ج2. سورة القصص دراسة تحليلية الدكتور محمد مطني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله والشكر له وهو الشكور الحميد، منزل الَقُرْآن هدى ورحمة، {مِنْهُ
ءايَاتٌ مُحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
وَالرَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ
رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَبِ} ((1)) .
والصلاة والسلام والبركات على سيدنا ورسولنا ونبينا وحبيبنا أبي القاسم مُحَمَّد
بن عَبْد الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وتابعيه ووارثيه، القائل:
((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) ((2)) .
فصَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ وَسَلَّمَ عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد
كلماته.
أما بعد:
فقصتي مع هذه الأطروحة غريبة كلّ الغرابة، فقد كان من المقدر ـ والله المقدر ـ أن
يكون كاتب هذه الأطروحة شخصاً سواي وبمنهج غير هذا المنهج وبطريقة غير هذه
الطريقة.
فشاءت مشيئة الله أن يتوفى هذا الشخص رَحِمَه الله بالحرق قبل الشروع بها فعزمت
على تحقيق رغبته بدراسة هذا الموضوع وباقتراح من الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح
عطية الذي أراد أن أحقق رغبة أخي الشيخ جاسم مُحَمَّد سلطان ـ رَحِمَه الله ـ الذي
وافاه الأجل قبل أن يحقق ما أراد.
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.
(2) صحيح البُخاري. مُحَمَّد بن إسماعيل أبو عَبْد الله البخاري الجعفي. (194 ـ
256) . تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير , اليمامة. بيروت. ط3. 1407هـ -
1987 م: 4 /1919 رقم (4739) . من حديث عثمان ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فاقترح
علي المشرف الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح عطية أن تقسم السّورة على مقاطع موضوعية
يحلل كلّ منها على حدة، وقد وجهت باختيار منهجية علمية أكاديمية في تحليل كلّ مقطع
وفق النظام الآتي:
تحليل الألفاظ على وفق المصطلح المعجمي.
إبراز المناسبة بين الآيات في المقطع وما قبلها وما بعدها.
تخريج القراءات الَقُرْآنيّة ومواردها في كلّ مقطع.
ذكر القضايا البلاغية.
المعنى العام للمقطع.
ما يستفاد من المقطع.
وقد سرت على طريقتين في كتابتي هذه الأطروحة:
الطريقة الأولى:
الاعتماد على المصادر والمراجع في استعراض الآراء في تفسير وتأويل المقطع دون
إبداء رأي شخصي في التأويل والتحليل، لأن مورد النصّ لا يحتمل في بعض الأحيان
الزيادة على آراء السابقين ـ رَحِمَهم الله ـ ولو بكلمة، لتكاملها، فكان عملي
الوحيد فيها هو العرض مع الترجيح بين هذه الآراء.
الطريقة الثانية:
أن أبرز الرأي في تأويل بعض المواضع والمواضيع التي تحتمل إبداء الرأي ولا سيما في
المواضيع الصورية ـ البيانية ـ الأسلوبية غير المقطعية، وكان في ذلك مجال واسع
لإبراز الرأي الجديد مع ربطه بما ذهب إليه القدماء.
وقد استشرفت في بحثي الأطر الخاصة والعامة، والذي تمثل في مواضع مثلتها جملة من
المفاهيم نحو (التربية والسلوك، والزمن، والتوحيد، والشخصية والهوية، والإيمان
والكفر) .
ولقد حاولت هنا أن أدرس ارتباط الماضي بالحاضر في القراءة التأويلية لسُوْرَة
الْقَصَصِ بمقارنة فرعون ودولته بالولايات المتحدة الأمريكية على ما يراه القارئ
في الفصل الثامن من هذه الأطروحة.
(1/2)
إن هذا
العمل في حد ذاته كان عملاً مبتكراً في بابه، ذلك أن إبداء الرأي ـ بصورة غير
منهجية ـ في بعض مواضع الَقُرْآن الكَرِيم من الأمور المنهي عنها في الحديث
الشريف، ولكني قمت بذلك تبعاً لمنهج أهل السنة والجماعة، وهكذا فلم أتعرض لتأويل
آيات الصفات في سُوْرَة الْقَصَصِ، ولكني أولت آيات تتعلق بهذا العصر في مواضعها
لمسيس الحاجة إليها، لإيقاظ عقول الشباب وقلوبهم من الغفلة والوهن إلى الاندفاع
والعزيمة في مبشرات سُوْرَة الْقَصَصِ، تبعاً للقراءة الجهادية لسُوْرَة
الْقَصَصِ.
وقد كانت لي استفادة في قراءتي التحليلية لسُوْرَة الْقَصَصِ من جمهرة كبيرة من
المصادر والمراجع القديمة والحديثة بطبعاتها القديمة والحديثة ـ مع صعوبة الحصول
عليها في ظل الظروف الحالية ـ وقد كان لي من شبكة المعلومات العالمية (الانترنيت)
معيناً في الحصول على بعض التوجيهات المعلوماتية وبعض الآراء الحديثة.
إن البحث في الدراسة التحليلية لكل سورة على حدة أمر مهم، لأن هذا التحليل يظهر
وجوه الإعجاز الَقُرْآني في كال نواحيه المتطورة. وكان هذا الأمر من بين الأسباب
التي دفعتني لاختيار سُوْرَة الْقَصَصِ لما تحمله من مبشرات بزوال دول الكفر
والطغيان، وذلك بما بشر به رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قبل الهجرة
المباركة من أن النصر آت، وربطها بين حال رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -)
وبين حال موسى (- عليه السلام -) ، وبين قوة قريش ومالها ونفوذها، وبين قوة فرعون
وهامان وقارون ومالهم ونفوذهم، وما آلت إليه قوى هؤلاء جميعاً إلى الزوال والهلاك.
وكان من منهجي في البحث فضلاً عما أبرزته فيما سبق هو ربط الماضي بالحاضر، وهو ما
جاء متماشياً مع الخطوط العامة للسورة، ويعقبها التحليل الذي شمل المباحث
والمطالب.
(1/3)
وأدى
هذا إلى جعل مهمة الباحث تنتقل بين نقل تفسيرات الأقدمين وتأويلاتهم وإبراز الفهم
الحديث للتفسير والتأويل حسب ما يقدح في ذهن الباحث في أثناء الدراسة الموضوعية
دون الخروج عن مذاهب القدماء في ابتعادهم عن التفسير بالرأي.
وقد كانت أهم المصادر والمراجع التي اعتمدتها، جمهرة من كتب التفاسير والمعجمات
والتأويلات الجزئية لبعض آيات سُوْرَة الْقَصَصِ، وكتب القراءات والبلاغة
والإعراب، والكتب التي تحدث عن انتصار الإسلام، والكتب التي تقارن فرعون ذلك العصر
بفرعون هذا العصر، الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ما يراه القارئ في فهرست
المصادر والمراجع الملحق بآخر الرسالة.
وقد قمت بتحليل بعض المواضع التي يستنبط منها أحكام الفقه، والتي سبقني إليها
القدماء، مع أن سُوْرَة الْقَصَصِ لا تتضمن الأحكام الفقهية المباشرة، بل ما
استنبطه منها الفقهاء والأصوليون من أحكام من قصة زواج موسى (- عليه السلام -) .
إن أهمية الكتابة في سُوْرَة الْقَصَصِ تبرز في خمسة محاور:
تحليل آراء القدماء في السّورة نفسها.
إظهار بعض أوجه الإعجاز الَقُرْآني التي لا تحصى عدداً.
إبراز النصر الإلهي الممتد من زمن موسى ومُحَمَّد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ
إلى قيام الساعة.
بيان أن الحاكمية لله جَلَّ جَلاُله.
فهم الماضي وصولاً لفهم الحاضر والمستقبل. وسُوْرَة الْقَصَصِ حافلة بالحقائق
التاريخية، وتتوافق أحداثها مع ما أثبته العلم الحديث.
وقد سارت الأطروحة في أصلها تبعاً لمنهجية حسبت أنها الأفضل في التحليل العام
لسُوْرَة الْقَصَصِ، فكانت خطتي في الأطروحة هي:
الفصل الأول التمهيدي وضمنته ستة مباحث.
أما الفصل الثاني فقد أسميته وقفات بين يدي السّورة، وقسمته على مبحثين.
وقد خصصت الفصل الثالث لدراسة الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمت هذا
الفصل على مبحثين أيضاً.
(1/4)
وفي
الفصل الرابع. ناقشت نشأة سيدنا موسى (- عليه السلام -) والظروف المحيطة به.
واقتضت مستلزمات البحث أن أقسم هذا الفصل على مبحثين.
وخصصت الفصل الخامس لمناقشة موضوع هجرة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مدين.
وكان هذا الفصل من مبحثين.
وفي الفصل السادس تناولت عودة سيدنا موسى (- عليه السلام -) إلى مصر واشتمل على
مبحثين.
وقد تناولت في الفصل السابع، الرسول مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) ودعوته في
سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمته على ثلاثة مباحث.
وقد قارنت في الفصل الثامن بين هيمنة فرعون وأمريكا وسقوط وانتصار الإسلام من خلال
سُوْرَة الْقَصَصِ في دلالاتها السياسية الحديثة. وقد توزع هذا الفصل على تمهيد
ومبحثين.
وختمت هذا كله بخاتمة أوجزت فيها ما استطعت التوصل إليه من نتائج.
لقد أدى المنهج الجديد الذي اعتمدت عليه في بحثي إلى صعوبات وصعوبات قد لا يتسع
المجال لذكرها، غير أن أبرزها هو ما واجهني في مواضع لم أجد القدماء قد بحثوا فيها
بما يلائم منهج البحث، ولا سيما ما يوافق حال المجتمعات الإسلامية اليوم.
وأياً ما كان فهذا هو جهدي الذي بذلت ما وسعني الجهد والاجتهاد والبحث والدرس، فإن
أصبت فبفضل الله جَلَّ جَلاَله هو أهل الفضل، وإن كان غير ذلك فمني، ولا أملك هنا
إلا أن أقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ((1)) .
وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الباحث
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 286.
(1/5)
الفصل الأول: التمهيدي
المبحث الأول: دراسة عامة عن السّورة
المطلب الأول: اسمها
" ثبت أن جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار " ((1)) .
والمعروف أن تسمية السور القرآنية على ما يبدو من أسمائها، كتسمية السورة بكلمة أو
باشتقاق كلمة واردة فيها، وأن اختلاف المصاحف في تسمية بعض السور ناشئ عن تعدد
الروايات الواردة في ذلك ((2)) .
" ومن عادة العرب قديماً أن تراعي في كثير من المسميات أخذ أسمائها من شيء
نادر أو مستغرب، يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه، ويسمون القصيدة بأشهر ما ورد
فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور القرآن، لأن الَقُرْآن الكَرِيم جاء على سنن العرب
في كلامها وخطابها ((3)) .
وسورة القصص سميت بذلك لاشتمالها على كلمة (القصص) في قوله تعالى: {وَقَصَّ
عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((4)) ، أي: وقص موسى على شعيب ((5)) .
وهي السّورة الوحيدة التي انفردت بذكر موسى (- عليه السلام -) وسبب هجرته من مصر
إلى مدين، وهو المذكور بعد تفصيله بقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ} ((6)) .
__________
(1) الإتقان في عُلُوْم القُرْآن. السيوطي. ت 911 هـ. الطبعة الثالثة. شركة مَكْتَبَة
مصطفى البابي الحلبي وأولاده. مصر. 1951 م: 1/52.
(2) ينظر المصاحف. أبو بكر عَبْد الله بن أَبِي داود السجستاني. ت 316 هـ. نشره:
د. آرثر جفري. مطبعة الرحمانية. مصر. 1936 م: ص 182 - 183.
(3) الإتقان: 1/ 55.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(5) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. مجد اليدن مُحَمَّد بن يعقوب
الفيروزآبادي المتوفى سنة 817 هـ. تحقيق: مُحَمَّد علي النجار. مطابع شركة
الإعلانات الشرقية. القاهرة. 1383هـ ـ 1963 م: 1/353.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(1/6)
فهي قصص
موسى ـ عَلَيْه السَّلام ـ وهو في مصر مع المصريين، وليس قصصه مع فرعون وقومه،
ولعل هذا القصص الخاص هنا هو الوجه في تسمية السّورة باسم (القصص) ((1)) .
وقيل: " سميت بدلالة قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ
الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} ((2)) الدال على
نجاة من هرب من مكان الأعداء إلى مكان الأنبياء، اعتباراً بقصصهم الدالة على نجاة
الهاربين، وهلاك الباقين بمكان الأعداء، من الهلاك " ((3)) .
وتسمى أيضاً سورة (طسم) على ما ورد في بعض الروايات ((4)) وتسمى أيضاً سورة موسى
((5)) ، وهو رأي شاذ.
وأسماء السور توقيفية على ما ورد في صَحِيْح البُخَارِي ((6)) ، وبذلك تكون هذه
السورة إنما سميت بدلالة لفظة عامة فيها خصصتها بالتسمية، وهو الصواب من الأقوال.
المطلب الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي للقصص
__________
(1) إلى الَقُرْآن الكَرِيم. محمود شلتوت. دار الهلال. (د. ت) : ص111.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 52.
(3) محاسن التَّأؤيِل. المُسَمَّى (تَفْسِير القَاسِمي) . تَأَلِيْف مُحَمَّد
جَمَال الدِّيْن القَاسِمي. ت 1914م. تصحيح وتعليق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد
البَاقِي. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. 1995 م: 13/4695.
(4) مرويات الإمام أحمد بن حنبل في التفسير. جمع وتخريج أحمد أحمد البزرا،
ومُحَمَّد بن برزق بن الطرهوني، وحكمت بشير ياسين. الطبعة الأولى. مكتبة المؤيد.
السعودية. 1414 هـ ـ 1994 م.: 3 /329.
(5) الفتوحات الإلهية بتوضيح تَفْسِير الجلالين للدقائق الخفية. للعَلاَّمَة الشيخ
سليمان بن عمر العجيلي الشافعي المشهور بالجمل. المتوفى سنة 1204 هـ. مطبعة
الاستقامة. القاهرة. (د. ت) : 3 /333.
(6) 4/ 1788 كتاب التفسير. باب تفسير سورة القصص.
(1/7)
القصة
لغة: " من القص، فعل القاصِ إذا قصَّ القِصَصَ، والقصة معروفة ويقال: في رأسه
قصة، يعني الجملة من الكلام، مثل قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَص} ((1)) ، أي: بينت لك أحسن التبيان ... ويقال:
قصصت الشيء، إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنه قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ
قُصِّيهِ} ((2)) ، أي: اتبعي أثره، وقد يأتي القصُّ والقصصُ والقصَصُ الصدر من كل
شيء، وقيل: هو وسطه " ((3)) .
والقصة الخبر، وهو القَصص، وقصَّ عليَّ خبره يقُصه قصاً وقصصاً، والقصص الخبر
المقصوص، وضِع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقِصص بكسر القاف جمع القصة التي
تكتب، وتقصص الخبر تتبعه، والقِصة الأمر والحديث، واقتصصت الحديث رويته على وجه،
كأنه يتتبع معانيها وألفاظها، ويقال: خرج فلان قصصاً في أثر فلان وقصاً، وذلك إذا
اقتصَّ أثره ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(3) أساس البلاغة. جار الله محمود بن عمر الزَّمَخْشِرِي أبو القَاسِم. ت 538 هـ.
تحقيق: عَبْد الرحيم محمود. مطبعة أورفاند بالقاهرة. ط1. 1953 م: ص 770 – 771.
لسان العرب. جَمَال الدِّيْن مُحَمَّد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري أبو
الفضل. ت 711 هـ. الطبعة الأولى. دار صادر. بيروت. لبنان. 1968 م: مَادة (قصص) 7
/73 –75.
(4) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7/74.
(1/8)
وقيل:
إنه المصدر، وقيل: إنه مفعول به، وعلى القول الأول يكون المعنى {نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، أي: نحن نقصُّ عليك أحسن الاقتصاص كما يقال:
نحن نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان. وعلى القول الثاني يكون المعنى، نحن
نقصُّ عليك أحسن ما يقصُّ، أي: أحسن الأخبار المقصوصات، كما قال تعالى: {وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} ((2)) ، ويدل على هذا وأنه هو المراد قوله تعالى:
{فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} ((3)) .
أي: المراد خبرهم، ونبأهم وحديثهم، وليس المراد مجرد المصدر فالقولان متلازمان في
المعنى، ولهذا يجوز أن تكون كلمة (القصص) قد جمعت بين معنى المصدر ومعنى المفعول
به، لأن فيه كلا المعنيين، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به، فإنه
إذا انتصب بهذا المعنى وامتنع المعنى
الآخر ((4)) .
والذي يبدو أن دلالة (قص) بمعنى القطع هي الدالة على اقتطاع القصة من الكلام.
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 122.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(4) ينظر الكشاف عَنْ حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأؤيِل. أبو
القَاسِم جار الله محمود بن عمر الزمخشري. ت 538 هـ. ط2. دار الكِتَاب العربي.
بيروت. لبنان. (د. ت.) : 2 /300. مجموع فتاوى أحمد بن تيميه. ت 728 هـ. جمع
وترتيب: عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن قَاسِم العاصمي النَّجْدِي الحَنْبَلِي
وساعده ابنه مُحَمَّد. مطبعة الحكومة بمَكّة المُكَّرمة 1386 هـ: 17 /22.
(1/9)
وللقصة
تعاريف كثيرة لدى العلماء، ومنها ما ذكره الرازي بأنها:
" مجموع الكلام المشتمل على ما يهدى إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب
النجاة " ((1)) .
فالقرآن الكريم أطلق لفظ القصص على ما حدث من أخبار القرون الأولى في مجالات
الرسالات السماوية، وما كان يقع في محيطها من صراع بين قوى الحق والضلال وبين
مواكب النور وجحافل الظلام ((2)) .
وقيل: " هي كشف عن آثار وتنقيب عن أحداث نسيها الناس أو غفلوا
عنها، وغاية ما يراد لهذا الكشف هو إعادة عرضها من جديد لتذكير الناس بها، ليكون
لهم منها عبرة وموعظة " ((3)) .
والذي يبدو أن التعريف الاصطلاحي للقصص يعني أحاديث الأخبار الماضية، أو غير
المرتبطة بزمن محدد. ولكنها في الَقُرْآن الكَرِيم دالة على التاريخ الماضي حصراً.
المطلب الثالث ترتيب سورة القصص في المصحف وعدد
آياتها وكلماتها وحروفها
قيل: " إن الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في
ذلك " ((4)) .
أما ترتيب السور أهو توقيفي أم باجتهاد الصحابة؟ ففيه أقوال:
__________
(1) مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير. وبتفسير الرَّازِي. فَخْر الدِّيْن
مُحَمَّد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الشافعي الرَّازِي أبو عَبْد الله. ت
606 هـ. المطبعة البهية المصرية بميدان الأزهر. مصر. ط3. (د. ت.) : 8/ 83 -84.
(2) ينظر القصص الَقُرْآني في منظومه ومفهومه. عبد الكريم الخطيب. بيروت، لبنان.
(د. ت) .: ص40.
(3) المصدر نفسه: ص 48.
(4) الإتقان في علوم القرآن: 1/60.
(1/10)
فجمهور
العلماء أنه حصل ترتيب سوره باجتهاد من الصحابة الكرام، منهم الإمام مالك، واستدل
أصحاب هذا الرأي باختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول،
وهو مصحف علي (- رضي الله عنه -) حيث كان أوله: أقرأ، ثُمَّ المدثر … ثُمَّ
النساء، ثُمَّ البقرة ثُمَّ آل عمران. ومنهم من رتبها ترتيباً أخراً كمصحفي أبيّ
بن كعب، وعَبْد الله بن مسعود.
وهناك من قال إن ترتيب السور في القرآن توقيفي كترتيب الآيات ((1)) .
إن ترتيب سورة القصص بين سور القرآن هو أنها السورة الثمانة والعشرون، وعدد آياتها
ثمانية وثمانون آية، ولا يماثلها في عدد آياتها إلا سورة
(ص) ، وعدد حروفها خمسة آلاف وثمانمائة حرف ((2)) ، وعدد كلماتها ألف وأربعمائة
وكلمة واحد ((3)) .
وقد ذكر ابن الجوزي أعداداً أخرى مقاربة لا تخرج عما أوردناه هاهنا ((4)) .
المطلب الرابع فضلها
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن: 1/61-62.
(2) ينظر لباب التَّأويِل في معاني التنزيل (المُسَمَّى: تَفْسِير الخازن) . علاء
الدِّيْن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن إبراهيم البغدادي الصوفي المعروف بالخازن. ت 725
هـ. الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 1955 م: 3/423.
(3) بصائر ذوي التمييز: 1/353.
(4) فنون الأفنان في عجائب عُلُوْم القُرْآن. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن بن
عَلِيّ بن الجوزي. ت 597 هـ. تحقيق: د. رشيد عَبْد الرَّحْمَن العبيدي. مطبعة المَجْمَع
العلمي العراقي. 1988م: ص117-118.
(1/11)
ذكر
الطبرسي في مجمع البيان رواية عن أبي بن كعب (- رضي الله عنه -) عن النبي (- صلى
الله عليه وسلم -) قال: ((من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق
بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة، أنه كان
صادقاً أن كل شيء هالك إلا وجهه)) ((1)) والحديث الآخر: ((يا علي من قرأ طسم القصص
أعطاه الله مثل ثواب يعقوب وله بكل آية مدينة عند الله)) ((2)) ، ومعظم الأحاديث
في فضل سورة القصص من الموضوعات كما صرح بذلك الإمام عبد الرحمن بن الجوزي في
كتابه ((3)) .
__________
(1) مَجْمَع البَيَان في تَفْسِير القُرْآن المعروف بتفسير الطَّبَرْسِي. الفَضْل
بن الحَسَن بن الفضل الطَّبَرْسِي الطُّوْسي السَّبْزَواري أبو عَلِيّ. ت 548 هـ.
تصحيح وتعليق: هاشم الرسولي وفضل الله الطباطبائي اليَزْدِي. شركة المعارف
الإسلامية. إِيْرَان. ط1. 1379 هـ: 7/338، بصائر ذوي التمييز: 1/358.
والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث. وقد أورده الطرابلسي ت 1177 هـ، في الكشف
الإلهي عن شديد الضعف والموضوع. تحقيق د. مُحَمَّد محمود أحمد بكاء. الطبعة
الأولى. مكتبة الطالب الجامعي. الريان. مكة المكرمة. 1408 هـ: 1 /986.
(2) ينظر الكشاف، 3/194. والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث، وقد ضعفه الحافظ
ابن حجر في تخريجه لأحاديث الكشاف.
(3) الموضوعات. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن عثمان بن عَلِيّ بن الجوزي
القرشي. ت 510 هـ. تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد عثمان. الطبعة الأولى.
المكتبة السلفية. المدينة المنورة. 1966 م: 2/232-234.
(1/12)
والذي
يبدو أن لكل سورة في الَقُرْآن الكَرِيم فضل خاص بها، وإن كانت جميع سور الَقُرْآن
الكَرِيم لها فضيلة، ولكن وردت أحاديث في فضائل سور وآيات مخصوصات كالإخلاص،
والكرسي، ولم أقف على حديث صحيح في فضل سُوْرَة الْقَصَصِ.
المطلب الخامس: سورة القصص أمكية هي أم مدنية؟
سُوْرَة الْقَصَصِ مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء، وقال مقاتل: فيها من
المدني قوله تعالى: {الَّذِينَ ءاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ مِنْ قَبْلِهِ} إلى قوله
تعالى: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين} ((1)) ، وذكر السيوطي أنها نزلت هي وأواخر
الحديد في أصحاب النجاشي ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: من الآيات 52 - 55.
ومقاتل ممن لا يحتج بقوله في التفسير، فقد كذبوه وهجروه ورموه بالتجسيم.
ينظر: تقريب التهذيب. أبو الفضل أَحْمَد بِن عَلِيّ بِن حَجَر العَسْقلاني
الشافعي. (773 ـ 852 هـ) . تحقيق: مُحَمَّد عوامة. الطبعة الأولى. دار الرشيد.
دمشق. سوريا. 1406 هـ ـ 1986 م: ص 454.
(2) ينظر الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 / 16.
(1/13)
وقال
ابن عباس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ وقتادة: مكية إلا آية نزلت بين مكة والمدينة
((1)) ، وقال ابن سلام: نزلت بالجحفة ((2)) في وقت هجرة النبي (- صلى الله عليه
وسلم -) إلى المدينة، وهي قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد} ((3)) .
__________
(1) ينظر الكَشَّاف: 3/ 164. زاد المسير في علم التفسير. جَمَال الدِّيْن عَبْد
الرَّحْمَن بن عَلِيّ بن مُحَمَّد التَّيْمِي البِكْري القُرَشي البَغْدادي
الحَنْبَلِي. المعروف بابن الجَوْزِي أبو الفَرَج. ت 597 هـ. المكتب الإسلامي
للطباعة والنشر. بيروت. ط3. 1404 هـ ـ 1990 م: 6/200. مَفَاتِيح الغَيْب: 23/ 224.
الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن (المعروف بتفسير القرطبي) أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن
أحمد القرطبي. ت 671 هـ. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد عَبْد العليم البردوني. مركز
تحقيق التراث. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1978 م: 6/ 4962. البَحْر المُحِيْط.
أثِيْر الدِّيْن مُحَمَّد بن يوسُف بن عَلِيّ بن يوسُف بن حَيَّان الأَْندَلُسيِ
أبو عَبْد الله. الشهير بابن حَيَّان وبأَبي حَيَّان. ت 754 هـ. مطبعة السعادة.
مصر. 1329 هـ: 7 /104.
(2) الجحفة: موضع بين مكة والمدينة. معجم البلدان شهاب الدِّيْن ياقوت بن عَبْد
الله الحموي الرومي البغدادي أبو عَبْد الله. ت 626 هـ. دار الفكر للطباعة والنشر.
بيروت. (د. ت) : 3 /114.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(1/14)
إن سياق
النص في سورة القصص الشريفة يدل على مكيتها وكونها ذات صبغة مكية من خلال الضوابط
التي وضعها العلماء للتميز بين المكي والمدني، ولما اشتملت عليه من ذكر القصص
بإسهاب، ومن الدلائل على توحيد الله عزل وجل بأسلوب الجملة الطويلة، وخلوها من
الجملة القصيرة. وتكرار ذكر الله عَزَّ وجَلَّ، واليوم الآخر فيها، وذلك من ضوابط
السور المكية.
المطلب السادس: الأغراض العامة لسورة القصص ومقاصدها
قبل التحدث عن غرض السورة، ينبغي أن نبين الظروف التي نزلت فيها، لأن معرفتنا لذلك
تفتح لنا الباب الواسع أمام معرفة أغراض السورة وأهدافها التي من أجلها أنزلت.
كما هو معلوم أن السورة مكية نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، وقد لاقى رسول
الله (- صلى الله عليه وسلم -) وأصحابه (- رضي الله عنهم -) ألواناً من العذاب،
فقد مات تحت العذاب من مات، وسلم من سلم، في حين نجد تجمع المال والقوة العددية في
يد المشركين، والمسلمون لا يملكون سوى قلوباً عامرة بالإيمان، يصارعون بها كل
جبروت قريش ((1)) ، فنرى تشابهاً واضحاً بين الظروف التي أحاطت بالمسلمين، مع
الظروف التي مر بها سيدنا موسى (- عليه السلام -) مع قومه، حيث تسلط جبروت فرعون
والأقباط على سيدنا موسى (- عليه السلام -) ـ وبني اسرائيل يذبح أبنائهم ويستحيي
نسائهم، فجاءت هذه السورة بأغراض مهمة، يمكن أن نعد منها:
__________
(1) ينظر السيرة النبوية: عَبْد الملك بن هشام بن أيوب الحِمْيَري المَعَافِري
البَصْري أبو مُحَمَّد ت 213 هـ تقديم وتعليق: طه عَبْد الرَّؤُوْف سَعَد. دار
الجيل. بيروت. 1411 هـ: 2 /254.
(1/15)
أولاً:
تسلية الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) وأصحابه الكرام وشد أزرهم، ليعلموا أن
النصر حليفهم مهما طالت ساعة إعلانه وكذلك لتبين لهم حقيقة مهمة وهي ان كل اصحاب
الرسالات السماوية السابقة لم يكن طريق الدعوة الى الله أمامهم معبداً ممهداً، بل
جاهدوا وقاتلوا وقَتلوا وعُذبوا حتىأتى نصرالله، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ
اللَّهِ قَرِيْبٌ} ((1)) .
وربما يسأل سائل: لماذا هذا العذاب الذي يلقاه الأنبياء وأتباعهم؟ والجواب عن ذلك
أن الأنسان بطبيعته مكلف بالعبادة لله، فهو مقرون بهذه التكلفة فلا عبودية بدون
تكليف، والتكليف يستلزم تحمل المشاق ففي كلّ الدعوات إلى الله هناك تكليف وهناك
تحمل مشاق لحكم ثلاث، هي:
1- لاثبات صفة العبودية لله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ
لِيَعْبُدُونِ} ((2)) .?
2- لإثبات صفة التكليف المتفرعة من صفة العبودية فما من مؤمن يبلغ سن الرشد إلا
وهو مكلف من الله عَزَّ وجَلَّ بتحقيق شرعه وعليه أن يتحمل في سبيل ذلك كثيراً من
المشاق والأذى ((3))
3- لإظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَذِبِينَ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 214.
(2) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 56.
(3) ينظر فقه السيرة. مُحَمَّد سعيد رمضان البوطي. ط7. مَكْتَبَة الشرق الجديد.
بغداد (د. ت) : ص85-86.
(4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 3.
(1/16)
ثانيا -
نزلت هذه السورة لتضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، ولتبين أن هناك قوة واحدة
مؤثرة في الكون ألا وهي قوة الله وحده وأن هناك قيمة واحدة في الكون هي قيمة
الإيمان. وجاءت السورة لتقرر حقيقة مهمة ثابتة على مرّ العصور أن النصر لا يأتي
بالضرورة مع الكثرة والقوة وأن النصر يأتي بأمر الله وحده فهو الناصر الذي ينصر
عباده، فمن كانت معه قوة الله فلا خوف عليه ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا
طمأنينة ولو ساندته جميع قوى الكون ((1)) . ومن كتب الله عليه العذاب لا تنفعه كل
استحكامات العالم. ففرعون لما أخبره الكهنة بان قتله سيكون على يد طفل من بني
إسرائيل ((2)) ، أستخدم نفوذه وجبروته وسلطانه في قتل الأطفال من بني إسرائيل ووضع
الأعين من نساء مصر لكي يخبرنه عن أي مولود لم يصل إليه خبره ولكن يقظته وحذره
وسلطانه وعيونه لم تمكنه من إزالة الخطر عن نفسه ولم تدفع عنه خطر الطفل الصغير
المجرد من كل قوة إلا من قوة الله عز وجل فهي القوة الحقيقية في الكون فكان هذا
الطفل الذي تربى في حجر فرعون سبباً في إنهاء جبروت فرعون وسلطانه.
__________
(1) ينظر في ظلال الَقُرْآن. سيد قطب. الطبعة الثانية. دار إحياء التراث العربي.
بيروت. 1971 م: 6 /317.
