة بن علي هذا ضعيف عند أهل الحديث"؛ وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح , انفرد بروايته عن زيد: مسلمة , قال يحيى: مسلمة ليس بشيء , وقال النسائي والدارقطني والأزدي: متروك". كتاب الموضوعات (1/ 290) , لابن الجوزي , تحقيق: عبدالرحمن محمد عثمان , الطبعة الأولى 1386 , المكتبة السلفية , المدينة؛ وقال الألباني: "موضوع ... ثم إنه مخالف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله اتخذني خليلاً , كما اتخذ إبراهيم خليلاً» ". سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة (4/ 110) , الطبعة الأولى 1412, دار المعارف , الرياض.

التوراة مكتوب محمد حبيب الرحمن (1).

فإن قيل: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حُجب عن نُمروذ (2) بحُجب ثلاثة (3) , قيل: إنَّ محمَّداً صلوات الله وسلامه عليه حجبه الله تعالى بستة حجب قال [الله] (4) تعالى في حقّه: {إِنَّا جَعَلْنَا [ق 7/ظ] فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 8 - 9] فهذه أربعة حجب ثم قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ

الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ

_________

(1) هذا الخبر جزء من حديث الإسراء الطويل المتقدم تخريجه , وقد أخرج هذا الخبر بلفظ: «وهو مكتوب في التوارة محمد حبيب الرحمن» البزار في مسنده (17/ 11) , وأخرجه بنحوه ابن جرير في تهذيب الآثار (1/ 441) , وابن كثير في تفسيره (5/ 37) , والهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/ 236) , طبعة 1408 , دار الكتب العلمية , بيروت؛ وقال: "ورجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبي العالية أو غيره فتابعيه مجهول". مجمع الزوائد (1/ 236).

(2) في ب "نمرود" بالدال المهملة , وكلا الوجهين صحيح عند الجمهور , قال الزبيدي: "نمرود بالضم وإهمال الدال وإعجامها , وفي المزهر -المزهر في علوم اللغة وأنواعها , للسيوطي- بالوجهين, وصرَّح العصام وغيره بأنه المعجمة , قال شيخنا: يؤيده ما أنشده الخفاجي في المجلس الثامن من الطراز لابن رشيق من قوله:

يا رب لا أقوى على دفع الأذى

وبك استعنت على الزمان المُوذي

مالي بعثت إليَّ ألف بعوضة

وبعثت واحدة على نمروذ -هذا اعتراض للقدر لا يجوز-

قال: وهو الموافق للضابط الذي نظمه الفارابي فرقاً بين الدال والذال في لغة الفرس حيث قال:

احفظ الفرق بين دال وذال

فهو ركن في الفارسية معظم

كل ما قبله سكون لا وا

وٍ فدالٌ وما سواه فمعجم

وفي أمالي ثعلب: نمروذ , بالذال المعجمة , وأهل البصرة يقولون: نمرود , بالدال المهملة , وعلى هذا عوَّل كثيرون فجوزوا الوجهين". تاج العروس (9/ 240).

(3) في ب "بثلاث حجاب".

(4) لفظ "الله" زيادة من ب.

وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 45 - 46] وهذا حجابان فصارت ستَّة حجب , وزيادة أخرى وهي أنَّ الله تعالى جعل حجب محمد - صلى الله عليه وسلم - من أعداءه حجباً لأمَّته من أعدائهم من الجنِّ والإنس كما ذكرنا ذلك في موضعه.

فإن قيل: إن إبراهيم - عليه السلام - كسر نمروذ (1) ببرهان نبوَّته فبهته كما قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: من الآية 258] , قلنا: فمحمد - صلى الله عليه وسلم - أتاه أُبيُّ بن خَلَف المكذِّب بالبعث بعظمٍ بالٍ ففركَه فانفتَّ في يده وقال: من يحي العظام وهي رميم إنكاراً لإحيائها بعدما رمَّت فأنزل الله تعالى البرهان الساطع والجواب القاطع: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فانصرف مبهوتاً مكبوتاً (2).

فإن قيل: إبراهيم - عليه السلام - كسَّر أصنام قومه غضباً لله تعالى , قلنا: فمحمد - صلى الله عليه وسلم - نكَّس (3) ثلاثمائة وستين صنماً كانت منصوبة حول الكعبة بإشارته إليها من غير أن يمسَّها بيده فتساقطت , وجعل يطعن بسية (4) قوسٍ كانت معه في عين الصنم منها ويقول: «{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: من الآية 81] , {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: من الآية 49]» (5) , وأبلغ من هذا في الطرفين أن إبراهيم

_________

(1) في ب "نمرود" بالدال المهملة.

(2) القول أن الآيات في سورة يس (77 - 80) قد نزلت في أبي بن خلف هو قول: مجاهد , وعكرمة , وعروة بن الزبير , والسدي , وقتادة. تفسير ابن كثير (6/ 593).

(3) في ب "يكسر" وعليها تضبيب.

(4) في ب "بسئة" , وما أثبته من أ -بتخفيف الياء- هو الوارد في صحيح مسلم , قال النووي: "السية بكسر السين وتخفيف الياء المفتوحة: المنعطف من طرفي القوس". المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (12/ 128 - 129).

(5) أخرجه البخاري (6/ 86) , كتاب تفسير القرآن , باب (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) , ح 4720 , من طريق عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - , بلفظ: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة , وحول البيت ستون وثلاث مائة نُصُب , فجعل يطعنها بعود في يده , ويقول: «{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: من الآية 81] , {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: من الآية 49]»؛ وأخرجه مسلم (3/ 1408) , بنحوه في كتاب الجهاد والسير , باب إزالة الأصنام من حول الكعبة , ح 1781.

(1/342)

عليه الصلاة والسلام فعل ذلك مستخفياً من قومه وأحال به على كبيرهم وإن كان ذلك إلزاماً للحجة على قومه إذا لم ينطقوا حتى عدّد ذلك من كذباته , فنبينا - صلى الله عليه وسلم - دخل هو وعلي - رضي الله عنه - الكعبة فصعد - صلى الله عليه وسلم - على منكب عليٍّ - رضي الله عنه - فلم يقدر عليٌّ على حمله , فأصعد عليّاً على منكبه فقلع الصنم الذي كان من صُفرٍ على الكعبة فقذفه فوقع فتكسر كما تتكسَّر القوارير (1) [ق 8/و] , ولا ريب أنَّ هذا كان سراً من قريش والأول (2) جهراً يوم فتح مكة.

فإن قيل: إبراهيم - عليه السلام - لمَّا أُلقي في نار نمروذ (3) خمدت وطفئت , قلنا: أبلغ من ذلك نار جهنم إذا مرَّ عليها المؤمن من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - قالت: جُزْ يامؤمن فقد أطفأ نورك لهبي (4).

وليلة مولد نبينا - صلى الله عليه وسلم - خمدت نيران فارس التي كانت تُعبَد ولم تخمد قبل ذلك بألف

_________

(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/ 443 - 444) ح 644 , من طريق علي - رضي الله عنه - , بلفظ: "انطلقت أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتينا الكعبة , فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجلس» وصعد على منكبي , فذهبت لأنهض به , فرأى مني ضعفاً فنزل , وجلس لي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - , وقال: «اصعد على منكبي» , قال: فصعدت على منكبيه , قال: فنهض بي , قال: فإنه يخيل إلي أني لو شئت لنلت أفق السماء , حتى صعدت على البيت , وعليه تمثال صُفر أو نحاس , فجلت أُزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه , حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقذف به» , فقذفت به , فتكسر كما تتكسر القوارير , ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستبق , حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس"؛ وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 21) ح 9836؛ قال الشيخ أحمد شاكر: "إسناده صحيح". المسند للإمام أحمد (1/ 443) , شرح: أحمد شاكر , الطبعة الأولى 1416 , دار الحديث , القاهرة.

(2) في ب "والأول" عليها تضبيب.

(3) في ب "نمرود" بالدال المهملة.

(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 340) ح 277 , وقال فيه: "تفرد به سليم بن منصور وهو منكر"؛ والهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 652) ح 18446 , وقال فيه: "رواه الطبراني وفيه سليم بن منصور بن عمار وهو ضعيف"؛ وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (6/ 394) , تحقيق: يحيى غزاوي , 1409 , دار الفكر , بيروت؛ وقال الألباني: "ضعيف". انظر: ضعيف الجامع الصغير وزيادته , ص 623.

(1/343)

عام (1) فإبراهيم - عليه السلام - طفئت عنه نار نمروذ (2) بقول الله تعالى لها: { ... كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: من الآية 69] وقرب (3) إبراهيم منها , ونيران فارس خمدت على مسافة أشهر من محمد - صلى الله عليه وسلم - حين ولد , وفي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مَن أُلقي في النَّار فلم توثِّر فيه ببركته: منهم أبو مسلم الخَولاني لمَّا دعاه الأسود العَنْسي المتنبِّئ إلى تصديقه فقال: ما أسمع -مراراً- , فأجَّج له ناراً وطرح فيها أبا مسلم , فلم تضرُّه , فلمَّا قدم المدينة رآه عمر - رضي الله عنه - فقبَّل بين عينيه , ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - , وقال: الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الرحمن (4) - عليه السلام -.

وأما إلقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في المنجنيق ورميهم به فإن في أصحاب

_________

(1) ذكره البيهقي في الدلائل (1/ 126 - 127) من طريق مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه , بفلظ: "لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ارتجس إيوان كسرى , وسقط منه أربع عشرة شرفة , وخمدت نيران فارس , ولم تتخمد قبل ذلك بألف عام ... "؛ وأبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 138) , تحقيق: محمد رواس قلعه جي وعبدالبر عباس , الطبعة الثانية 1406 , دار النفائس , بيروت؛ والسيوطي في الخصائص الكبرى ص 88 - 89 , 1405 , دار الكتب العلمية , بيروت , بلفظ: "خمدت نار فارس , ولم تخمد قبل ذلك ... "؛ وقال: "قال ابن عساكر: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مخزوم عن أبيه تفرد به أبو أيوب البجلي هكذا قال في ترجمة سطيح في تاريخه , وقال في ترجمة عبد المسيح بعد أن أخرجه من هذا الطريق ورواه معروف بن خربوذ عن بشر بن تيم المكي قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه , قلت: ومن هذا الطريق أخرجه عبدان في كتاب الصحابة وقال ابن حجر في الاصابة أنه مرسل". الخصائص الكبرى ص 89؛ وقال د. عبدالمعطي قلعجي محقق كتاب الدلائل للبيهقي: "وهذا حديث ليس بصحيح , وذكره في كل هذه الكتب على سبيل التسهيل لتمحيصه لا لصدقه". دلائل النبوة (1/ 129).

(2) في ب "نمرود" بالدال المهملة.

(3) في نسخة بهامش أ , نسخة بهامش ب " بقرب".

(4) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/ 128 - 129) , وابن عبدالبر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1758) , تحقيق: علي البجاوي , الطبعة الأولى 1412 , دار الجيل , بيروت؛ كما نقله ابن حبان في صحيحه (2/ 338) , من طريق أبي حاتم؛ قال ابن كثير: "هذا وإن كان فيه انقطاع مشهور". مسند أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأقواله على أبواب العلم (2/ 692) , لابن كثير , تحقيق: عبدالمعطي قلعجي , الطبعة الأولى 1411 , دار الوفاء , المنصورة.

(1/344)

محمد - صلى الله عليه وسلم - ماهو شبيه بذلك , وهو أنَّ البراء بن مالك - رضي الله عنه - لمَّا كانت وقعة مسيلمة وتحصَّنوا وأغلقوا باب الحصن , قال البراء لأصحابه: ضعوني على تُرسٍ واحملوني على رؤوس الرِّماح ثم ألقوني من أعلاها إلى داخل الحصن ففعلوا فوقع وقام فقاتل المشركين وقتل عشرةً أو أكثر وفتح الباب للمسلمين وكان سبب الفتح وقَتْل عدوِّ الله مسيلمة (1)؛ ونظير ذلك ما فعَل طُلَيحة بن خويلد لما خرج في أصحابه لغزو الروم في البحر فلقيهم العدو في سفينة فقال طُلَيحة لأصحابه: اقذفوني في سفينتهم , ففعلوا فغشيهم بسيفه حتى تطايروا (2) فرقاً منه فغرق من غرق واستسلم [ق 8/ظ] من استسلم فبلغ ذلك عمر - رضي الله عنه - فأعجبه (3) وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أُلقي في المنجنيق مُكرهاً , وهذان بذلا أنفسهما وطلبا ذلك واختاراه ففعلاه وهي فضيلة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إذ (4) كان في أمته مثل ذلك.

وأما كرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإقراؤه للضيف وأنه كان يخرج المسافة يبتغي من يأكل معه حتى قيل له: أبو الضِيفان , فقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالمنزلة التي لاتجهل فإنه كان يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة فيهب المائة من الإبل , وأعطى رجلاً غنماً بين جبلين , وما سأله أحد شيئاً فقال: لا (5) , ولقد أتاه مرةً ضيف فأرسل إلى

_________

(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/ 44) , كتاب السير , باب من تبرع بالتعرض للقتل رجاء إحدى الحسنين , ح 18379 , الطبعة الأولى 1344 , مجلس دائرة المعارف النظامية , حيدر آباد , من طريق السري بن يحيى عن محمد بن سيرين , بفلظ: "أن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أُغلق بابه , فيه رجال من المشركين , فجلس البراء بن مالك - رضي الله عنه - على ترس , فقال: ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم , فرفعوه برماحهم , فألقوه من وراء الحائط , فأدركوه قد قتل منهم عشرة"؛ وابن كثير بنحوه في البداية والنهاية (6/ 300) , وابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة (1/ 279 - 280) , تحقيق: علي البجاوي , الطبعة الأولى 1412 , دار الجيل , بيروت؛ وابن حبان في الثقات (2/ 174 - 175).

(2) في ب "تطايرا".

(3) أخرجه ابن قدامة بنحوه في كتابه التوابين ص 134 , تحقيق: عبدالقادر الأرناؤوط , 1403 , دار الكتب العلمية , بيروت.

(4) في ب "إذا".

(5) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (4/ 1806) , باب ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال لا وكثرة عطائه , ح 2312 , من طريق موسى بن أنس عن أبيه , بفلظ: "ما سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام شيئاً إلا أعطاه , قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين , فرجع إلى قومه , فقال: يا قوم أسلموا , فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة".

(1/345)

أزواجه واحدةً بعد واحدةٍ فيَقُلْن: والذي بعثك بالحق ماعندنا إلا ماء (1)؛ وذلك أنه كان لا يدَّخر شيئاً حتى يجوع ويربط على بطنه الحجر , وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان صاحب مال وماشية يُطعِم ويُضيف من جملة ماله ولم نسمع أنه أعطى كلَّ ماعنده , ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما يكن عندي من خير فلن ادّخره عنكم» (2) وقال: «لو أنَّ لي مثلَ هذه العِضاهِ نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً» (3) وجوده وكرمه من أشهر (4) صفاته الحميدة صلوات الله عليه وسلامه.

وأما فضيلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في صبره على ما ابتُلي به مِن ذبح ولده حتى أكرمه الله تعالى بالفِداء وهذه رُتبة عظيمة , قلنا: ليس هذا بأعظم من فضيلة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذ جاد بنفسه في جهاد أعداء الله تعالى فإنه صبَّر نفسه وغرَّر (5) بها في طاعة ربه تعالى حتى إنه يوم حنين لما تولى عنه أصحابه وبقي وحده ما يألو ما صادم العدو بنفسه

_________

(1) أخرجه البخاري (5/ 34) , كتاب مناقب الأنصار , باب قول الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: من الآية 9] , ح 3798 , من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - , بلفظ: "أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - , فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء ... "؛ وأخرجه مسلم في كتاب الأشربة , باب إكرام الضيف وفضل إيثاره , بلفظ: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال: إني مجهود , فأرسل إلى بعض نسائه , فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء , ثم أرسل إلى أخرى , فقالت مثل ذلك , حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا , والذي بعثك بالحق , ما عندي إلا ماء ... ".

(2) أخرجه البخاري (2/ 122) , كتاب الزكاة , باب الاستعفاف عن المسألة , ح 1469 , من طريق أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - , وفي كتاب الرقاق (8/ 99) , باب الصبر عن محارم الله , ح 6470؛ وأخرجه مسلم (2/ 729) , كتاب الزكاة , باب في فضل التعفف والصبر , ح 1053.

(3) أخرجه البخاري (4/ 22) , كتاب الجهاد والسير , باب الشجاعة في الحرب والجبن , ح 2821 , بلفظ: «أعطوني ردائي , لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم , ثم لا تجدوني بخيلاً , ولا كذوباً , ولا جباناً» , وفي كتاب فرض الخمس (4/ 94) , باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه , ح 3148.

(4) في ب "أشرف".

(5) في ب "عزَّر" , وفي هامشه "أي أدَّب نفسه بامتثال الطاعة".

(1/346)

وأخذ كفًّا من تراب فرمى به في وجوه القوم فهزمهم الله تعالى (1) , وجوده - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وصبره في (مثل) (2) هذا المقام الذي لم يبق معه ناصر ولا معاضد والعدو حريص على قتله أعظم من صبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذبح ابنه.

وأما قول الله تعالى في إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: من الآية 124] ففي الحديث أن نبينا - صلى الله عليه وسلم -[ق 9/و] قال: «أنا إمامهم إذا بُعثوا وخطيبهم إذا ورَدُوا ... » الحديث (3) , وقد صلى بإبراهيم وغيره من الأنبياء ليلة الإسراء وشريعته داخلة في شريعة محمد صلى الله عليهما وسلم وشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أتم وأكمل (4) من شريعة إبراهيم صلى

_________

(1) أخرجه مسلم (3/ 1398) , كتاب الجهاد , باب في غزوة حنين , ح 1775 , من طريق العباس بن عبدالمطلب , بلفظ: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين , فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم نفارقه , ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي , فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين , فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض بغلته قِبل الكفار , قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكُفُّها إرادة أن لا تُسرع , وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أي عباس , ناد أصحاب السَّمُرة» , فقال عباس: وكان رجلاً صيِّتاً , فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرة , قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها , فقالوا: يا لبيك , يا لبيك , قال: فاقتتلوا والكفار , والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار , يا معشر الأنصار , قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج , فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج , يا بني الحارث بن الخزرج , فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هذا حين حمي الوطيس» قال: ثم أخذ رسول - صلى الله عليه وسلم - حصيات فرمى بهنَّ وجوه الكفار , ثم قال: «انهزموا ورب محمد» قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى , قال: فوالله ماهو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً , وأمرهم مدبراً".

(2) "مثل" ليس في ب.

