الأربعاء، 3 مايو 2023

ج3.وج4. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي

ج3.وج4. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي

وفي لفظ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا -أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا- وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ، وَأَنَّهُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، قالَ: فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ البُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا» إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ،
فَلَمَّا رَآهُ كَرِه أَكْلَهَا، قَالَ: «كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي».
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: عَنِ ابنِ وَهْبٍ أُتِيَ بِبَدْرٍ -وَقَالَ ابنُ وَهْبٍ: يَعْنِي بِالبَدْرِ الطَّبَقِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ القِدْرِ ولاَ أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الحَدِيثِ؟
وقال عبد العزيز: سُئِلَ أَنَسٌ: مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ فِي الثُّومِ؟ فَقَالَ: قَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبْنَا ولاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا».

(2/207)


وعند أبي القاسم في «الأوسط»: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْخَضْرَوَاتِ البَصَلِ وَالثُّوْمِ وَالكُرَّاثِ وَالفِجْلِ» وقال: لم يروه عن هشام بن حسان -يعني عن أبي الزبير- إلا يحيى بن راشد البراء تفرد به سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنا أحمد بن حماد بن رغبة، وذكر المسعودي في كتاب «العجائب»: عن أنس بن مالك قال: «دخلتُ معَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حديقةً لعثمانَ بنِ عفان، فوقفَ على الكراث فقال: نِعم البقلةُ، ألا مَن أكلها فلا يأكلْها حتى يأكلَ مثلَها من غيرها، ثم وقف على الفجل فقال: نعم البقلةُ ألا من أكلها فلا يأكلها حتى يأكل مثلها من غيرها، ثم تُفَتَّحُ السُّدَد وتطرد الريح، كلوا ما كبر من أوراقها وصغر من أسفلها» الحديثَ. علقه البخاري عن أحمد بن صالح أخرجه مسندًا في كتاب «الاعتصام»، وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي الطاهر وحرملة عن ابن وهب بقدر ما قال ابن قُرْقُولٍ، والصواب بِبَدْرٍ، وشُبِّهَ الطَّبَقُ بالبدر لاستدارته.
وقال القرطبي: استدل بعضهم به على كراهة ما له من ريح من البقول وإن طُبِخَ، وليس ذلك بصحيح ولو قدرناه بِقَدر يكون معناه: أن الطبخ لم يُمِتْهُ طبخًا فبقيت رائحته وهو المعنى المكروه منه.
وعند ابن التين: نَتْنَهُ ورويناه بفتح النون قال: وضبط في بعض الكتب بكسرها قال: ولا أعلم له وجهًا و (الخَضِرَات) قال: ورويناه بفتح الخاء وكسر الضاد، قال: وضبطه بعضهم بضم الخاء وفتح الضاد، قال ابن قُرْقُولٍ: كذا ضبطه الأَصِيلي والمعروف الأول والتي بكسر النون والهمزة، قال القَزَّازُ: إذا لم ينضج بَيِّنُ النُّيُوءِ - مثل البيوع - وقد أنأْتُه إناءة، وحكى عياض عن بعض العلماء أن النهي خاص بمسجد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلا يقربن مسجدنا وكأنه غفل عن قوله المساجد، وعند أهل الظاهر هذه البقول محرمة الأكل، لأنها تمنع من حضور الجماعة وهي عندهم فرض عين، والحجة للجمهور.

(2/208)


وقوله: (كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لا تُنَاجِي) قال عياض: ويلتحق به من أكل فجلًا وتحشَّى. انتهى.
قد أسلفنا وروده في الحديث فلا حاجة إلى ذكره قياسًا، وقال ابن الْمُرَابِط في كلامه: قال البخاري: ويلتحق به من به بَخْرٌ أو جراحةٌ لها رائحة، وعند القرطبي
استدلَّ بعض العلماء بهذا على أن من يتكلم في الناس ويؤذيهم بلسانه في المسجد أنه يُخْرَجُ منه ويُبْعَدُ عنه، قال: وهذا الحديث أصلٌ لكلِّ من يتأذى به، وقد وردت أحاديث يدل ظاهرها على المعارضة أو النسخ، منها ما أخبرنا به الأئمة المقرئ موسى القطبي والْمُجِدَّانِ ابنُ غالي والصَّيْرفيُّ قراءة عليهم وأنا أسمع، قالوا: أخبرنا عبد اللطيف الحراني قراءة عليه إلا ابن غالي فإنه قال: أجازه عن اللبَّان والجَمَّال والكاغِدي، قالوا: أخبرنا أبو علي الحدَّاد، أخبرنا أبو نعيم الأصبهاني الحافظ بجميع كتاب «حلية الأولياء» قال: حَدَّثَنا فاروق بن عبد الكبير، قال: حَدَّثَنا الكجي، حَدَّثَنا عبد الله بن رجاء، حَدَّثَنا إسرائيل عن مسلم الأعور عن حبَّة عن علي قَالَ لِيْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كُلِ الثُّومَ فَلَوْلَا أَنِّي أُنَاجِي الْمَلِكَ لَأَكَلْتُهُ».
ورويناه في كتاب «الغيلانيات» عن يحيى بن عبد الباقي، حَدَّثَنا لُوين، حَدَّثَنا زافر بن سليمان عن إسرائيل به وهو سندٌ صحيحٌ، وعند أبي داود: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنِ الثُّومِ إلا مَطْبُوخًا».

(2/209)


وفي «تهذيب الآثار» لمحمد بن جرير، حَدَّثَنا أبو عامرٍ السُّكري، حَدَّثَنا يحيى بن صالح، حَدَّثَنا إسماعيل حَدَّثَنا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ عن جابِرِ بْنِ سَلَمَةَ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ الْبَصَلِ، فَقَالَتْ: «إِنَّ آخِرَ طَعَامٍ أَكَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ طَعَامٌ فِيهِ بَصَلٌ» ولما رواه أبو القاسم في «الأوسط» من حديث بَقِيَّةَ عن بَحِيرِ بْنِ سَعِيدٍ عن خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عنها، قال: لَا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَائِشَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ بَحِيرُ. انتهى.
وفيه نظر لما ذكرناه من عند الطبري.
وفي «صحيح ابن خزيمة» عن أبي سعيد ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الثُّومُ وَالْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الثُّومُ، أَفَتُحَرِّمُهُ؟ فَقَالَ: «كُلُوهُ، وَمَنْ أَكَلَهُ مِنْكُمْ فَلَا يَقْرَبنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ مِنْهُ».
وأما جواز أكله للعذر فلا خلاف فيه لما في «صحيح ابن حبان» عن المغيرة بن شعبة: انْتَهَيْتُ إِلِىَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَوَجَدَ مِنِّي رِيحَ الثُّومِ، فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ قَالَ: فَأَخَذْتُ يَدَهُ فَأَدْخَلْتُهَا فَوَجَدَ صَدْرِي مَعْصُوبًا، فَقَالَ: إِنَّ لَكَ عُذْرًا».
وعند أبي القاسم في «الأوسط»: اشْتَكَيْتُ صَدْرِي فَأَكَلْتُهُ، وفيه: «فَلَمْ يُعَنِّفْهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
(بَابُ وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى يَجِبُ عَلَيْهِمُ الغُسْلُ وَالطُّهُورُ، وَحُضُورِ الجَمَاعَةِ وَالعِيدَيْنِ وَالجَنَائِزَ وَصُفُوفِهِمْ)
وذكر حديث ابن عباس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَأَمَّهُمْ وَصَفُّوا عَلَيْهِ».

(2/210)


ويأتي إن شاء الله تعالى في الجنائز وحديث الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، ويأتي في الجمعة
وبَيَاتِ ابن عباس عند ميمونة، وتقدم في الطهارة وصلاته في بيت مُلَيْكَةَ، وتقدم أيضًا ومرور ابن عباس على الحمار تقدم أيضًا، وأعتم بالعشاء تقدم في فصل العشاء، وقال هنا: وقال عياش: حَدَّثَنا عبد الأعلى، حَدَّثَنا معمر وهو يقتضي أن يكون معلقًا رأى ذلك أبو نعيم فإنه لما رواه عن إبراهيم بن محمد بن حمزة عن الفريابي، حَدَّثَنا نصر بن علي، حَدَّثَنا عبد الأعلى قال: رواه البخاري عن عياش عن عبد الأعلى، ورواه الإسماعيلي عن الفريابي، حَدَّثَنا محمد بن المثنى، حَدَّثَنا عبد الأعلى، وخروج ابن عباس في العيد يأتي في بابه. قَالَ ابنُ التِّيْنِ: زيادة قوله: والطهور بعد ذكره الغسل إنما كرره لذكره متى يجب، وقد وردت أحاديث فيها متى يؤمر الصبي بالصلاة منها حديث سَبْرَةَ بنِ مَعْبَدٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا» صححه أبو عيسى بعد تحسينه وأبو محمد ابن حزم والإشبيلي، وقال ابن القطان: ليس بصحيح لكنه حسنٌ، وقال العُقَيْلِيُّ: والرواية في هذا الباب فيها لين، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مثله رواه أبو داود من رواية سَوَّار بن داود أبي حمزة الصيرفي وفيه كلام.

(2/211)


وفي كتاب «العلل» للخَلَّال: كان وكيع يقلب اسمه، قال أبو عَبْدِ اللهِ: ولم يرو عنه غير هذا الحديث، ولا بأس به شيخٌ بصريٌّ، وعن معاذ بنِ عبد الله بنِ خُبَيْبٍ الْجُهَنِيُّ: أَنَّهُ قَالَ لامْرَأَةٍ: مَتَى يُصَلِّي الصَّبِيُّ، فَقَالَتْ: كَانَ رَجُلٌ مِنَّا يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ، فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ» رواه أبو داود.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: بهذا قال ابن عُمَرو ابن سيرين وبالأول قال: مكحول والأوزاعي ومالك وابن القاسم وأحمد وإسحاق وجماعة، وفي «العُتْبِيَّة» عن مالك: يُضرَبُ على الصلاة لسبع.
الأبواب بعده تقدم ذكرها والله أعلم.

(2/212)


[كتاب الصوم]
[باب حق الضيف في الصوم]
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلَّ على سيِّدنا سيِّدِ المخلوقين محمد، وآله وصحبه وسلم.
1974 - «إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا». [خ 1974]
الكلام على الزَّور والزَّوج تقدم في أول كتاب الصلاة، وحقُّها هنا يريد الوطء، فإذا شدَّد الصوم، ووالى قيام اللَّيل ضعف عن حقها.
وفي رواية: «وإنَّ لأهلك» بدل «زوجتك»، والمراد بهم هنا: الأولاد والقرابة، ومن حقهم الرفق بهم، والإنفاق عليهم وشبه ذلك.
وحقُّ الجسم قال المهلَّب: هو أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل؛ لأنه إذا أجهد نفسَه قطعها عن العبادة وفترت، كما قال في الحديث المروي عند أبي داود: «إن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».
قال المبرد: «المنبتَّ» المسرع في السير، فكأنه إذا فعل ذلك رقَّت دابَّتُه ولم يبلغ منزلَه.
وقوله: (هَجَمَتْ عَيْناكَ) أي غارتا ودخلتا.
وعن صاحب «العين»: هجَمَ هجومًا وهجمًا.
وعن أبي عمرو: والكثير إهجام.
وعن الأصمعي: انهجمت عينُه دَمَعَتْ، ذكره في «الموعب».
وقال القرطبي: هَجَمَتْ عليَّ الضررُ دفعةً واحدةً، والهجم: أخذ الشيء بسرعة، قال: ويحتمل أن يكون هَجَمَتْ بغلبةِ النوم وكثرة السَّهر.
وقوله: (بِحَسبِكَ) أي يكفيك أن تصوم ثلاثة أيام.
وفي رواية: «صم من كلِّ عشرة يومًا».
وقد جاء في النسائي بسند صحيح عن جرير قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صيام ثلاثة من كل شهر صيام الدهر، الأيامُ البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمسة عشرة».
قال القرطبي: كذا رويناه عن مُتقِني شيوخنا برفع «أيام وصبيحة» على إضمار المبتدأ، كأنه قال: هي أيام البيض، عائدًا على ثلاثة أيام، و «صبيحة» برفع على البدل من أيام، ومن خفض فيهما على البدل من «أيام» المذكورة.
وذكر الجواليقي في كتاب «ما تخطئ فيه العامَّة» من ذلك قولهم: الأيام البيض

(1/1)


يجعلون البيضَ وصفًا للأيام، والأيام كلُّها بيض، وهو غلط، والصواب أن يقال: أيام البيض، أي: أيام الليالي البيض؛ لأن البيض وصف لها دون الأيام.
قال القرطبي: وعلى التقديرين هذا الحديث مقيِّدٌ لمطلق الثلاثة أيام التي صومها كصوم الدهر، ويحتمل أن يكون النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عيَّن هذه الأيام؛ لأنها وسط الشهر وأعدلُه كما قال: «خير الأمور أوساطها».
واختلف في أي أيام الشهر أفضل للصوم؟
فقالت جماعة من الصحابة والتابعين؛ منهم عمر وابن مسعود وأبو ذر: صوم الأيام البيض أفضل.
وقال النخعي: آخره أفضل.
وقالت فرقة منهم الحسن.
وقالت عائشة عند الترمذي محسنًا: أول يوم من السبت والأحد والاثنين في شهرٍ، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس.
واختار بعضهم الاثنين والخميس.
وفي حديث ابن عمر: «كان سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين، والخميس الذي بعده، والخميس الذي يليه».
وفي حديث عائشة عند مسلم: «كان لا يبالي من أي الشهر صام».
وحاصله: صيام ثلاثة أيام من كل شهر حيث صامها، في أي وقت أوقعها، كما قالت عائشة، واختلاف الأحاديث تدل على أنه لم يرتب على زمن بعينه من الشهر.
وقال ابن التين: صيامها حسن ما لم يعينها.
وسئل مالك عن صومها فقال: ما هذا ببلدنا وكرهه، وقال: الأيام كلها لله تعالى. انتهى.
ذكر علي بن الفضل المقدسي: أن في رسالة مالك إلى هارون أنه أمره بصيامها، وقال: بلغني عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «ذلك صيام الدهر»، إلا أنه تكلّمَ في إسنادها؛ يعني الرسالة، وهي مذكورة في «سنن الكَجِّي» وهو ثقة إمام.
وقال الباجي: روي في إباحة تعمدها أحاديث لا تثب.
وقال الطبري: الصواب عندي أن جميع الأخبار عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا صحاح.
قال ابن التين: واختلف القائلون بإباحة
تعمد صومها على أربعة أقوال في تعيينها:

(1/2)


فكان أبو الدرداء يصوم أول يوم، واليوم العاشر، ويوم عشرين، قال ابن حبيب: وأخبرني حبيب أن هذا كان صوم مالك، انتهى.
قال أبو الوليد الباجي: عندي في هذا نظر؛ لأن رواية حبيب عن مالك فيها ضعف، ولو صحَّت لكان المعنى: أن هذا كان مقدار صوم مالك، فأما أن يتحرَّى صيامَ هذه الأيام فإنَّ المشهور عن مالك منع ذلك.
وقال سُحنون: يصوم أوله، كأنه اعتمد ما رويناه في كتاب «الصيام» للقاضي يوسف بن إسماعيل - بسند جيد - عن ابن مسعود: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصوم من عشرة كل شهر ثلاثة أيام».
وقال الشيخ أبو إسحاق: أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر في العشر الأول، ويوم أحد عشر في العشر الثاني، ويوم أحد وعشرين في العشر الثالث.
وقال المتولي وغيرُه: صوم داود صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضل من السرد.
قال النووي: وفي كلام غيره إشارة إلى تفضيل السرد، وتخصيص هذا الحديث بابن عمرو ومن في معناه، تقديره: لا أفضل من هذا في حقك، يؤيِّدُ هذا أنه لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد، ولو كان ما قاله لابن عمرو أفضل في حق كل الناس لأرشد حمزةَ إليه وبيَّنه له.
وأما صوم الدهر فقد اختلف العلماء فيه:
فذهب أهل الظاهر إلى منعه أخذًا بظاهر أحاديث النهي عن ذلك.
وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيام المنهي عنها كالعيدين والتشريق، وهو مذهب الشافعي بغير كراهة؛ بل هو مستحب.
وورينا في «سنن الكَجِّي»: حدثنا أبو عمر الحَوْضِي، حدثنا الضحاك بن يسار، عن أبي تميمة الُهجيمي، عن أبي موسى، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا، وضم أصابعه على تسعين».
وعند ابن ماجه عن ابن عمرو قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «صام نوح صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدهر إلا يومين: الأضحى والفطر»، وفي سنده ابن لهيعة.
قال ابن التين: استدلَّ من منع صومَ الدهر من خمسة أوجه:

(1/3)


أحدها: قوله في الحديث: «ولا تَزِدْ»، ولم يكن صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهى عن فعل الأفضل.
الثاني: قوله: «صم وأفطر» ولم يكن ليأمر بالأدنى بقوله: «وأفطر».
والثالث: قوله: «لا أفضل من ذلك».
الرابع: دعاؤه على من صام الأبد.
الخامس: أنه إن فعل ذلك كان في معنى من لم يؤجر بقوله: «لا صام ولا أفطر»، يريد أنه ما أفضل لأنه أمسك، ولا صام لأنه لم يكتب له فيه أجر الصيام.
وأجاز مالك وابن القاسم وأشهب صيام الدهر، وهو مذهب سائر الفقهاء.
وكأن البخاري أراد بقوله:
بَابُ صِيَامِ أَيَّامِ البِيضِ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَأحاديثَ ليست على شرطه. وذكر هنا حديث:1981 - أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ». [خ 1981]
الحديث المذكور في كتاب الصلاة، وليس فيه ما بوَّب له.
قال ابن بطال: معنى ما ذكرناه، وكذا ابن المنير، وقال: الأحوط للمتطوِّع أن يختص الثلاث التي في حديث أبي هريرة بهذه الأيام ليجمع بين ما صحَّ وما نقل في الجملة، وإن لم يبلغ مرتبة هذه الصحة، انتهى.
الذي يشبه أن يكون مراد البخاري ما في بعض طرق حديث أبي هريرة، وهو ما ذكره الإمام أبو محمد عبد الله بن عطاء الإبراهيمي، من حديث يونس بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي صادق، عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: بالوتر قبل أن أنام، وأصلي الضحى ركعتين، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، وهي البيض».
فكأن البخاريَّ على عادتِه أحالَ على هذا ونبَّه عليه، وعَرَّف أنه ليس من شرطه.
وقد رُوِّينا في «مسند أبي عبد الله الدارمي» الموسوم بـ «الصحيح» من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «صيام البيض صيام الدهر».
وسلف حديث جرير.

(1/4)


وعند الترمذي عن أبي ذرٍّ مُحسّنًا: «أمرني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصيام ثلاثة أيام؛ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة».
وفي لفظٍ من كتاب مسلم: «صائمًا فليصم الثلاثة البيض».
وفي كتاب «الصيام» له، حماد
وابن حبان عن أبي هريرة يرفعه: «صمْ أيام الغر».
وفي حديث عمر بن الخطاب: «فهلا البيض، فهلا البيض» ثلاثًا.
واستشهد بأبي الدرداء وأبي ذر وعمَّار: «أما سمعتم من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول» [الحديث] فقالوا: نعم.
وعند النسائي من حديث عبد الملك بن قتادة عن أبيه: «أمرنا النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نصوم الأيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. وقال: هي كهيئة الدهر».
وعنده أيضًا عن ابن عباس: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يفطر في أيام البيض في حضر ولا سفر».
وروينا في كتاب «الصيام» للقاضي يوسف من حديث الحارث، عن عليٍّ يرفعه: «صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر صومُ الدهر، ويُذهب وَحَرَ الصُّدور».
وفي حديث الأعرابي عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مثله.
وعن عمرو بن العاص عند النسائي يرفعه: «صيامُ حسن: ثلاثة أيام من الشهر».
وزعم الطحاوي أن الأيام البيض إنما أُمِرَ بصومها لأن الكسوف يكون فيها ولا يكون في غيرها، وقد أُمِرنا بالتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والصيام وغير ذلك من فعل البرِّ عند الكسوف، فأُمِرَ بصيامها لذلك، والله أعلم.
وروينا عن الخماري أنه قال: «أَمَرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر لما قدم المدينة، ثم نسخ برمضان».
بَابُ مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَمْ يُفْطِرْ عِنْدَهُمْ

(1/5)


1982 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حدَّثَنا خَالِدٌ وَهُوَ ابْنُ الحَارِثِ، حدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، فَقَالَ: أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ. ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى غَيْرَ المَكْتُوبَةِ، وَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللهِّ! إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَتْ: خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ، قَالَ: فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ. [خ 1982] قَالَ أَنَسٌ: فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالًا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ: أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ الحَجَّاجٍ البَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِئَةٌ».وَقَالَ: ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرنَا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، سَمِعَ أَنَسًا، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، انتهى. كذا في بعض النسخ، وكذا نص أصحاب الأطراف عليه، وفي أصل سماعنا وغيره: حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا يحيى به في رواية ابن عبد الله الأنصاري عن حُمَيدٍ: «ثلاثة وعشرون ومئة».ذكر ذلك الخطيب في كتابه «رواية الآباء عن الأبناء» لكون أنس روى عن بنته. قال ابن التين: كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يزور أم سُلَيم لأنها خالته من الرَّضاعة. وقال ابن عبد البر: إحدى خالاته من النسب؛ لأن أمَّ عبدِ المطلب: سلمى بنت عمرو بن زيد بن أسد بن خِداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، وأم حرام بنت مِلْحان بن زيد بن خالد بن حرام بن جندب بن عباس بن عثمان.

(1/6)


وأنكر شيخنا ابن محمد الدمياطي هذا القول، وذكر أن هذه خؤولة بعيدة لا تُثبِتُ حرمةً ولا تمنع نكاحًا. قال: وفي الصحيح: «أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا يدخل على أحدٍ من النساء إلا على أزواجه إلا على أم سُلَيمٍ، فقيل له في ذلك؟ قال: أرحمها، قتل أخوها حرام معي» وهي تخصيصها بذلك، فلو كان ثَمَّ علةٌ أخرى لذكرها؛ لأنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذه العلة مشتركة بينها وبين أختها أم حَرَام. قال: وليس في الحديث ما يدلُّ على الخلوة بها، فلعله كان ذلك مع ولدٍ أو خادمٍ أو زوج أو تابع. وأيضًا: كان قتل حَرَام كان يوم بئر معونة في صفر سنة أربع، ونزول الحجاب سنة خمس، فلعل دخولَه عليها كان قبل ذلك. وعن القرطبيِّ: يمكن أن يُقالَ: إنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان لا تستتر منه النساء لأنه كان معصومًا، بخلاف غيره. قال ابن التين: وفيه رجوع الطعام إلى أهله إذا لم يقبلْه من قُدِّمَ إليه، ولا يكون عودًا في الهبة. و (خُوَيْصَّة): بتشديد الصاد، تصغير خاصة، مثل دابة ودويبة. وعند ابن اللَّبَّاد: أن المجتمعِينَ من ولدِ أنسٍ وولدِ ولدِه بضعٌ وعشرون ومئة، وهو خلاف ما ذكره البخاري. واحتج بهذا الحديث أبو حنيفةَ ومالك على أن المتطوِّعَ بالصَّوم لا ينبغي له أن يفطر بغير عذر. بَابُ الصَّوْمِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ

(1/7)


1983 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلاَنَ، ح، وحدثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حدثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حدثَنَا غَيْلاَنُ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَنَّهُ سَأَلَهُ ـ أَوْ سَأَلَ رَجُلًا وَهو يَسْمَعُ ـ فَقَالَ: يَا فُلاَنٍ! أَمَا صُمْتَ من سَرَرَ هَذَا الشَّهْرِ؟ قَالَ: ـ أَظُنُّهُ قَالَ: رَمَضَانَ ـ قَالَ الرَّجُلُ: لاَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ»، لَمْ يَقُلِ الصَّلْتُ: يَعْنِي رَمَضَانَ. [خ 1983]
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: وَقَالَ ثَابِتٌ: عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مِنْ سَرَرِ شَعْبَانَ».
هذا التعليق رواه مسلم عن هدَّابِ بن خالد، حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرِّف به، وكأنه أصح من قول من قال: «رمضان»؛ لأن رمضان يتعيَّن صومُ جميعِه.
وذكر الحُميدي في «الجمع بين الصحيحين» أن البخاري قال: شعبان أصح.
وقال الخطابي وغيره: وذِكْرُ رمضان فيه وهم.
ووقع في مسلم في رواية محمد بن المثنى: «إذا أفطرت رمضان» حذف لفظة [من] في هذه الرواية وهي مراده، كقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوْسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي من قومه، انتهى.
قد جاءت مثبتةً في سند الدارمي: «إذا أفطرتَ من رمضان».
وفي «سنن الليثي»: «إذا أفطرت رمضان فصم مكان ذلك اليوم يومين».
وقوله: (صُمْ يَوْمَيْنِ) قال القرطبي: هذا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حضٌّ على ملازمةِ عادةِ الخير لكي لا تُقطَع، وأن لا يمضي على المكلف مثل شعبان ولم يصم منه شيئًا، فلما فاته صومُه أمرَه أن يصوم من سواه يومين ليحصل له أجرٌ من الجنس الذي فوَّته على نفسه.

(1/8)


قال: ويظهر لي أنه إنما أمره بصوم يومين للمزيَّة التي يختصُّ بها شعبان، فلا بُعدَ في أن يقال: إنَّ صومَ يوم منه كصومِ يومين منه في غيره، ويشهد لهذا كثرةُ صومِه فيه أكثرَ من صيامه في غيره.
وقوله: (سَرَرَ) بفتح السين، قال ابن قُرْقُول: كذا للكافة، وعند العذري: سُرر بضم السين.
قال أبو عبيد: سَرار الشهر آخره حيث يستتر الهلال، وسُرره أيضًا.
وأنكره غيره، وقال: لم يأت في صوم آخر الشهر حضٌّ، وسَرارُ كلِّ شيء وسطه وأفضله، فكأنه يريد الأيام الغرَّ من وسط الشهر.
وقال يعقوب بن السِّكِّيت: سِرار الشهر وسَراره بالكسر والفتح.
وعن الفرَّاء: الفتح أجود.
وقال الأزهري: سَرر وسَرار ثلاث لغات.
وضبطه عياض وغيرُه: سرر بفتح السين وكسرها وضمها.
قال: وعن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: سُرَّة الشهر أوله.
وقال: الخطابي عن الأوزاعي: سَرره آخره.
ولما ذكر البيهقي عن الأوزاعي الروايتين قال: الصحيح آخره، ولم يعرف الأزهري سُرَّة.
وفي «سنن أبي داود»: قيل: سِرُّه وسطه، وسرُّ كلِّ شيء جوفُه، وكذا هو في مسلم من حديث عمران: «أصمت من سُرَّةِ هذا الشهر؟».
وقال عبد الملك بن حبيب: السَّرَرُ آخر الشهر حين يستتر الهلال لثمان وعشرين ولتسع وعشرين، وإن كان تامًّا فليلة ثلاثين، وتبويب البخاري يدل أنه عنده آخر الشهر.
قال الخطابي: يُتَأوَّلُ أمرُه إياه بصوم السَّرَرِ على أنَّ الرجل كان أوجبه على نفسه نذرًا فأمره بالوفاء، أو أنه كان اعتاده فأمره بالمحافظة عليه، وإنما تأوَّلناه للنهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.
وقال ابن التين: أراد توديعه، وفيه دليل على ابن سلمة في منعه صومه تطوعًا، وعلى أصحاب داود حين منعوا صومه أصلًا.
قال: ويحتمل أن يكون جرى هذا جوابًا من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكلام تقدَّمه لم يُنقَل إلينا.

(1/9)


بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِوَإِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَيَعْنِي: إِذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَهُ، وَلاَ يُرِيدُ أَنْ يَصُومَ بَعْدَهُ.1984 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، سَأَلْتُ جَابِرًا: أَنَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». [خ 1984] زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ: «أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ».غيرُ أبي عاصم: هو يحيى بن سعيد القطان، قال النسائي: حدثنا عمرو بن علي، عن يحيى، عن ابن جُرَيج، أخبرني محمد بن عبَّاد بن جعفر، قال: قلت لجابر: «أسمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ينهى أن يُفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب الكعبة».وقال البيهقي: قول البخاري: «زاد غير أبي عاصم» وهذه الزيادة ذكرها يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج إلا أنه قصَّر بإسناده فلم يذكر فيه عبد الحميد بن جُبَير. ورواه الإسماعيلي عن القاسم بن زكريا، عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، وأبي عاصم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد، الحديث. قال الإسماعيلي: ذكر البخاري حديث أبي عاصم عن ابن جريج عن عبد الحميد عن ابن عبَّاد، وقد رويناه من حديث أبي عاصم أيضًا كما قال يحيى، وتابعه فُضيل بن سليمان وحفص بن غياث أيضًا. وكذا رواه عن ابن جريج النضر بن شُميل عند النسائي، يعني كما ذكره البخاري. ورواه أبو سعد محمد بن مبشر، عن ابن جريج، عن عبد الحميد، سمع محمد بن عبَّاد، قال الإسماعيلي: وأبو سعد ليس كهؤلاء، انتهى كلامه.

(1/10)


وفيه حملٌ شديدٌ على البخاري وليس جيدًا؛ لأنَّ ابن جريج رواه عنه كما رواه البخاري الجمُّ الغفير، فمنهم: ما رواه أبو قرة في «سننه» عن ابن جريج، وهو من أثبت الناس فيه، فقال: ذكر ابن جريج، قال: أخبرني عبد الحميد بن جبير بن شيبة، أنه أخبره محمد بن عبَّاد بن جعفر، أنه سأل جابرًا وهو يطوف بالبيت، الحديث. وكذا رواه أبو محمد الدارمي في «مسنده» عن أبي عاصم. ورواه أيضًا عن أبي عاصم، كما رواه عنه البخاري أبو موسى محمد بن المثنى المزني، أخبرنا بذلك المسند الثقة عبد الله بن علي بن عمر المغربي قراءة عليه، أخبرنا المسند عبد اللطيف الحرَّاني قراءةً عليه، عن الشيخين أبي جعفرابن الطَّرَسُوسِي والصَّيْدَلاني، قالا: حدثنا محمود بن إسماعيل الصَّيرفي سماعًا عليه، أخبرنا أبو بكر بن شَاذَان، أخبرنا أبو بكر القَبَّاب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل بجميع كتاب «الصيام»، قال: أخبرنا أبو موسى، حَدَّثنا أبو عاصم، حَدَّثنا ابن جريج، حدثني عبد الحميد بن جبير، عن محمد بن عبَّاد، فذكره. وقال مسلم في «صحيحه»: حَدَّثنا ابن رافع، حَدَّثنا عبد الرزاق، حَدَّثنا ابن جُرَيج، أخبرني عبد الحميد بن محمد بن عبَّاد، أخبره، فذكره. ورواه علي بن المفضل المقدسي من حديث علي بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مطر، قال: حَدَّثنا إبراهيم بن مرزوق، حَدَّثنا أبو عاصم. وذكر البخاري بعد حديث أبي هريرة المخرج عنده:1985 - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ: «لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ». [خ 1985] وعند مسلم: «لا تختصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصُّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم».وعند الطحاوي وأحمد: «يومُ الجمعةِ يومُ عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده».

(1/11)


وعند ابن أبي شيبة قال لأبي هريرة رجلٌ: «أنت الذي تنهى عن صوم يوم الجمعة؟ قال: لا وربِّ هذه الحرمة، أو هذه البنية، ما أنا نهيت عنه، محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».وعند ابن سام من حديث جعفر بن علي الجَريري، حَدَّثنا أبو حماد الحنفي، عن الأعمش، عن أبي صالح عنه: «نهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صوم يوم الجمع مفردًا».وعند النسائي عن أبي الدرداء يرفعه: «يا أبا الدرداء! لا تختصَّ يومَ الجمعة بصيام دون الأيام» الحديث، وسنده جيد. وذكر البخاري أيضًا عن:1986 - مُحَمَّد، حَدَّثنا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: «أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لاَ، قَالَ: فَتُرِيدِينَأَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لاَ، قَالَ: فَأَفْطِرِي». [خ 1986] وَقَالَ حَمَّادُ بنُ الجَعْدِ: سَمِعَ قَتَادَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ، أَنَّ جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَتْهُ: «فَأَمَرَهَا فَأَفْطَرَتْ».اختلف في محمد الراوي عن غُنَدر هنا: فذكر أبو نعيم الأصبهاني في «مستخرجه» والإسماعيلي أنه ابن بشار بُنْدار. وقال الجيَّاني: لم يثبته أحد من شيوخنا في شيء من المواضع، ولعله محمد بن بشار، وإن كان محمد بن المثنى يروي أيضًا عن غندر. زاد أبو نصر: ومحمد بن الوليد البَسَري أيضًا روى عن غندر في «الجامع الصحيح».وقال علي بن المفضل: الأقرب أنه بُنْدَار. وعند النسائي: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حَدَّثنا بشر، حَدَّثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على جويرية بنت الحارث»، حديث يدل ظاهره على إباحة صومه. وعن ابن عباس يرفعه: «لا تصوموا يوم الجمعة وحدَه» رواه أحمد.

(1/12)


وعن جُنادة: «دخلت على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم جمعة في سبعة من الأَزْد أنا ثامنهم وهو يتغدى، فقال: هلموا إلى الغداء. فقلنا: إنا صيام. فقال: أصمتم أمس؟ قلنا: لا، قال: فتصومون غدًا؟ قلنا: لا، قال: فأفطروا، فأكلنا معه، فلما خرج وجلس على المنبر دعا بماء، فشرب والناس ينظرون، يريهم أنه لا يصوم يوم الجمعة».وعند الترمذي حديث يدلُّ ظاهره على إباحة صومه، عن ابن مسعود: «قلَّ ما رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفطر يوم الجمعة» وقال: حديث حسن غريب. قال ابن عبد البر: هو حديث صحيح. قال: وروى ابن عمر أنه قال: «ما رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مفطرًا يوم الجمعة قط» رواه ابن أبي شيبة من حديث ليث، عن عمير بن أبي عمير، عنه. وعن ابن عباس: «أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه» انتهى. روى ابن عباسهذا، ولفظه: «أنه لم ير رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفطر يوم جمعة قط»، أخبرنا به الإمام أبو محمد البصري رحمه الله تعالى قراءة عليه، أخبرنا ابن الفرات، عن فاطمة بنت سعد الخير، أخبرنا أبي ومحمد بن ناصر الحافظ، أخبرنا أبو منصور المعمري، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر، أخبرنا أبو حفص البغدادي، حَدَّثنا محمد بن هارون الحضرمي، حَدَّثنا عمرو بن علي، حَدَّثنا ميمون بن زيد، حَدَّثنا ليث، عن عطاء، عنه. ومن حديث صفوان بن سُليم عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة يرفعه: «من صام يوم الجمعة أعطاه الله عزَّ وجلَّ عشرة أيام من أيام الآخرة لا يشاكلهنَّ أيام الدنيا غرًا».وفي «الموضوعات» للنقاش: «من صام يوم السبت حرم الله لحمه على النار، ومن صام يوم الجمعة غُفِرَ له ذنوب خمسين سنة» الحديث.

(1/13)


قال أبو حفص ابن شاهين: الأحاديث المصرِّحات بفضل صوم يوم الجمعة طريقها فيه اضطراب، ولا تدفع فضلَ صومه، وأما صومه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيجوز أن يكون أمر لغيره، ويجوز أن يكون هو له دون غيره، كما كان يأمر بالإفطار في النصف من شعبان ويصوم هو شعبان كله. قال: والحديث الأول خرج على وجه النهي عن التفرد بصيامه، فإذا انضاف إليه يوم قبله أو بعده خرج عن النهي، ولا يكون طريقه النسخ. اختلف العلماء في صيام يوم الجمعة: فنهت طائفة عن صومه إلا أن يصام قبله أو بعده، رُوِيَ هذا عن أبي هريرة وسلمان رضي الله عنهما. وروي عن أبي ذرٍّ وعليٍّ أنهما قالا: إنه يوم عيد وطعام وشراب فلا ينبغي صومه، وهو قول ابن سيرين وابن شهاب، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. ومنهم من قال: يفطر ليقوى على الدعاء والذكر بعد الصلاة، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوُا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوُا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوُا اللهَكَثِيْرًا} [الجمعة: 10] رُوي نحو هذا عن النخعي، وهو نظير فطر الحاج يوم عرفة. وقيل: الحكمة في النهي عن صومه مفردًا لئلا يعتقد وجوبه، انتهى. هذا ينتقض بصيام يوم الاثنين وعاشوراء وعرفة وغيرها. قال: أو لئلا يلتزم الناس من تعظيمه ما التزمته اليهود في السبت، انتهى. كأن هذا غير جيد؛ لأن في يوم الجمعة وظائف من صلاة وغيرها من تعظيم وشبهه، ولم يرد النهي عن شيء منها؛ بل حثَّ عليها الشارع صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفي «الموطأ»: قال مالك: لم أسمع أحدًا من أهل العلم ومن يُقتَدَى به يَنهى عنه، وصيامه حسن، ورأيت بعضَ أهل العلم يصومه، وأُرَاهُ كان يتحرَّاه. قال أبو عمر: قيل: إنه محمد بن المنكدر. وقال ابن بطال: أكثر الفقهاء على الأخذ بأحاديث الإباحة، على أن أحاديث النهي أصح؛ لأن الصوم عمل برٍّ، فوجب أن لا يمنع منه إلا بدليل لا معارض له. وعن ابن القاسم: كره مالك أن الرجل يجعل على نفسه صوم يوم مؤقت.