(2) تفسير القرآن العظيم. الإِمَام الحَافِظ عماد الدِّيْن أبو الفداء إسماعيل بن
كثير القرشي الدمشقي. ت 774 هـ. ط1. دار مَكْتَبَة الهلال. بيروت. لبنان. 1986 م:
2 /225.
(1/17)
ثالثاً
- بعد أن بين الله جل وعلا نهاية طغيان الملك والقوة أمام قوة الله تنتقل الآيات
لتبين حقيقة أخرى وغرض آخر وهو نهاية طغيان الكفر، ثُمَّ نهاية طغيان المال وذلك
من خلال قصة قارون مع قومه وكان قارون من قوم موسى قال تعالى: {إِنَّ قَرُونَ
كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِم} ((1)) فخرج على قومه بهيئة المتبختر
وهو يحسب انه أوتي هذا المال والعلم عن ذكاء ودهاء فانقسم قومه على فريقين فريق
فتن فيه وتمنوا مكانه:
... {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ
مَا أُوتِيَ قَرُون} ((2)) .
... وفريق آخر هم عباد الله الصالحين لم يهتزوا بهذه المظاهر الزائفة {وَقَالَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} ((3)) .
... وهنا تتدخل قوة الله فتخسف به وبداره الارض فلا يغني عنه ماله وعلمه من الله
شيئاً. وقصة قارون مرتبطة كلّ الارتباط بنهاية فرعون وطغيانه، فالقصتان تعبران عن
استمرار الانذار الإلهي.
رابعاً - كذلك تعزز السورةغرضاً آخراً، وهو التاكيد على أن الدنيا زائفة فانية،
وأن الدار الباقية هي دار القرار (الجنة) جعلها الله للذين لا يريدون علواً في
الارض ولا فساداً، وأن العاقبة للمتقين.
خامساً - في ختام السورة هناك وعدٌُ وبشارة للرسول (- صلى الله عليه وسلم -) وصحبه
الكرام بنصر الله والرجوع الى مكة فاتحاً منتصراً لنشر دعوة الاسلام الى أرجاء
المعمورة وإمتلاك زمام الامور في الجزيرة العربية وانتقال مركز القوى من يد الشر
الى الخير والى الابد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 80.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(1/18)
. من كل
ما سبق يمكن أن نستفيد دروساً وعبراً تفيدنا في تجاوز حالة الضعف والهوان التي يمر
بها المسلمون اليوم.
... واليوم نرى تخاذل كثير حكام المسلمين اليوم أمام أعداء الاسلام اليهود
والامريكان منبهرين بما تمتلكه أمريكا من قوه عسكرية وإقتصادية فأشاعوا وهولوا هذه
القوة حتى أصبح بعض هؤلاء الحكام أبواق دعاية لهذه القوة الغاشمة. فلو كان النصر
لا يأتي الأ مع القوة والمال لاستسلم سيدنا محمد (- صلى الله عليه وسلم -) وصحبه
الكرام وهم قلة أمام قوة قريش المادية والعددية ولاستسلم موسى (- عليه السلام -)
من قبل وبني أسرائيل أمام جبروت فرعون وقوة الاقباط فقد كانت بأيديهم خزائن مصر،
نعم إن المال والقوة من أسباب النصر، ولكن الناصر هو الله، فلو وعى المسلمون اليوم
هذه الحقيقة جيداً لما وقفت أمام دعوتهم كل قوى الشر، لأنهم أصحاب دعوة سامية
ورسالة الهية إن هم تمسكوا بها وقد جاء ذلك واضحاً في نهاية سورة القصص: {وَلا
تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ
إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) .
فقد حكم الله جل وعلا بأنه لا سلطان إلا سلطان الله وكل قوة هالكة الأّ قوة الله.
ولادلالة (إليه ترجعون) واضحة فيما نذهب إليه من رجوع النصر إلى هذه الأمة.
المطلب السابع: التناسب والتناسق بين سورة القصص وما
قبلها وما بعدها.
لا ريب أن فهم العلاقة التناسبية والروابط المتناسقة بين كل سورة قرآنية وما قبلها
وما بعدها مما يعين على فهم أدق لجوهر السورة نفسها إذا ما أخذنا بالرأي الراجح
القائل إن الصحابة لم يضعوا سورة معينة في موضع إلا بإشارة من
رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . والرسول (- صلى الله عليه وسلم -) لم يضعها
إلا بوحي إلهي.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(1/19)
ولذا
نجد أن هناك وشائج بين أواخر سورة النمل وأوائل سورة القصص بحديثهما معاً عن تلاوة
القرآن، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي
لِنَفْسِهِ} (1) ، و {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ*نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ
نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْن} ((2)) ، وحديثهما عن منة الله تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّه} ((3)) ، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ((4)) ، وأما قوله تعالى:
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ((5)) ، فقد تناسب مع قوله تعالى:
في سُوْرَة الْقَصَصِ {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا
شِيَعاً} ((6)) .
__________
(1) سورة النمل: الآية 92.
(2) سورة القصص: الآية 2-3.
(3) سورة النمل: الآية 93.
(4) سورة القصص: الآية5.
(5) سورة النمل: الآية 93.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(1/20)
إذ
تناسب الكلام عن عدم غفلة الله تعالى وحاشاه عن افعال العباد، وعن علو فرعون في
الأرض ثم تناسب أيضاً قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
((1)) مع أوائل السورة في ايراد الاحرف المقطعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى
{طسم} ((2)) ، وليس بينهما الا فاصل البسملة فكل هذا يرجح الرأي الذي نذهب اليه من
ان القرآن الكريم قطعة واحدة، في السبك والصياغة والبلاغة، ولعل هذا أحد أوجه
إعجاز القرآن الكريم التي طالما نبه عليها المفسرون والمتكلمون واللغويون، فاذا ما
جئنا الى اخر سورة القصص وأوائل سورة العنكبوت نجد تشابهاً جد عظيم، وتناسقاً
كبيراً، وتناسباً في المعنى والمبنى والمضمون والسبك والصياغة فكان أوائل سورة
العنكبوت إمتداد لآواخر سورة القصص فنجد أن هنالك حديثاً عن العودة الى الله تعالى
كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى
مَعَادٍ} ((3)) ، وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ
اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ((4)) ، وكلام عن الفتنة {وَلا
يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} ((5)) ، وذلك
مرتبط بقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ
اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ((6)) . فالحديث هو هو
لا زال متسقاً مترابطأً متماسك الصيغة.
__________
(1) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 93.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 1.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 5.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(6) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 3.
(1/21)
ونجد
كلاماً عن الايمان الالهي في قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ
لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ((1)) ، وذلك مع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) . فإن وجه
المناسبة بينهما في عدم دعوة إلهاً آخر مع جزاء الإيمان والعمل الصالح.
ونجد كلاماً مهماً عن الدعوة الى الله تعالى {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((3)) يتناسب مع قوله تعالى في أوائل سورة
العنكبوت {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ
لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ((4)) ، وبذلك كله يستقيم لنا ترابط سورة القصص
وتناسقها وتناسبها مع آواخر ما قبلها (النمل) ومع أوائل ما بعدها
(العنكبوت) ، وذلك بعض أوجه الاعجاز القرآني، لأنه مما يرد على أولئك القائلين
باضطراب النصّ الَقُرْآنيّ في انتقال الخطاب ((5)) ، فسُوْرَة الْقَصَصِ في
تناسبها أوجدت تناسباً ووحدة في الموضوع في أوائلها وأواخرها.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(2) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 7.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(4) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 6.
(5) الَقُرْآن والكتاب. الأب الحداد. الطبعة الثانية. (د. ن.) . بيروت، لبنان.
1986 م: 135- 137.
(1/22)
المطلب الثامن: التناسب بين بداية السورة وخاتمتها
مذهب العرب في نظم الكلام أن يوازنوا كلّ الموازنة بين مطلعه ونهايته، لأجل أن
يستقيم الكلام ولا يخرج أوله عن آخره، ولا آخره عن أوله، وهذا المذهب البلاغي تنبه
له قدماء البلاغيين كالجاحظ ((1)) ، وأبي هلال العسكري ((2)) ، وقدامة بن جعفر
((3)) ، وابن المعتز ((4)) ، وابن الأثير ((5)) .
وقد جاء الَقُرْآن الكَرِيم على سنن العرب في كلامها في فنونه البديعة، وأفانينه
البلاغية البيانية، وكان من ذلك أن يستقيم المعنى في أول السورة وآخرها بحيث يأخذ
أولها برقبة آخرها لأجل أن يظهر الإعجاز القرآني ((6)) .
__________
(1) ينظر البَيَان والتبيين. أَبِي عثمان عمرو بن بحر. ت 255 هـ. تحقيق: المحامي
فوزي عطوي. دار صعب. بيروت. ط1. 1968م: 1 /20.
(2) ينظر كتاب الصناعتين: النظم والشعر، العسكري، أبو هلال الحسن ابن عبد الله بن
سهل ت 395 هـ، تحقيق: مُحَمَّد علي البجاوي ورفيقه، الطبعة الأولى، مطبعة
الأستانة، 1952م: ص 149.
(3) ينظر نقد الشعر. أسامة بن منقذ. تحقيق: مُحَمَّد زغلول سلام. الطبعة الثانية.
بيروت، لبنان. مصورة عن طبعة مصر. 1975 م: ص 29.
(4) ينظر نقد الشعر: ص 38.
(5) ينظر المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. ضياء الدِّيْن نصر الله بن مُحَمَّد
بن مُحَمَّد بن عَبْد الكَرِيْم الموصلي أبو الفتح. ت 637 هـ. تحقيق: مُحَمَّد
محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. المكتبة العصرية. بيروت. ط1. 1995 م: 2 /104.
(6) ينظر الإعجاز القُرْآن. مُحَمَّد بن الطيب بن مُحَمَّد بن جعفر بن القَاسِم
الباقلاني أبو بكر. ت 403 هـ. تحقيق: السيد أحمد صقر. دار المعارف. القاهرة. (د.
ت) : ص 196.
(1/23)
وقد فصل
بعض ذلك البقاعي في كتابه (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) ((1)) ، والسيوطي في
كتابه (تناسق الدرر في تناسب السور) ((2)) . ونجد في سُوْرَة الْقَصَصِ ـ التي نقوم
هنا بتحليلها ـ أنها جاءت على هذه السنة في الأسلوب العرضي لمادتها الداخلية،
ويتضح ذلك أكثر ما يتضح باستعراض مبادئ هذه العلاقة المترابطة بين فاتحة السورة
وخاتمتها، وتشمل هذه المبادئ المتشابهة:
ذكر الآيات الإلهية مثل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ} ((3)) ،
وقوله:
{وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ
إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} ((4)) .
المقابلة بين الإيمان والكفر، كما في قوله: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى
وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((5)) ، وقوله: {وَمَا كُنتَ
تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَبُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} ((6)) .
__________
(1) ينظر مثلاً: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور. الإِمَام برهان الدِّيْن أَبِي
الحَسَن إبراهيم بن عمر البقاعي. ت 885 هـ. خرج الآيات وأحدثه ووضع حواشيه: عَبْد
الرَّزَّاق غالب المهدي. الطبعة الأولى دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1995 م:
1/ 126.
(2) ينظر مثلاً: تناسق الدرر في تناسب السور. جلال الدِّيْن السيوطي. ت 911 هـ.
ط2. تحقيق: عَبْد الله مُحَمَّد الدرويش. دار عالم الكتب. بيروت. لبنان. 1408 هـ –
1987 م: 1 /216.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(1/24)
ذكر
عاقبة العلو، كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الاَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} (1) ، وقوله:
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((2))
بيان الوراثة الإيمانية، كما في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ
الْوَارِثِينَ} ((3)) ، وقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ} ((4)) .
كون كلّ طغيان يعقبه هلاك كلّ شيء يطغى به، كما في قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا
فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ
يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ
الْمُفْسِدِينَ} ((5)) ، وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(1/25)
المقابلة
بين عودة موسى (- عليه السلام -) إلى أمه، وعودة رَسُول الله (- صلى الله عليه
وسلم -) إلى مكة كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا
تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} ((1))
وقوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ
رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ((2)) .
فموسى (- عليه السلام -) عاد إلى أمه، ورسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عاد
إلى أم القرى، وهو معنى استنبطناه من السياق.
فهذه المبادئ المتشابهة في حد ذاتها بين فواتح السورة وخواتيمها تدل على ما ذهبنا
إليه، فسنرى مثلاً أن العلاقة بين قوله تعالى: {تِلْكَ آيَتُ الْكِتَبِ
الْمُبِينِ} (3) في إشارتها إلى الَقُرْآن الكَرِيم، وما أنزل على الرسل من قبل ـ
عَلَيْهم السَّلام ـ تماثل العلاقة مع قوله تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ
اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} ((4)) ، كونها إشارة إلى آيات الله
تعَاَلىَ التي أنزلت على رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) .
ثم أن هنا علاقة وثيقة بين قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} ((5))
وبين قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((6)) لأن المفسدين مقابل
لفظي للمشركين، والعلاقة بينهما علاقة تضاد الإفساد بالشرك، وهي علاقة مترابطة
ترابط الإفساد والشرك.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(1/26)
ونجد أن
قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} ((1))
موافق تمام الموافقة لقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ
الْكِتَبُ إِلاَّ رَحْمَةً} ((2)) ، لأن التلاوة الإلهية متعلقة بما ألقي على
رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من الكتاب المتلو رحمة.
ونجد أن قوله تعالى: {بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((3)) موافق في دلالته
المتناسقة مضمونياً مع قوله تعالى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4))
، لأن من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون برجوعهم لله سبحانه وتعالى، وهذا اتساق في
المعنى.
نجد كذلك أن الآية: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((5)) مطابقة في تناسبها
المضموني مع الآية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى
مَعَادٍ} ((6)) في كون الآيتين تتحدثان عن الوراثة الإلهية والعودة النبوية، فكما
ورث بنو إسرائيل ما تركه آل فرعون، ورث المؤمنون من أصحاب مُحَمَّد (- صلى الله
عليه وسلم -) أرضاً لم تورث إلا لهم، وهذا من الاتفاقات الإلهية التي انفردت سورة
القصص بإظهارها في أبان العصر المكي.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(1/27)
ونحن
نجد أن قوله تعالى في فاتحة سُوْرَة الْقَصَصِ: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} ((1))
متعلقة في كون الإمامة هاهنا إمامة دعوية، أي: أئمة يدعون إلى الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، وهو ما عبرت عنه الآية القرآنية في خاتمتها {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((2)) ، لأن الدعاة إلى الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى هم أئمة الهدى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فصفات الدعاة إلى الله
تعَاَلىَ بينت في سُوْرَة الْقَصَصِ، في أولها وفي آخرها.
ونجد أن صفات المؤمنين في أولها كانت:
الإيمان {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((3)) .
الوراثة {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((4)) .
التمكين في الأرض {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((5)) .
ثم نجد في خاتمة السورة أن صفات المؤمنين هي:
الإيمان {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ((6))
الوراثة {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((7)) .
التمكين في الأرض {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
((8)) .
__________
(1) سورة القصص: الآية5.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(1/28)
وبهذا
يتضح هذا التناسق بين أول السورة وآخرها، ثُمَّ أننا نجد أمراً أخراً هو إظهار
عاقبة الطغاة والمتكبرين والمفسدين في الأرض، لقوله تعالى: {وَنُرِي فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((1)) ، ويقابله في
آخر السّورة قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ
مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} ((2)) ، لأن {وَجُنُودَهُمَا} متقابلة
كلّ التقابل مع {فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله} أي: الجنود الذين كانوا يحرسون
قارون، وهذا اتساق بياني في المعنى المتوافق.
وبهذا يكون أول السّورة مترابطاً كلّ الترابط مع آخرها، ومتناسباً معه بما يجعل من
داخل السورة وحدة متكاملة في مبناها ومعناها، وهو بعض أوجه الإعجاز الَقُرْآنيّ.
* * *
المبحث الثاني: الحروف المقطعة في الَقُرْآن الكَرِيم وسُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: أقوال العلماء في معاني الحروف المقطعة
معاني الحروف المقطعة في القرآن وإعرابها:
إن الحروف المقطعة على اختلاف الأقوال فيها، من الافتتاحيات الرائعة التي يصدر بها
الكلام. وقد " قال أهل البيان من البلاغة حسن الابتداء، وهو أن يتأنق في أول
الكلام لأنه أول ما يقرع السمع، فإن كان محرراً أقبل السامع ووعاه وإلاّ أعرض عنه،
ولو كان الباقي في نهاية الحسن، فينبغي أن يؤتى فيه بأعذب لفظ وأجزله، وأرقه
وأسلسه، وأحسنه نظماً وسبكاً، وأوضحه معنى وأوضحه، وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير
الملبس، أو الذي لا يناسب. وقد أتت جميع فواتح السور على أحسن الوجوه وأبلغها
وأكملها كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك من الابتداء الحسن " ((3))
وما يعنينا هنا هو الحروف المقطعة، وحسن ابتداء الكلام بها.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(3) الإتقان في علوم القرآن: 2/106.
(1/29)
إن في
القران الكريم تسعاً وعشرين سورة تبدأ بحروف الهجاء المقطعة منها ما يبدأ بحرف
واحد وهي ثلاث سور هي (ص0ق0ن) ومنها عشر سور مفتتحه بحرفين وهي سورة (غافر. فصلت.
الشورى. الزخرف. الدخان. الجاثية. الأحقاف. طه. النمل. يس) ، ومنها ما يبدأ بثلاثة
أحرف، وهي: (البقرة. آل عمران. العنكبوت. الروم. لقمان. السجدة. يونس. يوسف.
إبراهيم الحجر. الشعراء. القصص) .
ومن السور ما يفتتح بأربعة أحرف هما (الأعراف، والرعد) ومنها ما يفتح بخمس أحرف
(كهيعص) سورة مريم، و (حم عسق) الدخان.
أقوال العلماء في معاني الأحرف المقطعة:
قبل الخوض في أقوال العلماء لابدّ من الإشارة إلا انه لم ينقل عن رسول الله (- صلى
الله عليه وسلم -) بيان لمعانيها وبناء على ذلك اختلفت أقوال العلماء في بيان
معانيها إلى ما يأتي:
(1/30)
القول
الأول: وهي سر الله في القرآن وهي من المتشابه ((1)) ، الذي انفرد الله بعلمه ولا
يجوز أن يتكلم فيه، ولكن نؤمن بها ونقرأها كما جاءت روي ذلك عن أبى بكر الصديق،
وعمر، وعثمان، وعلي بن أبى طالب، وابن مسعود
(- رضي الله عنهم -) أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر ((2)) ،
ومما يؤيد هذا القول الادلة النقلية والعقلية الاتية:
1- الادلة النقلية: ما روته السيدة عائشة ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قالت: قرأ
رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}
((3)) .
__________
(1) المتشابه: هوا للفظ الذي خفي المراد منه فلا تدل صيغته على المراد منه ولا
سبيل إلى إدراكه إذ لا توجد قرينة تزيل هذا الخفاء واستأثر الشارع لعلمه (مثل
الحروف المقطعة في أوائل السور) . ينظر أنوار الربيع في أنوار البديع. علي صدر
الدين بن معصوم المدني. تحقيق: شاكر هادي شكر. النجف الأشرف. 1388 هـ ـ 1968 م:
217.
(2) ينظر بحر العُلُوْم. المُسَمَّى (تَفْسِير السمرقندي) . أبو الليث نصر بن
مُحَمَّد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي. ت 375 هـ. تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد معوض.
وآخرون. ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان. 1413 هـ. 1993 م: 1/249-250.
والجامع لأحكام القرآن: 1/134.
(3) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.
(1/31)
. قالت:
فقال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) : ((فأذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه
منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) ((1)) .
... إذن والله أعلم، إن هذه الاحرف من المتشابه الذي لا يعرفه الا الله جل وعلا
لقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} ((2)) .
2-الادلة العقلية: ذكر القرطبي عن الصحابي الجليل الربيع بن خيثم (- رضي الله عنه
-) : إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما يشاء، وأطلعكم على علم ما
يشاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه، فلا تسألوا عنه، وأما ما أطلعكم
عليه، فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به وما بكل القرآن تعلمون ولا بكل ما تعلمون
تعملون " ((3)) ، فإن الله جل وعلا قد ستر معاني هذه الأحرف عن خلقه اختباراً
من الله عز وجل وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم، وشأنها شأن
كثير من الأفعال التي كلفنا بها ولا نعرف وجه الحكمة فيها، كرمي الجمرات، والسعي
بين الصفا والمروة.
... ثم إن ورود هذه الحروف في أوائل السور، منها إفهام للبشر أنهم مهما بلغوا من
العلم، فإنهم لن يطلعوا على كثير من الأسرار، ومنها معاني هذه الحروف، بهذه الصورة
ستكون دافعاً إلى إعمال الفكر والنظر والاجتهاد في الوصول إلى حقيقتها، وفي هذا شحن
همة العقل إلى التأمل والحركة، حتى لا يبقى جامداً أمام حقائق جاهزة ((4)) . وهذا
رأي أهل السنة والجماعة.
__________
(1) صَحِيْح البُخَارِي: كتاب: التفسير، باب: منه آيات محكمات 4 /1655.
(2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134.
(4) ينظر تطور تفسير الَقُرْآن. نظرة جديدة. د. محسن عبد الحميد. جامعة بغداد.
1989م: ص 55.
(1/32)
القول
الثاني: قال جمع كبير من العلماء: يجب أن نتكلم فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها
والمعاني التي تتخرج عليها.
واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، منها القريب ومنها الغريب.
أولاً: فقد روي عن ابن عباس ورواية عن علي ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَما ـ أن الحروف
المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم، إلا إننا لا نعرف تأليفه منها ((1)) .
ثانياً: وقد نقل السيوطي عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) أنها حروف مقطعة كل حرف
منها مأخوذ من إسم من أسمائه تعالى، ففي قوله في (آلم) قال: معناها (أنا الله
أعلم) ، وفي قوله: (ألمص) : (أنا الله أفصل) ، وفي قوله: (ألر) قال معناها: (أنا
الله أرى) ، (ألمص) : الألف من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد. و (ق) :
حرف من اسمه قادر، (ن) : إنه مفتاح اسمه نور وناصر ((2)) .
ثالثاً: عن ابن عباس (- رضي الله عنه -) أنها قسم أقسم الله تعالى بها لشرفها
وفضلها وهي من أسمائه.
... وقد رد بعض العلماء هذا القول، فقالوا: لا يصح أنها قسم لأن القسم معقود على
حرف مثل (إن، وقد، ولقد، وما) ولم يوجد هاهنا حرف من هذه الحروف فلا يجوز أن يكون
قسماً ((3)) ، وقد أجيب بان موضوع القسم في سورة البقرة (لا ريب فيه) فلو أن
إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه لكان الكلام سديداً وتكون (لا)
جواب القسم ((4)) .
... وذكر الزمخشري أن حرف القسم مضمر كأنه أقسم بهذه السورة وبالكتاب المبين إنا
جعلناه ((5)) .
رابعاً- وقيل إنها أسماء للقرآن.
خامساً- قيل إنها أسماء للسور.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134.
(2) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2 /9.
(3) بَحْر العلوم: 1 /246. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /134.
(4) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1 /135.
(5) ينظر الكَشَّاف: 1/ 92.
(1/33)
سادساً-
قال قطرب، والفراء: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم
بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة
عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم.
... وقيل: إن العرب المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه قال تعالى:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} ((1)) ، فانزل الله هذا القرآن ليعجبوا منه ويكون تعجبهم
منه سبباً لأستماعهم له فترق قلوبهم وتلين الافئدة ((2)) .
... وقد اعترض ابن كثير على أن هذه الحروف جاءت خطاباً للمشركين بقوله: " إن
هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وال عمرآن مدنيتان وليستا خطاباً للمشركين)
((3)) .
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أولا- المنقول، قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا} ((4)) .
وجه الدلالة ان الله جل وعلا حثنا على تدبر القرآن ومعرفة معانيه ومن تدبر القرآن
البحث عن معرفة معاني الحروف المقطعة.
ثانيا- قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ} ((5)) .
ووجه الدلالة ان الله تعالى قد أنزل القرآن الكريم ويسره للناس ليذَّكروا آياته،
فيمكن معرفة جميع المراد منه لان الله يسره للناس ومنها هذه الحروف المقطعة.
__________
(1) سُوْرَة فُصِّلَتِ: الآية 26.
(2) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2/ 10.
(3) تفسير القُرْآن العَظِيْم: 1 /37.
(4) البرهان في عُلُوْم القُرْآن. الإِمَام بدر الدِّيْن مُحَمَّد بن عَبْد الله
الزركشي. ت 794 هـ. تحقيق: مُحَمَّد أَبِي الفضل إبراهيم. دار المعرفة. بيروت.
1391 هـ. 1972 م: 1/172.
(5) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 24.
(1/34)
. وقول
أهل ... المعقول ان القرآن الكريم أنزله الله جل وعلا كتاب هداية وبيان للبشر فلا
يمكن أن يكون فيه ما هو غير مفهوم لهم ((1)) .
ومن التفسيرات الغريبة:
1-ما قاله الشيخ محي الدين بن عربي " إن مبادىء السور لا يعلم حقيقتها الا
أهل الصورة المعقولة، فجعلها تبارك وتعالى تسع وعشرون سورة وهو كمال الصورة
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} ((2)) ، والعشرون القطب الذي به قوام الفلك
وهو علة وجوده، وهو سر (آل عمران) (آلم) ، ولولا ذلك لما ثبتت الثمانية والعشرون،
وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفاً فالثمانية حقيقة البضع، قال (- صلى
الله عليه وسلم -) : ((الايمان بضع وسبعون شعبة)) ((3)) ، وهذه الحروف ثمانية
وسبعون فلا يكمل عبد اسرار الايمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها "
((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَمَرِ: الآية 17.
(2) سُوْرَة (يس) : الآية 39.
(3) متفق عليه، صَحِيْح البُخَارِي: كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان 1 /12. صحيح
مُسلم، مسلم بن الحجَّاج القُشَيْري النَّيْسابوري أبو الحسين، (206 ـ 261) ،
تحقيق: مُحَمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بَيْرُوت، (د. ت) :
كتاب الإيمان، باب عدد شعب الإيمان 1/ 63.
(4) الفتوحات المكية. أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن عَلِيّ المعروف بابن عربي
الحاتمي الطائي. ت 628 هـ. دار صادر. بيروت. لبنان. (د. ت.) : 4/ 64-66.
(1/35)
2-
" زعم قسم من العلماء أنها دالة على معرفة المدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات
الحوادث والفتن والملاحم " ((1)) ، " كما استخرج بعض الأئمة من قوله
تعالى: {آلم * غُلِبَتْ الرُّومُ} ((2)) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة
ثلاث وثمانين وخمسمائة، ووقع كما قال. وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل
السور مع حذف المكرر للأشارة الى مدة بقاء هذه الامة، وهو من أراء الحروفيين واهل
الروحانيات منقولاً عن
الإسرائيليات " ((3)) .
... وقد رد ابن كثير هذا الرأي، ومن قال به لانه ادّعى ما ليس له وطار في غير
مطاره، وإن مقتضى هذا المسلك ان كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة
عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرار فأعظم ((4)) .
الرأي الراجح:
... والراي الراجح والله أعلم، الرأي الاول، وذلك لأنه لا يمكن القطع بمعانيها
لعدم ورود نص يبين معنى هذه الحروف المقطعة لا في القرآن الكريم ولا في السنة
النبوية، وإنها من قبيل المتشابه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ((5)) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم: 1 /38.
(2) سُوْرَة الرُّوْمِ: الآيتان 1- 2.
(3) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /10.
(4) تفسير القرآن العظيم: 1 /38.
(5) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 7.
(1/36)
ثم إن
العلم بمعانيها لا يفيدنا بشيء ولا يتوقف على العلم بها إقامة العبادة لله وإنها
إختبار وامتحان للخلف فالاولى السكوت عن معانيها كما هو صنيع السلف الصالح في التفويض.
المطلب الثاني: إعراب الحروف المقطعة
اختلفت آراء العلماء في إعرابها على رأيين.
الرأي الاول:
ليس لها محل من الاعراب وهي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية، اي: حروف مقطعة لا محل
لها من الاعراب ((1)) .
الرأي الثاني:
لها محل من الاعراب ((2)) :
فمن قال إنها اسماء للسور فموضوعها عنده الرفع على انها عنده خبر ابتداء مضمر، اي:
هذه (الم) أو (طسم) كما تقول هذه سورة البقرة، او تكون رفعاً على الابتداء والخبر
ذلك، كما تقول زيد ذلك الرجل، وقال ابن كيسان في موضع نصب كما تقول: إقرأ (طسم) ،
أو عليك (طسم) ، وقيل: في موضع خفض بالقسم لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله
بها ((3)) .
أما الزمخشري فقد قسم هذه الحروف على ضربين:
أحدهما: ما لا يتأتى فيه إعراب نحو (كهيعص، المر) .
ثانيهما: ما يتأتى فيه الاعراب، وهو إما أن يكون اسماً فرداً (ص، ق ن) ، أو أسماء
عدة مجموعها على زنة مفرد كـ (حم، طس، يس) ، فانها موازية لقابيل وهابيل، وكذلك
(طسم) يتأتى فيها أن تفتح نونها وتصير ميماً مضمومة إلى (طس) فيجعلا اسماً واحداً
كدار بجرد فالنوع الاول محكي يس الا واماالنوع الثاني فسائغ فيه الامر ان الاعراب
والحكاية ((4)) .
__________
(1) ينظر إعراب القُرْآن. أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن إسماعيل النحاس. ت 338 هـ.
تحقيق: د. زهير غازي زاهد. عالم الكتب. مَكْتَبَة النهضة العربية. (د. ت.) : 1/127
(2) الكَشَّاف: 1/83. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/136.
(3) الكَشَّاف: 1/83. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 1/136.
(4) الكَشَّاف: 1 /83.
(1/37)
والراجح
هو الرأي الأول، القائل أنها لا محل لها من الإعراب، وأرى أن الخلاف في إعرابها،
وعدم إعاربها لا يفيد العلم بشيء، وليس له أي ثمرة.
المبحث الثالث: شبه وجود الأساطير والتكرار في القصة
القرآنية والرد عليها
التمهيد ((1))
إن بعض أصحاب المدرسة البيانية الحديثة تبنوا فكرة الطعن بالقرآن من خلال القصص
القرآنية بحجة أن في القرآن قصصاً مكررة وأن فيه أساطير ((2)) ، إلى غير ذلك من
الترهات، تنزه كتاب الله عن كل ذلك.
وسمي من يؤمن بهذه الفكرة بأصحاب المدرسة الأمينية نسبة إلى الشيخ
(أمين الخولي) الذي تبنى هذه الفكرة ثم أشرف بنفسه على رسالة دكتوراه تحت عنوان
(الفن القصصي في القرآن) لمحمد أحمد خلف الله قدمت إلى جامعة الأزهر، وقد ردت هذه
الرسالة، وأثارت هذه الأفكار الشاذة زوبعة فكرية تأثر بها شرذمة قليلة من ضعاف
العقول ممن انبهر بالفكر الغربي، وقد اعترف صاحب هذه الرسالة بوضوح وبكل صراحة
بتأثره بالآراء العلمانية. فيقول: " كنت قد أحسست بحاجتي الملحة إلى الإطلاع
على ما يفعله علماء الغرب حيث يدرسون الأدب وتاريخه، فاستجبت لهذا الإحساس، وقرأت
بعض الكتب التي تعالج هذه المسائل " ((3)) .