(3) أخرجه الترمذي (5/ 585) , في المناقب , باب في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - , ح 3610 , من طريق أنس - رضي الله عنه - , بلفظ: «أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا , وأنا خطيبهم إذا وفدوا , وأنا مبشرهم إذا أيسوا , لواء الحمد يومئذ بيدي , وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» , وقال: "هذا حديث حسن غريب"؛ وقال الألباني: "ضعيف". الجامع الصغير وزيادته (1/ 234) ح 3234؛ وأخرجه الدارمي (1/ 196) , كتاب دلائل النبوة , باب ما أعطي النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفضل , ح 49 , بلفظ: «أنا أولهم خروجاً , وأنا قائدهم إذا وفدوا , وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ... » الحديث؛ وأخرجه البغوي في شرح السنة (13/ 203) , كتاب الفضائل , باب فضائل سيد الأولين والآخرين محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أجمعين وشمائله , ح 3624 , وقال: "هذا حديث غريب"؛ وأخرجه البيهقي في الدلائل (6/ 108) ح 2233.

(4) في ب "وأجمل".

(1/347)

الله عليه وسلم كما هو معروف؛ وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: من الآية 120] ومعنى الأمة أنه كان معلماً للخير وداعياً إليه , ولا ريب أنَّ علم نبينا - صلى الله عليه وسلم - وتعليمَه وما ظهر من الخير على يديه في زمانه وبعد موته بسببه أمر لا يكاد يرتاب فيه عاقل , فإنَّ علمَه وشريعته متداولة بين أمته إلى يوم القيامة , وسنَّة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من بعض ماهو من سنن محمد - صلى الله عليه وسلم - التي دعا إليها وأمر بالاستنان بها , وقنوت محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أعظم فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: من الآية 2] قام (1) فصلى حتى تفطرت قدماه فقيل له: قد غُفر لك من ذنبك ماتقدم وما تأخر , فقال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» (2) وصلّى حتى أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1 - 3] (3).

فإن قيل: إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بوَّأ الله تعالى له مكانَ البيت حتى عَمَره وأقام شعائر الله , قيل: ما فعله محمد - صلى الله عليه وسلم - في أمر البيت أعظم , فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جاء إلى أرض داثرة (4) فبنى فيها بيتاً وأقام فيه أموراً شرعها الله تعالى له , وليس في ذلك كبير (5) مشقة وإن كان فيه من الفضل والإحسان مافيه , فإن فعل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعظم خطراً

_________

(1) كذا في أونسخة بهامش ب , وفي ب "فقام" بزيادة فاء.

(2) أخرجه البخاري (6/ 135) , كتاب تفسير القرآن , باب {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] , ح 4836؛ وأخرجه مسلم (4/ 2171) , كتاب صفة القيامة والجنة والنار , باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة , ح 2819.

(3) أخرج ابن مردويه عن علي - رضي الله عنه - قال: "لما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزَّمل: 1 - 2] قام الليل كله حتى تورمت قدماه , فجعل يرفع رجلاً , ويضع رجلاً , فهبط عليه جبريل , فقال: {طه} [طه: 1] طأ الأرض بقدميك يا محمد {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] ... ". انظر: كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (2/ 543) , للمتقي الهندي , تحقيق: بكري حياني , الطبعة الخامسة 1401 , مؤسسة الرسالة.

(4) في هامش ب "الدثور: الدروس , أي مدروسة وخالية من العمران".

(5) في ب "كثير".

(1/348)

وأشدّ ابتلاء فإنَّه بُدِّلت تلك الشعائر (1) التي رسمها إبراهيم عليه الصلاة والسلام (بعده) (2) , وتناسخت الأحوال حتى صار ذلك البيت الذي بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام لإقامة شعائر الدين الحنيف بتبديل الجاهلية مَركزاً للشرك ومحلًّا للأوثان وصار يُعبَد فيه غير الله ويُدعى من سواه ويُقاتل على ذلك , فبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -[ق 9/ظ] فمحا تلك الآثار وكسر تلك الأصنام وأزال المنكرات وأعاد سنَّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كانت (3) قد دثرت , وعبد الله وحده وزال (4) الإشراك (5) وزاد على شريعة إبراهيم مما (6) شرعه الله تعالى له حتى كان عام حجَّة الوداع أنزل عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: من الآية 3] حتى قال بعض اليهود لعمر بن الخطاب: " (يا أمير المؤمنين) (7) آيةٌ في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشر يهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً , فقال عمر: أيّ آية , قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } الآية [المائدة: من الآية 3] , فقال عمر - رضي الله عنه -: إني لأعلم الموضع الذي نزلت فيه واليوم الذي نزلت فيه يوم جمعة عشية عرفة" (8)؛ ففرقٌ بين من بنى بيتاً وسنَّ سُنَّة من غير منازع إلى من جاء إلى أمَّة جاهلية جهلاء , قد اجتمعت على بيتٍ جعلته دينها وأقامت فيه الأصنام يعبدونها من دون الله وشرعوا أموراً زيَّنها لهم الشيطان فرأوها حسنة واتخذوها ديناً وقاتلوا على ذلك وتوارثوه خلفاً عن سلف ووجدوا عليه آبائهم فأمرَهم بترك ما قد نشأوا عليه من ذلك الدين ومفارقة ما قد

رسمه لهم أسلافهم

_________

(1) في ب "الشرائع".

(2) "بعده" ليس في ب.

(3) في أ "كان" بدون التاء , وهو خطأ.

(4) في ب "وأزال".

(5) في نسخة بهامش ب "الشرك".

(6) كذا في أونسخة بهامش ب. وفي ب "فيما".

(7) "يا أمير المؤمنين" ليس في ب.

(8) أخرجه بنحوه البخاري (1/ 18) , في كتاب الإيمان , باب زيادة الإيمان ونقصانه , ح 45؛ وأخرجه مسلم , بنحوه في كتاب التفسير , ح 3017.

(1/349)

ونبتت عليه (1) لحومهم ودماؤهم فصرفهم عنه طوعاً وكرهاً وردَّهم عنه إلى دين لم يعرفوه هم ولا آباؤهم بما أوضحه لهم من الحق حتى أطاعوه وقال أحبَّ إليهم من آبائهم وأولادهم وإخوانهم وعشيرتهم حتى ضَرَبَ الدينُ بحرانه واستقر على أركانه.

وأما كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الأطفال (2) المؤمنين الذين يُتوفون وهم صغار فليس ذلك بأعظم من كفالة الأطفالِ في الدنيا , فإن في الدنيا يحتاجون إلى ما يمونهم من مأكول ومشروب وغير ذلك , بخلاف من هو في الآخرة في كفالة الله تعالى لا يحتاج إلى أكل وشرب وكسوة ومؤنة , فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الشفيق كما قال فيه عمه أبو طالب:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل (3)

فكفالة الأحياء (بلا ريب أعظم من كفالة الأموات) (4).

فإن قيل: إن الله تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم وبارك باتباع [ق 10/و] ملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - , قلنا: ذلك إحدى حسناته - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد اتبع ملة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فحاز آخرها وزاد عليها ما أمر اللهُ به فكان له الفضل أولاً وأخيراً.

فإن قيل: إن الله تعالى سمَّى إبراهيم حليماً ومنيباً وأوَّاهاً , قيل: هذه كلّها من بعض خصال محمد - صلى الله عليه وسلم - وله من الخصال الحميدة أضعافُ أضعاف هذه كما هو مبسوط في كتب مناقبه , فكان في الحلم آيةً [كما] (5) قال أنس - رضي الله عنه -: "خدَمتُه عشر سنين (6)

_________

(1) في أ "عليهم" بزيادة الميم.

(2) في ب "أطفال".

(3) تقدم التعليق عليه , انظر: ص 335 - 336.

(4) مابين القوسين ليس في ب.

(5) "كما" زيادة من ب.

(6) وردت رواية في مسلم (4/ 1805) , كتاب الفضائل , باب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً , ح 2309: "تسع سنين" , قال النووي في شرحه (15/ 71): "وأما قوله: تسع سنين , وفي أكثر الروايات: عشر سنين , فمعناه أنها تسع سنين وأشهر , فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بالمدينة عشر سنين تحديداً لا تزيد ولا تنقص , وخدمه أنس في أثناء السنة الأولى , ففي رواية (التسع) لم يحسب الكسر , بل اعتبر السنين الكوامل , وفي رواية (العشر) حسبها سنة كاملة , وكلاهما صحيح".

(1/350)

وليس كلّ شأني كما يَرضى صاحبي , فما قال لي يوماً قط لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا , ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لم تصنع هذا هكذا" (1) وكان - صلى الله عليه وسلم - من الإنابة إلى ربِّه سبحانه بالموضع الذي لايخفى فإنه كان من دعائه: «اللهم بك أُقاتِل وبك أصول وبك أحول» (2) إلى غير ذلك من الإنابة في جِلِّ الأمور ودِقِّها وكان من تأوهه وخوفه من ربه أنه يقول: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم (3) قليلاً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى ربكم» (4) إلى غير ذلك من أخباره عن حلمه وإنابته وتأوّهه.

فإن قيل: إن إبراهيم - عليه السلام - أوحي إليه: "يا إبراهيم إنك لمَّا سَلَّمت مالك إلى الضِيفان , وابنك إلى القربان , ونفسك إلى النيران , وقلبك إلى الرحمن , اتخذناك

خليلاً" (5) , قلنا: إن ذلك لفضل عظيم , وخير عميم , وفخر مقيم , وكل ذلك من

_________

(1) أخرجه البخاري (9/ 12) , كتاب الديات , باب من استعان عبداً أو صبياً , ح 6911 , بلفظ: "فخدمته في الحضر والسفر , فوالله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا , ولا لشيء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا"؛ وأخرجه مسلم , بنحو لفظ البخاري في كتاب الفضائل , باب كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً , ح 2309.

(2) أخرجه الترمذي (5/ 572) , أبواب الدعوات , باب في فضل لا حول ولا قوة إلا بالله , ح 3584 , بلفظ: «اللهم أنت عضدي , وأنت نصيري , وبك أقاتل» , وقال: "هذا حديث حسن غريب"؛ وأخرجه أبو داود (3/ 42) , بنحوه في كتاب الجهاد , باب ما يدعى عند اللقاء , ح 2632 , تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد , المكتبة العصرية , بيروت؛ وقال الألباني في صحيح أبي داود (7/ 382) , الطبعة الأولى 1423 , مؤسسة غراس , الكويت: "إسناده صحيح على شرط الشيخين , وصححه ابن حبان , وأبو عوانة , وحسنة الترمذي".

(3) في ب "وضحكتم" بدون اللام.

(4) أخرجه الترمذي (4/ 556) , بنحوه في أبواب الزهد , باب في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً , ح 2312 , وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"؛ وأخرجه ابن ماجه (2/ 1402) , بنحوه في كتاب الزهد , باب الحزن والبكاء , ح 4190.

(5) لم أقف على هذا الحديث القدسي مروياً في كتب السنة , وإنما قول من الأقوال في تأويل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]. انظر: مفاتيح الغيب (11/ 47) , للفخر الرازي , الطبعة الأولى 1421 , دار الكتب العلمية , بيروت؛ لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 604) , للخازن , 1399 , دار الفكر , بيروت؛ وقد وجدته مروياً في كتب الشيعة عن أبي الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان. انظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (3/ 433) , للمحبي , 1284 , المطبعة الوهيبة.

(1/351)

بعض ما أُعطي نبينا - صلى الله عليه وسلم - وزاد عليه كما أشرنا إليه وكما يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أُعطي الصّحف وكانت عشر صحائف , قلنا: إن ما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - من السبع المثاني والقرآن العظيم أعظم من ذلك بكثير فإن صحف إبراهيم - عليه السلام - كانت كلها مواعظ وأمثالاً كقوله فيها: "أيها الملِك المبتلى المُسَلّط المغرور إنِّي لم أبعثك لجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لتَرُدَّ عنِّي دعوة المظلوم فإنِّي [ق 10/ظ] لا أردها وإن كانت من كافر" (1) وأمثال ذلك من الحِكَم (2) , وكان ما أوتيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من القرآن فيه نبأ مَن مضى ونبأ مَن يأتي إلى يوم القيامة ومابين ذلك من الحِكَم والأحكام والمواعظ والزواجر والأمر والنهي والتحليل والتحريم إلى غير ذلك مما يطول ذكره ويشق حصره , فمحمد - صلى الله عليه وسلم - سيّد الرُّسل عليهم الصلاة والسلام وكتابه سيّد الكتب وأمَّته خَيْر الأمم صلوات الله عليه وسلامه.

وأما قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37]: أي وفَّى بما ابتلاه به من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: من الآية 124] اختلف العلماء في الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "هي ثلاثون سهماً , وهي شرائع الإسلام لم يُبْتلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلا إبراهيم - عليه السلام - أتمهنَّ فكُتِب له البراءة فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] وهي عشر في سورة براءة (3): {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ... } إلى

_________

(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (2/ 76) , بنحوه في كتاب البر والإحسان , باب الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ح 361 , من حديث أبي ذر الطويل , تحقيق: شعيب الأرنؤوط , الطبعة الثانية 1414 , مؤسسة الرسالة , بيروت , وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: "إسناده ضعيف جداً ... " , وأخرجه كثير (2/ 472)؛ وقال الألباني: "ضعيف جداً". ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 82) ح 1352 , للإمام الألباني , 1421 , مكتبة المعارف.

(2) في ب "الحلم".

(3) في ب "البراءة".

(1/352)

آخرها (1) [التوبة: 112] وعشر في الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... } إلى آخرها [الأحزاب: 35] وعشر في المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... } [المؤمنون: 1] وقوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ ... } [المعارج: 22] في سأل سائل" , وروى طاوس عن ابن عباس أيضاً قال: "ابتلاه الله تعالى بعشرة أشياء هي من الفطرة والطهارة , خمس في الرأس وخمس في الجسد فالتي في الرأس قصُّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرّأس (2) , والتي في الجسد تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء" , وقال مجاهد: "هي الآيات التي بعدها في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... } [البقرة: من الآية 124] إلى آخر القصة" , وقال الربيع وقتادة: مناسك الحج , وقال الحسن: سبعة أشياء ابتلاه [الله] (3) بالكوكب والقمر والشمس وأحسن النظر في ذلك وعلم أن ربَّه دائم لايزول [أبداً] (4) وابتلاه بالنَّار فصبر على ذلك وابتلاه بالهجرة فصبر على ذلك وابتلاه بذبح ابنه فصَبر [على ذلك] (5) وبالختان فصبر على ذلك؛ وقال أبو رَوْقٍ (6): هي قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) ... } [الشعراء: 78]

إلى آخر الآيات؛ وقال بعضهم: هي [ق 11/و] أن الله تعالى ابتلاه في ماله وولده ونفسه وقلبه , فسَلَّم مالَه للضيفان , وولدَه إلى القربان , ونفسه إلى النيران , وقلبه إلى الرحمن , فاتخذه خليلاً؛ وقيل هي: سهام الإسلام وهي عشرة: شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة , والصلاة وهي الفطرة , والزكاة وهي الطُهْرة , والصوم وهو الجُنّة , والحج وهو

_________

(1) في ب "آخره".

(2) فرق الرأس: أي فرق شعر الرأس , وهو قسمته في المفرق وهو وسط الرأس , والمفرق مكان انقسام الشعر من الجبين إلى دائرة الرأس؛ قال النووي في حكمه: "اختلف السلف فيه ... والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق , وأن الفرق أفضل". انظر: عمدة القاري (22/ 86) , شرح النووي على مسلم (15/ 90).

(3) لفظ "الله" زيادة من ب.

(4) "أبداً" زيادة من ب.

(5) "على ذلك" زيادة من ب.

(6) أبو روق -بفتح الراء وسكون الواء بعدها-: هو عطية بن الحارث الهمداني الكوفي , صاحب التفسير. انظر: تقريب التهذيب ص 393.

(1/353)

الشريعة , والغَزْو وهو النصرة , والطاعة وهي العصمة , والجماعة وهي الأُلفة , والأمر بالمعروف وهو الوفاء , والنهي عن المنكر وهو الحجة , فأتمهن , وقام بهن , ووفَّى بهن , فقال الله تعالى له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: من الآية 124] (1).

الكلام على تفضيل هذه الأشياء وأنَّ ما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - منها مثلُها أو ما يوازيها على أتم مما أوتيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأكمل وأفضل

فأما العشر التي في سورة براءة فقوله: {التَّائِبُونَ} [التوبة: من الآية 112] فقد أوتيها محمد - صلى الله عليه وسلم - بل وكثير من أمَّته , فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «استغفروا الله وتوبوا إليه فإنِّي أتوب إلى الله في اليوم مائة مرّة» (2) , وفي أمّته من يفعل ذلك وقريباً منه كثير , وقوله: {الْعَابِدُونَ} [التوبة: من الآية 112] فبعبادته تضرب الأمثال وحالُهُ فيها لاتطاق , فقد كان يقوم حتى تتفطر قدماه (3) , ويصوم حتى يُقال لا يفطر , وكنت لاتشاء أن تراه من الليل قائماً إلا رأيته (4) , وكان يقوم من الليل ما شاء الله ثم ينام ثم يقوم ثم ينام ثم

يقوم (5) وهذه حالةٌ لا يتمكن منها أحد غيره في الليلة الواحدة , وكثير من أمَّته كان يُحيي

_________

(1) انظر الأقوال في تأويل الآية: الكشف والبيان (1/ 268 - 269) , للثعلبي.

(2) أخرجه مسلم , كتاب العلم , باب استحاب الاستغفار والاستكثار منه , بلفظ: «يا أيها الناس توبوا إلى الله , فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة» , ح 2703.

(3) تقدم تخريجه , انظر: ص 348.

(4) أخرج البخاري في صحيحه (2/ 52) , كتاب التهجد , باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل من نومه وما نُسخ من قيام الليل , ح 1141 , عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه , ويصوم حتى نظن أن لا يُفطر منه شيئاً , وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليّاً إلا رأيته , ولا نائماً إلا رأيته".

(5) قال الإمام ابن عبدالبر معلقاً على قول عائشة رضي الله عنها: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة: «إن عيني تنامان ولا ينام قلبي» " , قال ابن عبدالبر: "وأما قولها في هذا الحديث أتنام قبل أن توتر فإنه لا يوجد إلا في هذا الإسناد ففيه تقديم وتأخير لأنه في هذا الحديث بعد ذكر الوتر , ومعناه أنه كان ينام قبل أن يصلي الثلاث التي ذكرت , وهذا يدل على أنه كان يقوم ثم ينام ثم يقوم فينام ثم يقوم فيوتر , ولهذا ما جاء في هذا الحديث أربعاً ثم أربعاً ثم ثلاثاً أظن ذلك والله أعلم من أجل أنه كان ينام بينهن فقالت أربعاً ثم أربعاً يعني بعد نوم ثم ثلاث بعد نوم ولهذا ما قالت له أتنام قبل أن توتر". التمهيد (21/ 72).