(1/14)


قال ابن التين: قال بعضهم: يحتمل أن تكون هذه رواية عن مالك في منع قصد يوم الجمعة بالصوم. وقال الداوودي: لم يبلغ مالكًا الحديث بالمنع، ولو بلغه لم يخالفه. قال: ولا يبالي صام الذي يليه قبل ذلك أو بعده؛ لأن من صام يومًا سواه فقد صام قبله أو بعده؛ لأنه يقبل اليوم الذي يليه. قال ابن التين: وفي حديث جويرية يدلُّ أنْ قبله يوم الخميس وبعده يوم السبت؛ لأنه قال لها: «أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أفتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا»، ولم يسألها: هل صامت قبل أمس؟ ولا: هل تصومين بعد غد؟ وفي الحديث النهي الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي. واحتَجَّ به جماعة من العلماء على كراهة الرغائب التي هي ليلة الجمعة في رجب، وصلاة نصف شعبان. وأبو أيوب الراوي عن جويرية: اسمه يحيى بن مالك، ويقال: حبيب بن مالك، العَتَكي المَراغي. البابان الذي بعده تقدما. بَابُ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ 1990 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: «شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ». [خ 1990] ورواه في الأضاحي عن حسان بن موسى، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن الزهري، وقال في آخره: وعن معمر عن الزهري عن أبي عبيد نحوه. قال الحافظ أبو العباس الطَّرْقي: طريق معمر هذه معطوف على طريق يونس، فيكون على هذا القول متصلة غير معلقة، والله تعالى أعلم. ثم ذكر البخاري حديث أبي سعيدٍ: 1991 - 1992 - «نَهَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَعَنِ الصَّمَّاءِ».

(1/15)


[خ 1991 - 1992] «وَعَنْ صَلاَةٍ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالعَصْرِ».وعند مسلم عن عائشة: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صوم يومين؛ يوم الفطر، ويوم الأضحى».وعند الترمذي عن عقبة بن عامر قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيد أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب»، وقال: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وقال ابن عبد البر: تفرد بهذا الحديث موسى بن علي عن أبيه، ما تفرد به فليس بالقوي، وذِكْرُ يومِ عرفة في هذا الحديث غير محفوظ، وإنما المحفوظ من وجوه مرفوعة: «يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق أيام أكل وشرب».وقد أجمع العلماء على أن يوم عرفة جائز صيامه للمتمتع إذا لم يجد هديًا، وأنه جائز صومه بغير عرفة، وإنما كره من كره صومه بعرفة من أجل الضعفعن الدعاء والعمل في ذلك الموقف، فإن صامَه قادرًا على الإتيان بما كُلِّفَ من العمل بعرفةَ بغير حرج ولا إثم. وفي حديث موسى هذا ذِكْرُ يومِ النحر، وقد أجمعوا على أنه لا يحل لأحدٍ صومه، وقد اختلف العلماء في صيام أيام التشريق للمتمتع وغيره. روى البخاري عن عائشة ذكر عمر قالا: «لم يُرخَّصْ في أيام التشريق أن يُصمْنَ إلا لمن لم يجد الهدي».وفي لفظ: «الصيام لمن تمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ إلى يوم عرفة، فإن لم يجد هديًا ولم يصم صام أيام منى».وقال الطحاوي: فإن قال قائل: قد رأينا مَنْ صَامَ يوم عرفة بعرفة عن واجب عليه أجزأه صومه عنه، ولم يكن كمن صام يومًا من تلك الأيام الأخر عن واجب عليه أن ذلك لا يجزئه؟ فالجواب: أن الأشياء قد تجمع في شيء واحد وأحكامها في نفسها مختلفة، من ذلك قوله عزَّ وجلَّ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوْقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ} [البقرة: 197].

(1/16)


فجَمَعَ هذه الأشياء ونَهَى عنها وهي مختلفة في أحكامها؛ لأن الرفث ـ الجماع ـ يفسد الحج, وما سواه مما ذكر معه لا يفسده, ويوم عرفة عند الحجاج دون غيرهم فلم يصلح لهم صومه. يؤيِّدُه ما رواه أبو هريرة، رَوى نَهيَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صيام يوم عرفة بعرفة، وأما غيرهم فجائز لهم صومه منحولهم الثواب؛ لحديث أبي سعيد عند مسلم: «صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية».وعن قتادة بن النعمان يرفعه: «من صامَ يوم عرفة غُفِرَ له سنة أمامه وسنة بعده»، رواه ابن ماجه. وعن سهل بن سعد: «صومُ يومِ عرفة كفارة سنتين»، رواه ابن أبي عاصم في «كتاب الصيام».زاد الطبراني: «غفر له ذنب سنتين» انتهى. فهم النسائي يشعر بأن ذكر يوم عرفة محفوظ في هذا الحديث، وذلك أنه بوَّبَ له: «باب إفطار يوم عرفة بعرفة».وعندهأيضًا من حديث يوسف بن مسعود بن الحكم الزُّرَقي، عن جدَّتِه: «أنها رأت في حَجة الوداع عليَّ بن أبي طالب ينادي: أيها الناس! إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر».ولما خرَّجه الحاكم قال: صحيح على شرط مسلم. زاد البيهقي: «ونساءٍ وبعال».وعند الدارقطني عن أنس: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن صوم خمسة أيام في السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق».قال ابن الجوزي: أما النهي عن صوم عيد الفطر فلأنه إذا تطوَّع فيه بالصوم لم يبيِّن المفروض من غيره، ولهذا يستحب الأكل قبل الخروج إلى الصلاة، وليتحقق انقضاء زمان مشروعية الصوم، وأما يوم النحر ففيه دعوة اللهِ جلَّ وعزَّ التي دعا عباده إليها من تضييفه وإكرامه أهلَ منى وغيرهم بما شرع لهم من ذبح النسك والأكل منها، فمن صام هذا اليوم فقد ردَّ على الله تعالى كرامته. وأشار أبو حنيفة وغيره إلى أنه شرع غير معلَّل.

(1/17)


قال القرطبي: يحمل النهي عن صومها على التحريم عند كافة العلماء، فلا يجوز الإقدام على صومها، أي نوع من أنواع الصيام كان، لا يختلف في ذلك، ثم لا ينعقد صومها - إن وقع - عند عامتهم غير أبي حنيفة فإنه ينعقد عده إذا أوقع. واختُلِفَ فيمن نذرهما: هل يلزمه قضاؤهما أم لا يلزمه؟ وبالأول قال أبو حنيفة وصاحباه والشافعي والأوزاعي في أحد قوليهما، وبالثاني قال مالك وزفر وهو قول للشافعي. وعند أحمد: ينعقد نذره ولكنه يقضي يومًا مكانه، قال ابن الجوزي: ويكفر كفارة يمين، وعن أحمد: يكفر من غير قضاء، ونَقَلَ عنه مُهنَّا ما يدلُّ على أنه إن صامه صحَّ صومُه. وقال القاضي أبو يعلى: قياس المذهب أنه لا يصح صومه لأجل النهي. وعن أبي حنيفة: يصح نذره ويلزمه القضاء بلا كفارة، فإن صام أجزأه. وعن مالك والشافعي: لا ينعقد ولا يلزمه قضاء ولا كفارة. وفي «شرح الهداية» عن أبي يوسف: لا يصح صَوم يومي العيد ولا النذر بصومهما، وهو روايةُ ابن المبارك عن أبي حنيفة، وروى الحسن عنه: إن نذر صومَ يومِ النحر لا يصح، وإن نذر صومَ يوم غدٍ وهو يوم النحر صح. وللحنفي أن يقول محتجًا لصحة مذهبه: قال صاحب «المحصول»: أكثر الفقهاء على أن النهي لا يفيد الفساد، وقول بعض الشافعية أنه يفيده، وقال أبو الحسن البصري: يفيده في العبادات لا المعاملات. قال ابن الخطيب: ولا يدلُّ النهي على الفساد أصلا؛ أما أنه لا يدل عليه بلفظه فلأن اللفظ لا يفيد إلا الزجر، والفساد معناه عدم الإجزاء، وكل واحدٍ منهما مغاير للآخر. وأما أنه لا يدل عليه بمعناه فلأنَّ الدِّلالة المعنوية شرطها الملازمة، فاللفظ الدال على الشيء دال على لازمِ المسمى بواسطة دلالته على المسمى، والفساد غير لازم للنهي على ما نذكره. وقال في البزدوي: النهي نوعان: نوع يكون في الأفعال الحسية، كالقتل والزنا وشرب الخمر فيدل على كونها قبيحة في نفسها لمعنى في أعيانها، إلا أن يقوم دليل على خلافه.

(1/18)


ونوع يكون عن التصرفات الشرعية كالصوم والصلاة والبيع والإجارة ونحوها، فيقتضي قبحًا في غير المنهي عنه، لكن يتصل به حتى يبقى مشروعًا بأصله مع إطلاق النهي. واحتج محمد أن صيام يومي العيدين والتشريق منهي عنه، والنهي لا يقع على ما لا يكون. ذكر الصلاة بعد العصر، تقدم. وقول البخاري: 1993 - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «يُنْهَى عَنْ صِيَامَيْنِ وَبَيْعَتَيْنِ: الفِطْرِ وَالنَّحْرِ، وَالمُلاَمَسَةِ وَالمُنَابَذَةِ». [خ 1993] ذكره في مسلم بلفظ: «نَهَى أو نُهِيَ عن بيعتين: الملامسة والمنابذة»، لم يذكر صومًا، وقال الطِّرْقي: عند البخاري دون غيره عن عطاء في هذا الحديث زيادة: «وعن صيامين: الفطر والنحر»، انتهى. وفيه نظر، من حيث إن الإسماعيلي رواه عن القاسم بن زكريا، وابن خزيمة، وعبد الله بن ياسين قالوا: أخبرناعبد الله بن إسحاق الجوهري، أخبرنا أبو عاصم، أخبرنا ابن جريج، أخبرنا عمرو، عن عطاء بن مينا، عن أبي هريرة أنه قال: «نهى ـ يعني النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ـ عن صيام يومين، وعن لبستين، وعن بيعتين، فأما صيام يومين: فالفطر والأضحى، وأما البيعتان: فالملامسة» ولم يذكر المنابذة. وعند البيهقي من حديث مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن صيام يوم الأضحى ويوم الفطر».وعند ابن ماجه: «أيام منى أيام أكل وشرب».قال البخاري:

(1/19)


1994 - حَدَّثنا ابْنُ مثَنَّى، حَدَّثنا مُعَاذٌ، حَدَّثنا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: رَجُلٌ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا ـ قَالَ: أَظُنُّهُ قَالَ: الِاثْنَيْنِ ـ فَوَافَقَ يَوْمَ عِيدٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللهُّ جلَّ وعزَّ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنَهَى النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ صَوْمِ هَذَا اليَوْمِ». [خ 1994]
عن ابن أبي شيبة: حَدَّثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن نافع، عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صوم يوم الفطر، ويوم النحر».
وحديث أبي سعيد تقدم
بَابُ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
1996 - وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، حَدَّثنا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قال: «كَانَتْ عَائِشَةُ تَصُومُ أَيَّامَ مِنًى، وَكَانَ أَبُوهَا يَصُومُهَا». [خ 1996] هذا موقوف. وقوله: (وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ) يعني أنه أخذه عنه مذاكرة، كما أسلفناه. وحديث عائشة وابن عمر تقدما. وقوله
1999 - حَدَّثنا ابْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، الحديث. [خ 1999]
ثم قال:
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ.
ثم قال:
تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ.
يعني: أنَّ إبراهيم تابع مالكًا في روايته عن الزهري عن
سالم؛ لأنَّ خَلَفًا قال ذلك عَقيب قوله: (وعن سالم عن ابن عمر)، وعلى مقتضى ما في البخاري يكون إبراهيم قد تابع مالكًا في روايته عن الزهري عن عروة عن عائشة؛ لأن البخاري قالها عَقيب قوله: (وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ)، ذكر هذا المزني في ترجمة مالك عن ابن شهاب عن عروة.

(1/20)


وعند البيهقي من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، ثم قال: وإسناده عن الزهري عن سالم عن ابن عمر مثله، ثم قال: رواه البخاري في «الصحيح» عن ابن يوسف عن مالك.
قال البخاري: وتابعه إبراهيم بن سعد، وساق سنده إلى الربيع بن سليمان قال: أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: «في المتمتِّعِ إذا لم يجدْ هَدْيًا ولم يَصُمْ»، ثم قال: وبإسناده عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه مثل ذلك، وهو يدل أن إبراهيم بن سعد رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة، ورواه عن الزهري عن سالم عن أبيه.
(أَيَّامِ التَّشْرِيقِ): يقال لها: الأيام المعدودات، وأيام منى، وهي الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة، وسميت أيام التشريق؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها؛ أي تُنشَرُ في الشمس، وإضافتها إلى منى؛ لأن الحاجَّ فيها في منى.
وقيل: لأنَّ الهديَ لا ينحر حتى تُشرِقَ الشمس.
وقيل: لأن صلاةَ العيد عند شروق الشمس أول يوم منها، فصارت هذه الأيام تبعًا ليوم النحر، وهذا يعضد قول من يقول: يوم النحر منها.
وقال أبو حنيفة: التشريق التكبير دُبُرَ الصلاة.
قال القرطبي: قال بجواز صوم أيَّامِ التَّشريق مُطلقًا بعضُ السلف.
وفي «الإشراف»: قال جماعة من العلماء: يجوز صيامها لكل واحد تطوُّعًا وغيره، منهم الزبير بن العوام، وابن عمر، وابن سيرين.
زاد ابن بطال: وعبد الله بن الزبير، والأسود بن يزيد.
وعن أنس: «كان أبو طلحة قلَّ ما رأيتُه يُفطِرُ إلا يومَ فطرٍ أو أضحى».
قال ابن قُدامة: كأنهم لم يبلغهم نهيُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صيامها، ولو بلغهم لم يَعْدُوهُ إلى غيره.
قال ابن بطال: كان مالك والشافعي يكرهان صومها إلا للمتمتع، فإن صامها فرضًا فعندنا روايتان، أحدها: لا يجوز، والثانية: يصح لحديث ابن عمر وعائشة المذكور.

(1/21)


قيل: الذي لا يجد الهديَ فيصومُ هذه الثلاثة الأيام؛ لأنها في الحج إذا لم يصمها في العشر مثل ما جاء عن عائشة وابن عمر، ورُوِيَ ذلك عن عبيد بن عمر، وعروة، وهو قول الأوزاعي وإسحاق.
وذكر الطحاوي أنَّ هؤلاء أباحوا صيام أيامَ التشريق للمتمتِّع والقارن والمحْصَر إذا لم يجد هديًا ولم يكونوا صاموا قبل ذلك، مستدلِّين بما رواه البخاري عن ابن عمر وعائشة، وبما رواه الدارقطني عن عبيد الله بن حذافة: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمره في رَهْطٍ أن يُنَادُوا: هذه أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكر الله تعالى، فلا تصوموا فيهنَّ إلا صومًا في هدي»، وأصله عند النسائي من غير هذه الزيادة.
وفي كتاب علي بن المفضل: وقد نقل أن عثمان بن عفان قُتِلَ أوسطَ أيام التشريق وهو صائم.
قال الطحاوي: وقال آخرون: ليس لهؤلاء ولا لغيرهم من الناس أن يصوموا هذه الأيام عن شيء من ذلك، ولا عن كفارة, ولا عن تطوع؛ لعموم النهي، وعلى المتمتع والقارن الهدي لتمتعها وقرانهما، وهدي آخر، وهذا قولنا، وأحد قولي الشافعي.
وعند ابن المنذر عن علي: أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم الثلاثة الأيام في العشر يصومها بعد أيام التشريق، وهو قول الحسن وعطاء.
وأحاديث النهي كثيرة، منها:
حديث سعد بن أبي وقاص: «أمرني رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أناديَ أيامَ مِنًى أنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ، ولا صومَ فيها»، رواه أحمد من حديث محمد بن أبي حميد المديني، وفيه كلام.
وعن أبي هريرة: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أيَّام مِنًى أيامُ أكلٍ وشربٍ» رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وعند مسلم عن نُبيشة الهذلي وكعب بن مالك مثله.
وعن بِشرِ بن سُحيم عند النسائي وحمزة بن عمرو مثله.
وعن عمرو بن العاص عند أبي داود بسند جيد مثله.

(1/22)


وفي الكتاب «المنتهى» للبَرْمَكي: «أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعثَ زيدَ بنَ وَرْقَاءَ إلى أهل مِنًى فقال: إنَّها أيَّام أكلٍ وشربٍ وبِعَالٍ».
قال ابن القَصَّارِ: ومن حجةِ مالكٍ قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. ولا خلاف بين العلماء أن هذه الآية نزلت يوم التروية، وهو الثامن من ذي الحجة، فعُلِمَ أنه أباح لهم صومَها وأنهم صاموا فيها؛ لأنَّ الذي بقيَ من العشر الثامن والتاسع، والثامن الذي نزلت فيه الآية لا يصح صومُه لأنه يحتاج إلى نية من الليل، والعاشر يوم النحر، والإجماع أن لا يُصامَ؛ فعُلِمَ أنهم صاموا بعد ذلك.
وقول ابن عمر وعائشة: «لم يُرخَّصْ في أيام التشريقِ أن يُصَمْنَ إلا لمن لم يجد الهديَ» يرفع الإشكال في ذلك.
بَابُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
وإذا أصبح ولم ينو الصيام ثم صام.
2000 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنْ شَاءَ صَامَ». [خ 2000]
كذا ذكره البخاري، وعند مسلم من حديثه عن أحمد بن عثمان النوفلي، عن أبي عاصم قال: حَدَّثنا محمد بن عمر بن زيد العسقلاني، حَدَّثنا سالم بن عبد الله، حَدَّثنا عبيد الله قال: «ذُكِرَ عند النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومُ عاشوراء فقال: ذاكَ يومٌ كان يصومُه أهلُ الجاهلية، فمن شاءَ صامَه، ومن شاءَ تركَه».
وأما قول المزي في كتاب «الأطراف»: حديث: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يوم عاشوراء إن شاء صام وإن شاء أفطر» رواه البخاري ومسلم، الحديث فغير جيد؛ لأنه ليس لفظ واحد منهما فينظر، والله أعلم.
والذي وقع في مسلم: محمد بن عمر، شبه أن يكون غير جيد، والصواب ما قاله البخاري.
وحديث:
2001 - عَائِشَةَ: «كَانَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَمَرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ»، تقدم. [خ 2001]
وحديث:

(1/23)


2003 - الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ، سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ الله عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ». [خ 2003]
ورواه النسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، والسائب بن يزيد، عن معاوية، وقال: كلا الحديثين خطأ، والصواب حديث الزهري، عن حميد.
وحديث:
2004 - أَيُّوب، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّا اللهُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ». [خ 2004]
وفي لفظ:
2006 - «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي رَمَضَانَ». [خ 2006]
رواه ابن ماجه من حديث أيوب، عن سعيد بن جبير، والمحفوظ أيوب عن عبيد الله بن سعيد عن أبيه.
وفي كتاب «الصيام» للقاضي يوسف: قال ابن عباس: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ليس ليومٍ على يومٍ فضلٌ في الصيام إلا شهرُ رمضان أو يوم عاشوراء».
وعند النقاش: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إن عِشْتُ إلى قابل صمتُ التاسعَ خوفًا أن يفوته».
وفي لفظ: «من صام عاشوراء فكأنما صام الدهر كلَّه وقام ليلَه».
وفي لفظ: «من صامه يحتسب له بألفِ سنةٍ من سنين الآخرة».
وفي لفظ: «يُكفِّر سنتين: سنة قبله وبعده، وإنَّ الله أمرني بصومه».
وحديث:

(1/24)


2005 - أَبِي مُوسَى: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يعُدُّهُ اليَهُودُ عِيدًا، فَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَصُومُوهُ أَنْتُمْ». [خ 2005]
وحديث [2007] سلمة بن الأكوع تقدَّم.
وعند مسلم عن أبي قتادة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صيام يوم عاشوراء إني أحتسِبُ على الله أن يكفِّرَ السنةَ التي قبله».
وقال الترمذي: «لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال في صيام يوم عاشوراء يكفر سنة إلا في حديث أبي قتادة، وبه يقول أحمد وإسحاق» انتهى كلامه.
وفيه ذهول عما ذكره في كتابه أيضًا عن أبي هريرة يرفعه: «ما من أيَّامِ الدنيا أحب إلى الله أن يتعبَّد له فيها من الأيام العشر، وإن صيامَ يومٍ منها ليعدل صيام سنة، وليلة فيها بليلة القدر» وقال: حديث غريب.
وفي كتاب «عاشوراء» لأبي بكر محمد بن الحسن النقَّاش: أخبرنا أحمد بن طاهر بن حرملة، حدثني جدِّي حرملةُ بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، حَدَّثنا عمر بن قيس، عن عطاء بن أبي رَباح، عن أبي الخليل، عن زيد بن أرقم قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسئل عن صيام يوم عاشوراء: «يكفر السنة التي قبلها والسنة التي بعدها»، وسيأتي حديثه إن شاء الله.
وعند النسائي عن محمد بن صَيفِي قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ عاشوراء: «أمنكم أحدٌ أكل اليومَ؟ فقالوا: منَّا من صام، ومنَّا من لم يصم، قال: فأتمُّوا بقيةَ يومكم، وابعثوا إلى أهل العروض، فليتموا بقية يومهم».
وعند أحمد عن هند بن أسماء قال: «بعثني رسول الله
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى قومي من أسلم، فقال: مُرْ قومَك فليصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء»، وقيل: إن الذي بعثَه رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اسمه أسماء بن حارثة.
وعند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن مسلمة عن عمِّه: «أن أسلم أتتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: صمتم يومَكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأتمُّوا بقية يومكم»، وقد تقدَّم.

(1/25)


وحديث الرُّبيِّعِ بنت مُعوِّذ، وقد تقدم في باب صوم الصبيانِ.
وعند النسائي عن قيس بن سعد بن عبادة قال: «أمرنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا».
وحديث ابن مسعود بنحوه في «الصحيح».
وعند مسلم عن جابر بن سَمُرةَ: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمر بصيامِ يومِ عاشوراء ويحثُّنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان، لم يأمرنا، ولم ينهنا».
وعند أبي عيسى عن عليٍّ: «سأل رجلٌ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان؟ قال: صم المحرم، فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب فيه على قومٍ، ويتوبُ فيه على قوم آخرين»، وقال: حسن غريب.
وعن ابن الزبير: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حثَّ على صيام يوم عاشوراء».
وعند النسائي عن حفصةَ: «أربعٌ لم يكن يدعهنَّ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صيامُ عاشوراء، والعشر» الحديث.
وعن بعضِ أزواجِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصوم تسعَ ذي الحجة، ويوم عاشوراء» الحديث.
وعند ابنِ أبي شيبة بسند جيد عن أبي هريرة يرفعُه: «يومُ عاشوراء كانت تصومه الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، فصوموه أنتم».
وعند أبي بكر النَّقَّاش من حديث ابن لَهيعَة، عن أبي الزُّبير، عن جابر قال: «أمرنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ عاشوراء أن نصومَه».
ومن حديث فاطمة بنت محمد عن أم يزيد بنت وَعْلَة عن أبيها: «أنه سمع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمرُ بصوم عاشوراء».
ومن حديث عُلَيلة قالت: حدثتني أمي عن أمة الله بنت رزينة عن أمها قالت: «كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كانَ يوم عاشوراء أمرَ بصيامه وصوَّم الصبيان، ويقول: لا تذوقوا اليوم شيئًا فإنه يعدلُ سنة».

(1/26)


ومن حديث ابن عباس من كتاب «الموضوعات» لأبي سعيد محمد بن علي بن مهدي النقَّاش مرفوعًا: «يوم عاشوراء مبارك، أمرني الله بصومه قبل أن ينزل رمضان» فذكر حديثًا طويلًا.
اتَّفق العلماء على أن صوم عاشوراء اليومَ سُنَّةٌ وليس بواجب، واختلفوا في حكمه أول الإسلام، فقال أبو حنيفة: كان واجبًا.
واختلف أصحاب الشافعي على وجهين مشهورين؛ أشهرهما: أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يكن واجبًا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكّد الاستحباب، فلما نزلَ صومُ رمضان صار مستحبًّا دون ذلك الاستحباب، والثاني: كان واجبًا كقول أبي حنيفة.
قال عياض: وكان بعض السلف يقول: كان فرضًا وهو باقٍ على فرضيته لم ينسخ.
قال: وانقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، إنما هو مستحب، وروي عن ابن عمر كراهةُ قصد صومه وتعيينه بالصوم، والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه. انتهى كلامه.
وفيه نظر! من حيث إن صاحب «المحيط» حكى عن أبي حنيفة كراهته.
وأما قوله: «لَئِنْ بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع» فلم يأت العام المقبل حتى توفي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذكر ابن الجوزي أنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قدمَ المدينة رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فصامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة رمضان لم يأمرهم بغيره، ثم أراد مخالفتهم اليهودَ في آخر عمره فمات قبل العام، وأراد بالتاسع أن يكون عوضًا عن العاشر ليخالف اليهود، أو يكون أراد صومَهما للمخالفة أيضًا، أو يكون كره
صومَ يومٍ مفردٍ فأرادَ أن يفصله بيومٍ غيرِه، أو يكون أراد بالتاسع ما كان يذهب إليه ابن عباس من أنه العاشر.
واختُلِفَ في عاشوراء متى هو؟
فعند الترمذي عن ابن عباس قال: «أمر رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصوم عاشوراء اليوم العاشر» صحَّحه الترمذي.

(1/27)


وعند مسلم عن الحكم بن الأعرج قال: «انتهيتُ إلى ابنِ عباس فقلت: أخبرني عن صوم عاشوراء، فقال: إذا رأيتَ هلال المحرم فاعدد، وأصبحِ يومَ التاسعِ صائمًا. قلت: هكذا كان سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصومه؟ قال: نعم».
وفي لفظ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لئن بقينا إلى قابل لنصومنَّ التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
وفي رواية: أنه لم يكن قال يعني يوم عاشوراء.
قال أبو الخطاب: أفتى ابنُ عباس بعد موتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصومِ التاسع كما كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عزم عليه أن يفعله لو عاش، وبقولِ ابن عباس قال ابن سيرين وأبو رافع صاحب أبي هريرة.
وقال أبو عمر في «التمهيد»: وهو مذهب الشافعي وأحمد بن إسحاق.
وعند أحمد بن حنبل: «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا قبله يومًا وبعده يومًا».
وفي «المصنف» عن الضَّحَّاك: عاشوراء يوم التاسع.
وعن الحسن ومحمد وعكرمة وابن المسيَّب: عاشوراء يوم العاشر.
قال ابن المفضل: وهو ظاهر مذهب مالك.
وفي «تفسير أبي الليث السمرقندي»: عاشوراء يوم الحادي عشر.
قال ابن المفضل: استحبَّ آخرون صيامَ اليومين جميعًا، روي ذلك عن أبي رافع صاحبِ أبي هريرة وابن سيرين، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق.
وروي عن ابن عباس أنه كان يصوم اليومين خوفًا أن يفوته، وكان يصومه في السفر، وفعلَه ابن شهاب.
وصامَ أبو إسحاق يوم عاشوراء ثلاثة أيام: يومًا قبله ويومًا بعده في طريق مكة، وقال: إنما أصوم قبله وبعده كراهية أن يفوتني.
وكذا رويَ أيضًا عن ابن عباس أيضًا أنه قال: «صوموا قبله يومًا وبعده يومًا، وخالفوا اليهود».

(1/28)


وعند أبي الخطاب: اليهود تصوم اليوم العاشر من ... ، وكان مالك يستحبُّ صيامَ يوم عاشوراء أو يفضله على غيره، وكذلك جميع المالكيين بالغرب، ويتصدَّقون فيه، ويرونه من أجلِّ القرب اقتداء بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبإمام مذهبهم. انتهى.
كأن مالكًا نحا إلى حديثٍ رواه أبو موسى المقدسي في كتاب «فضائل الأعمال والشهور» الذي يوقف ... في عدة أسفار أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسَّع الله عليه سائر سَنَتِهِ» قال الأموي: هذا حديث حسن.
وفي «التهذيب» للأزهري: قال الليث: يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم.
وعن المزني: يحتمل أن يكون التاسع هو العاشر.
قال الأزهري: كأنه تأول عشر الورد أنها تسعة أيام، وهو الذي حكاه الليث عن الخليل، وليس ببعيد من الصواب.
وفي «الموعب» عن صاحب «العين»: هو اليوم العاشر من المحرم.
وقيل: هو اليوم التاسع، ومن أنكر هذا القول احتج بأنه لو كان التاسع لكان يقال له: التاسوعاء.
وعن سيبويه: هو على مثال فاعولاء.
وفي «المحكم»: عاشوراء وعشوراء اليوم العاشر من المحرم.
وفي «الجامع»: سُمِّيَ في الإسلام ولم يعرف في الجاهلية.
قال الخليل: بَنَوهُ على فاعولاء ممدودًا؛ لأنها كلمة عبرانية.
وفي «الجمهرة»: هو اسمٌ إسلامي لا يُعرَفُ في الجاهلية؛ لأنه لا يعرف في كلامهم فاعولاء. انتهى.
ثبت في «الصحيحين» عن سيِّدِ العرب والعجم، وعن أصحابه أنَّ عاشوراء كان يُسمَّى في الجاهلية الجهلاء، ولا يعرف إلا بهذا الاسم.
وقال ابن الأعرابي: سمعت العرب تقول: خابوراء.
وفي «تثقيف اللسان» للحِمْيَري عن أبي عمرو الشيباني: عاشورى، بالقصر.
وروي عن أبي عمر أنه قال: ذكر سيبويه فيه المد والهمز،
وأهل الحديث لم يضبطوه وإنما تركوه على القصر وترك الهمز.
كِتَابُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ

(1/29)


2008 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ لِرَمَضَانَ: «مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [خ 2008]
وفي حديث:
2009 - 2010 - ابْن يُوسُفَ، عَنْ مَالِك، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَصَدْر مِنْ خِلاَفَةِ عُمَرَ». [خ 2009 - 2010]
قال:
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ، لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ».
وعند أبي داود من حديث مسلم بن خالد، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة: «خرج رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإذا أناس في رمضان يصلُّون في ناحية المسجد، فقال: مَنْ هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء ناسٌ ليسَ معهم قرآن، وأُبيُّ بن كعب يصلِّي بهم، وهم يصلون بصلاته، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصابوا، ونعم ما صنعوا»، قال أبو داود: ليس هذا الحديث بالقوي.

(1/30)


وحديث [2011] عائشة تقدم.
قال المهلب: في هذه الأحاديث جواز الاجتماع لصلاة النوافل.
وفيه: أن قيام رمضان سُنَّة؛ لأن عمر لم يَسُنَّ إلا ما كان رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحبه، وقد أخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعلة التي منعته من الخروج، وهي خشية أن يفترض عليهم، فلما أمن عمر الفرض لانقطاع الوحي؛ أقام هذه السنة وأحياها، وذلك في سنة أربع عشرة من الهجرة.
والأوزاع: الفِرَق، لا واحد له من لفظه.
وقوله: (مُتفرِّقُونَ) على معنى التأكيد؛ لأن الأوزاع الجماعات المتفرقون، وقال ابن فارس: الأوزاع، الجماعات، فعلى هذا يكون المتفرقون تفسيرًا.
وقال الترمذي: اختلف أهل العلم في قيام رمضان:
فرأى بعضهم: أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة، والعمل على هذا عندهم بها.
وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي وغيرهما من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عشرين ركعة، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي، قال الشافعي: هكذا أدركت ببلدنا مكة شرَّفها الله تعالى يصلون عشرين ركعة.
وقال إسحاق: نختار إحدى وأربعين ركعة، على ما روي عن أبي بن كعب.
وعن مالك: تسع وثلاثون ركعة، الوتر منها ثلاث والباقي ست وثلاثون ركعة.
وقال أحمد: روي في هذا ألوان، ولم يقض فيه بشيء.
واختار هو وابن المبارك وإسحاق: الصلاة مع الإمام في شهر رمضان.
واختار الشافعي: أن يصلي الرجل وحدَه إذا كان قارئًا.
وذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد النَّقَّاشُ المقرئ في كتابه «فضل صلاة التراويح» فيما رويناه عنه، قال الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بضعًا وثلاثين ركعة، وأحب إليَّ غير ذلك، وكذلك يقومون بمكة.
وعن الحسن: أن أُبي بن كعب صلى بهم أربعين ركعة غير ركعة، أو أربعين وركعة.
وعن صالح مولى التوأمة قال: أدركت الناس يقومون بإحدى وأربعين ركعة يوترون منها بخمس.

(1/31)


وقال الحسن بن عبيد الله: كان عبد الرحمن بن الأسود يصلي بنا في رمضان أربعين ركعة يوتر بسبع».
فأما الصلاة بين التراويح:
فعن مالك بن أنس: لا بأس به، وكذلك قاله ابن أبي ذئب، وكان الليث بن سعد والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وابن جابر وبكر بن مضر يصلون بين التراويح في شهر رمضان، وقال سفيان بن سعيد رحمه الله: لا بأس بذلك.
وزجر عن ذلك عبادة بن الصامت ? وضربهم على ذلك، ونهى عامر عن الصلاة بين التراويح وقال: لا تشبهوها بالفريضة.
وكان أبو الدرداء إذا رأى الرجل يصلي بين الترويحتين قال: «تصلي وإمامك قاعد بين يديك، أترغب عنَّا؟! فلست منَّا».
وكان عامر بن عبد الله بن الزبير وأبو بكر بن حزم ويحيى بن سعيد يصلون بين الأشفاع، وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والحسن كانوا يصلون بين الركوع، وأحمد بن حنبل يقول بالصلاة بين التراويح.
وقال قيس بن عباد: «صليت خلف أبي موسى الأشعري في رمضان فقام بين الركعتين».
وقال زيد بن وهب: «كان عمر بن الخطاب يروح بين التَّرويحتين قدرَ ما يذهب الرجل إلى سَلْعٍ ويأتي».
وقال سفيان بن سعيد: «أطول ذلك قدر ما يصلي الركعات ويستريح».
وقال نصر بن سفيان: «كنا نُروِّحُ مع عمر قدرَ ما يقرأ الرجل مئة آية، وابن الزبير قدرَ ما يصلي الرجل أربع ركعات يقرأ في كل ركعة عشر آيات».
وقال السائب بن يزيد: «كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العِصيِّ من طول القيام».
وقال أبو عثمان النَّهْدي: «أمر عمر بن الخطاب ثلاث نفرٍ يؤمُّون: فأسرعهم أن يقرأ ثلاثين آية، وأوسطها خمسة وعشرين آية، وأبطأهم عشرين آية».
وكان ابن أبي مُليكة يقرأ في رمضان في الركعة الواحدة بفاطر وعسق، وكان مسروق يقرأ بالعنكبوت.

(1/32)


وقال عروة بن الزبير: «جاء عمر بن الخطاب المسجد ذات ليلة في رمضان فقال: ما شأن الناس قد اجتمعوا؟ فقالوا: اجتمعوا للصلاة، فقال: بدعة ونعمتِ البدعة، ونعمتِ البدعة ثلاثًا، ثم قال لأُبي بن كعب: صلِّ بالرجال».
وقال لسهل بن أبي حَثْمة: «صلِّ بالنساء»، وفي لفظ: لتميمٍ الداري.
وأما حديث النضر بن شَيبان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «رمضان افترض الله جلَّ وعزَّ صيامه، وإني سننت للمسلمين قيامه، فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه» فسُئِلَ البخاري عنه فقال: الصحيح حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: ولا يصح لأبي سلمة سماع من أبيه.
وقال إبراهيم الحربي: اجتمع يحيى ومحمد بن عمرو على هذا الحديث أنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
ووافقهم الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «كان يُرغِّبُ في قيام رمضان من غير عزيمة».
وفي «سنن» النسائي و «الأحاديث الجِياد» للشيخ الضياء المقدسي قال النضر بن شَيبان: «قلت لأبي سلمة: حدثني بشيء سمعتَه من أبيك، سمعه أبوك من النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ليس بين أبيك وبين رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحد في شهر رمضان؛ فقال: نعم، حدثني أبي قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» الحديث.
ولما ذكره البزار بهذا اللفظ قال: هذا الحديث لا نعلمه يُروَى عن ابن عوف إلا بهذا الإسناد من حديث النضر بن شَيبان، ورواه عن النضر غير واحد.
وقال السفاقسي: وقع في بعض النسخ بالهاء، وهو الصواب على أصول الكوفيين، وإنما يكون عند البصريين بالتاء ممدودة: ونعمت؛ لأن نِعْمَ عندهم فعل فلا يتصل به إلا تاء التأنيث دون هائه، وفي بعض النسخ «نعم»، وهي رواية أبي الحسن، ووجهه أنها تقدمت مؤنثًا غير ذي فرج، مثل: {وَجَاءَهُمُ البَيَّنَاتُ} [آل عمران: 86].
و «نِعْمَ»: كلمة تجمع المحاسن كلها، و «بئس»: تجمع المساوئ كلها.

(1/33)


بَابُ فَضْلِ لَيْلَةِ القَدْرِ
وَقَوْلِ اللهِّ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}
هذه السورة مكية في قول مقاتل، وفي الكتاب المعروف بـ «مقامات التنزيل»: لا خلاف في ذلك.
وقال الواحدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة.
أخبرنا المسند المعمر فتح الدين الدَّبُوسِي، عن ابن المقير، عن أبي الفضل الميْهَنِي، عن الواحدي، أخبرنا أبو بكر التميمي، حَدَّثنا عبد الله بن حيان، حَدَّثنا أبو يحيى الرازي، حَدَّثنا سهل بن عثمان، حَدَّثنا يحيى بن أبي زائدة، عن مسلم، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد قال: «ذكر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر، فتعجب المسلمون من ذلك،
فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} قال: خير من الذي لبس السلاح فيها ذلك الرجل».
وقال الطبري: حَدَّثنا ابن مثنى، حَدَّثنا عبد الأعلى، حَدَّثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «نزل القرآن كلُّه جملةً واحدة في ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا، وكان الله جلَّ وعزَّ إذا أراد أن يحدِث في الأرض شيئًا أنزله منه حتى جمعَه».
وعن الشعبي قال: «نزل أول القرآن ليلة القدر».
وعن مجاهد: «ليلة القدر ليلة الحكم».
وحدَّثَنا أبو الخطاب الجارود بن سهيل، حَدَّثنا سلم بن قتيبة، حَدَّثنا القاسم بن الفضل، حَدَّثنا عيسى بن مازن، قال: «قلت للحسن بن علي: عمدت لهذا الرجل فبايعت له؟ يعني معاوية، فقال: إن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُرِيَ بني أميَّة يعلون منبرَه خليفة بعد خليفة، فشقَّ ذلك عليه، فأنزل الله سورة القدر. قال القاسم: فحسبنا مُلْكَ بني أمية فإذا هو ألف شهر».