فالذي يقرأ هذه الرسالة لا يشك لحظة واحدة أن وراء كتابة هذه الرسالة يداً خبيثة
تريد العبث والتشكيك بكتاب الله وعقائد المسلمين، وقد قام علماء أجلاء بالرد على
هذه الرسالة منهم العلامة محمد الخضر الحسين شيخ الأزهر الأسبق في كتابه نقد كتاب
الفن القصصي في القرآن. والأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه قصص القرآن وأجاد في
الرد.
__________
(1) أوردنا هذا المبحث لأن نفي الواقعة التاريخية في القصص الَقُرْآنيّ يشمل كلّ
سُوْرَة الْقَصَصِ أيضاً.
(2) ينظر الفن القصصي في الَقُرْآن الكَرِيم. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة
السادسة. دار امريث للنشر. القاهرة. 1936 م: 17 -27.
(3) المصدر نفسه: ص 11.
(1/38)
"
وقد أجمع علماء الإسلام في هذا العصر على رفض هذا الرأي وعده مخالفاً لضوابط تفسير
القرآن، بل عدوه تكذيباً للقرآن نفسه " ((1)) ، فقد قال جل وعلا: {إِنَّ
هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ} ((2)) . وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
نَبَأَهُمْ بِالْحَق} ((3)) ، وقوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى
وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} ((4)) ، وقوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ
إِنَّهُ الْحَق} ((5)) .
ونحن نعلم مما تقدم إن هذه المحاولات الإلحادية للقضاء على حقيقة النص القرآني
ورميه بالزيف التاريخي وحاشاه فقد بدأها طه حسين ((6)) نقلا عن نولدكه (المستشرق
اليهودي الألماني الشهير) ((7)) ، وليس الهدف منه سوى الإساءة للنص القرآني في
مبناه ومعناه على ما نراه في المطلب القادم.
المطلب الأول: أدلة القائلين بوجود الأساطير والتكرار
في القرآن الكريم والرد عليهم
لقد اعتمد القائلون بوجود الأسطورة (بمعناها الخرافي، أي الذي لا وجود له إلا في
القصص) على الأدلة الآتية التي تدعم زعمهم بوجودها في الَقُرْآن الكَرِيم نفسه:
__________
(1) تطور تفسير القرآن: ص85.
(2) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 62.
(3) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 13.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(5) سُوْرَة هُوْد: الآية 17.
(6) في الشعر الجاهلي. طه حسين. ط1. دار المعارف بمصر. 1924 م: ص31
(7) المستشرقون. نجيب العفيفي. ط4. دار المعارف بمصر 1985 ـ 1987 م: 11/213،
وكتابه اسمه (تاريخ الَقُرْآن) وهو أول من تبنى هذه النظرية.
(1/39)
1-إن
الأساطير في اللغة: " الأباطيل، والأساطير أحاديث لا نظام لها. قال الليث:
يقال سطر فلان علينا يُسَطرِّ، إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل " ((1)) ، وذكر
محمد خلف الله في رسالته: " إن القران الكريم لا ينكر أن فيه أساطير وإنما
ينكر أن تكون الأساطير هي الدليل على أنه من عند مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم
-) ((2)) ، وقد استدل على رأيه ذلك ببعض الآيات القرآنية التي جاءت لتنقل أقوال
المشركين عن القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين، مثل:
أـ قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ
الأَوَّلِين} ((3)) .
ب ـ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا
لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}
((4)) .
ج ـ قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا
أَسَاطِيرُ
الأَوَّلِينَ} ((5)) .
فيقول ما يفهم من النظر في هذه الآيات أن المشركين كانوا يعتقدون بما يقولون
اعتقاداً صادقاً وأن الشبه عندهم كانت قوية جازمة ((6)) .
... ثم يذكر بان " ما يفهم من النظر في هذه الآيات التي كل ما تحدث به القرآن
عن الأساطير أن القرآن لم يحرص على أن ينفي عن نفسه وجود الأساطير " ((7)) ،
ثم يذكر " أن القرآن اكتفى بتهديد القوم في سورة الأنعام والمطففين، فهل هذا
الرد ينفي ورود الأساطير في القرآن " ((8)) .
__________
(1) لِسَان العَرَب: مَادة (سطر) 4/ 363.
(2) الفن القصصي في القرآن: ص209.
(3) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25.
(4) سُوْرَة الأَنْفَالِ: الآية 31.
(5) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 24.
(6) الفن القصصي: ص202.
(7) المصدر نفسه: ص 203.
(8) المصدر نفسه: ص 203.
(1/40)
2- إن
حقائق النص القرآني لا تدل على حقيقة تاريخية ((1)) .
وهذه الآراء في حقيقة ورودها هي آراء نولدكه، وطه حسين التي تقدمت الإشارة إليها.
مناقشة الأدلة
ونحن نخالف ذلك وفق المنهجية العلمية لعدة أسباب:
أولاً ـ إن آية الأنعام ـ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا
كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((2)) تتحدث عن الوعيد
لمن كذب بآيات الله، ثم تتحدث عن وحدانية الله تعالى، فهم حين قالوا: أساطير
الأولين لا يقصدون القصص القرآني فقط، بل كل ما جاء به النبي (- صلى الله عليه
وسلم -) والقرآن الكريم من تشريع وعقيدة، فاستكبروا وعتوا عتواً كبيراً ((3)) .
ثانياً ـ إن آية النحل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا
أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((4)) التي تتحدث عن قدرة الله وعلمه وحكمته.
إن الآيتان تتحدثان بصيغة المقول لا بصيغة القول. وليس في هذه الآيات شئ من القصص،
فقولهم: أساطير الأولين يقصدون قرآن الله.
... ونلاحظ أن استدلاله بالآيات يتم من خلال استدلاله بالجمل التي تدل على ما ذهب
إليه باجتزائها من موقعها.
... ثم إن قوله: " إن القرآن لم ينف وجود الأساطير فيه "، فهذا كذب
صريح، ومن الآيات التي ترد على الكافرين القائلين بأنه أساطير الأولين:
__________
(1) تاريخ الَقُرْآن. ثيودور نولدكه. ترجمة: عَبْد الرَّحْمَن حسن عَبْد
الرَّحْمَن. الطبعة الأولى. مطبعة حسان. بيروت، لبنان 1992 م: 317-319.
(2) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25.
(3) ينظر القصص القرآني في منظومه: ص 308.
(4) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 24.
(1/41)
قال
تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ
وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون} ((1)) ، فكان رد القرآن الكريم {فَقَدْ
جَاءُوا ظُلْماً
وَزُوراً} ((2)) .
قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ((3)) .
فكان رد القرآن الكريم {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} ((4)) .
... ثم إن القول: إن في القرآن الكريم أساطير هو تكذيب لله جل وعلا لأن الأسطورة
هي عبارة عن قصص خيالية وأوهام استقرت في أذهان الشعوب. وحاشا أن يكون في كتاب
الله مثل ذلك، والذي يعتقد بأن في القرآن أساطير وقصص خرافية لا فرق بينه وبين
كفار قريش في رميهم الَقُرْآن بأنه (أساطير الأولين) وهو حديث النضر بن الحارث،
وأبي جهل ((5)) . ونحن نعجب لهذه الآراء التي تبناها المستشرقون وتلامذتهم الذين
يكيدون للإسلام، ولكننا نقول لهم: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ
كَيْدًا} ((6)) .
فكيف يكون فيه أساطير، والله جل وعلا يحكم بأنه لا ريب فيه قال تعالى: {ذَلِكَ
الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ((7)) .
وكيف يكون فيه أساطير، والله جل وعلا يحكم بأنه نزّل الكتاب بالحق قوله تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآيتان 5 - 6.
(4) سُوْرَة الْفُرْقَانَ: الآية 6.
(5) ينظر سيرة ابن هشام: 2 /41.
(6) سُوْرَة الطَّارِقِ: الآيتان 15 -16.
(7) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 2.
(8) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 176.
(1/42)
فالذي
يقول بأن في القرآن أساطير كافر بالقرآن، وقد توعده الله بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ((1)) .
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ
لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ((2)) .
وهاهنا أمر آخر جدُّ مهم، وهو أن الزعم بوجود الأسطورة في القرآن الكريم يؤدي
بالقائلين به على اختلاف مشاربهم إلى مناقضة نتائج العلم الحديث من خلال علم
(الاحفوريات الحديثة) ، التي جاءت لتؤكد ما جاء به القرآن الكريم ((3)) من أخبار
الأمم السابقة وأنبيائها ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
" لقد تبين أن النظريات التي تبناها نولدكه وجولدزيهر وطه حسين وإسماعيل مظهر
وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله وسيد القمني التي تتلخص بعدم وجود حقائق تاريخية
في آيات وسور القرآن الكريم هي نظرية متهافتة ساقطة مردودة لأن العلم الحديث أثبت
وجود كلّ الأمم التي قصها القرآن الكريم، ووجود أسماء أنبيائهم على ما ذكره القرآن
الكريم مما يجعل القرآن الكريم مهيمناً على التوراة والإنجيل المحرفين اليوم في
قصص الحق " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 25.
(3) علم الجيولوجيا والقرآن الكريم. موريس بوكاي. ترجمة: رشوان غالب. الطبعة
الثانية. الدار الأكاديمية. قطر. 1412 هـ: ص78.
(4) في التراث والحداثة: ص 193.
(1/43)
ونحن
نوافق الباحث فيما ذهب إليه ونعتقد أن الزعم بوجود الأساطير في القصص القرآني إنما
هو فرية إستشراقية أعانهم عليها بعض بني جلدتنا، وليس ذلك مما يستغرب من تلامذة
المستشرقين ((1)) .
ونرى أن ما جاء في سُوْرَة الْقَصَصِ من قصص تاريخي هو ما وقع فعلاً في التاريخ،
وحدثنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو أصدق القائلين في الَقُرْآن الكَرِيم.
المطلب الثاني: قضية التكرار
إن معنى التكرار في اللغة: " عبارة عن الإتيان بشيء مرة بعد أخرى "
((2)) ، أو " هو الرجوع على الشيء " ((3)) .
وكان بعض تلامذة المستشرقين قد عاب قضية التكرار في مواضع معينة من الَقُرْآن
الكَرِيم منها تكرار قصة موسى في سُوْرَة الْقَصَصِ، فذكر محمد خلف الله في رسالته
أن في القرآن قصصاً مكررة اعتماداً على ورود بعض قصص الأنبياء في أكثر من سورة.
فيتساءل هازئاً: " لماذا كرر القرآن قصص آدم، ونوح، وهود، ولوط، وصالح، وشعيب
وغيرهم من الرسل والأنبياء؟ إن الوقوف على تاريخ كلّ واحد من هؤلاء يكفي في إيراد
القصة الواحدة في الموطن الواحد، وليس يلزم أن تكرر القصة في أكثر من موطن من
مواطن القرآن " ((4)) .
__________
(1) ينظر دفاع عن القرآن: ص 21.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (كرر) 5/135.
(3) التعريفات. أبو الحَسَن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن عَلِيّ الجرجاني المعروف بالسيد
الشريف. ت 816 هـ. تحقيق: إبراهيم الأبياري. دار الكِتَاب العربي. بيروت. الطبعة
الأولى 1405 هـ. ص 98.
(4) الفن القصصي: ص37.
(1/44)
وقد رد
سيد قطب على ذلك بقوله: " قد يحسب أناس أن هناك تكراراً في القصص القرآني لأن
القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد إنه ما من قصة
أو حلقة قد تكررت في صورة واحدة من ناحية القدر الذي يساق وطريقة الأداء في
السياق، وأنه حينما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ينفي حقيقة التكرار "
((1)) .
وذكر النورسي " أن القرآن الكريم يظهر نوعاً من إعجازه البديع أيضا في تكراره
البليغ لجملة واحدة أو لفظة، وذلك عند إرشاده طبقات متباينة من المخاطبين إلى عدة
معانٍ، وعبر كثيرة في تلك الآية أو القصة فاقتضى التكرار، حيث إنه كتاب دعاء
ودعوة، كما أنه كتاب ذكر وتوحيد، وكل من هذا يقتضي التكرار. فكل ما كرر في القرآن
الكريم إذاً من آية أو قصة إنما تشتمل على معنى جديد وعبرة جديدة " ((2)) .
__________
(1) في ظلال القرآن: 1 /64.
(2) المعجزات الَقُرْآنيّة. بديع الزمان سعيد النورسي. ترجمة: إحسان قاسم الصالحي.
الطبعة الأولى. العراق. 1410 هـ ـ 1990 م: ص184-185.
(1/45)
وذكر
الشيخ محمد رشيد رضا أنه قد تكرر القصة الواحدة في القرآن، ولكن في تكرارها فوائد
في كل منها فائدة لا توجد في الأخرى من غير تعارض في المجموع، لأنها لما كانت
منزَّلة لأجل العبرة والموعظة والتأثير في العقول والقلوب؛ اختلفت أساليبها بين
إيجاز وإطناب، وذكر في بعضها من المعاني والفوائد ما ليس في بعضها الآخر حتَّى لا
تُملَّ ألفاظها ومعانيها، ثُمَّ إن الأقوال المحكية فيها إنما هي معبرة عن المعاني
وشارحة للحقائق وليست نقلا لألفاظ المحكي عنهم بأعيانهم، فإن بعض أولئك المحكي
عنهم أعاجم، ولم تكن لغة العربي منهم كلغة القرآن في فصاحتها وبلاغتها، هذا وإن
اختلاف الأساليب وطرق التعبير في قصص القرآن وفي القرآن عموماً عن المعنى الواحد
لا تختلف إلا لكي تفيد في فهمها فائدة لفظية أو معنوية ((1)) .
ونحن نرى رأي الشيخ مُحَمَّد رشيد رضا، ونعدّ التكرار إنما أتى في مواضع من
الَقُرْآن الكَرِيم كي يستزيد المؤمن إيماناً كون التكرار الذي يراه في الَقُرْآن
الكَرِيم يأتي في كلّ مرة بأٍسلوب جديد، وصياغة جديدة وهو ما وقع في سُوْرَة
الْقَصَصِ، فقصة موسى (- عليه السلام -) لا تشبه قصته نفسها في إطارها العام في
سُوْرَة (طَه) .
__________
(1) ينظر تفسير المَنَار (تَفْسِير القُرْآن الحكيم) . السيد مُحَمَّد رَشِيد
رِضا. ت 1935 م. وفيه صفوة ما قاله الأستاذ الإِمَام الشيخ مُحَمَّد عبده. ت 1905
م. الهيئة المصرية العامة للكتاب 1972 ـ 1979 م: 8/343-344.
(1/46)
المطلب الثالث: الحكمة من التكرار
إن اعتقادنا أنه لا يوجد تكرار في القصص القرآني بمعنى مشابه للتكرار في القصة
التاريخية أو الأدبية، لأن القرآن الكريم كتاب دعوة، والقصة إحدى وسائله لإبلاغ
هذه الدعوة وتثبيتها، والقصة تتكون من الحدث والشخصية، ففي القصص التاريخية نلاحظ
التركيز على الشخصية، فحينما تقرأ أي قصة تجد أنها تركز على شخصية أو مجموعة أشخاص
من أول القصة إلى خاتمتها، أما في القصص القرآني فنرى إعجازاً آخر يضاف إلى
إعجازات القران الكثيرة، وهو الملائمة بين الحدث والشخصية. لذلك كان التكرار غير
مقصود لذاته، بل جاء لإيراد معنى آخر في سياق القصة نفسها.
وإضافة إلى ما تقدم يمكن أن نبين الحكم الجلية الجليلة لتكرار القصة في القرآن
الكريم:
قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه وتذكيراً له عند حدوث سببه خوف نسيانه ((1)) ،
فالعرب حينما تكرر أمراً أو تؤكده، يدل ذلك على الاهتمام بذلك الأمر، فتكرير صفات
الله دال على الاعتناء بمعرفتها والعمل بموجبها ((2)) .
رسوخها في الأذهان بتكريرها مرة بعد مرة.
ظهور البلاغة، فإن تكرار الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يَثقُلَ على البليغ،
فإذا جاء اللاحقُ منه إثر السابق تفنن في المعاني، وتفنن في الألفاظ وتراكيبها،
وتفنن في المحسنات البديعية المعنوية واللفظية كان ذلك من الحدود القصوى في
البلاغة ((3)) .
أن يقتضي سياق السورة الواردة فيها القصة أن تذكر مختصرة وتذكر في موضع آخر بشكل
أوسع لاقتضاء ذلك التطويل في هذا الموضع الثاني.
__________
(1) ينظر البرهان في علوم القرآن: 1/29.
(2) محاسن التأويل: 1 / 257.
(3) أَسَاس البَلاَغَة: مادة (ق. ص. ص) ص 468.
(1/47)
إن حفظ
القرآن كاملاً لم يتيسر لكل الناس، فبعضهم يحفظ بعض السور، فيكون الذي حفظ إحدى
السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالماً بتلك القصة كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت
فيها تلك القصة ((1)) .
وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
" إن في القصص القرآني المعاد مبناها ومعناها فوائد عديدة، ولكن أهمها هو أن
حكمة إعادتها تشتمل على التذكير بالله عز وجل والطريق للوصول إلى معرفته عز اسمه
" ((2)) .
ونحن نعتقد من خلال استقراء سورة القصص أن ما ورد فيها من ذلك يحمل كل الحكمة
والموعظة الحسنة. لأن التكرار الذي فيها إنما كان في قصة موسى
(- عليه السلام -) وفرعون في تكرار تعداد نِعم الله عَزَّ وجَلَّ، وفي تكرار
التحذير من الدنيا، وكل تلك المعاني صيغت في سُوْرَة الْقَصَصِ بأسلوب آخر مختلف
كلّ الاختلاف عن أي سورة أخرى من سور الَقُرْآن الكَرِيم، فبطل ما ادعاه هؤلاء
(المتحذلقون) في سوء فهم التكرار في النصّ الَقُرْآنيّ عموماً وفي سُوْرَة
الْقَصَصِ خصوصاً.
المطلب الرابع: فوائد القصص القرآني
__________
(1) التَّحْرِيْر والتَّنْوِير. تَأَلِيْف مُحَمَّد الطاهر ابن عاشور. الدار
التونسية للنشر. سنة 1984 م: 1 /68- 69.
(2) إعادة المعنى في النصّ الَقُرْآني. د. عَبْد الله سلوم. الطبعة الثانية. الدار
الجامعية للنشر. بيروت، لبنان. 1994 م: ص 228-129.
(1/48)
إن
القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي يتضمن كلماته إلى خاتم رسله وأنبيائه محمد (-
صلى الله عليه وسلم -) ، هو كتاب الدين كله، وهو عمدة الملة وروح الوجود الإسلامي
منه تستمد العقيدة والشريعة والأخلاق، فهو كتاب لكل الأزمان جعله الله هدى
للعالمين من الإنس والجان. كل شيء فيه لحكمة وقد قص الله علينا في كتابه أحسن
القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص} ((1)) ، وهذا يتناول كل ما قصه
الله علينا في كتابه العظيم، وكان لإيراد القصص القرآنية حكماً ودروساً لتربية
الأفراد والمجتمعات للقادة والدعاة، ومن هذه الفوائد التي تلاحظ بمجملها في سورة
القصص الشريفة وفي باقي سور القرآن الكريم:
أن نفقه ما جاء في هذه القصص من أخبار وحقائق ومعاني وأنماط من المدافعات بين أهل
الحق والباطل وان نعتبر به. فمن ذلك ما حصل للأنبياء وما أصابهم من الأذى في سبيل
الله، ثم إن الله نصرهم وجعل العاقبة الحسنى لهم، وفي ذلك عبرة للمؤمنين ((2)) ،
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ} ((3)) .
التحدي العظيم لأهل الكتاب، لأن أهل الكتاب كانوا في ذلك العصر لهم معرفة بأخبار
الأنبياء لاسيما أحبارهم ورهبانهم، فقطع القرآن حجتهم على المسلمين قال تعالى:
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا
أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} ((4)) ، فكان حملة القرآن أحق بان يوصفوا
بالعلم الذي وصفت به أحبار اليهود، فانقطعت صفة الأمية عن المسلمين في نظر اليهود
((5)) .
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 3.
(2) المستفاد من قصص الَقُرْآن للدعوة والدعاة. د. عبد الكريم زيدان. الطبعة
الأولى. مؤسسة الرسالة. بيروت. 1997 م: 1/7.
(3) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 111.
(4) سُوْرَة هُوْد: الآية 49.
(5) التحرير والتنوير: 1 /65.
(1/49)
في
القصص القرآنية فائدة عظيمة للكفار والمشركين والعصاة والظلمة والمتكبرين، لكي
يروا ما حصل بأمثالهم من الأمم السابقة ليتعظوا قال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ((1)) .
في قصص القرآن بيان لسنن الله في خلقه من الأمم والجماعات والأفراد، وهي سنن جرت
على الماضين، وتجري على اللاحقين ليعتبر بها المؤمنون، فلهذا لا يراد بقصص القرآن
الكريم السرد التاريخي للأمم والأشخاص والجماعات، وإنما يذكر منها مواضع العبرة
والاتعاظ والتذكر، كما قال تعالى: {وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، لذلك لا تذكر الحوادث بالترتيب
ولا تستقصى ((3)) .
في القصص القرآني فائدة كبيرة لأهل الدعوة والدعاة لا غنى لهم عن معرفتها فهي
تعرفهم:
مناهج الأنبياء ـ عَلَيْهما السَّلام ـ في دعوة أقوامهم إلى الله وبيان ما أصابهم
من أذى في سبيل الله، وكان النصر في نهاية المطاف نصيبهم، وكيف أن الله أظهرهم على
عدوهم رغم قلة عددهم. فعلى اللاحقين من المؤمنين عدم اليأس، وليعلموا أن ما أصابهم
من أذى قد أصاب من قبلهم، ولكن العاقبة أبداً للمتقين ((4)) لما قال سبحانه:
{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ((5)) .
وكذلك هناك فائدة أخرى للدعاة، وهي ما اشتملت عليه القصص القرآنية من بيان لما
جبلت عليه النفس الإنسانية من غرائز وميول ورغبات وكيف عالج الأنبياء ـ عَلَيْهما
السَّلام ـ أحوال الناس وفقاً لهذه الميول والرغبات.
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 176.
(2) سُوْرَة هُوْد: الآية 120.
(3) ينظر محاسن التأويل: 1 /144. المستفاد من قصص القرآن: 1/ 7.
(4) المستفاد من قصص القرآن: 1/ 7.
(5) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 128.
(1/50)
هناك
فائدة أخرى يمكن أن يستفاد منها التربويون من خلال دراسة المنهج التربوي في القصص
القرآني.
وكذلك يمكن الاستفادة من القصص القرآني لأهل الاقتصاد من خلال دراسة المعالجة
الاقتصادية كما في قصة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) مثلاً، أو اقتصاد قارون
الجامع بين العلم والكفر كاقتصاد العولمة الحديث مثلاً.
والقادة كذلك لا غنى لهم عن دراسة القصص القرآني من خلال إدارة بعض الأنبياء لشؤون
الناس، إضافة إلى مهمة النبوة، ولهم في قصة سيدنا سليمان (- عليه السلام -) المثل
الأعلى، وكيف استطاع الرسول (- صلى الله عليه وسلم -) في زمن بسيط من أن يجعل كل
جزيرة العرب تحت لوائه قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ((1)) ((2)) .
ويتعلم الشباب من قصة سيدنا يوسف (- عليه السلام -) العفاف وكيفية كبح الشهوات.
وكذلك من حياء ابنة شعيب في سُوْرَة الْقَصَصِ في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ
إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((3)) .
وفي القصص تسلية للمبتلين فقد ابتلي سيدنا أيوب (- عليه السلام -) بالمال والأولاد
والنفس.
وأغرى إبليس قومه فطردوه وجعلوه بعيداً عن الديار فلم يزده ذلك إلا شكراً وصبراً
حتى عوفي ((4)) .
ولا ريب أن كل ذلك مما يستقيم به بناء الشخصية الإسلامية قرآنياً أو على قول بعض
الباحثين:
__________
(1) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية 159.
(2) المستفاد من قصص القرآن: 2 /211.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(4) القصص الحق. وهبة رشدي. تقديم: مُحَمَّد عمارة. الطبعة الأولى. دار البيان
العربي. القاهرة. 1992 م: 1/214-215.
(1/51)
"
يستفاد من قصص القرآن الكريم التأسي الحق بأنبياء الحق ـ عَلَيْهم الصَلاة
والسَّلام ـ وفي ذلك فائدة وأي فائدة " ((1)) ، وهو الذي نعده نحن أحد مقومات
السلوك الإيماني للشخصية الإسلامية من خلال تكرار القصص القرآني المتلو يومياً
وإعادتها.
وفي سُوْرَة الْقَصَصِ استفدنا أيضاً أربعة فوائد:
إن الطاغية مهما بلغ جنده وتجبره مآله الهزيمة.
إن قوة الإيمان تغلب كلّ قوة كفرية.
إن المال الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك، هو مال لا فائدة فيه في الحياة الدنيا.
إن مآل الإنسان المؤمن هو الرجوع إلى معاده الذي أحب في الدنيا أو في الآخرة.
__________
(1) المصدر نفسه: 2/ 397.
(1/52)
الفصل
الثاني: وقفات بين يدي السّورة
المبحث الأول: نظرات توجيهية في سُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: توجيه المعنى في ذاتية السورة
من الواضح للعيان أن السمة الغالبة على سورة القصص هي نظام الجملة الطويلة،
المؤدية للبيان في تفخيم اللفظ وتعظيم المعنى، وذلك أن اختلاف سياق قصة نبي الله
موسى (- عليه السلام -) فيها، يختلف كل الاختلاف عن قصة النبي الكريم نفسه في باقي
مواضعها من القرآن الكريم.
وقد علل ذلك الدكتور راجي رفاعي بقوله: " وقصة نبي الله موسى (- عليه السلام
-) في سورة القصص تأخذ بعداً شمولياً مؤدياً لذاتية حقيقة القصة في إطالة مقصودة
بذاتها، لتشمل فيما تشمله من أشياء:
أولاً: زيادة التبيين للسياق الذي تسير فيه القصة بأسلوب جديد.
ثانياً: الإكثار من ذكر الجزئيّات القصصية التي لم تعرف من قبل.
ثالثاً: إعادة الرواية الحقيقية التي حرفت في التوراة المنحولة " ((1)) .
ونحن نوافق هذا الباحث فيما ذهب إليه، ونزيد عليه في توجيه المعنى الذي هو:
(الأخذ بسياق النص نحو إبراز تأويلاته المؤدية إلى معناه) ((2)) . بأن نحاول بناء
مخطط بياني بخطوط عريضة لذاتية سورة القصص، فهذا المخطط سوف يشمل ((3)) :
علو فرعون في الأرض.
استضعاف بني إسرائيل.
ولادة موسى (- عليه السلام -) والتقاط آل فرعون له.
قصة إرضاع موسى (- عليه السلام -) .
حادثة قتل موسى (- عليه السلام -) لعدوه.
هم موسى (- عليه السلام -) بالبطش بالعدو الآخر.
خروج موسى من المدينة بعد التآمر عليه.
وصول موسى (- عليه السلام -) إلى مدين وسقيه الماء للمرأتين.
زواج موسى (- عليه السلام -) من بنت شعيب (- عليه السلام -) .
__________
(1) موسى (- عليه السلام -) في الكتاب والسنة. د. راجي رفاعي. الطبعة الأولى. دار
النشر الأكاديمية. القاهرة. 1992 م: ص238. وراجع قصص الأنبياء في المرويات
الإسلامية. دراسة مقارنة. فهيمة مُحَمَّد علي. الطبعة الأولى. . دار الشرق.
القاهرة. 1994 م: ص 299. إذ تؤيد مؤلفته ما نقلناه بقولها: " إن في سُوْرَة
الْقَصَصِ انسجاماً في إعطاء تشخيص كلي لصورة موسى عليه الصلاة والسلام ".
(2) التحليل التطبيقي للنصوص. حكيمة محسن. الطبعة الثانية. مكتبة الفكر. بيروت،
لبنان. 1988 م: ص 337.
(3) استناداً إلى السورة نفسها.
(1/53)
ونلاحظ
ههنا أن اسم الأب لم يذكر صراحة في سورة القصص ولا في سواها، غير أن الآثار
الصحيحة وردت بذلك ((1)) .
قضاء سيدنا موسى (- عليه السلام -) الأجل.
قصة إرسال موسى (- عليه السلام -) وكلام الله تعالى له.
إرسال هارون مع موسى (- عليه السلام -) .
أمر فرعون لهامان ببناء الصرح.
إغراق جنود فرعون معه.
المنة على موسى (- عليه السلام -) .
تذكير رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما جرى، وذكر كفر قومه.
صفات المؤمنين.
شروط إهلاك القرى.
آلاء الله عز وجل يوم القيامة.
صفات الله عز وجل.
ذكر قصة قارون.
تذكير رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) بما لله من قوة.
والملاحظ على هذا المخطط الذي يختصر لنا مقاصد سورة القصص أنه يشمل أموراً يرتبط
بعضها ببعض، ويأخذ بعضها برقبة بعض.
__________
(1) ينظر قصص الأنبياء في المرويات الإسلامية: 299، وراجع قصص الأنبياء. الحَافِظ
عماد الدِّيْن إسماعيل بن عمر بن كَثِير القُرَشي الدَّمَشْقي أبو الفِداء. ت 774
هـ. الطبعة الثانية. تحقيق وتعليق: مُحَمَّد عَلِيّ الصابوني. دار القُرْآن
الكَرِيْم. مصر. 1981م: ص224. قصص الأنبياء. عبد الوهاب النجار. مكتبة النهضة
العربية. الطبعة الثالثة. مصر. (د. ت) : ص169، وهو يشكك في ذلك.
(1/54)
ومن قبل
تنبه القدماء لذلك، فقال ابن جماعة المقدسي: " وقد تضمنت سورة القصص جماع قصة
موسى ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ، وجاءت القصة في موضعها ناصعة
كالشمس في رابعة السماء، ثم بعد ذلك أثنى الله جل جلاله على نفسه وعدد على رسوله
(- صلى الله عليه وسلم -) نعمه حتَّى انتهاء السورة " ((1)) .
ويزيد هذا النص المهم وضوحاً ما ذكره بعض الباحثين المحدثين، إذ قال: "
والمتتبع لما احتجنته سورة القصص يجد جانباً من جوانب إبراز النص المكرر بصيغة لا
تشعر بتكراره، ولم يأت ذلك إلا في كلام الله تعالى، فقصة نبي الله موسى (- صلى
الله عليه وسلم -) متفرقة في عدة آيات، إلا أن صيغتها الإلهية في سورة القصص
تجعلها من الروعة بمكان، ثم إن وجه الإعجاز يظهر بعد ذلك في المقارنة القرآنية بين
فرعون وجنوده وقريش وأظن ظناً يقرب من اليقين أن خواتيم سورة القصص التي احتوت على
قصة قارون، هي إشارة لقريش وعظماء أغنياء رجالها بأنهم إن لم يسلموا ويؤمنوا
ويتقوا، فإنهم سيواجهون الخسف ـ مصير قارون ـ وفي ذلك ما يدلنا على الرابط المعنوي
لأوائل السور بنهاياتها، وما فيها من إشارات" ((2)) .