(1/354)

الليل ويصوم النهار , وأراد بعض أصحابه أنْ يتبتَّل (1) فنهاهم عن ذلك (2) , وعزموا على الوصال في رمضان كما كان يُواصِل فنهاهم خوفاً عليهم أن يُفرَض عليهم فيعجز منهم من يعجز منهم عنه (3) , وكان كثيراً ما يعمل العمل والأشياء من النوافل وقتاً دون وقتٍ خوفاً أن يتبعه أصحابُه فيُفرَض عليهم , وخلائق من لايُحصى من أمَّته كان يصلِّي الصبح بوضوء العشاء ويَسرُد الصَّومَ في ضمن ما يعملون من الجهاد وغيره مما يطول شرحه وهو واضح ظاهر , وقوله: {الْحَامِدُونَ} [التوبة: من الآية 112] فقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم النَّاس [ق 11/ظ] حمداً لربِّه سبحانه , وأنزل الله فاتحة الكتاب المفتتحة

بالحمد لله التي لم تُنزل على أحد من الأنبياء قبله المتضمّنةِ لحقوق الله تعالى ومطالب العبد كما في الحديث «قسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل , يقول العبد: الحمد لله رب العالمين , يقول الله: حمدني عبدي ... » (الحديث) (4) (5) , فجعل الله

_________

(1) التبتل: الانقطاع عن النساء وترك النكاح. النهاية في غريب الأثر (1/ 228).

(2) أخرج مسلم في صحيحه (2/ 1020) , كتاب النكاح , باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم , ح 1401 , عن أنس - رضي الله عنه -: "أن نفراً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء , وقال بعضهم: لا آكل اللحم , وقال بعضهم: لا أنام على فراش , فحمد الله وأثنى عليه , فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكنى أصلي وأنام , وأصوم وأفطر , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فليس مني».

(3) أخرج البخاري في صحيحه (3/ 29) , كتاب الصوم , باب بركة السحور من غير إيجاب , ح 1922: عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل , فواصل الناس , فشق عليهم فناهم , قالوا: إنك تواصل , قال: «لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأسقى»؛ وأخرجه مسلم (2/ 774) , بنحوه في كتاب الصيام , باب النهي عن الوصال في الصوم , ح 1102.

(4) لفظ "الحديث" ليس في ب.

(5) أخرجه مسلم (1/ 296) , كتاب الصلاة , باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يُحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها , ح 395 , من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - , بلفظ: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين , ولعبدي ما سأل , فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قال الله تعالى: حمدني عبدي ... » الحديث؛ وأخرجه النسائي في السنن الصغرى (2/ 135) , كتاب الافتتاح , باب ترك قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] في فاتحة الكتاب , ح 909 , تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة , الطبعة الثانية 1406 , مكتبة المطبوعات الإسلامية , حلب , بلفظ: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين , فنصفها لي ونصفها لعبدي , ولعبدي ما سأل» قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقراءوا يقول العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] , يقول الله - عز وجل -: حمدني عبدي ... » الحديث؛ وأخرجه أبو داود (1/ 261) , بلفظ النسائي في كتاب الصلاة , باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب , ح 861؛ وأخرجه الترمذي (5/ 201) , بنحوه في أبواب تفسير القرآن , باب: ومن سورة فاتحة الكتاب , ح 2953؛ وأخرجه ابن ماجه , بنحوه في كتاب الأدب , باب ثواب القرآن , ح 3784.

(1/355)

هذه السورة مُكرَّرة في صلاته في كل ركعة من الصلوات الخمس فجعل صلاته كلّها حمداً لله تعالى , هذا غير ما يحمده في غيرها ضمن التسبيح والتحميد والتكبير الذي كان يفعله عقيب الصلوات وعند المنام وعند القيام وعند الطعام وعند غالب أحواله ولأمَّته من ذلك النصيب الوافر , ولهذا أنزل في التوراة على موسى في صفتهم أنهم "الحمَّادون رُعاة الشمس" (1) يعني المحافظين على الصلوات في أوقاتها بمراعاة (2) زوال

الشمس وتحلّقها (3) وغروبها وغير ذلك , فمحمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته الحمَّادون الله (4) على كل حال وفي كل نعمة , وفي التوراة أنهم الحمادون على كل نجد (5) (6)؛ وقوله:

_________

(1) روى البغوي بسنده في تفسيره -معالم التنزيل- (3/ 279) , تحقيق: محمد النمر وعثمان ضميرية وسليمان الحرش , الطبعة الرابعة 1417 , دار طيبة , عن كعب الأحبار "أن موسى نظر في التوراة فقال: إني أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال، رب اجعلهم أمتي، قال: هي أمة محمد يا موسى، فقال: ربي إني أجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي، قال: هي أمة محمد ... "؛ وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/ 385).

(2) كذا في أونسخة بهامش ب. وفي ب "لمُرعاة".

(3) في هامش ب "التحلُّق: استواء الشمس في الفلك".

(4) في نسخة بهامش ب "لله" بالجر.

(5) النجد: ما ارتفع من الأرض. النهاية (5/ 47).

(6) روى البغوي بسنده في تفسيره (3/ 289) , عن كعب - رضي الله عنه - قال: "إني أجد في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل نجد ... ".

(1/356)

{السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] يعني «الصّائمين» (1) رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) , وقال سعيد بن جُبَيْر: هم الصائمون ألم تر أنّ الله تعالى إذاً ماذكر الصائمين (3) , وقال الحسن: {السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] الصائمون عن الحلال الممسكون عن الحرام , وقال عطاء: {السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] الغُزَاةُ والمجتهدون , وقال عُمَر بن نافع: سمعت عكرمة وسئل عن قول الله تعالى: {السَّائِحُونَ} [التوبة: من الآية 112] فقال: هم طلبة العلم (4) , وقد أوتي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته من هذا النصيب الأوفى فقد ذكرنا أنه كان يصوم حتى يُقال لايُفطر , وقال بعض أصحابه وأراد التّبتل للعبادة: أما أنا فأصوم لا أُفْطر وهو عبدالله بن عمرو بن العاص وفعل ذلك مدَّة حتى نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك شفقةً عليه (5) , وأمّا كون السياحة الجهاد فقد باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهاد بنفْسه وكُسرت رباعيته ودُمِي وهُشمت البيضة على رأسه وكان يَحْمل على الكَتيبَةِ ويقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب» (6) فيُوَلّي الكفارُ الأدبارَ , وقد جاهد في الله تعالى حق جهاده , وفي الصحيح أنَّ البراء قال: كنا والله

_________

(1) في ب "الصائمون".

(2) روي مرفوعاً وموقوفاً , والموقوف أصح. انظر: تفسير ابن كثير (4/ 220).

(3) قال سعيد بن جبير: "هم الصائمون ألم تر أن الله - عز وجل - إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين , وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين". تفسير الثعلبي (5/ 98).

(4) انظر الأقوال في تأويل الآية: تفسير الثعلبي (5/ 98).

(5) أخرج البخاري في صحيحه (8/ 31) , كتاب الأدب , باب حق الضيف , ح 6134 , عن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار» قلت: بلى , قال: «فلا تفعل , قم ونم , وصم وأفطر , فإن لجسدك عليك حقاً , وإن لعينك عليك حقاً , وإن لزورك عليك حقاً , وإن لزوجك عليك حقاً ... » الحديث.

(6) أخرجه البخاري (4/ 30) , كتاب الجهاد والسير , باب من قاد دابة غيره في الحرب , ح 2864؛ وأخرجه مسلم (3/ 1401) , كتاب الجهاد والسير , باب في غزوة حنين , ح 1776.

(1/357)

إذا احمرَّ البأس نتَّقي به وإن الشجاع منَّا للذي يُحاذي به يعني [ق 12/و] النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) , وكان من أُمَّته من إذا لقي العدو كسَر جَفْن سيفه (2) (3) وحمل عليهم (4) , ومنهم من كان في يده تمرات فلمَّا التقى الجمعان قال: لئن عشتُ حتى آكل تمراتي هذه إنَّها لحياة طويلة فألقى التمرات وقاتل حتّى قُتل (5) ومن هذا الجنس في أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - قديماً وحديثاً كثيرٌ معروف مشهور , وأمَّا كون السِّياحة طلب العلم فإنَّ محمَّداً - صلى الله عليه وسلم - كان في بَدْء أمره يتزوَّد ويخرج إلى جبل حراء يتوقع نزولَ الوحي وتعلُّم العلم من الملَك , ولم يُنقَل عن أحد من الأمم في كثرة طلب العلم ما في أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى إنَّ أحدهم يرحل مسيرة الشهر في طلب الحديث الواحد , ومنهم من يتغرَّب السنين في طلب العلم ويترك وطنه وأهله وولده , وقوله: {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ} [التوبة: من الآية 112]: يعني

_________

(1) أخرجه مسلم (3/ 1401) , كتاب الجهاد والسير , باب في غزوة حنين , ح 1776.

(2) جفن السيف: غمده. لسان العرب (13/ 89).

(3) في هامش ب "جفن السيف: غمده , أي يقع الكسر في آلات حربه من غاية شجاعته كقوله: بهن فلول من قراع الكتائب".

(4) أخرج مسلم في صحيحه (3/ 1511) , كتاب الإمارة , باب ثبوت الجنة للشهيد , ح 1902 , من طريق أبي بكر بن عبدالله بن قيس عن أبيه , قال سمعت أبي , وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف» , فقام رجل رث الهيئة , فقال: يا أبا موسى , آنت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا؟ قال: نعم , قال فرجع إلى أصحابه , فقال: أقرأ عليكم السلام , ثم كسر جفن سيفه فألقاه , ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قُتل".

(5) وهو عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام الأنصاري السلمي , قال ابن الأثير في ترجمته: "قتل ببدر وهو أول قتيل من الأنصار في الإسلام في حرب ... قال ابن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «لا يقاتل أحد في هذا اليوم فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا دخل الجنة» , وكان عمير واقفاً في الصف بيده تمرات يأكلهن فسمع ذلك فقال: بخ بخ ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء وألقى التمرات من يده وأخذ السيف فقاتل القوم وهو يقول:

ركضاً إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد

والصبر في الله على الجهاد ... إن التقى من أعظم السداد

وخير ما قاد إلى الرشاد ... وكل حي فإلى نفاد

ثم حمل فلم يزل يقاتل حتى قتل , قتله خالد بن الأعلم". أسد الغابة (4/ 278 - 279).

(1/358)

المصلين , وقد ذكرنا (1) أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صلَّى حتى تفطَّرت قدماه , وأمَّتُه الموصوفون في التوراة بأنهم رُعاة الشمس يُوضِّؤون أطرافهم ويسجدون على جباههم وأن الأرض كلها لهم مسجد وترابها طَهُور , فليس في الأمم أعظم صلاة منهم كما هو وصفهم في التوراة أنهم يصفّون في صلاتهم صفوف الملائكة وأصواتهم في مساجدهم كَدوي النحل (2) , وأن موسى - عليه السلام - قد كان أراد بني إسرائيل على أقلّ من خمس صلوات فلم يقدروا ولم يفعلوا كما في حديث الإسراء , وفي أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - مَن يُصلي الخمس ثم يصلي من النوافل أضعافها , فصلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمّته على أتمّ الوجوه وأكمل الأحوال؛ وقوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: من الآية 112] وكان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك النصيب الأوفى والحظ الأسنى كما أوحى الله تعالى إليه في شأن أهل الكتاب أنه - صلى الله عليه وسلم - {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: من الآية 157] فأخبر سبحانه وتعالى أنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل بهذه الصفات وكذلك صفة [ق 12/ظ] أمته في التوراة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (3) , وقوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: من الآية 112] قال ابن عباس رضي الله عنهما: القائمون على طاعة الله (4) , وهذا من خواص ما أوتي محمد - صلى الله عليه وسلم - أنّ دينه لا يزال قائماً حتى تقوم الساعة كما في الصحيح: «لا تزال

_________

(1) في ب "ذكر".

(2) أخرج الدارمي في سننه (1/ 158) , كتاب دلائل النبوة , باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتب قبل مبعثه , ح 7 , تحقيق: حسن سليم , الطبعة الأولى 1412 , دار المغني , عن كعب - رضي الله عنه - قال: "محمد رسول الله أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء يحمدون الله في كل منزله , ويكبرون على كل شرف , رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة , ويأتزرون على أوساطهم , ويوضؤن أطرافهم , وأصواتهم بالليل في جو السماء كصوت النحل".

(3) تقدم تخريجه , انظر: ص 356.

(4) تفسير الثعلبي (5/ 98).

(1/359)

طائفة من أمتي يدعون إلى الحقّ لايضرهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم حتى تقوم الساعة» (1) , وقال الحسن: الحافظون لحدود الله هم أهل الوفاء ببيعته (2) كما قال له بعض أصحابه حين ندبهم إلى الجهاد: والله لانقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون , بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون , واللهِ لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها , ولو أمرتنا أن نضرب أكبادَها إلى بَرك الغِماد لفعلنا (3). ولما نودي في أصحابه يوم هوازن حين ولّوا لما رَمَوهم بالنّبل نادى العباس: يا أصحاب السَمُرة يا أصحاب سورة البقرة فذكّرهم عقد البيعة التي بايعوا بها محمّداً - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة عَطَفوا عطفة (4) البقر على أولادها يقولون

: يالبيّك يالبيّك , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الآن حين حمي الوطيس» (5) وأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]؛ وأما تفصيل العشر التي في الأحزاب وأن محمّداً - صلى الله عليه وسلم - أوتيها على أكمل الأحوال وأتمّ الأفعال فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... } الآية

_________

(1) أخرج البخاري في صحيحه (4/ 207) , كتاب المناقب , ح 3641 , بلفظ: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله , لا يضرهم من خذلهم , ولا من خالفهم , حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك»؛ وأخرج مسلم في صحيحه (3/ 1524) , كتاب الإمارة , باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم» , ح 1037 , بلفظ: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله , لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم , حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس».

(2) تفسير الثعلبي (5/ 98 - 99).

(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/ 105) ح 12045 , من طريق أنس - رضي الله عنه - , بلفظ: "لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر خرج فاستشار الناس , فأشار عليه أبو بكر , ثم استشارهم , فأشار عليه عمر , فسكت , فقال رجل من الأنصار: إنما يريدكم , فقالوا: يا رسول الله , والله لا نكون كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههانا قاعدون , ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك".

قال ابن كثير: "وهذا إسناد ثلاثي صحيح على شرط الصحيح". البداية والنهاية (3/ 321).

(4) عطف عطفاً وعطوفاً: مال وانحنى. المعجم الوسيط (2/ 608).

(5) أخرجه مسلم (3/ 1398) , كتاب الجهاد والسير , باب في غزو حنين , ح 1775 , بلفظ: «هذا حين حمي الوطيس».

(1/360)

[الأحزاب: 35] فقد روي أن مقاتل بن حَيَّان قال: بلَغني أنّ أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما (1) فدخلت على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت (2): هل نزل فينا شئ من القرآن , قلن: لا , فأتَتْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خَيبةٍ وخسارٍ , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومِمَّ ذاك» , قالت: لأنهنّ لا يُذكَرْن [ق 13/و] بخير كما يُذكَر الرجال فأنزل الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] (3) ولا ريب أنّ هذه الأمور كانت من محمد - صلى الله عليه وسلم - على أكمل الأحوال وفي كثير من أمّته كانت وتكون على الأحوال الكاملة , وقد قال عطاء بن أبي رباح رحمة الله عليه: من فوَّض أمره إلى الله - عز وجل - فهو داخل في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن أقرّ بأنَّ الله ربّه وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسوله ولم يخالف قلبُه لسانَه فهو داخل في قوله: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن أطاع الله تعالى والرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنَّة فهو داخل في قوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صان لسانه عن الكذب فهو داخل في قوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صَلَّى فلم يَعرفْ مَن عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ}

_________

(1) في هامش أ "أي عن الزوج والزوجة" -الترضي-.

(2) في ب "فقال" , وهو تصحيف.

(3) انظر: تفسير الثعلبي (8/ 45).

(1/361)

[الأحزاب: من الآية 35] , ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرَّزيئة (1) (2) فهو داخل في قوله: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن تصدَّق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صام في كل شهر أيام البيض: ثالث عشر ورابع عشر وخامس عشر فهو داخل في قوله: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن حفظ فرجَه عمّا لا يحل له فهو داخل في قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: من الآية 35] , ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: من الآية 35] (3) , فمحمَّد - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام جبل راسخ , وفي الإيمان عَلَم شامخ , وفي القنوت بحر طافح , وفي الصدق [ق 13/ظ] سحاب سافح (4) , وفي الخشوع إمام , وفي الصبر على الطاعة هُمام , وكان أبعد الناس عن المعصية , وأصبرهم على المَرْزِية , وكان أعظم الخلق بالصّدقة إيثاراً , وفي الهَواجر (5)

على مواظبة الصوم اصطباراً , وكان - صلى الله عليه وسلم - أمْلَكَ الخلق لإربه في الحلال فكيف عن الحرام , وأشد الناس مُثابرة على الصلوات والناس نيام , وكم في أمّته من قُطْبٍ (6) استنَّ بسنّته , وكم فيهم من

_________

(1) في ب "الرزيّة" بالتسهيل وكلاهما صحيح , فقد جاء في المعجم الوسيط: "الرزيئة ويقال الرزية بالتسهيل". المعجم الوسيط , إبراهيم مصطفى وأحمد الزيات وحامد عبدالقادر ومحمد النجار , تحقيق: مجمع اللغة العربية , دار الدعوة؛ وفي نسخة بهامش ب "الذريئة".

(2) الرزيئة بالمد والرزية: المصيبة. مختار الصحاح ص 267.

(3) انظر: تفسير الثعلبي (8/ 46).

(4) سافح: اسم لـ (سفح) , وقال ابن فارس: " السين والفاء والحاء أصل واحد يدل على إِراقة شيء , يقال سفح الدم إذا صبَّه" معجم مقاييس اللغة (3/ 61).

(5) الهواجر: شدة الحر. لسان العرب (5/ 250).

(6) القطب: كل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا باطناً أو ظاهراً , فهو قطب ذلك الأمر ومداره , سواءٌ كان الدائر عليه أمر داره أو دربه أو قريته أو مدينته , أمر دينها أو دنياها , باطناً أو ظاهراً , لكن الممدوح من ذلك من كان مداراً لصلاح الدنيا والدين دون مجرد صلاح الدنيا , وهي من الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة , وليست موجودة في كتاب الله تعالى , ولا هي أيضاً مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح ولا ضعيف. انظر: مجموع الفتاوى (11/ 433 , 440).

(1/362)

وليٍّ سار بسيرته , وليس ذلك لغير محمد - صلى الله عليه وسلم - (كما لَه , وليس لواحد من الأمم مثل ما) (1) ولأمّته (2) , ولا اجتمع في أهل ملل غير أهل ملّته.

وأما العشر التي في المؤمنين فقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1 - 11] ... فقد مضى ذكر الإيمان والخشوع وهنا ذكر الخشوع في الصلاة فإنّه أوكَدُ منه في غير الصلاة واللغو القبيح من القول وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُبْعَثْ لعَّاناً ولا فحَّاشاً ولا سخَّاباً في الأسواق» (3) , وقوله: {لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: من الآية 4] ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - صاحبَ مال , وعُرضت عليه - صلى الله عليه وسلم - كنوز الأرض فأباها (4) ولم يكن فقره كفقر غيره من الناس الذين يأكلون الصدقات فإن الصدقة محرّمة

عليه وعلى ذريّته وبَني عمّه إلى يوم القيامة , [ففقره أعلى درجة من درجة الملوك] (5) , وهذه المرتبة أكمل من مرتبة صاحب مالٍ يُسأل من أين اكتسبه وفيما أنفقه (6) , وفي أمّة محمد

_________

(1) ما بين القوسين ليس في ب.