(1/34)


وقال مقاتل: أنزل الله جلَّ وعزَّ القرآن العظيم من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى السَّفَرةِ، وكان ينزل تلك الليلة من اللَّوح على قدر ما ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السنة كلها إلى مثلها من قَابِل، حتى نزل القرآن العظيم في ليلة القدر من رمضان».
وفي «تفسير ابن عباس» جمع ابن أبي زياد الشامي: أنزل الله جلَّ وعزَّ صحف إبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أول ليلة من رمضان، وأنزل التوراة لستِّ ليالٍ خلون منه، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة خلون منه، وأنزل القرآن ليلةَ أربعة وعشرين من رمضان».
قال ابن عباس: «لأَنْ أقوم ليلة أربع وعشرين أحبُّ إلي من أقوم الشهر كله».
قال البخاري:
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: «مَا كَانَ فِي القُرْآنِ: {مَا أَدْرَاكَ} [الانفطار: 18].فَقَدْ أَعْلَمَهُ، وَمَا قَالَ: {وَمَا يُدْرِيكَ} [الأحزاب: 63]. فَإِنَّهُ لَمْ يُعْلِمْهُ».
هذا التعليق ذكره ابن عيينة في «تفسيره»
الذي أخبرنا به بدر الدين الحنفي قراءةً عليه، عن صالح المُدْلَجي، عن الحافظ أبي القاسم الدمشقي، قال: أخبرنا الإمام أبو علي الحسن ابن المظفر، أخبرنا والدي قراءة عليه، أنبا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن فراس، أخبرنا أبو جعفر الديلي، حدثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة فذكره.
وقد اختلف العلماء في ليلة القدر:
فقيل: هي أول ليلة من رمضان.
وقيل: ليلة سبع عشرة.
وقيل: ليلة ثمان عشرة.
وقيل: ليلة تسع عشرة.
وقيل: ليلة إحدى وعشرين.
وقيل: ليلة ثلاث وعشرين.
وقيل: ليلة خمس وعشرين.
وقيل: ليلة سبع وعشرين.
وقيل: ليلة تسع وعشرين.
وقيل: آخر ليلة من شهر رمضان.
وقيل: في أشفاع هذه الأفراد.
وقيل: في السنة كلها.
وقيل: في جميع شهر رمضان.
وقيل: تتحول في ليالي العشر كلها.

(1/35)


وسميت بذلك: لعظمها، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرَوُا اللهَّ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91].
وقيل: سميت بذلك من المضيق، قال تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهُ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]. وهي ليلة تضيق الأرض فيها عن الملائكة.
وقيل: سميت بذلك لما يقدر فيها من الأشياء.
وقيل: من لم يكن له قَدْرٌ يصير برؤيتها ذا قَدْرٍ.
وقيل: لأنه أنزل فيها كتاب له قدر، وينزل فيها رحمة ذات قدر، وملائكة ذوو قدر.
وفي «شرح الهداية»: ذهب أبو حنيفة إلى أنها في رمضان تتقدم وتتأخر، وعندهما: لا تتقدم ولا تتأخر، لكن غير معينة، وقيل: هي عندهما في النصف الأخير من رمضان.
وعند الشافعي: في العشر الآخِر لا تنتقل، ولا يزال إلى يوم القيامة.
وقال أبو بكر الرازي: هي غير مخصوصة بشهر من الشهور، وبه قال الحنفيون.
وفي قاضي خان: المشهور عن أبي حنيفة أنها تدور في السنة كلها، وقد تكون في رمضان، وقد تكون في غيره، وصح ذلك عن ابن مسعود.
وذهب ابن الزبير إلى أنها ليلة سبع عشرة، وأبو سعيد الخدري إلى ليلة إحدى وعشرين
وإليه ذهب الشافعي.
وعن عبد الله بن أُنَيسٍ ليلة ثلاث وعشرين.
وعن ابن عباس وغيره من الصحابة: ليلة سبع وعشرين.
قال ابن عباس: «السورة ثلاثون كلمة، فإذا وصلت إلى قوله: {هي} فهي سابعَة وعشرين منها، وكان يقول: خلق الإنسان من سبع، ورمي الجمار سبع.
وعن بلال: ليلة أربع وعشرين.
وعن علي: ليلة تسع عشرة.
وقيل: هي في العشر الوسط، والعشر الآخر.
وقيل: في أشفاع العشر الأواخر.
وقيل: في النصف من شعبان.
وقول الشيعة: أنها رفعت، يرد عليهم قوله: «التمسوها في كذا وكذا».

(1/36)


وقال ابن حزم: فإن كان الشهر تسعًا وعشرين فهي في أول العشر الآخر بلا شك، فهي إما في ليلة عشرين، أو ليلة اثنين وعشرين، أو ليلة أربع وعشرين، أو ليلة ست وعشرين، أو ليلة ثمان وعشرين، وإن كان الشهر ثلاثين فأول العشر الأواخر بلا شك، إما ليلة إحدى وعشرين، أو ليلة ثلاث وعشرين، أو ليلة خمس، أو ليلة سبع، أو ليلة تسع وعشرين في وترها.
وعن ابن مسعود: أنها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة يوم بدر، وحكاه ابن أبي عاصم أيضًا عن زيد بن أرقم.
وفي «مسند عبد الله بن وهب البصري» عن عبيد الله بن عمرو: «من صلَّى العشاء الآخِرة أصاب ليلة القدر».
وفي «شرح المهذب» عن الشافعي: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بنصيبه منها.
وحديث الباب تقدم.
بَابُ التَمِسُوْا لَيْلَةِ القَدْرِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ
2015 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِّ بْنُ يُوسُفَ، أخبرنا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ». [خ 2015]
وفي حديث عمر عند الحاكم على شرط مسلم من حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس: «إني سمعت الله تعالى يذكر السبع، فذكر سبع سماوات، ومن الأرض مثلهن، وخلق الإنسان من سبع، ونبت الأرض من سبع. فقال عمر: والله إني لأرى القول كما قلت».
وعند ابن أبي عاصم: «التمسوها في العشر الأواخر».
وعن ابن عباس: «كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يرشُّ على أهلِهِ الماءَ ليلةَ ثلاث وعشرين».

(1/37)


وعند مسلم عن أبي بن كعب: «وحَلَفَ لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقيل: بأي شيء تقول ذلك؟ فقال: بالعلامة التي أخبرنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الشمسَ تطلع يومئذٍ لا شعاع لها».
وعن عبد الله بن أُنَيسٍ أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أُرِيتُ ليلةَ القدرِ ثم أُنْسِيتُها، وأُرَاني صبيحتَها أسجدُ في ماءٍ وطينٍ. قال: فمُطِرْنا ليلةَ ثلاثٍ وعشرين» الحديث.
وعن أبي هريرة قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أُرِيتُ ليلةَ القدر، ثم أيقظني بعضُ أهلي، فنسيتُها، فالتمسوها في العشرِ الأواخر».
وعند ابن أبي شيبةَ عن جابر بن سَمُرةَ بسندٍ صالح قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «الْتَمِسُوا ليلةَ القدرِ في العشر الأواخر».
زاد أحمد: «في وترٍ، فإني قد رَأيتُها فأُنْسِيتُها، وهي مطرٌ وريحٌ، أو قال: قطرٌ وريحٌ».
وعند ابن أبي عاصمٍ من حديث جابرِ بن عبد الله قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فأُنْسِيتُها، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ لَيالِيهَا، وَهِيَ لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ، بَلْجَةٌ، لَا حَارَّةٌ، وَلَا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا، لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يُضِيءَ فَجْرُهَا».
وعند أبي زُرْعة عبد الرحمن بن عمرو البصري الدمشقي في العاشر من حديثه قال: حدثنا سعيد ـ يعني ابن سليمان ـ، حَدَّثنا صالح بن عمر، حَدَّثنا عاصم بن كُلَيب، عن خاله لقمان ـ يقال: اسمه الفَلَتان ـ قال: «أتيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنِّي خرجت إليكم، وقد بينت لي ليلة القدر، فخرجت إليكم لأثبتها، فلقيت في المسجد رجلين يَتَلاحَيَان معهما الشيطان، فحجزت بينهما، فاختلست مني، فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر».
وعند النسائي عن أنس مثله وفيه: «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة»

(1/38)


وعند ابن أبي عاصم، حَدَّثنا صاعقة، حَدَّثنا عبد الصمد بن
النعمان، حَدَّثنا خالد بن مَحْدُوج، عنه مرفوعًا: «التمسوا ليلة القدر في أول ليلة من رمضان، أو في تسعٍ، أو في أربع عشرة، أو في إحدى وعشرين، أو في آخر ليلة»، قال أبو بكر: ولا نعلم أحدًا قال: «أول ليلة» إلا هذا.
وعند الترمذي مصححًا عن أبي بكرةَ سمعت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «التمسوها في تسع يبقين، أو سبعٍ يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاثٍ، أو آخر ليلة»، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وعند البخاري عن بلال يرفعه: «هي في السبع، في العشر الأواخر».
وعند أبي نُعَيم الحافظ أنها أول السبع من العشر الأواخر.
وعند الطبراني من حديث ابن لهيعة: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين».
وعند أبي داود - بسند فيه مقال - عن ابن مسعود قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين».
وعن معاوية بن أبي سفيان يرفعه: «ليلة القدر ليلة سبع وعشرين».
وعند الحاكم على شرط مسلم عن أبي ذرٍّ: «سألتُ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ليلة القدر: أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال: بل هي في رمضان. قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قبضوا رفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قلت: يا رسول الله! في أي رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأول والعشر الأواخر. قال: ثم حدَّث رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاهتبلت غفلته فقلت: في أي العَشرَيْن؟ قال: التمسوها في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها. ثم حدَّث، قال: فاهتبلت غفلته فقلت: يا رسول الله! أقسمت عليك لتخبرني في أي العشر هي؟ قال: فغضب عليَّ غضبًا ما غضب عليَّ قبله ولا بعده مثله، وقال: إن الله لو شاء لأطلعكم عليها، التمسوها في السبع الأواخر».

(1/39)


وعند أبي عبد الرحمن النسائي عن النعمان بن بشير قال: «قمنا مع رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة تسع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح».
زاد أحمد: «فأما نحن فنقول: ليلة السابعة ليلة سبع وعشرين، وأنتم تقولون: ليلة ثلاث وعشرين السابعة، فمن أصوب نحن أو أنتم؟».
أخبرنا غير واحد من أشياخنا، عن الفقيه بهاء الدين المصري، عن الحافظ الثَّغْري، قال: أخبرنا أبو الخطاب, حدثنا ابن بِشْران، أخبرنا أبو الحسين بن الحباب، حَدَّثنا الصَّفَّار، حَدَّثنا سويد، حَدَّثنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي، عن أبي إسحاق، عن هُبيرة بن يَريم، عن علي بن أبي طالب، قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «من كان ملتمسًا ـ يعني ليلة القدر ـ فليلتمسها في العشر الأواخر من رمضان، فإن عجزتم، فلا تُغْلَبُوا في السبع الأواخر».
وعند ابن أبي عاصم: «كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دخل العشرُ أيقظ أهله ورفع المئزر، يعني اعتزل النساء».
وعند ابن أبي عاصم - بسند صالح - عن معاذ بن جبل: «سئل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ليلة القدر فقال: في العشر الأواخر, في الخامسة أو السابعة».
وعن أبي الدرداء - بسند فيه ضعف - قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يفرق فيها كل أمر حكيم، وفيها أنزلت التوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن العظيم، وفيها غرسَ الله الجنةَ، وجبَلَ طينةَ آدم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
وحديث [2016] أبي سعيد تقدم.
قال ابن بطال: قوله: (مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ) يريد ذلك العام الذي تواطأت فيه الرؤيا على ذلك، وهى ليلة ثلاث وعشرين.

(1/40)


قال الطحاوي: وفي القرآن ما يدلُّ أنها في رمضان خاصَّة خلاف ما يقوله ابن مسعود، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ. إِنَّا كُنَّا مُنْزِلِيْنَ. فِيْهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيْمٍ} [الدخان: 3]. فأخبر سبحانه بأن الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة القدر، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} [البقرة: 185]. فثبت بذلك أن تلك الليلة في شهر رمضان.
قال ابن التين: قول أبي سعيد في حديثه:
(فَخَرَجَ صَبِيْحَةَ عِشْرِيْنَ) وجهه أنه أخرج قبته، أو خرج هو من موضع إلى آخر، وأما هو فليس بوقت خروج من الاعتكاف، ولا يخرج من اعتكف وسط الشهر إلا بعد مغيب الشمس من ليلة إحدى وعشرين. انتهى.
في حديث أبي سعيد بيان ما استبعده وهو:
2018 - «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُجَاوِرُ فِي رَمَضَانَ العَشْرَ الَّتِي فِي وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذَا كَانَ حِينَ يُمْسِي مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً تَمْضِي، وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَجَعَ إِلَى مَسْكَنِهِ». [خ 2018]
وعند مسلم: «اعتكف في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده فنحَّاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمسُ هذه الليلة، ثم اعتكفتُ العشر الأوسط، ثم أُتِيتُ فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه».
وفي لفظ: «فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا» الحديث.
وعند مالك في حديث أبي سعيد خلافُ ما في البخاري، وهو الذي اعتمده ابن التين: «حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ».

(1/41)


قال أبو عمر: والوجه في ذلك عندي أنه أراد أنه خطبهم غداةَ عشرين ليعرِّفهم أنه اليوم الآخر من أيام اعتكافه، وأنَّ الليلة التي تلي تلك الصبيحةَ هي ليلة إحدى وعشرين هي المطلوب فيها ليلة القدر.
وقال المهلب: ليس بين الروايتين تعارض؛ لأن يوم عشرين معتكف فيه، وبه تتم العشرة الأيام؛ لأنه دخل في أول الليل فيخرج في أوله، فيكون معنى قوله: «في ليلة إحدى وعشرين وهي التي يخرج من صبيحتها» يريد الصبيحة التي قبل ليلة إحدى وعشرين، وإضافتها إلى الليلة كما تضاف أيضًا الصبيحة التي بعدها إلى الليلة، وكلُّ متَّصل بشيء فهو مضاف إليه؛ سواء كان قبله أو بعده، وإن كانت العادة في نسبة الصبيحة إلى الليلة التي قبلها لتقدُّم الليل على النهار فإنَّ نسبة الشيء إلى ما بعده جائز.
وقوله في حديث عائشة: (تَحَرَّوْا) أي احرصوا في طلبها واجتهدوا فيه.
قال الطبري: في دلالته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ليلة القدر بالآيات دليل واضح على كَذِبِ من زعم أنها تظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة من سقوط الأشجار إلى الأرض، ثم رجوعها قائمة إلى أماكنها؛ إذ لو كان ذلك حقًا لم يَخْفَ على بصرِ من يقوم ليالي السنة كلها، فكيف بليالي رمضان.
إثر حديث:
2021 - ابْنِ عَبَّاسٍ: «التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ». قَالَ عَبْدُ الوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْهُ: «التَمِسُوهَا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ». [خ 2021]
خرَّجه البيهقي في «سننه» من طريق إسحاق بن الحسن، عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل عنه.
وقوله: (شَدَّ مِئْزَرَهُ) المئزر والإزار: ما يأتزر الرجل به من أسفله، وهو يُذكَّرُ ويؤنَّث، وهو هنا كناية عن الجِدِّ والتشمير في العبادة.
وقيل: كناية عن ترك النساء.
وعن الثوري: هذا من ألطف الكنايات عن اعتزال النساء.
قال القرطبي: وقد ذهب بعض أئمتنا إلى أنه عبارة عن الاعتكاف.

(1/42)


قال: وفيه بعد لقوله: (أَيْقَظَ أَهْلَهُ)، وهذا يدل على أنه كان معهم في البيت، وهو كان في حال اعتكافه في المسجد، وما كان يخرج منه إلا لحاجة الإنسان، على أنه يصح أن يوقظهنَّ من موضعه من باب الخوخة التي كانت له إلى بيته في المسجد. انتهى.
يحتمل أيضًا أن يكون قوله: (يُوْقِظُ أَهْلَهُ) أي المعتكفةَ معه في المسجد، أو يحتمل أن يوقظهنَّ إذا دخل البيت لحاجته.
وقوله: (وَأَحْيَا لَيْلَهُ) يعني باجتهاده في العشر الآخر من رمضان؛ لاحتمال أن يكون الشهر إما ناقصًا وإما تامًّا، فإذا أحيا ليالِيَ العشر كلها لم يفته منها شفعٌ ولا وترٌ.
وقيل: لأن العشر آخر العمل فينبغي أن يحرص على تجويد الخاتمة.
بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ
وَالِاعْتِكَافِ فِي المَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِّ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187].
قال الأزهري: قال المفسرون وغيرهم من أهل اللغة: {عَاكِفُونَ}: مقيمون في المساجد، يقال: عكَف يعكُف ويعكِف؛ إذا أَقَامَ، ومنه قوله: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138]؛ أي يقيمون، قال الفراء: يقال: عَكفتُه أعكُفُه عكفًا، إذا حبسته، وَقد عكَّفْت القوم عن كذا، أي حبستهم، ويقال: إنك لتعكفني عن حاجتي، أَي تصرفني عنها.
قال الأزهري: يقال: عكفتُه عكفًا، فعكف يعكف عكوفًا، وهو لازم وواقع، كما يقال: رجعته فرجع، إلا أن مصدر اللازم العكوف، ومصدر الواقع العَكْف.
وعن الليث: عَكْفًا وعكوفًا، وهو إقبالك على الشيء لا ترفع عنه وجهَك.
والاعتكاف في المسجد: الإقامة فيه، وأن لا يبرح منه إلا لحاجة الإنسان، وقوم عُكوف: مقيمون.

(1/43)


في «الموعب»: أصوب ما يكون العَكْف إذا كان من جماعة، والعاكف: المعتكف، وقلَّ ما يقولون: عكف، ولو قيل لكان صوابًا.
وفي «أمالي» أبي الحسن الأخفش: يعكفن: يقمن معي، ويقال: يطفن بي.
وفي «المحكم»: قوم عكف وعكوف.
وعن الشافعي: والاعتكاف لزوم المرء الشيءَ وحبسُ نفسِه عليه، بِرًّا كان أو إثمًا، دليله قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138].
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضًا إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذرًا، فيجب عليه.
قال ابن قدامة: إن نوى اعتكافَ مدة لم يلزمه، فإن شرع فيها فله إتمامها وله الخروج منها متى شاء، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: يلزمه بالنية مع الدخول فيه، فإن قطعه لزمه قضاؤه.
قال ابن عبد البر: لا يختلف في ذلك الفقهاء، ويلزمه القضاء عند جميع العلماء.
قال: وإن لم يدخل فيه فالقضاء يستحب، ومن العلماء من أوجبه إن لم يدخل فيه، واحتج بحديث عائشة: «كان يعتكف العشر الأواخر» الحديث، وفيه: «فإني معتكفه، فلما أفطر اعتكف عشرين شوال».
قال ابن قدامة: لم يصنع أبو عمر شيئًا، وليس هذا بإجماع، ولا يعرف هذا القول عن أحد سواه، وقد قال الشافعي: كل عمل لك أن لا تدخل فيه، فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة.
وفي «شرح الهداية»: الاعتكاف سنة مؤكدة.
وفي «المبسوط»: قربة مشروعة.
وقال ابن العربي في «العارضة»: هو سنة، وقول أصحابنا: جائزٌ جهل منهم.
ونص الشافعيون والحنابلة على كونه سنة، ولم يقل أحد بوجوبه، وثبت أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتكف العشر الأول، والأوسط، والآخر، والعشرين من شوال، يلتمس في ذلك كله ليلة القدر إلى أن استقر الأمر عنده أنها في العشر الأواخر.

(1/44)


وعن أنس: «أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عامًا، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين».
قال الترمذي: لما قطع اعتكافه من أجل أزواجه قضاه على مذهب من يرى قضاء التطوع إذا قطعه.
قال ابن العربي: ليس في الحديث أنه شرع فيها، وإنما صلى الفجر فلما أراد أن يدخل المعتَكَفَ جرى ما جرى ولم يدخل المعتَكَفَ ولا شرع فيه، فلم يلزمه قضاؤه على قول أحد.
والاعتكاف: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف، أما اللبث في المسجد فركنه، وخصُّ بالمسجد بالإجماع، ولم يخالف فيه أحد إلا ابن لبانة المالكي فجوزه في غير المسجد من غير صوم للرجال والنساء، وهو شاذ، والصوم من شرطه.
وقيل: إنه مذهب علي، وعائشة، وابن عمر، والشعبي، وعروة، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وابن المسيب، ونافع، والزهري، والأوزاعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك، والثوري، والليث، والحسن بن حي، والشافعي في القديم، وقول لأحمد بن حنبل.
وروي عن علي أيضًا، وابن مسعود، وطاووس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق: الصوم ليس بشرط في الواجب والنفل.
ورواية عطاء ومقسم وأبي فاخِتة عن ابن عباس شرط الصوم.
استدلوا بما رواه الدارقطني عن ابن عباس: «ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه».
قال أبو الحسن: رفعه أبو بكر محمد بن إسحاق السُّوسي، وغيره لا يرفعه.
وبما رواه ابن عمر عند الأئمة الستة: «أن عمر سأل رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: كنتُ نذرتُ أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك»، قالوا: والليلة لا تقبل الصوم بالإجماع، والصوم عبادة أصل بنفسه فلا يكون شرطًا لغيره كالصلاة والزكاة والحج.
قالوا: وصوم رمضان لا يجوز لأحد أن ينوي به رمضان وغيره معًا لا واجبًا ولا غير واجب، ومعلوم أن اعتكاف سيدنا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في رمضان.

(1/45)


وقال ابن شهاب: اجتمعت أنا وأبو سهيل بن مالك عند عمر بن عبد العزيز، فقلت: «لا يكون اعتكاف بغير صوم، فقال عمر: أَمْر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقلت: لا، قال: أَمْر أبي بكر؟ قلت: لا، قال: أَمْر عمر؟ قلت: لا، قال: عثمان؟ قلت: لا، قال: فلا إذًا».
وبما روي أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتكف في العشر الأول من شوال.
وأما الذين اشترطوا الصوم فذهبوا إلى ما قالت عائشة أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لا اعتكاف إلا بصوم»، رواه البيهقي من جهة مؤمِّل بن عبد العزيز الدمشقي، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة عنها، وقال: هذا وَهَمٌ من سفيان أومن مؤمل.
ورواه الدارقطني من حديث سويد بن عبد العزيز عن سفيان، وهو عند أبي داود عنها: «السُّنَّةُ في المعتكف أن لا يعود مريضًا»، وفيه: «ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع».
وقال: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه قائل: «قالت: السُّنَّةُ».
وابن إسحاق هذا: هو القرشي المدني، عرف بعَبَّاد، وثقه ابن معين وغيرُه، وروى حديثَه مسلم في «صحيحه»، ولما ذكر الدارقطني حديث القاسم بن معن، عن ابن جريج، عن ابن شهاب عن سعيد وعروة عن عائشة قالت، فقال: إن قوله: «وإن السنة للمعتكف» الخ ليس من قول النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إنما هو من قول ابن شهاب، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم.
وقال البيهقي: منهم من زعم أنه من قول عائشة، ومنهم من زعم أنه من قول ابن شهاب، ويشبه أن يكون من قول مَنْ دُونَ عائشة، فقد روى الثوري عن هشام بن عروة قال: «المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضًا، ولا اعتكاف إلا بصيام».
ورواه ابن أبي عَروبة عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت: «لا اعتكاف إلا بصوم» فالله أعلم.
وروينا عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «المعتكف يصوم».

(1/46)


وعند أبي داود أيضًا: «أن عمر لما سأل عن اعتكافه كان في الجاهلية قال له النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوم الجِعْرانة يعني سنة ثمان: اعتكِفْ وصُمْ».
في إسناده عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار، وقال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هذا الحديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو لم يذكروه؛ يعني الصوم، منهم ابن جريج، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وابن زيد.
وقال البيهقي: هذا منكر، قد أنكره حفاظ الحديث لمخالفته أهل الثقة والحفظ في رواية، وخرجه الشيخان من غير قوله: «وصم».
قال القرطبي: تفرَّدَ به ابن بُدَيلٍ عن عمرو، وخرَّجه الحاكم في «المستدرك» وقال: لفقهاء أهل الكوفة في ضدِّ حديث ابن عباس يرفعه: «ليس على المعتكف صيام»، القائل فيه: صحيح على شرط مسلم، حديثان: الأول: فذكر حديث عائشة ثم حديث عمر هذا، وقال: لم يحتجَّ الشيخان بسفيان ولا بابن بُدَيل.
ولما ذكر أبو أحمد حديث ابن بديل قال: لا أعلم ذكرَ الصوم في الاعتكاف في هذا الحديث إلا هو، ولا له غيرُ ما ذكرتُ مما ينكر عليه الزيادة في إسناده أو متنه ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا فأذكره. انتهى.
قال يحيى بن معين: هو صالح، وذكره ابن شاهين وابن حبان وابن خُلْفون في كتاب «الثقات»، صحَّحَ حديثه هذا ابن العربي، وقد وجدنا لابن بديل متابعًا بخلاف ما قاله أبو أحمد، وهو ما رواه الدارقطني بسند حسن من حديث سعيد بن بشير.
قال الإشبيلي: وتفرَّد به عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: «أن عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أوفِ بنذرك».
وقال الشافعي: رأيتُ عامةً من الفقهاء يقولون: لا اعتكاف إلا بصوم، ذكره البيهقي.

(1/47)


وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ونافع مولى ابن عمر أنهما قالا: «لا اعتكاف إلا بصوم لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام.
وقال ابن القصار: إن الله تعالى لما ذكر الوطء في أول الآية الكريمة، وعلَّقَ ذكرَه في الصوم بالنهار عطف عليه حكم الاعتكاف، وذكر خطر الوطء معه لأنه قد يصح في وقت لا يصح فيه الصوم، وهو زمن الليل، ولو وطئ ليلًا يفسد اعتكافه، فهذا فائدة ذكره الوطء بعد تقدُّمِ ذكره.
وقال عياض: لم يأت عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه اعتكف بغير صوم، ولو كان جائزًا لفعله تعليمًا للجواز، وهو عمل أهل المدينة.
قالوا: ويجاب عن حديث ابن عباس بأمور، منها:
أن السُّوسي تفرَّد به ولم يحتجَّ به أهل الصحيح، فلا يعارض حديثَ عبد الرحمن بن إسحاق المحتج به في الصحيح.
الثاني: أسلفنا عن ابن عباس اشتراط الصوم، والراوي إذا عمل بخلاف روايته قدح ذلك في روايته على قاعدة الحنفية.
الثالث: القول بموجب الحديث، وهو أن الهاء عائدة على الاعتكاف دون الصوم؛ لأنه أكثر فائدة، ولأن وجوب المنذور بالنذر معلوم، والخفاء في وجوب غير المنذور بالنذر، فكان حمله على الأكثر فائدة، أو يحتمله فيحمل عليه توفيقًا بين الحديثين.
الرابع: نقول إنه محمول على الحصر والندب، وحديث عمر محمول على أنه كان نذر يومًا وليلة، وهو في مسلم.
قال ابن بطال: كان الصوم كان في أول الإسلام بالليل، ولعل ذلك كان قبل نسخه. انتهى.
وفيه نظر، لأنَّا قد أسلفنا أن صوم الليل كان أولَ الإسلام، وحديثُ عمر في السنة الثانية.

(1/48)


وأنكر النووي على صاحب «لمهذب» استدلاله بحديث عمر، وقال: هو نذر في الجاهلية، وقد تقرر أن النذر في الجاهلية لا ينعقد على الصحيح، فلم يكن ذلك شيئًا واجبًا عليه.
قال ابن بطال: وهذا محمول على الحصر والندب لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله.
قال المهلب: كلُّ ما كان في الجاهلية من يمين وطلاق وشبههما فإنَّ الإسلام يهدمه، ويكون الأمر بذلك أمرَ استحباب كيلا يكون خُلْفًا في الوعد.
وذهب البخاري إلى وجوب الوفاء به، ولهذا بوب في كتاب النذر: «بَابُ إِذَا نَذَرَ وْ حَلَفَ أَلا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمَ» فقاس اليمين على النذر، وهو قول
الشافعي وأبي ثور والطبري.
وزعم ابن الجوزي أن معنى قوله: (فِي الجَاهِلِيَّةِ) أي: ونحن بمكة قبل فتحها وأهلها جاهلية، فعلى هذا لا يكون ناذرًا في الكفر، وبنحوه قاله الأصيلي، قال: يعني في زمن الجاهلية بعد أنه أسلم عمر بن الخطاب. انتهى كلامهما.
وفيه نظر، لما ذكره ابنُ أبي عاصم في كتاب «الصيام»: حَدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: «نذرتُ أن أعتكف في الجاهلية، فلمَّا أسلمت سألتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أوفِ بنذرك».
قال القرطبي: والصحيحُ اشتراط الصوم؛ لأنَّ حديث عائشة ـ إن صحَّ ـ فهو نص، وإن لم يصحَّ فالأصل في العبادات والقرب أنها تفعل على نحو ما قرَّرها الشارع أو فعلها، وقد تقرر مشروعية الاعتكاف مع الصوم في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وأن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يعتكف إلا صائمًا، فمن ادَّعى جوازَه بغير صومٍ دُفِعَ إلى إقامة دليل على ذلك. انتهى.

(1/49)


قد أسلفنا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتكفَ العشرَ الأوَّل من شوال، كذا عند البيهقي، وفيه ما لا يصلح فيه صوم، ولما ذكره الإسماعيلي في «صحيحه» قال: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم.
لكن يخدش في هذا ما في البخاري: «اعتكف في آخر العشر من شوال».
وعند الإسماعيلي أيضًا: «حتى إذا أفطر اعتكف في شوال».
وعند أبي نعيم: «فلم يعتكف في رمضان إلا في العشرِ الأواخرِ من شوال».
وعند الطحاوي: ترك الاعتكاف حتى أفطر من رمضان ثم إنه اعتكف في عشر من شوال.
وعن أبي حنيفة: لا يصح إلا في مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأحمد وداود والجمهور.
قال أبو حنيفة: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها بخلاف الرجل، وهو قول قديم للشافعي، وجوَّزه بعض المالكية والشافعية للمرأة والرجل في مسجد بيتها.
ثم اختلف المشترطون للمسجد العام:
فقال الشافعي ومالك: يصح في كل مسجد.
وقال أحمد: يختص بمسجد يقام فيه الجماعة الراتبة.
وقال أبو حنيفة: يختص بمسجد تُصلَّى فيه الصلوات كلها.
وقال الزهري وآخرون: يختص بالجامع الذي يقام فيه الجمعة.
ونقلوا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه اختصاصه بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس. انتهى.
في كتاب «الصوم» لابن أبي عاصم: حَدَّثنا أبو موسى، حَدَّثنا أبو داود، حَدَّثنا عمران، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن حذيفة قال: «لا اعتكافَ إلا في مسجد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
قال: وعن ابن المسيب: «لا اعتكاف إلا في مسجد نبي».
وعن الحارث عن علي: «لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة».
وعن أبي يوسف: الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والنفل يجوز أداؤه في غيرِ مسجد الجماعة.
والمرأة تعتكف في مسجد بيتها عند أبي حنيفة، وبه قال النخعي والثوري وابن عُليَّة.

(1/50)


ويصح في سطح المسجد ورحبته، وله قراءة القرآن والحديث والعلم، وأمور الدين وسماع العلم خلافًا لمالك، ذكر ابن العربي عن ابن القاسم أنه لا يجوز للمعتكف عيادة المريض ولا مدارسة العلم ولا الصلاة على الجنائز خلافًا لابن وهب.
ولا بأس بأن يبيعَ ويبتاعَ في المسجدِ من غير حضور السلع، ويتزوج ويراجع ويتطيَّب ويتردد في نواحي المسجد، وتكره الخياطة والخرز.
قال الشافعي في «الأم»: لا بأس بأن يقصَّ في المسجد؛ لأنَّ القَصَصَ وعظ وتذكير.
وفي «شرح الهداية»: يكره التعليم في المسجد بأجر، وكذا كتابة المصحف بأجر.
وقيل: إن كان الخياط يحفظ المسجد فلا بأس بأن يخيط فيه.
ويكره على سطحه ما يكره فيه بخلاف بيت في المسجد.
وأقل الاعتكاف عن مالك في رواية ابن القاسم عشرةُ أيام، وروي عنه: أقلُّه يوم وليلة، وإن نذَرَ دونَ عشرة أيام لزمه.
قال النووي: ويصحُّ اعتكاف ساعة واحدة، وضابطه عند أصحابنا مُكْثٌ يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة، هذا هو الصحيح، وفيه خلاف شاذٌّ في المذهب، ولنا وجه أنه يصح اعتكاف المار في المسجد من غير لبث، والمشهور الأول.
وفي كتاب «الصيام» لابن أبي عاصم: «يُروَى عن يعلى بنِ أميَّة أنه اعتكف ساعةً من نهار».
وحديث:
2033 - عَائِشَةَ: «كَانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ». [خ 2033]
خرجه الستة.
وقوله: (آلْبِرَّ تُرَوْنَ) قال القرطبي: هو بهمزة الاستفهام، ومَدَّه على وجه الإنكار، ونصب (الْبِرَّ) على أنه مفعول (تُرَوْنَ) مقدَّمًا.
وعن الخطابي في قوله: (آلْبِرَّ يَقُوْلُوْنَ بِهِنَّ) يريد: البرَّ تظنون بهنَّ في صنيعهنَّ هذا.
قال الشاعر:
قال متى تقول القُلص الرواسما يلحقن أم عاصم وعاصما
قال: أي متى تظني.

(1/51)


وقال الفرَّاء: والعرب تجعل ما بعد القولِ مرفوعًا على الحكاية، فتقول: عبد الله ذاهبٌ، وقلت: إنك قائم. هذا في جميع القول إلا في القول وحدَها في حروف الاستفهام، وأنشد:
أما الرحيل فدون بعد غدٍ فمتى تقول الدارَ تجمعنا
بنصب «الدار» كأنه يقول: فمتى تظن الدارَ تجمعنا.
وأضاف سيبويه الرفع في قوله: «الدار تجمعنا» على الحكاية.
وقولها: (فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ) احتج به من يقول: يبدأ بالاعتكاف من أول النهار، وبه قال الأوزاعي، والثوري، والليث في أحد قوليه.
وذهبت الأئمة الأربعة إلى جواز دخوله قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو اعتكاف عشر، وتأولوا أنه دخل المعتَكَفَ وانقطع فيه وتخلَّى بنفسه بعد صلاة الصبح؛ لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف؛ بل كان من قبل المغرب مُعتكفًا لابثًا في المسجد، فلما صلَّى الصبح انفرد.
قال القرطبي: وهل يبيتُ ليلةَ الفطر في معتكفه ولا يخرج منه إلا إذا خرَج لصلاة العيد فيصلي، وحينئذ يخرج إلى منزله؟ أو يجوز له أن يخرج عند غروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان؟ قولان للعلماء:
الأول: قول مالك وأحمد وغيرهما، واختلف أصحاب مالك إذا لم يفعل هل يبطل اعتكافه أم لا يبطل؟ قولان.
وذهب الشافعي والليث والزهري والأوزاعي في آخرين إلى أنه يجوز خروجُه ليلة الفطر، ولا يلزمه شيء.
وقولها في حديث صفية:
2035 - «قَامَتْ لِتَنْقَلِبُ». [خ 2035]
أي تنصرف إلى منزلها، يقال: قلبه يقلبه وانقلب هو إذا انصرف.
قال ابن التين: في رواية سفيان عند البخاري [2039]: (فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) لعله وَهَم؛ لأنَّ أكثرَ الروايات: «فأبصرَه رجلان».
قال القرطبي: يحتمل أن يكون هذا مرتين، أو يحتمل أن يكون صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر، فيصحُّ على هذا نسبة القصةِ إليهما جميعًا وأفرادًا.