__________
(1) رسالة في فضائل السّور. مُحَمَّد بن إبراهيم بن سَعَد الله بن جماعة. (639 ـ
727) . تحقيق: مُحَمَّد رشاد. الطبعة الأولى. دار الحديث. مصر. 1408 هـ.
رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية. غانم قدوري الحمد. الطبعة الأولى. اللجنة الوطنية
للاحتفال بمطلع القرن الخامس عشر الهجري. مؤسسة المطبوعات العربية. 1402 هـ ـ 1982
م: ص 47-48.
(2) الوحدة الموضوعية في الَقُرْآن الكَرِيم. سليم سليمان. الطبعة الثانية. الدار
التونسية للنشر. تونس. 1988 م: ص391.
(1/55)
ونحن
إِذَا اتجهنا ناحية التوجيه المعنوي لذاتية السورة في محاولتنا لإبراز مكامن
التحليل البحثي لهذه السورة نجد أن آيات سورة القصص تأخذ طريقاً مبيناً في الإيضاح
فقوله تعالى: {َلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
((1)) قد سبك في صياغته اللفظية بجملة غير مسبوقة، في التعبير القرآني
{وَصَّلْنَا} ، واقتران هذا الإيصال والتوصيل بالتذكير بالفعل المضارع يرينا وجهاً
من وجوه آفاق النص القرآني، ويمكن فهم هذا الوجه بأن جملة {لَهُمُ الْقَوْلَ}
مقترنة بما بعدها لا بما قبلها، فينتج عن ذلك أن نخرج بالمعنى العام: إنا نواصل
إرسال رسلنا بكلماتنا للناس كافة لأجل ان يتذكروا الإيمان ((2)) .
وهو بعض ما تنبه له قدماء المفسرين ((3)) ، فإذا ما أخذنا آية أخرى وحاولنا
تحليلها تحليلاً موضوعياً فإننا سنأخذ على سبيل المثال لا الحصر في ذلك قوله
تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ
شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 51.
(2) ينظر الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /177.
(3) جامع البَيَان عَنْ تَأوِيل آي القُرْآن المعروف بتفسير الطَّبَري. أبو جعفر
مُحَمَّد بن جَرِير الطَّبَري. ت 310 هـ. حققه وخرج أحاديثه: محمود مُحَمَّد شاكر.
راجع أحاديثه: أحمد مُحَمَّد شاكر. دار المعارف بمصر ج 8 سنة 1971. ج 11 سنة 1957
م: 8 /199. وقارن مَفَاتِيح الغَيْب: 12/ 262.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(1/56)
فإن
سياق المعنى في الآية هو خطاب أهل مكة من الكفار والمشركين لرسول الله (- صلى الله
عليه وسلم -) ، والملاحظ أن الصيغة التي أتت بها بعض ألفاظها تحمل إعجازاً محسوساً
في حد ذاتها فقوله تعالى: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} يكاد أن يشخص حالهم بين
الخوف والاستهزاء، وهو ماتنبه له بعض المفسرين المعاصرين فقال: " وقوله
تعالى: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} مشعر في جوهره ومضمونه أنهم ـ أي الكفار من
قريش ـ مزجوا رفضهم الانكاري بمحاولة إبراز ما في دواخل أنفسهم من خوف من أنهم
إِذَا ما اسلموا اخرجتهم العرب من الحرم ـ هكذا تصوروا وزعموا ـ فمنّ الله عليهم
بتمكين الحرم، ووصف أكثرهم بعدم العلم " ((1)) .
فتوجيه المعنى واضح هنا كلّ الوضوح في سياقه من سُوْرَة الْقَصَصِ، ونحن في
توجيهنا للمعنى العام نلاحظ أن هنالك تواصلاً بين قصة موسى (- عليه السلام -) وهذه
الآية، فبنو اسرائيل بعد أن أنجاهم الله تعالى من فرعون وجنوده جادلوا رسولهم
ورفضوا دخول الارض المقدسة. والسياق التعبيري القرآني يشعر في بعض معانيه بأن حال
هؤلاء كحال هؤلاء ((2)) ، أي: إن بني إسرائيل كادوا يتخطفون في رفضهم دخول الأرض
المقدسة، وهو أمر إلهي.
__________
(1) تفسير آيات الجدل في القرآن الكريم. حسن رفاعي. الطبعة الأولى. القاهرة. 1994
م.: ص497.
(2) ينظر التفسير الحديث. مُحَمَّد عزة دروزة. الطبعة الرابعة، بيروت، لبنان. 1984
م: 7/118.
(1/57)
ونجد من
هذا التوجيه للمعنى في داخل السورة أن قوله تعالى فيها: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ
بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ((1)) ، يتوجه نحو تقرير موضوع جديد
في النفوس بواسطة ابراز مآل رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، وهي آية طالما
آثارت عند المفسرين نقاشات لإبراز المعاني الأولى، والمعاني الثانية، لا بل
والمعنى الكامن في سياق النص، فقال ابن قتيبة: " معاد الرجل بلده، لانه يتصرف
في البلاد، ثُمَّ يعود إليه. وفي الآية تقديم وتاخير، والمعنى أن الذي فرض عليك
القرآن، أي: جعلك نبياً، ينزل عليك القرآن، وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبياً
يوحى اليك الكتاب، لرادك إلى مكة ظاهراً
قاهراً " ((2)) .
وهو تأويل معنوي يشعر بإحساس ابن قتيبة بتحليل المضمون بدلالة الفظ، بينما يقرر
مفسر من المحدثين في توجيهه للمعنى أنه: " اختلفت الآراء في هذا المعاد الذي
تقرره الآية الكريمة، فقال قوم: أي إلى وطنك مكة.
وقال قوم: أي إلى يوم القيامة.
وعزز الرأي الاول ما تلاها من قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ
بِالْهُدَى} ((3)) ، فإن السياق مشعر بالرأي الاول " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(2) تَأوِيل مُشْكِل القُرْآن. ابن قتيبة أبو مُحَمَّد عَبْد الله بن مسلم. ت 276.
الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد صقر. المكتبة العلمية. المدينة المنورة. 1981 م.: ص
425.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(4) مكامن العرفان في تفسير الَقُرْآن. الشيخ حازم عَبْد الله. الطبعة الأولى.
الدار الإسلامية، بيروت، لبنان. 1995 م: 4 / 266-267.
(1/58)
وهكذا
يستبين لنا أن آفاق النص المفتوح توجه المعاني في تأويله، ومثل ذلك قوله تعالى
فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((1)) ، وهي آية صيغت صياغة جميلة
ذات دلالة على ما يرضي الله عزوجل، غير أن كلمة {الْفَرِحِينَ} تفتح أبواباً
لتفسيرها وتأويلها بين كونها على الحقيقة، أو على المجاز. فقال مجاهد: " يعني
المبذخين الأشرين البطرين الذين لايشكرون الله فيما أعطاهم " ((2)) ، فأول
الفرحين بمن هذه صفتهم، ولا ريب في أن توجيه هذا التأويل يتطلب أن يكون قد تم نقله
من المعنى الحقيقي الذي هو كل فرح ضمن سياق الفرح الانساني. الى المعنى المجازي،
الذي هو: الفرح، كل من أوتي نعمة فكفرها وجحدها وفرح بكفره وجحوده في الدنيا، أو
بمعنى آخر هو أن مجازية معنى (الفرح) انتقلت إلى حال من نهي عن الفرح بما أوتي في
الدنيا، ولم يحبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيتوجه المعنى في ذلك إلى سياق جديد مجازي، وهو ما تنبه عليه بعض الدارسين للنص
القرآني، فقال: " الفرح مفهوم مجازي حقيقته السرور، ومجازه الحب الدنيوي،
والأطمئنان لها، وفي سورة القصص جاء قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ} ((3)) .
وفسرت كلمة {الْفَرِحِينَ} بمعنىالكفار، فنقلت إلى المجاز، ولا ريب أن نقل الكلمة
من الحقيقة إلى المجاز لا يتم الا بقرينة صارفة " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) تفسير مجاهد. مجاهد بن جبر المخزومي التابعي أبو الحجاج. (21 ـ 104) . تحقيق:
عَبْد الرَّحْمَن الطاهر مُحَمَّد السورتي. المنشورات العلمية. بيروت. (د. ت) :
ص490.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(4) الألفاظ الَقُرْآنية بين الحقيقة والمجاز. دراسة نقدية. عَبْد الله إمام عَبْد
الله. الطبعة الأولى. مطبعة الرحمة. القاهرة. 1991 م: ص 322 –323.
(1/59)
ونحن
نعتقد أن الأسلوب القرآني في سورة القصص من أولها إلى أخرها جاء في شكل من أشكال
التعبير الإنسيابي الذي فتح المعنى الكامن في سياق الألفاظ؛ ليتوجه تأويل قدماء
المفسرين ومحدثيهم، فالمعنى في سورة القصص يجري في شكل يأخذ بمجامع القلوب.
وقد تنبه دارسو الأسلوب القرآني على حقيقة ذلك، وقرروا أن نص آيات سورة القصص في
أسلوبه يحمل من أوجه الإعجاز ما يفتح المعاني لتنساب انسياباً وفق البناء اللغوي
المعنوي ((1)) .
وقد وجدنا أثناء التحليل الشمولي لسورة القصص أن في ضمن آياتها معاني لا تتأتى من
مجرد القراءة الأولى ولا الثانية، بل تحتاج إلى قراءات وقراءات ليتفتح للعقل من
إعادة استقرائها استنباط إشارات النص وهو أمر يمس توجيه المعنى يحبث يكون متواصلاً
ومترابطاً معه، ولا بأس باستعراض نموذج سوى ما قدمناه في استعراضنا للنماذج الأخرى
المنتقاة من سورة القصص، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ
مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
((2)) .
فإن سياق الآية في توجيهها المعنوي يختلف عن آيات أخرى جاءت بالمعنى نفسه في مواضع
أخرى من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ((3)) ،
وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ((4)) .
__________
(1) ينظر دراسات في أساليب القرآن الكريم. مُحَمَّد عبد الخالق عظيمة. الطبعة
الثالثة. مَكْتَبَة الخانجي بالقاهرة. 1986 م: 5 / 351.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.
(3) سُوْرَة النَّحْلِ: الآية 8.
(4) سُوْرَة الرَّعْدِ: الآية 16. سُوْرَة الزُّمَرِ: الآية 62.
(1/60)
فإن
قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار} دال على شمولية الخلق وفق المشيئة
الإلهية التي لا اختيار معها، والنصف الثاني من الاية: {مَا كَانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ} دال في معناه المستنبط على أن لا خيار لمخلوق في خلق مع خلق الله
((1)) .
وقد دل العلم الحديث على إعجاز هذه الآية إعجازاً سبق القرن العشرين الميلادي
بخمسة عشر قرناً، ونجد ذلك في النص الآتي الذي يحلل فيه أحد الباحثين هذه الآية:
" وفي القرآن الكريم آيه تفتح معانيها الظاهرة والباطنة (المعاني الكامنة)
أعين المؤمنين والكافرين في الإعجاز الذي تُؤَوَّل وتؤُول إليه وهي: {مَا كَانَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، أي: في الخلق والاختيار فيه، فقد دلت البحوث العلمية
الأكاديمية أن لا إمكانية مطلقاً رغم كل التطور العلمي والتقني لاختيار خارجي في
التكاثر والحمل والإنجاب، بعد أن أثبت العلم الحديث استحالة إيجاد خلق جديد من لا
شيء سوى الانتخاب العلمي، وبهذا فإن الجملة وردت في آية قصيرة سبقت كل علوم الغرب
الحديثة " ((2)) . ونحن إنما نقلنا هذا النص استئناساً به في تحليلنا لعملية
توجيه المعنى في سورة القصص.
المطلب الثاني: توجيه الآيات التي أشكل إعرابها
في سورة القصص
وأثرها في تغيير المعاني
لاحظ القدماء أن الإعراب يدل على المعنى الكامن في الجملة لذلك جعلوا الإعراب كما
يقول الدكتور ثروت سعيد:
__________
(1) الجواهر في تفسير الَقُرْآن الكَرِيم. الشيخ طنطاوي جوهري. الطبعة الثانية.
مطبعة مصطفى البابي الحلبي. مصر. 1350 هـ: 13 / 45.
(2) الَقُرْآن الكَرِيم والعلوم الطبية الحديثة. د. رشدي عبد الحميد. الطبعة
الثانية. الدار العلمية. الكويت. 1416 هـ ـ 1996 م: ص325.
(1/61)
"
باباً للولوج إلى باحة النص وضياءً ينير ظلمة المخفي، فالإعراب ليس كما فهمه بعض
الناس أنه مجرد معرفةُ أماكن الرفع والنصب والخفض، بل هو في حقيقة الأمر مفتاح فهم
النص وتأويله وشرحه " ((1)) .
وقد اهتم القدماء من المفسرين بتوجيه إعراب سورة القصص نحو المبنى والمعنى، وخرجوا
من ذلك بنتائج مهمة جداً على صعيد البلاغة والمعاني ((2)) .
ومن الملاحظ نحوياً أن سورة القصص نصّ متعدد المعاني، لذلك كان اختلاف القدماء
والمحدثين في توجيه الإعراب أحد أسباب (ثراء النص المعرب) رغم إنهم أوجدوا مشكلاً
في الإعراب ـ هكذا بزعمهم ـ ولكن كل ذلك كان في خدمة النصّ القرآني في سورة القصص
في حد ذاتها ((3)) .
وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
__________
(1) أثر الإعراب في علم المعاني. د. ثروت أحمد سعيد. الطبعة الثانية. دار النشر
الحديث. مصر. 1996 م: ص177.
(2) راجع في إعراب سُوْرَة الْقَصَصِ نحوياً وبلاغياً لدى القدماء الكشاف: 3/164.
البحر المحيط: ص104. ومن المحدثين، دراسات في أساليب القرآن الكريم: 5/35.
(3) إعراب القرآن المنسوب للزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل، ت 311 هـ،
تحقيق: إبراهيم الأبياري، الطبعة الثالثة، دار الكتب اللبنانية، 1406 هـ ـ 1986
م.: 1/71، 1/123 و 2/433 و 3/802. البَيَان في غريب إعراب القُرْآن. أبو البركات
الأنباري. ت 577 هـ. تحقيق: طه عَبْد الحميد طه. مراجعة مصطفى السقا. الناشر
الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. مصر. 1390 هـ. 1970 م: 2/329. مشكل إعراب
القُرْآن. مكي بن أَبِي طالب القيسي أبو مُحَمَّد. ت 437 هـ. تحقيق: د. حَاتِم
صالح الضامن. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط2. 1405 هـ: 1 /541.
(1/62)
"
إن في سورة القصص مواطن أشكلت إعرابياً على بعض المعربين القدماء إلا أن ذلك
الإشكال والاختلاف أثرى معاني الآيات، مما جعل المفسرين يستعينون بنتائج تلك
الإشكالات الإعرابية في زيادة المعاني المؤداة. ومن ذلك اختلافهم في إعراب:
{نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} ((1)) ، فقد أشكل في النص إضمار الفاعل (وهو الله جل جلاله) ، فأعرب
بعضهم (نتلو) فعلاً مضارعاً وفاعله محذوف تقديره نحن، ولكن بعضهم أعربوا (نتلو)
بأن فاعله ظاهر، لأنهم لم يستحلوا دينياً أن يقدروا حذف الفاعل في أول النص "
((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) المشكلات الإعرابية في النصّ الَقُرْآني. د. عماد علي خربوطلي. الطبعة
الثانية. مؤسسة النشر الحديث. القاهرة. 1986 م: ص317.
(1/63)
وكل هذا
أدى إلى أن تكون عملية إعراب كلمات آيات سورة القصص ذات خاصية استلهامية في توجيه
معنى النص المعرب، مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ
بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي
كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي
الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} ((1)) ((2)) ، فان
الإعراب هو الذي كشف عن العائد إلى الضمير في {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ
تَقْتُلَنِي} هل هو الإسرائيلي أم هو المصري؟ فإن قوله: {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ
لَهُمَا} ، وهي جملة مكونة من (جار ومجرور للاسم الموصول ومبتدأ وخبره مرتبط ذلك
كلّ بالجار والمجرور (لهما) ، وفاعل هو المراد معرفته) دلت على أن الثاني (أي
المصري الآخر ليس هو الذي يدلّ عليه النص القرآني بصيغة (عدو لهما) أبداً بل هو
الإسرائيلي نفسه ((3)) .
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الله عبد الله:
__________
(1) جامع البيان: 8 /218.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19.
(3) المعاني الكامنة في النصّ الَقُرْآنيّ. دراسة تحليلية. د. عَبْد الله عَبْد
الله. الطبعة الأولى. الدار الجماهيرية. طرابلس. ليبيا. 1412 هـ:: ص318.
(1/64)
"
إن استنباط المعنى من ذاتية الإعراب يفيد في فهم ذات الآية، وهو علم تنبه له
القدماء إلا أنهم لم يطوروه بل نقلوا علم المعاني من علم النحو إلى علوم البلاغة،
ولو أنهم أبقوهما سوياً لما اضطروا إلى التنازع في عائد الضمير في قوله تعالى في
سورة القصص {عَدُوٌّ لَهُمَا} ، فلو أنهم أعربوه فاعلاً مقترناً جاره بضمير موسى
والمصري، لتوصلوا إلى تحديد المراد من خلال دلالة الإعراب، وهناك آيات أخرى لا
يمكن حل مشكلاتها المعنوية إلا بالعودة إلى الإعراب وتوجيه
المعنى " ((1)) .
وقد وجدنا كثيراً من الباحثين يقومون بإعادة إعراب سورة القصص (كاملة) ليستخرجوا
من ذلك دواعي الظواهر التأويلية فافلحوا في ذلك ((2)) .
إن سُوْرَة الْقَصَصِ في حد ذاتها من السور القليلة التي تتميز بانسيابية المعنى
الإعرابي، ويتواصل التوجيه النحوي ـ الإعرابي ـ كما تقدم أيضاً ـ لذلك قمنا في
سياق الرسالة بإعراب كلّ مقطع من مقاطعها، ضمن فصله الخاص به، غير أنا في هذا
المطلب قمنا بعملية توجيه نحوي للدلالة الإعرابية المختلف فيها بين بعض المفسرين
ومشكلاتها لدى بعض المعربين لأجل فهم أدق لما يؤدي إليه اختلاف الإعراب من اختلاف
في المعنى بين الإعراب القديم والتوجيه الحديث، ولم نذكر في توجيهها إلا ما يقتضيه
السياق في بعض الآيات وفق ترتيبها في سُوْرَة الْقَصَصِ لأجل الاستفادة من دلالة
الإعراب، وقمنا بذلك وفق التقسيم الآتي:
ذكر الآية أو بعض الآية موضع الخلاف الإعرابي.
__________
(1) المعاني الكامنة: ص 321.
(2) معجم مفردات ألفاظ الَقُرْآن. أبو القَاسِم بن حسين بن مُحَمَّد المعروف
بالراغب الأصفهاني. ت 502 هـ. تحقيق: نديم المرعشلي. دار الفكر. بيروت. (د. ت) :
ص506. إعراب القرآن وبيانه وصرفه، محيي الدين درويش. دار ابن كثير للطباعة والنشر.
بيروت، لبنان. 1412 هـ.: 5/ 276.
(1/65)
ذكر رأي
أو رأيين أو أكثر في الاختلاف في إعراب الآية.
توجيه الرأي المختار وفق تحليلنا.
وبذلك نكون ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ قد أتممنا الدلالات الإعرابية المختلف
فيها.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب القيسي: " (تلك) في موضع رفع بمعنى هذه تلك، و (آيات)
بدل منها، ويجوز في الكلام أن تكون (تلك) في موضع نصب بـ
(نتلو) وتنصب آيات على البدل من (تلك) " ((2)) .
وقال القرطبي: " (تلك) في موضع رفع بمعنى هذه تلك، و (آيات) بدل منها، ويجوز
أن يكون في موضع نصب بـ (نتلو) ، و (آيات) بدل منها أيضاً، وتنصبها كما تقول:
زيداً ضربت. و (المبين) ، أي: المبين بركته وخيره، والمبين الحق من الباطل،
والحلال من الحرام، وقصص
الأنبياء، ونبوة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - " ((3)) .
وقال محي الدين درويش: " (تلك) مبتدأ، و (آيات الكتاب المبين) خبرها "
((4)) .
وقال محمود صافي: " وجملة (نتلو) لا محل لها، استئناف بياني، أو في محل رفع
خبر المبتدأ (تلك) ، والرابط مقدر، أي: نتلوها … و (آيات) بدل من الإشارة، أو هي
خبر ثان … ويجوز أن تكون في محل نصب حال من (آيات) والعامل الإشارة " ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 2.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 541.
(3) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن (المعروف بتفسير القرطبي) أبو عَبْد الله
مُحَمَّد بن أحمد القرطبي. ت 671 هـ. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد عَبْد العليم
البردوني. مركز تحقيق التراث. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1978 م: 6/ 4963.
(4) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 278.
(5) الجدول في إعراب القُرْآن وصرفه وبيانه. محمود صافي. الطبعة الأولى. دار
الرشيد. دمشق. 1991 م: 20/ 221.
(1/66)
إن
الاختلاف بين المعربين أدى إلى أن يكون إعراب كلمة (تلك) بكونها مرفوعة دال على
الثبات لآيات الَقُرْآن الكَرِيم التي أنزلت، أما إعرابها منصوبة بالفتحة بتقدير:
أعني، فهو تكلف لا يضيف إلى المعنى شيئاً.
{نَتْلُوا عَلَيْكَ} ((1))
قال العكبري: " مفعوله محذوف دلت عليه صفته، تقديره شيئاً من نبأ موسى، وعلى
قول الأخفش (من) زائدة و (بالحق) حال من النبأ " ((2)) .
وقال السمين الحلبي: " ويجوز أن يكون مفعوله محذوف دلت عليه صفته، وهي (مِنْ
نَبَإِ مُوسَى) ، ويجوز أن تكون (من) مزيدة، أي: نتلو عليك نبأ موسى. (وبالحق)
يجوز أن يكون حالاً من فاعل (نتلو) أو من مفعوله، أي: متلبسين أو ملتبساً بالحق،
أو متعلق بنفس (نتلو) يعني نتلوه بسبب الحق " ((3)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) التبيان في إعراب القُرْآن. محب الدِّيْن عَبْد الله بن أَبِي عَبْد الله
الحسين بن أَبِي البقاء عَبْد الله بن الحسين العكبري أبو البقاء. (538 ـ 616) .
تحقيق: عَلِيّ مُحَمَّد البجاوى. إحياء الكتب العربية. (د. ت) : 1 /176.
(3) ينظر الدُّرُّ المَصُوْن في عُلُوْم الكِتَاب المَكْنُوْن. ابن السمين الحلبي.
شهاب الدِّيْن أبو العباس بن يوسف. ت 756 هـ. تحقيق الشيخ عَلِيّ بن معوض. وآخرون.
ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. 1414 هـ. 1993 م: 5/ 331.
(1/67)
ونحن
نرى أن إعراب (نتلو) وتعليقه بما سبق من الكلام على رأي بعض المعربين فيه إبعاد
للمعنى عن وضعه الذي وضع ذلك التقدير له، وذلك إن جعل مفعوله محذوفاً وتقديره
(شيئاً) على رأي العكبري، أوجه في دلالته الإعرابية من باقي الآراء، أما رأي
الأخفش في كون (من) زائدة، فلا يليق بالمقام التفخيمي لألفاظ الَقُرْآن الكَرِيم
حتَّى وإن أتى ذلك التعبير في مقام الإعراب، وأياً ما يكن، فنحن نرجح هنا أن (نتلو)
ـ بعيداً عن الخلاف فيها ـ فعل مضارع مرفوع وأنه لا محذوف في تقديره.
{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " مفعولان لـ (جعل) بمعنى صير، فإن كانت بمعنى خلق تعدت
إلى مفعول واحد " ((2)) .
وقال ابن الأنباري: " نصب (أهلها) و (شيعاً) لأنهما مفعولا (جعل) لأنه بمعنى
صيَّر " ((3)) .
وقال النحاس: " و {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} مفعولان " ((4)) .
وقال محي الدين درويش: " (جعل أهلها) فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول و
(شيعاً) مفعول به ثانٍ " ((5)) .
ونحن نرى أن الدلالة الإعرابية لـ (جعل) في نصبها مفعولين بعدها، أوجبت تصور شدة
الظلم من فرعون، ولا خلاف بينهم في كون (جعل) نصبت مفعولين، إنما الخلاف في كونها
بمعنى (صيّر) ، فدلالة (جعل) غير دلالة (صيّر) وإن كانتا مما ينصب مفعولين من
بعدهما، ففرعون جعل على الحقيقة ولم يصيّر على المجاز، ومن هاهنا كان تقدير الإعراب
على حقيقته خيراً من الاختلاف في كون (جعل) بمعنى (صيّر) كما هو واضح.
{يَسْتَضْعِفُ} ((6))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /541.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 229.
(4) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 542.
(5) إعراب القرآن وبيانه وصرفه: 5/ 279.
(6) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4.
(1/68)
قال
السمين الحلبي: " يجوز فيها ثلاثة أوجه:
الأول ـ إنه مستأنف بيان لحال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً.
الثاني ـ إنه حال من فاعل (جعل) ، أي: جعلهم كذا حال كونه مُسْتَضْعِفَاً طائفة
منهم.
الثالث ـ إنه صفة لطائفة " ((1)) .
وقال الزمخشري: " حال من الضمير في (وجعل) أو صفة لـ (شيعاً) أو كلام مستأنف
" ((2)) .
وقال أبو حيان: " والظاهر أن (يستضعف) استئناف يبين حال بعض الشيع، ويجوز أن
يكون حالاً من مضير " ((3)) .
ونحن نرى مما تقدم في الأوجه الخلافية في إعراب (يستضعف) أنهما جميعاً ذات إثراء
للنص القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ، وإن كنا نرجح كون (يستضعف) حالاً على رأي
الزمخشري، وابن السمين الحلبي، خلافاً لأبي حيان في جعله إياها استئنافاً، وهو
تقدير لا يليق بالكلام الإلهي، لأن بلاغة إعراب النص حالاً أقوى من بلاغة إعراب
النص استئنافاً، وذلك بمعنى أن الفعل المضارع (يستضعف) إذا أعرب حالاً دل على أن
فرعون قام بالاستضعاف حقيقة فعلية، أما إعرابها استئنافاً فليس فيه تلك الدلالة.
{يُذَبِّحُ} ((4))
قال السمين الحلبي: " يجوز فيها ثلاثة أوجه: الاستئناف تفسيراً لـ (يستضعف) ،
أو حال من فاعله، أو صفة ثانية لـ (طائفة) " ((5)) .
__________
(1) ينظر الدُّرُّ المَصُون: 5/ 331.
(2) الكَشَّاف: 3/ 165.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 104.
(4) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 4.
(5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332.
(1/69)
إن
دلالة إعراب (يذبّح) ـ وهو فعل مضارع مضعف للمبالغة ـ في كونه حالاً أبلغ وأشدّ
بلاغة من إعرابه صفة، لأن الصفة هاهنا لا تدلّ على ما يدلّ عليه الحال الذي هو
للاستمرارية والدوام، وذلك لأن الحال في مقاييس الإعراب يتوجه للديمومة الزمنية
خلافاً للصفة التي هي جامدة في كلّ حالاتها الإعرابية، ونحن إذا ما أعربنا (يذبّح)
هاهنا حالاً دللنا على الزمنية المستمرة، أما إعراب ذلك استئنافاً فلا محل له في
أوجه الدلالة الإعرابية، إذ تنتفي بذلك زمنية عملية قيام فرعون بالاستضعاف والقتل
والتذبيح والاستحياء، لأن الاستئناف جملة جديدة بعد قوله تعالى: {علاَ فِي
الأَرْضِ} والجمل الجديدة تستحق أن تعربا حالاً في موقعها.
{وَنُرِيدُ} ((1))
قال السمين الحلبي: " فيه وجهان:
أظهرهما إنه عطف على قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} عطف فعلية على اسمية، لأن كلتيهما
تفسير للنبأ.
والثاني إنه حال من فاعل (يستضعف) وفيه ضعف من حيث الصناعة، ومن حيث المعنى، أما
الصناعة فلكونه مضارعاً مثبتاً فحقه أن يتجرد من الواو وإضمار مبتدأ قبله، أي:
ونحن نريد، ولا حاجة إليه، أما المعنى فكيف يجتمع استضعاف فرعون وإرادة المِنَّة
من الله تعَاَلىَ؟ لأنه متى منَّ الله عليهم تعذر استضعاف فرعون إياهم، وقد أجيب
عن ذلك بأنه لما كانت المِنَّة بخلاصهم من فرعون سريعة الوقوع قريبة جُعلت إرادة
وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم " ((2)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332.
(1/70)
وقال
الزمخشري: " وعطفه على (نتلو) و (يستضعف) غير سديد. قلت: هي جملة معطوفة على
قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ} ، لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً
لنبأ موسى وفرعون، واقتصاصاً له، (ونريد) حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالاً من
(يستضعف) ، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم، فإن قلت: كيف يجتمع
استضعافهم وإرادة الله المّنَّة عليهم، وإذا أراد الله شيئاَ كان ولم يتوقف إلى
وقت آخر؟ قلت: لما كانت مِنَّة الله بخلاصهم من فرعون قرينة الوقوع، جعلت إرادة
وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم " ((1)) .
إن حجج الاختلاف التأويلي في إعراب (ونريد) مما يثري النص القرآني ودلالاته
المتعددة، وذلك أن كونه عطفاً على (إن فرعون) لا يستقيم به المعنى، أما ما يستقيم
به المعنى فهو جعل (ونريد) حالاً لديمومة القدرة الإلهية، لأن الحال كما قدمنا
يدلّ على الاستمرارية، ولا ريب أن عطفه ـ أي النصّ ـ على (ويستضعف) غير سديد
لاختلاف التوجيه في الرفع والنصب، وبذلك يستقيم النصّ إعرابياً.
{قُرَّةُ عَيْنٍ} ((2))
قال مكي: " رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو قُرَّة عَيْنٍ لي. ويجوز أن يكون
مبتدأ والخبر (لا تقتلوه) . ويجوز نصبه بإضمار فعل يفسره (لا تقتلوه) تقديره:
اتركوا قُرَّة عَيْنٍ لا تقتلوه " ((3)) .
وقال ابن الأنباري: " (قُرَّة عَيْنٍ) مرفوع من وجهين: أحدهما أن يكون
مرفوعاً لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو قُرَّة عَيْنٍ. والثاني: أن يكون مرفوعاً
لأنه مبتدأ، و (لا تقتلوه) خبر " ((4)) .
__________
(1) الكَشَّاف: 3 /165.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 9.
(3) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 547.
(4) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 229 –230.
(1/71)
وقال
النّحاس: " قال الكسائي: المعنى هذا قُرَّة عَيْنٍ لي ولكَ، وقال أبو جعفر:
وفي رفعه وجه آخر بعيد ذكره أبو إسْحًاق: يكون رفعاً بالابتداء والخبر (لا تقتلوه)
، وإنما بَعُدَ لأنه يصير المعنى: إنه معروف بأنه قُرَّة عَيْنٍ له، وجوزاه أن
يكون المعنى: إذا كان قُرَّة عَيْنٍ لي ولك فلا تقتلوه، ولم تقل نقتله، وهي تخاطب
فرعون كما يخاطب الجبارون، وكما يخبرون عن أنفسهم (وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) يكون
لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون لقوم فرعون، أي: لا يشعرون أن يسلبهم مُلكهم ((1)) .