(2) في ب "وأمته" بدون اللام , وهو تصحيف.

(3) أخرجه مسلم (4/ 2006) , كتاب البر والصلة والآداب , باب النهي عن لعن الدواب وغيرها , ح 2599 , بلفظ: «إني لم أبعث لعاناً , وإنما بعثت رحمة».

(4) أخرج الإمام أحمد في مسنده (12/ 76) ح 7160 , عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جلس جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , فنظر إلى السماء , فإذا ملك ينزل , فقال جبريل , إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة , فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربم , أفملكاً نبياً يجعلك , أو عبداً رسولاً , قال جبريل: تواضع لربك يا محمد , قال: «بل عبداً رسولاً».

(5) الزيادة من نسخة في ب , وفي هامش أكذلك.

(6) في أ "أخرجه" , وما أثبته في ب ونسخة بهامش أوهي اللفظة الواردة في الحديث الصحيح الذي أخرجه الترمذي (4/ 612) , أبواب صفة القيامة والرقائق والورع , باب في القيامة , ح 2417.

(1/363)

- صلى الله عليه وسلم - من أولياء الله الصّالحين مَن سُئل عن قدر الزكاة ماهو فقال للسائل: عندنا أو عندكم , وكان السائل فقيهاً , فقال السائل: وهل عندكم غير ماعندنا , قال: نعم , أنتم عندكم في كلّ مائتي درهم خمسة دراهم حقّ الله , ونحن عندنا أنّ الكلّ حقّ الله (1) و [ق 14/و] لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يكن عندي من خير فلن ادّخره عنكم» (2) وكان - صلى الله عليه وسلم - لا (3) يدّخر شيئاً لغد , وكان يعطي عطاء من لايخشى الفاقة.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] فقد تقدم شرف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المقام , وأنه كان أملك الخلق لإربه , وفي أمّته عجائب في حفظ الفروج ومجانبة الزّنا كما يروى عن مَن حُصِر في بيت وأُغلق عليه ودُعي إلى الفاحشة فمنهم من ألقى نفسه من أعالي البيت فسَلِم , ومنهم من دخل الخلاء وتلطَّخ بالعَذرة وخرج في زيّ مجنون , وأمثال هذه الأمور كما سيأتي في قصّة يوسف عليه الصلاة والسلام , كل ذلك حفظاً للفروج وخوفاً من الله تعالى عن تعدِّي حدوده (4) واللائمة يوم القيامة , وتقدّم الكلام في مراعاة العهود والوفاء بها والمحافظة على القيام بها.

وأما المحافظة على الصلوات فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من المحافظة عليها في أوقاتها من الغاية , حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبطأ ليلة فلم يخرج إليهم حتى ذهب ما شاء الله من الليل فقالوا: أبطأت عنّا يا رسول الله , فقال: «أبشروا فإنه ليس أحد ينتظر الصلاة غيركم» (5) ولم يكن يومئذ يُصلَّى بغير المدينة , ولهم اختصاص الانتظار للصلاة

_________

(1) نسبها بعضهم إلى أن السائل: هو الإمام أحمد بن حنبل , والمسؤول: هو بشر الحافي؛ وعلق الشيخ عبدالرحمن الوكيل على القصة بقوله: "تبرق عيون الصوفية بالسرور السكران -أي من جواب بشر الحافي-، وتميد أعطافهم من نشوة الخمر الصوفي! ! , هؤلاء ينسون الإثم الكبير في قول الصوفي الحافي: "عندنا أم عندكم" فإنه نزغة من الأسطورة الصوفية التي تزعم: أن الدين شريعة وحقيقة". هذه هي الصوفية ص 153 , لعبدالرحمن الوكيل , الطبعة الرابعة 1984 م , دار الكتب العلمية , بيروت.

(2) تقدم تخريجه , انظر: ص 346.

(3) في نسخة بهامش ب "لم".

(4) في ب "حدود الله".

(5) أخرجه البخاري (1/ 118) , كتاب مواقيت الصلاة , باب النوم قبل العشاء لمن غلب , ح 570؛ وأخرجه مسلم (1/ 442) , في كتاب المساجد ومواضع الصلاة , باب وقت العشاء وتأخيرها , ح 639 , من طريق عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - , بلفظ: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شُغل عنها ليلةً , فأخرها حتى رقدنا في المسجد , ثم استيقظنا , ثم رقدنا , ثم استيقظنا , ثم خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - , ثم قال: «ليس أحد من أهل الأرض ينتظر الصلاة غيركم».

(1/364)

بعد الصلاة , والمراعاة للجماعات والمشي إليها في الظلمات , حتى إنّ في هذه الأمّة من ذُكِر أنه لم يفته صلاة في جماعة إلا مرّة فصلى سبعاً وعشرين صلاة لما بلغه أن صلاة الجماعة تضاعف على صلاة الواحد سبعاً وعشرين ضعفاً والحكاية معروفة (1) , وفي إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي إلى الجماعات وانتظار الصلوات بعد الصلوات يَختصم الملأ الأعلى كما جاء في الحديث المشهور (2) , فأولئك هم الوارثون

الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون , وهذا الميراث إنما هو أنّ هذه الصلوات عرضت على من كان قبلهم فأضاعوها , كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: من الآية 59] فأوْرَثَ الله هذه الأمّة [ق 14/ظ] مكانهم الذي وعدهم على حفظ الصلوات لو حفظوها والله تعالى أعلم؛ واستثنى الله تعالى في

_________

(1) الحكاية تروى عن (عبيد الله بن عمر القواريري) -شيخ البخاري ومسلم- , يقول القواريري: "لم تكن تكاد تفوتني صلاة العتمة في جماعة , فنزل بي ضيف، فشغلت به , فخرجت أطلب الصلاة في قبائل البصرة , فإذا الناس قد صلوا , فقلت في نفسي: يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلاة الجميع تفضل على صلاة الفذ إحدى وعشرين درجة» , وروي: «خمساً وعشرين درجة» وروي: «سبعاً وعشرين»، فانقلبت إلى منزلي، فصليت العتمة سبعاً وعشرين مرة، ثم رقدت فرأيتني مع قوم راكبي أفراس، وأنا راكب، ونحن نتجارى وأفراسهم تسبق فرسي، فجعلت أضربه لألحقهم، فالتفت إلي آخرهم , فقال: لا تجهد فرسك، فلست بلاحقنا , قال: فقلت: ولم؟ لأنا صلينا العتمة في جماعة". سير أعلام النبلاء (11/ 444) , تهذيب الكمال (19/ 134) , للإمام المزي , تحقيق: د. بشار عواد معروف , الطبعة الأولى 1400 , مؤسسة الرسالة , بيروت؛ الوافي بالوفيات (19/ 262) , تاريخ بغداد (12/ 25).

(2) أخرجه الترمذي (5/ 366) , أبواب تفسير القرآن , باب ومن سورة ص , ح 3235 , عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس , فخرج سريعاً فثوب بالصلاة , فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوز في صلاته , فلما سلم دعا بصوته قال لنا: «على مصافِّكم كما أنتم» ثم انْفَتَلَ إلينا ثم فقال: «أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي فاستثقلت , فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد , قلت: لبيك رب , قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري -قالها ثلاثاً- , قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي , فتجلى لي كل شيء وعرفت , فقال: يا محمد , قلت: لبيك رب , قال فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات , قال: ما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الحسنات , والجلوس في المساجد بعد الصلوات , وإسباغ الوضوء حين المكروهات ... » الحديث.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".

(1/365)

سورة (سأل سائل) المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ممّن ذمّهم بالهَلع والجزع , وجعل الدائمين عليها المحافظين في جنّات مكرمين (1).

وأما العشرة التي ذكرها طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما من الفطرة التي أوتيها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد أوتيها محمد - صلى الله عليه وسلم - وزيادة عليها ففعلها هو - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته على الوجه الكامل والحال الفاضل.

وأما قول مجاهد بأنها قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: من الآية 124] فقد كانت إمامة محمد - صلى الله عليه وسلم - أظهر وتبع الخلق له على دينه أشهر.

وأما قول الحسن أنها سبعة أشياء الكوكب والقمر والشمس فقد ذكرنا (2) أنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أوتي في صباه من الحفظ والإيقان والسلامة من أسباب الإشراك وإلهام التوفيق إلى الحق مافيه كفاية , وكذلك ذكرنا صبره - صلى الله عليه وسلم - على القتل بنفسه والتّغْرير بها في طاعة الله تعالى ماهو أعظم من الصبر على فقد الولد وألم الختان وصبره في هجرته - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة وبلواه كانت أعظم من صبر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في هجرته , فإنه خرج مختفياً وقد بيَّته القوم كما ذكر الله - عز وجل - في كتابه ليقتلوه , ولما علموا أنه قد خرج بعثوا في طلبه في جميع الطرق وبذلوا الأموال الكثيرة لمن يقتله أو يأتي به , وقصته مع سُراقة في ذلك معروفة حتى قدم المدينة.

وأما قول أبي رَوْق أنها قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) ... } [الشعراء: 78] [الآيات] (3) فإنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان من هذه الأمور بالمنزلة التي لايصل إليها غيره وهي ظاهرة مِن سيرته - صلى الله عليه وسلم - , وقد ذكرنا الكلام على قول بعضهم أنها ابتلاؤه (4) في ماله وولده ونفسه وقلبه وأنّ الله اتخذه لذلك خليلاً , فمحمّد - صلى الله عليه وسلم - كان في هذه الأمور أكمل قدراً وأعظم أجْرًا فإن الله تعالى اتخذه خليلاً حبيباً.

_________

(1) في ب "مكرمون".

(2) في أ "ذكر".

(3) "الآيات" زيادة من ب.

(4) في ب "ابتلاه".

(1/366)

وأما قول من قال: هي سهام الإسلام وهي عشرة شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملّة فقد كان محمّد - صلى الله عليه وسلم - يدعوا إليها على [ق 15/و] الوجه الأتمّ , والحال الأعمّ كما صعد - صلى الله عليه وسلم - على الصّفا ونادى «يا صباحاه» فاجتمعوا فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم (1) أنّ عدوّاً يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم أكنتم مصدِّقي» , قالوا: ما جرَّبنا عليك كذباً , قال: «فإني نذير لكم بين يدَي عذاب شديد» (2) يعني أن تقولوا لا إله إلا الله , وكان يدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن كما أمره الله تعالى حتى أذن له في جهادهم فجاهدهم حتى أقام الدّين وظهر أمْرُ الله وهم كارهون وأقام الملّة العوجاء وقالوا: لا إله إلا الله , وأما الصلاة فقد تقدم الكلام فيها وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ... » الحديث (3) , وكذلك الحج والجهاد والطاعة والجماعة والألفة (4) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أشرنا إلى ذلك وأنَّ محمّداً - صلى الله عليه وسلم - فعل هذه الأمور مع غيرها من شريعته وسنّته على أتمّ النظام وأكمل الأقْسام , فمرتبة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام جليلة (5) , ومزيّته نبيلة , ودرجته أثيلة (6) , ولا كمحمّد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الوسيلة والمنزلة الرفيعة العريضة الطويلة صلوات الله وسلامه عليهما , وبركاته وتحيّاته واصلة إليهما , فقد تبين بالبرهان الواضح , والدليل الرّاجح , أن ماوَفّى محمد - صلى الله عليه وسلم - أبلغ مما وفّى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فإنه بلغ ما أوحي إليه من ربِّه سبحانه البلاغ المبين ولم يألُ جهداً في توضيح أصول الدين , ولم يكتم شيئاً ممّا أوحي إليه , وسواءً كان ذلك له أو عليه كما قالت عائشة رضي الله

_________

(1) في ب "أخيرتكم" , وهو تصحيف.

(2) أخرجه البخاري (6/ 122) , بنحوه في كتاب تفسير القرآن , باب قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: من الآية 46] , ح 4801 , من طريق ابن عباس - رضي الله عنه -.

(3) أخرجه البخاري (1/ 14) , بنحوه في كتاب الإيمان , باب: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: من الآية 5] , ح 25؛ وأخرجه مسلم (1/ 53) , بنحوه في كتاب الإيمان , باب الأمر بتقال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله , ح 22.

(4) في هامش ب "لم يذكر الصوم وجعل الجماعة والألفة اثنين وهو واحد".

(5) في هامش ب "أي خُلّتُه".

(6) أثيل: أصيل. المعجم الوسيط (1/ 6).

(1/367)

عنها لمّا نزلت قصّة زيد - رضي الله عنه - من قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: من الآية 37]: "لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً من الوحي كتم هذه الآية" (1) فلم يمنعه من تبيلغ الوحي مانعٌ , ولا دفعه عن قول الحق دافعٌ , كما قال بعض أصحابه: "لقد تَرَكَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومامن طائر يطير بين السماء والأرض إلا وقد ذكر لنا منه علماً" (2) واستنطق الناس في أعظم حَفْلٍ وأكثر جمعٍ [ق 15/ظ] يوم حجّة الوداع «ألا هل بلّغت» فيقولون: نعم , فيرفع يده إلى فوق وينكبها (3) إليهم ويقول: «اللهم اشهد» (4) , وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ

رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: من الآية 51] وقوله في الكوكب والقمر والشمس وإلهامُه أن قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: من الآية 79] فإنَّ حال محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأتمّ وأقوى في التبليغ وأنجع في قلوب السامعين , وروى أبو نعيم بسنده عن النَّزَّال بن سَبْرَة عن علي - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل عبدت وثناً قطّ قال: «لا» , قالوا: هل شربت خمراً قطّ قال: «لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان» (5) , وفي حديث آخر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:

_________

(1) أخرجه الترمذي (5/ 353) , أبواب تفسير القرآن , باب: ومن سورة الأحزاب , ح 3208 , وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

(2) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 472) ح 13973 , عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - , بلفظ: "لقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما في السماء طائر يطير بجناحيه إلا ذكرنا منه علماً" , وقال: "رجاله رجال الصحيح"؛ وأخرجه أحمد في مسنده (35/ 290) ح 21361 , من طريق أبي ذر - رضي الله عنه - , بلفظ: "لقد تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما" قال الهيثمي: "رواه: الإمام أحمد، والطبراني ... ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة , وفي إسناد أحمد من لم يسم".

(3) ينكبها: أي يُمِلها إليهم يريد بذلك أن يُشْهِدَ الله عليهم. النهاية (5/ 235).

(4) أخرجه البخاري (2/ 176) , بنحوه في كتاب الحج , باب الخطبة أيام منى , ح 1741 , من طريق أبي بكرة - رضي الله عنه -؛ وأخرجه مسلم (3/ 1307) , بنحوه في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات , باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال , ح 1679.

(5) لم أقف على الحديث في كتب أبي نعيم , ولعله سقط من نسختي المطبوعة عن كتاب الدلائل , وقد عزاه أيضاً لأبي نعيم وابن عساكر: السيوطي في الخصائص الكبرى ص 149 , الشوكاني في فتح القدير (4/ 546) وعزاه لكتاب الدلائل , والمتقى الهندي في كنز العمال (12/ 406) وعزاه أيضاً لكتاب الدلائل.

(1/368)

«لمّا نشأتُ بُغضت إليّ أوثان قريش وبُغض إليَّ الشعر» (1) , وعن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جُبير - رضي الله عنه - قال: كانت قريش إنَّما تدفع (2) من المزدلفة وتقول: نحن الحُمْس (3) فلا نخرج من الحرم , وقد تركوا الموقف بعرفة , قال: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة ثم يدفع بدفعهم إذا دَفعُوا (4) , وأمثال هذا كثير من تجنُّبه لشركهم وضلالهم وكل ذلك بتوفيق من الله تعالى له.

وقيل له: متى كنت نبيّاً , قال: «وآدم مُنْجدلٌ (5) في طينته» (6) فمن يكون هذا حاله كيف يتطرق إليه شرك أو (7) شكّ وقد جرى بينه وبين رجل من قريش كلامٌ فقال له

_________

(1) ذكره البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (7/ 17) , كتاب علامات النبوة , باب ما جاء أول أمره ومولده وإرضاعه وغير ذلك مما يَذكر - صلى الله عليه وسلم - , ح 6319 , تحقيق: دار المشكاة , الطبعة الأولى 1420 , دار الوطن , الرياض , وقال في إسناده: "هذا إسناد ضعيف لضعف عمر بن صبح , والرواي عنه محمد بن يعلى الكوفي"؛ وذكره ابن حجر في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (17/ 185) ح 4207 , تنسيق: د. سعد الشثري , الطبعة الأولى 1419 , دار العاصمة؛ وعزاه السيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 99) لأبي نعيم وابن عساكر.

(2) في هامش ب "أي: ترجع قريش".

(3) الحُمْس: جمع الأحْمَس: وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس , سُمُّوا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم: أي تشددوا , كانوا يقفون بمزدلفة ولا يقفون بعرفة , ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم , وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون. انظر: النهاية (1/ 1046).

(4) أخرجه البخاري (2/ 162) , كتاب الحج , باب الوقوف بعرفة , ح 1664 , بلفظ: "أضللت بعيراً لي , فذهبت أطلبه يوم عرفة , فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بعرفة , فقلت: هذا والله من الحمس فما شأنه ها هنا" , وأخرجه مسلم (2/ 894) , كتاب الحج , باب في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: من الآية 199] , ح 1220 , بلفظ: "أضللت بعيراً لي , فذهبت أطلبه يوم عرفة , فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفاً مع الناس بعرفة , فقلت: والله إن هذا لمن الحمس , فما شأنه هاهنا , وكانت قريش تُعَدُّ من الحمس".

(5) منجدل: أي مُلقى على الجَدَالة وهي الأرض. النهاية (1/ 707).

(6) أخرجه أحمد في مسنده (28/ 395) ح 17163 , بلفظ: «إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين , وإن آدم لمنجدل في طينته ... » الحديث , وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: "صحيح لغيره" , وأخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 453) , كتاب التفسير , تفسير سورة الأحزاب , ح 3566 , تحقيق: مصطفى عبدالقدار عطا , الطبعة الأولى 1411 , دار الكتب العلمية , بيروت , بلفظ: «إني عبدالله وخاتم النبيين , وأبي منجدل في طينته» وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".

(7) في ب "و".