(1/52)


وقولها: (فَسَلَّمَا) فيه جواز التسليم على رجل معه امرأةٌ بخلاف ما يقوله بعض الأغبياء.
وقوله: (عَلَىْ رِسْلِكُمَا) أي: على هينتكما، قال ابن فارس: الرَّسْل السَّير السهل، وضبطه بالفتح، وهذه اللفظة بكسر الراء وبالفتح، قيل: بمعنى التؤدة وترك العجلة، وقيل: بالكسر التؤدة، وبالفتح اللين والرفق، والمعنى متقارب.
وفي رواية أخرى: «تعاليا»، قال النووي: معناه قفا، ولم يُرد المجيء إليه، قال تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]. قال ابن التين: فأخرجه عن معناه وهو هلما بغير دليل واضح.
وقال ابن قتيبة: تعالى تفاعل من علوت، قال الفراء: أصلها عال البناء، وهو من العلو، ثم إن العربَ لكثرة استعماله إياها صارت عندهم بمنزلة هلمَّ، حتى استجازوا أن يقولوا لرجل وهو فوق شرف: تعال، أي اهبط، وإنما أصلها الصعود.
وقوله: (إِنِّيْ خَشِيْتُ أَنْ يُلْقِيَ الشَّيْطَانُ فِيْ قُلُوْبِكُمَا شَيْئًا) وفي رواية: «شرًا»، يريد بذلك شفقته على أمته، وصيانة قلوبهم، فإنَّ ظنَّ السوء بالأنبياء- صلوات الله عليهم وسلامه- كفر بالإجماع، ولهذا إن البزَّار لما ذكر حديث صفية هذا قال: هذه أحاديث مناكير؛ لأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان أطهر وأجل من أن يرى أن أحدًا يظن به ذلك، ولا يَظنُّ برسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ظنَّ السوء إلا كافرٌ أو منافق.
فقيل له: لو كان حقًا كما قلت لما احتاج أن يقول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك شيئًا؛ لأن الكفر بالله أعظم من ذلك، وإن كان منافقًا فحاله حال الكافر، وإن كان مسلمًا فمثل هذا الظنِّ بالنبي يخرجه من الإسلام، فهذه الأخبار عندنا ليست بثابتة.
فإن قال قائل: هذه الأخبار قد رواها قوم ثقات، ونقلها أهل العلم بالأخبار؟

(1/53)


قيل له: العلة التي بيَّناها لا خفاء بها، ويجب على كلِّ مسلم القول بها، والذبُّ عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كان الرَّاوون لها ثقات، فلا يَعرونَ من الخطأ والنسيان والغلط.
ولما ذكر أبو الشيخ هذا الحديث بوَّب له: ذِكْرُ خبرٍ روي عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه رُئِيَ مع إحدى نسائه فمرَّ به رجل فقال: هذه زوجتي، وأن ذلك غير محفوظ.
وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوءِ الظن وطلب السلامة، والاعتذار بالأعذار الصحيحة تعليمًا للأمة.
وقوله: (يَجْرِيْ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الْدَّمِ) قيل: هو على ظاهره، وأن الله جلَّ وعزَّ جعل له قوَّةً على ذلك.
وقيل: هو على الاستعارة لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه.
وقيل: إنه يُلقِي وسوستَه في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب.
وزعم ابن خالويه في كتاب «ليس»: أن الشيطان ليس له تسلط على الناصية، وعلى أن يأتي العبد من فوقه، قال الله جلَّ وعزَّ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 71]. ولم يقل: من فوقهم؛ لأن رحمة الله تعالى تنزل من فوق.
واستدل الطحاوي بشغله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
بصفية على جواز اشتغال المعتكِفِ بالمباح من الأفعال، وإذا خرج المعتكف لحاجةٍ قنَّع رأسَه حتى يرجع، رويناه في كتاب ابن أبي عاصم، حَدَّثنا محمد بن إِشْكاب، حَدَّثنا يونس بن محمد، حَدَّثنا الهيَّاج بن بِسْطام، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن عبد الخالق، عن أنس قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المعتكف يعود المريضَ ويتبع الجنازةَ، وإذا خرج لحاجته قنَّع رأسه».
قال ابن العربي: ولا يتعدَّى في خروجِهِ أقربَ المواضعِ إليه، فإن تعدَّى أقربَ المواضع إليه ابتدأَ اعتكافه من ذي قبل، كذا قال مالك.

(1/54)


ولا يجوز له أن يقف لأداء شهادة إلا ماشيًا، فإن وقف ابتدأ، ولا يعزي أحدًا، ولا يصلي على جنازة إلا في المسجد، ولا يخيط ثوبَه إلا الشيء الخفيف.
قال ابن العربي: واجتمع العلماء على أن من وَطِئ زوجته في اعتكافه عامدًا في ليل أو نهار فسد اعتكافه، وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
وعن ابن عباس: «كانوا إذا اعتكفوا فخرج أحدهم إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل ورجع إلى اعتكافه فنزلت الآية».
واختلفوا فيما دونه من القُبلة واللمس والمباشرة، فقال مالك: من فعل من ذلك شيئًا ليلًا أو نهارًا فسد اعتكافه، أنزل أو لم ينزل.
واختلف في المعتكفة معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من هي؟ ففي رواية: «سودة».
وفي «الموطأ»: أن زينب بنت جحش استحيضت وكانت تحت ابن عوف، قال المنذري: هذا وهم من وجهين:
الأول: أنها لم تكن تحت عبد الرحمن بن عوف؛ إنما كانت تحت زيد بن حارثة.
الثاني: أنها لم تستحض قط، إنما استحيض أختاها حمنة وأم حبيبة، وذكر بعضهم أن بنات جحش الثلاثة اسمهن زينب وأنهن استحضن كلهن، واستبعده بعضهم.
وقال ابن الجوزي: ما نعلم في زوجاته مستحاضة، وكأن عائشة أرادت بقولها: «من نسائه» أي من النساء المتعلقات به بسبب صَهارة وشبهها. انتهى.
يرد هذا ما تقدم في الطهارة أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت معه.
قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء في جواز اعتكاف المستحاضة، فإن حاضت، فعن الزهري وربيعة ومالك والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي: تخرج إلى دارها، فإذا طهرت فلترجع ثم لتبن على ما مضى من اعتكافها، وعن أبي قِلابة: تضرب خباءها على باب المسجد ما دامت حائضًا.
وقولها: «فَتَضَعُ الْطَّسْتَ تَحْتَهَا» وذلك لا يكون إلا في حال قيامها، وذكرته عائشة ليستن به، فإن أرادت البول في المسجد في طست لم يصح لها ذلك.

(1/55)


قال ابن قدامة: وكذلك الفصد والحجامة، فإن دعت الحاجة خرج من المسجد، وعن ابن عَقيل: يجوز الفصد في طست كالمستحاضة، قال ابن قدامة: والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد.

(1/56)


كِتَابُ الجُمُعَةِ
(بَابُ فَرْضِ الجُمُعَةِ) لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] ذكر الإسناد أبو القاسم الحسين بن محمد بن حبيب في كتاب «ترتيب التنزيل»: أن سورة الجمعة من أواخر ما نزل بالمدينة وأنه لم ينزل بعدها إلا التغابن والفتح والتوبة والمائدة، وروينا عن يحيى بن زياد الفَرَّاء في كتاب «معاني القرآن العظيم» أنه قال: خَفَّفَ الجمعةَ الأعمشُ، وثَقَّلَها عاصمٌ وأهل الحجاز، وفيها لغة يوم الجَمْعة وهي لغة بني عُقَيْل لو قُرِئَ بهما لكان صوابًا. ورُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: إنما سُمِّي يوم الجمعة، لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وفي «المعاني» للزَّجَّاج: قُرِئَتِ الجُمِعَة بكسر الميم ويجوز في اللغة الجمَعة بفتح الميم ولا ينبغي أن يقرأ بها إلا أن تثبت بها روايةٌ من إمام من القراء. وذكر الأزهري في «التهذيب»: الأصل فيها التخفيف، فمن ثَقَّل أتبع الضمة الضمةَ، ومن خفف فعلى الأصل، والقراء قرؤوها بالتثقيل، وفي «الْمُوعِبِ» لابن التَّيَّانيِّ من قال: جُمْعَة فأسكن قال: جُمَعٌ، ومن قال: جُمُعَة قال: جُمُعات، وفي «الأمالي» لثعلب: إنما سمي يوم الجمعة، لأن قريشًا كانت تجتمع إلى قصي في دار الندوة، وفي «الأنساب» للزبير بن بكار كانت تسمى العروبة، وإن كعب بن لؤي كانوا يجتمعون إليه فيخطبهم ويعلمهم بخروج سيدنا سيد المخلوقين صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأنه من ولده، قال: فسميت الجمعة بذلك. وفي «نوادر» اللِّحْياني: كان أبو زياد وأبو الجراح يقولان: مضت الجمعة بما فيها فيوحدان ويذكران، وعند الطبري سمي بذلك لاجتماع آدم فيه مع حواء في الأرض.

(1/1)


وعند ابن خزيمة عن سلمان مرفوعًا: «يَا سَلْمَانُ مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: بِهِ جُمِعَ أَبُوكَ أَوْ أَبُوكُمْ» الحديثَ. وفي «البلدان» لهشام بن محمد الكلبي: سُمِّيَتْ جُمُعَةً، لأن خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جُمِعَ فيها. وفي «سنن الدَّارَقُطْني» بسند ضعيف: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُجْمِعَ». ورواه أبو عروبة في «الأوائل» بسند صحيح عن سلمان بن موسى مرسلًا، وفي كتاب الداودي يسمى يوم الجمعة يوم القيامة، لأن القيامة تقوم فيه الناس. وقال ابن حزم: هو اسم إسلامي ولم يكن في الجاهلية، إنما كان يسمى في الجاهلية العروبة فسمي في الإسلام الجمعة، لأنه يجتمع فيه للصلاة اسمًا مأخوذًا من الجمع. انتهى. وفيه نظرٌ لما أسلفناه وكأنه رأى ما في تفسير عبد الرحمن بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة، وذلك أن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وكذا للنصارى فَهَلُمَّ فلنجعل يومًا نجتمع فيه ونذكر الله تعالى ونصلي ونشكره فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فأجمعوا إلى أسعد فصلَّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فَسَمُّوا الجمعة حين اجتمعوا إليه وذبح لهم أسعد شاة فتغدوا وتَعَشَّوا من شاة وذلك لقلتهم فأنزل الله في ذلك بعد: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} الكراس الثاني والعشرين من الجزء الثالث من شرح البخاري. [الجمعة: 9]. انتهى. وهو لعمري عذر له، والله أعلم. 876 - حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ،

(1/2)


حَدَّثَنا أَبُو الزِّنَادِ، أَنّ الأَعْرَجَ، حَدَّثَهُ: سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللهُ لهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: اليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ». وفي لفظ: «ثُمَّ سَكَتَ فَقَالَ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ». رواه أبان بن صالح عن مجاهد عن طاوس عن أبي هريرة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا». [خ¦876]
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن حذيفة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا فَهَدَانَا اللهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ، وَالسَّبْتَ، وَالْأَحَدَ، كَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ».
وعند الدَّارَقُطْني عن ابن عمر مرفوعًا: «لَيْسَ عَلَى المُسَافِرِ جُمُعَة».
وعن جابر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» في إسناده بن لهيعة.
وعند ابن ماجه بسند فيه ضعف: «وَاعْلَمُوْا أَنَّ اللهَ تَعَالَى افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ الجُمُعَةَ».

(1/3)


وعند الدَّارَقُطْني من حديث إبراهيم بن محمد بن المبشر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ فِي جَمَاعَةٍ إِلاَّ عَلَى أَرْبَعٍ: عَبْدٍ مَمْلُوكٍ، أو صَبِيٍّ، أَوْ مَرِيضٍ، أَوِ امْرَأَةٍ».
وفي «الغرائب» للدارقطني بسند فيه ضعف عن مالك عن نافع عن ابن عمر يرفعه: «نَحْنُ الْآخِرُونَ فِي الدُّنْيَا السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وعند ابن خزيمة عن أم عطية قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِلَيْكُنَّ» وفيه: «وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْنَا».
أما (بَيْدَ) فبمعنى غير، وقيل: بمعنى أنهم، وعن الشافعي بمعنى: من أجل، قال أبو عبيد: وفيها لغة أخرى وهي (مَيْدَ) بالميم بدل الباء لقرب المخرج، وفي «الْمُحْكَمِ»: الأولى أعلى، وفي «مجمع الغرائب»: بعض المحدثين يرويه (بِأيد أنا أوتينا) أي بقوة أنا أعطينا، قال أبو عبيد: وهو غلط ليس له معنى يعرف.
وقال في كتاب «الواعي»: ليس له هنا معنى نعرفه، وقال ابن الأثير: لا أعرفها في لغة ولا وجدتها في كتاب ولا أعلم وزنها وهل الباء زائدة أم أصلية؟.
وزعم القرطبي أنها يعني بيد بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الدال إذا كان بمعنى غير، ويمكن أن يكون نصبه على الظرف الزمان.
وقد اختلف العلماء في كيفية ما وقع لليهود فقالت طائفة: إن موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أمرهم بيوم الجمعة وعَيَّنَه لهم وأخبرهم بفضيلته على غيره فناظروه أن السبت أفضل فقال الله تعالى
له: دعهم وما اختاروا لأنفسهم، يؤيد هذا الحديث ما جاء في بعض طرق هذا الحديث، وهذا يومهم الذي فرض عليهم.

(1/4)


وقيل: إن الله تعالى لم يُعَيِّنْه لهم، وإنما أمرهم بتعظيم يوم الجمعة فاختلف اجتهادهم في تعيينه، فعينت اليهود السبت، لأن الله تعالى فرغ فيه من الخلق، والنصارى الأحد، لأن الله تعالى بدأ فيه الخلق، وعَيَّنَهُ الله تعالى لهذه الأمة ولم يَكِلْهُمْ إلى اجتهادهم يؤيده: أنه لو عيَّن لهم فعاندوا فيه لما قيل: اختلفوا فيه، وإنما كان يقال: فخالفوا أو عاندوا وقال في حديث حذيفة: «أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا» ولسبقه على السبت والأحد بمعنى وذلك، لأن ترتيب الأيام الثلاثة الوضعية إذا سردت متتابعة لا تصح إلا بأن يتقدمها الجمعة وليس ذلك لغيرها.
وقوله: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ» يعني أن هذين الوضعين لنا مَلَكة، وأنهما ثابتان متى ذكر أحدهما عُرِفَ الآخر.
وأما قوله: في رواية أخرى «نَحْنُ الْآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ» فكأنه لما أثبت لهم التأخر عطف وجاء بلفظه: (نَحْنُ) لِيُبَيِّنَ أن السبق لهم دون غيرهم، كأن قائلًا قال: لما قال: نحن الآخرون فما لكم بذلك إذا ثبت لكم التأخر وتركتم التقدم فقالوا: ونحن السابقون، وأيضًا لما في إعادة ضمير المتكلم الذي يضاف الخبر إليه من الفائدة يقرع السمع به في كل خصلة.
وفي الحديث سقوط القياس مع وجود النص، وذلك أن الفريقين قالا بالقياس مع وجود النص فَضَلَّا.
وفيه القول بالتفويض وترك الاختيار، لأنهم اختاروا فَضَلُّوا ونحن نحمد الله تعالى عَلَّقْنَا الاختيار إلى ربنا جل وعز فهدانا.

(1/5)


وأما نصب غدٍ فعلى الظرف وهما متعلقان بمحذوف تقديره: فاليهود يعظمون غدًا والنصارى بعد غدٍ، ويحتمل أن يكون فرض عليهم الاجتماع للعبادة في هذا اليوم فَهُدِينا نحن لذلك فاجتمعنا للعبادة فيه بفرض الله وهو قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة: 9] وهذا يصلح أن يكون مناسبة الباب للحديث والله تعالى أعلم.
(بَابُ فَضْلِ الغُسْلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الجُمُعَةِ، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ)
877 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ». [خ¦877]
هذا الحديث خرَّجه الأئمة الستة في كتبهم، وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ أَنْ يَأْتِيَ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ».
وقال الترمذي في «العلل الكبير»: وذكر حديث ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الحديثَ. ثم قال: وقال ابن عيينة: عن الزهري عن سالم عن أبيه: «سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عَلَى المنْبَرِ قَالَ: فَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الحَدِيْثِ أَيُّ الرِّوَايَتَيْنِ أَصَحُّ فَقَالَ: كِلاَهُمَا صَحِيْحٌ».
وفي صحيح ابن خزيمة من حديث نافع عنه: «مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَلْيَغْتَسِلْ, وَمَنْ لَمْ يَأْتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ والرِّجَالِ» وخرج ابن خزيمة في «صحيحه»: الفضل الأول فقط.
وعند الشافعي: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الجُمُعَةَ» قال ابن الأثير في «شرح المسند»: هذا أبلغ من حديث البخاري لتناوله كل جاءٍ، وإذا جاء وإن أعطى معنى الشرط فليس بشرط حقيقي.

(1/6)


قال: وقوله: (فَلْيَغْتَسِلْ) مجزوم بالأمر، وهو جواب الشرط وهو أبلغ في الدلالة على ثبوت الغسل وتقريره والحث عليه.
878 – حَدَّثَنا عبد الله بن أَسْمَاءَ، أخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمُ في الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ». [خ¦878]
وفي لفظ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رجل فَعَرَّضَ بِهِ عمر, فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ ثُمَّ أَقْبَلْتُ, فَقَالَ: عُمَرُ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا؟ أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ إِلَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ». وعند ابن حزم: «واللهِ مَا هُوَ بِالوضُوءِ».

(1/7)


وذكر الدَّارَقُطْني في كتاب «الموطآت»: أن معن بن عيسى وابن وهب والشافعي ويحيى بن يحيى وعبد الله بن يوسف ومُطَرِّفًا وحماد بن إسحاق والقعنبي وابن بُكَيْرٍ وعبد الرحمن بن القاسم وأبا مصعب ومن تابعهم من أصحاب «الموطأ» رووه عن مالك عن الزهري عن سالم أنه قال: «دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعُمَرُ يَخْطُبُ ... » الحديثَ. مرسلًا عن عبد الله متصلًا عن عمر لم يذكروا فيه ابن عمر، وخالفهم جماعة من الثقات فرووه عن مالك عن الزهري عن سالم عن عبد الله متصلًا عن عمر منهم: جويريةُ وابنُ طَهْمَانَ وابنُ مَهْدِي والوليد بن مسلم ورَوْحُ بن عُبَادة وعبد الوهاب بن عطاء وأبو عاصم النبيل ويحيى بن مالك بن أنس وعبد العزيز بن عمران والواقدي ويحيى بن محمد الشجري وعثمان بن الحكم الجُذَامي وخالد بن حميد، زاد في كتاب «العلل»: إسحاق الْحُنَيْنِي وأبا قُرَّة، وقال: وكذلك رواه أصحاب الزهري عن الزهري فيه أسانيد أُخَرُ صحاح منها:
سالم عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومنها عن طاوس عن ابن عباس وعن نافع عن ابن عمر، وقيل: عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، وقيل: عنه عن عُبَيْدِ
بنِ السَّبَّاقِ عن ابن عباس، وقيل: عنه عن أنس، والصحيح من ذلك كله حديث عمر وابنه، ورواه عمرو بن دينار عن الزهري مرسلًا.

(1/8)


858 – حَدَّثَنا عبدُ اللهِ بنُ يوسفَ، أخْبَرنا مالكٌ عنْ صَفْوَان بْن سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».ولفظه في كتاب «الشهادات»: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فذكره. وفي حديث شعبة عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سُلَيْم عنه: «وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ» قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الغُسْلُ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ، فَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّه وَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ؟ وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الحَدِيثِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، وَلَمْ يُسَمَّ. [خ¦858] وفي «كتاب الجمعة» لأبي عبد الرحمن: «الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدِرَ عَلَيْهِ».وفي لفظ: «وَلَوْ مِنْ طِيْبِ المَرْأَةِ».وفي قوله: دلالة على كل محتلم دلالة لما بوَّب له لقوله: وهل على الصبي شهود يوم الجمعة. وقوله: (أو عَلَى النِّسَاءِ) ذكر ابن التين عن أبي جعفر دليل سقوطها عن النساء، لأن أكثرهن إنما تجب عليها الفروض بالحيض لا الاحتلام. وفي «صحيح ابن خزيمة» من حديث جَدَّةِ إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية الأنصاري في حديث طويل فيه ذكر المبايعة وألَّا جُمُعَةَ علينا، وتردد ابن خزيمة في صحته.

(1/9)


وفي «الموطآت» للدارقطني: وقال حماد بن خالد الخياط عن مالك: وجب غسل الجمعة على كل محتلم كغسل الجنابة، زاد في «الغرائب»: لم يَقُلْه غير حماد وكان ثقة ولكنه فيما يقال كان أميًّا لا يكتب، قال: ورواه يحيى بن مالك عن أبيه بهذا السند مثله موقوفًا أَحْسِبُهُ سقط عن بعض الرواة ذِكُرُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.

(1/10)


وقال في كتاب «العلل»: رواه إسحاق الطباع عن مالك فقال: عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن سعيد وَوَهِمَ فيه، وحدَّث به أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار فَوَهِمَ فيه أبو عبد الرحمن بن إسحاق عن صفوان فقال: عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة وأبي سعيد ومنهم من قال عنه بالشك عن أحدهما، ورواه محمد بن عمرو بن علقمة عن صفوان عن عطاء بن يسار مرسلًا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ورواه نافع القارئ عن صفوان عن أبي هريرة وَوَهِمَ فيه، والصحيح من ذلك قول: من قال: عن صفوان عن ابن يسار عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولما ذكر حديث أبي بكر بن المنكدر قال: رواه سعيدُ بنُ هلال وبُكَيْرُ بنُ الأَشَجِّ عنه عن عمرو بن سُلَيْم عن عبد الرحمن عن أبي سعيد عن أبيهفَضَبَطَا إسناده وجَوَّدَاه وهو الصحيح يعني بذلك حديث مسلم فإنه رواه عن عمرو بن سَوَّاد، حدَّثَنَا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حَدَّثَاهُ عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه إلا أن بُكَيْرًا لم يذكر عبد الرحمن، وكذا ذكره أبو داود والنسائي فينظر في كلام الدَّارَقُطْني على أن أبا سعيد الدمشقي أكد ما قلناه، فقال: رواه سعيد بن سلمة ابن أبي الحسام عن محمد بن المنكدر عن أخيه عن أبي بكر عن أبي سعيد مثل حديث شعبة وبكير فهذا تصريح من أبي مسعود بأن حديث بكير كحديث شعبة الذي أسلفناه من عند البخاريِّ، ولهذا إنَّ ابن خزيمة لم يذكره إلا من حديث سعيد عن أبي بكر عن عبد الرحمن لم يُنْكِرْ بُكَيْرًا البتة.

(1/11)


قال الدَّارَقُطْني: على شعبة فقال: الباغِنْدي عن علي عن حَرْمي عنه عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ورواه عثمان بن حكيم عن عمرو بن سليم عن أبي سعيد ولم يصرح برفعه بل قال: من السنة أن يغتسل، ورواه زيد بن محمد فقال: عن محمد بن المنكدر عن جابر وَوَهِمَ فيه، وإنما رواه محمد عن أخيه أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سُلَيْم ولفظه في «علل ابن أبي حاتم»: «ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى المُسْلِمِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: الغُسْلُ، والسِّواكُ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إنْ وَجَدَ» وذكر عن شيخه أن أيوب بن عتبة أخطأ فيه فرواه عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي سعيد، وإنما هو يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل موقوف ويشبه أن يكون العذر لتخريج البخاري حديث أبي بكر عن أبي سعيد من غير واسطة لتصريحه وشهادته بسماعه له من أبي سعيد على لسان ثقة، ويحمل على أنه رواه أولًا عنه ثم سمعه منه وأنه رواه في حالتين وأنه أكد أنَّ أحدًا ما سمع منه. وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ».وعند ابن حبان عن جابر مرفوعًا: «عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ غُسْلُ يَوْمٍ, وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ».

(1/12)


ولفظه في «علل أبي حاتم» وزعم أنه أخطأ «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» وقال ابن حزم: وكذا رويناه من حديث البراء بن عازب مسندًا، وعنده أيضًا عن أوس بن أويس: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا».قال ابن خزيمة لما خرجه معناه: قوله: (غَسَّلَ واغْتَسَلَ) جامع، فأوجب الغسل على زوجته أو أمته، ومن قال: غسل رأسه واغتسل أي: غسل سائر جسده، وعندهما أيضًا من حديث ابن إسحاق، حَدَّثَنا الزهري عن طاوس قال: قُلْتُ لِابنِ عَبَّاسٍ: زَعَمُوْا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاغْسِلُوا رُؤوسَكُمْ، إِلا أنْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَمَسُّوا مِنَ الطِّيبِ» فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا الطِّيبُ فَلا أَدْرِي وَأَمَّا الْغُسْلُ، فَنَعَمْ. ثم قَالَ ابن حبان: قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ تَكُونُوا جُنُبًا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ يُجْزِئُ عَنِ الِاغْتِسَالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غُسلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، إِذْ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمْ يُجْزِئْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ.

(1/13)


وعند ابن أبي شيبة: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» رواه من حديث رواه من حديث الحسن عن أبي هريرة ولفظه في «علل أبي حاتم»: قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الجُمَع: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِميْنَ، إنَّ هَذا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللهُ عِيدًا، فاغْتَسِلُوا»، وقَالَ: وَهِمَ يزيدُ بْنُ سَعِيدٍ الأصبحي عن مالك، وإِنَّمَا يَرويه مالكٌ بِسَندٍ مُرسَلٍ. ومن حديث نافع عنه يرفعه: «مَنْ أَتَى الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» ثم قال أبو حاتم: إِنَّمَا هُوَ عن نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُنكَرٌ. أخبرنا المسند المعمر عبد المحسن بن أحمد - عُرِفَ بابن الصابوني -، حَدَّثَنا الإمام جدي أبو حامد محمد، أخبرنا ابن الحرستاني، أخبرنا علي بن المسلم، أخبرنا أبو نصر بن طلاب، قال أخبرنا ابن جُمَيْعٍ الصيداوي، أخبرنا أبو علي الحسين الوراق، حَدَّثَنا أحمد بن عمرو الْمُصْعَبِي، حَدَّثَنا عبد الله بن مصعب بن بشر عن أبيه قال: خَطَبَنَا سَعيدُ بنُ عثمانَ بنِ عفان قَالَ: سمعت عثمان رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ».وروينا في «صحيح ابن خزيمة» عن عائشة رضي الله عنها: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَغْتَسِلُ مِنْ أربعٍ: منَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الحِجَامَةِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ» وصحح الحاكم إسناده، وقال البيهقي: رواته ثقات. وعند الدَّارَقُطْني: «الغسل من».وفي «تاريخ نيسابور»: قال محمد بن يحيى الذهلي: لا أعلم فيمن غَسَّلَ ميتًا حديثًا ثابتًا ولو ثبت لَلَزِمَنا استعماله، وقال البخاري: حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الباب ليس بذاك، وقال أبو داود: هو منسوخ وليس العمل عليه، وقال أحمد بن حنبل وعلي بن المديني: لا يصح في هذا الباب شيء.

(1/14)


وعند أبي أحمد الجرجاني من طريق ضعيفة عن أنس بن مالك: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَوْ كَانَتْ بِدِيْنَارٍ».وعند العُقَيْلِيِّ بسند ضعيف عن عائشة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى مَنْ شَهِدَ الجُمُعَةَ».وعند ابن الجارود في «المنتقى» وابن خزيمة عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ رَوَاحُ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى مَنْ رَاحَ الْجُمُعَةَ الْغُسْلُ».وعند ابن خزيمة عن عبد الله بن أبي قتادة قال: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو قَتَادَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَا أَغْتَسِلُ , قَالَ: غُسْلُكَ هَذَا مِنْ جَنَابَةٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ , قَالَ: فَأَعِدْ غُسْلًا آخَرَ, إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يَزَلْ طَاهِرًا إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى». ولَمَّا خرَّجه الحاكم قال: صحيح على شرط الشيخين، وخرَّجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة: قَالَ: «دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو سَعِيْدٍ» الحديثَ. وفي «مسند أحمد» عن أبي الدرداء يرفعه: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ مَسَّ طِيبًا ... » الحديثَ. وعن أبي أيوب يرفعه: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ لهُ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ» الحديثَ.

(1/15)


وعند بن أبي شيبة: حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنا يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى عن البراء: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْتَسِلَ أَحَدُهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طِيبٌ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَهُ طِيبٌ».ومن حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من الأنصار عن رجل من الصحابة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «ثَلَاثٌ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» الحديثَ. ومن حديث الزهري قال: أَخْبَرَنِي ابنُ سَبَّاقٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ: «إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، فَاغْتَسِلُوا».ومن حديث وَبْرَةَ عن همام بن الحارث قال عبد الله: «مِنَ السُّنَّةِ الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ».وفي «علل ابن أبي حاتم» عَنْ مِسْكِينٍ أَبِي فَاطِمَةَ، عَنْ حَوْشَب، عَنِ الحَسَن كَانَ أَبُو أُمَامة يَرْوِي عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إنَّ الغُسْلَ يومَ الجُمُعَةِ لَيَسُلُّ الخَطَايا مِنْ أُصُولِ الشَّعْرِ اسْتِلالًا». وقال: قَالَ أَبِي: هَذَا منكرٌ؛ الحَسَنُ عَنْ أَبِي أُمَامَة لا يجيءُ، ووَهنَ أمرُ مِسْكين عِنْدِي بِهَذَا الْحَدِيثَ. ومن حديث الْقَاسِمِ عنه مرفوعًا: «اغْتَسِلُوا يَوْمَ الجُمُعَةِ» ثم قال: قَالَ أَبِي: رَوَاهُ عمرُ بن عبد الواحد، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ، يَرْفَعُ الحديثَ وهو أشبَهُ. قوله: (أَيَّةُ سَاعَةٍ) هي تأنيث، أي: هو يَسْتَفْهِمُ به يقول: أي شخص هو هذا؟ وأية امرأة هذه واسمها؟.

(1/16)


و (السَّاعَةُ) اسم لجزء مخصوص من الزمان، وتَرِدُ على أنحاء أحدهما: تطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءًا هي مجموع اليوم والليلة، وتارةً تُطْلَقُ مجازًا على جزء ما غير مقدر من الزمان ولا يتحقق، وتارةً يطلق على الوقت الحاضر ولأرباب النجوم والهندسة وضع آخر، وذلك أنهم يَقْسِمُون كل نهار وكل ليلة باثني عشر قسمًا سواء كان النهار طويلًا أو قصيرًا وكذلك الليل، ويُسَمُّونَ كلَّ ساعةٍ من هذه الأقسام ساعةً فعلى هذا تكون الساعة تارة طويلة وتارة قصيرة على قدر النهار في طول النهار وقصره، ويسمون هذه الساعات المعوجَّة، وتلك الأولى المستقيمة، وهذا من أرشق الكنايات، فلما علم عثمان مراده بِحِدَّةِ فهمه اعتذر. وقوله: (الوُضُوْء) ورُوِيَ: <والوُضُوْء>، وهو يفيد العطف على الإنكار الأول. وقال القرطبي: الواو عوض عن همزة الاستفهام كما قرأ ابن كثير: {قالَ فِرْعَوْنُ وَآمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123] ومع حذف الواو إن صحت به الرواية فيكون إما لأنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره الوضوء عُذْرُك أو كفايتك في هذا المقام، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره الوضوء يقتصر عليه ويجوز نصبه بإضمار فعل تقديره فعلت الوضوء وحده أو توضأتيعضده قوله: وقد علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يأمر بالغسل، وتكون هذه الجملة حالًا منه والعامل فيها الفعل المقدر والعامل في الحال مع الرفع ما دل عليه مجموع الجملة المقدرة. وقوله: (أَيْضًا) منصوب، لأنه من آضَ يَئيض أيضًا عاد ورجع قاله يعقوب، كأنك أفدْتَ بذكرها الجمع بين الأمرين أو الأمور. وقوله: (يَأْمُرُ بِالغُسْلِ) وفي رواية <أَمَرَنَا> و<يَأْمُرُنَا> وهو ظاهر في الرفع وآكد من قوله يأمر لعدم دلالته على صريح اللفظ على العموم. وقد اختلف العلماء هل هو غسل يوم الجمعة سنة مؤكدة أو واجبة؟.

(1/17)


فمذهب أهل الظاهر إلى وجوبه وحكاه الخطابي أيضًا عن مالك والمعروف عنه أنه سنة، وإليه ذهب جمهور العلماء مستدلين بحديث عمر المذكور آنفًا وبحديث عائشة الآتي من عند البخاري: كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنَ الْعَوَالِي، فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ، فَيَخْرُجُ الرِّيحُ مِنْهُمُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَوِ اغْتَسَلْتُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ». وفي لفظٍ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ» وفي لفظٍ: «كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ».وبما رواه الحافظ أبو بكر بن خزيمة في «صحيحه» وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَتَيَاهُ فَسَأَلَاهُ عَنِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَوَاجِبٌ هُوَ؟ فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَطْهَرُ, وَسَأُخْبِرُكُمْ لِمَاذَا بَدَأَ الْغُسْلُ: كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُحْتَاجِينَ, يَلْبَسُونَ الصُّوفَ, وَكَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ, فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ شَدِيدِ الْحَرِّ, وَمِنْبَرُهُ قَصِيرٌ، إِنَّمَا هُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ، وَعَرِقَ النَّاسُ, فَثَارَتْ أَرْوَاحُهُمْ رِيحَ الْعَرَقِ وَالصُّوفِ حَتَّى كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا, حَتَّى بَلَغَتْ أَرْوَاحُهُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا, وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَطْيَبَ مَا يَجِدُ مِنْ طِيبِهِ أَوْ دُهْنِهِ».

(1/18)


وعند ابن حزم: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رُبَّمَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَرُبَّمَا لَمْ يَغْتَسِلْ» وأعلَّه محمد بن معاوية النيسابوري. وعند ابن جُمَيْعٍ من حديثه أيضًا: «كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَحْيَانًا وَيَذَرُ أَحْيَانًا».وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي هريرة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ ... » قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: «في جُمُعَةٍ» حديث الأعمش: أبو معاوية قال: «مَنْ تَوَضَّأَ»، وجرير يقول: «اغتسل» وفي «صحيح ابن خزيمة» والترمذي والطُّوسي في نسخة، وفي أخرى حَسَنٌ. وعن الحسن عن سمرة عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَةٌ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَذَاكَ أَفْضَلُ».وفي «تاريخ البخاري» قال علي عن سمرة صحيح، ولما ذكر العَدَنيُّحديث سمرة هذا في مسنده أتْبَعَهُ حديثًا بشرط حماد عن ثابت يزيد بن العلاء عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مثله، وزعم شيخنا أبو محمد المنبجي ومن خطه أن ابن ماجه رواه من حديث جابر بن سمرة. وعند ابن حزم عن الحسن قال: «أُنْبِئْنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَكِنْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَغْتَسِلُوْنَ».وعند البزار عن أبي سعيد بمثل حديث سَمُرَةَ، وسنده حسن ولا التفات إلى من أعلَّه بِأَسِيد بن زيدٍ الجَمَّال فإنه ممن خَرَّجَ حديثه البخاري وأثنى عليه غير واحد. وعند ابن ماجه في «معجمه»: حَدَّثَنا محمد بن محمد بن عثمان الزبيري، حَدَّثَنا إبراهيم بن صالح الشيرازي، حَدَّثَنا محمد بن معاوية النيسابوري، حَدَّثَنا أبو المليح عن ميمون بن مِهران عن ابن عباس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَحْيَانًا وَيَدَعُ أَحْيَانًا».

(1/19)


وعند ابن ماجه من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن يزيد الرَّقَاشي عن أنس مثله مرفوعًا، وقال الشيخ ضياء الدين المقدسي فيما رويناه عنه: رواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك، وقال عبد الرحمن: سألت أبي عن حديثٍ رواه همام عن قتادة عن الحسن عن أنس يرفعه: «مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ».ورواه أَبَان عن قتادة عن الحسن: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ» الحديثَ. أيُّها أصح؟ قال: جميعًا صحيحًا، همامٌ ثقة وصله، وأَبَانُ لم يوصله، ورواه الدَّارَقُطْني في كتاب «الأفراد والغرائب»: من حديث قتادة ومبارك والربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس وقال: تفرد به علي بن الحسن السامي عنه بهذه الألفاظ واختلف عليه. وعند أبي أحمد من حديث الفضل بن المختار عن أبان عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مِنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، فَلَمَّا كَانَ الشِّتَاءُ قُلْنَا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَمَرْتَنَا بِالغُسُلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَقَدْ جَاءَ الشِّتَاءُ وَنَحْنُ نَجِدُ البَرْدَ فَقَالَ: مَنِ اغْتَسَلَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلاَ حَرَجَ».ولما ذكر ابن شيبة في باب القائلين باب الوضوء يجزئ من الغسل قول أبي الشعثاء وإبراهيم وعطاء وأبي وائل والشعبي وأبي جعفر «لَيْسَ غُسْلٌ وَاجِبٌ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ» قال: حَدَّثَنا علي بن هاشم عن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَطَهَّرَ فَأَحْسَنَ الطُّهُورَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلَمْ يَلْهُ وَلَمْ يَجْهَلْ ... » الحديثَ.

(1/20)


وقالوا: قد قرن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الغسل بالطيب والاستنان، وأجمع الجميع فيما ذكره الطحاوي والطبري أن تارك الطيب والاستنان غير حرج إذا لم يكن له رائحة مكروهة يؤذي بها أهل المسجد فكذلك حكم تارك الغسل لأن مخرج الأمر واحد، وقالوا: أعني القائلين بالسنة، وقالوا أيضًا: لو كان الغسل واجبًا لما تركه عثمان ولا أقره عمر وسائر الصحابة على تركه. قال ابن حزم: فمن أين لكم أن عمر لم يأمره بالرجوع للغسل؟ ومن أين لكم أن عثمان لم يكن اغتسل في صدر يومه إذ ذلك عادة له كما ذكره مسلم عن حُمْرَانَ قال: «كُنْتُ أَضَعُ لِعُثْمَانَ طَهُورهُ فَمَا أَتَى عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يُفِيضُ عَلَيْهِ نُطْفَةً» ولو لم يكن الغسل واجبًا عند عمر لما قطع الخطبة منكرًا على عثمان حالفًا بالله ما هو بالوضوء. انتهى. لو كان عثمان سجيته الاغتسال كل يوم لَعُلِمَ ذلك منه أو لكان مقوله لعمر ولا يقول ما زدت على أن توضأت، ويحمل حديث مسلم أن فعله ذاك كان بعد هذه الواقعة تنبيهًا لها أو في زمن خلافته، لأنه كان في زمن ... لنفسه أشياء كما فعل في قصر الصلاة وغيره أيضًا، فمن أين لك يا أبا محمد أن حمران كان مملوكًا له يومئذ؟ وذلك شيء لا يقدر عليه ولو حرصت غاية الحرص وذلك أنه كان مملوكًا للمسيب بن نجبة أخذه من عين التمر ثم ابتاعه منه عثمان، وهذا يقتضي صيرورته إليه إما في أيام عمر أو في أيامه هو فلا دلالة إذًا بهذا والله تعالى أعلم. وأيضًا فالغسل عنده وعند أبي يوسف إنما هو لليوم لا للصلاة، قال أبو محمد: بحيث لو صلى الجمعة والعصر ولم يغتسل إلا بعد ذلك أجزأه بحيث يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله كله قبل الغروب، وأول وقته إثر طلوع الفجر من يوم الجمعة، وأفضله أن يكون متصلًا بالرواح إلى الجمعة، وهو لازم للحائض والنفساء كلزومه لغيرهما.