وقال العكبري: " أي هو قُرَّة عَيْنٍ و (لي ولك) صفتان لـ (قُرَّة) "
((2)) .
وقال أبو حيان: " و (قُرَّة) خبر مبتدأ محذوف، أي: هو قُرَّة، ويبعد أن يكون
مبتدأ والخبر (لا تقتلوه) " ((3)) .
وقال الحلبي: " (قُرَّة عَيْنٍ) فيها وجهان أظهرهما أنه خبر مبتدأ أي: هو
قُرَّة عَيْنٍ. والثاني ـ وهو بعيد جداً ـ أن يكون مبتدأ والخبر (لا تَقْتُلُوهُ)
وكأن هذا القائل حقه أن [لا] يذكر فيقول لا تَقْتُلُوها إِلاَّ أنه لما كان المراد
مذكراً ساغ ذلك " ((4)) .
وعلى الرغم من هذا الخلاف الواسع في إعراب (قُرَّة عَيْنٍ) فإن جعل المضاف والمضاف
إليه رفعاً على المبتدأ والخبر مما يستقيم به النص في دلالاته، وذلك أن الرفع أقوى
تقديراً من حالتي النصب والجر وكون المرفوع المبتدأ مضافاً لا يستلزم له تقدير
محذوف أو محذوفين، على رأي الكسائي في تقديره، وأبي حيان في تقديره أيضاً، فإهمال
التقدير في إعراب أوجه من تكلف ما لا يحتاجه النص القرآني التام.
__________
(1) إعراب القرآن (النحاس) : 2/ 543- 544.
(2) التبيان في إعراب القرآن: 1/ 176.
(3) البَحْر المُحِيْط: 7/ 106.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 332 – 333.
(1/72)
وإن هذا
الاختلاف في إعراب (قُرَّة عَيْنٍ) يستنتج منه أن جعل الجملة (مضافاً ومضاف إليه)
هو أرجح الأقوال عندنا لأنه يدلّ على القوة في إقناع امرأة فرعون لفرعون بدلالة
الرفع دون أن نقدر أي محذوف.
{لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (أن) في موضع رفع والجواب محذوف " ((2)) .
وقال النَّحَّاس: " (أنْ في موضع رفع، وحُذف الجواب لأَنَّهُ قد تقدم ما يدلّ
عليه، ولا سيما وبعده {لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} " ((3)) .
وقال السمين الحلبي: " جوابها محذوف، أي: لأبدت {لِتَكُونَ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ} متعلق بـ (ربطنا) ، والباء في (به) مزيدة، أي: لتُظْهِرَه. وقيل:
ليست زائدة بل سببية، والمفعول محذوف أي: لتُبْدي القول بسبب موسى أو بسبب الوحي،
فالضمير يجوز عوده على موسى أو على الوحي " ((4)) .
ونحن نرى أن المعنى الذي أوجبه اختلاف موضع التقدير في مرفوع (أن) يتوجه إِلى
أَنَّ أم موسى اطمأنت بإيمانها بالربط على قلبها دون أنْ نقدر المحذوف الذي قدره
ابن السَّمِين الحَلَبِي (أبدت) لأَنَّهُ يخل بالمعنى، وفيه زيادة على النص لا
داعي لها.
{بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((5))
قال مكي بن أبي طالب: " (أشدّه) عند سيبويه وزنه أَفْعُل، وهو عنده جمع شدّة،
كنعمة وأنعم، وقال غيره هو جمع شدّ من قدّ واقد. وقيل: هو واحد وليس في الكلام اسم
مفرد على أفعل بغير هاء إلا اصبعاً في بعض لغاته " ((6)) .
وقال الأَنْبَارِي: " أشد جمع فيه ثلاثة أوجه:
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 10.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(3) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 544.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 333.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 14.
(6) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.وينظر إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2 /545.
(1/73)
الأول:
أن يكون جمع (شِدّة) كنِعْمَة وأنعم، وأصل أشدّ أشدُد على وزن أفعل، إلاَ أَنْه
اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد في كلمة واحدة، فسكنوا الأول وأدغموه في الثاني.
وقيل: أشدّ جمع شدّ نحو قدّ وأقُدّ
الثالث: أن يكون واحد ليس في الأسماء المفردة ما هو على وزن أفعُل ألا أصبع في بعض
اللغات" ((1)) .
والاختلاف الصرفي في تقدير وزن (أشده) إنما يستقيم تصريفه على رأي سيبويه في جعله
له جمع شدة خلافاً للباقين الذين قدروا فيه عدة وجوه، منها ألا يكون له جمع كما
ذكر ابن الأَنْبَارِي، وكذلك زعمهم أنه على زنة أفعل، وكل ذلك تكلف في التقدير
الصرفي، أما إعرابه فهو مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره،
وتقديره هو، أي: لما بلغ أشده هو على رأي النحاة.
{يَقْتَتلاَنِ} ((2))
قال السمين الحلبي: صفة لرجلين. وقال ابن عطية: حال منهما وسيبويه وإن كان جَوَّزَها
من النكرة مطلقاً إلاَ أَنْ غيره ـ وهم الأكثر ـ يشترطون فيها ما سيُسَوِّغُ
الابتداء بها ((3)) .
إِنَّ دلالة كون (يقتتلان) في الاختلاف الإعرابي ذات توجيه للمعنى كون إعراب
الكلمة صفة أبلغ من إعرابها حالاً، والرأي الذي ذكره سيبويه فيه توجيه للمعنى كون
النكرة المطلقة تفيد عموم القتال بين الاثنين، وإن كانت العرب لا تجوز الابتداء
بالنكرة في ذلك.
__________
(1) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 15.
(3) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 335. وينظر المُحَرِّر الوَجِيْز في تَفْسِير الكِتَاب
العزيز (المعروف بتفسير ابن عطية) . عَبْد الحق الغرناطي الأندلسي ابن عطية أبو
مُحَمَّد. ت 541 هـ. تحقيق: عَبْد الله بن إبراهيم الأنصاري. ورفيقه مؤسسة دار
العُلُوْم. الدوحة. ط1. 1404 هـ. 1984 م: 12 /151.
(1/74)
يعدّ
رأي سيبويه الراجح في أَنَّ التوجيه الدلالي للمعنى أنما جعل الصفة أبلغ من الحال
والمعلوم أَنَّ يقتتلان فيه فعل مطاوعة ومشاركة فيقارب المعنى أن يكون عموم القتال
في كون الصفة أنما لازمت (يقتتلان) بدلالة الآية الأخرى حيث كان الإسرائيلي يقاتل
القبطي الآخر مرة أخرى، فدلّ ذلك على ملازمة صفة القتال عدة مرات للإسرائيلي أي إن
القتال صار طبعاً له.
{وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " أي من أعدائه، ومعناه إذا نظر إليهما الناظر قال ذلك
" ((2)) .
وقال الأَنْبَارِي: " أراد بهما حكاية حال كانت فيما مضى كقوله تعالى:
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} ((3)) ، فأعمل اسم الفاعل وإن
كان لماضي على حكاية الحال من (عدوه) ، أي: من أعدائه، وهو يصلح للواحد والجمع
" ((4)) .
وقال النَّحَّاس: " ابتداء وخبر، والمعنى إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من
شيعته، أي: من بني إسرائيل {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} ، أي: من قوم فرعون، وعدوّه
بمعنى أعداء، وكذا يقال في المؤنث: هي عدو لك ومن العرب من يدخل الهاء في المؤنث
هي عدو لك، لأنه بمعنى معادنه عند البصريين وعند
الكوفيين " ((5)) .
إن رأي ابن الأَنْبَارِي يفيد معنى الدوام كون الحال لما مضى يفيد الدوام. إن جذور
العداء بين القبط وبني إسرائيل متأصلة في القدم، أما رأي النَّحَّاس فيفيد قصر
المعنى على المبتدأ والخبر في وقته ـ أي وقت موسى (- عليه السلام -) ـ فكانت
الرسالة الإعرابية في كون {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} للحال الماضي أبلغ وأتم لواقع
النص القرآني.
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 15.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(3) سُوْرَة الكَهْفِ: الآية 18.
(4) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230.
(5) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 546.
(1/75)
قال
النَّحَّاس: " فيه قولان أحدهما أنه بمعنى الدعاء، وهذا قول الكسائي،
والفرّاء. وقدّره الفرّاء بمعنى اللهم فلن أكون ظهيراً للمجرمين والقول الآخر
أَنه بمعنى الخبر. وقال أبو جعفر: إِنْ يكون بمعنى الخبر أولى وأشبه بنسق
الكلام " ((1)) .
وقال العكبري: " (بما أنعمت) يجوز أن يكون قسماً والجواب محذوف، و (فلن أكون)
تفسير له، أي: لأتوبنّ، ويجوز أنْ يكون استعطافاً، أي: كما أنعمت عليّ فاعصمني فلن
أكون " ((2)) .
وقال الزمخشري: " يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف تقديره أقسم بإنعامك عليّ
بالمغفرة لأتوبنّ {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} وأن يكون استعطافاً
كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيراً
للمجرمين " ((3)) .
{بِمَا أَنْعَمْتَ} يجوز في الباء أن تكون قسماً والجواب لأتوبنَّ مقدراً ويفسره
(فَلَنْ أَكُونَ) وأن تكون متعلقة بمحذوف ومعناها السببية، أي: اعصمني بسبب ما
أنعمت به عليّ، ويترتب عليه قوله {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} . و (ما) مصدرية، أو
بمعنى الذي والعائد محذوف. وقوله: (فَلَنْ) نفي على حقيقته. وزعم بعضهم أَنه دعاء،
وأَنَّ (لن) واقعة موقع (لا) ، وأجاز قوم ذلك مستدلين بهذه الآية، وبقول الشاعر
((4)) :
لنْ تزالوا كذاكُمْ ثُمَّ لا زِلتَ لهم خالداً خُلود الجبالِ ((5))
__________
(1) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 547.
(2) التبيان في إعراب القرآن: 1/ 177.
(3) الكَشَّاف: 3 /169.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 335.
(5) البيت للأعشى، ينظر ديوان الأعشى. تحقيق: المحامي فوزي عطيوي. الشركة اللبنانية
للكتاب. بيروت. لبنان 1968 م: ص 169.
(1/76)
والذي
أراه أَنَّ الراجح هو رأي من قال إن الجملة (قسم) بدلالة الباء في
(بما) وليس استعطافاً دعائياً وإن احتملت الجملة ذلك، وسبب ترجيحنا لكون (بما
أنعمت) دعاء هو أن الباء باء القسم التي تجر (ما) في كلّ حالاتها.
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (خائفاً) خبر (أصبح) وإن شئت على الحال، و (في
المدنية) خبر " ((2)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " (خائفاً) منصوب لأنه خبر (أصبح) ، ويجوز أن يكون
(في المدينة) خبرها، و (خائفاً) منصوب على الحال " ((3)) .
قال السمين الحلبي: " (يترقب) يجوز أن يكون خبراً ثانياً وأن يكون حالاً
ثانية، وأن يكون بدلاً من الحال الأولى، أو الخبر الأول، أو حالاً من الضمير في
(خائفاً) فتكون متداخلة. ومفعول (يترقب) محذوف، أي: يترقب المكروه أو الفرج أو
الخبر هل وصل لفرعون أم لا؟ " ((4)) .
ونحن نرجح الرأي الذي يجعل الجملة حالية لأنها أقوى في دلالة المعنى من كلّ الآراء
الأخرى، لأن الحال يدلّ على الاستمرارية في كون فترة بقائه (- عليه السلام -) في
المدينة كلّ الوقت بخوف وتوجس، فلو أعربناها صفة لكان المعنى أَنه خاف مرة وترقب
مرة، وهذا ما لا يدلّ عليه النصّ القرآني.
{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} ((5))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /230- 231. وينظر إعراب القرآن
(النَّحَّاس) : 2/ 547.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 336.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.
(1/77)
قال مكي
بن أبي طالب: " (الذي) مبتدأ وما بعده صلته، و (يستصرخه) الخبر، ويجوز أن
تكون إذاً هي الخبر و (يستصرخه) حال " ((1)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " (الذي) في موضع رفع لأنه مبتدأ. وفي خبره وجهان:
أولهما ـ أن يكون خبره (يستصرخه) .
ثانيهما ـ أن يكون خبره (إذا) و (يستصرخه) في موضع نصب على الحال " ((2)) .
قال النَّحَّاس: " (أمس) إذا دخلت عليه الألف واللام تمكنّ وأعرب عند أكثر
النحويين، ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام، وإذا أضيف أو نُكِرَ تمكن أيضاً،
والصلة في بنائه عند مُحَمَّد بن يزيد أن تصريفه ليس كتصريف المتمكنات، فوجب أنْ
يبنى ولا يعرب، فكسر أخره لالتقاء الساكنين. ومذهب الخليل أن الياء محذوفة منه.
وللكوفيين فيه قولان: أحدهما أنه منقول من قولهم أَمسى بخير، والآخر أن خِلقة
السين الكسر، هذا قول الفراء، وحكى سيبويه وغيره أن من العرب من يجري أمسى مجرى ما
لا ينصرف في موضع الرفع خاصة " ((3)) .
إِنْ إعراب (الذي) مبتدأ هو أوجه الأقوال لأن الرفع فيه يدلّ على الفاعلية، والخبر
هو (يستصرخه) . والتقدير: الذي هو يستصرخه. وإنما حذف (هو) وجعل تقديراً.
وأما إعراب (بالأمس) فهو جار ومجرور في موضع الظرف الزمني حالاً، وهذا ما نذهب
إليه هاهنا في كون المعنى دلّ على أن الذي استنصره في اليوم الماضي هو نفسه الذي
استنصره اليوم، بسوء فعله في قتاله القبطي، فكان إعراب الآية في كونها في موضع
الحال مما يدلّ على أن خلق الإسرائيلي هو هو لم يتبدل.
{قَالَ لَهُ مُوسَى} ((4))
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542.
(2) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 231. وينظر إعراب القرآن
(النَّحَّاس) : 2/ 547.
(3) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 549.
(4) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 18.
(1/78)
قال أبو
حيان: " الظاهر أن الضمير في (له) عائد على الذي {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}
بكونك كنت سبباً في قتل القبطي بالأمس، قال ذلك على سبيل العتاب والتأنيب. وقيل:
الضمير في (له) والخطاب للقبطي ودل عليه قوله (يستصرخه) ولم يفهم الإسرائيلي أن
الخطاب للقبطي " ((1)) .
وقال القرطبي: " أي إنك لغويّ في قتال من لا تطيق دفع شره عنك " ((2)) .
الذي يدلّ عليه السياق الإعرابي أن المتكلم هو الإسرائيلي خلافاً لمن قال إنه
القبطي لأن بعدها: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا
بِالأَمْسِ} ، فاستخدم الاستفهام و (أن) المصدرية هنا بعدها، والفعل الماضي مع تاء
الخطاب، والجار والمجرور (بالأمس) فيدل على أن المتكلم هو الإسرائيلي الذي هو من
شيعته، وليس القبطي، فما أدرى القبطي أن موسى قتل نفساً بالأمس، وهذا من توجيه الإعراب
للمعنى في سُوْرَة الْقَصَصِ.
{يَسْعَى} ((3))
قال السمين الحلبي: " يجوز أن يكون صفة وأن يكون حالاً، لأن النكرة قد تخصصت
بالوصف بقوله {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} ، فإن جعلت (مِنْ أَقْصَى) متعلقاً بـ
(جاء) فـ (يسعى) صفة ليس إلا، قاله الزمخشري بناء على مذهب الجمهور، وتقدم أن
سيبويه يجيز ذلك من غير شرط، وفي سورة (يس) قدّم {مِنْ أَقْصَى} على {رَجُلٍ}
((4)) لأنه لم يكن من أقصاها، وإنما جاء منها، وهنا وصفه بأنه من أقصاها وهما
رجلان مختلفان وقضيتان متباينتان " ((5)) .
__________
(1) البَحْر المُحِيْط: 7/ 110.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4981.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 20.
(4) سُوْرَة (يس) : الآية 20.
(5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 337.
(1/79)
إِنَّ
الفعل المضارع (يسعى) هاهنا في إعرابه صفة لا يصلح دلالة أن يعرب عليها، بل إن
إعرابه حالاً أبلغ في الدلالة الإعرابية من النعت، وهي في كلّ الأحوال متعلقة
بالفعل الماضي، والفاعل (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) والدلالة
الإعرابية أوضح في الحالية منها في الصفة.
يدلّ الفعل (يسعى) على أنه صفة للرجل، و (مِنْ أَقْصَى) متعلق به، وبـ (جاء) ،
والرجل إنما قدم مرة واحدة، فكان إعراب ذلك صفة أوجب في دلالة المعنى ليدلّ على
كون المجيء في وقت بعينه.
{تَذُودَانِ} ((1))
قال السمين الحلبي: (تَذُودَانِ) صفة لـ (امرأتين) لا مفعول ثاني، لأن
(وَجَدَ) بمعنى لقي، والذّودُ الطرد والدفع، وقيل: حَبَسَ ومفعوله محذوف أي
تَذُودَانِ الناس عن غنمهما أو غنمها عن مزاحمة الناس (من دونهم) ، أي: من مكان
أسفل من مكانهم.
وقال الزمخشري: " فإن قلت لم ترك المفعول غير مذكور في (يسقون) و
(تَذُودَانِ) و (لا نسقي) ؟
قلت: لأن الغرض هو الفعل لا المفعول، وكذلك قولهما: (لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعَاءُ) المقصود منه السقي لا المسقي ((2)) .
إِنَّ اختلاف إعراب (تَذُودَانِ) بين الصفة والمفعول خلاف لا يعتدّ به، لأَنَّ
الرأي الذي يجعل الكلمة مفعولاً ثانياً بعيداً عن الدلالة، أما إعرابها صفة فهو
الذي يجعل النصّ ظاهر المعنى، والصفة لـ (امرأتين) هي الأرجح إعرابياً.
{تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((3))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 23.
(2) ينظر الكَشَّاف: 3/ 169. الدُّرُّ المَصُون: 5/ 338.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 25.
(1/80)
قال مكي
بن أبي طالب: " (تَمْشِي) في موضع الحال من إحداهما، والعامل فيه (جاء) و
(عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال من المضمر في (تَمْشِي) والعامل فيه (تَمْشِي)
، ويجوز أن يكون (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال المقدمة من المضمر في (قالت)
والعامل فيه (قالت) ، والأول أحسن " ((1)) .
قال أبو حيان: " في الكلام حذف، والتقدير: فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في
السقي وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما، و (عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) في موضع الحال، أي:
مستحيية متحفزة " ((2)) .
إِنَّ الدلالة الإعرابية الممتزجة بمعاني البلاغة الكامنة في قوله تعالى:
{تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} واضحة جداً، فالدلالة الإعرابية للفعل المضارع ثُمَّ
ما أعقبه من حروف الجر والمصدر المزيد بالألف والسين والتاء، وزيادة المباني تدلّ
على زيادة المعاني ـ كما قال أهل العربية ـ كلّ ذلك جعل الجملة حالية ـ كما قال
مكي بن أبي طالب رَحِمَه الله ـ وأجاد في هذا القول خلافاً لبعض من أعربها خلاف
ذلك، ولا تعلق لـ (قالت) بما تقدم، فإن في ذلك تكلفاً في الإعراب وفي التقدير
الإعرابي.
{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} ((3))
قال السمين الحلبي: " (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) في موضع نصب على الحال إما من
الفاعل أو من المفعول، أي: مشروطاً عليّ أو عليك ذلك و (تَأْجُرَنِي) مضارع
أجَرْتُه: كنت له أجيراً، ومفعوله الثاني محذوف، أي: تَأْجُرَنِي نفسك. و
(ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرف له ((4)) .
ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنها هي المفعول الثاني ((5)) .
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 542 – 543.
(2) البَحْر المُحِيْط: 7/ 114.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 27.
(4) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339.
(5) البَحْر المُحِيْط: 7/114.
(1/81)
قلت:
الزمخشري لم يجعلها مفعولاً ثانياً على هذا الوجه، وإنما جعلها مفعولاً ثانياً على
وجه أخر، وأما على هذا الوجه فلم يجعلها غير ظرف، وهذا نصّه ليتبين لك، قال:
" تَأْجُرَنِي من أَجَرْتُه كنت له أجيراً كقولك: أَبَوْتَه إذا كنت له أباً،
و (ثَمَانِيَ حِجَجٍ) ظرف أو مِنْ أجَرْتُه كذا إذا أثبته إياه، ومنه تعزية
الرَّسُول (- صلى الله عليه وسلم -) : ((أجركم الله ورحمكم)) ((1)) ، و (ثَمَانِيَ
حِجَجٍ) مفعول به.
وكيف يستقيم ذلك أو يتجه؟ وانظر إلى الزمخشري كيف قدّر مضافاً ليصبح المعنى به،
أي: رعي ثَمَانِيَ حِجَجٍ لأن العمل الذي تقع به الإنابة لا نفس الزمان فكيف يوجه
الإجارة على الزمان " ((2)) ؟
إِنَّ الجملة الإعرابية (عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي) انما كانت منصوبة الإعراب نحواً
ولغة لأن مفهوم النصّ في إعرابها حالاً هو الأقوى في العربية من إعرابها صفة، فكما
قدمنا أن الحال أقوى في الاستدلال به من أي ظاهرة أخرى، لأن الحال للدوام المتجدد،
لذلك كان قوله (أَنْ تَأْجُرَنِي) حال من المصدر (إيجارك لي) ، وهو أبلغ في
السياق.
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " (ذلك) مبتدأ وما بعده خبره، ومعناه عند سيبويه ذلك
بيننا " ((4)) .
وقال الزمخشري: " (ذلك) مبتدأ و (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) خبره، وهو إشارة إلى ما
عاهده عليه شعيب، يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشاطرتني عليه" (5) .
__________
(1) لم اقف عليه في كتب الحديث. وقد ذكره الزمخشري في الكَشَّاف: 3 /172.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339. وينظر أيضاً الكشاف: 3 /172.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 28.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543.
(5) الكَشَّاف: 3 /173.
(1/82)
إِنَّ
دلالة الفعل الماضي (قال) في اقترانه بالمبتدأ يدلّ على استمرارية العهد في
الإيجار، وتقدير سيبويه (ذلك بيننا) مبتدأ وخبر هو التقدير الأصوب لأنه يدلّ على
العهد بين الاثنين، لأن موسى (- عليه السلام -) وفقاً لهذه الآية إنما أتم الإيجار
الأوفى الأتم والأكمل لقوله (بيني وبينك) على ما يدلّ عليه السياق الإعرابي للعهد
الذي تقدم ذكره.
{أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " نصبت (أي) بـ (قضيت) ، و (ما) زائدة للتأكيد وخفضت
(الأجلين) بإضافة أي إليهما. وقال ابن كيسان: (ما) في موضع خفض بإضافة (أي) إليها،
وهي نكرة، و (الأجلين) بدل من (ما) " (2) .
وقال الزمخشري: " وفي قراءة عَبْد اللَّهِ بْنَ مَسْعُود: (أيّ الأجلين مَا
قضيت) ، وقريء (أيْما) بسكون الياء … فإن قلت: ما الفرق بين موقعي (ما) المزيدة في
القراءتين؟ قلت: وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام أي زائدة في شياعها، وفي الشاذة
تأكيد القضاء كأنه قال: أي الأجلين صممت على قضائه " ((3)) .
وقال القرطبي: " (أيما) استفهام منصوب بـ (قضيت) و (الأجلين) مخفوض بإضافة
(أي) إليهما، و (ما) صلة للتأكيد، وفيه معنى الشرط وجوابه (فلا عدوان) ، وأن
(عدوان) منصوب بـ (لا) " ((4)) .
(أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ) (أي) شرطية وجوابها (فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ) وفي (ما)
هذه قولان:
أشهرهما أنها زائدة كزيادتها في أخوتها من أدوات الشرط، والثاني أنها نكرة، و
(الأَجَلَيْنِ) بدل منها ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 28.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543. البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/
231.
(3) الكَشَّاف: 3/ 174.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 4995.
(5) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 339.
(1/83)
إِنَّ
إعراب (أي) مفعولاً مقدماً هو الوجه الراجح، أما كون (ما) زائدة، فلسنا ممن يقول
بالأحرف الزائدة في الَقُرْآن الكَرِيم، وهي مضافة إلى الأجلين، والتقدير: أي
الأجلين، وليست مضافة إلى (ما) لأن دلالة ما اخترناه من الإعراب تزيل الإشكال
الإعرابي الموجود، وبذلك تستقيم الجملة في دلالتهما الإعرابية في موقعها ليكون
المعنى: أي أجل من الأجلين اخترته فهو لك بالخيار، وهذا مما يوجه المعنى نحوياً.
{أَنْ يَا مُوسَى} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (أن) في موضع نصب بحذف حرف الجر، أي: بأن يا موسى
" ((2)) .
إننا نرى أن (أن) هنا منصوبة على تقدير (أعني) لا على تقدير (حذف حرف الجر الباء)
فذلك تكلف، وبما اخترناه يكون جعلها منصوبة أوجه في العربية ليستقيم فهم المعنى
بنصبها نحوياً ليكون المعنى أكثر قوة من حذف حرف الجر بتقدير (النداء) .
{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " هو تثنية (ذا) المرفوع، وهو رفع بالابتداء، وألف (ذا)
محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ومن قرأه بتشديد النون فإنه جعل التشديد عوضاً من
ذهاب ألف (ذا) … إنما شدد النون في هذه المبهمات ليفرق بين النون التي هي عوض من
حركة وتنوين، أو من تنوين، وذلك موجود في الواحد، أو مقدر فيه … وقيل: شددت للفرق
بين النون التي تحذف في الإضافة، والنون التي لا تحذف في الإضافة أبداً، وهي نون
تثنية المبهم " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 543. وينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/
4999.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 32.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 544 – 545.
(1/84)
وقال
القرطبي في تعليل تشديده خمسة أقوال: " قيل: شدّد النون عوضاً من الألف
الساقطة في (ذَانِكَ) الذي هو تثنية (ذا) المرفوع، وهو رفع الابتداء، وألف (ذا)
محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين لأن أصله (فَذَانِكَ)
، فحذف الألف الأولى عوضاً من النون الشديدة. وقيل: التشديد للتأكيد كما أدخلوا
اللام في ذلك وقيل: إن من شدّد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك، فلما بنى
أثبت اللام بعد نون التثنية، ثُمَّ أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في
الأول، والأصل أن يدغم الأول أبداً في الثاني إلاّ أن يمنع من ذلك علة، فيدغم
الثاني في الأول، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك
لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة، فيتغير لفظ التثنية، فأدغم
الثاني في الأول لذلك، فصار نوناً مشددة. وقد قيل: إنه لما تنافى في ذلك أثبت
اللام قبل النون، ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام، فصار نوناً مشددة.
وقيل: شددت فرقاً بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه، لأن (ذان) لا يضاف.
وقيل: للفرق بين الاسم المتمكن وبينها " ((1)) .
وقد أختلف المعربون في تقدير إعراب (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ) فقيل: إنهما رفعا
بالابتداء والخبر. أما تشديد النون فهو قراءة، والقراءة سنة متبعة، والتشديد قد
يدلّ في العربية بزيادته على زيادة في المعنى غير موجودة في التحقيق، وتقدير
الجملة: هذان برهانان، ولكن النون والكاف الإشارية أبلغ مما قدرناه وبهما جاء النص
القرآني.
{فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً} ((2))
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5002.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 34.
(1/85)
قال مكي
بن أبي طالب: " (ردءاً) حال من (الهاء) في (أرسله) وكذلك (يصدقني) حال في
قراءة من رفعه، أو نعت لـ (ردءاً) ، ومن جزمه فعلى جواب الطلب " ((1)) .
وقال القرطبي: " أختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في (أرسله) ، أي:
أرسله ردءاً مصدقاً حالة التصديق، ويجوز أن يكون صفة لقوله (ردءاً) " (2) .
تقدير (ردءاً) حالاً هو الوجه المستقيم في الدلالة الإعرابية، لهذه الآية، أما
(يصدقني) فهي صفة (نعت) وليست حالاً كما زعم بعضهم وليست مجزومة إلاّ في بعض
القراءات، والقراءة سنة متبعة لا تناقش ولا تعلل، إلاَ أَن دلالة فعل الأمر الطلبي
في الدعاء (فأرسله) ، وجعله حالاً لـ (يصدقني) قد يحمل بعض معاني الإلحاح في الطلب
من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يتوجه له إعراب الآية في دلالتها.
{بِآيَاتِنَا} ((3))
قال السمين الحلبي: (بِآيَاتِنَا) يجوز فيه أوجه: أن يتعلق بـ (جعل) أو بـ (يصلون)
وبمحذوف، أي: أذهب، أو على البيان، فيتعلق بمحذوف أيضاً، أو بـ (الغالبون) على أن
(أل) ليست موصولة أو محولة، واتبع فيه ما لا يتبع في غيره، أو قسم وجوابه متقدم،
وهو (فلا يصون) أو من كَفْوِ القسم قالهما الزمخشري، ورد عليه أبو حيان بأن جواب
القسم لا يدخله الفاء عند الجمهور، ويريد بالقسم أن جوابه محذوف، أي: وحق آياتنا
لتغلبن ((4)) .
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /545.
(2) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5004.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 35.
(4) ينظر الكَشَّاف: 3 /176. البَحْر المُحِيْط: 7/ 115. الدُّرُّ المَصُون: 5/
345.
(1/86)
الوجه
أن تعرب (بِآيَاتِنَا) متعلقة بالجار والمجرور، والضمير الخاص بالمتكلمين هو أكثر
دلالة في العربية على كون الآيات مستمرة في السريان على يد موسى (- عليه السلام -)
وأخوه من فرعون وملأه بآيات الله، وإنما صيغت الجملة على صيغة التعظيم والتفخيم
لتكون أكثر دلالة.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " انتصب (يوم) على أنه مفعول به على السعة، كأنه قال:
واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة، ثم حذفت اللعنة لدلالة الأولى
عليها، وقام يوم قيامها، وانتصب انتصابها ويجوز أن تنصب اليوم على أن تعطفه على
موضع في هذه الدنيا … ويجوز نصب (يوم) على أنه ظرف للمقبوحين، أي: وهم من
المقبوحين يوم القيامة ثم قدم الظرف " ((2)) .
وزاد ابن الأَنْبَارِي على ما تمّ ذكره أن يكون منصوباً بما يدلّ عليه قوله
(مِنْ الْمَقْبُوحِينَ) لأن الصلة لا تعمل فيما قبل الموصول " ((3)) .
والذي يبدو لي أن إعرابه ظرفاً أرجح لدلالته الظرفية.
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ}
قال السمين الحلبي: فيه أوجه:
أحدهما أن يتعلق بـ (الْمَقْبُوحِينَ) على أن (أل) ليست موصولة واتسع فيها، وأن
يتعلق بمحذوف يفسره (الْمَقْبُوحِينَ) كأنه قيل: وقُبِّحُوا يوم القيامة نحو: {لِعَمَلِكُمْ
مِنَ القَاليْنَ} ((4)) أو يعطف على موضع (في الدنيا) ، أي: واتبعناهم لعنة يوم
القيامة، أو معطوفة على (لعنة) على حذف مضاف، أي: لعنة يوم القيامة.
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 42.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 545- 546.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /34. وينظر الجَامِع لأِحْكَام
القُرْآن: 6/ 5006.
(4) سُوْرَة الشُّعَرَاءِ: الآية 168.