(1/369)

القرشيّ: احلف باللات والعزى فقال: «والله ما أبغضتُ شيئاً ما أبغضتهما وإنّي لأمُرُّ بهما فأعرِض عنهما» , فقال له القرشي [ق 16/و]: أنت صادق فيما تقول (1)؛ وقد كان - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي يتألَّه ويتحنَّث ويتعبَّد لله تعالى كما قد ثبت في الصحاح وغيرها من سيرته - صلى الله عليه وسلم - وكل ذلك رُشد آتاه الله تعالى إيَّاه في صغره وتوفيق مَنَحه إيَّاه في طفوليته , وذلك (من) (2) فضل الله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ وأما تبليغ دعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لمّا بنى البيت بالحج في الناس فبلغ صوته مَن قضى الله أن يحجّ , قلنا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من ذلك فإنه زُويت (3) له الأرض فرأى مشارقها ومغاربها وقال: «سيبلغ مُلْك أمّتي مازوي لي منها» (4) ولو أراد أن يبلّغ الله صوته ما بلغ نظره لكان ذلك , وما أُعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم مما أُعطي إبراهيم عليه الصلاة والسلام , وقد أعطى الله بعض أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن بلغ صوته حيث أراد وكشف عن بصيرته وبصره المسافة البعيدة مسيرة شهر وذلك ما

رواه أبو نعيم بإسناده عن عمرو بن الحارث قال: "بينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة فقال: يا ساري (5) (6) الجبل مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل على خطبته , فقال أولئك النظراءُ من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: لقد جُنَّ إنه لمجنون , بينا (7) هو في خطبته قال: يا ساري الجبل , فدخل عليه عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وكان يطمئنّ إليه فقال: لشدّ ما ألُومُهم عليه أنك لتجعل لهم على نفسك مقالاً بينا أنت تخطب إذ أنت

_________

(1) أخرجه أبو نعيم في الدلائل (1/ 128) ح 105 , بلفظ: «ما حلفت بهما قط وإني لأمر بهما فأعرض عنهما».

(2) "من" ليس في ب.

(3) زويت: أي جُمعت: يقال زويته أزويه زيّاً. النهاية (2/ 801).

(4) أخرجه مسلم (4/ 2215) , كتاب الفتن وأشراط الساعة , باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض , ح 2889 , بلفظ: «وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها».

(5) هو سارية بن زنيم الكناني , اختلف في صحبته , توفي نحو 30 هـ. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 4 - 5)؛ الأعلام (3/ 69 - 70).

(6) ساري بحذف تاء التأنيث: من باب الترخيم , والوارد في الدلائل بإثبات التاء "سارية".

(7) في ب "بينما".

(1/370)

تصيح: يا ساري الجبل أيّ شيء هذا؟ قال: إني والله ما ملكت ذلك أن رأيتهم يقاتلون عند جبل يُؤتَون من بين أيديهم ومن خلفهم فلم أملك أن قلت: يا ساري الجبل ليلحقوا بالجبل , فلبثوا إلى (1) أن جاء رسول سارية بكتابه أنّ القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم من حين صلينا الصّبح حتى إذا حضرت الجمعة وسمعنا منادياً ينادي: يا ساري الجبل مرتين فلحقنا بالجبل فلم نزل قاهرين لعدوِّنا حتى هزمهم الله تعالى وقتلهم , فقال أولئك الذين طعنوا عليه: دعوا (2) هذا الرجل فإنه مصنوع له (3) " (4).

_________

(1) في ب "إذا" , وهو خطأ.

(2) في أ "دعوه".

(3) في هامش ب "أي الله تعالى صنع لعمر عجائب وأسراراً لم نصل إليه".

(4) انظر: دلائل النبوة (1/ 580 - 581) ح 528.

(1/371)

(فصل) (1)

فأما موسى عليه الصلاة والسلام فهو صفي الله تعالى [ق 16/ظ] ونجيّه وكليمه ونبيّه ورسوله , ففضله ليس يخفى , ونور جلاله قدره لا يَطفا , عالج القبط وبني إسرائيل , وقاسى شدائد منهم شرحُها طويل , وجاهد أعداء الله تعالى (ونصر كلمته , وصابر وثابر لله تعالى) (2) وبلّغ رسالته , فصلوات الله عليه ما كان أصبره , وبمُداراة القوم ومُدارأتهم (3) ما أخبره , وقد أُعطي محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما تُعقد عليه البنان الخمس , وسار في الآفاق مسير القمر والشّمس , فكل فضيلة أوتيها موسى , وكل قضيّة (4) لقيها نعمى وبؤسى , فلمحمّد - صلى الله عليه وسلم - نظيرتها وأكبر , وأوضح منها لمن تأمّلها وأظهر , وكلٌّ كان عند الله وجيهاً , وكل منهما قد كان نبيّاً نبيهاً , فمن ذلك معجز موسى عليه الصلاة والسلام في العصا واليد وانفجار الماء من الحجر في التّيه , فإن الله تعالى أعطى محمّداً - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك أو أعجب وأعظم فإن العصي (5) (لموسى) (6) عليه الصلاة والسلام كانت من خشب يجعلها الله تعالى له ثعباناً حيّاً يتلقف ما يأفك سحرة فرعون ثم تعود إلى خاصيتها وسيرتها الأولى , وكان لموسى عليه الصلاة والسلام فيها مآرب أخرى فما ذاك بأعجب من جذع يابس كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يخطب عليه , فلما عمل المنبر وتحوّل إليه حنّ ذلك الجذع إليه كحنين العشار إلى أولادها , وجعل يَخُور كما يخور الثور حتى سمع أهل المسجد ذلك , فلم يزل كذلك يحنّ ويئنّ حتى جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحتضنه وضمّه إليه فسكن وقال: «والذي نفسي بيده لو (لم) (7) ألتزمه لما زال كذلك حتى تقوم الساعة

جزعاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (8) , وأعجب من ذلك أنه دعا شجرةً من أقصى الوادي فجاءت تَخُدّ الأرض (9)

_________

(1) "فصل" ليس في ب.

(2) "ونصر كلمته وصابر وثابر لله تعالى" ليس في ب.

(3) مدارأتهم: من درأ يدرأ درءاً إذا دفع. النهاية (2/ 244).

(4) في ب "فضيلة".

(5) في ب "العصا".

(6) "لموسى" ليس في ب.

(7) "لم" ليس في ب.

(8) أخرجه البخاري (4/ 195) , كتاب المناقب , باب علامات النبوة في الإسلام , ح 3583 , بلفظ: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إلى جذع , فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحنَّ الجذع فأتاه فمسح يده عليه"؛ وأخرجه أحمد في مسنده (10/ 127) ح 5886 , من طريق عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - , بلفظ: "كان جذع في المسجد يسند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره إليه إذا كان يوم جمعة , أو حدث أمر يريد أن يكلم الناس , فقالوا: ألا نجعل لك يا رسول الله شيئاً كقدر قيامك؟ قال: «لا عليكم أن تفعلوا» , فصنعوا له منبراً ثلاث مراقي , قال: فجلس عليه , قال: فخار الجذع كما تخور البقرة جزعاً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فالتزمه ومسحه وسكن"؛ وأخرجه الطحاوي بنحوه في شرح مشكل الآثار (10/ 378) ح 4179 , تحقيق: شعيب الأرنؤوط , الطبعة الأولى 1415 , مؤسسة الرسالة.

(9) تخد الأرض: أي تشقها. انظر: لسان العرب (2/ 160).

(1/372)

حتى وقفت بين يديه ثم أمرها فرجعت إلى منبتها فقامت كما كانت (1) , ونحو ذلك دعاؤه للعذق من رأس النخلة فانْحدَرَ وجاءه يَنقُزُ حتى صار بين يديه ثم أمره أن يعود حيث كان فصعد كذلك (2) , وأعجب من ذلك أنه كان بالحَجون (3)

وهو كئيب حزين فقال

_________

(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/ 434) , كتاب التاريخ , باب المعجزات , ح 6505 , تحقيق: شعيب الأرنؤوط , الطبعة الثانية 1414 , مؤسسة الرسالة , بيروت , من طريق ابن عمر - رضي الله عنه - , بلفظ: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين تريد؟ قال: إلى أهلي قال: هل لك إلى خير؟ قال: ما هو؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله , قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال - صلى الله عليه وسلم - هذه السمرة , فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بشاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض خداً حتى كانت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنه كما قال ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه وقال: إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك فكنت معك" , علق عليه شعيب الأرنؤوط: "رجاله ثقات"؛ وأخرجه الهيثمي بنحو لفظ ابن حبان في مجمع الزوائد (8/ 517) ح 14085 , وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح , وأخرجه البيهقي بنحو لفظ ابن حبان في دلائل النبوة (6/ 140) ح 2262.

(2) أخرجه الإمام أحمد (3/ 424) ح 1954 , من طريق ابن عباس - رضي الله عنه - , بلفظ: "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني عامر , فقال: يا رسول الله , أرني الخاتم الذي بين كتفيك , فإني من أطب الناس , فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أريك آية» , قال: بلى , قال: فنظر إلى نخلة , فقال: «ادع ذلك العذق» , قال: فدعاه , فجاء ينقز , حتى قام بين يديه , فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ارجع» , فرجع إلى مكانه , فقال العامري: يا آل بني عامر , ما رأيت كاليوم رجلا أسحر" , قال محققوا المسند -شعيب الأرنؤوط , عادل المرشد , وآخرون , بإشراف: د. عبدالله التركي-: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

(3) الحَجُون -بفتح الحاء المهملة ثم جيم مضمومة وآخره نون-: يقول الشيخ حمد الجاسر في تهميشه لكتاب (الأماكن) أو (ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة) أن العلماء قد اختلفوا في تحديد موقع الحجون، مع اتفاقهم على أنه في أعلى مكة بقرب المقبرة، فالمتأخرون وبعض المتقدمين منهم يرونه الجبل الذي تقع المقبرة بسفحه مما يلي الأبطح، ومسجد الجن (مسجد بيعتهم) , وفيه شقت ثنيه كداء (ثنية الحجون) وهذا هو المعروف عند المتأخرين , إلا أن الشيخ الجاسر يقول أنه ورد في «أخبار مكة» ما يفهم منه أنه الجبل المقابل لهذا في الجانب الآخر من المعلاه، يدعه المتجه إلى منى على يمينه. انظر: هامش الأماكن أو ما اتفق لفظه وافترق مسماه من الأمكنة ص 322 - 323 , لأبي بكر الحازمي , تحقيق: حمد الجاسر , 1415 , دار اليمامة.

(1/373)

- صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أرني اليوم آيةً لا أبالي من كذّبني بعدها من قومي [ق 17/و] فأُمِر أن ينادي شجرةً من عقبة المدينة فناداها فجاءت تَشُق الأرض حتى انتهت إليه فسلّمت عليه ثم أمَرها فذهبت فقال: ما أبالي من كذّبني بعدها من قومي» (1) , وأعجب من هذا أو أبلغ أنه كان حين بُعث لا يمرّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يارسول الله , وقال: «كان حجر بمكة يسلّم عليّ قبل أن أُبعث إني لأعرفه الآن» (2) ونحوه تسبيح الحصى في يديه , وتسبيح الطعام وهو يؤكل عنده وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وهذا بابٌ (واسع) (3).

وأما ضرب موسى - عليه السلام - بالحجر بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً وهم في التيه فليس بأعجب من أنّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فأعوز القوم من الماء فدعا بقدح فجعل أصابعه فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى روي القوم أجمعون (4) , وخروج الماء

من الأحجار أمْرٌ معتاد قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ

_________

(1) أخرجه أبو نعيم في الدلائل (1/ 333) ح 280 , وأخرجه بنحوه البيهقي في الدلائل (6/ 138) , وأخرجه بنحوه البزار (1/ 76) ح 310؛ وأخرجه بنحوه أبو يعلى (1/ 190) ح 215 , تحقيق: حسين سليم أسد , الطبعة الأولى 1404 , دار المأمون , دمشق؛ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 10): "رواه البزار وأبو يعلى , وإسناد أبي يعلى حسن" ,

(2) أخرجه مسلم (4/ 1782) , كتاب الفضائل , باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسليم الحجر عليه قبل النبوة , ح 2277 , بلفظ: «إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث إني لأعرفه الآن».

(3) "واسع" ليس في ب.

(4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 76) ح 6435 , تحقيق: حمدي السلفي , الطبعة الثانية 1404 , مكتبة العلوم والحكم , الموصل , من طريق عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبيه , بلفظ: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فأصابنا عطش شديد , فشكونا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , فقال: «هل فضل ماء في إداوة؟ » فأتاه رجل بفضلة ماء في إداوة , فحفر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأرض حفرة ووضع عليها نطعاً , ووضع كفه على الأرض , ثم قال لصاحب الإداوة: «صب الماء على كفي واذكر اسم الله» , ففعل , قال أبو ليلى: قد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى روي القوم وسقوا ركابهم" قال الهيثمي (8/ 301) ح 14107: "وفي إسناده: خالد بن نافع الأشعري ضعفه أبو زرعة وأبو داود والنسائي وقال أبو حاتم: ليس بقوي , يُكتب حديثه , وقد روى عنه أحمد بن حسر , وقد اشتهر أن شيوخه كلهم ثقات عنده"

(1/374)

مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ (1)} [البقرة: من الآية 74] , وأما من بين الأصابع فلا يعهده أحد لغير (2) محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو أعظم وأعجب , وذلك ماروى عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال: حدثني أبي قال: "كُنّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها فأصاب الناس مخمصة فدعا بركوة فوضعت بين يديه ثم دعا بماء فصبّ فيها , (ثم مجّ فيها) (3) , وتكلم بما شاء الله أن يتكلم , ثم أدخل خنصره فيها , فَأُقسِمُ بالله لقد رأيت أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتفجَّر ينابيع الماء , ثم أمر الناس فسَقوا وشربوا وملأوا قِربهم وإداواتهم" (4) , والأحاديث في هذا المعنى كثيرة مشهورة معلومة في كتب الصّحاح (5) والسنن والسِّير وغير ذلك.

فإن قيل: إن موسى عليه الصلاة والسلام انفلق له البحر لما ضربه بعصاه فجازه هو وأصحابه لما تبعهم فرعون وجنوده , قيل: لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أعجب من ذلك (6) فإنه لم يحتج إلى عبور البحر بل بعض أصحابه قال: "والله لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها" (7) , ولم يشترطوا انفلاق البحر وهم صادقون فيما قالوا وقد حقّق هذا الفعل بعض أصحابه في حياته وبعد موته وهو العلاء بن الحضرميّ - رضي الله عنه - لما كان بالبحرين واضطر إلى عبور [ق 17/ظ] البحر فعبر هو وأصحابه ولم يبتل لهم ثوب , وذلك ما

روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاء بن الحضرميّ إلى البحرين تبعتُه

_________

(1) في ب زيادة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} وهو زيادة على الشاهد غير مرادة.

(2) في ب "ولغيره".

(3) "ثم مجّ فيها" ليس في ب.

(4) أخرجه مطولاً الطبراني في المعجم الأوسط (1/ 26) ح 63 , وفي المعجم الكبير (1/ 211) ح 579؛ وقال الهيثمي في إسناده: "ورجاله ثقات". مجمع الزوائد (1/ 20) ح 28.

(5) منها: ما أخرجه البخاري (4/ 193) , كتاب المناقب , باب علامات النبوة في الإسلام , ح 3576 , من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما , بلفظ: "عطش الناس يوم الحديبية والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة فتوضأ , فجهش الناس نحوه , فقال: «ما لكم؟ » , قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك , فوضع يده في الركوة , فجعل الماء يثور بين أصابعه , فشربنا وتوضأنا , قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا , كنا خمس عشرة مائة".

(6) في ب زيادة "فإنه - صلى الله عليه وسلم - أعجب من ذلك" وهو تكرار لمعنى الجملة السابقة.

(7) تقدم تخريجه , انظر: ص 360.

(1/375)

فرأيت منه خصالاً ثلاثاً لا أدري أيتهن أعجب , انتهينا إلى شاطئ البحر فقال: سموا الله تعالى واقتحِمُوا , فسمّينا واقتحمنا فعَبرنا فما بلّ الماء إلا أسافل (1) أخفاف الإبل , فلما قفلنا جُزنا معه بفلاة من الأرض وليس معنا ماء فشكونا إليه فصلّى ركعتين ثم دعا فإذا سحابة مثل الترس ثم أرخت عَزالَيْها (2) فسَقينا واستقينا (3) ومات فدفنّاه , فلما سرنا غير بعيد قلنا: يجيء سبع فيأكله فرجعنا فلم نره" (4) وقد تقدمت (5) هذه القصّة بأتم من هذا السياق عند ذكر نوح عليه الصلاة والسلام , وكذلك قصة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - فإنه لما فرغ من أمر القادسية ونزل بالمسلمين الكوفةَ ومدائن (6) كسرى بالأجناد والرجال فافتتحوها وهرب منها أردشير (7) فدخل المسلمون مدينة (8) نهرشير (9) وهي المدينة الدُنيا

_________

(1) في ب "سافل".

(2) العزالي: جمع العزْلاء وهو فم المزادة الأسفل , فشبّه اتساع المطر واندفاقه بالذي يخرج من فم المزادة". النهاية (3/ 459).

(3) في ب "واسقينا".

(4) أخرجه الطبراني بنحوه في المعجم الأوسط (4/ 15) ح 3495 , وفي المعجم الكبير (18/ 95) ح 14877 , وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 376) ح 16007: "وفيه إبراهيم بن معمر الهروي والد إسماعيل ولم أعرفه , وبقية رجاله ثقات".

(5) في ب "مر".

(6) المدائن: وهي مدينة قديمة على دجلة تحت بغداد سبعة فراسخ , واسمها بالفارسية: طيسفون , وهذا الموضع كان مسكن الملوك من الأكاسرة الساسانية وغيره , وسميت بالجمع -مدائن- لأن كل واحد منهم إذا ملك بنى لنفسه مدينة إلى جنب التي قبلها. انظر: شرح سنن أبي داود (3/ 103) , لبدر الدين العيني , تحقيق: أبو المنذر خالد المصري , الطبعة الأولى 1420 , مكتبة الرشد , الرياض؛ معجم البلدان (5/ 74).

(7) هو يزدجرد بن شهريار ابن كسرى , ينتهي نسبه إلى أردشير بن بابك -أول ملوك الفرس الساسانية- , انهزم من جيش عمر فاستولوا على العراق، وانهزم هو إلى مرو وولت أيامه، ثم ثار عليه أمراء دولته وقتلوه سنة ثلاثين , وقيل: بل بيَّته الترك وقتلوا خواصه، وهرب هو واختفى في بيت، فغدر به صاحب البيت فقتله، ثم قتلوه به , وكان آخر ملك من آل أردشير بن بابك. انظر: سير أعلام النبلاء (2/ 109) , الكامل في التاريخ (3/ 18) لأبي الحسن الشيباني , تحقيق: عبدالله القاضي , الطبعة الثانية 1415 , دار الكتب العلمية , بيروت.

(8) في ب "المدينة".

(9) في تاريخ الطبري: "بهر سير" , وفي معجم البلدان (بَهُرَ سِير) -بالفتح ثم الضم وفتح الراء وكسر السين المهملة وياء ساكنة وراء- من نواحي سواد بغداد قرب المدائن , وهي معربة من (ده أردشير) أو (به أردشير) كأن معناه: خير مدينة أردشير , وهي في غربي دجلة. انظر: تاريخ الأمم والملوك (2/ 460) , لأبي جعفر الطبري , الطبعة الأولى 1407 , دار الكتب العلمية , بيروت؛ معجم البلدان (1/ 515).