(1/21)


قال أبو محمد: فإن قال قائل: قد رويتم مرفوعًا: «إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» قلنا: نعم، وهو نص قولنا، وإنما فيه أمر لمن جاء الجمعة بالغسل وليس فيه أي وقت ولا إسقاط الغسل عن من لا يأتي إلى الجمعة، وقد يريد الرجل إتيان الجمعة من أول النهار. انتهى. قد أسلفنا صحيحًا حديث ابن عمر مرفوعًا: «وَمَنْ لَمْ يأتِ الجُمُعَةَ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ» وهو ردٌّ لما يقول ابن حزم ظاهر والله أعلم. والاسْتِنَانُ والطِّيْبُ: الاستياك عند ابن حزم فرضان أول بالغ من الرجال والنساء، وهو الاستياك مأخوذ من السِّنِّ يقال: سَنَنْتُ الحديد أي: حككته على المِسَنِّ، وقيل: لأنه يستاك على أسنانه. وفي «الْمُحْكَمِ»: سَنَّ أضْراسَه سَنًا سَوَّكها كأنَّه صَقَلَها. وشُرِعَ الطِّيْبُ لأن الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الأول فالأول فيكون الإنسان مطيبًا، لأنهم ربما صافحوه أو لامسوه. وفي «المصنف»: «وَكَانَ ابنُ عُمَرَ كَانَ يُجَمِّرُ ثِيَابَهُ كُلّ جُمُعَةٍ» وكذا رواه معاوية ابن قرة عن ثلاثين رجلًا من مُزَيْنَةَ، وحكاه مجاهد عن ابن عباس وأبي سعيد وابن مغفل ومجاهد وابن عمر نحوه. واخْتُلِفَ في الاغتسال في السفر فمن كان يراه: عبد الله بن الحارث وطَلْق بن حبيب وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين وطلحة بن مُصَرِّف، وممن كان لا يراه: علقمة وعبد الله بن عمر وابن جبير بن مطعم وابن مجاهد وطاوس والقاسم بن محمد والأسود وإياس بن معاوية، وعند مجاهد إذا اغتسل يوم الجمعة بعد طلوع الفجر من الجنابة أجزأه من غسل الجمعة وذكره أيضًا عطاء وأبو جعفر والحاكم والشعبي وابن عمر، فإن اغتسل ثم أحدث فعن النخعي يعيد غسله وكذا ذكره طاوس، وأما عبد الرحمن بن أبزى وابن سيرين والحسن فقالوا: لا يعيد، ذكره ابن أبي شيبة. (باب الطِّيب)
تقدم في الغسل.

(1/22)


(بَابُ فَضْلِ الجُمُعَةِ)
881 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ». هذا حديث خرَّجه الأئمة الستة. [خ¦881]
وعند ابن ماهان: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ».
وعند النسائي بسند صحيح «تَقْعُدُ الْمَلَائِكَةُ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وسَلَامُهُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ». وفيه: «الْمُهَجِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَطَّةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً».
وفي رواية: «بَعْدَ الْكَبْشِ دَجَاجَةً ثُمَّ عُصْفُوْرًا ثُمَّ بَيْضَةً».

(1/23)


وعند أبي قُرَّةَ ذكر ابن جريج عن سُمَيٍّ بلفظ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَاغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ كَمَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ غَدَا إِلَى أَوَّلِ سَاعَةٍ فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ الْجَزُورِ، وَأَوَّلُ السَّاعَةِ وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الثَّانِيَةُ مِثْلُ الثَّوْرِ وَأَوَّلُهَا وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ مِثْلُ الْكَبْشِ الْأَقْرَنِ وَأَوَّلُهَا وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الرَّابِعَةُ مِثْلُ الدَّجَاجَةِ وَأَوَّلُهَا وَآخِرُهَا سَوَاءٌ، ثُمَّ السَّاعَةُ الخَامِسَةُ مِثْلُ الْبَيْضَةِ، فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ وَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْمَعُ الذِّكْرَ، ثُمَّ يُغْفَرُ لَهُ إِذَا اسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ».
وعند الدارمي: «فَإِذَا رَاحَ الْإِمَامُ، طَوَتِ الْمَلَائِكَةُ الصُّحُفَ، وَدَخَلَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَمِعُ الذِّكْرَ».
وعند ابن خزيمة في «صحيحه»: «الْمُتَعَجِّلُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْذي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي شَاةً، ثُمَّ كَالْمُهْدِي طَائِرًا».
وفي لفظ: «عَلَى كُلّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَلَكَانِ يَكْتُبَانِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ» فَذَكَرَهُ وَفِيْ آخِرِهِ: «وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ طَيْرًا، وَكَرَجُلٍ قَدَّمَ بَيْضَةً. فَإِذَا قَعَدَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ».
وفي حديث عبد الله بن عمرو: «وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ, فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا حَبَسَ فُلَانًا؟ فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ ضَالًّا فَاهْدِهِ , وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَاشْفِهِ, وَإِنْ كَانَ عَائِلًا فَأغْنِهِ».

(1/24)


وعند ابن أبي شيبة من حديث علي بن زيد عن أوس بن خالد عنه مرفوعًا: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ، جَاءَ فُلَانٌ فَأَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُدْرِكِ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُدْرِكِ الْخُطْبَةَ».
وعند أبي داود عن علي بسند فيه مجهول يرفعه: «وَتَغْدُو الْمَلَائِكَةُ فَتَجْلِسُ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَيَكْتُبُونَ الرَّجُلَ مِنْ سَاعَةٍ، وَالرَّجُلَ مِنْ سَاعَتَيْنِ، حَتَّى يَخْرُجَ الْإِمَامُ» الحديثَ.
وفي «فضائل الأعمال» لحُمَيْدِ بنِ مَخْلَدِ بنِ زَنْجَوَيْه شيخ أبي داود والنسائي: حدَّثَنَا ابن أبي أويس، حَدَّثَنا إبراهيم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن أبي سفيان عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ، يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، فَكَمُهْدِي البَدَنَةِ إلى البَدَنةِ إلى البقرةِ إلى الشَّاةِ إلى عِلْيَةِ الطيرِ إلى العُصْفور، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ، وَكَانَ مَنْ جَاءَ بَعْدَ خُرُوْجِ الإِمَامِ كَمَنْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ وَلَمْ تَفُتْهُ».

(1/25)


وفي كتاب «الترغيب» لأبي الفضل الجوزي من حديث فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعًا: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى المَلاَئِكَةِ أَلْوِيَةُ الحَمْدِ إِلَى كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيْهِ، وَيَحْضُرُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المَسْجِدَ الحَرَامَ، مَعَ كُلِّ مَلَكٍ كُتَّابٌ، وُجُوْهَهُمُ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ مَعَهُمْ أَقْلَامٌ مِنْ فِضَةٍ وَقَرَاطِيْسُ مِنْ فِضَّةٍ يَكْتُبُوْنَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ الإِمَامِ كُتِبَ مِنَ السَّابِقِيْنَ، وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ خُرُوْجِ الإِمَامِ كُتِبَ شَهِدَ الخُطْبَةَ، وَمَنْ جَاءَ حِيْنَ تُقَامُ الصَّلاَةُ كُتِبَ شَهِدَ الجُمُعَةَ فَإِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ تَصَفَّحَ المَلَكُ وُجُوْهَ القَوْمِ فَإِذَا فَقَدَ مِنْهُمْ رَجُلًا كًانَ فِيْمَا خَلاَ مِنَ السَّابِقِيْنَ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّا فَقَدْنَا فُلاَنًا وَلَسْنَا نَدْرِي مَا خَلَّفَهُ اليَوْمَ، فَإِنْ كُنْتَ قَبَضْتَّهُ فَارْحَمْهُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيْضًا فَاشْفِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَأَحْسِنْ صَحَابَتَهُ وَيُؤَمِّنْ مَنْ مَعَهُ مِنَ الكُتَّابِ».

(1/26)


قرأت على المسند شرف الدين يحيى المصري، عن ابن الحميري عن شُهْدَةَ، أخبرنا أبو عبد الله النِّعَالِيُّ قراءة عليه، حَدَّثَنا أبو الحسن الْجَنَابِيُّ قراءة عليه، أخبرنا ابن السماك قراءة عليه، أخبرنا أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي بجميع كتاب «الديباج» تأليفه قال: أخبرنا إسماعيل بن زرارة أبو الحسن الرَّقِّيِّ، حَدَّثَنا عبد العزيز بن عبد الرحمن عن خُصَيْفٍ عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «إِنَّ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ يَوْمَ الجُمُعَةِ الأَوَّلَ فَالأَوَلَّ حَتَّى يَكْتُبَا أَرْبَعِيْنَ، ثُمَّ يَطْوِيَانِ الصُّحُفَ وَيَقْعُدَانِ يَسْتَمِعَانِ الذِّكْرَ».
قوله: (مِثْل غُسْلِ الجَنَابَةِ) في الصفة الشرعية
وأما قول بعضهم: أراد غسل الجنابة حقيقة بأن يستحب له أن يجامع زوجته بأن يكون أغض للبصر وأسكن للنفس فقال النووي: هذا ضعيف أو باطل، يؤيد هذا التأويل ويردُّ قول محيي الدين رحمه الله تعالى حديث الأوس بن أوس الذي أسلفناه: «مَنْ غَسَّلَ أَو اغْتَسَلَ» فإن العلماء قالوا: بتشديد السين وبالتخفيف والمعنى: جامع، وفي التشديد أوجب الغسل على غيره بالجماع أو حمله عليه واغتسل هو منه، وقيل: غسل للجنابة واغتسل للجمعة، وقيل: غسل رأسه واغتسل في بقية جسده، وقيل: بالغ في النظافة والدلك، واغتسل صب الماء عليه.
قال القرطبي: أنسب هذه الأقوال قول من قال: حمل غيره على الغسل، وعند ابن التين معنى غسَّل أي ثيابه واغتسل أي غسَل جسده.

(1/27)


قوله: (رَاحَ) بمعنى ذهب أول النهار وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير المحدثين وابن حبيب المالكي، وذهب مالك وكثير من أصحابه والقاضي حسين وإمام الحرمين إلى أن المراد بالساعات هنا لحظات لطيفة بعد زوال الشمس فإن الرواح لا يكون إلا بعد زوال الشمس كما أن الغدو لا يكون إلا قبله، قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] فذهب مالك إلى الساعات المذكورة إنما هي أجزاء قليلة من الزمان أولها بعد الزوال وإلى أن يجلس الإمام على المنبر قال: لأن الأجزاء متصلة متقاربة فجاز إطلاق البعض القليل على ما هو أقل منه، قال القرطبي: يؤيد ما ذكره مالكٌ أمور:
الأول: أنه أول وقت أمر الله فيه بالسعي إلى الجمعة قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوا} [الجمعة: 9] وهذا النداء هو الذي يحصل به الإعلام لدخول الوقت وبعده يخرج الإمام فيجلس على المنبر ويؤذن الأذان الثاني، وفائدته الإعلام بحضور الإمام وعند هذا الأذان تطوى الصحف.
الثاني: التمسك بلفظ الرواح ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه يقال: على المشي مطلقًا فعلى خلاف الأصل وهو مجاز، ولا يعارض ما في الحديث الآخر: (الْمُهَجِّر) فيقال: إنه من الهاجرة وذلك قبل الزوال بل بشدة الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، ولا يقال إن حقيقة الساعة العرفية إنما هي المتعارفة ولا يمنع ذلك، وتقول بل الساعة في عرف اللغة القطعة من الزمان غير محدودة بمقدار كقوله تعالى: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وتقول العرب: جئتك من ساعة كذا فيعتبر بحسب ما يضاف إليه وليست محدودةً، والأصل التمسك بالأصل.

(1/28)


الثالث: قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْاجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، كَالجَزُوْرِ» إِلَى آخِرِهِ. وهذا السياق يفسر الحديث الأول، فإن الفاء للترتيب وعدم المهلة فاقتضى هذا سبقية الأول وتعقيب الثاني فالأول هو الذي راح في الساعة الأولى إلى آخر الخمس مرات وهي من أول الساعة السابعة إلى جلوس الإمام فهي ساعات الدخول للجمعة لا ساعات النهار.
ومنها عَمِلَ أهلُ المدينة بترك البُكور للجمعة في أول النهار وبسعيهم إليها قُرْبَ الخطبة والصلاة وهو نقلٌ معلومٌ عندهم غير منكرٍ، ولو تنزلنا فقلنا إن الساعات في الحديث هي الزمانية لَلَزِمَ انقضاء فضائل المبكرين للجمعة بانقضاء الخامسة التي فيها البيضة ولا يبقى لأهل السادسة فضل ويلزم طي الصحف إذ ذاك وهو مُنَاقِضٌ للحديث، لأنه أخبر أن أجورهم لا تزال تُكْتَبُ إلى خروج الإمام، وخروجه إنما هو في الساعة السابعة. انتهى.
قد أسلفنا من عند النسائي ما يخدش في هذا القول الأخير، وهو أنه ذكرهم في ستِّ مراتب لا خمسٍ فأهل السادسة لهم بيضة والحديث صحيح، ويخدش في ذكره الساعة وأنها قطعة غير محدودة ما أسلفناه أيضًا صحيحًا من عند أبي قُرَّةَ: (وَأَوَّلُ السَّاعَةِ وآخِرُهَا سَوَاءٌ) فجعل لها أولًا وآخرًا ولا يكونان إلا لمحدود، ولو صحَّ لنا حديث أبي داود عن جابر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِثِنْتَي عَشْرَةَ، يُرِيْدُ سَاعَةً» الحديثَ. لَمَا احْتِيْجَ إلى كلِّ هذا كله التحريض، ولكان أصلًا يرجع إليه، لأنَّ فيه الْجُلَاحَ مولى عبد العزيز بن مروان وفيه كلام، وعند أبي حنيفة أن الساعات تعتبر من طلوع الشمس، وعند الشافعي قولان الأول: كقول أبي حنيفة والثاني الصحيح: من طلوع الفجر.

(1/29)


و (البَدَنَةُ) من الإبلِ والبقرِ كالأضحية من الغنم تُهْدَى إلى مكة شرفها الله تعالى، الذكر والأنثى في ذلك سواء، والجمع بُدُنٌ وبُدْنٌ، ولا يقال في الجمع بَدَنٌ، وإن كانوا قد قالوا خَشَبٌ وأَجَمٌ وَرَخَمٌ وأَكَمٌ، قاله ابن سِيْدَه وغيره، وقال الأزهري: البدنة تقع على البعير والبقرة والغنم، وفي مسلم: «قَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: أَيَشْتَرِكُ فِي الْبَدَنَةِ -يعني البقرة- مَا يَشْتَرِكُ فِي الْجَزُورِ؟ قَالَ: مَا هِيَ إِلَّا مِنَ الْبُدْنِ» وحديث الباب يعكر على هذا إذ فيه التفرقة بين البدنة والبقرة فَيُنْظَر، وإليه ذهب الشافعي، وإلى قول ابن سِيْدَه ذهب أبو حنيفة قال: وهي من البدانة أي الضخامة وقد اشتركا فيها يؤيد ذلك قول الخليل: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يُسَمِّنُونَها، والجمع بُدْنٌ يعني بسكون الدال، وقرأها ابن أبي إسحاق بضم الدال، وفي كتاب ابن التين: تعجب مالك ممن قال لا تكون البدنة إلا من الإناث.
و (البَقَرَةُ) واحد البقر من الأهلي والوحش تكون للذكر والمؤنث، وجمع الجمع أَبْقُرٌ فأما باقرٌ
وبَقِيرٌ وبَيْقُورٌ وباقورٌ وباقورةٌ فاسْمٌ للجمع قاله ابن سيده في «الْمُحْكَمِ»، وَفِي «الصِّحَاحِ»: والجمع بقرات، والباقر جماعات البقر مع رعاتها، وأهل اليمن يسمون البقرة باقورة، ومنه الحديث: «في ثلاثينَ باقورةً بقرةٌ». و (الدَّجَاجَةُ) معروفة سميت بذلك لإقبالها وإدبارها يقع على الذكر والأنثى قال جرير يذكر الدِّيكة:
لَمَّا تَذَكَّرْتُ بِالدَّيْرَيْنِ أرَّقَنِي ... صَوْتُ الدَّجَاجِ وَقَرْعٌ بِالنَّوَاقِيس

(1/30)


وجمعها: دِجَاج ودَجَاج ودجائج، فأما دجائج فجمعٌ ظاهر الأمر، ودجاجات ذكره ابن سيده، وفي «المنتهى» لأبي المعاني: فتح الدال في الدجاج أفصح من كسره، ودخلت الهاء في الدجاجة، لأنه واحد من جنس، مثلَ حمامة وبطة وحية ونحوها، وفي شرح الليلي عن ابن طلحة يقال: دَجَاجةٌ ودِجَاجةٌ ودُجَاجةٌ باللغات الثلاث وكذلك في الجمع الدَّجَاجِ والدِّجَاجِ والدُّجَاجِ.
وجمع البيضة بيض، ويجمع البيض على بيوض، قال ابن سيده: فأما قوله:
أبو بَيَضاتٍ رائحٌ متأوِّبُ
فشاذٌّ لا يعقد عليه بابٌ، لأن مثل هذا لا يحرَّك ثانيهِ، قال: وحضَرَ وحضِرَ لغتان قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [البقرة: 235] بفتح الضاد وهي اللغة العليا.
وقوله: (قَرَّبَ) يعني نحر وذبح في هدي أو ضَحِيَّة أو غيره وهو في الدجاجة والبيضة بمعنى الصدقة بمثلها، وقيل: هو محمول على حكم ما تقدَّمه، كقولك: أكلت طعامًا وشرابًا، وكقولهم:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدا
و (الكَبْشُ الأَقْرَنُ) يعني ذا القرون، خرج مخرج المدح، وفيه دلالة على فضيلة على الأجمِّ.
وفي هذا الحديث حجة لأبي حنيفة والشافعي إذ قالا: البدن أفضل من البقر، والبقر أفضل من الضأن في الضحايا خلافًا لمالك.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وبعض العلماء يقول: ليست الغنم بَهَدْي، والأكثرون يجعلونها هَدْيًا.
الباب الذي بعده تقدم.
(بَابُ الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ)

(1/31)


883 - حَدَّثَنا آدَمُ، حدَّثَنَا ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنِ ابنِ وَدِيعَةَ، عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنَ الطُّهْرِ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى». [خ¦883]
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: رواه ابنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عن الْمَقْبُرِيِّ: أن أباه كان يصلي هو وَعَبْدُ اللهِ بْنُ وَدِيعَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَدِيعَةَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ بهذا، لم يقل: عن أبيه عن ابن وديعة.
وفيه فَحَدَّثَ أبو عمارة بن عمرو بن حزم, وأنا معه فقال عمارة: أَوْهَمَ ابن وديعة سَمِعْتُهُ من سلمان بلفظ: «غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى وزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيامٍ».

(1/32)


قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: ورواه يحيى بن سعيد وغيره عن ابن عجلان عن المقبري عن أبيه عن ابن وديعة عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعند ابن خزيمة من حديث إبراهيم عن علقمة عن الْقَرْثَعِ الضَّبِيِّ عنه: قَالَ لِيْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا سَلْمَانُ, مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ: قال: «يَا سَلْمَان بِهِ جُمِعَ أَبُوكَ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا أُمِرَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَيَقْعُدَ، فَيُنْصِتَ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهُ مِنَ يومِ الْجُمُعَةِ».
زاد النسائي: «مَا اجْتَنَبَ المقْتَلَةَ» وعن أبي عبد الله على شرط مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعًا: «وَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ غُفِرَ لَهُ» الحديثَ.
وعند الترمذي عن معاذ بن أنس قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اتَّخَذَ جِسْرًا إِلَى جَهَنَّمَ» وقال: لا نعرفه إلا من حديث رِشْدِين، وقد ضعفه بعض أهل العلم.
وعند أبي داود عن عبد الله بن بشير قال: «جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطِبُ فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ».
وعند ابن وهب عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو بن العاصي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِمَا، فَإِنْ تَخَطَّى كَانَتْ لَهُ ظُهْرًا».

(1/33)


وعن عثمان بن أبي الأرقم عن أبيه وله صحبة قال: «الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ كَالْجَارِّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ» ولما رواه أحمد في مسنده رفعه.
وفي «المصنف» عن الحسن: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، حَتَّى جَلَسَ قَرِيبًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا فُلَانُ، أَمَا جَمَعْتَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْتنِي، قَالَ: «قَدْ رَأَيْتُكَ أَتَيْتَ وَآذَيْتَ» وممن كره ذلك القاسم بن مخيمرة وسعيد بن المسيب وعروة وابن سيرين ومسعود وابن شريح وسلمان الخير وأبو هريرة وكعب الحبر، وقال الحسن: لا بأس أن يتخطى رقاب الناس إذا كان في المسجد سعة.
وروينا في كتاب «الترغيب والترهيب» للجوزي بسند لا بأس به عن أبي أيوب الأنصاري يرفعه في حديث طويل فيه: «ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إِنْ بَدَا لَهُ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى».
قوله: «لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» يَسْتَدِلُّ به
من لم يقل بوجوب الغسل.
وقوله: (بِمَا اسْتَطَاعَ) قَالَ ابنُ التِّيْنِ: يعني إن لم يمنعه من ذلك مانع، وقَالَ الدَّاودِيُّ: يعني إن استطاع وإلا فالوضوء، وفيه مطلوبية الادِّهان.
وقوله: (لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ) أي لا يتخطاهما، وقيل: لا يجلس بينهما على ضيق الموضع.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: عن الأَصِيلي يريد أنه قام يصلي النافلة على قدميه ولم يفرق بين قدميه، انتهى.

(1/34)


يخدش في هذا قوله في عجز الحديث بعد قوله: ولا يفرق بين اثنين أي لا يتخطاهما ويصلي ما كُتِبَ له ولو كان كما قال لقال: ثم يصلي غيرَ مُفَرِّقٍ بين اثنين وما أسلفناه أيضًا من الأحاديث، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: الأشبه بتأويله ألا يتخطى رجلين ولا يجلس بينهما.
وفيه مطلوبية التبكير إلى الجمعة.
وفيه أنَّ التَّنَفُّلَ قبل خروج الإمام يوم الجمعة مستحب، وأن النوافل المطلقة لا حدَّ لها لقوله: (ما كُتِبَ لَهُ). وقوله: (ثُمَّ يُنْصِتُ) وفي رواية: < ثُمَّ أَنْصَتَ> وفي بعض أصول مسلم: «ثُمَّ انْتَصَتَ» بزيادة التاء المثناة من فوق، قال عياض: وهو وَهْمٌ. انتهى.
ذكر صاحب «الْمُوعِبِ» والأزهري وغيرهما أَنْصَتَ ونَصَتَ وانْتَصَتَ ثلاث لغات بمعنى واحد فلا وَهْمَ إذًا وهو السكوت والاستماع والإصغاء.
واختلف العلماء في الكلام حَالَتَئِذٍ هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟
قال عياض: قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة، وعن الشعبي والنخعي وبعض السلف: لا يجب إلا إذا تلي فيها القرآن.
واختلفوا إذا لم يسمع الإمام هل يلزمه الإنصات كما لو سمعه؟
فعند الجمهور يلزمه، وقال النخعي وأحمد والشافعي في قول: لا يلزمه.
فإنْ لَغَا الإمام هل يلزمه الإنصات أو لا؟.
فيه قولان لأهل العلم، وعند أبي حنيفة: يجب الإنصات بخروج الإمام، وعند غيره بكلامه فإذا بلغ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] قال الطحاوي: فحينئذ يجب على القوم أن يصلوا على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، والذي عليه عامة المشايخ أنهم ينصتون من أولها إلى آخرها من غير أن يذكروا الله ورسوله.

(1/35)


قال ابن المنذر: هذا أحب إلي، وعن أبي يوسف يصلون عليه سرًّا وهو قول مالك في حق القريب من الإمام، وأما البعيد فليس فيه رواية، وكان الحكم بن زهر شيخ الحنفية ينظر في الفقه، وأجمعوا أنه لا يتكلم بكلام الناس، واختلفوا في القراءة والذكر، وقال ابن قدامة: لا فرق بين القريب والبعيد، وللبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولا يرفع صوته وله أن يذاكر بالفقه ويصلي النافلة.
وقوله: (غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى) قال الداودي: هذا لا يكون إلا قبل ما سمع عثمان وغيره
في الوضوء أنه يغفر له مع آخر قطر الماء فيبشرهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالشيء ثم بأكثر منه، وقيل: المراد بما بين الجمعتين هو في صلاة الجمعة وخطبتها إلى مثل ذلك الوقت من الجمعة الثانية حتى تكون سبعة أيام سواءً فيما ذكره ابن حبان في «صحيحه»، وأما الثلاثة المروية عن أبي هريرة فهو رضي الله عنه فسرها بقوله: «الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».
في «صحيح الحاكم» قال الطبري: وهذا الثواب إنما يحصل لمن اتصف بالوصف الذي وصفه النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من غير حدوث مانع عمَّا أراده وقصده.
حديث ابن عباس تقدم.
(بابٌ يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ)

(1/36)


886 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ» ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا». فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا. وفي رواية: «قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ». [خ¦886]
وفي لفظ: «تَبِيْعَهَا وَتُصِبْ بِهَا حَاجَتَكَ». وفي لفظ: «أَنَّ عُمَرَ، رَأَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عُطَارِدٍ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ» وزعم البرقاني أن البخاري أخرج من حديث نافع عن ابن عمر: «أَنَّ عُمَرَ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ مِنْ حَرِيْرٍ فَقَالَ: ... ) الحديثَ. وجعله مسلم في طريق من مسند عمر لا مسند ابنه.
وفي لفظ: «رَأَى عُمَرُ عُطَارِدًا التَّمِيمِيَّ يُقِيمُ فِي السُّوقِ حُلَّةً سِيَرَاءَ ... » الحديثَ. وفيه «إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ».
وفي «صحيح ابن عوانة»: «فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مِنْ أُمِّهِ مِنْ أَهْلِ مَكَةَ مُشْرِكًا».
قال الدَّارَقُطْني: ورواه سالم بن راشد عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن عمر، وَوَهِمَ في ذكر أبي هريرة. وقال أبو عمر: قال أيوب: عن ابن سيرين حلة عطارد أو لبيد على الشك.

(1/37)


وفي حديث سالم: «مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: ابْتَعْ هَذِهِ».
وفي رواية: «دِيْبَاجٍ أَوْ خَزٍّ». وفي رواية: «سُنْدُسٍ» قال: وأهل العلم على أنها كانت من حرير. انتهى.
لقائل أن يقول: أكثر الروايات على أنها مختلطة بالحرير لا أنها حرير على صَرَافته لما نذكره بعد.
وعند أبي عمر وأبي نُعَيْمٍ وغيرهما: أن عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ لمَّا وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
أَهْدَى لَهُ ثَوْبَ دِيْبَاجٍ كَانَ كَسَاهُ إِيَّاهُ كِسْرَى فَعَجِبَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا».
قوله: (حُلَّة سِيَرَاءَ) قال ابن قُرْقُولٍ: على الإضافة ضبطناه عن ابن سراج ومتقني شيوخنا، ورواه بعضهم على التنوين على الصفة وزعم بعضهم أنه بدل لا صفة، وقال الخطابي: حُلَّةُ سِيَرَاء كناقة عشراء، قال ابن قُرْقُولٍ: وأنكره أبو مروان، لأن سيبويه قال: لم يأت فِعَلاء صفةً لكنِ اسمًا، قال ابن قُرْقُولٍ: وهو الحرير الصافي فمعناه حلة حرير، وعن مالك: السِّيَرَاء وشيٌ من الحرير، وعن ابن الأنباري السيراء الذهب، وقيل: هو نبت ذو ألوان وخطوط ممتدة كأنها السَّيُور ويخالطها حرير. انتهى.
الذي رأيته في كتاب أبي حنيفة سِيَرَاء قال الفراء: هو نبت وهو أيضًا ثياب من ثياب اليمن.

(1/38)


وقال الخطابي: هي الْمُضَلَّعة بالحرير وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور وذكرها ابن ولَّاد في فصل الممدود المكسور الأول، وفي «صحاح» الجوهري: بُرُودٌ فيها خطوط صفر، وقال صاحب «المغيث»: برود يخالطها حرير كالسُّيُور فهي فعلًا من السير القد، وفي «الْمُحْكَمِ»: قيل: هو ثوب مُسَيَّرٌ فيه خطوط يُعْمَلُ من القَزِّ، وقيل في «الجامع»: هي ثياب يخالطها حرير، وعن ابن التين: شك الراوي فقال: حريرًا أو سيراء، وقال القرطبي: هي المخططة بالحرير ذكره الخليل والأصمعي، والرواية حُلَّةٌ سِيَرَاء بتنوين حلة سيراء على أن تكون صفةً للحُلَّة كأنه قال: سِيَرَةً كما قالوا: جُبَّةُ طيالسة أي غليظة.
وفي «شرح المهذب» عن ابن شهاب: هي ثيابٌ مُضَلَّعَةٌ بالقز، وقال: ابن المنير: يجوز بحلةِ حريرٍ مثل ثوبِ خَزٍّ وخاتمِ حديدٍ، ويجوز بحلةٍ حريرٍ بالتنوين والخفض فيهما على النعت، ويجوز بحلةٍ حريرًا بخفض الحلة ونصب الحرير على التمييز، وفي رواية الشافعي رحمه الله تعالى: للجمعة وللوقود والحلة إزارٌ ورداءٌ بُرْدًا وغيره ولا يقال لها (حُلَّةٌ) حتى تكون من ثوبين، والجمع حُلَلٌ وحِلَالٌ قال ابن سِيْدَه أنشد ابن الأعرابي:
ليس الفتى بالمُسْمِن المختالِ ولا الذي يَرْفُلُ في الحِلَالِ
وقال القاسم بن سلام: الحلل برود اليمن، وعن ابن التين لا يقال حلة حتى تكون جديدة، سميت بذلك لِحَلِّهَا عنْ طَيِّهَا.

(1/39)


و (الخَلَاقُ) الحظ والنصب والنصيب من الخير والصلاح، ورجل لا خلاق له لا رغبة له في الخير ذكره ابن سيده، وعند عياض وقيل: الحرمة، وقيل: الدين فعلى قول من يقول النصيب والحظ يكون محمولًا على الكفار، وعلى القولين الآخرين يتناول المسلم والكافر، قال القرطبي: اختلف الناس في لباس الحرير فمن مانع ومن مجوِّزٍ على الإطلاق، وجمهور العلماء على منعه للرجال وإباحته للنساء على ما سنذكره إن شاء الله تعالى في بابه، وإعطاؤه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الحُلَّةَ لعمر فيه دلالة على جواز أن الإنسان يملك ما لا يجوز له لبسه. وأما صاحب الحلة فهو عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَفَدَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سنة تسع وعليه الأكثرون، وقيل: سنة عشر، وهو صاحب الثوب الديباج الذي أهداه النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وكان كسرى كساه إياه، فعجب منه الصحابة فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا» وله في سَجَاحِ لَمَّا تنبأت أنشده المَرْزُباني:
أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيْفُ بها وأصبحَتْ أنبياءُ الله ذُكْرَانَا
فلعنةُ الله ربِّ الناسِ كلِّهِمِ عَلَى سَجَاحِ ومنْ بالإِفْكِ أَغْرَانَا
وفي الحديث جواز الهدية للكافر.
قال القرطبي: وفيه دلالة على أنَّ عُمَرَ من مذهبه أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة إذ لو اعتقد ذلك لما كساه إياها. انتهى.

(1/40)


ولقائل أن يقول: لم يهدها إليه ليلبسها بل لينتفع بها كما فعل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مع عمر وغيره، وفي «مسند أحمد» ما يدلُّ على ما بوَّبَ له البخاري ولم يأتِ فيه بحديث يطابق ما ترجم له، وأكثر ما فيه أن عمر أشار مشورة رُدَّتْ عليه، وهو عن أبي أيوب: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ السَّكِيْنًةُ ... » الحديثَ. وعن ابن سَلَام قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَي مِهْنَتِهِ» رواه أبو داود.
وعند ابن ماجه عن عائشة: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ».
وعند ابن أبي شيبة بسند على شرط مسلم حَدَّثَنا عَبْدَةُ، حَدَّثَنا عثمان بن حكيم، عن عثمان بن أبي سليمان عن أبي سعيد مرفوعًا: «إِنَّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ السِّوَاكَ، وَأَنْ يَلْبَسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ، وَأَنْ يَتَطَيَّبَ بِطِيبٍ إِنْ كَانَ».
وعن أبي جعفرٍ محمد بن علي بن حسين: «أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ويَوْمَ الْعِيدَيْنِ».
وعن ابن عمر: «أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ للْجُمُعَةِ وَيَلْبَسُ مِنْ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ».
وعن مجاهد: البس أفضل ثيابك يوم الجمعة. وعن معاوية بن قرة قال: أدركت ثلاثين من مُزَيْنَةَ إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا ولبسوا من أحسن ثيابهم وتطيبوا.
وعن نافع: «أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ يُجَمِّرُ ثِيَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ».

(1/41)


وعن عبيد الله أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن ابن أبي ليلى قال:
«أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، وَأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، إِذَا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَبِسُوا أَحْسَنَ ثِيَابِهِمْ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ طِيبٌ مَسُّوا مِنْهُ، ثُمَّ رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ».
وعن جابر بسند فيه قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا ضَرَّ رَجُلًا لَوِ اتَّخَذَ لِهَذَا اليَوْمِ -يَعْنِي الجُمُعَةَ- ثَوْبَيْنِ يَرُوحُ فِيهِمَا». وعند مالك عن يحيى بن سعيد أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ، سِوَى ثَوْبَيْ مهْنَتِهِ».
وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعًا: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَنَّ وَمَسَّ مِنْ طِيْبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ , وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ, كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا».
(بَابُ السِّوَاكِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَسْتَنُّ». هذا التعليق تقدم عند البخاري في باب الطيب مُسْنَدًا.

(1/42)


887 – حَدَّثَنا عبد الله بن يُوسُفَ، أخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ». وعند النسائي من رواية قتيبة عن مالك: «مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ» وزعم أبو عمران رواية عبد الله بن يوسف عن مالك: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ-أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ» وكذا قاله القعنبي وأيوب بن صالح ومعن وزاد «عِنْدَ كلِّ صَلَاةٍ» وكذلك قال فيه قتيبة: «عِنْدَ كلِّ صَلَاةٍ» ولم يقل: (أَوْ عَلَى النَّاسِ) كل هذا قد رُوِيَ عن مالك عن أبي الزناد وكذا ذكره أبو العباس أحمد بن طاهر الداني في كتابه «أطراف الموطأ» وقال: هو في آخر الطهارة يعني من «الموطأ»: مختصر ليس فيه تحديد، ثم ذكر في آخر الطهارة أيضًا أن أبا هريرة قال: «لَوْلَا أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ لَأَمَرَهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وَضُوءٍ) وأنه موقوف عند يحيى بن يحيى وطائفة، ورفعه رَوْحٌ وسعيدُ بنُ عُفَيْر ومُطَرِّفٌ وجماعة عن مالك قال: ورواية معن ومطرف وجويرية: «مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ». [خ¦887]
وأما الدَّارَقُطْني فذكر في «الموطآت» أن ابن يوسف ومحمد بن يحيى قالا: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ» وقال معن: «عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ» زاد معن: «عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ». انتهى.
وكان قول أبي الحسن هو الصواب لما ذكر في صحيح البخاري وغيره، وقال الشافعيُّ: لو كان واجبًا لأمرهم به سواء شَقَّ أو لم يشق.
وفيه دليل على أن الأمر للوجوب، وزعم بعضهم أن الندب ليس مأمورًا به، وهي مسألة اختلف فيها الأصوليون.

(1/43)


وفيه دلالة على اجتهاده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما لم يَرِدْ فيه نصٌّ من الله
تعالى، ودلالة على جواز استياك الصائم بعد الزوال، وكذا أيوب عليه النسائي، وعلى إباحة السواك في المسجد خلافًا لبعض المالكية قال: لأنه من المستقذرات، والمساجد تُنَزَّهُ عن ذلك، ودلالة على أن الأمر للتكرار، لأنه لا مشقة في مرة واحدة فلو لم يكن الأمر للتكرار لما كانت المشقة مانعة.
حديث حذيفة تقدم.
(بَابُ مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ)
890 - حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ، فَأَعْطَانِيهِ فَقَضِمْتُهُ، ثُمَّ مَضَغْتُهُ وَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي». [خ¦890]
ولفظه: فِي وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: وَمَعَ عَبْدِ الرَّحمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَأَبَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ فَقَضِمْتُهُ، وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَفَعَ يَدَهُ -أَوْ إِصْبَعَهُ- ثُمَّ قَالَ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى» ثُمَّ قَضَى، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بَيْنَ حَاقِنَتِي وَذَاقِنَتِي.