(1/87)
والوجه
الثاني أظهرها، والمقبوح المطرود قبحه الله وطرده ((1)) .
تدلّ الآية في سياقها الإعرابي على أن الظرف (يوم) أعطى لمعنى الآية معنى أخر، هو
أن الكفرة قبحوا يوم القيامة بما ارتكبوه في الدنيا بدلالة (هم) مع الظرف الزماني.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ
الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} ((2))
قال مكي بن أبي طالب: " نصب كله على الحال من (الكتاب) " ((3)) . وقال
أبو حيان: " (بصائر) على الحال، أي: طرائق هدى يستبصر بها " ((4)) .
إن إعراب (بَصَائِرَ) و (هدى) و (رحمة) أحوالاً متوالية متتالية هو الصواب في
الدلالة الإعرابية، أما موسى (- عليه السلام -) فمفعول أول، و (الكتاب) مفعول
ثانٍ، و (القرون) مفعول به و (الأولى) صفة له، والتقدير: نحن أنزلنا على موسى ـ
عَلَيْه الصَلاة والسَّلام ـ التوراة بعد هلاك الأمم بصائر وهدى ورحمة. فاستغنى
اللفظ القرآني المعجز عن هذه الإطالة بما أنزله الله جَلَّ جَلاَله، وهذا بعض ما
دلت عليه الدلالات الإعرابية للآية.
{وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ((5))
__________
(1) الدُّرُّ المَصُون: 5 /445.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 43.
(3) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 546.
(4) البَحْر المُحِيْط: 7/ 121.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 46
(1/88)
قال مكي
بن أبي طالب: " انتصبت الرحمة على المصدر عند الأخفش بمعنى: ولكن رحمك ربك يا
محمد رحمة، وهو مفعول من أجله عند الزجاج، أي: ولكن للرحمة فعل ذلك، أي: من أجل
الرحمة. وقال الكسائي: هي خبر (كان) مضمرة بمعنى: ولكن كان ذلك رحمة من ربك. ويجوز
في الكلام الرفع على معنى: ولكن هي رحمة " ((1)) .
والذي أراه أنه قد نصبت (الرحمة) على المصدر لتدلّ على توالي الرحمة الإلهية على
رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) من خلال النصب في المصدر.
{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} ((2))
قال أبو البقاء: " عدّاه بنفسه، لأن معنى (نمكن) : نجعل. وقد صرّح به في
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} ((3)) ، أي: من الخسف.
و (مكن) متعد بنفسه من غير أن يضمن معنى جعل كقوله: {مَكَّنَّاهُمْ} ((4)) . و
(آمِنًا) قيل: بمعنى مُؤمن أي يُؤمن من دخله. وقيل: هو على حذف مضاف، أي: أمنا
أهله. وقيل: فعل بمعنى السبب، أي: ذا أمن " ((5)) .
والذي أراه أن التعدية بنفس الفعل الذي هو بمعنى صيّر وجعل، لأن (مكن) من الأفعال
المتعدية، وهو الأصوب، ويعرب (نمكن) فعلاً مضارعاً و (حرماً آمنا) مفعول، وصفته
التابعة له في النعت بمعنى أن المعنى الجديد هو إبراز منة الله عَزَّ وجَلَّ على
أهل مكة في أمان الحرم وما تأتيه من الأرزاق، وهذا من دلالات الإعراب.
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /564. وينظر الكَشَّاف: 3 /182. الجَامِع
لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5008.
(2) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 57.
(3) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية 67.
(4) سُوْرَة الأَنْعَامِ: الآية 6. سُوْرَة الْحِجْرِ: الآية 41. سُوْرَة الأحقاف:
الآية 26.
(5) التبيان في إعراب القرآن: 2 /179. وينظر الدُّرُّ المَصُون: 5/ 349.
(1/89)
{بَطِرَتْ
مَعِيشَتَهَا} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " المعيشة نصب عند المازني على حذف حرف الجر تقديره:
بطرت في معيشتها. وقال الفراء: هي نصب على التفسير. وهو بعيد، لأنها معرفة،
والتفسير لا يكون إلا نكرة. وقيل: هي نصب بـ (بطرت) ، وبطرت بمعنى جهلت، أي: جهلت
شكر معيشتها، ثُمَّ حذف المضاف " ((2)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " ولا يجوز أن يكون منصوباً على التمييز لأن التمييز
لا يكون إلا نكرة، و (مَعِيشَتَهَا) معرفة " ((3)) .
وقال القرطبي: " وانتصبت (مَعِيشَتَهَا) إما بحذف الجار والمجرور وإيصال
الفعل، وإما على الظرف بنفسها كقوله: زيد ظني مقيم، أو بتقدير حذف الزمان لمضاف،
أصله بطرت أيام معيشتها " ((4))
إِنَّ الجملة (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا) هي فعل ماضٍ، وتاء المؤنث المحكي عنها، وهي
فاعل، والمعيشة مفعول به، والضمير (هي) في محل نصب، وهذا التقدير يستقيم به دلالة
(كفران النعمة) المرادة من (بطر المعيشة) وهذه الجملة مما اختلف فيه المفسرون لأنه
مشكل إعرابياً، وإن كنا لا نرى ذلك خلافاً لمن رآه، وذلك يدلّ على الاستمرارية في
الزمان والمكان أي أن كلّ قرية تبطر سيهلكها.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((5))
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /546.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /235.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3 /186.
(5) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 68.
(1/90)
قال مكي
بن أبي طالب: " (ما) الثانية للنفي لا موضع لها من الإعراب. وقال بعض العلماء
كالطبري: هي في موضع نصب بـ (يختار) ، وليس ذلك بحسن في الإعراب، لأنه لا عائد
يعود على ما في الكلام. وهو أيضاً بعيد في المعنى والاعتقاد، لأن كونها للنفي يوجب
أن تعم جميع الأشياء … وإذا جعلت (ما) في موضع نصب بـ (يختار) لم تعمّ جميع
الأشياء على أنها مختارة لله … وهذا هو مذهب القدرية والمعتزلة، فكون (ما) للنفي
أولى في المعنى، وأصح في التفسير، وأحسن في الاعتقاد، وأقوى في العربية، ألا ترى
أنك لو جعلت (ما) في موضع نصب لكان ضميرها في كان اسمها، ولوجب نصب الخيرة، ولم
يقرأ بذلك أحد … وهذه الآية تحتاج إلى بسط كثير " ((1)) .
وقال ابن الأَنْبَارِي: " (ما) الأولى اسم موصول بمعنى الذي في موضع نصب
لأنها مفعول (يخلق) ، و (ما) الثانية نافية ولا موضع لها من الإعراب " (2) .
وقال الزمخشري: " فإن قلت: فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت (ما)
موصولة؟
قلت: أصل الكلام ما كان لهم فيه الخيرة فحذف فيه كما حذف منه قوله تعالى: {إِنَّ
ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ((3)) " ((4)) .
__________
(1) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1/ 547- 548.
(2) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /235.
(3) سُوْرَة لُقْمَان: الآية 17. سُوْرَة الشُّورَى: الآية 43.
(4) الكَشَّاف: 3/ 188.
(1/91)
وقال
القرطبي: " والوقف التام على (ويختار) . وقال علي بن سليمان: هذا وقف التمام
ولا يجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) ، لأنها لو كانت في موضع نصب لم يعد
عليها شيء. قال: وفي هذا ردّ على القدرية. قال النحاس: التمام: ويختار، أي: ويختار
الرسل {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ، أي: ليس يرسل من اختاروه هم. قال أبو
إسحاق: ويجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بـ (يختار) ، ويكون المعنى: ويختار الذي
كان لهم فيه الخيرة.
وقال القشيري: الصحيح الأول لإطباقهم على الوقف على قوله: (ويختار) .
وقال المهدوي ـ وهو أشبه بمذهب أهل السنة ـ: و (ما) من قوله:
{مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} نفي عام لجميع الأشياء أن يكون للعبد فيها شيء سوى
اكتسابه بقدرة الله عز وجل.
وأجاز الزجاج، وغيره: أن تكون (ما) منصوبة بـ (يختار) ، وأنكر الطبري أن تكون (ما)
نافية لئلا يكون المعنى: إنهم لم تكن لهم الخيرة فيما مضى، وهي لهم فيما يستقبل،
ولأنه لم يتقدم كلام بنفي.
قال المهدوي: ولا يلزم ذلك، لأن (ما) تنفي الحال والاستقبال كـ (ليس) ، ولذلك عملت
عملها … فـ (ما) على هذا لمن يعقل، وهي بمعنى الذي.
و (الخيرة) رفع بالابتداء، و (لهم) الخبر، والجملة خبر كان وشبهه بقولك: كان زيد
أبوه منطلق. وفيه ضعف إذ ليس في الكلام عائد يعود على اسم كان، إلا أن يقدر فيه
حذف، فيجوز على بعد " ((1)) .
قال السمين الحلبي: " {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} فيه أوجه:
الأول: أن (ما) نافية، فالوقف على (يختار) .
الثاني: (ما) مصدرية، أي: يختار اختيارهم، والمصدر واقع موقع المفعول به، أي:
مختارهم.
__________
(1) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 3/ 5021 –5022.
(1/92)
الثالث:
أن تكون بمعنى: الذي، والعائد محذوف، أي: ما كان لهم الخيرة فيه كقوله: {وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ((1)) ، أي: منه.
وجوز ابن عطية أن تكون تامة و (لَهُمْ الْخِيَرَةُ فيه) جملة مستأنفة قال: "
ويتجه عندي أن تكون (ما) مفعولة، إذا قدرنا (كان) تامة، أي: إن الله يختار كلّ
كائن و (لَهُمْ الْخِيَرَةُ) مستأنفة معناه تعديد النعم عليهم في اختيار الله لهم
لو قبلوا، وجعل بعضهم في (كان) ضمير الشأن. وأنشد:
أمِن سُمَيَّةَ دَمْعُ العين ذَرِيفُ لَو كان ذا منك قبل اليوم معروف ((2))
ولو كان (ذا) اسمها لقال معروفاً " ((3)) . وابن عطية منع ذلك في الآية قال:
لأن تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف.
قلت: كأنه يريد أن الجار متعلق بمحذوف، وضمير الشان لا يفسر إلا بجملة مصرح
بجزئيها، إلا أن في هذا نظر إن أراده، لأن هذا الجار قائم مقام الخرب، ولا أظن
أحداً يمنع هو السلطان في البلد، وهي هند في الدار، و (الخيرة) من التخيير كالطيرة
من التطير، فيستعملان استعمال المصدر.
قال الزمخشري: " ما كان لهم الخيرة بيان لقوله (ويختار) لأن معناه: ويختار ما
يشاء، ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى أن الخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم
بوجوه الحكمة فيها لا أحد من خلقه أن يختار عليه " ((4)) .
قلت: لم يزل الناس يقولون أن الوقف على (يختار) والابتداء بـ (ما) على أنها نافية،
وهو مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وهو رأي الطبري ((5)) .
__________
(1) سُوْرَة الشُّورَى: الآية 43.
(2) ديوان عنترة بن شداد العبسي، الطبعة الثانية. دار صادر. بيروت. لبنان. 1967 م:
ص 53.
(3) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 351. المحرر الوجيز: 12 /181.
(4) الكَشَّاف: 3 /188.
(5) جامع البيان: 10 /95.
(1/93)
لقد
تقدم اختلاف المعربين في هذه الآية، فاختلاف الإعراب هنا يوجب اختلاف العقيدة، حسب
الدلالات المطلوبة من التقدير، والذي نرجحه في ذلك رأي الطبري، وهو الأقرب في التأويل
إلى مهب أهل السنة والجماعة، دون غيره في جعل الآية الثانية (مَا كَانَ) في موضع
نصب بـ (يختار) لأن تقدير الطبري يكون لدلالة الآية بجعلها تدلّ على أن لا خيار
للإنسان في الخلق خلافاً للمعتزلة الذين يوافقون القدرية والفلاسفة في خلق الإنسان
لفعله، وبذلك استقام لنا النصّ وفق دلالته الإعرابية بما يعزز رأي أهل السنة
والجماعة.
{مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ((1))
قال مكي بن أبي طالب: " (ما) في موضع نصب بـ (آتيناه) مفعول ثاني، و (إن)
واسمها وخبرها وما يتصل بها إلى قوله: {أُولِي الْقُوَّةِ} صلة
(ما) وواحد أولي: ذي " ((2)) .
وقال الأَنْبَارِي: " (ما) اسم موصول بمعنى: الذي، في موضع نصب بـ (آتيناه)
وصلته (إن) وما عملت فيه وكسرت (إن) في الصلة لأن الاسم الموصول يوُصل بالجملة
الاسمية والجملة الفعلية، و (إن) متى وقعت قي موضع يصلح للاسم والفعل كانت مكسورة،
و (أولي) واحدها (ذو) من غير لفظها " ((3)) .
وقال القرطبي: " (إن) واسمها وخبرها في صلة (ما) ، و (ما) مفعوله (آتينا)
" ((4)) .
وقال النَّحَّاس: " قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: ما أقبح ما يقول
الكوفيون في الصلات أنه لا يجوز أن يكون صلة الذي وأخوانه (إن) وما عملت فيه، وفي
الَقُرْآن {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} . وهو جمع مفتح " ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 76.
(2) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /548.
(3) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2/ 236.
(4) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5027.
(5) إعراب القرآن (النَّحَّاس) : 2/ 558.
(1/94)
نحن نرى
أن (ما) هنا تفسيرية خلافاً لمكي بن أبي طالب وسواه ممن جعلها في موضع نصب بـ
(آتيناه) ، لأن كونها تفسيرية يجعل القطع في الجملة الجديدة يدلّ على عظم كنوز
قارون، وهو الدلالة التضمينية للآية الشريفة.
{وَلاَ يُسْأَلُ} ((1))
قال السمين الحلبي: " هذه قراءة العامة على البناء للمفعول وبالياء من تحت
ورفع الفعل وأن تركه مرفوعاً يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون (المجرمون) خبر مبتدأ محذوف ي0 هم المجرمون.
الآخر: أن يكون بدلاً من أصل الهاء والميم في (ذنوبهم) لأنهما مرفوعا المحل"
(2) .
إن قوله تعالى: {وَلاَ يُسْأَلُ} يدلّ على عدم السؤال لوجود (لا) النافية، فصار
المعنى أن المجرمين لا يسألون بعد عقوبتهم، وذلك هو المعنى الإعرابي للفعل المضارع
المنفي.
{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " (وَيْكَأَنَّ) أصلها (وي) منفصلة من الكاف. قال
سيبويه عن الخليل في معناها: إن القوم انتبهوا أو نبهوا فقالوا: (وي) ، وهي كلمة
يقولها المتندم إذا أظهر ندامته. وقال الفراء: (وي) متصلة بالكاف وأصلها: ويلك إن
الله، ثم حذف اللام واتصلت الكاف بـ (أن) . وفيه بعد في المعنى والإعراب، لأن
القوم لم يخاطبوا أحداً، ولأن حذف اللام من هذا لا يعرف، ولأنه كان يجب أن تكون
(أن) مكسورة إذ لاشيء يوجب فتحها " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 78.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5/ 353.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 82.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /548.
(1/95)
وقال
الأَنْبَارِي: " منهم من قال (وي) منفصلة من (كان) وهي اسم سٌمِّي الفعل به،
وهو (أعجب) ، وهي كلمة يقولها المتندم إذا أظهر ندامته وكأن الله لفظهُ لفظ
التشبيه، وهي عارية عن معنى التشبيه، وهذا مذهب لخليل وسيبويه. وذهب الأخفش إلى
أنَّ الكاف متصلة بـ (وي) وتقديره: ويك أعلم أن الله. و (ويك) كلمة تقرير، و (أن)
مفتوحة بتقدير: أعلم. وهو كقولك للرجل: أما ترى إلى صنيع الله وإحسانه. وذهب
الفرّاء إلى أَن (وي) متصلة بالكاف وأصله (ويلك) وحذفت اللام، وهو ضعيف لأن القوم
لم يخاطبوا واحداً، ولأن اللام من هذا لا يُعرف " ((1)) .
وقال السمين الحلبي: قوله: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} (وَيْكَأَنَّ) فيه مذاهب منها:
الأول: إن (وي) كلمة برأسها، وهي اسم فعل معناها أعجب، أي: أنا والكاف للتعليل، و
(أن) وما في خبرها مجرورة بها، أي: أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، وسمِعَ كما أَنه
يعلم غفر الله له. قياس هذا القول أن يوقف على (وي) وحدها، وقد فعل ذلك الكسائي،
إلاَ أَنه ينقل عنه أَنه يعتقد في الكلمة أن أصلها (ويلك)
الثاني: قال بعضهم: (كأن) هنا للتشبيه إلاَ أَنه ذهب منه معناها وصارت للخبر
والتيقن.
الثالث: إن (ويك) كلمة برأسها، والكاف حرف خطاب و (أن) معمولة لمحذوف، أي: أعلم
أنه لا يفلح، قاله الأخفش.
الرابع: إن أصلها (ويلك) فحذف اللام، واليه ذهب الكسائي.
الخامس: إن (وَيْكَأَنَّ) كلها كلمة مستقلة بسيطة، ومعناها ألم تر وربما نقل ذلك
عن ابْن عَبَّاس ((2)) .
__________
(1) البَيَان فِي غَريب إعْرَاب القُرْآن: 2 /237.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5 /354.
(1/96)
والخلاف
في (وَيْكَأَنَّ) صرفي ـ نحوي في اشتقاقها وأصلها، ونحن نرجح من استعراض الأقوال
السابقة أن أصل (وَيْكَأَنَّ) هو (وي) كلمة الندم، وكاف الخطاب، و (أن) المحذوف ما
بعدها، وهو مفهوم رأي سيبويه ـ رَحِمَه الله ـ وما سوى ذلك فتكلف في التقدير وتمحل
في الإعراب، وهي منصوبة أو مبنية على النصب على خلاف في ذلك، ولا فائدة في ترجيح
أي من القولين فيه، لأن ذلك ما لا يزيد النص القرآني أي دلالة.
{إِلاَ رَحْمَةً} ((1))
قال السمين الحلبي: فيه وجهان:
" أحدهما: هو منقطع، أي: لكن رحمك رحمة.
والآخر: إنه متصل، قال الزمخشري: هذا كلام محمول على المعنى كأنه قيل: وما ألقي
إليك الكتاب إلا رحمة، فيكون استثناءً من الأحوال أو من المفعول له " ((2)) .
والذي أراه أن المستثنى هاهنا في كونه منقطعاً يوازي كونه متصلاً على رأي الزمخشري
ـ رَحِمَه الله ـ وإنما الاستثناء منقطع لأنه لم يتقدم في الكلام ما يدلّ عليه،
فكان منقطعاً غير متصل، وأما كونه متصلاً فلتلحقه باستمرارية إنزال الكتاب، ونحن
نرى أنه استثناء متصل أي أن إنزال الكتاب متعلق بالرحمة في إنزاله، وهو الرأي الذي
نرجحه.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((3))
قال مكي بن أبي طالب: " انتصب الوجه على الاستثناء، ويجوز في الكلام الرفع
على معنى الصفة كأنه قال: غير وجهه… كذلك جواز الآية " ((4)) .
قال القرطبي: " قال الزجّاج: (وَجْهَهُ) منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير
القرآن كان: إلا وجهه بالرفع بمعنى كلّ شيء غير وجهه هالك " ((5)) .
__________
(1) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 86.
(2) الدُّرُّ المَصُون: 5 /355. وينظر أيضاً الكَشَّاف: 3 /194.
(3) سُوْرَةُ الْقَصَصِ: الآية 88.
(4) مَشْكِل إِعْرَاب القُرْآن: 1 /549.
(5) الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 5038.
(1/97)
يجوز في
هذه الآية رفع ونصب الوجه، وذلك أن الرفع يكون صفة، والنصب بأداة الاستثناء (إلاّ)
، ودلت الآية على أن الله عَزَّ وجَلَّ غير هالك، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة
الكل به، فيكون المعنى أن الكون بما فيه هالك إلا الله عَزَّ وجَلَّ، وإنما خصّ
تعالى الوجه بالاستثناء للتعظيم. ومما تقدم يتضح لنا أن اختلاف الإعراب في الآيات
المختلف في إعرابها بين النحاة، أكسب النص القرآني في سُوْرَة الْقَصَصِ آفاقاً
جديدة في استفادة معانٍ أخرى، وهو ما يشعر بتجدد الفهم عند التفسير، وذلك لأن
الاختلاف هو تجدد وتجديد في إضافة المعاني الجديدة التي تختلف بتعدد سياقات
التوجيه الإعرابي بين النحاة، وهكذا فإن ما اختلفوا فيه وما قمت بترجيحه، تبعاً
لقراءة سُوْرَة الْقَصَصِ هو إضافة جديدة للمعنى، يمكن أن تعين على تصور أدق لبعض
المواضع (المشكلة إعرابياً) في سُوْرَة الْقَصَصِ.
المطلب الثالث: التوجيه المضموني في سورة القصص
ودلالاته
يتعلق موضوع التوجيه المضموني بموضوع (الوحدة الموضوعية) وبتعبير أدق:
التوجيه المضموني:
هو " تحليل نص بإعادة صياغته من جديد وإبراز مكامن الاتصال فيه باعتباره وحدة
عفوية متكاملة " ((1)) .
ويبدو أن هذا الموضوع متعلق كما نعتقده بما أسماه القدماء (تناسق وتناسب الآيات
السور) ، وممن صنف فيه:
البقاعي.
السيوطي.
وكتاباهما مطبوعان وفيهما فوائد مهمة في بابهما ((2)) ، وقد ذكر السيوطي ذلك كله
في الإتقان وأشاد به ((3)) .
ونحن نستفيد من الجمع بين التحليل التراثي والمعاصر لفهم كلي للنص القرآني، وبخاصة
في موضوعنا هنا عن سورة القصص الشريفة.
__________
(1) المصطلحات النقدية. سليمة الحكيم. الطبعة الأولى. دار البيان. دمشق. 1989 م.:
ص121.
(2) سبق الإشارة إليها ص 19.
(3) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 2 /118.
(1/98)
قال بعض
الباحثين: " لابدّ في تحليل أي سورة قرآنية من إدراك العلاقة بين آياتها
وترابطها فيما بينها، والصلات بين أولها وآخرها، ومكامن الوحدة الموضوعية فيها
وذاتيتها الخاصة " ((1)) .
ونحن في التوجيه المضموني لسورة القصص واجدون من ذلك الكثير. إذ تتميز سورة القصص
بكونها ذات خصوصية في ترابط موضوعاتها بعضها مع بعض، بحيث أن القارئ يجد فيها
انسياباً للمعاني وهي تصب في هدف واحد، على رغم أن السورة تنقسم على نصفين:
النصف الأول: خاص بقصة موسى (- عليه السلام -) .
النصف الثاني: خاص بتعداد آلاء الله عز وجل ونعمه، ثم تأتي في أواخر آيات السورة
قصة الخسف بقارون لتعيد التذكير بأول القصة في أول السورة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسَى} ((2)) ، فيتم بذلك التلاحم المضموني.
وقد فصل سليم سليمان فقال: تتميز آيات سورة القصص بأنها تمثل لوحة متكاملة المعالم
واضحة الأطر، لا زيادة فيها ولا نقصان فيها فهي بذلك تسير وفق قواعد الوحدة
الموضوعية ((3)) .
والبناء الموضوعي للسورة يعدّ في الذروة من الالتزام بعدم الخروج عن المعنى المراد
إيصاله، فهي بذلك " نص متكامل " لا يمكن حذف شيء منه، ولا يمكن إضافة
شيء إليه البتة، فقوله جل جلاله: {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ}
(4) له علاقة وطيدة بقوله تعالى فيها: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً}
((5)) .
فتتجلى بعض مظاهر تلك العلاقة في الأمن الإلهي الذي حبى به موسى (- عليه السلام -)
وقريش.
__________
(1) التحليل التطبيقي للنصوص: ص400.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(3) ينظر الوحدة الموضوعية: ص388.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(1/99)
وقد
لاحظ الباحث ذلك ووجد أن البناء المضموني لسورة القصص يسير في اتجاه واحد، مثل
قافلة من المعاني المتدفقة المتلاحقة، مما أكسب النص الإلهي إعجازاً إلى إعجازه،
لأن هذه الصفات ليست من صفات البشر في كلامهم يعتريه النقص والاختلاف في مصادر
موارده.
وأنى للبشر أن يكون له كلام متكامل مثل ما نجده في الربط الوحدوي واللغوي في قوله
تعالى في سورة القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((1)) ، وقوله
تعالى فيها أيضاً: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ} ((2)) ، وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ
فِي الأُولَى وَالآخِرَةَِ} ((3)) ، فالآيات الثلاث على رغم اختلاف موضوعها في
داخل السورة، يكمّل بعضها بعضاً، ويأخذ أحدها بمعنى الآخر في وحدة موضوعية شمولية
ذات دلالة كلية كونها جميعاً آيات توحيد خالص.
المطلب الرابع: التوجيه البياني التفسيري في سُوْرَة الْقَصَصِ
إذا كان التحليل قد كشف عن سياق بناء النص، وإذا كان فهم الدلالة الإعرابية قد
أوضح مفهوم النص، فإن التوجيه البياني يفيد في إيضاح ما أسماه أسلافنا ((4))
البيان التفسيري الذي يسمى أحياناً (البيان المبين) ، والمقصود به: " ما
يستخرج من فهم بلاغة النص من المعاني الأخر " ((5)) ، لاجل ذلك أقتبسنا في
هذا المبحث هذا المصطلح لفهم أدق لمجموعة الظواهر البلاغية الموجودة في سورة
القصص، ولاستخراج ما فيها من كوامن المعاني.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 70.
(4) رسالة في البلاغة. ابن كمال باشا. تحقيق: نور الدين حسن. الطبعة الأولى.
منشورات كلية الآداب. جامعة القاهرة. 1991 م: ص47.
(5) رسالة في البلاغة: ص 48.
(1/100)
ولا ريب
أن التوجيه البياني معين على فهم إعجاز القرآن الكريم وفي ذلك يقول بعض الباحثين:
" إن مباحث إعجاز القرآن قد اقترنت بمباحث البلاغة إقتراناً مشعراً بالدور
المهم المكمل من أحدهما للآخر، وهكذا نشعر أن الغاية من علم البلاغة فهم وإدراك
إعجاز القرآن، وأن الغاية من تحديد إعجاز القرآن تسطير مباحث ومضامين علم البلاغة
" ((1)) . وقد عبر عن مثل ذلك وزاده ايضاحاً باحث أخر فقال: " والمتتبع للظواهر
البلاغية الثلاثة البيان – المعاني – البديع.
وما تتضمنه من تفرعات وتقسيمات يلاحظ لأول وهلة بادىء ذي بدء أن لكلها شواهد من
القرآن الكريم تدل على ما يتعلق بها من آيات تضمنت معانيها تلك المحسنات اللفظية
والمعنوية، وهو الأمر الذي تنبه له الزمخشري في (الكشاف) ، والجرجاني في كتابيه
(أسرار البلاغة) (ودلائل الإعجاز) " ((2)) .
__________
(1) مباحث في البلاغة والإعجاز. د. سعد خليفة أحمد. الطبعة الأولى. دار الأندلس.
دمشق. 1984 م: ص88-89.
(2) الصلة بين إعجاز الَقُرْآن الكَرِيم وعلوم البلاغة. د. محمود مُحَمَّد محمود.
الطبعة الأولى. مطبعة جامعة المعزى. (د. ت) .: ص 187.
(1/101)
والباحث
يرى أن القدماء اهتموا بإبراز العلاقة بين سورة القصص والتوجيه البلاغي لظواهرها
اللغوية، ومن أقدم النصوص في ذلك ما أورده القاضي الباقلاني اذ قال ـ رَحِمَه الله
ـ في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ
نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ
الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، " هذه تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما
ترى، وسلاستها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. وهي
تشتمل على جملة وتفصيل وجامعة وتفسير، ذكر العلو في الارض باستضعاف الخلق بذبح
الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما، لأن النفوس
لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت
في التأكيد وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره
" ((2)) ، ثم قال ـ رَحِمَه الله ـ عن قوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ
فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((3)) ، " وهي خمس
كلمات متباعدة في المواقع نائية المطارح قد جعلها النظم البديع أشد تألفاً من
الشيء المؤتلف في الأصل، وأحسن توافقاً من المتطابق في أول الوضع " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) إعْجَاز القُرْآن: ص 193.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(4) إعْجَاز القُرْآن: ص 194.
(1/102)
وهذا
الكلام لرجل قد بحث الجوانب البلاغية لسورة القصص من كل نواحيها، ونحن نلاحظ في
التحليل البلاغي لسورة القصص إِذَا ما أخذناها على حده أنها تكاد أن تكون جامعة
لمعظم ـ إن لم يكن كلّ ـ الظواهر البلاغية، فالسياق البلاغي يجري فيها بأسلوب جزل
فخم مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا
رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) . فإن هذه الآية تبدأ
بداية هادئة، ثم يتصاعد إيقاع جرسها البلاغي، ثم يهبط بالسكينة والطمأنينة على أم
موسى (- عليه السلام -) ، ثم يأتي الوعد الالهي ولم يقل تعالى: (جاعلوه مرسلاً) ،
بل جعله في جملة المرسلين ـ عَلَيْهم السَّلام ـ {وَجَاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ} لأن (من) التبعيضية هنا تدخله في أوائلهم، وهو كذلك (- عليه
السلام -) من الرسل الخمسة أولي العزم.
وقد تنبه الزمخشري في الكشاف لهذه الطريقة البلاغية في سورة القصص لولا أنه خلط
بعض مباحثه بنظريته الإعتزالية، فحاول إقحام الإعتزال في المعنى المستخرج من آيات
سورة القصص ليعزز ما كان ـرَحِمَه الله ـ يذهب إليه فيه (2) .
وقد حاول بعض الباحثين إيضاح ذلك كله (أي توجيه المعنى بلاغياً في سورة القصص) ،
فقال:
" وفي سورة القصص نجد صوراً بلاغية في آيات الصفات أخذت حيزاً كبيراً جداً في
التفكير الاعتقادي، لأن القائلين بالحقيقة والمجاز في القرآن الكريم حاولوا أن
يستدلوا بها (أي بصورة هذه الآيات) على ما كانوا يذهبون إليه من آراء ومذاهب، ولا
ننسى هنا أن المعتزلة كانوا على رأس أولئك القوم.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) الكَشَّاف: 3 /229.
(1/103)
فقوله
عزّ من قائل: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
((1)) ، يحتوي على أمر، وخبر، وتقرير، ورد صدر على عجز، ومؤدى ذلك صورة بلاغية
للإله الواحد الباقي. ولكن طوائف المعتزله القائلين بالمجاز أولوا الآية بلاغياً
لأجل نفي الوجه عن الله عز وجل، فأخطاؤا الصواب " ((2)) .
ونحن مع هذا الباحث فيما ذهب إليه، وسنحاول فيما يلي هذه الصفحة إعادة ترتيب
الظواهر البلاغية في سورة القصص وفق التقسيم البلاغي ((3)) .
والغرض من هذه العملية إبراز دور تلك الظواهر البلاغية في تحسين وتزيين وتجميل
المبنى والمعنى في كلام الله وهو أصدق القائلين إستناداً إلى ما ذكره بعض
الدارسين، اذ قال: " إن وضع آيات كل سورة تحت التقسيم البلاغي التراثي يدلنا
على مواطن الإعجاز في كل سورة من السور، مما يفتح الطريق أمام جمهرة الباحثين
لإعادة صياغة إعجاز القرآن الكريم " ((4)) .