(1/376)

في جوف الليل , فلاح لهم القصر الأبيض قال المسلمون: الله أكبر هذا أبيض كسرى الذي وعدنا الله تعالى ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - وتابعوا التكبير حتى أصبحوا وذلك في صفر سنة ست عشرة وكان هذا القصر الأبيض مدينة كسرى القصوى التي فيها منزله فوقف المسلمون على دجلة وطلب سعد السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى فلم يقدروا على شيء منها ووجدهم قد ضمّوا السفن فأقاموا بنهرشير أياماً يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين حتى أتاه أعلاجٌ (1) فَدلُّوهُ على مَخاضَةٍ فأبى وتردّد عن ذلك وفجئهم المَدُّ فرأى رؤيا أن خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت يعني دجلة من المدّ بأمر عظيم فعزم لتأويل رؤياه على العبور فجمع سعدٌ الناسَ فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم وهم (2) يخلصون إليكم إذا شاءوا فَيُناوشونكم (3) (4) في سُفنهم وليس وراءكم [ق 18/و] شيء تخافون أن تُؤتَوا منه وإنّي قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم , فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرّشد فافعل , فندَب سعدٌ (الناسَ) (5) للعبور فقال: من يبدأ ويَحمي لنا العِرَاصَ (6) حتى يَتلاحق به الناس لكي لايمنعوهم من الخروج فانتدب له عاصم بن عمرو (7) وانتدب (له) (8) ستمائة رجل من أهل النجدَات فاستعمل عليهم عاصماً فسار بهم حتى وقف على شاطئ دجلة ثم قال: من ينتدب معي يمنع العراص من عدوّكم فانتدب

له ستون منهم فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور ليكون أسلس لعَوْم الخيل إذا اقتحموا دجلة فلما رأى سعد عاصماً على العراص قد منعها أذن للناس في الاقتحام وقال: قولوا نستعين بالله ونتوكّل عليه ,

_________

(1) أعلاج: جمع علج , والعلج: الكافر , ويقال للرجل الضخم من الكفار عِلج. لسان العرب (2/ 326).

(2) في ب "وهذا" , وهو خطأ.

(3) في ب "فيناوشوونكم" بزيادة واو.

(4) تناوش القوم في القتال: تناول بعضهم بعضاً بالرماح , ولم يتدانوا كل التداني. المعجم الوسيط (2/ 963).

(5) "الناس" ليس في ب.

(6) العراص: جمع عرصة: وهي كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء , والمراد به هنا مكان نزول الجند. انظر: مختار الصحاح ص 467.

(7) عاصم بن عمرو التميمي: أحد الشعراء الفرسان , أخو القعقاع بن عمرو , له أخبار وأشعار في فتوح العراق , اختلف في صحبته. انظر: الأعلام (3/ 248 - 249) , الإصابة (3/ 574).

(8) "له" ليس في ب.

(1/377)

حسبنا الله ونعم الوكيل , لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , وتلاحق عظم الجند فركبوا اللجة وإنَّ دجلة لترمي بالزَّبد وإنّها لمسودّة وإن الناس ليتحدّثون في عومهم وقد اقترنوا كما يتحدّثون في مسيرهم على الأرض ففجئوا أهلَ فارس بأمرٍ لم يكن في حسابهم فَأجهَضُوهم وأعجلوهم عن جُمهور أموالهم (1) ودخلها المسلمون واستولوا على كل مابقي في بيوت كسرى من الثلاثة ألف ألف ألفٍ وما جمع شِيرِينُ ومَن بعده (2) , وروى أبو بكر بن حفص بن عمر قال: "الذي كان يُساير سعداً في الماء سلمان الفارسي رضي الله عنهما فعامَتْ بهم الخيل وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل , والله لينصرن الله وليَّه وليظهرنّ دينه , وليهزمنّ عدوَّه , وإن يكن في الجيش بغي وذنوب تغلبُ الحسناتُ , فقال سلمان: إن الإسلام جديد ذلَّل لهم والله البحارَ كما ذلّل لهم البَرّ , أمَا والذي نفس سلمان بيده ليَخرُجُنّ أفواجاً كما دخلوه أفواجاً , وطبَّقُوا (3) الماء حتى ما يُرى الماءُ من الشاطئ , ولهم فيه أكثر حديثاً منهم في البَر , فخرجوا منه لم يفقدوا شيئاً ولم يغرق منهم أحد" (4) , وعن حبيب ابن صُهْبَان (5) قال: "شهدتُ القادسية -قال: - فانهزَمُوا حتى أتوا المدائن وتبعناهم -قال: - فانتهينا إلى دجلة وقد قطعوا الجسور وذهبوا بالسفن فانتهينا إليها وهي تَطْفَح فأقحم رجل (6) منّا فرسَه وقرأ {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [ق 18/ظ] كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: من الآية 145] قال: فعبر ثم تبعه النّاس أجمعون فعبروا فما

فقدوا عِقالاً ما عدا رجلاً منهم انقطع قَدحٌ له كان معلّقاً بسَرْجه فرأيته يدور في الماء , قال: فلما رأونا انهزموا من غير قتال فبلغ سهم

_________

(1) في ب "أحوالهم".

(2) أخرجه أبو نعيم في الدلائل (2/ 574 - 575) ح 522.

(3) الطَّبَق: كل غطاء لازم على الشيء. النهاية (3/ 250) , والمراد به هنا: أي غطت الخيول والرجال وجه الماء.

(4) أخرجه أبو نعيم في الدلائل (2/ 576) ح 522.

(5) حبيب بن صهبان -بضم المهملة- أبو مالك الأسدي الكوفي , ثقة من الثانية , قتله المختار سنة ست وستين. انظر: تقريب التهذيب ص 151 , تاريخ بغداد (9/ 157) , الطبقات ص 143 , لخليفة بن خياط , تحقيق: د. أكرم ضياء العمري , الطبعة الثانية 1402 , دار طيبة , الرياض.

(6) وهو حجر بن عدي - رضي الله عنه -. انظر: تاريخ بغداد (9/ 157) , تفسير ابن كثير (2/ 129).

(1/378)

الرجل منا ثلاث عشرة دابة وأصابوا من الجامات (1) الذهب والفضة فكان الرجل منا يَعرِض الصحفة (2) الذهبَ يبدلها بصحفة (3) من فضة يُعجبه بياضُها فيقول: من يأخذ صفراء ببيضاء (4) , وعن أبي عثمان النهدي (5) قال: سَلِمُوا من عند آخرهم إلا رَجل من بَارِق (6) يُدعى غَرْقَدة (7) زال عن ظهر فرس له أشقر كأني انظر إليها تَنفُضُ أعرافَها (8) (9) عُرْياً والغريق طافي فثنى القعقاعُ بن عمرو (10) عنان فرسه إليه وأخذه بيده فجرَّه حتى عبر قال:

_________

(1) الجام: إناء للشراب والطعام. المعجم الوسيط (1/ 149).

(2) في ب "الصفحة".

(3) في ب "بصفحة".

(4) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (9/ 157) , وأخرجه ابن كثير في تفسيره (2/ 129) , بلفظ: "قال رجل من المسلمين -وهو حجر بن عدي-: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو؟ هذه النطفة -يعني دجلة-؟ {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: من الآية 145] , ثم أقحم فرسه دجلة , فلما أقحم أقحم الناس , فلما رآهم العدو قالوا: ديوان , فهربوا".

(5) أبو عثمان النهدي: هو عبدالرحمن بن مل -بكسر الميم وضمها- النهدي , قال أسلمت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأديت إليه ثلاث صدقات ولم ألقه , وغزوت على عهد عمر , قال ابن عبد البر: شهد القادسية وجلولاء وتستر ونهاوند واليرموك ومهران ورستم , يقال أنه عاش في الجاهلية أزيد من ستين سنة وفي الإسلام مثل ذلك وكان يقول بلغت من العمر مائة وثلاثين سنة , وتوفي سنة خمس وتسعين للهجرة , وروى له الجماعة. انظر: الوافي بالوفيات (18/ 168).

(6) بارِق -بكسر الراء-: جبل باليمن , نزله بنو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر فنسبوا إليه. انظر: فتح الباري (6/ 634).

(7) قال ابن حجر في الإصابة (5/ 341): " غرقدة غير منسوب له إدراك , ذكر الطبري في تاريخه أن المسلمين حين عبروا دجلة سلموا عن آخرهم الا رجلاً من بارق يدعى غرقدة زال عن ظهر فرس له شقراء فرمى القعقاع بن عمرو إليه عنان فرسه فأخذ بيده حتى عبره".

(8) في ب "أعراقها".

(9) عرف الفرس: منبت الشعر من العنق. لسان العرب (9/ 236).

(10) القعقاع بن عمرو التميمي: أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والاسلام , له صحبة، شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس , وسكن الكوفة، وأدرك وقعة صفين فحضرها مع علي , وكان يتقلد في أوقات الزينة سيف هرقل (ملك الروم) ويلبس درع بهرام (ملك الفرس) وهما مما أصابه من الغنائم في حروب فارس , وكان شاعراً فحلاً , قال أبو بكر: صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل , توفي نحو 40. الأعلام (5/ 21 - 22).

(1/379)

وما ذهب لهم في الماء شيء إلا قدح كانت علاقته رثَّةً (1) , فانقطعت , فذهب به الماء , فقال الرجل الذي يعاومه صاحبُ القدح: أصابه القدرُ -معزِّياً له- فقال: والله إنِّي لعلى طريقة ما كان (الله) (2) ليَسلُبَني قدحي من بين أهل العسكر , فلمّا عبروا إذا رجل ممن كان يحمي (3) العراصَ وإذا (بالقدح) (4) قد ضربته الرّياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ فتناوله برمحه فجاء به إلى العسكر يعرّفه وأخذه صاحبه (5) , وعن عمير الصائدي (6) قال: "لما أقحم سعدٌ الناسَ في دجلة اقترنوا , فكان سلمانُ قرين سعدٍ إلى جانبه يسايره في الماء , فقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم , والماء يطمُو (7) بهم وما يَزال فرسٌ يستوي قائماً قد أعيا , تنشِزُ له تَلْعَةٌ (8) فيستريح عليها كأنه على الأرض , فلم يكن في المدائن أمر أعجب من ذلك , ولذلك كان يدعى يوم الجراثيم لا يعيي أحدٌ إلا نشزت (له) (9) جرثومة (10) يُريح عليها , وقال حبيب بن صُهبان (11): لمّا عبر المسلمون يوم المدائن دجلة فنظر الفُرسُ إليهم وهم يعبرون فجعلوا يقولون بالفارسية: ديوانان (12) يعنون أنّ هؤلاء مجانين , وقال بعضهم: والله إنكم لم تقاتلوا الإنس وما تقاتلون إلا الجنّ فانهزموا (13) , فهذا في

الفضيلة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من الفضيلة لموسى - صلى الله عليه وسلم - في

_________

(1) الرث: الخَلق البالي. معجم مقاييس اللغة (2/ 384).

(2) لفظ "الله" ليس في ب.

(3) في ب "يحي" , وهو تصحيف.

(4) "بالقدح" ليس في ب.

(5) أخرجه أبو نعيم في الدلائل (2/ 576 - 577) ح 522 , وأخرجه الطبري في تاريخه (2/ 462).

(6) قال ابن حبان في الثقات (8/ 509): "عمير بن عمار الصائدي , يروي عن إبراهيم بن سعد , روى عنه الكوفيون".

(7) طما الماء يطموا طموًّا: ارتفع وعلا وملأ النهر. لسان العرب (15/ 15).

(8) التلعة: ما ارتفع من الأرض. القاموس المحيط ص 913.

(9) "له" ليس في ب.

(10) قال ابن الأثير في النهاية (1/ 722): "في حديث ابن الزّبير (لمّا أراد هدم الكعبة وبناءها كانت في المسجد جراثيم) أي: كان فيها أماكن مجتمعة من تراب أو طين , أراد أن أرض المسجد لم تكن مستوية".

(11) تقدم ذكر ترجمته , انظر: ص 378.

(12) في ب "ديوافان".

(13) أخرجه أبو نعيم بنحوه في الدلائل (2/ 577 - 578) ح 522.

(1/380)

عبور [ق 19/و] البحر , فإنّ ذلك كان في صحبة موسى وأخيه هارون وهما اللذان تقدَّما القومَ , وهذا كان من أصحاب محمّد - صلى الله عليه وسلم - بعد موته بمدّة , وأيضاً فإن التغرير بالنفس في خوض دجلة مع شدّة جريانها وعظم طغيانها أعظم من اقتحام البحر مع سكونه وعدم (1) جنونه , وأيضاً فإن موسى وأصحابه إنما دخلوا البحر لما ضربه موسى - عليه السلام - بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وظهرت أرض البحر فمشوا عليها كما قال (الله) (2) تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: من الآية 77] فلما تبعهم فرعون بجنوده أطبقه الله عليهم وأغرقهم ونجى موسى وأصحابه , وأيضاً فإنّ أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام عبروا البحر وهم مطلوبون خائفون كما قال تعالى عنهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: من الآية 61] , وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا طالبين لعدوّهم , وفرق عظيم بين من يغرّر بنفسه في طلب عدوّه ليقتله وبين من يغرّر بنفسه فارًّا منه في طلب النجاة لئلّا يقتله , وأيضاً فمشي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على وجه الماء أعظم من مشي أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام على أرض البحر اليابسة , فإن المشي على الأرض شيء معتاد معروف بخلاف المشي على وجه الماء.

فأما توريث الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه أموال فرعون وقومه كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: من الآية 137] فليس هذا بأعظم مما ورّث الله تعالى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إكراماً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - , فإن الأرض التي أُورثها موسى وقومه هي أرض فرعون التي كان يحكم فيها لا جميع الأرض التي خلق الله تعالى بدليل قوله: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: من الآية 137] وليس كل الأرض بارك الله فيها , وقد أورث الله تعالى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من آل كسرى ما لا يعد ولا يحصى من الذهب والفضّة والجواهر والأمتعة

والفرش والأواني والعُدد والسلاح والدوابّ إلى غير ذلك من سائر أنواع الجواهر

_________

(1) في ب "عدمه" بزيادة الهاء , وهو خطأ.

(2) لفظ "الله" ليس في ب.

(1/381)

والمزارع والأملاك وغير ذلك , وحُمل ذلك أو معظمه إلى عمر (1) - رضي الله عنه - فلما رآه قال: إنّ قوماً أدَّوا هذا لَذَوُو أمانة , فقال له علي - رضي الله عنه -: إنك عَففت [ق 19/ظ] فعفّت الرعيّة (2) , وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: "والله الذي لا إله إلا هو ما اطّلعنا على أحد من أهل القادسية وما بعدها من المدائن أنّه يريد الدنيا والآخرة ولقد إئتمنا ثلاثة نفر فما رأينا مثل أمانتهم وزهدهم وهم: طُليحة بن خويلد (3) , وعمرو بن معدي كرب (4) , وقيس بن المكشوح (5) (6) " (7) , وكان من جملة ما أصابوه أسفاط (8) فيها تاج كسرى وحلته ووشاحه

ودرعه التي كان يلبس للمباهاة والثياب التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب

_________

(1) في ب تكرار "إلى عمر" , وهو خطأ ظاهر.

(2) أخرجه أبو القاسم التيمي في الحجة (2/ 385) , وأخرجه الطبري في تاريخه (2/ 466) , كما أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 343) , تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي , 1415 , دار الفكر.

(3) هو طليحة بن خويلد الأسدي , متنبئ، شجاع، من الفصحاء، كان يقال له (طليحة الكذاب) , من أشجع العرب، يعد بألف فارس , قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد بني أسد سنة 9 هـ وأسلموا , ولما رجعوا ارتد طليحة وادعى النبوة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ثم قدم زمن عمر - رضي الله عنه - وأسلم بعد أن أسلمت أسد وغطفان كافة , فبايعه في المدينة , ثم شهد طليحة القادسية فأبلى فيها بلاء حسناً , توفي سنة 21. انظر: الاستيعاب (1/ 233 - 234) , الأعلام (3/ 230).

(4) هو عمرو بن معدي كرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي: فارس اليمن، وصاحب الغارات المذكورة , وفد على المدينة سنة 9 في عشرة من بني زبيد، فأسلم وأسلموا وعادوا , ولما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتد عمرو في اليمن , ثم رجع إلى الاسلام، فبعثه أبو بكر إلى الشام، فشهد اليرموك، وذهبت فيها إحدى عينيه , وبعثه عمر إلى العراق، فشهد القادسية , يكنى أبا ثور , وأخبار شجاعته كثيرة , توفي سنة 21. الأعلام (5/ 86).

(5) في أ "المكشوخ" بالخاء المعجمة , وهو تصحيف.

(6) هو قيس بن المكشوح أبو شداد , واختلف في اسم أبيه فقيل: عبد يغوث , وقيل: هبيرة بن هلال وهو الأكثر , قال أبو عمر: إنما قيل له المكشوح لأنه كوي , وقيل: لأنه ضرب على كشحه؛ قيل: له صحبة وقيل: لا صحبة له باللقاء والرؤية , وهو الذي أعان على قتل الأسود العنسي مع فيروز , وهذا يدل على إسلامه في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , له آثار صالحة في قتال الفرس بالقادسية وغيرها وشهد مع النعمان بن مقرن نهاوند ثم قتل بصفين مع علي. وكان فارسا بطلا شاعرا وهو ابن أخت عمرو بن معد يكرب. انظر: أسد الغابة (4/ 425).

(7) أخرجه الطبري في تاريخه (2/ 466) , بلفظ: "ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كالذي هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم ... " , وأخرجه الواقدي في فتوح الشام (2/ 189) , الطبعة الأولى 1417 , دار الكتب العلمية , بيروت؛ بلفظ: "ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فاتبعناهم فعجزنا عن وصف أمانتهم وزهدهم ... ".

(8) السفط: وعاء يوضع فيه الطيب ونحوه من أدوات النساء , ووعاء من قضبان الشجر ونحوها توضع فيه الأشياء كالفاكهة ونحوها. المعجم الوسيط (1/ 433).

(1/382)

المنظوم بالجوهر , وأصابوا أيضاً عَيُبَتَيْنِ (1) في غِلافين (2) , في الواحد منهما خمسة أسياف وفي الأخرى ستة أسياف وأدراع فيها درع كسرى ومغفره (3) وساقاه وساعده ودرع هرقل ودرع خاقان (ودرع دَاهِر (4)) (5) ودرع بهرام (6) ودرع سِيا خُرْس (7) ودرع النعمان (8) كانوا سَبَوْها أيام عزِّهم , فبعث بذلك إلى عمر ليراه المسلمون ويسمع بذلك العرب , ومما وُجد أيضاً سَفَطانِ في إحداهما فرس من ذهب مسرّج بسرج من فضة على ثفره (9) ولبته (10) الياقوت والزمرّذ (11) منظوماً ولجام كذلك وفارسُه من فضة مكلّل بالجوهر , وسَفط فيه ناقة من فضّة عليها شليلٌ (12) من ذهب زمامُها من ذهب وكل ذلك منظوم بالياقوت والجوهر وعليها رجل من ذهب مكلل

بالجوهر كان (13) كسرى يضعهما إلى

_________

(1) العيبة: وعاء من أدم ونحوه يكون فيه المتاع. المعجم الوسيط (2/ 639).