(1/44)


وفي لفظ: «فِي يَدِهِ جَرِيدَةٌ رَطْبَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ بِهَا حَاجَةً، فَأَخَذْتُهَا، فَمَضَغْتُ رَأْسَهَا».
قولها: (فَقَضِمْتُهُ) ذكرها ابن قُرْقُولٍ في باب القاف مع الصاد المهملة قال: وكذا لأكثرهم، ولابن السكن والمستملي والحموي بضاد معجمة، ولما ذكره ابن الجوزي في الضاد المعجمة قال: وبعض المحدثين يقوله بالمهملة، وبالمعجمة أصح، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: هو في الكتب بصاد غير معجمة وقاف، وضبطه بعضهم بالفاء والمعنى يصح في ذلك كله، لأن الفَصْمَ بالفاء الكسر، وصوابه بقاف وصاد غير معجمة وهو الكسر والقطع قال: وكذا رويناه، وقد يصح بالضاد المعجمة، لأنه الأكل بأطراف الأسنان، وقال ثعلب: قضمت الدابة شعيرها بالفتح ولم أره لغيرهما، يأتي تكملة في كتاب الصوم وتقدم طرف منه في الطهارة.
(بَابُ مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ)
891 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ سَعِيْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ رسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الفجرِ يومَ الجُمُعَةِ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1]». كذا في نسخة سماعنا على اسم محمد بن يوسف تمريض، وفي الحاشية

(1/45)


مكتوب في عدة نسخ، حَدَّثَنا أبو نعيم، حَدَّثَنا سفيان، وذكر خَلَفٌ في «الأطراف»: أن البخاري رواه في العلاء عن أبي نعيم ومحمد بن يوسف قالا: حَدَّثَنا سفيان، وعلى الحاشية مكتوب لم أجد حديث محمد هنا ولا ذكره أيضًا أبو مسعود الدمشقي في «أطرافه»، وقال أبو نعيم الأصبهاني: حَدَّثَنا عليُّ بن عبد العزيز، حَدَّثَنا أبو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا سفيان الثوري فذكره ثم قال: رواه البخاري عن أبي نعيم، ورواه الإسماعيلي من طريق معاذ ويحيى بن سعيد وابن مهدي وأبي نعيم كلهم عن سفيان، ورواه مسلم عن زهير عن وكيع عن سفيان، ورواه مسلم أيضًامن حديث ابن عباس بلفظ: «يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ». [خ¦891]
وفي «شريعة المقاري» قال أبو بكر السِّجْزي الحافظ: حَدَّثَنا عثمانُ، حَدَّثَنا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنا حماد عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «غَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ فَقَرَأَ سُوْرَةً مِنَ المبَيَّنِ فِي الرَّكْعَةِ الأُوْلَى فِيْهَا سَجْدَةٌ فَسَجَدَ ثُمَّ غَدَوْتُ عَلَيْهِ مِنَ الغَدِ فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ سُوْرَةٍ مِنَ المبَيَّنِ فِيْهَا سَجْدَةٌ فَسَجَدَ». انتهى.
أبان هذا لا أدري من هو.
وعند الطبراني من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كَانَ يَقْرَأُ فِي فَجْرِ يَوْمِ الجُمُعَةِ بـ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] وَسُورَةٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ وَرُبَّمَا قَالَ: بِـ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]».

(1/46)


وعند ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ {الم تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] وَ {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1]» قال البزار: لا نعلمه يروي عن سعد إلا من هذا الوجه، والحارث بن نبهان قد تُكُلِّم فيه، وقد خالفه الحسين بن واقد وعبد الملك بن الوليد فروياه عن عاصم عن أبي وائل وهو عندي الصواب. انتهى.
حديث عبد الله هذا رواه ابن ماجه من غير طريق هذين فقال: حَدَّثَنا حرملة بن يحيى، حَدَّثَنا إسحاق ابن منصور، أخبرنا إسحاق بن سليمان، أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن أبي فروة عن أبي الأحوص عن عبد الله ثم قال وقال إسحاق بن سليمان حَدَّثَنا عمرو بن أبي قيس عن أبي فروة عن أبي الأحوص عن عبد الله ثم قال: وقال إسحاق بن سليمان هكذا حَدَّثَنا عمرو بن عبد الله لا أشك فيه.
ورواه الطبراني في «معجمه الصغير»: الذي قرأته على المسند المعمر أبي البركات محمد بن أبي عمرو بن محمد الصوفي، أخبرنا محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن عن السكري عن أسعد بن سعيد وأم هانئ الفارفانية، وأم حبيبة عائشة بنت معمر، أنبأتنا فاطمة الجُوْزَدَانِيَّة، أخبرنا ابن ريذه، أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب قال: حَدَّثَنا محمد بن بشر، حَدَّثَنا دُحَيْمُ بن الوليد بن مسلم، حدثني ثور بن يزيد عن عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عنه بزيادة: «يُدِيمُ ذَلِكَ» وقال: لم يروه عن عمرو إلا ثور، ولا عن ثور إلا الوليد تفرد به دُحَيْم ولا كتبناه إلا عن ابن بشر.
وعن علي بن أبي طالب مثله مرفوعًا، رواه الطبراني من حديث محمد بن بَكَّار، حَدَّثَنا حفص بن سليمان الغَاضِري
عن منصور بن حبان عن أبي هَيَّاج عن علي بن ربيعة الوالبي عنه، وقال: لا يُرْوى عن علي إلا بهذا الإسناد، تفرد به محمد بن بكار. انتهى كلامه.

(1/47)


وفيه نظرٌ لأنه ذكر بعد هذا بأوراقٍ حَدَّثَنا سعيد بن محمد الذراع، حَدَّثَنا عمرو بن علي، حَدَّثَنا معتمر بن سليمان، حَدَّثَنا ليث بن أبي سُلَيْم عن عمرو بن مُرَّةَ عن الحارث عن عليٍّ فذكره بنحوه وقال: لم يروه عن عمرو إلا ليث ولا عنه إلا معتمر، تفرد به عمرو بن علي ولم يرو عمرو بن مرة عن الحارث إلا هذا الحديث، وقال الدَّارَقُطْني: أسنده عمرو وحده عن عمرو، وغيره يرويه موقوفًا وهو الصواب.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ذهب أكثر العلماء إلى القول بهذا الحديث، رُوِيَ ذلك عن علي وابن عباس وأجازوا أن يقرأ بسورة فيها سجدة في الفجر يوم الجمعة واستحبه النخعي وابن سيرين. انتهى.
الذي استحبه إبراهيم القراءة فيها بسورة فيها سجدة رواه عنه ابن أبي شيبة بسند صحيح، وحدَّثَنَا ابن فُضَيْلٍ عن معرة عن أبي حمزة الأعور عن إبراهيم: أنه صلَّى بهم يوم الجمعة الفجر فقرأ بهم بـ {كهيعص}.
وحَدَّثَنَا وكيع عن حسن بن صالح عن ابنه عن عثمان بن أبي صفية عن عليٍّ: أنه قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الحشر وسورة الجمعة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهو قول الكوفيين والشافعي وأحمد إسحاق، وقالوا: هو سنة. انتهى.
الكوفيون مذهبهم كراهةُ قراءة شيء من القرآن العظيم مؤقتةً لشيء من الصلوات وأن يقرأ سورة السجدة وهل أتى في الفجر في كل جمعة قال الطحاوي: معناه إذا رآه حتمًا واجبًا لا يجزئ غيره أو رأى القراءة بغيرها مكروهة، أما لو قرأها في تلك الصلاة تبركًا أو تأسيًا بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أو لأجل التيسير فلا كراهة.
وفي «المحيط»: بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانًا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجوز غيره.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: واختلف قول مالك في ذلك فروى ابن وهب عنه: لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة في الفريضة. وروى عنه أشهب أنه كره للإمام ذلك إلا أن يكون مَن خلفَه قليلًا لا يخاف أن يُخَلِّطَ عليهم.

(1/48)


وقال ابن العربي في «الأحوذي»: خرَّجَ البخاريُّ قراءة الصبح يوم الجمعة عن سعد بن إبراهيم بلفظ: كان المقتضية للمداومة وهو مضعف عند مالك وغيره، وقد جاءت الرواية أيضًا من غير طريقة ولكنه أمر لم يعلم المدينة فالله أعلم من قطعه، فينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب للقدوة ويقطع أحيانًا. انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ في موضعين الأول: كان لا يقتضي المداومة على ذلك أكثر العلماء، الثاني: قد أسلفنا لفظة المداومة التي لا تحتمل التأويل بسند صحيح والله أعلم.
(بَابُ الجُمُعَةِ فِي القُرَى وَالمُدُنِ)
892 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنا أَبُو عَامِرٍ العَقَدِيُّ، حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فِي مَسْجِدِ عَبْدِ القَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ البَحْرَيْنِ». [خ¦892]
وعند أبي داود: «بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالمَدِيْنَةِ». وقال عثمان بن أبي شيبة: قرية من قرى عبد القيس، ولفظ أبي هريرة عند أبي عبد الرحمن النسائي بسند صحيح: «أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ، بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِمَكَّةَ جُمِّعَتْ بِجُوَاثَى بِالْبَحْرَيْنِ قَرْيَةٍ لِعَبْدِ الْقَيْسِ». وفي «سنن سعيد بن منصور» عن أبي هريرة: «أَنَّهُمْ كَتَبُوا إِلَى عُمَرِ بْنِ الخَطَّابِ مِنَ البَحْرَيْنِ يَسْأَلُوْنَهُ عَنِ الجُمُعَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَجْمِعُوا حَيْثُ مَا كُنْتُمْ».
وذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح بلفظ: «جَمِّعُوْا».

(1/49)


وفي «المعرفة» أن أَبَا هُرَيْرَةَ هُوَ السَّائِلُ وحسَّنَ سنده، وروى الدَّارَقُطْني بسند ضعيف عن أم عبد الله الدَّوْسِيَّة قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ فِيْهَا إِمَامٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُونوا إِلَّا أَرْبَعَةً» زاد أبو أحمد الجرجاني حتى ذكر النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ثَلاَثَةً».
وعن مالك فيما ذكره في «المصنف»: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمِيَاهِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ يَجْتَمِعُونَ».
وعن جعفر بن بُرْقَان قال: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: أَيُّمَا أَهْلِ قَرْيَةٍ لَيْسُوا بِأَهْلِ عَمُودٍ يَنْتَقِلُونَ، فَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا يُجَمِّعُ بِهِمْ».
وفي «صحيح ابن خزيمة» عن ابن كعب بن مالك عن أبيه: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ بِالْجُمُعَةِ صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ, كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمِ البَيْتِ منْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ نقِيعُ الْخَضَمَاتِ فكتب: وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا».
وعند البيهقي: «قبل مَقْدِمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وفي «المعرفة» للبيهقي قال الزهري: «لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُقْرِئَهُم القُرْآنَ جَمَّعَ بِهِمْ وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَكَانَ مُصْعَبُ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ الجُمُعَةَ بِالمَدِيْنَةِ بِالمسْلِمِيْنَ قَبْلَ أَنْ يَقْدِمَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
قال البيهقي: يريد الاثني عشر النقباء الذين خرجوا به إلى المدينة وكانوا له ظَهْرًا.

(1/50)


وفي حديث كعب: جَمَّع بهم أسعد وهم أربعون وهو يريد جميع من صلى معه ممن أسلم من أهل المدينة مع النقباء، وأيضًا فقول كعب متصل، وقول الزهري منقطع، وفي مغازي موسى بن عقبة وابن إسحاق: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين ركب من بني عمرو بن عوف إلى المدينة مرَّ على بني سالم وهي قرية من قرى قباء والمدينة فأدركته الجمعة فصلى بها إلى الجمعة فكانت
أول جمعة صَلَّاها حين قدم، ولم أجد فيها ذِكْر عددِ من صلَّاها بهم.
قال مالك: كل قرية فيها مسجد أو سوق فالجمعة واجبة على أهلها، ولا تجب على أهل العمود وإن كثروا لأنهم في حكم المسافرين.
وعند الشافعي: لها شروط أن تقام في أبنية مجتمعة يستوطنها شتاء وصيفًا من تنعقد بهم الجمعة، سواء أكان البناء من حجر أو خشب أو طين أو قصب أو غيرها، وسواء فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق والقرى الصغار، فإن كانت الأبنية متفرقة لم تصح عنده بلا خلاف، لأنها قرية ويرجع في الاجتماع والتفرق إلى العرف، وأما أهل الجنائز فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاءً أو صيفًا لم تصح الجمعة بلا خلاف وإن كانوا دائمين فيها شتاءً وصيفًا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض ففيه قولان أصحهما: لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم دية قاله مالك وأبو حنيفة، والثاني: تجب عليهم الجمعة وتصح منهم دية قاله أحمد وداود، ومذهب أبي حنيفة لا تصح الجمعة إلا في مِصْرٍ جامع أو في مصلى المصر ولا تجوز في القرى، وتجوز بمنى إذا كان الأمير أمير الحاج أو كان الخليفة مسافرًا، وقال محمد: لا جمعة بمنى ولا تصح بعرفات في قولهم جميعًا.
وقال أبو بكر الرازي في كتاب «الأحكام»: اتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة في مواضع لا يجوز فعلها في غيرها، لأنهم مجمعون على أنها لا تجوز في البوادي ومناهل الأعراب. انتهى.
ذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يرى على أهل المناهل والمياه أنهم يُجمِّعُون، وقد أسلفنا قول عمر بن عبد العزيز.

(1/51)


وفي «شرح الهداية»: اخْتُلِفَ في المصر الذي تجوز فيه الجمعة: فعن أبي يوسف هو كل موضع يكون فيه كل محترف، ويوجد فيه جميع ما يحتاج الناس إليه في معايشهم عادة وبه قاضٍ يقيم الحدود، وقيل: إذا بلغ سكانه عشرة آلاف، وقيل: عشرة آلاف مقاتل، وقيل: بحيث أن لو قصدهم عددٌ أمكنهم دفعه، وقيل: كل موضع فيه منبر وقاض يقيم الحدود، وقيل: أن لو اجتمعوا إلى أكبر مساجدهم لم يسعهم، وقيل: أن يكون بحال يعيش فيها كل محترف بحرفته من سنة إلى سنة من غير أن يشتغل بحرفة أخرى.
وفي «شرح القُدُوري» للزَّاهِدي: جزيرة بينها وبين الموضع الذي تقام فيه الجمعة بمقدار فرسخين ومياه تحتاج إلى سفينة في جميع الأوقات وفيها أقوام يبلغ سكانها ثلاث مئة كلهم أحرار وفيهم إمامهم وهو ممن يفتيهم بما يحتاجون إليه، ولو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لا يسعهم لحاجتهم إلى مسجد آخر، هل يجوز لهم إقامة الجمعة بوجود هذه الشرائط في زماننا هذا؟ وهل يأثمون بإقامتها أم لا؟ فأجاب: المصر شرط لإقامة الجمعة ولكن لو جَمَّعوا في مثل هذا الموضع لا يتعرض لهم. انتهى.
وعن محمد: كل موضع مَصَّرَه الإمام فهو مصر حتى أنه لو بعث إلى قرية نائبًا لإقامة الحدود والقصاص تصير مصرًا فإذا عزله ودعاه تلحق بالقرى، يؤيده هذا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أرسل عبدًا أسود إلى الرَّبذة فكان أبو ذر يصلي خلفه وكذا غيره من الصحابة الجمعة وغيرها، فإن جمع الأمير جنده في حصن وغلَّق بابه ولم يأذن فيه للعامة جازت فيه الجمعة، وقال في «المحيط»: الإذن على سبيل الاشتهار حتى لو غلق الأمير باب قصره وصلى فيه بجنده لا يجوز، وإن فتح باب قصره وأذن للناس حوله جاز.

(1/52)


قال في «التحفة»: إن فعلها على وجه الشهرة استدل أبو حنيفة على أنها لا تجوز في القرى بقول علي بن أبي طالب من عند ابن أبي شيبة بسند صحيح قال: حَدَّثَنا جرير عن منصور عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه: «لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيْقَ إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» قال: وحدَّثَنَا ابن سعيد عن الأعمش عن سعيد به، ولا التفات إلى قول النووي حديثُ عليٍّ ضعيف متفق على ضعفه، وهو موقوف عليه بسند ضعيف منقطع وكأنه رأى كلام الشافعي، وذكر بعض الناس لا تجوز الجمعة إلا في مصر جامع، وذكر منه شيئًا ضعيفًا، ويشبه أن الشافعي أراد الحديث المرفوع في ذلك أو يكون ... على حديث علي من طريق حجاج بن أرطأة عن أبي إسحاق عن الحارث عنه، ولم ير ما أسلفناه ولو رآه لما ادعى ما ادعاه، وأما محيي الدين فإنه زاد ذكر الاتفاق ولا أدري مَن سَلَفُه في ذلك، ولا وجه لقوله إلا ما ذكرناه والله أعلم.
وزعم أبو زيد في «الأسرار»: أن محمد بن الحسن قال: رواه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ معاذ وسراقة بن مالك، وقال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا عَبَّاد بن العَوَّام عن عمرو بن عامر عن حماد عن إبراهيم عن حذيفة قال: «لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى جُمُعَةٌ، إِنَّمَا الْجُمَعُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ، مِثْلِ الْمَدَائِنِ» وبه قال محمد بن سيرين والحسن وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وإبراهيم النخعي ومجاهد، وعند الترمذي مضعفًا من حديث رجل من أهل قباء عن أبيه وكانت له صحبة قال: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ نَشْهَدَ لَهُ الجُمُعَةَ مِنْ قِبَاءَ».
وعن أبي هريرة يرفعه: «الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ» أنكره أحمد إنكارًا شديدًا ولم يعده شيئًا.

(1/53)


وعند الحاكم عنه مرفوعًا: «عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ منَ الْمَغْنَمِ فَيَنْزِلَ بِهَا عَلَى مِيلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فَتَأْتِيَ الْجُمُعَةُ فَلَا يُجَمِّعَ، فَيُطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ» ولما ذكره ابن عدي ضَعَّفه معدي بن سليمان.
وعند ابن ماجه بسند جيد عن ابن عمر قال: «كَانَ أَهْلُ قِبَاءَ يُجَمِّعُوْنَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وفي الصحيح عن عائشة: «كَانُوْا يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنَ الْعَوَالِي وَأَقْرَبُ الْعَوَالِي ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ».
وفي «المصنف»:حَدَّثَنا وكيع عن أبي البحتري قال: رَأَيْتُ أَنَسًا شَهِدَ الْجُمُعَةَ مِنَ الزَّاوِيَةِ، وَهِيَ فَرْسَخَانِ مِنَ الْبَصْرَةِ.
وحَدَّثَنَا أَزْهَرُ، عَنِ ابنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو الْمَلِيحِ عَامِلًا عَلَى الْأَيْلَةِ، فَكَانَتْ إِذَا أَتَتِ الْجُمُعَةُ، جَمَّعَ منها. وعن الزهري: أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وكان ابن عمرو يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ في الطَّائِفِ، وَهُوَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: الْوَهْطُ عَلىَ رَأْسِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ. رواه عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه.

(1/54)


وجه الدلالة من هذه الآثار أن الجمعة لو أُقِيْمَتْ في القرى لما احتاجوا أن يأتوا إليها من مسيرة أميالٍ، فإن قيل: إنما لم يقم في قرى المدينة لينالوا فضيلة الصلاة معه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قيل: كان يأمر بها في القرى النائية عن المدينة لأنه يشق عليهم الحضور ويتعذر عليهم إدراك الفضيلة، فلما لم يأمر بها دلَّ على عدم الجواز إذ لو جاز لأمر بها كما أمرنا بإقامة الجماعة في مساجد المدينة مع فوات فضيلة الصلاة معه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وإلى هذا القول ذهب سُحْنُون، فإن قيل: كيف تعملون في حديث ابن عباس المذكور أولًا بأنه جمَّع في قرية؟
قيل: الجواب عنه بأن ابن التين نقل عن أبي الحسن أنها كانت مدينة، والمدينة تسمى أيضًا قرى، قال الله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعني مكة شرفها الله تعالى والطائف.
وَفِي «الصِّحَاحِ» للجوهري و «البلدان» للزمخشري: جُواثَى حصن بالبحرين، وقال أبو عبيد البكري: هو بضم أوله وبثاء مثلثة على وزن فُعَالى مدينة بالبحرين لعبد القيس قال امرؤ القيس:
وَرُحْنَا كأنا من جُواثَى عَشِيَّةً ... نُعالي النِّعاجَ بَين عِدْلٍ ومُحْقَبِ
يريد كأنا من تجار جُواثى لكثرة ما معهم من الصيد، وأراد كثرة أمتعة تجار جواثى والله تعالى أعلم.

(1/55)


893 - حَدَّثَنا بشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا عبد الله، أخْبَرَنَا يُونُسُ، عنِ الزُّهْرِيِّ، أخْبَرَنَا سَالِمٌ، عنِ ابنِ عُمَرَ أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاع» وَزَادَ اللَّيْثُ، قَالَ يُونُسُ: كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابنِ شِهَابٍ، وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي القُرَى: هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا، وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ؟ وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ، فَكَتَبَ ابنُ شِهَابٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ: يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ: أَنَّ عبد الله بن عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قال: وحسِبْتُ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،
ألا َكُلُّكُمْ رَاع وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الأميرُ الذي على الناسِ» الحديثَ. وخرجه مسلم عن قتيبة وابن رُمْحٍ عن الليث عن نافع بنحوه (كُلُّكُمْ رَاعٍ). [خ¦893]
وكأنَّ البخاريَّ رأى أن قريةً قرية فبوَّب عليها الجمعة في القرى، أو يحتمل أن يكون رُزَيق إنما سأل عن الأرض التي بها السودان لا أيلة فيصح التبويب لأن أَيْلَةَ بلدة مشهورة ومثلها ممتنع ألا تقام فيها الجمعة.
قال أبو عبيد: هي مدينة على شاطئ البحر في منتصف ما بين مصر ومكة هذا قول أبي عُبَيْدَةَ وقد أنشد قول حسان:
مَلَكا مِنْ جَبَلِ الثَّلْج إِلى ... جَانِبَيْ أَيْلَةَ مِنْ عَبْدٍ وحُرْ

(1/56)


قالَ: وجبل الثلج دمشق، وقال محمد بن حبيب: وقد أنشد قول كثير:
رَأَيْتُ وَأَصْحَابِي بِأَيْلَةَ مَوْهِنًا وَقَدْ غَارَ نَجْمُ الفَرْقَدِ الْمُتَصَوِّبِ
أيلة شعبة من رضوي، وهو جبلُ يَنْبُعَ قال البكري: الذي ذكره أبو عبيدة صحيح لا شك فيه، وبتبوك ورد صاحب أيلة على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأعطاه الجزية.
وقال الأحول: سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقد رُوِيَ أن أيلة هي القرية التي كانت حاضرة البحر، وقال اليعقوبي: أيلة مدينة جليلة على ساحل البحر المالح وبها يجتمع حاج الشام ومصر والمغرب، وبها التجارة الكثيرة، ومن القلزم الى أيلة ست مراحل في برية وصحراء يتزود الناس من القلزم إلى أيلة الماء لهذه المراحل الست.
وجواب الزهري: (كُلُّكُمْ راعٍ) بمعنى يجب عليك أن تقيم فيهم الأحكام الشرعية، لأنه كان واليًا عليهم فهم رعيته، وإقامة الجمعة من الأحكام الشرعية التي يجب إقامتها.
وأما قول ابن حزم مستدلًا لمذهبه: ومن أعظم البرهان أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أتى المدينة وإنما هي قرية صغار متفرقة فبنى مسجده في بني مالك بني النجار وجمَّعَ فيه في قرية ليست بالكبيرة ولا مِصْرَ هناك فغير جيد في مواضع: الأول: هو قد صحح قول علي بن أبي طالب: الذي هو أعلم الناس بالمدينة: «لَا جُمُعَةَ ولَا تَشْرِيْقَ إِلَّا في مِصْر ٍجامعٍ».
الثاني: الإمامُ أي موضعٍ حلَّ جَمَّعَ.
الثالث: التمصير هو للإمام فأي موضع مَصَّرَهُ مُصِّرَ.
وأما الشرط الذي شرطه الشافعي وأحمد من أن يكون بتلك القرية أربعة رجال أحرار بالغين عقلاء مقيمين بها لا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاءً إلا ظَعَنَ حاجةٍ فينظر مستندهما فإن قالا: مستندنا حديث أسعد قيل لهما: لا حجة فيه لأمور:
الأول: ليس هو أمْرٌ من صاحب الشرع صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
الثاني: أن هذا كان اتفاقًا لا قصدًا.

(1/57)


الثالث: إذا سُلِّمَ أنه كان بقصد من أين لهما بقية الشروط.
وأما حديث جابر: «مَضَتِ السُّنَّةُ في كُلِّ أَرْبَعِينَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ جُمُعَةٌ وَأَضْحًى وَفِطْرٌ» فذكره الدَّارَقُطْني من طريق ضعيفة، وقول عبيد الله بن عبد الله: «كُلُّ قَرْيَةٍ فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ» ففي سنده إبراهيم بن محمد، وقول سليمان بن موسى: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْمِيَاهِ جَمِّعُوا إِذَا بَلَغْتُمْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا» فرواه الشافعي عن الثقة عنده، وقد جاءت أحاديث تدلُّ لمن يخالفهما منها ما في «الصحيحين»: عن جابر قضية العير وأنهم تفرقوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، زاد ابن مسعود عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نارًا» قال الحميدي: لم أجد في هذه الزيادة فيما عندنا من الكتابين ولا فيما أخرجه الإسماعيلي ولا البرقاني وهي فائدة من أبي مسعود. انتهى.
وأما رواية: (لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلاَّ رَجُلٌ) قال الدَّارَقُطْني: خُولِفَ علي بن عاصم في ذلك، والصحيح اثنا عشر.
فإن قيل: قد ذكر عياض أن خطبته التي انفضوا عنها إنما كانت بعد صلاة الجمعة فظنوا أنهم لا شيء عليهم في الانفضاض، قيل له: قد قال أبو الفضل بعد أن أنكر بعض العلماء كون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خطب قط بعد صلاة الجمعة لها. انتهى.
وسيأتي ما يرد هذا في باب إذا نفر الناس عن الإمام.

(1/58)


وفي «الشرح» للزَّاهدي: سئل الحمامي وطاهر بن علي عن الخطبة إذا أُخِّرَتْ عن صلاة الجمعة هل تصح صلاة الجمعة؟ فقال: لا، وقد أسلفنا حديث أم عبد الله الدَّوسية ترفعه «الْجُمُعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ قَرْيَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ» وفي لفظ: «ثَلاَثَةٌ».
وعن أبي أمامة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «فِي الْخَمْسِينَ جُمُعَةٌ وليسَ فِيْمَا دُوْنَ ذَلِكَ» رواه الدَّارَقُطْني من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن وقد وُثِّقَا.
وفي «معرفة الصحابة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا أبو أحمد الغِطْرِيفي، حَدَّثَنا إبراهيم بن عبد الله المخرمي، حَدَّثَنا صالح بن مالك، حَدَّثَنا أبو الصباح، حَدَّثَنا عبد العزيز بن سعيد عن أبيه قال: «سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ خَمْسَةِ نَفَرٍ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَخَطَبَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ ثُمَّ صَلَّىَ بِهِم فَلَمْ يُعِبْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ» وحكى ابن شداد عن عمر بن عبد العزيز انعقادها بأربعين من الموالي.
وحكى الماوردي في «الحاوي» عنه: ثمانين، وعند عياض: خمسين، قال وقال غيره يشترط لانعقادها مئتان، وقال مطرف: ثلاثون بيتًا عند مالك، وعند ابن حزم عنه بخمسين رجلًا، حكى ابن حبيب عن مالك بثلاثين رجلًا، وعن عروة بعشرين رجلًا، وقال عكرمة: بسبع رجال لا أقل.
وعن أبي حنيفة والليث بن سعد وزفر ومحمد بثلاثة غير الإمام، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره المزني وهو أحد قولي الثوري.
وعن الحسن برجلين غير الإمام وهو أحد قولي الثوري وقول أبي يوسف وأبي ثور ورواية عن أحمد.
وعن النخعي بواحد مع الإمام وهو قول الحسن بن حي وأهل الظاهر، وحكى القرطبي عنهم تلزم المنفرد وهي ظهر ذلك اليوم عنده لكل واحد.

(1/59)


وحكى الدارمي عن القاشاني أنها تنعقد بواحد منفرد، قال في «شرح المهذب»: القاشاني لا يُعْتَدُّ به في الإجماع، وقد نقلوا الإجماع أنه لا بد من عدد.
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن باثني عشر رجلًا، وقيل: بثلاثة عشر رجلًا.
قال ابن المنذر: مضت السنَّة بأن الذي يقيم الجمعة السلطان أو من أمره، فإن لم يكن ذلك صَلَّوا الظهر.
قال الحسن: أربَعٌ إلى السلطانِ فذكر منها الجمعة، وقال ابن حبيب بن أبي ثابت: لا تكون الجمعة إلا بأمير وخطبة وهو قول الأوزاعي ومحمد بن مسلمة ويحيى بن عمر المالكي، وعن مالك إذا تقدم رجل بغير إذن الإمام لم يُجْزِهم، وذكر صاحب «البيان» قولًا قديمًا للشافعي: إنها لا تصح إلا خلف السلطان أو من أذن له السلطان، وعن أبي يوسف لصاحب الشرطة أن يصلي بهم دون القاضي، وقيل: يصلي القاضي.
واتفق أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك أن وقتها وقت الظهر وبه قال جمهور الصحابة والتابعين والمرويُّ في غالب الأحاديث، وقال العربي: اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن الجمعة لا تجب حتى تزول الشمس، ولا تجزئه قبل الزوال إلا ما رُوِيَ عن أحمد أنها تجوز قبل الزوال ونقله ابن المنذر عن عطاء وإسحاق والماوردي عن ابن عباس في السادسة، قال ابن قدامة: والمذهب جوازها في وقت صلاة العيد.
والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، قال الخطابي: الرعاية حسن التعهد للشيء، ورعاية كل شيء بحسبه.

(1/60)


وفي الحديث دليل على جواز الجمعة وإنَّ ظلَّ الكعبة كما هو، وزعم عبد الله بن سلمة: صلَّى بنا عبد الله الجمعة ضحًى وقال: خشيت عليكم الحرَّ، حدَّثَنَاه غندر عن شعبة عن عمرو بن مُرَّةَ عن سعيد بن سُوَيْدٍ قال: صلى بنا معاوية الجمعة ضحًى، وفي المصنف عن مصعب بن سعد: كان سعد بن أبي وقاص يَقِيْلُ بعد الجمعة، وعن سهل بن سعد كنا نتغدَّى ونَقِيْلُ بعد الجمعة، وعن سعيد الأنصاري قال: كنا نجمِّعُ مع عثمان ثم نرجع فنقيل وكذا قاله أنس وابن عمر، وحكي عن عمر وأبي وائل وسويد عن عقلة وأبي مسلمة وابن أبي الهذيل
وقال مجاهد: ما كان للناس عيد إلا أول النهار.
وفي الحديث دليل على إقامة الجمعة بغير سلطان وأن الرجلين إذا حكَّما بينهما رجلًا نفذ حكمه إذا أصاب، وزعم المنذري أن بعضهم قال: فيه دليل على سقوط القطع عن المرأة إذا سرقت من مال زوجها، وعن العبد إذا سرق من مال سيده إلا فيما حجبه عنهما ولم يكن لهما فيه تصرف.
(بَابُ هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟) ذكر فيه أحاديث تقدم ذكرها منها:
899 - حديثُ ابنِ عمرَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسْجِدِ». [خ¦899] 900 - وعن عبد الله: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَت لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ» الحديثَ. [خ¦900] ومناسبة هذين للباب أنهن إذا كُنَّ لا يُمْنَعْنَ من الليل فدلَّ على أنهن لا يمنعن بالنهار، وصلاة الجمعة نهارية. الباب الذي تقدم في الكلام على الأذان.

(1/61)


(بَابُ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ) لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} [الجمعة: 9] وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ. وَكَانَ أَنَسٌ فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ وَهُوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ. هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة بنحوه كما سبق به في الباب، قيل: وبه قال النخعي وأبو عبد الرحمن السلمي والحكم وأبو هريرة. وعن أبي يوسف من ثلاثة فراسخ، وعنه إذا أمكنه المبيت في أهله وهو اختيار كثير من الشيوخ لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَى أَهْلِهِ» ضعفه الترمذي وغيره وقد تقدم، وعن أبي حنيفة لا تجب إلا على ساكن المصر أو بعيدًا، وعن محمد إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة وهو قول مالك والليث، وفي «منية المفتي»: على أهل السواد الجمعة إذا كانوا على قدر فرسخين هو المختار، وعنه إذا كان أقل من فرسخين، وعن معاذ تجب من خمسة عشر فرسخًا، وقيل: إذا سمع صوت النداء وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق لحديث ابن عمر مرفوعًا: «الجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ».ورُوِيَ أيضًا موقوفًا قال البيهقي: والذي رفعه ثقة وله شواهد، قال ابن المنذر: تجب عند ابن المنكدر وربيعة والزهري من أربعة أميال، وقال الزهري أيضًا: ستة أميال، وعن مالك والليث ثلاثة، وحكى أبو حامد عن عطاء عشرة أميال.

(1/62)


902 - وذكر البخاري بعد هذا حديث عائشة: «كَانَ النَّاسُ يَتَنَاوَبُوْنَ الجُمُعَةَ مِنَ العَوَالِيْ) الحديثَ. وقد تقدم وقال هنا في أول السند: حَدَّثَنا أحمد، حدَّثَنَا ابن وهب، قال أبو نعيم الأصبهاني: هو أحمد بن عبد اللهثم روى الحديث هو والإسماعيلي من طريق أحمد بن عيسى المصري عن ابن وهب. [خ¦902] وقال الحيَّاني: نسبه ابن السكن أحمد بن صالح المصري، وقال الحاكم أبو عبد الله: قيل إنه ابن صالح المصري وقيل: ابن عيسى التُّستري، وقال الكلاباذي: قال أبو أحمد الحاكم: أحمد بن وهب في «الجامع» هو ابن أخي ابن وهب، قال الحاكم أبو عبد الله: من قال هذا وهم وغلط دليله أن المشايخ الذين ترك البخاري الرواية عنهم في «الجامع» قد روى عنهم في سائر مصنفاته وليس له عن ابن أخي ابن وهب رواية في موضع، فهذا يدل على أنه لم يكتب عنه أو كتب عنه ثم ترك الرواية عنه. قال أبو نصر: قال ابن مَنْدَه: كما قال البخاري في «الجامع»: حدثنا أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح ولم يخرج عن ابن أخي ابن وهب في «الصحيح»، وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبه. و (يَتَنَاوبُونَ) أي يجيئون والانتياب المجيء نوبًا، وأصله ما كان من قرب كالفرسخ والفرسخين. وقولها: (فَيَأْتُونَ فِي الغُبَارِ) قال ابن قُرْقُولٍ: كذا رواه الفَِربري، وحكاه الأَصِيلي عن النسفي، قال: وهو وهم والصواب: <فيأتون في العَبَاء ويصيبهم الغبار> وقال: كذا هو عند القابسي. والعباءة والعَباية لغتان مشهورتان، والله أعلم. (بَابُ وَقْتُ الجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ) وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ. قال ابن المنذر: الأثر عن أبي بكر وعمرو بن مسعود في جواز صلاة الجمعة قبل الزوال لا يثبت. وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: الآثار عن هؤلاء الصحابة لا تثبت، وقال الشيخ محيي الدين: أما الأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان فضعيف باتفاقهم. انتهى كلامه.

(1/63)


وكأنه غير جيد لما نُبَيِّنُهُ، أما التعليق المروي عن عمر فذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح عن وكيع عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج الكلابي عن عبد الله بن سَيْدَان السُّلَامي قال: «شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْنَا مَعَ عُمَرَ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْنَا مَعَ عُثْمَانَ، فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ» ثابتٌ قال ابن سعد: كان ثقة وكذا قاله أبو داود، وذكره ابن حبان وابن خلفون في كتاب «الثقات»، وابن سَيْدَان وثَّقَهُ العجلي، وذكره ابن حبان في كتاب «الثقات»، وابن سعد في جملة الصحابة وكذا ابن شاهين وبعده أبو موسى وغيره، وروى حديثه هذا أيضًا أحمد في «مسنده».وفي «موطأ مالك» عن عمه عن أبيه قال: «كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أبِي طَالِبٍ تُوْضَعُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ خَرَجَ عُمَرُ ثُمَّ يرْجِعُ بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَيَقِيْلُ قَائِلَةَ الضُّحَى».قال ابن حزم: هذا يوجب أن صلاة عمر الجمعة كانت قبل الزوال، لأن ظل الجدار ما دام في المغرب منه شيء فهو قبل الزوال، فإذا زالت الشمس صار الظل في الجانب الشرقي ولا بد. وأما التعليق عن علي فذكره ابن أبي شيبة عن وكيع عن أبي العنبس عمرو بن مروان عن أبيه قال: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ عَلِيٍّ، إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ».وحَدَّثَنَا علي بن مسهر، حَدَّثَنا إسماعيل بن سُمَيْع عن أبي رَزِين قال: «كُنَّا نُصَلِّيْ مَعَ عَلِيٍّ الجُمُعَةَ، فَأَحْيَانًا نَجِدُ فَيْئًا وَأَحْيَانًا لَا نَجِدُ» وهذا الثاني إسناده صحيح.