وهو ما يراه القارىء في الصفحات الآتية:
ونحن سنختار بعض الأنواع البلاغية لا كلها من باب الإشارة إلى الشيء للدلالة على
ما هو أعم.
1-التشبيه:
هو (ما حذفت فيه أداة التشبيه، ووجه الشبه) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(2) الصورة البلاغية في آيات الصفات في الَقُرْآن الكَرِيم. الشافعي حسن. الطبعة
الأولى. دار المعارف بمصر. 1994: ص397-399
(3) ينظر معجم المصطلحات البلاغية. د. أحمد مطلوب. الطبعة الأولى. منشورات المجمع
العلمي العراقي. بغداد. 1984 م.: 1/3.
(4) الظواهر البلاغية في سورة البقرة: ص 122.
(5) ينظر أنوار الربيع: 3 /45.
(1/104)
{وَأَحْسِنْ
كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((1)) ، فإن الإحسان الإلهي هو المشبه به،
والمشبه هو المأمور بالإحسان، ووجه الشبه الموازنة بين الأمر بالإحسان ليوافق
إحسان الله جل جلاله.
2-الاستعارة:
هو (اللفظ المستعمل فيما يشبه معناه الأصلي لعلاقة المشابهة، أو هي استعمال اللفظ
في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة) ((2)) . مثل قوله تعالى:
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} ((3)) . فإن قرة
العين بردها واستقرارها، فجعل استعارة عن الولد.
3-الكناية:
هو (أن تتكلم بشيء وتريد غيره، وهي مصدر من كنيت بكذا عن كذا إذا تركت التصريح به،
واصطلاحا: لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه معه أيضا) ((4)) ، مثل قوله
تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((5)) ، فإن جملة
{وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} تشمل كناية عن سبيهن واغتصابهن.
4- الإيغال:
هو (ختم الكلام نثراً كان أو نظماً بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها) ((6)) ، مثل
قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}
((7)) .
5- الإلتفات:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(2) شرح التلخيص في عُلُوْم البلاغة. للإمام جلال الدِّيْن بن عَبْد الرَّحْمَن
القزويني. ت 739 هـ. دار الجيل. بيروت. لبنان. (د. ت) : ص 339.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(4) ينظر شرح التلخيص: 155.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(6) أنوار الربيع: 5 /333.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.
(1/105)
هو
(إنصراف المتكلم عن المخاطبة الى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة، أو الإنصراف
من معنى يكون فيه إلى معنى آخر) ((1)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَإِذَا الَّذِي
اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ} ((2)) ، فإن قوله تعالى: {يَسْتَصْرِخُهُ} إلتفاف في الخطاب، وتغير في
سياقه من الإسرائيلي والمصري لموسى (- عليه السلام -) .
6- المجاز:
هو (نقل الشيء عن حقيقته التي وضع لها إلى معنى آخر) ((3)) ، وذكروا أن من أمثلته
في سورة القصص قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه} ((4)) ، والنص لا
يستقيم بزعمهم إلا بنقله للمجاز والله أعلم بالصواب في ذلك.
7- المقابلة:
هي (أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو اكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب) ((5))
، مثل قوله تعالى فيها: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة} ((6)) ، فإن
الحسنة مقابلة للسيئة، وقد ازدات بها الجملة جمالاً.
8- الإشارة:
__________
(1) بديع الَقُرْآن. ابن أبي الإصبع المصري. (585 ـ 654 هـ) . تحقيق: حفني
مُحَمَّد شرف. الطبعة الأولى. مكتبة نهضة مصر. الفجالة. 1957 م: ص 58. العمدة في
مَحَاسِن الشعر وآدابه ونقده. أبو الحَسَن بن رشيق القيرواني الأزدي. ت 456 هـ.
تحقيق: مُحَمَّد محيي الدِّيْن عَبْد الحميد. دار الجيل. بيروت. لبنان. (د. ت.) .:
2 /46.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(3) الإيضاح في علوم البلاغة، القزويني، أبو عبد الله جلال الدين بن سعد الدين أبي
محمّد بن عبد الرحمن الخطيب، ت 739 هـ، تحقيق مُحَمَّد عبد المنعم خفاجي، بيروت،
1983 م: ص 155.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) شرح التلخيص: ص 163.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.
(1/106)
هي (أن
تطلق لفظاً جلياً تريد به معنى خفياً) ((1)) ، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} ((2)) ، فإن المعاد إشارة إلى
مكة المكرمة أو يوم القيامة، فازداد النص بها حسناً.
9-الخبر الإنشائي:
هو (صيغة الكلام التامة الدالة على معنى جميل) ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها:
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ
عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} (4) .
فمجمل الكلام الإلهي في هذه الاية هو خبر إنشائي حقيقي، الغرض منه الخروج بمفهوم
نصي، وأما قوله تعالى في الآية: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، فهو نص إعجازي
لايتأتى نظمه أو نظم مثله للبشر.
10- المثل:
هو (كلام يتداوله الناس لجماله وقصره وحكمته، ومتى فشا استعماله سمي مثلاً، ولذلك
لا تغيّر الأمثال) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الأَمِينُ} ((6)) ، فهذه الجملة القرآنية قد غدت مثلاً إلهياً ينطقه
الناس، للدلالة على أخذ القوي الأمين في العمل المراد له، فصارت مثلاً بليغاً.
11- الدعاء:
__________
(1) الفوائد. أبو عَبْد الله بن أَبِي بكر ابن قيم الجوزية. . ت 751 هـ. دار الفكر
ببيروت للطباعة والنشر والتوزيع. (د. ت) : ص 125.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(3) ينظر الإيضاح في علوم البلاغة: ص 15.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(5) ينظر الإيضاح في علوم البلاغة: ص 307. شرح التلخيص: 4 /147.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 26.
(1/107)
هو (طلب
من هو أدنى ممن هو أعلى بألفاظ بليغة) ((1)) ، مثل قوله تعالى فيها: {فَقَالَ
رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ((2)) ، فهذا النص
دعاء علمنا الله عز وجل أن ندعوه به على لسان موسى (- عليه السلام -) .
12- الأمر:
هو (طلب من هو أعلى أمراً ممن هو دونه، أو اقتضاء فعل غير كف مدلول عليه بغير لفظ
كف، ولا يعبر به علو ولا استعلاء على الأصح) ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها:
{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء} ((4)) ، فجملة
{اسْلُكْ يَدَكَ} أمر إلهي صيغ صياغة بلاغية إعجازية، فدلّ على جماليته في حد
ذاته.
13- الإضراب:
هو (ذكر شيء قد يستقبح، إلا أن القرينة تدل على حسنه، أو الإعراض عن الشيء تركاً
وإهمالاً بعد الإقبال عليه) ((5)) ، مثل قوله تعالى فيها: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي
جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء} ، فإن قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ
سُوء} إضراب لئلا يظن البرص بيده (- عليه السلام -) فكمل بها الكلام.?
14- تجاهل العارف:
__________
(1) ينظر التوقيف على مهمات التعاريف. مُحَمَّد عَبْد الرَّؤُوْف المناوي. (952 ـ
1031) . تحقيق: د. مُحَمَّد رضوان الداية. دار الفكر المعاصر ـ دمشق , دار الفكر ـ
بيروت. ط1 1410 هـ: ص 338.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24.
(3) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 92.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(5) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 71.
(1/108)
هو
(استخدام العارف صيغة تشعر الجهل عند من لا يجهل، أو سوق المعلوم مساق غيره لنكتة)
((1)) ، كقوله تعالى فيها: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ
لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ
الْكَاذِبِينَ} ((2)) ، فإن جملة {لأَظُنُّهُ} تأتي بمعنى (لأوقنه) .
وهو تجاهل العارف لأن فرعون كان يعلم أن موسى (- عليه السلام -) من الصادقين،
بدليل حكاية الله عز وجل عنه أنه قال في آخر عمره: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ
إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ((3)) .
15- الاستثناء البلاغي:
هو (ذكر أمر ثم تخصيصه بغير صيغ الاستثناء المعروفة) ((4)) ، مثل قوله تعالى فيها:
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((5)) ، فجملة
{فَبَغَى عَلَيْهِمْ} هي استثناء بلاغي أخرج بها قارون من قوم موسى بغير أدوات
الاستثناء المستخدمة في مثل هذه الحالات.
إن ما تقدم كان محاولة لإبراز بعض الظواهر البلاغية في سورة القصص، وتخريجها
وتحليلها بإيجاز، ليتطابق ذلك مع منهجها في درس وتحليل سورة القصص من كل جوانبها،
وهو الأمر الذي عبر عنه أحد الباحثين بقوله: " إن استخراج أي ظاهرة بلاغية في
أي آية، ثم تحليلها يتيح لنا فهماً كاملاً لإعجاز هذه الاية نفسها، لأن الظاهرة
البلاغية كانت وما زالت مفتاح إدراك الإعجاز " ((6)) .
المطلب الخامس: الصورة البلاغية في سُوْرَة الْقَصَصِ
__________
(1) التعريفات (الجرجاني) : ص 73. التوقيف على مهمات التعاريف: ص 160.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 38.
(3) سُوْرَة يُوْنِسَ: الآية 90.
(4) التوقيف على مهمات التعاريف: ص 55.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(6) الظواهر البلاغية: ص 27.
(1/109)
يعدّ
مفهوم الصورة البلاغية بوصفه فناً من فنون البلاغة الحديثة أحد أوجه التشكيل
الصوري البياني للمعنى الملفوظ من خلال ذاتية المبنى وقد عرف أحد دارسي البلاغة
الصورة البلاغية بأنها:
" التشخيص الذي يحسه القارئ مصوراً في ذاته عند قراءته نصاً ما استناداً إلى
الإبداع الفني في نقل النص المكتوب من عالم اللفظ والمعنى إلى عالم الصورة بكل
أطرها وألوانها " ((1)) . ولا ريب أن قضية الصورة هي قضية قديمة قدم البلاغة
العربية، فقد عرفها القدماء بأسماء مثل ((2)) .
1-التصوير.
2-التشبيه (في بعض جوانبه) .
3-الاستعارة (في بعض جوانبها) .
وقد ورد ذكر ما يشبه مفهوم الصورة البلاغية لدى علماء البيان باسم
(الإيغال في الوصف) ((3)) ، وأرادوا بذلك: " أن يغرق الكاتب أو الشاعر في
وصفه لشيء ما، حتى يخرجه إلى مخرج الصورة المصورة، فإذا كان ذلك كذلك تم له الوصف،
وأجاد به " ((4)) .
ونحن نعتقد أن مفهوم الصورة البلاغية بكل جوانبه الداخلية والخارجية يمكن تطبيقه
في الدراسات الحديثة للنص القرآني، وقد فعل ذلك سيد قطب في كتابه
(التصوير الفني في القرآن الكريم) ((5)) ، ومحمد عبد الله في كتابه (الصورة
والتشخيص البياني في القرآن الكريم) ((6)) .
__________
(1) البلاغة الحديثة. عطية فرج. الطبعة الأولى. دار مصر العلمية. القاهرة. 1988 م:
ص 221-222.
(2) ينظر الصناعتين: ص193.
(3) المصدر نفسه: ص 315.
(4) رسالة في البلاغة: ص22.
(5) ينظر التصوير الفني في الَقُرْآن الكَرِيم. سيد قطب. دار الكتاب العربي.
بيروت، لبنان. (د. ت) : ص 177. الصورة والتشخيص البياني في الَقُرْآن الكَرِيم.
سليمان عبد الحكيم. الطبعة الأولى. بيروت، لبنان. 1994 م: ص 257.
(6) ينظر الصورة والتشخيص البياني في القرآن الكريم: ص 257.
(1/110)
وأثناء
دراستنا في هذه الرسالة لكل ما يتعلق بسورة القصص، وتحليلنا لكافة جوانبها، كان
لزاماً علينا أن ندرس قضية الصورة البلاغية فيها باعتبار أن ما ورد في سورة القصص
من صورة بلاغية يعدّ دليلاً للكاتب والشاعر على حد سواء في إقامة تصوير النص
استناداً إليها ((1)) .
لقد تحققت في سورة القصص التطبيقات البلاغية من خلال جوانب الصورة البلاغية التي
احتوتها في ذاتها.
... ولا شك أن هذا التحليل باب من أبواب إدراك إعجاز النص القرآني الذي أخرس
القائلين، وأبكم الناطقين.
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}
((2)) ، ففي قوله تعالى فيها: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي
وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ((3)) .
نجد أن مشهد صورة هذا القول الكريم من (امرأة فرعون) هو مشهد شاخص بكل جوانب
الصورة، فيكاد القارىء للنص أن يحسّ بمشاعر (امرأة فرعون) ، وقلقها أمام فرعون
وكبار قومه وآله. وفي قولها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} ما يشعر من خلال استخدام
لفظة (عسى) بمحاولتها التأثير عليهم نفسياً بأسلوب الترجي، وفي قولها: {أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً} جعلت الصورة مصورة أمام عين فرعون، الذي يبدو أنه لم يكن له
(ولد) ، وتأخيرها جعل موسى ولداً على رجاء النفع منه، فيه نكتة بلاغية جميلة في
أسلوب الحث على فعل شيء ليكون الطلب بالتدريج ((4)) .
__________
(1) الصورة والتشخيص البياني في الَقُرْآن الكَرِيم: ص257-260.
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 82.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(4) الصورة والتشخيص: ص 237.
(1/111)
ونجد أن
قوله تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا
يَشْعُرُون} ((1)) ، يجسد صورة بلاغية فنية مبدعة في لفظها وجرسها ومعناها وصوته
الذاتي، ذلك أن لفظة (قصيه) لفظة مفتوحه على معانٍ متعددة ((2)) .
ولكن من الممكن هاهنا أن نفهم منها معنى (قص الاثر والبحث والنظر عن بعد) ، ويعزز
المعنى الاخير قوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ،
وفي ذلك صورة الأخت الحنون التي تبحث عن أخيها بأمر من أمها الوالهة التي فقدته،
وهي صورة لا تتكرر في البيان.
أما قوله تعالى فيها: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} ((3)) ، فهو تصوير
فني ـ بلاغي متكامل الصورة، النبي الكريم موسى ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ
في نضجه واكتماله، وقد كان الربط بين الفعل الماضي (بلغ) ، والمفعول به
(أشده) ، ثم مجيء الفعل المضارع (استوى) ربطاً متكاملاً في جوانب الصورة كلها،
بحيث يشعر قارىء النص وسامعه على حد سواء ان هنالك رجلاً (مكتمل الخلقة) بدلالة
الافعال المتتالية المتوالية.
والصورة البلاغية واضحة كل الوضوح، وظاهرة كل الظهور في قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ
فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّب} ((4)) ، فإن الفعل الناقص (أصبح) ، والحال
(خائفاً) ، ثم الفعل المضارع التام (يترقب) يتركب منها تصوير بلاغي تام، يدل على
إنسان يتلفت إلى يمينه ويساره وفي هذه الصورة إعجاز صوري لا يتأتى لأي أحد إعادة
تصويره مهما بلغ من إجادة وإتقان، وتلك إحدى خصائص النص القرآني في إعجازه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(2) لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) 7 /75.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(1/112)
ونجد أن
قوله تعالى: {جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ((1)) فيه تصوير
بلاغي تام، فيخيل للقارىء أنه يرى في ذهنه أمام ناظريه مجيء رجل من أطراف تلك
المدينة راكضاً ليبلغ موسى (- عليه السلام -) نبأ المؤامرة.
وليس في أي أسلوب من أساليب العربية ما يمكن أن يماثل قوله تعالى:
{جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ، فلو قال القائل: (أتى إنسان
من أطراف المدينة راكضاً) . أو (وصل رجل من أقصى المدينة مبلغاً) . وعشرات الصيغ
الاخرى المقترحة لم يكن لقوله: (أي القائل) بكل صيغة روعة إعجاز قوله تعالى:
{جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} بما تضمنه من صورة بلاغية.
أما قوله: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((2)) ، فهي من
الآيات التصويرية التي تصور لنا امرأة كلها حياء وعفة وحشمة وتواضع، وكل ذلك
استدللنا عليه بقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} لأن استعارة الفعل
المضارع الحقيقي تمشي، ونقل (على) من الأرض المحذوفة إلى (استحياء) بالتنكير
المشعر بفخامة القصد المراد، يرينا صورة بلاغية أعجزت الأولين والآخرين، لذلك قال
في هذه الآية بعض الباحثين: " إن المتتبع لقوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى
اسْتِحْيَاءٍ} لا يجد لها نظيراً في كافة التعبيرات الإنشائية البلاغية، وما ذلك
إلا لأن إستعارة الشيء الحقيقي لمجازية الاستحياء مشعرة بالتصوير البياني الخاص
بالصورة الفنية بكل أوجهها من حقائق السير إلى مجازات الحياء بأنواعه، فالآية بذلك
قمة من قمم الإعجاز التصويري القرآني " ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3) الإعجاز التمثيلي في آيات الوصف. دراسة تحليلية. د. حسن رفاعي. الطبعة الأولى.
دار المعارف بمصر. 4994 م: ص424.
(1/113)
ونحن
واجدون في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ
الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} ((1)) ما يعدّ آية
الآيات في التصوير البلاغي في القرآن، وبخاصة في سورة القصص.
فتوالي حروف الجر، وتوالي الاضافات، والتصاق كل ذلك بعضه ببعض، ثم التقريب من
العام إلى الخاص (شاطىء الواد) ، (البقعة المباركة) ، (من الشجرة) ، يدلّ على
تصوير المعنى بأبلغ الصفات التي تدلّ (بما قبلها) على (ما بعدها) من قوله تعالى:
{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((2)) ، ومايتلوه من قوله تعالى:
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} ((3)) ، ففي كل ذلك التصوير، شُخِّصَ المعنى بأبلغ لفظ
موجز، وهو نوع من أنواع الإيغال البلاغي، وفيه التفاف في الوصف. وجملة
(نودي) المبنية للمجهول تدلّ على تعظيم المنادى والمنادي.
ونجد أن قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ((4)) ، يضم صورة بلاغية بجنب
مجموعة من الصور الفنية تتمثل في أن الأمر نتيجته هاهنا الحقيقة في الوقوع ـ وليس
المجاز فلو أن الأمر (اسلك) كان مؤداه مجازاً لبطل وجه من أوجه الإعجاز الخبري في
صدق قوله تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} بقرينة {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} احترازاً عن
البرص الذي هو بياض بسوء.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(1/114)
وقوله
تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ((1)) مشعر بعظم
الصورة التي يتصورها الإنسان من (النبذ) الذي هو إلقاء باحتقار ثم إن قوله تعالى
{فَأَخَذْنَاهُ} مشعر بكلية الجيش المنبوذ في اليم، وحقيقة الصورة نابعة من صورة
المجاز فيها (الأخذ) و (النبذ) .
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ((2)) فيها أحد أجمل
أنواع التصوير البلاغي في بابه، وذلك متمثل في أن (سماع اللغو) نتيجته (الإعراض
عنه) ، وقد تأتى ذلك التصوير للقوم االمؤمنين من خلال أداة الشرط (إذا) وجواب
الشرط (عرضوا) ، ثم حذف (اللغو) والاستعاضة عنه بهاء (عنه) ، فأنظر كيف غدا النص
اعجازباً تصويرياً بلاغياً، لا يمكن لأحد أن يجيء بمثله مهما حاول من محاولات.
وقوله تعالى: {اللَّيْلَ سَرْمَداً} ((3)) ، وقوله تعالى: {النَّهَارَ سَرْمَداً}
((4)) على التوالي صورة مجازية لتقرير إستفهامي هو سؤال العارف، فصارت الصورة في
الذهن منقلبة عن الصورة الحقيقية (الليل اللاسرمدي) و (النهار اللاسرمدي) إلى
الصورة المجازية الآتية من الإستفهام عن الليل والنهار السرمديين، وهذا من أبلغ
التصوير.
وقوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}
((5)) ، قول بديع بليغ فيه كل أنواع التصوير الفني، وذلك نابع من أن إسناد النوء
بالحمل مجازياً إلى المفاتيح لا إلى (العصبة أولي القوة) ، فهو من المقلوب لفظاً
ومعنى.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 40.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 72.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(1/115)
وفي هذا
القلب يتجسد التصوير البلاغي وتتمثل الصورة البلاغية واضحة كل الوضوح بما يراه
القارىء في ذهنه من صورة (عصبة) (أولي قوة) تنوء بهم مفاتيحهم الخاصة بكنوز قارون.
فكأن القرآن الكريم أسند كل الصورة هاهنا إلى المفاتيح، وجعلها محور النص، لأن من
عادة العرب في كلامها أنها:
(تقدم ما بيانه عندها أهم) ((1)) ، فقدمت المفاتح لنكتة بلاغية في التصوير
البلاغي.
وقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِه} ((2)) فيه من الصورة
البلاغية، الصورة المقبوحة لشخص طاغية متكبر متجبر، تراه في نفسك وقد خرج على
قومه، (وقد أسند الضمير لقومه تمييزاً لهم عن المؤمنين) . وفيه قوله تعالى: (في
زينته) مشعر بأنه خرج بكل ما عنده من هيئة ولباس وحلي وكنوز، ولا يستطيع أي إنسان
مهما بلغت به البلاغة أن يعيد تجسيد هذا المشهد إلا وهو ينتقص إما من اللفظ، وإما
من المعنى.
ثم نجد بعد ذلك متواصلاً معه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض}
((3)) ، فنحسّ أن ذلك الخسف متعلق بخروجه متكبراً في زينته بعد ما كاد يفتن قلوب
فريق من المؤمنين. والخسف الحقيقي هاهنا (لا المجازي) هو الذي جعل هذه القوة
المتدفقة من النص يحسّها القارىء، ويشعر بها السامع على حد سواء.
__________
(1) ينظر تأويل مشكل القرآن: ص 197.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(1/116)
ولعل
إحدى أهم الصور البيانية قوله تعالى فيها: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً
آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((1)) ، فهي آية قد لا يشعر القارىء لأول وهلة بصورتها
البيانية غير أنه ما إن يمضي بها ليصل إلى قوله تعال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ
إِلاَّ وَجْهَه} يجد نفسه مستعيداً الصورة السابقة بالنهي عن دعاء سواه تعالى، ثم
متقدماً على الصورة اللاحقة {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وهل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} حقيقة أو مجاز؟ ففي ذلك
خلاف بين علماء الكلام منذ أمد بعيد، غير أن الأصل في ذلك أن الألفاظ القرآنية على
حقيقتها ما لم تصرفها قرينة إلى المجاز.
وبذلك تكون الصورة في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه} صورة
حقيقية كل الحقيقة، مشعرة بما فيها من بلاغة وفن بلاغي وإيجاز في الوصف.
وإذا وصلنا إلى هذا الموضع من هذا التحليل، نجدنا قد حاولنا أن نبرز جملة الصور
البلاغية من خلال المفهوم العام للصورة البلاغية في آيات سورة القصص.
المطلب السادس: الحكمة من استخدام الجمل والصيغ والعبارات في سُوْرَة الْقَصَصِ
__________
(1) سُوْرَة (ص) : الآية 88.
(1/117)
من
الواضح أن في اللغة العربية أساليب متباينة يمكن من خلالها فهم دلالات ألفاظ
نفسها، أو بمقارنتها بغيرها، وذلك أن علم اللغة الحديث المأخوذ من أصوله التراثية
قد أثبت أن أي نص لا يمكن فهم أسلوبه إلا بمقارنته بنص آخر، أو بإبدال بعض كلماته
(بمرادفات) أخرى. ولا ريب أن علم إعجاز القرآن استفاد فائدة كبرى قديماً وحديثاً
من ذلك، لأن علم إعجاز القرآن يبحث في خصائص الأسلوب وبدائل الأسلوب. وقد حاولت
استناداً إلى ذلك أن أدرس بعض الكلمات والألفاظ في آيات مختارة من سورة القصص مع
توجيه المعنى المقارن نحو بدائلها بحيث يبدو إعجاز الأسلوب القرآني في سورة القصص
خاصةً، وذلك من ثلاثة أوجه:
أولاً ـ البديل اللفظي.
ثانياً ـ البديل الأٍسلوبي.
ثالثاً ـ البديل المعنوي.
والجمع بين هذه البدائل فعله القاضي الباقلاني من قبل في كتابه إعجاز القرآن في
سورة أخرى، ودرسها القاضي عبد الجبار في كتابه المغني في أبواب التوحيد والعدل،
والإمام عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، وابن أبي الإصبع المصري في كتابه بديع
القرآن.
وممن درسها من المحدثين:
الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطي ((1)) .
الشيخ مُحَمَّد عبد الخالق عضيمة ((2)) .
الدكتور فاضل السامرائي ((3)) .
وسواهم من النحاة والبلاغيين المعاصرين الذين درسوا إعجاز النصّ القرآني لغوياً.
ونحن في دراستنا لسورة القصص أردنا ان ندلي بدلونا في ذلك، فنفهم لماذا جاءت بعض
الأشكال اللغوية في مواقع منها دون أشكال أخرى قد يتوقع الإنسان أن تجيء في كلام
بديل لو كان كلاماً بشرياً.
__________
(1) التفسير البياني للقرآن الكريم. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. الطبعة الثامنة.
دار المعارف بمصر. 1982 م: ص 88.
(2) دراسات في أسلوب القرآن الكريم: 5 /119.
(3) التعبير القرآني. د. فاضل صالح السامرائي. بيت الحكمة. بغداد. 1989 م: ص 51.
(1/118)
وهذا
الفن أولع به الأدباء إذ يروي اليازجي:
إن رجلاً سأل عن قول المتنبي:
قد شرف الله أرضا أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سوّاك إنساناً
فقال: لماذا لم يقل خلاك بدل سواك؟ فأجابه ابن جني: إن قوله: (خلاك) لا يعطي النصّ
بلاغته التي أعطته إياها (الصيغة القرآنية) سواك التي جاءت في قوله تعالى:
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} ((1)) ((2))
وقد أكثر الدكتور فاضل السامرائي من ذكر النصوص المشابهة ((3))
إن سورة القصص في ألفاظها ومعانيها تحتوي على ما يمس القلوب والأرواح في المعاني
المنطبعة في النفس الإنسانية عند قراءتها لأسباب تتعلق بذاتية الألفاظ وفق خمسة
عوامل.
أولاً ـ الجرس اللفظي.
ثانياً ـ بنية الكلمة.
ثالثاً ـ موقع الكلمة.
رابعاً ـ سياق الكلمة.
خامساً ـ مقارنة الألفاظ بمرادفاتها.
ونحن سنحاول ان ندرس المرادفات البديلة التي تبرز إعجاز الألفاظ الأصلية.
إن الأسلوب الذي أنزلت به هذه السورة في مكة المكرمة يحمل كلّ سمات الأسلوب المكي
(المختلف في دلالاته عن سمات الأسلوب المدني) ، وبذلك فإن الصورة العامة لسورة
القصص تتميز بأن بناءها في إطاره العام خال من الجمل التي توجه المعنى نحو الدلالة
الفقهية ـ الشرعية. بل إن جمله توجه المعنى نحو الدلالة التوحيدية التي تزرع
العقيدة الصحيحة المستندة إلى نفي الشريك عن الله، والداعية إلى عبادة الله وحده.
والتي تسلي رَسُول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ. وتشد من أزره
وأصحابه لمواجهة ظلم قريش.
__________
(1) سُوْرَة الانْفِطَارِ: الآية 7.
(2) العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب. تحقيق: إِبْرَاهِيمُ اليازجي. الطبعة
الثانية. دار العلم. بيروت. 1978 م: 2 /622.
(3) التعبير القرآني: ص 51.
(1/119)
واستناداً
إلى ذلك فإن آيات سورة القصص تعبر كلماتها تمام التعبير عن مقتضيات واقع الحال
المراد إبانته لمن أنزلت السورة في زمنهم وبين أيديهم من أهل مكة.
فنحن نسأل استناداً إلى ذلك لماذا جاء النصّ القرآني في قوله تعالى: {تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} ((1)) ولم يستخدم كلمة أخرى في صفة الكتاب مثل
(الحكيم) ، (العزيز) ، (المجيد) ؟
والذي نراه أن المبين هاهنا أنسب، لأن الإبانة متناسبة مع صفة الكتاب كونها
الإبانة بليغة الدلالة على الظهور والنصاعة في تلك الفترة، أما لو قيل:
(الكتاب الحكيم) فمن أين لهم ان يعرفوا حكمته. أو العزيز فمن أين لهم أن يعرفوا
عزه ولأنكروا ذلك رأسا، فقيل لهم: (الكتاب المبين) وهم لفصاحتهم لا يستطيعون إنكار
إبانته ((2)) .
فالله جل وعلا وصف كلامه بصفة يعرفها أهل مكة أكثر من سواهم لاشتهارهم بهذا فكأن
القرآن أراد أن يتحدا بيانه.
ونحن نجد أن الصيغة القرآنية: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ} ((3)) تحتمل
سؤالاً هو: لِمَ لَمْ يقل تعالى: (طغى) ، أو (بغى) ، أو (استكبر) ؟
والذي نراه في ذلك أن دلالة (علا) من العلو الزماني والمكاني أبلغ من تلك الصيغ
الأخرى، ومن كلّ صيغة، لأنه لو كانت العبارة (إن فرعون طغى) لكان ذلك دليلاً على
الطغيان فقط، والطغيان (لا يعم، بل هو خاص بفرعون ولا يشمل جنوده ولا هامان) .
ولو قيل: (إن فرعون تكبر) لكان التكبر خاصاً به وبقومه لأن الإنسان لا يتكبر إلا
على من هم من حوله يرونه ويراهم.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 2.
(2) ينظر الكشاف: 3 / 164. جامع البيان: 6 /4963. البحر المحيط: 7 /104.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(1/120)
ولو
قيل: (إن فرعون بغى) لكانت الجملة غير مبينة عن هذا البغي، فجاءت العبارة (علا في
الأرض) لتدل على أن فرعون جمع الطغيان والبغي والتكبر الذين اجتمعوا جميعاً في
العلو على الأرض، فكان إعجاز استخدام الفعل الماضي (علا) دالاً تفضيلها على غيرها
من الصيغ الأخرى، لأن كلمة (علا) في هذا الموقع في ذكر فرعون أبلغ في مكان الآية
من أي صيغة أخرى، فالآية تصف دولة فرعون ومجتمعه أي نظام دولة كامل.
فلا بد من كلمة تصف نظام دولة فرعون. ولا يوجد أليق من كلمة (علا) في هذه السورة
من القرآن الكريم، وربما استخدمت بقية الكلمات في مواضع أخرى من سورة أخرى فناسبت
موضعها في تلك السور ((1)) .
إن قوله تعالى: {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((2)) يحمل في استخدامه اسم الجمع
(شيع) وهو منصوب بكونه مفعولاً به ثانياً دلالة خاصة تختلف عما لو استخدم فيه أي
لفظ مرادف للكلمة نفسها، مثل (فرقاً) أو (أحزاباً) على سبيل المثال. ونحن نرى أن
صيغة (شيعاً) التي جاءت في النص أبلغ من كلّ صيغة، لأن الشيع هي العصبة، ومن
معانيها العصبة القوية، وفرعون إنما قسم الناس على شيع، أي: أقسام، فجعل منهم
شيعته وشيعة موسى، ولو جاء النصّ بصيغة (فرقا) لدلّ على تحزب قوم دون كونهم من
شيعته، أي: المطاوعون له.