(2) الغلاف: الغشاء يغشى به الشيء. المعجم الوسيط (2/ 659).

(3) المغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة. المعجم الوسيط (2/ 656).

(4) داهر: ملك الهند. الكامل (2/ 361).

(5) "ودرع داهر" ليس في ب.

(6) بهرام: من ملوك الفرس. شذرات الذهب (1/ 196).

(7) في ب "سبا خرس" , وفي تاريخ الطبري (2/ 465) والكامل (2/ 361): "سياوخش" , وهو: سياوخش بن مرهان بن بهرام جوبين , ملك الري. الكامل (2/ 426).

(8) هو النعمان (الثالث) ابن المنذر (الرابع) بن امرئ القيس اللخمي , أبو قابوس: من أشهر ملوك الحيرة في الجاهلية , كان داهية مقداماً , ملك الحيرة إرثاً عن أبيه، وكانت تابعة للفرس، فأقره عليها كسرى فاستمر إلى أن نقم عليه كسرى (أبرويز) أمراً، فعزله ونفاه إلى خانقين، فسجن فيها إلى أن مات نحو 15 ق هـ؛ وقيل: ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته فهلك , وفي صحاح الجوهري: قال أبو عبيدة: إن العرب كانت تسمي ملوك الحيرة -أي كل من ملكها- "النعمان" لأنه كان آخرهم. انظر: الأعلام (8/ 42 - 43).

(9) ثفر الدابة: السير الذي في مؤخر السرج. لسان العرب (4/ 105).

(10) اللبة: ما يُشد في صدر الدابة ليمنع استئخار الرحل. القاموس المحيط ص 170.

(11) في ب "الزمرد" , قال الزبيدي في التاج (9/ 415): "قال ابن قتيبة: دال مهملة , وصوَّب الأصمعي الإعجام , ونقله في البارع -البارع في اللغة لأبي علي القالي- وصححه , وقال بعضٌ بالوجهين".

(12) في أ , ب "تليل" , وفي تاريخ الطبري (2/ 465) والاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء (4/ 247) , تحقيق: د. محمد كمال الدين , الطبعة الأولى 1417 , عالم الكتب, بيروت , كما أثبته؛ والشليل: مِسحٌ من صوف أو شعر يُجعل على عجز البعير من وراء الرحل. لسان العرب (11/ 360).

(13) في ب "وكان" بزيادة الواو.

(1/383)

اسطوانتي التاج , وأقبل رجل بِحُقّ إلى صاحب الأقْباض, في ذلك الحُقّ صنوف من نفيس الجوهر , فقال له صاحب الأقباض ومن كان معه: ما رأينا مثل هذا قط ولا يَعدله ما عندنا ولا يقاربه , وقال للرجل: هل أخذتَ منه شيئاً فقال: أما والله لولا الله ما أتيتُكم به فعرفوا أن للرجل شأناً , فقالوا له: مَن أنت؟ قال: لا والله (لا) (1) أُخبركم , فأتبعوه رجلا حتّى انتهى إلى أصحابه فسأل عنه فإذا هو عامر بن عبدقيس (2) (3).

وأيضاً (4) فإنّ قهر أصحاب موسى - عليه السلام - لفرعون وقومه كان بما أطبقه الله تعالى عليهم من البحر وإغراقهم وقهر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لكسرى وقومه كان بمباشرتهم وسيوفهم ورماحهم وقوّتهم وأسلم من أسلم واستسلم على الجزية والصَّغار [ق 20/و] مَن استسلم فكان أبلغ في النكاية على العدوّ وأعظم لظهور الإسلام وأدحر (5) لمعالم الكفر والطغيان , فأصحاب موسى - عليه السلام - كانوا فارّين من عدوّهم وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا طالبين لعدوّهم وفرق بين هؤلاء وهؤلاء والله يؤيد بنصره من يشاء , وكان ذلك أبلغ مما لو أهلكهم جميعاً فإنه أبقى في أعقابهم الذّلّ والصَّغار ليُعتبر بهم , وجعل ما يؤخذ منهم قوّة للمسلمين وزيادة في أموالهم واستمراراً للذلّة (6) في عدوّهم , ثم إنّ ما علمنا أنّ المسلمين غنموه (7) من آل كسرى أعظم مما علمنا أن أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام غنموه من آل فرعون وذلك أن سعداً - رضي الله عنه - لمّا قسم المغانم بين العسكر جمع

_________

(1) "لا" ليس في ب.

(2) في أ "قيس بن سعد - رضي الله عنه - " , وفي ب "سعد بن قيس" , وفي تاريخ الطبري (2/ 465) والكامل في التاريخ (2/ 362) كما أثبته , وهو: عامر بن عبد الله المعروف بابن عبد قيس العنبري , تابعي، من بني العنبر , وهو من أقران أويس القرني وأبي مسلم الخولاني , مات ببيت المقدس في خلافة معاوية سنة 55. انظر: الأعلام (3/ 252 - 253).

(3) أخرجه بنحوه الطبري في تاريخه (2/ 464 - 465) , وذكره أيضاً أبو الحسن الشيباني في الكامل (2/ 361 - 362).

(4) في ب "أيضاً" بدون الواو.

(5) في ب "وأدخر": أي أصغر وأذل. المعجم الوسيط (1/ 274).

(6) في ب "للذة" , وهو تصحيف.

(7) في ب "غنموا" , وهو خطأ.

(1/384)

كل شئ (أراد) (1) أن يتعجّب منه عمر من ثياب كسرى وحليه وسيفه وغير ذلك مما كانت العرب تعجب أن يقع إليهم (2) ويصير بأيديهم , فمن ذلك أنه أخرج بساطاً يعرف بالقطيف (3) مقدار سَعته جريبٌ أرضُهُ مُذهبَةٌ فيه صور (4) مختلفة ووشي وفصوص كالنُوار (5) في خلالها صُور النخل والشجر وفي حافاتها طُرْزٌ كالأرض المزروعة والأرض المُبقِلة بالنبات في الربيع معمولاً بالحرير وعليه قضبان من ذهب ونُواره معمول بالذهب والفضة وغرائب الألوان البديعة , كان كسرى يبسطه في الشتاء إذا ذهب النوار والرياحين ويَشرب عليه مع رجاله كأنهم في روضةٍ , فلم تَعتدل قسمته فقال سعد للمسلمين: هل لكم في أن تطَّيبوا نَفْساً على أربعة أخماسه ونبعثه إلى عمر ليضعه حيث يرى فإنا (6) لا نراه تتّفق قسمته علينا وهو قليل بيننا وسيقع من أهل المدينة موقعاً فقالوا: نعم (7) , وبعث به سعد إلى عمر رضي الله عنهما فلما قدم عليه بالمدينة جمع الناس فاستشارهم بالبساط وأخبرهم خبره فمن بين مُشير عليه بقبضه وآخر مُفوِّض إليه وآخر متوقف فقام علي - رضي الله عنه - فقال له: إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت , أو لبست فأبليت , أو أكلت فأفنيت , فقال: صدقتني , فقطَّعه وقسمه بين الناس وقال: إن الأخماس يُنفِّل منها (8) من شهد ومن غاب من أهل البلاء فأصاب عليّاً (9) قطعةٌ من البساط فباعها بعشرين ألفاً وما هي بأجود تلك القطع (10) [ق 20/ظ] ولما أُتي (11) عمر - رضي الله عنه -

بحلي كسرى

_________

(1) "أراد" ليس في ب.

(2) في ب "عليهم" , وهو خطأ.

(3) القطيف: بساط واحد طوله ستون ذراعاً وعرضه ستون ذراعاً كانت الأكاسرة تعده للشتاء. الكامل (2/ 362).

(4) في ب "صوره" , وهو خطأ.

(5) النوار: الزهر , واحدته نوارة. المعجم الوسيط (2/ 962).

(6) في ب "فإنه" , وهو خطأ.

(7) أخرجه بنحوه الطبري في تاريخه (2/ 466 - 467).

(8) في ب "فيها".

(9) في ب "فأصاب عليه" , وهو تصحيف.

(10) أخرجه بنحوه الطبري في تاريخه (2/ 467).

(11) في ب "إلى" , وهو تصحيف.

(1/385)

وزيّه في المباهاة وزيّه في غير المباهاة وكان له عند كل حالة زيّ قال: عَلَيَّ بمُحَلِّمٍ (1) , وكان من أجسم عربي يومئذ بالمدينة , فأُلبس تاجَ كسرى على عمودين وخشب , ثم صبّ عليه أوشِحَتُه وقلائده وثيابه وأجلس للناس , فنظر إليه عمر والناس معه فرأوا أمراً عظيماً من أمر الدّنيا وفتنتها , ثم قام عن ذلك فألبس زيّاً آخر فنظروا إلى مثل ذلك في غير ما نوع , ثم ألبس سلاحه وقلّد سيفه فنظروا إليه في ذلك , ونفّل عمر - رضي الله عنه - مُحَلِّماً سيف كسرى وقال: أحمِق بامرئٍ من المسلمين غرّته الدنيا هل يبلغنّ مغرور منها إلا دون هذا ومثلَه (2)؛ فهذا الذي أوتي محمد عليه الصلاة والسلام أعظم مما أوتي موسى عليه الصلاة والسلام من فلق البحر وميراث آل فرعون , ثم إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لما فرغوا من هذه الغزوة وبعثوا الأموال إلى عمر - رضي الله عنه - توجّهوا إلى غزوة أخرى وهي الوقعة المعروفة بجَلُولاء وغيرها لا يَشغلهم ما أصابوا من الأموال والأنفال عن غزو أعداء الله تعالى والجهاد في سبيل الله تعالى , وقوم موسى عليه الصلاة والسلام لمّا نجوا من البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة , قال: إنكم قوم تجهلون , إنّ هؤلاء متبّر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون , وأصحاب (محمد) (3) - صلى الله عليه وسلم - لما فرغوا من أمر الفرس وانتهى سعد - رضي الله عنه - إلى إيوان (4) كسرى ورأى المدائن وخُلُوَّها وما تركوا فيها فقرأ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25 - 28] فصلى سعد - رضي الله عنه - في الإيوان صلاة (5) الفتح ثمان ركعات لا يفصل بينهنّ (6) , وأتم الصلاة

_________

(1) قال الكلاعي في الاكتفاء (4/ 250): " هكذا وقع ذكر محلم في هذا الحديث ولا أعرف ولا أعلم في ذلك الصدر من اسمه محلم إلا محلم بن جثامة ويقال إنه توفي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقصته في الدم الذي أصابه والعفو عند وجوب القود ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مثل بين يديه قصة مشهورة , وقد قيل: إنه عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فالله أعلم

, وكذلك قيل: إن الذي ألبسه عمر سواري كسرى هو سراقة بن مالك المدلجي".

(2) أخرجه بنحوه الطبري في تاريخه (2/ 467).

(3) "محمد" ليس في ب.

(4) الإيوان والإوان: مجلس كبير على هيئة صفة واسعة لها سقف محمول من الأمام على عقد يجلس فيها كبار القوم. المعجم الوسيط (1/ 33).

(5) في ب "وصلاة" بزيادة الواو.

(6) أخرجه الطبري بنحوه في تاريخه (2/ 463 - 464).

(1/386)

يوم دخل المدائن لأنه أراد المقام بها , وكانت أول جمعة جمعت بالمدائن , واتّخذ سعد - رضي الله عنه - الإيوان مصلّى للأعياد واتخذ فيه منبراً؛ فقد تبين فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - على موسى - صلى الله عليه وسلم - وفضل أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمة موسى - صلى الله عليه وسلم - , وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً.

فإن قيل [ق 21/و]: إنّ موسى عليه الصلاة والسلام أتى فرعون وقومَه بالعذاب الأليم الجراد والقمل والضفادع والدّم على ما أخبر الله تعالى في كتابه , قلنا: نعم هو كذلك وكان لموسى عليه الصلاة والسلام من المنزلة أعظم من هذا , ولكن لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ذلك , فإنّ قريشاً لمّا عتوا وتجبّروا ولم يجيبوا (1) إلى الإسلام دعا عليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعينه عليهم بسنين كسني يوسف فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مُضَر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (2) , فتوالت عليهم السنون بالجَدْب حتى أكلوا العظام والجيف وكان أحدهم ينظر فيما بينه وبين السّماء فيرى كهيئة الدّخان قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: من الآية 11] (فقالوا) (3): {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان: 12] فقال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 15 - 16] يعني: يوم بدر فإنه لما كشف عنهم

العذاب في الأولى عادوا إلى كفرهم فسلّط الله تعالى عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فانتقم منهم بأن جعل هلاكهم بسيفه , فشفى صدره وصدور (4) المؤمنين منهم (5).

_________

(1) في ب "يحببوا".

(2) أخرجه البخاري (1/ 160) , كتاب الأذان , باب يهوي بالتكبير حين يسجد , 804؛ وأخرجه مسلم (1/ 466) , بنحوه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة , باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة , ح 675.

(3) "فقالوا" ليس في ب.

(4) في ب "وصدر".

(5) تقدم تخريجه , انظر: ص 334.

(1/387)

فإن قيل: إن موسى - عليه السلام - أنزل الله عليه وعلى قومه المن والسلوى وظلّل عليهم الغمام , قلنا: لمحمّد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ذلك فإنّ المنّ والسلوى رزق رزقهم الله تعالى كُفُوا فيه السّعي والاكتساب على ماكانوا قد منعوا منه من الطيبات كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: من الآية 160] وكانوا لما أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى محصورين في التّيه يتيهون , فهي (1) نعمة في طيّ نَقِمَةٍ تفضّلاً من الله تعالى عليهم , فإنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم ولا يمنع عاصياً رزقَه المكتوب له لأجل معصيته , فإنه لابدّ له من القوت أيّام حياته مطيعاً وعاصياً.

فأما محمّد - صلى الله عليه وسلم - (فإنه) (2) ما أملق (3) أصحابه أو عطشوا إلا دعا لهم (4) بالبركة في الطعام والشراب حتى يكتفوا ويفضل عنهم وكان في ذلك [ق 21/ظ] فضيلة أخرى وهي جعل البركة في القليل حتى يكفي النفر الجليل , فقد كان يصيب أصحابَه الفاقَةُ في غزواتهم ويَقلّ عليهم الطعام والماء فيدعو بما يكون قد بقي معهم من ذلك , فيوجَد الشيء اليسير فيدعو فيه فيبارَك فيه حتى يأكلوا ويشربوا ويكتفوا ويفضل منهم (5) كما هو مستفيض في المنقول , وأحلّ لهم الغنائم ولم يحلّ لأحد كان قبلهم رحمةً لهم ولطفاً بهم لأنّه رأى ضعفهم فأحلّها (6) لهم وقوّاهم بها على عدوّهم وعلى أمور دينهم ودنياهم , فأدّوا الأمانة فيما أمروا به من اجتناب الغلول (7) وحمل ما يحصل من الغنائم إلى الإمام

ورضاهم بما يحصل لهم بالقسمة كما ذكرنا من خبر قيس بن سعد (8) حين وَجَدَ الحُقَّ

_________

(1) في ب "في".

(2) "فإنه" ليس في ب.

(3) أملق إملاقاً: افتقر واحتاج. المعجم الوسيط (2/ 885) , المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي (2/ 579) , لأحمد الفيومي , المكتبة العلمية , بيروت.

(4) في ب "دعاهم" , وهو خطأ.

(5) في ب "فيهم".

(6) في ب "فأحلت".

(7) الغلول: وهو الخيانة في المغنم والسرقة من الغنيمة قبل القِسمة. يقال: غَلَّ في المغنم يَغُلُّ غُلولاً فهو غَالٌّ. وكلُّ مَن خان في شيء خفية فقد غَل. وسُمِّيت غُلولاً لأن الأيدي فيها مغلولة: أي ممنوعة مجعول فيها غلٌّ وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه. النهاية (3/ 717).

(8) تقدم ذكر أن الخبر لعامر بن عبدقيس , وليس قيس بن سعد - رضي الله عنه - , انظر: ص 384.

(1/388)

الذي فيه من الأموال ما تستغني به عِدَةُ أهل أبياتٍ غِنَى الأبد فردَّهُ وقال لهم: لولا الله ما رأيتموه؛ وأما قوم موسى - عليه السلام - فإنه يكفل لهم بأن المنّ (1) والسلوى ينزل عليهم كل يوم قدر كفايتهم وأمرهم أن لا يدّخروا شيئاً فخانوا وخالفوا (2) وادخروا فأنتن ما ادخرُوا وَدَادَ (3) وفسد فقطعه الله تعالى عنهم كما جاء في الحديث: «لولا بنوا إسرائيل لم يخنز اللحم وَلولا حوّاء لم تخن أنثى زوجَها الدهرَ» (4) فأين هؤلاء من هؤلاء؟ ! وأبلغ من ذلك أنّ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يخرجون في غزواتهم فيحصل لهم الحاجة فيجدون ما يكفيهم ويفضل كالذين خرجوا إلى ساحل البحر وقلّت أزوادهم فوجدوا حوتاً قد قذفه البحر فأكلوا منه شهراً وادّهنوا حتى سمنوا (5)؛ وأما دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لأحاد من الناس بالبركة

ونحو ذلك فيضيق الوقت عن حصْرِه كَعُكّة (6) أم سُلَيم التي أهدت له (فيها) (7) سمناً

_________

(1) في ب "يكفل لهم بالمن".

(2) في ب "أن لايدخروا فخالفوه".

(3) في هامش أ "أي صار فيه الدود".

(4) أخرجه البخاري (4/ 154) , كتاب أحاديث الأنبياء , باب قول الله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] , ح 3399؛ وأخرجه مسلم (2/ 1092) , كتاب الرضاع , باب لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر , ح 1470 , بلفظ: "لولا بنو إسرائيل , لم يخبث الطعام , ولم يخنز اللحم , ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر".

(5) أخرجه مسلم (3/ 1535) , كتاب الإمارة , باب إباحة ميتات البحر , ح 1935 , من طريق أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - , بلفظ: "بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمَّر علينا أبا عبيدة , نتلقى عيراً لقريش , وزوَّدنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره , فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة , قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي , ثم نشرب عليها من الماء , فتكفينا يومنا إلى الليل , وكنا نضرب بعصينا الخبط , ثم نبله بالماء فنأكله , قال: وانطلقنا على ساحل البحر , فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم , فأتيناه فإذا هي دابة تُدعى العنبر , قال: قال أبو عبيدة: ميتة , ثم قال: لا , بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وفي سبيل الله , وقد اضطررتم فكلوا , قال: فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاث مائة حتى سمنا , قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن , ونقتطع منه الفدر كالثور , أو كقدر الثور , فقلد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً , فأقعدهم في وقب عينه , وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا , فمر من تحتها وتزونا من لحمه وشائق , فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فذكرنا ذلك له , فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم , فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا» , قال: فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله".