(1/64)


وقال ابن حزم: روينا عن أبي إسحاق قال: «شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، يُصَلِّي الجُمُعَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ». وقال ابن الأثير: وقد روى زهير عن أبي إسحاق: «أَنَّهُ صَلَّىَ خَلْفَ عَلِيٍّ الجُمُعَةَ فَصَلاَّهَا بِالهَاجِرَةِ بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَأَنَّهُ رَآهُ قَائِمًا يُصَلِّيْ».وأما التعليق عن النعمان فرواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عبيد الله بن موسى، حَدَّثَنا حسن بن صالح عن سماك قال: «كَانَ النُّعْمَانُ يُصَلِّيْ بِنَا الجُمُعَةَ بَعْدَمَا تَزُوْلُ الشَّمْسُ».والتعليق عن عمرو رواه ابن أبي شيبة بسند لا بأس به عن محمد بن بشير العَبْدي، حَدَّثَنا عبدُ الله بنُ الوليدِ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، قال: «مَا رَأَيْتُ إِمَامًا كَانَ أَحْسَنَ صَلَاةً لِلْجُمُعَةِ مِنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، كَانَ يُصَلِّيهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ».903 - وذكر البخاري بعد هذا حديث عائشة المذكور قبل: «كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا رَاحُوا إِلَى الجُمُعَةِ، رَاحُوا فِي هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ: لَوِ اغْتَسَلْتُمْ». [خ¦903] ومناسبته لهذا الباب أن الرواح لا يكون إلا بعد الرواح قاله الإسماعيلي. وعند البيهقي: «كَانَ النَّاسُ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ». وعند أبي داود: «مُهَّان أَنْفُسِهِمْ».وعند الإسماعيلي: «كَانَ النَّاسُ أَهْلَ عَمَلٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ كُفَاةٌ، فَكَانُوا يَكُونُ لَهُمْ نَقْلٌ، ومَهَنَة أَنْفُسِهِمْ» قَالَ ابنُ التِّيْنِ: بفتح الميم والهاء جمع مَاهِن وهو الخادم.

(1/65)


904 – حَدَّثَنا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عنْ عُثْمَانَ بْنِ عبد الرحمن بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ، عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ». [خ¦904] 905 – حَدَّثَنا عَبْدَانُ، أخْبَرَنَا عبد الله، أخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عنْ أَنَسٍ: «كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الجُمُعَةِ». قالَ الترمذي: هذا هو الذي أجمع عليه أكثر أهل العلم أن وقت الجمعة كوقت الظهر ويستدل لمذهب أحمد بما أسلفناه وبحديث جابر من عِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا -يَعْنِي النَّوَاضِحَ- فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» ويخدش في هذه الرواية ما في النسائي: «ثُمَّ نَرْجِعُ فَنُرِيحُ نَوَاضِحَنَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قُلْتُ: أَيَّةَ سَاعَةٍ؟ قَالَ: زَوَالَ الشَّمْسِ». [خ¦905] وأيضًا فإنه أخبر أن الصلاة والرواح كانا حين الزوال لا أن الصلاة قبله. فإن قيل: قوله: (حِيْنَ الزَّوالِ) لا تسع هذه الجملة فيجاب بأن المراد نفس الزوالوما يدانيه. ويستدل أيضًا بما رواه عطاء قال: «اجْتَمَعَ يَوْمُ فِطْرٍ وَيَوْمُ الجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً، لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ» رواه أبو داود. وفي رواية: «فَسُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ».ويُسْتَدَلُّ أيضًا بحديث سهل بن سعد من عند الشيخين: «مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».

(1/66)


ويُسْتَدَلُّ أيضًا بحديث سلمة بن الأكوع عند الشيخين: «كُنَّا نُصَلِّيْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ» لكن يخدش في استدلالهم به ما في الرواية الأخرى: «وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ» فإن الأولى مطلقة وهذه مبيَّنة فيها وقتُ فعلها وهو الزوال، ويقال أيضًا هذا حجة للجماعة في كونها بعد الزوال، لأنه ليس معناه أنه ليس للحيطان شيء من الفيء، وإنما معناه ليس لها فيءٌ كثير بحيث يستظل به المار، لم يَنْفِ أصل الظل وإنما نفى كثيره، ويوضحه الرواية الأخرى: «يَتَتَبَّعُ الفَيْءَ» ففيه تصريح بوجود الفيء لكنه قليل، ومعناه: أن حيطانهم قصير وبلادهم متوسطة من الشمس فلا يظهر هناك الفيء بحيث يستظل به إلا بعد زمن طويل. ويُسْتَدَلُّ أيضًا بحديث سهل بن سعد من عند الشيخين: «مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وبحديث أنس المذكور عند البخاري، وربما رواه مالك في «الموطأ» عن عمرو بن يحيى عَنِ ابنِ أَبِي سَلِيطٍ: «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ».قال ابن سَلِيط: وَكُنَّا نُصَلِّي الْجُمُعَةَ مَعَهُ ونَنْصَرِفُ وَمَا لِلْجُدُرِ ظِلٌّ، قَالَ مَالِكٌ: وَذلِكَ لِلتَّهْجِيرِ، وَسُرْعَةِ السَّيْرِ.

(1/67)


وقال ابن حزم: بين المدينة ومِلَل اثنان وعشرون ميلًا ولا يجوز البَتَّةَ أن تزول الشمس ثم يخطب ويصلي الجمعة ثم يمشي هذه المسافة إلا من ركع ركض البريد، وبقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيْدَانِ» وبقوله أيضًا: «هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ عِيْدًا للمُسْلِمِيْنَ فَصَارَ كَالفِطْرِ وَالأَضْحَى فَتَصحُّ الصَّلاَةُ فِي وَقْتِهِمَا» ورجح بعضهم حديث أنس الأول على حديثه الثاني لأمرين: الأول: الرواية الأولى أضافها إليه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. والثانية: لم يذكر فيها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولا زمانه. قوله: (كُنَّا نُبَكِّرُ) أي نأتيها بُكْرَةً، أي: لتحصيل البدنة ونؤخر القيلولة إلى بعد الصلاة، لأنهم لو قالوا قبلها لفاتهم فضيلة البدنة. ويُسْتَدَلُّ للجماعة بحديث أنس وعائشة المذكورين قبل وبالروايات السابقة وبحديث رواه البيهقي من طريق مسلم بن جُنْدَبٍ عن الزبير بن العوام قال: «كُنَّا نُصَلِّيْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الجُمُعَةَ ثُمَّ نَبْتَدِرُ الْفَيْءَ، فَمَا يَكُونُ إِلَّا مَوْضِعُ الْقَدَمِ أَوِ الْقَدَمَيْنِ» ولَمَّا خرجه الحاكم قال: صحيح الإسناد. وعند ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا سفيانُ عن عمرو عن يوسف بن مَاهك قال: «قَدِمَ مُعَاذُ وَهُمْ يُجَمِّعُونَ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ: لَا تُجَمِّعُوا حَتَّى تَفِيءَ الْكَعْبَةُ مِنْ وَجْهِهَا» ورواه الشافعي عن سفيان وقال: ووجها الباب يريد معاذ حتى تزول الشمس. وقال ابن حزم: روينا عن ابن عباس قال: «خَرَجَ عَلَيْنَا عُمَرُ حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ».وفي «المصنف» عن مغيرة عن إبراهيم قال: «وَقْتُ الجُمُعَةِ وَقْتُ الظُّهْرِ».

(1/68)


وعن بلال العَبْسِي: «أَنَّ عَمَّارًا صَلَّىَ بِالنَّاسِ الجُمُعَةَ وَالنَّاسُ فَرِيْقَانِ بَعْضُهُمْ يَقُوْلُ زَالَتِ الشَّمْسُ وَبَعْضُهُمْ يَقُوْلُ: لَمْ تَزُلْ».وقال ابن عون: «كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْفَيْءُ هُنَيْهَةٌ».وعن الحسن: «وَقْتُ الجُمُعَةِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ».وعند ابن ماجه عن سعد القرظ قال: «كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ». (بابٌ إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ يَوْمَ الجُمُعَةِ)

(1/69)


906 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ المُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنا أَبُو خَلْدَةَ هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: «كَانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا اشْتَدَّ البَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ، وَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ بَرَّدَ بِالصَّلاَةِ» يَعْنِي الجُمُعَةَ. [خ¦906] قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو خَلْدَةَ، وقَالَ: بِالصَّلاَةِ وَلَمْ يَذْكُرِ الجُمُعَةَ. هذا رواه الإسماعيلي عن أبي الحسن الصوفي، أخْبَرَنَا ابن هشام عن يونس بلفظ: «إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِهَا يَعْنِيْ: الظُّهْرَ».وعند البيهقي: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَنْبٍ، حدَّثَنَا أبُو إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ، حَدَّثَنا يونسُ، أخْبَرَنَا خالد بن دينار أبو خلدة: «سَمِعْتُ أَنَسًا وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ الحَكَمِ أَمِيْرِ البَصْرَةِ عَلَى السَّرِيْرِ يَقُوْلُ: ... ) الحديثَ. وعند النسائي: «أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ أَخَّرَ صَلاَةَ الْجُمْعَةَ، فَتَكَلَّمَ يَزِيدٌ الضَّبِيُّ وَنَادَىَ أَنَسًا يَا أَبَا حَمْزَةَ، شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَشَهِدْتَ مَعَنَا، فَكَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ ... » الحديثَ. وقال بشر بن ثابت، أخبرنا أبو خلدة: «فَصَلَّى بِنَا أَمِيرٌ الجُمُعَةَ، ثُمَّ قَالَ لِأَنَسٍ: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ؟».

(1/70)


قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: حَدَّثَنا علي بن محمد بن حاتم، حَدَّثَنا أزهر بن مرزوق، حَدَّثَنا بشر بن ثابت، حَدَّثَنا أبو خلدة بلفظ: «إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ يُبَكِّرَ بِالظُّهْرِ, وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ أَبْرَدَ بِهَا، وَلكن يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ».ورواه البيهقي عن أبي عبد الله الحافظ أخبرني أبو أحمد بن محمد، أخبرنا إبراهيم بن محمد الفرائضي، حَدَّثَنا أحمد بن عبد الرحمن الكُزْبَرَاني، حَدَّثَنا بشر بن ثابت فذكره: «وَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ أَخَّرَهَا».قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اسْتُدِلَّ بهذا الحديث على أن وقت الجمعة وقتُ الظهر وأنها تصلى بعد الزوال ولا يكون الإبراد إلا بعد تمكن الوقت وفي المعنى لا فرق في استحباب إقامتها عقب الزوال من شدة الحر ومن غيره، فإن الجمعة يجتمع لها الناس فلو انتظروا الإبراد شق عليهم وكذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا زالت الشمس في الشتاء والصيف على ميقات واحد والله تعالى أعلم. (بَابُ المَشْيِ إِلَى الجُمُعَةِ وَقَوْلِ اللهِ تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَمَنْ قَالَ: السَّعْيُ العَمَلُ وَالذَّهَابُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19]) السعي في لسان العرب يكون الإسراعَ في المشي والاشتدادَ قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ» كذا ذكره الهروي وغيره.

(1/71)


وفي «الْمُحْكَمِ»: السعي عَدْوٌ دون الشدِّ سَعَى يَسْعَى سَعْيًا، والسعي الكسب وكل عمل من خير أو شر سَعْيٌ والفعل كالفعل، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ذهب مالك إلى أن المشي والمُضِيَّ يُسَمَّيَان سعيًا، من حيث كانا عملًا، وكل من عمل بيديه أو غيره فقد سعى، وأما السعي بمعنى الجَرْي فهو الإسراع يقال: سعى إلى كذا بمعنى العَدْو والجري فيتعدى بإلى، وإن كان بمعنى العمل تعدى باللام قال تعالى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وإنما يتعدى سعى للجمعة بإلى لأنه بمعنى المضي. وقال الحسن: (أَمَا وَاللهِ مَا هُوَ بِالسَّعْيِ عَلَى الْأَقْدَامِ، وَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِم السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَكِنْ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّاتِ وَالْشَّرْعِ) وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء وهو مذهب البخاري. وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود يَقْرَؤوْنَ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى. قال ابن مسعود وعمر بن الخطاب: لَوْ قَرَأَتُهَا فَاسْعَوْا لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي، وقال عمر لِأُبَيٍّ: وقرأ {فَاسْعَوا} لا تزال تقرأ المنسوخ، كذا ذكره ابن الأثير. وفي «المعاني» للزجاج: وقرأ ابن مسعود وأُبَي فَامْضُوا، وقد رُوِيَتْ عن عمر ولكن اتباع المصحف أولى، ولو كانت عند عمر فَامْضُوا لا غير لغيرها في المصحف، والدليل على أن معنى السعي التصرف في كل عمل قول الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 40] الآية، فلا اختلاف في أن معناه وأن ليس للإنسان إلا ما عمل، وفي «تفسير عبد بن حميد»: حَدَّثَنا أبو النضر عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبَي وابن مسعود: أَنَّهُمَا كَانَا يَقْرَأانِ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ.

(1/72)


وفي قوله أيضًا عن عمر لِأُبَيٍّ (لا تزال تقرأ المنسوخ) نظرٌ، والذي في «تفسير عبد» قيل لعمر: إنَّ أُبَيًّا يقرأ فاسعوا إلى ذكر الله، فقال عمرُ: أُبَيٌّ أعلمنا بالمنسوخ. وكان يقرؤها فامضوا إلى ذكر الله. وفي التفسير المنسوب لابن عباس: ليس السعي إليها بالرجلين ولكن يقول امضوا إليها، والذكر صلاة الجمعة. وقوله: ({مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}) وفي تفسير أبي القاسم الجوزي المسمى «بالإيضاح»: {فَاسْعَوا} أي فاقصدوا إلى صلاة الجمعة، وقوله: ({مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}) أي في يوم الجمعة. ولما ذكر الفراء في كتاب «المعاني» قراءة عبد الله فامضوا قال: الْمُضِيُّ والسعيُ والذهاب في معنى واحد لأنك تقول للرجل وهو يسعى في الأرض وليس هذا باشتداد، وقد قال بعض الأئمة: لو قرأتها فاسعوا لاشْتَدَدْتَ ولأسرعت، والعرب تجعل السعي أسرع من المضي، والقول فيها القول الأول. وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يَحْرُمُ البَيْعُ حِينَئِذٍ، قال ابن حزم: روينا من طريق عكرمة عن ابن عباس لا يصلح البيع يوم الجمعة حتى يُنَادى بالصلاة فإذا قضيت الصلاة فَاشْتَرِ وَبِعْ، وقال عطاء: تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا. هذا التعليق رواه عبد بن حميد الكشي في «تفسيره الكبير»: عن روح عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: هل من شيء يحرم إذا نودي بالأولى سوى البيع؟ فقال عطاء: إذا نودي بالأولى حرم البيع، واللهو، والصنعات كلها بمنزلة البيع، والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابًا. وقال الزجاج: البيع من وقت الزوال من يوم الجمعة إلى انقضاء الصلاة كالحرام، وقال الفراء: إذا أذن المؤذن حَرُم البيع والشراء، لأنه إذا أُمِرَ بترك البيع فقد أُمِرَ بترك الشراء، لأن المشتري والبائع يقع عليهما البيعان.

(1/73)


وفي «تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي» عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «تَحْرُمُ التِّجَارَةُ عِنْدَ الأَذَانِ، وَيَحْرُمُ الكَلاَمُ عِنْدَ الخُطْبَةِ، وَيَحِلُّ الكَلاَمُ بَعْدَ الخُطْبَةِ، وَتَحِلُّ التِّجَارةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ» الحديثَ. وذكر عبد سبب نزول هذه الآية الكريمة: أن رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام فربما قَدِمَا يوم الجمعة ورسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ فَيَدَعَانِهِ وَيَقُوْمَانِ فَمَا هُمَا إِلَّا بَيْعًا حتى تقام الصلاة فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَذَرُوا البَيْعَ} [الجمعة: 9] فحرَّمَ عليهما ما كان قبل ذلك، رواه عن عبيد الله بن موسى عن موسى بن عُبَيْدَةَ عن محمد بن كعب القُرَظِي فذكره. وعن قتادة: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] حرم الشراء والبيع، وقال الضحك إذا زالت الشمس، وعن عطاء الحسن مثله وعن أيوب: لأهل المدينة ساعة يوم الجمعة ينادون حَرُمَ البيع وذلك عند خروج الإمام، وعند ميمون بن مهران كان ذلك إذا أذن المؤذن، وابْتَاع أهل القاسم من عطَّارٍ شيئًا وخرج القاسم إلى الجمعةفوجد الإمام قد خرج فلما رجع أمرهم أن يتناقضوه. وفي «المصنف» عن مسلم بن يسار: «إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّهَارَ قَدِ انْتَصَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَا تَبْتَاعَنَّ شَيْئًا». وكان عمر بن عبد العزيز يمنع الناس البيع يوم الجمعة إذا نودي بالصلاة، وعن مجاهد من باع شيئًا بعد زوال الشمس يوم الجمعة فإن بيعه مردود، وعن بُرْدٍ قلت للزهري: متى يحرم البيع والشراء يوم الجمعة؟ فقال: كان الأذان عند خروج الإمام فأحدث عثمان التأذينة الثالثة فأذن على الزوراء ليجتمع الناس فأراد أن يترك البيع والشراء عند التأذينة.

(1/74)


وعن الشعبي في الساعة التي ترجى في الجمعة قال: فيما بين أن يَحْرُمَ البيع إلى أن يحلَّ. مذهب أبي حنيفة إذا أذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الأذانَ الأول ترك الناس البيع وتوجهوا إلى الجمعة، والاعتبار بالأذان قبل الزوال، وفي «المنافع» المعتبر الأذان بعد الزوال، وفي رواية ابن القاسم عن مالك: عند النداء الثاني والإمام على المنبر، وذهب أبو حنيفة وصاحباه وزفر والشافعي إلى أن البيع يجوز وقت النداء مع الكراهة، وقال: أحمد وداود ومالك في رواية: لا يصح، وعن الثوري البيع صحيح وفاعله عاصٍ لله تعالى. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: النهي لم يقع على البيع وإنما جرى ذكر البيع، لأنهم كانوا يشتغلون بالتجارة عن الجمعة، والنهي المقصود من ذلك: كل ما يمنع من إتيانها، وقد أجمع العلماء على أن المصلي لا يحل له في صلاته بيع ولا شراء، فلو قال رجل لآخر: بِعْنِي سلعتك بكذا فأجابه الآخر وهو في الصلاة بنعم أو بكلام ينعقد به البيع، أن البيع جائز وإن كان عاصيًا. وروى ابن القاسم عن مالك أن البيع مفسوخ، وروى ابن وهب وعلي بن زياد بئس ما صنع ويستغفر الله تعالى، قال ابن القاسم: لا يفسخ ما عقد حينئذ من النكاح، ولا تفسخ الهبة والصداقة والرهن والحمالة. وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: كل من لزمه النزول للجمعة يحرم عليه ما يمنعه منه من بيع أو نكاح أو عمل. قال: واخْتُلِفَ في النكاح والإجارة قال: وذكر القاضي أبو محمد: أن الهبات والصدقات مثل ذلك. وفي «شرح الهداية»: ينبغي أن يَحْرُمَ البيعُ والشراءُ قبلَ الزوال أيضًا إذا كان منزله بعيدًا عن الجامع بحيث يفوت عليه صلاة الجمعة. وفي «المغني»: عن أحمد يحرم البيع بزوال الشمس وإن لم يجلس الإمام على المنبر قال: ولا يصح هذا وتحريم البيع ووجوب السعي مختص بالمخاطبين بالجمعة فأما غيرهم فلا يثبت في حقه.

(1/75)


قال: وذكر ابن أبي موسى في غير المخاطبين روايتين، قال ابن حزم: ولا يحل البيع من أثر استواء الشمس ومن أول أخذها في الزوال والميل إلى أن تنقضي صلاة الجمعة ويفسخ البيع أبدًا إن وقع، قال ابن قدامة: ولا يحرم غير البيع من العقود وكالإجارة والصلح والنكاح، وقيل: يحرم وبالأول قال ابن حزم. قال البخاريُّ: قالَ إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِذا أذَّنَ المُؤَذِّنُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهْوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أنْ يَشْهَدَ. في مراسيل أبي داود عن قتيبة عن أبي صفوان عَنِ ابنِ أَبِي ذِئْبٍ عن صَالِح بْن كَثِيرٍ: أَنَّ ابنَ شِهَابٍ خَرَجَ لِسَفَرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خَرَجَ لِسَفَرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَار» ورواه ابن أبي شيبة عن الفضيل حدَّثَنَا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بغير واسطة. وقال ابن المنذر: وقد اخْتُلِفَ فيه على الزهري وقد رُوِيَ عنه مثل قول الجماعة أنه لا جمعة على مسافر. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأكثر العلماء على أنه لا جمعة على المسافر، حكاه ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب وابن عمر ومكحول وعروة بن المغيرة ونفر من أصحاب عبد الله وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وإبراهيم النخعي وعبد الملك بن مروان وابن مسعود والشعبي وعمر بن عبد العزيز، ولما ذكر ابن التين قول الزهري قال: إن أراد بها فهو قول شاذ. وفي «شرح المهذب»: أما السفر ليلتها -يعني الجمعة- قبل طلوع الفجر فيجوز عندنا وعند العلماء كافة إلا ما حكاه العبدري عن إبراهيم النخعي قال: لا يسافر بعد دخول العشي من يوم الخميس حتى يصلي الجمعة وهذا مذهب باطل لا أصل له. انتهى.

(1/76)


بل له أصل صحيح رواه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن جريج عن عطاء عن عائشة قالت: «إِذَا أَدْرَكَتْكَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، فَلَا تَخْرُجْ حَتَّى تُصَلِّي الْجُمُعَةَ».وأما السفر يوم الجمعة بين الفجر والزوال فَجَوَّزَهُ عمر والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح وابن عمر والحسن ومحمد بن سيرين وبه قال مالك بن أنس، وقال في «شرح المهذب»: الأصح تحريمه وبه قال ابن عمر وعائشة والنخعي، وفي كتاب البيهقي وعمر بن عبد العزيز وحسان بن عطية ومعاذ بن جبل، انتهى. قد سبق من عند ابن أبي شيبة أن ابن عمر قال بعكسه، والسند إليه صحيح رواه عن عباد بن العوام عن يحيى بن سعيد عن نافع والذي ذكره هو رواه الدَّارَقُطْني في «الأفراد» من حديث ابن لهيعة. قال النووي: وأما السفر يوم الجمعة بعد الزوال إذا لم يَخَفْ فَوْتَ الرفقة ولم يُصَلِّ الجمعة في طريقه فلا يجوز عندنا وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وداود، وجوَّزه أبو حنيفة. 907 - حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ، قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسِ بنُ جَبْرٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الجُمُعَةِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ» فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا عَبْسٍ يَقُولُ: الحديثَ. [خ¦907] وفي لفظ: «أَبْشِرْ فَإِنَّ خُطَاكَ هَذِهِ فَيْ سَبِيْلِ اللهِ» انتهى. روى البخاري عن علي بن عبد الله المدني، وعلي بن عبد الله بن إبراهيم لكنه أكثر عن ابن المديني، وابن إبراهيم إنما روى عنه حديثًا واحدًا في النكاح، وأبو عبس اسمه عبد الرحمن الأوسي وقيل: عبد اللهوقيل: كان اسمه عبد العُزَّى في الجاهلية، شهد بدرًا، ويزيد هذا بالزاي شامي والذي قالوا كوفي.

(1/77)


وفي حديث ابن عمر عن أبي بكر الصديق: «حَرَّمَهُمَا اللهُ عَلَى النَّارِ» رُويناه من حديث الرازي: أخبرنا شعيب بن عبد الله بن المنهال المصري، أخبرنا أحمد بن الحسن بن عُتْبَة الرازي، أخبرنا أحمد بن عمرو البصري حَدَّثَنا الفلَّاس، حَدَّثَنا أبو نصر التَّمَّار، أخبرنا كوثر بن حكيم عن نافع عنه. وفي «معجم ابن الْمُقْرِي» حَدَّثَنا أبو يعلى، حَدَّثَنا أبو موسى، حَدَّثَنا معاذ بن هاني، حَدَّثَنا محمد بن عبيد الله بن عبيد بن عمير سمعت أبا معاوية عَنِ ابنِ عُبَيْدِ بنِ السَّبَّاقِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يرفعه: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا رَجُلٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّار».وعند ابن عساكر من حديث سهر عن ابن غنم عن معاذ يرفعه: «وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا رَجُلٍ وَلاَ وَجْهُهُ فَيْ عَمَلٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَعْدَ المكْتُوْبَةِ مِنْ جِهَادٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ».وعند المخلص بسند جيد عن عبادة يرفعه: «لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ». وفي «الحلية» من حديث عطية عن أبي سعيد مثله. وفي «مسند أحمد» بسند جيد عن أبي هريرة وعنده عن جابر: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ». وعنده عن مالك بن عبد الله الخثعمي مثله. وعند الطبراني عن أبي الدرداء: «لَا تَلْثِمُوا مِنَ الْغُبَارِ فِي سَبِيلِ اللهِ, فَإِنَّهُ مِسْكِ الْجَنَّةِ».وعنده عن أنس: «الْغُبَارُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِسْفَارُ الْوُجُوهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

(1/78)


وعند ابن عساكر عن أبي أمامة: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَغْبَرُّ وَجْهُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا أَمَّنَ اللهُ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَغْبَرُّ قَدْمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا أَمَّنَ اللهُ قَدَمَيْهِ من النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَة».وروينا عن الخلعي من حديث إسماعيل بن عباس عن الأوزاعي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَنْ يَلِجَ النَّارَ أَبَدًا».وكان أبو هريرة يأتي الجمعة ماشيًا فإذا رجع إن شاء ماشيًا وإن شاء راكبًا، وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون الركوب إلى الجمعة والعيدين، ذكره ابن أبي شيبة، وفي كتاب «الفضائل» لحميد بن زنجويه: حَدَّثَنا أبو أيوب الدمشقي، حدَّثَنَا سويد بن عبد العزيز، حَدَّثَنا أَبُو نَصِيْرٍ الْوَاسِطِيُّ، عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «جَاءَ أَعْرَابِيٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: الْجُمُعَةُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَزِيَادَةٌ، وَالْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ بكُلِّ قَدَمٍ مِنْهَا كَعَمَلِ عِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْجُمُعَةِ أُجِيزَ بِعَمَلِ مِئَتَيْ سَنَةً».قالَ: وحَدَّثَنَا إسحاق، حَدَّثَنا بقية عن أبي رجاء عن عمران بن حصين وأبي بكر فذكرها مثله وفي «قنية المنية»: الأصح أن يمشي على السكينة والوقار، والمستحب المشي إليها، لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما ركب في جمعة قط، وفي الرجوع اختلاف. الحديثان اللذان بعده تقدم ذكرهما وكذا الباب.
(بابٌ لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَيَقْعُدَ مَكَانَه)

(1/79)


911 - حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ، سَمِعْتُ نَافِعًا، سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ يَقُولُ: «نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ، وَيَجْلِسَ فِيهِ» قُلْتُ لِنَافِعٍ: الجُمُعَةَ؟ قَالَ: الجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. [خ¦911] في «مسند أبي قُرَّةَ السَّكْسَكِي» قال نافع: فكان ابن عمر يقوم له الرجل من مجلسه فلا يجلس فيه. قال: وذكر ابن جريج عن سليمان بن موسى أن جابر بن عبد الله قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا يُقِمْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ إِلَى مَقْعَدِهِ وَلَكِنْ لِيَقُلْ: افْسَحُوا).ذكر ابن قدامة في «المغني»: إنما كُرِهَ ذلك، لأن المسجد بيت الله تعالى والناس فيه سواء فمن سبق إلى مكان فإن قدَّم صاحبًا فجلس في موضع حتى إذا جاء قام وأجلسه مكانه كما كان ابن سيرين يفعل يرسل غلامه يوم الجمعة فيجلس في مكان فإذا جاء محمد قام الغلام، فإن لم يكن له نائب وجاء فقام له شخص ليجلسه مكانه جاز، لأنه قام باختياره، فإن انتقل القائم إلى مكان أقرب من الأول إلى سماع الخطبة فلا بأس، وإن انتقل إلى دونه كُرِهَ ويحتمل أنه لا يكره، لأن تقديم أهل الفضل إلى ما يلي الإمام مشروع لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لْيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» انتهى. كنت يومًا أصلي العصر في مسجد فجاء الشيخ زين الدين عمر بن أبي الحزم المعروف بابن الكتَّاني شيخ الشافعية في وقته على الإطلاق فتأخرت له عن مكاني فأبى وصلى في غيره، فلما فرغ قال لي: أنا لا أرى بالإيثار في القُرَبِ.

(1/80)


قال ابن قدامة: فلو آثر شخصًا بمكانه لم يجز لغيره أن يسبقه إليه، وقال ابن عَقِيْلٍ: يجوز لأن القائم أسقط حقه بالقيام فبقي على الأصل، وإن فرش مصلاه في مكان ففيه وجهان: أحدهما: يجوز رفعه والجلوس في موضعه، لأن السبق بالأجسام لا بالمصلى. والثاني: لا يجوز، وقال القاضي أبو الطيب: يجوز إقامة الرجل في ثلاث صور وهو أن يقعد في موضع الإمام، أو في طريق يمنع الناس من المرور فيه، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة. انتهى. كأنَّ البخاري نَحَا في تبويبه إلى أن الزحام يكون في الجمعة كثيرًا والاحتياج إلى الجلوس في مكان الغير موجودًا، والمقصود من ذلك التبكير إلى الجمعة فإنه إذا بكَّر لم يحتج إلى شيء من ذلك. (بَابُ الْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)

(1/81)


912 - حَدَّثَنا آدَمُ، حدَّثَنَا ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: «كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَعَلَى الزَّوْرَاءِ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الزَّوْرَاءُ: مَوْضِعٌ بِالسُّوقِ بِالْمَدِينَةِ. [خ¦912] وفي لفظ عنه: «لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ».وفي لفظ: «أَمَرَ عُثْمَانُ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ».وفي لفظ: «أَمَرَ عُثْمَانُ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ».وعند الشافعي حَدَّثَنا بعض أصحابنا عن أبي ذئب وفيه: «ثُمَّ أَحْدَثَ عُثْمَانُ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ عَلَى الزَّوْرَاءِ». وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: زاد فيه غير السائب «لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ غَيْرَ مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ». انتهى كلامه. وفيه نظرٌ لما أسلفناه من عند البخاري أن السائب قال: ذلك لا غيره. وعند النسائي عن السائب: «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ، ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ».ولأبي داود: «كَانَ يُؤَذَّنُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ».

(1/82)


وفي «صحيح ابن خزيمة» عن السائب: «كَانَ النِّدَاءُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ تعالى فِي الْقُرْآنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ, وَإِذَا قَامَتِ الصَّلَاةُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ, حَتَّى كَانَ عُثْمَانُ, فَكَثُرَ النَّاسُ, فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ». قال ابن خزيمة: والدليل على أنه أراد بِقَوْلِهِ: وَإِذَا قَامَتِ الصَّلَاةُ: النِّدَاءَ الثَّانِيَ الْمُسَمَّى إِقَامَةً، أَنَّ سَلْمَ بْنَ جُنَادَةَ حَدَّثَنا قال: حَدَّثَنا وَكِيعٌ، عَنِ ابنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ: «كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ, وَأَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ أَذَانَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, حَتَّى كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ, فَأَمَرَ بِالْأَذَانِ الْأَوَّلِ بِالزَّوْرَاءِ».وفي «تفسير عبد بن حميد» حَدَّثَنا عبد الملك بن عمرو، حَدَّثَنا عبد الله بن جعفر عن إسماعيل بن محمد عن السائب قال: «النِّدَاءُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ, وَعَامَّةِ خِلاَفَةِ عُثْمَانَ فَلَمَّا تَبَاعَدَتِ المنَازِلُ وَكَثُرَ النَّاسُ أَمَرَ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ فَلَمْ يُعِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعِيْبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلاَةِ بِمِنًى» الحديثَ. وفي «مصنف عبد الرزاق» عن ابن جريج قال سليمان بن موسى: أَوَّلُ مَنْ زَادَ الْأَذَانَ بِالْمَدِينَةِ عُثْمَانُ، قَالَ عَطَاءٌ: كَلَّا إِنَّمَا كَانَ يَدْعُو النَّاسَ دُعَاءً، وَلَا يُؤَذِّنُ غَيْرَ أَذَانٍ وَاحِدٍ.

(1/83)


وفي «تفسير عبد» حَدَّثَنا عبيد الله بن موسى عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال: إِنَّمَا هُوَ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ. وعند الحاكم من حديث مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: «كَانَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ أَقَامَ الصَّلاَةَ» وقال: صحيح الإسناد، وهشام ممن يجمع حديثه. وفي «المصنف» عن الحسن: «النِّدَاءُ الْأَوَّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، وَالَّذِي قَبْلَ ذَلِكَ مُحْدَثٌ» وكذا قاله ابن عمر. وفي رواية: «عند الْأَذَانُ الْأَوَّلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِدْعَةٌ».وعن الزهري: «أَوَّلُ مِنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ عُثْمَانُ، لِيُؤْذَنَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ».وفي لفظ: «فَأَحْدَثَ عُثْمَانُ التَّأْذِينَةَ الثَّالِثَةَ، عَلَى الزَّوْرَاءِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ».

(1/84)


وفي تفسير جُوَيْبِر عن الضحاك عن بُرْدِ بنِ سِنَانٍ عن مكحول عن معاذ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِلاَلًا أَنْ يُؤَذِّنَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَذَانًا وَاحِدًا، وَفَعَلَهُ أَبوْ بَكْرٍ رضي الله عنه مِنْ بَعْدِهِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الجُمُعَةَ أَذَانًا وَاحِدًا، فَلَمَّا كَانَتْ خِلاَفَةُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَكَثُرَ المسْلِمُوْنَ أَمَرَ مُؤَذِّنَيْن أَنْ يُؤَذِّنَا للنَّاسِ بِالجُمُعَةِ خَارِجًا مِنَ المسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ النَّاسُ الأَذَانَ، وَأَمَرَ أَنْ يُؤَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ المؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَبَيْنَ يَدَيْ أَبِيْ بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَمَّا الأَذَانُ الأَوَّلُ فَنَحْنُ ابْتَدَعْنَاهُ لِكَثْرَةِ المسْلِمِيْنَ وأما الأذان الثاني فَهُوَ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَاضِيَةً. قوله: (إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ) قال صاحب «الهداية»: وإذا صعد الإمام المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يديه بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سوى هذا الأذان وهذا يرد قول ابن بطال: هذا الجلوس سنة عند العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يجلس الإمام قبل الخطبة. وقوله: (ولَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْر مُؤَذِّنٍ واحدٍ) يعني لصلاة الجمعة، وإلا فقد سبق في باب الأذان أنه كان له من المؤذنين غير واحد، ويحتمل قوله هنا على أنه أراد بلالًا لمواظبته. قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: أراد به التأذين فجاء بلفظ المؤذن، لأن فيه دلالة على التأذين.

(1/85)


وقال ابن حبيب: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَقِيَ المِنْبَرَ وَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى المنَابِرِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَكَانُوْا ثَلاَثَةً فَإِذَا فَرَغَ الثَّالِثُ قَامَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطِبُ. وزعم مالك في «المجموعة»: أن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه، وإنما كان الأذان على المنابر واحدًا بعد واحد إذا جلس الإمام على المنبر. قال ابن عبد البر: وقد شُبِّهَ على قوم من أصحابنا في موضع الأذان يوم الجمعة، وأنكر أن يكون الأذان في الجمعة بين يدي الإمام كان في زمن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وزعموا أن ذلك أُحْدِثَ في زمن هشام، وهذا يدلُّ على قلة علم قائله. قالَ: والنداء الثالث هو الإقامة فقد بينا من «المصنف» وغيره ما هو هذا النداء، وأن الأذان الثاني في حديث السائب إنما يعني به الإقامة لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» يعني بين كل أذان وإقامة. قال أبو عمر: واختلف الناس هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد أو مؤذنون؟ فذكر ابن عبد الحكم عن مالك إذا جلس الإمام على المنبر ونادى المنادي وهذا يدل على أن النداء عنده لواحد بين يدي الإمام كما في حديث السائب، وعن ابن القاسم عن مالك: «إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ وَأَذَّنَ المؤَذِّنُوْنُ» بلفظ الجماعة، شَاهِدُهُ حديث الزهري عن ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ: «أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يُصَلُّونَ حَتَّى يَخْرُجَ فَإِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُون ... » الحديثَ.

(1/86)


وكذا حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه، قال أبو عمر: ومعلوم عند العلماء أنه يخرج أن يكون المؤذنون واحدًا أو جماعة في كل صلاة إذا كان ذلك مترادفًا لا يمنع من إقامة الصلاة، وعن الداودي: «كَانُوْا يُؤَذِّنُوْنَ فِيْ أَسْفَلِ المسْجِدِ لَيْسُوْا بَيْنَ يَدَيِ الإِمَامِ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَعَلَ مَنْ يُؤَذِّنُ عَلَى الزَّوْرَاءِ وَهِيَ كالصَّوْمَعَةِ فَلَمَّا كَانَ هِشَامُ جَعَلَ المؤَذِّنِيْنَ أَوْ بَعْضَهُمْ يُؤَذِّنُوْنَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَارُوْا ثَلاَثَةً».و (الزَّوْرَاء) قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هو حجر كبير عند باب المسجد، وقال أبو عبيد: هي ممدودة ومتصلة بالمدينة، وبها كانَ ملك أُحَيْحَةَ بن الجُلاحِ وهي التي عنى بقوله: إِني مُقِيْمٌ عَلَى الزَّوْراءِ أَعْمُرُها ... إِنَّ الكَريمَ عَلَى الإِخوانِ ذُو المالِوقال أبو عبد الله الحموي: هي قرب الجامع مرتفعة كالمنارة، وفرق بينها وبين أرض أجنحة، وفي «فتاوى ابن يعقوب الخاصي»: هي المدينة. الأبواب الأربعة بعد تقدم ذكرها. (بَابُ الخُطْبَةِ عَلَى المِنْبَرِ)
وَقَالَ أَنَسٌ: «خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ» هذا ذكره البخاري مسندًا في حنين الجذع وغيره.
917 - وحديث سهل تقدم. [خ¦917]
918 - حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أخْبَرَنِي ابنُ أَنَسٍ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عبد الله قَالَ: «كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ المِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ العِشَارِ حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ». [خ¦918]
قَالَ سُلَيْمَانُ: عَنْ يَحْيَى، أخْبَرَنِي حَفْصُ بنُ عُبَيْدِ الله بن أَنَسٍ: سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عبد الله.