(6) عُكّة بضم العين وتشديد الكاف: وعاء صغير من جلد للسمن خاصة. شرح النووي على مسلم (13/ 219).

(7) "فيها" ليس في ب.

(1/389)

فردّها ولم يعصرها فكانت كلّما أرادت (1) سَمْناً أخذت منها حتى عصَرتها ففني فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لو لم تَعصرها لأخذَتْ منها وقام لها أدم بيتها ... » الحديث (2) , وكجراب أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي كان فيه دون عشرين تمرة فدعا فيه بالبركة فأكل وجهّز في سبيل الله كذا وكذا وسقا وبقي يأكل منه ويطعم إلى أن قتل عثمان [ق 22/و] بن عفّان - رضي الله عنه - ففقد الجراب في تلك الواقعة (3) , وكشعير عائشة رضي الله عنها الذي دعا فيه فكانت تأكل منه حتى كالته ففني (4) وهذا باب واسع؛ وأيضاً فإنّ بني إسرائيل لمّا رزقوا المنّ والسّلوى كانوا (5) محجوراً عليهم في التّيه , معاقَبين (6) على مخالفة الأمر بالدخول إلى الأرض المقدّسة لما

احتجوا بأنّ فيها قوماً جبّارين , فقالوا: إنّا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها , وقالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون , فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض , فجعلهم يتيهون في أرض التّيه تلك المدّة , فهذا كان حالهم لما أنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى وأصحاب نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - لمّا أمرهم بالقتال قالوا: اوْمُرْنا بما شئت فوالله لو

_________

(1) في ب "أراد" بدون تاء التأنيث.

(2) أخرجه مسلم (4/ 1784) , كتاب الفضائل , باب في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - , ح 2280 , من طريق جابر - رضي الله عنه - , بلفظ: "أن أم مالك كانت تهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عكة لها سمناً , فيأتيها بنوها فيسألون الأُدم , وليس عندهم شيء , فتعمد إلى الذي كانت تُهدي فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - , فتجد فيه سمناً , فما زال يقيم لها أُدم بيتها حتى عصرته , فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «عصرتيها» , قالت: نعم , قال: «لو تركتيها ما زال قائماً».

(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (14/ 276) ح 8628 , من طريق أبي العالية عن أبي هريرة , بلفظ: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً بتمرات , فقلت: ادع الله لي فيهن بالبركة , قال: فصفَّهن بين يديه , قال: ثم دعا , فقال لي: «اجعلهن في مزود , فأدخل يدك ولا تنثره» قال: فحملت منه كذا وكذا وسقاً في سبيل الله , ونأكل , ونُطعم , وكان لا يفارق حقوي , فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - انقطع عن حقوي فسقط"؛ وأخرجه الترمذي (5/ 685) , بنحو لفظ المسند في أبواب المناقب , باب مناقب أبي هريرة - رضي الله عنه - , ح 3839 , وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه , وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي هريرة" , وقال الألباني: " حسن الإسناد". صحيح سنن الترمذي (3/ 560) , للإمام الألباني , الطبعة الأولى 1420 , مكتبة المعارف , الرياض.

(4) أخرجه البخاري (8/ 96) , كتاب الرقاق , باب فضل الفقر , ح 6451؛ وأخرجه مسلم (4/ 2282) , كتاب الزهد والرقائق , ح 2973 , عن عائشة رضي الله عنها , بلفظ: "لقد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد , إلا شطر بعير في رف لي , فأكلت منه , حتى طال عليَّ , فَكِلته ففني".

(5) في ب "كان".

(6) في ب زيادة "كانوا" قبل "معاقَبين".

(1/390)

أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها , ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا , إنّا لا نقول كما قال أصحاب موسى لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا (إنّا هاهنا قاعدون , بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا) (1) إنا معكم مقاتلون (2) , وقد تقدم هذا المعنى؛ فكان ما أعطي أصحاب موسى - عليه السلام - في مقام الرحمة , وما أعطي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في مقام الكرامة والنعمة.

فإن قيل: إن موسى - عليه السلام - أعطي العصا لما حضرت السّحرة وألقوا حبالهم وعصيّهم ألقى موسى - عليه السلام - عصاه فتلقفت ما صنعوا واستغاث فرعون بموسى (3) - عليه السلام - رهبة وفرقاً منها , قيل: فقد أُعطي (4) محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ذلك , وذلك أن أبا جهل بن هشام قال: يا معشر قريش إن محمّداً قد أبى إلا ماترون من عيب ديننا , وشتم آبائنا , وتسفيه أحلامنا , وسبّ آلهتنا , وإني أعاهد الله لأجلسنَّ له بحجر قدر ما أطيق حَمله , فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسَه , فأسلموني (عند ذلك) (5) أو امنعوني , فليصنع بنو عبد مناف ما بدا لهم , قالوا: لا والله لا نُسْلِمُكَ لشيء أبداً فاصنع ما تريد , فلما أصبح أبو جهل أخذ حجراً كما وصف وجلس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان يغدو , فقام يصلّي وقد قعدت قريش في أنديتهم [ق 22/ظ] ينتظرون ما أبو جهل صانع , فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دَنا منه رجع مَبْهوُتاً , مُنتقعاً لونه مَرْهُوباً , قد يبسَتْ يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده

, وقامت (6) إليه رِجَالاتُ قريش وقالوا: مالك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلتُ لكم البارحة , فلما دنوت منه عَرض لي دونه فحل من الإبل , (لا) (7) والله ما

_________

(1) ما بين القوسين ليس في ب.

(2) أخرجه الطبري في تفسيره (10/ 185) , قال الألباني: "وهذا إسناد مرسل صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين". انظر: هامش السلسلة الصحيحة (9/ 121) ح 3341.

(3) في ب "لموسى".

(4) في ب "قيل فأعطي" بدون "قد".

(5) "عند ذلك" ليس في ب.

(6) في ب "ثم قامت".

(7) "لا" ليس في ب.

(1/391)

رأيت مثل هامته ولا قَصَرته ولا أنيابه , فهمّ أن يأكلني , فيُذكر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذاك جبريل لو دنا منّي لأخَذَه» (1) , وفي رواية أخرى: فلمّا أتاه وهو ساجد رفع يده وفيها الفِهرُ ليَدْمغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (زعم) (2) , فيبست يده على الحجر (3) , فلم يستطع إرسال الحجر من يده , فرجع إلى أصحابه فقالوا: أجَبُنتَ عن الرجل؟ ! فقال: لم أفعل , ولكن هذا في يدي لا أستطيع إرسالَه , فعجبوا من ذلك فوجدوا أصابعه قد يبست على الحجر فعالَجوها حتى خلصوها وقالوا: هذا شيء يُراد (4) , وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل (5): هل يغفّر محمّدٌ وجهه بين أظهركم , فقيل: نعم , (فقال) (6): واللات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته أو لأعفِّرنَّ وجهه في التراب -قال-: فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي زعم لِيَطَأ على رقبته , فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيديه (7) -قال-: فقيل له: مالك , قال: إنّ بيني وبينه لخندقاً من نار وهَولاً وأجنحةً , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو دَنا مني لاختطفته الملائكة عُضواً عضواً ... » الحديث (8)؛ فكيد سحرة فرعون وإن كان عظيماً فإنه كان لأجل فرعون إما رغبة وإمّا رهبة فلا يوازي كيد أبي جهل إذ كان يجهد لنفسه بنفسه في أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليَشفي غيظ قلبه منه , وليس من يسعى ويجهد لغيره في القوّة كمن يسعى لنفسه , ثم إن من نُصر به محمد - صلى الله عليه وسلم - كان جبريل والملائكة عليه وعليهم السلام كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو دنا منّي لاختطفتهُ الملائكةُ [ق 23/و] عضواً عضواً» (9) ,

_________

(1) أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 65) , وأخرجه بنحوه أبو نعيم في الدلائل (1/ 205) ح 156.

(2) "زعم" ليس في ب.

(3) في ب "حجره".

(4) أخرجه بنحوه أبو نعيم في الدلائل (1/ 199) ح 152.

(5) في ب "أبو جعفر" , وهو خطأ.

(6) "فقال" ليس في ب.

(7) في ب "ببدنه" , وهو تصحيف.

(8) أخرجه مسلم (4/ 2154) , كتاب صفة القيامة والجنة والنار , باب قوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7] , ح 2797.

(9) تقدم تخريجه في الحديث السابق.

(1/392)

فهو أعظم مما نُصِر به موسى عليه الصلاة والسلام فإنه كان الثعبان المنقلب عن العصا وبينه وبين جبريل بَوْنٌ [بعيد] (1) عظيم.

فإن قيل: انقلاب العصا الجماديّة ثعباناً حيّاً آية عظيمة وفضيلة جسيمة لموسى - عليه السلام - , قيل: لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أمثالها وأعظم فإنه قد سبّح الحصى في يده وفي يد أصحابه (2) فهذه حياة في جمادٍ ونطق بتسبيح يسمعه من حَضر , وكذلك سبح الطعام وهو يؤكل بحضرته (3) , والأحجار قد سلمت عليه (4) , والأشجار قد دعاها فأقبلت

إليه (5) , وكذلك العذق دعاه فنزل من رأس النخلة ينقز حتى وقف بين يديه فشهد برسالته ثلاثاً

_________

(1) "بعيد" زيادة من ب.

(2) أخرجه البيهقي في الدلائل (6/ 207) ح 2314 , من طريق أبي ذر - رضي الله عنه - , بلفظ: "لا أذكر عثمان إلا بخير بعد شيء رأيته، كنت رجلا أتتبع خلوات رسول - صلى الله عليه وسلم - وسلم فرأيته يوماً جالساً وحده، فاغتنمت خلوته فجئت حتى جلست إليه، فجاء أبو بكر فسلم ثم جلس عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء عمر فسلم فجلس عن يمين أبي بكر، ثم جاء عثمان فسلم ثم جلس عن يمين عمر، وبين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع حصيات، أو قال: تسع حصيات، فأخذهن فوضعهن في كفه فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل , ثم وضعهن فخرسن , ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن". وأخرجه أبو نعيم بنحوه في الدلائل (2/ 163) ح 522 , وأخرجه البزار بنحوه في مسنده من طريق سويد بن زيد عن أبي ذر (9/ 431) ح 440 , ومن طريق جبير بن نفير عن أبي ذر (9/ 434) ح 4044 , قال الهيثمي: "رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات وفي بعضهم ضعف". مجمع الزوائد (8/ 527) ح 14103 , وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (2/ 543) ح 1146 , قال الألباني: "حديث صحيح , ورجال إسناده ثقات غير عبدالحميد بن إبراهيم وهو أبو تقي فيه ضعف من قبل حفظه , ولكنه قد توبع". السنة لابن أبي عاصم لأبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم , ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة (2/ 543) , لمحمد ناصر الدين الألباني , الطبعة الأولى 1400 , المكتب الإسلامي , بيروت.

(3) أخرجه البخاري (4/ 194) , كتاب المناقب , باب علامات النبوة في الإسلام , ح 3579 , من طريق عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - , بلفظ: "كنا نعد الآيات بركة , وأنتم تعدونها تخويفاً , كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر , فقَل الماء , فقال: «اطلبوا فضلة من ماء» , فجاءوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء , ثم قال: «حيَّ على الطهور المبارك , والبركة من الله» , فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل".

(4) تقدم تخريجه , انظر: ص 374.

(5) تقدم تخريجه , انظر: ص 372.

(1/393)

ثم عاد ينقز إلى مكانه (1) , وكذلك حنّ الجذع اليابس إليه حين فارقه فلمّا جاءه واحتضنه سكن (2).

فإن قيل: إن موسى - عليه السلام - لما وفد بخيار قومه وهم سبعون نَفْساً إلى الله تعالى وكانوا من أفاضلهم فلمّا صاروا في البَرِّيَّةِ غلب رَوحُ القُرْبة على قلبه , وتحقق صدق الإجابة , وظاهَرَهُ قوة الوصول , أسرَعَ إلى ربّه ناسياً لقومه لما وجد من الوله قاصداً للمناجاة فقال الله تعالى (له) (3): {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى} [طه: 83] فقال: {هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: من الآية 84] , وهذه حالة شريفة خصّ بها موسى عليه الصلاة والسلام دون سائر المرسلين عليهم السلام , عبّر عن نفسه ودلّ على قصده ومراده , قيل: إنّ الله عظّم شأن محمّد - صلى الله عليه وسلم - في آيتين أعلمه (فيهما) (4) رضاه عنه وأعطاه سؤله ومناه من غير سؤال منه ولا رغبة تقدمت منه فقال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: من الآية 144] , وقال في الآية الأخرى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضُّحى: 5] فمنحه رضاه وأعطاه مُناه في جميع مايهواه ويتمنّاه , وغيرُه من الأنبياء عليهم السلام سألوا وطلبوا رضى مولاهم , وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لما أنزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: من الآية 51] قلتُ: ما أرى ربّك إلا يسارع في هواك" (5) , وخصه مع الرضى بالرحمة والرأفة [ق 23/ظ] فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... } الآية [آل عمران: 159] وكان رقيق القلب , وأمر الله تعالى

_________

(1) تقدم تخريجه , انظر: 373.

(2) تقدم تخريجه , انظر: ص 372.

(3) "له" ليس في ب.

(4) "فيهما" ليس في ب.

(5) أخرجه البخاري (6/ 117) , بنحوه في كتاب تفسير القرآن , باب قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب: من الآية 51] , ح 4788.

(1/394)

موسى - عليه السلام - بالملاينة لفرعون لما كان فيه من الفظاظة والغلظة وقال له ولأخيه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: من الآية 44] , وذكر عن محمّد - صلى الله عليه وسلم - الملاينة والرأفة وأمره بضدّها فقال: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: من الآية 73] وإنّ لكلّ مقام مقالاً , والذي اشتهر من حال موسى عليه الصلاة والسلام الحدّة وقلة التماسك عند ورود الملمات عليه كما فعل في إلقاء الألواح وفي أخذه برأس أخيه ولحيته وجرّه إليه , وروى زيد بن (أسلم) (1) عن أبيه: "أن موسى - عليه السلام - كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته ناراً" من شدّة غضبه ذكره الثعلبي (2) , ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بُولغ في أذاه وفي خِلافه (3) وعداوته حتى ألقوا على ظهره السَّلا والفرث والدّم وهو ساجد , وضربوه حتّى أدموه إلى غير ذلك من أصناف الأذى فعلاً وقولاً , فقال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (4) , فكان عاقبة الصّبر النصر , وأثنى الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - في سَعَةِ خُلقه وحسن سيرته وجميل صبره فقال: {وَإِنَّكَ (5) لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]؛ وأما شوقهُ - صلى الله عليه وسلم - إلى ربّه تعالى ولقائه (فإنّه) (6) حين جاءه (7) نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً , وأكمل له الدّين وأتم عليه النعمة , وكان العيش عند ذلك مطلوباً وطول البقاء في الدنيا محبوباً مَرِض فَخُيّر بين الحياة وبين لقاء رَبّه , فاختار لقاء ربّه ولم يزل يقول: «الرفيق الأعلى» (حتى) (8) قُبض - صلى الله عليه وسلم - (9) , وموسى

_________

(1) "أسلم" ليس في ب.

(2) لم أقف عليه في كتب الثعلبي , وقد أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (61/ 161) , وذكره ابن القيم في الروح (1/ 234) , 1395 , دار الكتب العلمية , بيروت.

(3) في ب "بولغ في أذاه بخلافه".

(4) أخرجه البخاري (4/ 175) , كتاب أحاديث الأنبياء , باب حديث الغار , ح 3477.

(5) في ب {إِنَّكَ} بدون الواو.

(6) "فإنه" ليس في ب.

(7) في ب "جاء" بدون الهاء.

(8) "حتى" ليس في ب.

(9) أخرجه البخاري (6/ 10) , كتاب المغازي , باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته , ح 4438 , من طريق عائشة رضي الله عنها , بلفظ: «في الرفيق الأعلى»؛ وأخرجه مسلم (4/ 1894) , كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم , باب في فضل عائشة رضي الله تعالى عنها , ح 2444 , بلفظ: «اللهم الرفيق الأعلى».

(1/395)

عليه الصلاة والسلام لمّا حضره ملك الموت ليقبض رُوحَه لطمه ففقأ عينه كما ثبت ذلك في الصحيح , فرجع ملك الموت (إلى ربّه) (1) فقال: "ياربّ إنّك أرسلتني إلى عبد لك لايحب الموت وقد فقأ عيني فردّ الله عليه عينه ... " الحديث (2)؛ ثم أين أصحاب موسى الذين اختارهم لميقات ربّه ثم تهجّموا على ربهم فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة , فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعاً فقال [ق 24/و] موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي , أتهلكنا بما فعل السفهاء منا , رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل (3) وقد أهلكت خيارهم , فلم يزل موسى يناشد ربَّه حتى أحياهم الله - عز وجل - (جميعاً) (4) رجلاً بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض (5) كيف يُحيَوْن فذلك قوله - عز وجل -: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56] (6) فهؤلاء الذين اختارهم موسى من قومه , وقد روى أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا راح منّا إلى الجمعة سبعون رجلاً كانوا كالسبعين الذين وفدوا مع موسى - عليه السلام - وأفضل» (7) , وأما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الإيمان كان أرسخ في (8) قلوبهم من الجبال الراسيات , منهم من يغرر بنفسه ومالِه في نصرة الدين , ومنهم من يهجر ولده , ومنهم من يطلق زوجته , ومنهم من يقتل قريبه ونسيبه , ومنهم مَن يُعْرَض على القتل فيختار القتل والموت على الإسلام

_________

(1) "إلى ربه" ليس في ب.

(2) أخرجه البخاري (2/ 90) , كتاب الجنائز , باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة أو نحوها , ح 1339؛ وأخرجه مسلم (4/ 1842) , كتاب الفضائل , باب من فضائل موسى - صلى الله عليه وسلم - , ح 2372 , من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - , بلفظ: " أُرسل ملك الموت إلى موسى - عليه السلام -، فلما جاءه صكَّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، قال: فرد الله إليه عينه ... " واللفظ لمسلم.

(3) في ب تكرار "إلى بني إسرائيل" , وهو خطأ.

(4) "جميعاً" ليس في ب.

(5) في ب "ينظر بعضهم بعضاً".

(6) انظر: تفسير الثعلبي (1/ 199 - 200).

(7) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/ 244) ح 799 , قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه أحمد بن بكر البالسي , قال الأزدي: كان يضع الحديث" مجمع الزوائد (2/ 395) ح 3078؛ وقال الألباني: "موضوع". ضعيف الجامع الصغير (1/ 71) ح 1512.

(8) في ب "إلى".

(1/396)