(1/87)


التعليق عن سليمان هذا رواه البخاري في علامات النبوة مسندًا عن يحيى عن حفص، ذكر أبو مسعود وخلف أن سليمان هذا هو ابن بلال قالا: وقد روى هذا الحديث عن يحيى عن حفص بن عبد الله سليمان بن كثير العبدي كما قال ابن بلال ولم يذكره سماع بعضهم من بعض. انتهى كلامهما.
وفيه نظر من حيث إن الدَّارَقُطْني ذكر أن سليمان بن كثير رواه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن جابر، وزعم ابن مسعود الدمشقي أن البخاري إنما قال في حديث محمد بن جعفر عن يحيى عن ابن أنس ولم يُسَمِّهِ، لأن ابن جعفر يقول فيه:
عن يحيى عن عبيد الله بن حفص بن أنس، فقال البخاري: عن ابن أنس ليكون أقرب إلى الصواب. انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إنَّا وجدنا غير محمد بن جعفر بن أبي كثير قال كما قال محمد بن جعفر، وفيه دلالة أن ذلك ليس منه إنما هو من يحيى بن سعيد.
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: أخبرنا المَنِيعي عن هارون بن عبد الله، حَدَّثَنا يعقوب بن محمد، حَدَّثَنا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، حَدَّثَنا يحيى بن عبد الله بن حفص بن أنس، قال يعقوب: إنما هو حفص بن عبيد الله بن أنس ولكن هكذا حَدَّثَنا عن جابر قال: حَدَّثَنَاه محمد بن الهيثم، حدَّثَنَا ابن أبي مريم عن محمد بن جعفر عن يحيى عن حفص بن عبيد الله عن جابر في حنين الجذع، ورواه أيضًا سويد بن عبد العزيز عن يحيى بن سعيد عن حفص بن عبيد بن أنس ذكره الدَّارَقُطْني وقال: هو الصواب، فدلَّ ما ذكرنا أن الخلاف ليس من ابن جعفر إنما هو من يحيى، وزعم الحميدي في «جمعه» أنه ليس لابن أنس عن جابر في «الصحيح» إلا هذا الحديث الواحد. وفي «تاريخ البخاري» قال بعضهم: عبيد الله بن حفص ولا يصح عبيد الله، ووقع في رواية أبي ذر حفص بن عبد الله والصواب عبيد الله بالتصغير.

(1/88)


و (العِشَارُ): الناقة تبلغ عشرة أشهر من حملها، قال ابن جني: جمع عِشَارٍ عَشَائِرُ، وجمع عشائرَ وجمع عُشَراءَ: عُشَرَاوَات ذكره في «المخصص»، وفي «الْمُحْكَمِ»: وقيل: العِشَار اسم يقع على النُّوْقِ حتى ينتج بعضها وبعضها يُنتَظَر نتاجُها.
قال الفرزدق:
كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ ... فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي
قال بعضهم: ليس للعشار لبن، وإنما سماها عشارًا لأنها حديثة العهد بالنِّتاج وقد وضعت أولادها، وعَشَّرَتِ النَّاقةُ وأَعْشَرتْ صارت عُشَرَاء، وأعشرت أيضًا أتى عليها من نتَاجها عشرة أشهر.
وفي «تهذيب الأزهري» قال الفراء: العِشَارُ لُقَّح الإبل، وعن الأصمعي إذا بلغت في حملها عشرة أشهر فهي عُشَراء ثم لا يزايلها ذلك الاسم حتى تضع وبعدما تضع لا يزايلها، وقال الليث: عَشَّرَت فهي عُشَرَاء وجمعها عُشْراوات، والجميع العِشَار قال: ويقع اسم العشار على النُّوْقِ التي نُتِجَ بعضُها وبعضها متقارب.
وفي «الْمُوعِبِ»: قال قطرب: قالوا أيضًا: أول ما تَلقح فهي عُشَراء، وعن الفراء تجمع عُشَراوات يبلغون الألْف، وعن الداودي فيما ذكره ابن قُرْقُولٍ هي التي معها أولادها، وعند الخطابي هي التي قاربت الولادة. وعند ابن التين: ليس في الكلام فُعَلاء على فِعَال غيرَ نُفَساء وتجمع على نفساوات وعُشَراء على عشراوات.
قال ابن العربي في «أنوار الفجر»: حنين الجذع أعظم من اخضراره وإثماره فإن الإثمار والاخضرار يكونان فيه بصفة والحنين والأنين لا يكونان في جنسه بحال، وذكر القزَّاز أن هذا فيه رد على القدرية، لأنَّ الصِّياحَ ضَرْبٌ من الكلام

(1/89)


وهم لا يجوزون الكلام إلا ممن له فم ولسان، وأما حديث جابر من عند ابن ماجه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ، سَلَّمَ» فمن رواية ابن لهيعة وكذا حديث ابن عمر مثله ضَعَّفَهُ ابن عدي بعيسى بن عبد الله الأنصاري، وعن أبي داود بسند جيد عن ابن عمر: «كَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ حَتَّى يَفْرَغَ الْمُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُومُ، فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ فَلَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ».
وعند ابن ماجه بسند فيه ضعف عن سعيد القرظ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ فِي الْحَرْبِ يَخْطُبُ عَلَى قَوْسٍ، وَفِي الْجُمُعَةِ عَلَى عَصًا».
وعن الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ عند أبي داود بسند لا بأس به: «قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا، أَوْ قَوْسٍ، فَحَمِدَ اللَّه ... » الحديثَ.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن جابر بن سمرة: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ قالَ إنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ، فَقَدْ وَاللهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ». وممن كان يخطب قائمًا أو أمر به: الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم والمغيرة والنعمان بن بشير وأبو هريرة وابن مسعود وابنه أبو عبيدة وابن سيرين.
ورواه جعفر بن محمد عن أبيه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا» وابن عباس عنه أيضًا من رواية المحاربي حَدَّثَنا حجاج عن الحكم عن مقسم عنه.
(بَابُ الخُطْبَةِ قَائِمًا) وَقَالَ أَنَسٌ: «بَيْنَا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا». هذا ذكره مسندًا في «صحيحه» في الاستسقاء.

(1/90)


920 - حَدَّثَنا عُبَيْدُ الله بن عُمَرَ القَوَارِيرِيُّ، حدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الحَارِثِ، حدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ كَمَا تَفْعَلُوْنَ الآنَ». [خ¦920]
وفي لفظ: «كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ، يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا».
مذهب أبي حنيفة يخطب قائمًا على طهارة، لأن القيام فيها متوارث ثم هي شرط لصحة الصلاة فيستحب فيها الطهارة كالأذان، فإن خطب قاعدًا أو على غير طهارة جاز مع الكراهة، اسْتُدِلَّ لهم بحديث رواه مسلم بن الحجاج في «صحيحه»: أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ رضي الله عنه، دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ابنُ أُمِّ الْحَكَمِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبِيثِ يَخْطُبُ قَاعِدًا، وَقدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11].وفي «صحيح ابن خزيمة» قال: «مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ قَطُّ إِمَامًا يَؤمُّ المسْلِمِيْنَ يَخْطبُ وَهُوَ جَالِسٌ، يَقُوْلُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ» قالوا: فإنكار كعب عليه إنما هو لتركه السنة، ولو كان القيام شرطًا لما صلوا معه مع ترك
الفرض، وعند البخاري من أبي سعيد في هذا الباب بعد هذا: «جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ» وتقدم حديث سهل: «مُرِي غُلاَمَكِ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسْ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ».
وفي «المصنف» من حديث ليث عن طاوس: «أَوَّلُ مَنْ جَلَسَ عَلَى المنْبَرِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبْي سُفْيَانَ».
وحَدَّثَنَا جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: «إِنَّمَا خَطَبَ مُعَاوِيَةُ قَاعِدًا، حَيْثُ كَثُرَ شَحْمُ بَطْنِهِ وَلَحْمُهُ».
وفي «المحلى» لابن حزم: كان عثمان ومعاوية يَخْطُبَانِ جَالِسَيْنِ.

(1/91)


وأجيب عن الأحاديث التي ورد فيها القيام في خطبته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعن قوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] بأن ذلك إخبار عن حاله التي كان عليها عند انفضاضهم، وبأنه كان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يواظب على المشي الفاضل مع جواز غيره ونحن نقول به، وقال الشافعي: يشترط لصحة الخطبتين القيام فيهما والجلوس بينهما مع القدرة، فإن خطب قاعدًا أو مضطجعًا للعجز جاز بلا خلاف كالصلاة، وحكى الرافعي وجهًا: أنها تصح من قعود مع القدرة على القيام وردَّهُ بعضهم.
وزعم ابن التين أن القيام سنَّة فإن خطب جالسًا فقال القاضي أبو محمد أساء ولا تبطل خطبته، وعن ابن القصار القيام واجبٌ وجوبَ سُنَّةٍ لا أنه إن تركه فسدت الخطبة ولا يباح له إن شاء فعله وإن شاء تركه.
وفي «شرح المهذب»: ذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى صحتها قاعدًا مع القدرة على القيام، والقيام عندهم سنة، وفي «المغني»: قال الهيثم بن خارجة لأحمد: كان عمر بن عبد العزيز يخطب قاعدًا فأنكره شديدًا، وأما القعود بينهما فذكر الطحاوي أنه لم يَشْتَرِطْ أحد الجلوس بينهما غير الشافعي، ذكر عياض عن مالك أن الجلوس بينهما شرط، وقد خطب المغيرة بن شعبة بحضرة الصحابة والتابعين ولم يجلس في خطبته، وقد حصر عثمان عن الخطبة فتكلم ونزل ولم يجلس ولم ينكره أحد.
(بابٌ يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ القَوْمَ، وَاسْتِقْبَال النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا خَطَبَ)
وَاسْتَقْبَلَ ابنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ الإِمَامَ.
قال البيهقي: قال أخبرنا أبو الحسن المرجاني حَدَّثَنا أبو سهل الإسفراييني، حَدَّثَنا حمزة بن محمد الكاتب، حَدَّثَنا نعيم عن حماد، حدَّثَنَا ابن المبارك قال: قال أبو الجويرية: رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْخُطْبَةِ يَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرَغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ.

(1/92)


وقال في «المصنف»: حَدَّثَنا عبد الصمد المسمى ابنَ الريان قال: رَأَيْتُ أَنَسًا فذكره.
وأما التعليق عن ابن عمر فقال البيهقي: حَدَّثَنا أبو بكر بن الحارث، أخبرنا أبو محمد بن حيَّان، حَدَّثَنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حَدَّثَنا أبو عامر، حَدَّثَنا الوليد بن مسلم قال: ذكرتُ لليث فأخبرني عن ابن عجلان عن نافع أن ابن عمر «كَانَ يَفْرَغُ مِنْ سُبْحَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ، فَإِذَا خَرَجَ
لَمْ يَقْعُدِ الْإِمَامُ حَتَّى يَسْتَقْبِلَهُ».
وعند الترمذي مضعفًا قال: ولا يصح في هذا الباب عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شيء.
عن ابن مسعود: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى المنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوْهِنَا».
وعند أحمد بن حنبل من حديث سَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ بسند لا بأس به مرفوعًا: «احْضُرُوا الْجُمُعَةَ، وَادْنُوا مِنَ الْإِمَامِ».
وعند ابن ماجه عن عدي بن ثابت عن أبيه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ» زاد ابن الأثير: قال ابن ماجه: وأرجو أن يكون متصلًا، وذكره في «المغني»: عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده. انتهى.
ليس في ابن ماجه إلا ما قدمناه عنه ولا ذكره أيضًا ابن عساكر في «الأطراف» ولا غيره فينظر.
وفي «المبسوط»: كان أبو حنيفة إذا فرغ المؤذن من أذانه أدار وجهه إلى الإمام وهو قول شريح وطاوس ومجاهد وسالم والقاسم وزاذان وعمر بن عبد العزيز وعطاء، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وسعيد بن عبد العزيز وابن جابر ويزيد بن أبي مريم والشافعي وأحمد وإسحاق، قال ابن المنذر: وهذا كالإجماع.
وفي «المغني» رُوِيَ عن الحسن: أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام، وكان سعيد بن المسيب لا يستقبل هشامَ بن إسماعيل إذا خطب، يوكل به هشامٌ الشُّرَطَ تعطفه إليه.

(1/93)


وفي «سنن الأثرم» عن مطيع أبي يحيى المزني عن أبيه عن جده قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، أَقْبَلْنَا بِوُجُوْهِنَا إلَيْهِ».
وعند ابن أبي شيبة: أخبرنا هُشَيْمٌ أخبرنا عبد الحميد بن جعفر الأنصاري بإسناد لا أحفظه قال: «كَانُوا يَجِيئُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَجْلِسُونَ حَوْلَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ يُقْبِلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِوُجُوهِهِمْ».
وكأنَّ البخاري استنبط من حديث الباب وهو: (جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى المِنْبَرِ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) استقبال الإمام الناس، واستنبط الماوردي وغيره من هذا أن الخطيب لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا حالة الخطبة، وصلاته على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فإن ذاك الفعل باطل ولا أصل له، قال في «شرح المهذب»: اتفق العلماء على كراهة ذلك وهو معدود في البدع المنكرة خلافًا لأبي حنيفة فإنه قال: يلتفت يمنةً ويسرة كالأذان فإن خالف الخطيب السنة وخطب مستقبل القبلة ومستدبر الناس صحت خطبته مع الكراهة، وحكى الشاشي وجهًا شاذًّا أنه لا يصح، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: فإن خطب بجماعة تنعقد بهم الجمعة ثم أتى من فاته حضور الخطبة فصلاته صحيحة، وعن عطاء ومكحول ومجاهد وطاوس فاتته الجمعة بفواته
الخطبة وفرضه أن يصلي أربعًا.
921 - حديث أبي سعيد يأتي إن شاء الله تعالى في الزكاة. [خ¦921]
(بَابُ مَنْ قَالَ فِي الخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ: أَمَّا بَعْدُ)
(رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ) هذا رواه البخاري فيما بعد مسندًا.

(1/94)


922 - وَقَالَ مَحْمُودٌ: حَدَّثَنا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنا هِشَامُ، أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ المُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، قُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ: أَيْ نَعَمْ، قَالَتْ: فَأَطَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصلاةَ جِدًّا حَتَّى تَجَلَّانِي الغَشْيُ، وَإِلَى جَنْبِي قِرْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَفَتَحْتُهَا، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِي، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» قَالَتْ: وَلَغَطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ لِأُسَكِّتَهُنَّ، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا قَالَ؟ قَالَتْ: قَالَ «مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا، حَتَّى الجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي القُبُورِ، مِثْلَ -أَوْ قَرِيبًا مِنْ- فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ -أَوْ قَالَ: المُوقِنُ شَكَّ هِشَامٌ- فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ، هُوَ مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَآمَنَّا وَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا وَصَدَّقْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إنَّكَ لَمُؤْمِنٌ بِهِ، وَأَمَّا المُنَافِقُ -أَوْ قَالَ: المُرْتَابُ، شَكَّ هِشَامٌ- فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ». [خ¦922]

(1/95)


قَالَ هِشَامٌ: فَلَقَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ فَأَوْعَيْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا يُغَلِّظُ عَلَيْهِ.
وخرجه في صلاة الكسوف عن عبدِ اللهِ بنِ يوسف، أخبرنا مالكٌ عن هشام عن امرأته فاطمة عن أسماء قالت: «أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللهِ، ... » الحديثَ.
وقال في كِتَابِ العِلْمِ في بَاب مَنْ أَجَابَ الفُتْيَا بِإِشَارَةِ اليَدِ: حَدَّثَنا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا هشام فذكره، ورواه في الاعتصام عن القعنبي، وفي الطهارة عن إسماعيل عن مالك، وفي السهو عن يحيى بن سليمان، حدَّثَنَا ابن وَهْبٍ، حَدَّثَنا الثوري، عن هشام، وفي الخسوف قال: وقال أبو أسامة عن هشام وحَدَّثَنَا الربيع، حَدَّثَنا زائدةُ عن هشام بن مسلم عن أبي بكر وأبي كريب عن أبي أسامة عن هشام ... حَدَّثَنَا زائدة عن هشام بن عروة عن امرأته فاطمة الحديثَ، يسوق البخاري حديث الباب يؤذن أن أسماء روته عن عائشة وهو خلاف ما ذكره البخاري في كتاب العلم وكتاب الطهارة فإنه لما ساقه في ذينك البابين رفعه عنها والصواب ما ذكره هنا.
وقال أبو جعفر النحاس عن سيبويه: معنى أما بعدُ: مهما يكن من شيء، وقال أبو إسحاق: إذا كان رجل في حديث وأراد أن يأتي بغيره قال: أما بعد، وأجاز الفَرَّاءُ أما بعدًا بالنصب والتنوين، وأما بعدٌ بالرفع والتنوين وأجاز هشام أما بَعْدَ بفتح الدال، ثم روى النحاس من حديث بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى أن داود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول من قال: أما بعد وهو فصل الخطاب، وكذا ذكره عبد في تفسيره عن الشعبي وزياد ابن أبيه.

(1/96)


قال النحاس: وفي رواية محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «أَوَّلُ مَنْ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ كَعْبُ بْنُ لُؤَي جَدُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وزعم ابن الكلبي أن أول من قالها قُسُّ بنُ سَاعِدَة وفي «غرائب مالك» للدارقطني بسند ضعيف: «لَمَّا جَاءَ مَلَكُ الموْتِ إِلَى يَعْقُوْبَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ قَالَ يَعْقُوْبُ فِي جُمْلَةِ كَلاَمٍ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ مُوْكَلٌ بِنَا البَلاَءُ» الحديثَ. وفي «الْمُحْكَمِ» معناه: أما بعد دعائي لك، وفي «الجامع» يعني: بعد الكلام المتقدم أو بعد ما بلغني من الخبر ثم حذفوا هذا وضموا على أصل ما ذكرناه، وذكر الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم رووا هذه اللفظة عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منهم سعدُ بنُ أبي وقاص وابن مسعود وأبو سعيد الخُدْري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله والفضل ابنا العباس بن عبد المطلب وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وسَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ وعدي بن حاتم وأبو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ وعقبة بن عامر والطُّفَيْلُ بن سَخْبَرَةَ وجرير بن عبد الله البَجَلِي وأبو سفيان بن حرب وزيد بن أرقم وأبو بَكْرَةَ وأنس بن مالك وزيد بن خالد وقُرَّةُ بنُ دعموص والْمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَةَ وجابر بن سمرة وعمرو بن ثعلب ورَزِيْنُ بن أنس السُّلَمي والأسود بن سريع وأبو شريح بن عمرو وعمرو بن حزم وعبد الله بن عُلَيْم وعقبة بن مالك وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
قولها: (وَلَغَطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ) اللَّغَطُ الأصوات المختلفة التي لا تُفْهَم، قال الشاعر يصف القطا:
فهن يُلْغِطْنَ به إِلْغَاطَا كالنَّبَطِيِّ صادفَ الأنْبَاطَا
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ضبطه بعضهم بفتح الغين وهو الصحيح، وبعضهم بكسرها.

(1/97)


وقولها: (انْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ) أي: مِلْتُ بوجهي ورجعت إليهن، وأصله من كَفَأْتُ الإناءَ إذا أَمَلْتَهُ وكَبَبْتَهُ والفتنة أصلها الاختبار ولا فتنة أعظم من الفتنة التي ذكرت في الحديث وقد وردت في تلك الفتنة أحاديث منها ما في الصحيح عن أنس يرفعه: «إِذَا وُضِعَ العَبْدُ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكَانِ، فَيَقُولاَنِ لهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَأَمَّا المُنَافِقُ أوَ الكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلا الثَّقَلَيْنِ».
وعند ابن ماجه: «فَيَجْلِسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْغُوفٍ بِزِيَادَةٍ، فَيَقُوْلاَنِ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللهَ تعالى؟ فَيَقُولُ: لا مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرَاه، فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَة قبل النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فرجة قِبَلَ الْجَنَّةِ، فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَعَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ، وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَيُقَالُ للكَافِرِ عَكْسُهُ».

(1/98)


وعند الترمذي: «أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلآخَرِ: النَّكِيرُ» وفيه: «فَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ويُقَالُ لَهُ: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لاَ يُوقِظُهُ إِلاَّ أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ».
وعند أبي داود: «أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ: مَا تَعْبُدُ؟ فَإِنِ اللهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللهَ، فَيُقَالُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ» وَفِيْهِ: «فَيُضْرَبُ بِمَطارِقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ».
وفي لفظ: «فَيُنَادِي منادٍ مِنَ السماء: أن صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفرِشُوه منَ الجنةِ، وألبِسُوهُ منَ الجنةِ، وافتحوا له بابًا إلى الجنةِ: فيأتيه منْ رَوْحِها وطيبها، ويُفْتَحُ لهُ مَدُّ بَصَره، وَقَالَ فِي الكَافِرِ: فَيُنَادِي مُنَادٍ أَنْ كَذَبَ عَبْدِيْ ... » الحديثَ. «ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَبْكَمُ مَعَهُ مِرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضُرِبَ بِهَا جَبَلٌ لَصَارَ تُرَابًا قَالَ: فَيَضْرِبُهُ بِهَا ضَرْبَةً يَسْمَعُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ فَيَصِيرُ تُرَابًا، قَالَ: ثُمَّ تُعَادُ فِيهِ الرُّوحُ».

(1/99)


وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه بسند صحيح: «لما يَقُوْلُ العَبْدُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ فَيَقُولَانِ وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّنَا فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي هيئةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرِّيحِ حَسَنِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللهُ لَكَ، أَبْشِرْ بِرِضْوَان من اللهِ وَجَنَّاتٍ لهم فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ فَيَقُولُ: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الَّذِي جَاءَ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ: هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ» أخبرنا به مُسْنِدُ وقته أبو الحسن علي بن أحمد فيما أَجَازَنِيه عن أبي المكارم اللَّبَّان وأبي جعفر الصيدلاني قالا: أبو علي الحداد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو عبد الله بن جعفر بن فارس، أخبرنا أبو بشر يونس بن حبيب العجْلي، حَدَّثَنا أبو داود الطيالسي بجميع «مسنده» الذي هو أول «مسند» صُنِّفَ في الإسلام على رأي جماعة.
قال: حَدَّثَنا أبو عوانة -يعني الوضاح- عن الأعمش عن المنهال بن عمرو ... الحديثَ.
وحَدَّثَنَا عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو وعن زاذان عن البراء فذكره.
وفي المعجم «الأوسط» لأبي القاسم عن أبي هريرة مرفوعًا فِي صِفَةِ المَلَكَيْنِ: «أَعْيُنُهُمَا مِثْلُ قُدُورِ النُّحَاسِ، وَأَنْيَابُهُمَا مِثْلُ صَيَاصِي الْبَقَرِ».

(1/100)


وفي «الكنى» للنسائي هم: منكر ونكير وأنكر، وعند ابن الجوزي ناكور وسيدهم رومان، وزعم أبو بكر بن العربي أن منكرًا بفتح الكاف وفي رواية معمر عن عمرو بن دينار عن سعد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار: قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ وَأْبَصَارُهُمَا كالْبَرْقِ الْخَاطِفِ يَجُرَّانِ شُعُورَهُمَا، مَعَهُمَا مِرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيْدٍ لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الأَرْضِ لَمْ يُقِلُّوهَا».
وقال الترمذي الحكيم: خلقهما لا يشبه خلق الآدميين ولا خلق الملائكة ولا خلق الطير ولا خلق البهائم ولا خلق الهوام، بل هما خلق بديع ليس في خلقتهما أُنْسٌ للناظرين، جعلهما تعالى تكرمة للمؤمن لتثبيته وتبصرة وهتكًا لستر المنافق في البرزخ. انتهى.
مُتَلوح من قوله في بعض الطرق: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها أن غيرهم من الأمم لم يبتلوا بذلك تعظيمًا لشأن نبيهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وسيأتي له تتمة إن شاء الله تعالى آخر الجنائز.
وفي حديث عمرو بن ثعلب «مال أو بسبي» كذا في الرواية، وفي «مستخرج» أبي نعيم الحافظ: «مال أو شيء» وعند الإسماعيلي: «أتي بمال من البحرين» وفي روايتنا: «أنَّ الذي ترك» وفي نسخة <أنَّ الذين ترك>.
والجزع ضد الصبر، والهلع شدة الفزع كذا قاله الشُّرَّاحُ.
وفي «الْمُوعِبِ»: الهَلَعُ مثالُ قَدَمٍ: شدة الحرص، ورجل هَلِعٌ مثال كَبِدٍ وهَلُوع وهِلْوَاع وهِلْوَاعة: جزوعٌ حريص، والهَلَع: قلة الصبر، قال عمرو بن معد يكرب:
كمْ مِن أخٍ لي ماجِدٍ ... بَوَّأْتُهُ بَيِديَّ لَحْدَا
ما إنْ جَزِعْتُ ولا هلعتُ ... ولا يَرُدُّ بكاي زيدا
قال: والجزع نقيض الصبر، وقد جَزَعَ جَزْعًا وجُزُوعًا فهو جَزِعٌ وجَازِعٌ وجَزُوعٌ، وقال يعقوب: الجزع الفزع، زاد ابن سيده وجَزَعٌ وجُزَاع عن ابن الأعرابي وأنشد:

(1/101)


ولَسْتُ بِمَيْسَمٍ فِي النَّاسِ يُلْحَى ... على مَا فاتَهُ وَجْم جُزَاع وأجزعه الأمر.
و (الهِلَاعُ) والهَلَاع كالهُلُوع، والهلع الحزن تميميَّة، وشُحٌّ هالِعٌ محزن، والهَلَع والهُلاع والهَلَعَاتُ الجبن عند اللقاء، وفي «أمالي ثعلب» الهِلْواعة الرجل الجبان، وفي «تهذيب أبي منصور» قال الحسن بن أبي الحسن: الهَلُوع الشَرِهُ، وعن الفراء الضجور، قال أبو إسحاق: الهلوع الذي يَفْزَعُ ويَجْزَعُ من الشر، وقال القَزَّازُ: الهلع سوء الجزع، وَفِي «الصِّحَاحِ»: هو أفحش الجزع، ورجلٌ هُلَعَةٌ مثال هُمَزَةٍ إذا كان يهلع ويجزع ويستجيع سريعًا، وجَزِع من الشيء بالكسر وأجزعه غيرُه.
وقوله: منَ الغناء والخير أي أتركهم مع ما وهب الله تعالى لهم من غنى النفس فصبروا وتعففوا عن المسألة والشَّرَه.
الحديث الذي بعده تقدم.

(1/102)


925 - حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» وتَابَعَهُ الهُذَلِيُّ عَنْ سُفْيَانَ هذا من حديث ذكره البخاري في كتاب الزكاة وغيره: «اسْتَعْمَلَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى المنْبَرِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُم ... » المتابعة التي ذكر عن أبي معاوية رواها مسلم في «صحيحه» في كتاب المغازي عن أبي كريب محمد بن العلاء عن أبي معاوية فذكره، ومتابعة أبي أسامة ذكرها البخاري مسندة فيما بعد، وسفيان المذكور هو ابن عيينة ذكر متابعته أيضًا البخاري فيما بعد عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» وتَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» وتَابَعَهُ الهُذَلَيُّ عَنْ سُفْيَانَ. [خ¦925]

(1/103)


وحديث المسور يأتي في الفضائل إن شاء الله تعالى، وأن عليًا خطب بنت أبي جهل، وإنما فاطمة بضعة مني. و (ابنُ اللُّتْبِيَّةِ) بضم اللام وسكون التاء المثناة من فوقُ وحكى الحافظ أبو محمد بن المنذري فيما رُويناه عنه تحريك التاء، ويقال: الأبْتِيَّة بسكون الباء قال: وتُحرَّك، واسمه فيما ذكره أبو منصور الباوردي في كتابه: عبد الله، وقال أبو بكر بن دريد بنو لُتْبٍ بطن من الأزد، واللُّتْبُ الاشتداد وهو اللصوق أيضًا.
927 - حَدَّثَنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حدَّثَنَا ابن الغَسِيلِ، حَدَّثَنا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المِنْبَرَ، وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبِهِ، قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعُصَابَةٍ دَسِمَةٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِلَيَّ» فَثَابُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ هَذَا الحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ، يَقِلُّونَ وَيَكْثُرُ النَّاسُ، فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ». [خ¦927]
(ابنُ الغَسِيْلِ) هو أبو سليمان عبد الرحمن بن سليمان بن حنظلة الغسيل.
و (التَّعَطُّفُ) التردي بالرداء، وسمي الرداء عطافًا لوقوعه على عِطْفَي الرجل وهما: ناحيتا عُنُقِه، ومنكب الرجل عِطْفُه، وكذلك المعطف، وقد اعتطف به وتعطف ذكره الهروي، وفي «الْمُحْكَمِ»: والجمع عَطُف والأرْدِية لا واحد لها، وفي رواية عُصَابة رسمًا، قال ابن قُرْقُولٍ: سوداء وكان له صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عِمَامة سوداء، والعصابة العمامة، ومنه الحديث: «أُمْرِنَا أَنْ نَمْسَحَ عَلَى العَصَائبِ».

(1/104)


وقيل: لونها لون الدسم كالزيت وشبهه من غير أن يخالطها شيء من الدسم، وقيل: متغيرة اللون من الطيب والغالية، وزعم الداودي أنها على ظاهرها من عرقه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من المرض. انتهى.
وكأنه غير جيد لما بيناه.
وقوله: (إِنَّ هَذَا الحَيَّ مِنَ الأَنْصَارِ يَقِلُّونَ) وفي رواية: «حَتَّى يكونوا في النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الملحِ من الطعامِ» هو من معجزاته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وإخباره عن المغيبات، فإن الأنصار اليوم في غاية القلة.
وقوله: (مَنْ وَلِيَ شَيْئًا) إلى آخره فيه دليل على أن الخلافة ليست فيهم، إذ لو كانت فيهم لأوصاهم ولم يوص بهم.
وقوله: (وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيِّهِمْ) قَالَ ابنُ التِّيْنِ: يريد فيما لم تجب فيه الحدود أو كان حقًا لآدمي.
وقد اختلف العلماء في الخطبة هل هي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها أم لا؟.
فعند أبي حنيفة والشافعي وأحمد هي شرط في الجمعة لا تصح بدونها، قال ابن قدامة في «المغني»: ولا نعلم فيها مخالفًا إلا الحسن البصري فإنه قال: تجزئهم جمعتُهم خطب الإمام أو لم يخطب، لأنها صلاة عيد فلم يشترط لها الخطبة كصلاة الضحى. انتهى.
حكى ابن المنذر أن ذلك أيضًا هو مذهب داود وعبد الملك من أصحاب
مالكٍ، قال القاضي عياض: ورُوِيَ ذلك عن مالك أيضًا وحكاه ابن حزم أيضًا عن ابن سيرين، قال في «المغني»: وجه من يقول بوجوب خطبتين حديث جابر وابن عمر: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يَخْطبُ خُطْبَتَيْنِ». وقد قال: «صَلُّوْا كَمَا رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّيْ» ولأن الخطبتين أقيمتا مُقام ركعتين فالإخلال بإحداهما كالإخلال بإحدى الركعتين. انتهى.

(1/105)


عند البزار: حَدَّثَنا سَلَمَةُ بن شَبِيب، حَدَّثَنا يزيد بن أبي حَكِيم عن ابن الزيات عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر قال: «صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ، وَهِيَ تَمَامٌ لَيْسَ تُقْصَرُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» قال: وهذا الحديث رواه ابن أبي ليلى عن عمر، ورواه زُبَيْدٌ اليامي حدَّثَ به عن شعبة عن محمد بن طلحة عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر، وحدَّثَ به يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن كعب بن عُجْرَةَ عن عمر ولا نعلمه يروي عن الأعمش عن زيد عن عمر إلا من حديث من ... قال صاحب «المغني»: وأما القراءة فيحتمل أن تكون شرطًا لكلِّ واحدة منهما كالركعتين، ويحتمل أن يشترط في أحدهما كما روى الأثرم عن الشعبي مرسلًا: «ثُمَّ يَقُوْمُ فِي الثَّانِيَةِ فَيَخْطِبُ ثُمَّ يَنْزِلُ وَكَانَ أَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلاَنِهِ».
قال ابن قدامة: ظاهره أنه لم يذكر في الثانية إلا وعظًا، وقال القاضي: تجب، وعند أبي حنيفة إن اقتصر على ذكر الله تعالى جاز، وفي «شرح الهداية»: التسبيحة الواحدة تجزئ في قول أبي حنيفة الآخر وأبي يوسف أيضًا إلا أنه يكون مسيئًا لغير عذر لترك السنة.

(1/106)


وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يخطب خطبة خفيفة، وروى مُطَرِّفٌ إنْ سَبَّحَ وهَلَّلَ وصلَّى على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلا إعادة عليه يُسْتَدَلُّ لأبي حنيفة بقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الجمعة: 9] فذِكرُه تعالى مطلقًا من غير قيدٍ يجزئ فيه ما يقع عليه اسم ذِكْر، وبما ذكره في «المغني»: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: لَئِنْ كنتَ أَقْصَرْتَ فِي الْخُطْبَةِ لَقَدْ أَعْرَضْتَ فِي الْمَسْأَلَةِ» وبما ذكره المؤرخون وإن أنكره ابن العربي فغير جيد من أن عثمان رضي الله عنه أُرْتِج عليه بعد قوله: الحمد لله فاعتذر إلى القوم وقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدَّان لهذا المقام مقالًا، وإنكم إلى إمام فَعَّالٍ أحوجُ منكم إلى إمام قَوَّالٍ ثم نزل فصلى بحضرة الصحابة رضي الله عنهم.
وفي «المبسوط»: أَنَّ الحَجَّاجَ أُرْتِجَ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلهِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاس قَدْ هَالَنِي كَثْرَةُ رُؤوسِكُمْ وَإحْدَاقُكُمْ إلَيَّ بِأَعْيُنِكُمْ وَإِنِّي لَا أَجْمَعُ عَلَيْكُمْ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْعَيِّ، إنَّ لِي نَعَمًا فِي بَنِي فُلَانَ فَإِذَا قَضَيْتُم الصَّلَاةَ فَانْتَهِبُوهَا ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّىَ،
ومعه أنس بن مالك وغيره من الصحابة.
وعند أبي يوسف ومحمد لا تجزئ أقل من مقدار التشهد إلى عبده ورسوله، وفي رواية يثني على الله ويصلي على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ويدعو للمسلمين.
باب القعدة تقدم وكذا باب الاستماع.
(بابٌ إِذَا رَأَى الإِمَامُ رَجُلًا جَاءَ وَهُوَ يَخْطُبُ، أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ)

(1/107)


930 - حَدَّثَنا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ؟» قَالَ: لاَ، قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ». وهو مُخَرَّجٌ عند الستة ثم قال: باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين فذكر الحديثَ كما تقدم وليس فيه خفيفتين وكأنه أراد في مسلم: «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». [خ¦930]
وفي لفظ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَعَدَ سُلَيْكٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ركَعْتَ رَكْعَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ».
وفي رواية: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُم الْجُمُعَةَ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا».
وفي لفظ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ خَرَجَ الْإِمَامُ، فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ».
وعند الدَّارَقُطْني بسند صحيح: «فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يَجْلِسْ».
ومن حديث الأعمش أيضًا عن أبي سفيان عن جابر عن سليك يرفعه بلفظ: «رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا». وعند ابن ماجه: «أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ؟ قَالَ: لَا» الحديثَ.
ورواه عن داود بن رُشَيْدٍ، حَدَّثَنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وسنده صحيح، وعن أبي سفيان عن جابر قالا الحديثَ.

(1/108)


وعند الدَّارَقُطْني عبيد بن محمد العبدي، حَدَّثَنا معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس: «دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ المسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ, فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْخُطْبَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ». وقال: أسنده عبيد بن محمد عن معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس وَوَهِمَ فيه، والصواب عن معتمر عن أبيه مرسل: «جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ قَالَ يَا فُلَانُ أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا, قَالَ: فَصَلِّ, ثُمَّ انْتَظَرَهُ حَتَّى صَلَّى» وكذا رواه أحمد بن حنبل وغيره عن معتمر.
وروى بسند صحيح عن أحمد بن محمد بن إسماعيل الآدمي، حَدَّثَنا الفَضْلُ بنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنا يعقوب بن إبراهيم، حَدَّثَنا أبي عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال: «جَاءَ سُلَيْكٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلَا تَعُدْ لِمِثْلِ هَذَا, قَالَ: فَرَكَعَهُمَا ثُمَّ جَلَسَ».
وحَدَّثَنَا أحمد بن عبد الله الوكيل، حَدَّثَنا الحسن بن عرفة، حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، عن أبي مَعْشَرٍ عن محمد بن قيس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَهُ
أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، أَمْسَكَ عَنِ الْخُطْبَةِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى خُطْبَتِهِ». وقال: هذا مرسل وأبو معشر يحتج ضعيف.

(1/109)


وفي «الأسرار» لأبي زيد روينا عن ابن عمر: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمْسَكَ عَنِ الخُطْبَةِ حَتَّى صَلَّىَ سُلَيْكٌ» وعند الترمذي مصححًا: «أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَجَاءَ الحَرَسُ لِيُجْلِسُوهُ، فَأَبَى حَتَّى صَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَيْنَاهُ، فَقُلْنَا: رَحِمَكَ اللهُ، إِنْ كَادُوا لَيَقَعُوا بِكَ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَتْرُكَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَأَمَرَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ». زاد ابن حبان والبيهقي: «ثُمَّ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَلْقَوْا ثِيَابًا فَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الرَّجُلَ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الْأُخْرَى جَاءَ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ: أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، وحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ فَطَرَحَ الرَّجُلُ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَصَاحَ بهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثمَّ قَالَ: خُذْهُ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا جَاءَ في تِلْكَ الْجُمُعَةَ في هَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَأَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَطَرَحُوا ثِيَابًا فَأَعْطَيْتُهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا جاءت الْجُمُعَةُ أَمَرْتُ النَّاسَ بِالصَّدَقَةِ فَأَلْقَى أَحَدَ ثَوْبَ