__________
(1) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /4964.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(1/121)
ونحن
نجد أن قوله تعالى في سُوْرَة الْقَصَصِ {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} ((1)) . {الَّذِي
مِنْ شِيعَتِهِ} ((2)) دالان على كون شيعة موسى (وهم اليهود) تمبزوا منذ ذلك الوقت
عن شيعة فرعون، فدل ذلك على أن الشيعة بالنسبة للرجل عصبته، وقد غرقت شيعة فرعون
معه في اليم لإيمانهم بدعوته، بدلالة: {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((3)) . وليس من الأسلوب
القرآني ذكر جنود ملك ما إلا إذا بلغوا في عداوتهم للإيمان مبلغاً عظيماً.
وهذا يجرنا إلى صيغة (يحذرون) لماذا جاءت بهذه الصيغة في النصّ، ونحن نعلن أن
الحذر " هو احتراز عن مخيف " وقد كانوا جميعاً أي: فرعون وهامان
وجنودهما يحذرون مولوداً بعينه هو موسى (- عليه السلام -) فجاءت الصيغة
(يحذرون) بدلاً من غيرها من الصيغ مثل (يخشون) ، لأن الخشية هي خوف أو (يخافون) ،
فالخوف هو أمر يقع بالمواجهة، وهم لم يواجهوا موسى (- عليه السلام -) ، فكانت صيغة
(يحذرون) ابلغ في دلالتها من كلّ دلالة أخرى.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(1/122)
ونحن
نجد أن قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا} ((1)) يثير سؤالاً مهماً هو ما دلالة العداوة والحزن في كينونة موسى
(- عليه السلام -) ولم لم تستخدم أي صفة أخرى مثل (وبالاً وصعوبة) أو (كائداً
ومعسراً) والذي أراه والله أعلم أن ذكر المصدر (العدو) والاسم (الحزن) أبلغ من أي
تعبير أخر، لأن التقاط آل فرعون (وهي صيغة عمومية) بمعنى ذكر الحال بالمآل لموسى
(- عليه السلام -) وهو رضيع في أيامه الأولى لا يحمل يومذاك لهم أي معنى بأن هذا
الصغير سيكون سبب عسرهم (الحزن) وسيكون عدواً لهم (كلّ العداوة) في سبيل الله
جَلَّ جَلاَله. ولو قيل: (ليكون لهم وبالاً) أو (كائداً) أو (معسراً) لم يكن كذلك
ذا معنى، لأن كلّ ذلك لا يمكن أن يتحقق من طفل صغير رضيع فكانت صيغة (عدواً
وحزناً) هنا دالة على أنه سيعاديهم هم وليكون حزنهم هم دون سواهم، فكانت هذه
الصيغة أبلغ في حد ذاتها مما لو استخدمت ألفاظ الآية أي مجموعة أخرى من الصفات،
واللام في هذه الآية تدلّ على أنها لام التعليل، أو لام كي ((2)) . ومما يؤيد هذا
المعنى الذي ذكر ليكون موسى عدواً خاصاً لهم تقديم الجار والمجرور (لهم) من عدواً
وحزناً، فهذا التقديم أفاد الاختصاص.
وقوله تعالى: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((3)) يَدُلُّ
على أن الإعجاز الَقُرْآني إنما كان في استخدام لفظة (يشعرون) ونفيهما بـ (لا) لأن
الشعور هو (العلم الدقيق) ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(2) الكَشَّاف: 3 /166. مفاتيح الغيب: 12 /228. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /
4968.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(4) ينظر جامع البيان: 1 0/38. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 269. مفاتيح الغيب: 12
/230.
(1/123)
و (لا
يشعرون) أي لا تدركون بالحواس ودلالة (لا يشعرون) في هذا الموضع أبلغ من أية دلالة
أخرى مثل لا يعلمون لأن العلم متحقق بعد وجود شيء ما معروف في العقل وليس الشعور
بشيء مادي، بل هو شيء معنوي دقيق كلّ الدقة كخبر ولادة موسى (- عليه السلام -) ،
وكونه بين ظهراني قوم فرعون، وأما دلالة (يعقلون) هاهنا فقد تكفل بهما وببيانهما
الراغب الأصبهاني إذ قال:
" ولو قال في كثير مما جاء فيه (لا يشعرون) لا يعقلون لم يكن يجوز، إذ كان
كثير مما لا يكون محسوساً قد يكون معقولاً " ((1)) ، والشعور إحساس، والعقل
معرفة ونحن نرى أن هذه الآيات كذلك، وهو يوافق ما ذهبنا إليه آنفاً، لأن المعنى هو
أن عدم شعورهم يعني انهم لم يحسوا بلهفتها عليه، ولو قيل: إنهم لا يعقلون لكان
المعنى أنهم لا عقل لهم قط.
ونحن نجد أن قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ
يَسْتَصْرِخُهُ} ((2)) يثير سؤالاً هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية (يستصرخه)
هكذا، ولم تجيء في الاستخدام أية صيغة أخرى مثل (يستنجده) ، أو (يستغيثه) ، أو
(يستنصره) ؟
والجواب عن ذلك هو أن أية صيغة أخرى إذا ما وضعت موضع كلمة
(يستصرخه) لا يمكن أن تدلّ على المضمون الذي دلت عليه الصيغة القرآنية، فلو قلنا
(يستنجده بالأمس) دلّ ذلك على طلب النجدة ولم يكن ذلك حال الرجل. ولو قلنا:
(يستغيثه) لم يكن ذلك الاستخدام مناسباً، فطلب الغوث دعاء من قريب لبعيد، وليس ذلك
واقع الحال، لأنهم كانوا جميعاً في مكان واحد.
__________
(1) معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 12 /230.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(1/124)
فكانت
كلمة (يستصرخه) في مبناها القوي الصياغة أوفى بالمراد إذ فيها الحروف القوية
(الصاد، والخاء) جرسيّاً، وفي معناها إذ نتخيل رجلاً يسترعي الانتباه من صراخه بأن
يجيء له موسى (- عليه السلام -) وهي المعبرة كلّ التعبير عن حال الرجل، لأن
المعركة بين الإسرائيلي والقبطي لم تكن في علم موسى (- عليه السلام -) ((1)) .
ونحن كذلك نجد في سُوْرَة الْقَصَصِ أن قوله تعالى: {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}
((2)) وهي من الآيات البليغة التي عدّها قدامى المفسرين من الآيات المعجزة كلّ
الإعجاز، يحمل في طياته تساءلاً.. لماذا استخدم الَقُرْآن الكَرِيم المصدر المزيد
بأحرف الزيادة (استحياء) ، ولم يستخدم ألفاظ أخرى مثل (تمشي على حياء) ، أو (تمشي
على خجل) أما استخدام (حياء) فإن المصدر المزيد أبلغ في دلالته من المصدر العادي،
لأن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني، على ما قاله اللغويون، فناسبت شدة
الحياء أن يجاء لها بمصدر مزيد (استحياء) . أما الخجل فإنه أخص من الحياء الذي هو
أعم، فالخجل يكون من أمر معين، أما الحياء فإنه خصلة في الذات، وهو إحدى شعب
الإيمان، لذلك كان استخدام النكرة المصدرية المزيدة (استحياء) أبلغ من أي استخدام
أخر. وإن استخدام صيغة (استفعل) تدلّ على الطلب فكأنها تريد أن تثير في مقابلها
هذه الخصلة الشريفة ((3)) .
__________
(1) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 236. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6/ 980. البَحْر
المُحِيْط: 7/ 110.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /240. البَحْر المُحِيْط: 7 / 114.
(1/125)
وقوله
تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ} ((1)) يثير في النفس سؤالاً
هو: لماذا جاءت الصيغة القرآنية بالمصدر (الرهب) ، وهي صيغة استعيرت من فعل
الطائر، لأنه إذا خوف نشر جناحيه، ولم تجيء مثلاً على صيغة (الخوف) ، أو (الخشية)
، أو (التوجس) ، أو أية صيغة من صيغ العموم؟
والذي أراه، والله أعلم بالصواب، أن دلالة استخدام أي مصدر أخر غير
(الرهب) لا يمكن أن تكون له في نفس المقام الذي جاءت به. فلو قيل: (من الخوف) لم
يكن للخوف، وهو معادل لفظي للجبن، أية دلالة، ولو قيل: (من الخشية) ، وهي لفظة
تدلّ على ذات نفسية غير مطمئنة لم يكن لها أية دلالة، ولأن المراد الإلهي، والله
أعلم بالصواب إنما كان أن يضمم موسى (- عليه السلام -) جناحه (يديه) من رهبته من
الموقف الذي تلقى فيه الوحي دون الخوف الذي تقدم في قوله تعالى: {أَقْبِلْ وَلاَ
تَخَفْ} ((2)) والأوامر الإلهية بعد صدورها متحققة كما هي القاعدة المعروفة، كان
استخدام صيغة (من الرهب) هو الأبلغ في دلالته، فاستعارة صورة الطائر صور لنا دقة
حال سيدنا (- عليه السلام -) ، فكأنه من حذره صار كالطائر الذي يتوجس من كلّ شيء
((3)) .
وقد يسأل سائل: لماذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ} (4) ، وليس هناك أحد يدعو إلى النار؟
قلنا: إن هذه الصيغة جاءت وفيها فائدتان:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 31.
(3) ينظر الكَشَّاف: 3/ 175. مفاتيح الغيب: 12 /247. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن:
6 /5000.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 41.
(1/126)
الفائدة
الأولى ـ غن النار هنا بتأويل ما سيكون، أي: إنهم يدعون لما يؤدي إلى النار في
خاتمتهم، وهو كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} ((1)) ، والخمر لا تعصر بل العنب هو
الذي يعصر، ولكنه بما أنه سيكون العنب خمراً قيل: {أَعْصِرُ خَمْرًا} ورأي أبي
مسلم أن " النار هنا بمعنى التقدم نحو النار " ((2)) ، فهو بتأويل ما
سيكون.
الفائدة الثانية ـ إن الصيغة القرآنية لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الضلال) مثلاً، لم
تكن معبرة عن دعوة فرعون وجنوده، وكذا لو جاءت بلفظ (يدعون إلى الكفر) لكان المعنى
أنهم في كفرهم يدعون إلى كفر، وهكذا على التوالي، فجاءت صيغة {يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ} لتدل على المعنى الذي أريد لها أن تجيء به، وهو ما زاد النصّ الَقُرْآني
جمالاً على جمال ((3)) . وارى أن الدعوة إلى النار بمعنى الكينونة في النار.
__________
(1) سُوْرَة يُوْسُف: الآية 36.
(2) ينظر مفاتيح الغيب: 12 /254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005.
(3) ينظر مفاتيح الغيب: 12/ 254. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5005.
(1/127)
وأما
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، فإن السؤال الذي قد يثار، هو عن دلالة قوله تعالى:
{بَصَائِرَ} ، والبصائر جمع بصيرة، بمعنى العبرة ـ كما قال الراغب الأصفهاني ـ
ودلالة العبر هاهنا أبلغ من أية دلالة أخرى، فمعنى الآية إذا ما حللناها هو أن
التوراة أنزلت على موسى (- عليه السلام -) عبرة للناس وهدى ورحمة، أما دلالتها (أي
كلمة بصائر) فهي أن في التوراة عبراً بالجمع، وليس عبرة بالإفراد، لأنها قد حوت
على أحكام ومواعظ وقصص، وقد جمعت البصائر، والله أعلم لدلالة العبر البليغة وكونها
أكثر في التعبير الَقُرْآني معنىً مما لو جاءت بلفظ أخر مثل (دلائل) ، أو (معالم)
، أو أي جمع أخر. فلو قيل:
(دلائل) لم تدلّ هذه الكلمة إلا على كون التوراة علامات، لأن الدليل هو العلامة،
ولو قيل: (معالم) لكان المعنى إشارات، لأن المَعْلَم هو الإشارة، أما لفظة
(بصائر) فدلت على أن المعنى هو العبر تلو العبر ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2) ينظر جامع البيان: 10 /76. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 47. مفاتيح الغيب: 12/
255. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5007.
(1/128)
وأما
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ *
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) .
فإن سؤالاً قد يتبادر هنا عن دلالة
(عميت) دون سواها من الصيغ، لأن إسناد المعنى لتاء الضمير الخاص بالمذكورين آنفاً
يَدُلُّ على حقيقة العمى عن رد السؤال، ولو جاءت الصيغة بلفظ
(فذهبت عنهم الأنباء) لم يكن ذلك دالاً على أي شيء، فذهاب الأنباء عن قوم يحتمل
ردهم لجوابهما، ولو قيل: (فغادرت عنهم الأنباء) لكان كذلك، والمعنى أن حال الكفار
والمشركين الظالمين يوم القيامة عند سؤالهم سؤال توبيخ، هو العمى الكامل حتَّى عمى
الإجابة، ويفسر هذا المعنى الَقُرْآن الكَرِيم في آية أخرى هي قوله تعالى: {وَمَنْ
كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ((2))
وهذا هو المعنى بعينه في الوصف الَقُرْآني، فدل ذلك على أن المعنى هو هو في
الحالتين يوم القيامة، ولكن الأسلوب الَقُرْآني هو إعادة المعنى بأكثر من صيغة
أسلوبية لإبراز أوجه الإعجاز في الَقُرْآن الكَرِيم، وقد أشار الطبري إلى غياب الحجة
عنهم عند السؤال يوم القيامة فقال: " وإنما عني بذلك أنهم عميت عليهم الحجة،
فلم يدروا ما يحتجون لأن الله تعَاَلىَ قد كان ابلغ إليهم في المعذرة " ((3))
. وهذا يوافق ما ذهبنا إليه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 65 – 66.
(2) سُوْرَة الإِسْرَاءِ: الآية 72.
(3) جامع البيان: 10 /94. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 360.
(1/129)
ونجد في
قوله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ}
((1)) يحمل صيغة قرآنية ذات دلالة خاصة في عموميتها البلاغية وقد يسأل سائل: لماذا
لم تجيء الصيغة بلفظة (أمماً) ، أو (طوائف) أو (شعوباً) ، أو (أناساً) بدل
(قروناًُ) ؟
والجواب والله أعلم: إن دلالة (قروناً) في موضعها أبلغ مما لو قيل (أمماً) لأن
الأمم هي المجموعات من الناس، والطوائف هي أناس بعينهم، والشعوب مجموعات غير
متجانسة، والأناس، جمع ناس، وهم المجموعة ذات السمات المميزة، أما صيغة (قروناً)
فتحمل كلّ تلك المعاني مجتمعة في لفظها، ولأن الَقُرْآن الكَرِيم يستخدم الألفاظ
القصيرة التي تدلّ على المعاني العديدة، فاستخدم الَقُرْآن الكَرِيم لفظة (قروناً)
بدل أية صيغة أخرى، وتلك خصيصة من خصائص النصّ القرأني، والآية تحمل معنى تقدم ذكر
رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) . وتطاول العمر مشعر بتقادم ذكر رَسُول الله
(- صلى الله عليه وسلم -) ((2)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(2) ينظر الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5706.
(1/130)
وفي
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} ((1))
تسائل عن ماهية دلالة (بطرت) بدل كلّ الصيغ الأخرى التي ترادفها، مثل (كفرت) ، أو
(بغت في) ، أو (عتت) ، أو (طغت في نعمتها) ؟ والجواب عن ذلك والله أعلم: إن صيغة
(كفرت معيشتها) لا تحمل دلالة البطر لأن الفرق بين الكفر ـ وهو إخفاء الشيء ـ
والبطر ـ وهو التكبر على الشيء ـ واضح بين، ولو جاءت الصيغة (بغت في معيشتها) لم
تدلّ على البطر. ولو قيل: (عتت في معيشتها) لم تكن الصيغة دالة على معنى البطر مع
دلالة انتصاب الفعل، لذلك كانت صيغة (بطرت) أوضح كلّ الوضوح من أية صيغة أخرى
((2)) .
أما قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ
سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ
بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} ((3)) فإن سؤالاً قد يثار في معنى كلمة (سرمداً)
المنصوبة مفعولاً به، هو: لماذا جاءت هذه الصيغة هاهنا بهذا اللفظ دون سواه؟
والذي أراه والله أعلم أن دلالة السرمد بمعنى (الدائم) أبلغ من أية دلالة أخرى،
فالسرمد هو الدائم غير المنقطع، ولو استخدمت أية صيغة أخرى لم تدلّ على ما دلت
عليه هذه الصيغة في مبناها ومعناها. فلو قيل بدلها: (دائماً) فإن الدوام هو
البقاء، ولكنه لا يعطي المعنى الذي يعطيه معنى كلمة (سرمد) الذي يفيد الاستمرارية.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) ينظر مفاتيح الغيب: 13/ 6.الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن: 6 /5017.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 71.
(1/131)
وقد بين
الطبري، والقرطبي المعنى نفسه، ففسرا السرمد بمعنى الدائم، ونحن نرى أن معنى الآية
هو امتنان الله عَزَّ وجَلَّ على الناس جميعاً بكون الليل والنهار ليسا سرمديين
" أي: ليسا دائمين، وقد تكررت كلمة (سرمد) في الموضعين في ذكر الليل والنهار،
لأن العرب تبدأ اليوم بالليل قبل النهار، ليكون أبلغ في التعبير البياني عن فضل
الله عَزَّ وجَلَّ ((1)) .
وأما قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} ((2)) فإنه يثير
سؤالاً مهماً جداً، هو لماذا جاءت كلمة (شهيد) هاهنا وهي بمعنى النبي في هذا المقام
دون صيغة نبي أو رسول، مع أن المفسرين أجمعوا على أن المراد بالشهيد هنا هو النبي
الذي يشهد على قومه بما فعلوه؟
قال الطبري في تفسير هذه الآية: " أي وأحضرنا من كلّ جماعة شهيدها وهو نبيها
الذي يشهد عليها بما أجابته أمته فيما أتاهم به عن الله من الرسالة " ((3)) .
وقيل: " أي نبياً عن مجاهد. وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم
في الدنيا " ((4)) .
ونحن نرى أن دلالة النبوة والرسالة في موضعها تفهم من خلال سياق معنى الآية لأن
الآية تدلّ على أن الأمم يوم القيامة ينزع من كل منها نبيها يشهد على ما فعلوه عند
دعوته لهم.
__________
(1) ينظر الكَشَّاف: 3 /189. جامع البيان: 10 /98. معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص
236
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 75.
(3) جامع البيان: 10 /89.
(4) مفاتيح الغيب: 13 /13.
(1/132)
ولو
جاءت الصيغة (نبياً) لم تدلّ على الشهادة النبوية، لأن النبوة مقام لا يَدُلُّ في
معناه على النزع، وقد جاءت الصيغة (نزعنا) وهي تدلّ على الأخذ، ولا يليق موضع
النبوة والرسالة بصيغة (نزعنا) لأن النصّ لو جاء بصيغة نزعنا من كلّ أمة نبياً لما
كان في النصّ من معنى سوى ما فيه من أخذ الأنبياء. والَقُرْآن ينقل النصوص في حالة
تغير المعاني من معنى إلى أخر ليهذبها، فجاءت الصيغة كما تقدم، وهي وجه من وجوه
الإعجاز القرآني في تبديل الصيغ والأساليب ((1)) .
إن ما تقدم كان محاولة لاستعراض بعض كلمات وصيغ سُوْرَة الْقَصَصِ وتحليلها وفق
نظام الصيغ القرآنية وبدائلها اللغوية، ولعلنا حاولنا محاولة في الصياغة اللغوية.
المطلب السابع: الرسم الَقُرْآني في سُوْرَة الْقَصَصِ وعلاقته بأداء المعنى
أجمع القدماء على أن هنالك خطان لا يقاس عليهما:
خط المصحف.
خط العروض ((2)) .
ولكن قوماً ممن بلغوا في العربية والتفسير مبلغاً كبيراً أجمعوا على أن رسم المصحف
يمثل تطوراً كبيراً في أداء المعنى ((3)) ، وأنه إنما كتب ورسم بلسان وأحرف قريش
لغابات معنوية مهمة كلّ الأهمية، وتروي الرواية الشهيرة عن جمع القرآن:
((وقال عثمان (- رضي الله عنه -) للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم انتم وزيد
بن ثابت في شيء من الَقُرْآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم)) ((4)) .
__________
(1) ينظر معجم مفردات ألفاظ القرآن: ص 274.
(2) ينظر في اللغة والنحو. د. طه إِبْرَاهِيمُ، الطبعة الأولى، مصر، 1985 م: 21
-22.
(3) صَحِيْح البُخَارِي: 6 /224.
(4) صَحِيْح البُخَارِي: 6 /224.
(1/133)
مما
يَدُلُّ على أن فعل عثمان (- رضي الله عنه -) ، " وفعله حجة في بابه على ما
هو مشهور من حجية قول الصحابي " ((1)) ، إنما يبين كيف أن بعض صور الرسم للخط
الَقُرْآني لا يمكن فهمها إلا بكتابتها ورسمها بلسان قريش.
ولا ريب أن مسألة الَقُرْآن بالأحرف السبعة امتزجت في بعض الحالات بظواهر الرسم
الَقُرْآني على رأي طائفة من العلماء الذين ذهبوا إلى أنَّ الأحرف السبعة موجودة
في اللفظ والصوت الَقُرْآني وهو رأي مشهور ((2)) .
وقد ألف قوم كثيرون في رسم الخط المصحفي الَقُرْآني وما فيه من فوائد ((3)) ، وقد
بين القدماء أن من الواجب التزام ظواهر الرسم المصحفي في كتابة المصاحف، وجعلوا خط
المصاحف خاصاً بها ((4)) .
وقد ذكر الزمخشري في الكشاف أن: " خط المصحف سنة لا يتغير " ((5)) .
وقد علل كثير منهم ظواهر الرسم بعلل لغوية أو نحوية أو بيانية، وبينوا أوجه بعض
أشكال الرسم بيانياً ((6)) . ويقول ابن قتيبة: " وليست تخلو هذه الحروف من أن
تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها " ((7)) .
__________
(1) المُسْتَصْفَى من علم الأصول. مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغَزَالي أبو حامد. (450
ـ 505) . تحقيق: مُحَمَّد عَبْد السلام عَبْد الشافي. دار الكتب العلمية. بيروت.
ط1. 1413 هـ.: 2 /115.
(2) تأويل مشكل الَقُرْآن: ص 30. جامع البيان: 1/47 –48 و 57-58.
(3) ينظر رسم المصحف: 168.
(4) همع الهوامع شرح جمع الجوامع. جلال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن السيوطي
الشافعي. ت 911هـ. دار المعرفة. بيروت. لبنان. 1327 هـ. مصورة عَنْ ط1. بولاق.
مصر: 2 / 243.
(5) الكَشَّاف: 3 /209.
(6) المحكم في نقط المصاحف. عثمان بن سعيد الداني أبو عمرو. (371 ـ 444) . تحقيق:
د. عزة حسن. دار الفكر. دمشق. ط1. 1407 هـ: ص 196.
(7) تَأوِيل مُشْكِل القُرْآن: ص 40 –41.
(1/134)
ويقول
ابن خلدون: " ثُمَّ اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها (أي المصاحف) تبركاً
بما رسمه أصحاب رَسُول الله (- صلى الله عليه وسلم -) وخير الخلق من بعده،
المتلقون لوحيه من كلام الله تعَاَلىَ وكلامه … " ((1)) .
ثُمَّ يذكر بعض ما يتعلق بعلاقة الرسم الَقُرْآني بأداء المعنى استناداً للخط
فيقول ناقلاً: " ويقولون في مثل زيادة الألف في (لا أذبحنه) ((2)) أنه نبع
على أن الذبح لم يقع. وفي زيادة الياء في (بأييد) ((3)) أنه تنبيه على كمال القدرة
الربانية وأمثال ذلك " ((4)) .
وقد ذكر القدماء أن من صور اختلاف الرسم ما يكون لاختلاف المعنى ((5)) ، وكان ممن
أولع بذلك المراكشي ـ على ما نقله القسطلاني رَحِمَه الله ـ ((6)) . ونحن في هذا
المطلب سنحاول أن نعلل تعليلاً معنوياً بعض صور الرسم في سُوْرَة الْقَصَصِ لأننا
نعد ذلك ذا فائدة في إيضاح بعض معاني هذا السورة.
ونحن نجد من صور رسم المصحف في هذه السورة:
1. ءايت:
إذ رسمت الهمزة مستقلة وحذفت الألف بعد الياء. ولعل ذلك يَدُلُّ على كمال الجمع في
كون تقديم الهمزة مشعر بذلك.
2. يستحي:
إذ رسمت بياء واحدة، وكان حقها أن ترسم بيائين، ولعل ذلك يَدُلُّ على شدة المبالغة
في الإبقاء على النساء دون الرجال.
3. ءَاَلُ:
__________
(1) مقدمة ابن خلدون. عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن خلدون الحضرمي. ت 808 هـ.
دار القلم. بيروت. ط5. 1984 م: ص 757 و 791.
(2) سُوْرَة النَّمْلِ: الآية 21.
(3) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية 47.
(4) المصدر نفسه: ص 758.
(5) ينظر رسم المصحف: 223.
(6) لطائف الإشارات لفنون القراءات. للإمام شهاب الدِّيْن أبو العباس أحمد بن
مُحَمَّد القسطلاني. 851 هـ ـ ت 923 هـ. تحقيق: عامر السيد عثمان. د. عَبْد الصبور
شاهين. طبع المجلس العلمي للشؤون الإسلامية. القاهرة. 1972 م: 283 –284.
(1/135)
إذ رسمت
همزة بدل علامة المد على الألف. ولعل ذلك للدلالة على أن هؤلاء الآل غير الصالحين،
لأن الهمزة حرف تقليل أحياناً ((1)) .
4. امرأتُ:
إذ رسمت بتاء طويلة بدل التاء المدورة، ولعل ذلك ليدل على كمالها ـ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا ـ لأن التاء الطويلة تدلّ على الكمال والعظمة.
5. يموسى:
إذ رسمت ياء النداء بغير ألف، ولعل ذلك للدلالة على سرعة النداء والخطاب في
الحالتين ((2)) .
6. استئجره:
إذ رسمت الهمزة على كرسي، واستئجرت إذ رسمت الهمزة كذلك، ولعل ذلك للدلالة على
مبالغتها وحرصها على طلب إجارة موسى (- عليه السلام -) لحاجتها وأختها لحمايته،
فجاء الرسم الَقُرْآني بهذه الصيغة مشعراً بذلك.
7. ءانس:
إذ رسمت الهمزة لوحدها، ولعل ذلك لبيان شدة أنسه بالنار التي رآها.
8. فذنك:
إذ رسمت بغير ألف.
ولعل ذلك للدلالة على اسم الإشارة، وكونه موجهاً للبراهين الإلهية.
9. يهمن:
إذ رسمت بكرسي ياء بدل الألف، ولعل ذلك للدلالة على استعجال فرعون في ندائه
لهامان.
10. ما اتهم:
إذ رسمت بكرسي بدل الألف، ولعل ذلك يتوجه لعدم مجيء النذير لهم من قبل.
11. سحران:
إذ رسمت بصيغة تقرأ بها بعدة قراءات، ولعل ذلك لكي يتوجه النصّ لعدة آفاق من
القراءات، وبذلك إما للإشارة إلى موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ (ساحران) ،
أو موسى ومحمد ـ عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام ـ. وأما للإشارة إلى سحر معه سحر، أي
سحر موسى وهارون ـ عَلَيْهما السَّلام ـ، وكل ذلك مما يفتح آفاق متعددة للنص.
12. شركاءي:
__________
(1) لقد رسمت في بعض المصاحف (سلام على آل ياسين) بألف ممدودة للتكريم، كما في
الكَشَّاف: إذ قال: " وأما من قرأ آل ياسين اسم أبي إلياس أضيف إليه الآل
". الكَشَّاف: 3/ 353 –353.
(2) أي الآية 29 و 30 من سُوْرَة الْقَصَصِ.
(1/136)
إذ لم
ترسم الهمزة على كرسيها،، ولعل ذلك للإشارة إلى انتفاء الشركاء وكون الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فرداً، لأن إفراد الهمزة مشعر بذلك كما لا يخفى.
13. ءامن:
إذ رسمت الهمزة منفردة دون رسم الألف وعليها علامة المد،، ولعل ذلك للإشارة إلى
الثواب الموحد لمن آمن بجعل الهمزة مفردة، كما أن المؤمن مفرد في إيمانه.
إننا لا ندعي أن ما قدمناه من تأويلات للمعنى وفق ظواهر الرسم هو التأويل الوحيد،
ولكن ما قدمناه هو تعليل استنتجناه من استقراء ظواهر الرسم المصحفي في سُوْرَة
الْقَصَصِ، وهو في كلّ الأحوال اجتهاد مجتهد، ولسنا ممن يقول في الَقُرْآن
الكَرِيم برأيه، فحاشى لله من ذلك، وإنما هو رأي أبديناه.
المبحث الثاني: الأطر العامة لسُوْرَة الْقَصَصِ
المطلب الأول: دلالة التوحيد في سورة القصص
أنزل الله جل جلاله القرآن هادياً للناس ومرشداً لهم، ووضع لهم فيه المنهج الأقوم،
والمنهاج الأحكم، فكان كما وصفه في ملازمته لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)
{النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} ((1)) ، وتتضمن سور القرآن الكريم دلالات
متعددة على التوحيد الإلهي الذي هو ذات (المعرفة الإلهية) ((2)) ، ولذلك كانت سورة
الإخلاص تعدل
(ثلث القرآن) ((3)) .
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 157.
(2) حال أهل الحقيقة مع الله. السيد أحمد الرفاعي. (512 ـ 578 هـ) . تحقيق:
مُحَمَّد علي مُحَمَّد. الدار الجماهيرية. ليبيا. 1975 م: ص111.
(3) صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل قل هو الله أحد 4 /1915 رقم (4726)
. من حديث أبي سعيد الخدري عن الرَّسُول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
قوله: والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن) . وصحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين
وقصرها، باب فضل قراءة قل هو الله أحد. رقم (1344) من حديث أبي هريرة (- رضي الله
عنه -) .
(1/137)
ولعل من
السور التي تضمنت جوانب متعددة من دلالة التوحيد سورة القصص (المكية) ((1)) ، التي
وصفها بعض الباحثين، فقال: " إن سورة القصص قد احتوت في ذاتها على جوانب
تشريعية في باطن النص، وفي نفس الوقت فقد احتوت على جوانب توحيدية في ظاهر النص
بما لا يدع مجالاً للشك في أن سورة القصص تضمنت في مجملها روحاً إيمانياً يفيض على
المؤمنين بوداعة وسكينة " ((2)) .
__________
(1) الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: 1 /58.
(2) قصص الَقُرْآن، دروس وعبر. سعد يوسف أبو عزيز. الطبعة الأولى. دار الفجر
للتراث. القاهرة. 1420 هـ. ص224 وما بعدها.
(1/138)
وتلك هي
ميزة النص في سورة القصص كونه يحتوي على أسلوب خطاب يقرر حقيقة التوحيد بأسلوب غير
مباشر، كما في قوله تعالى فيها: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ((1)) ، فمفهوم النص في هذه الآيات له ظاهر وباطن
معنوي، فأما المفهوم الظاهر، فهو إن الله عز وجل هو الذي يصرف الكون ويقدر تصرفه
فيه وما يجري فيه، أما المفهوم الداخلي ((2)) الإشاري، فيقرر حقيقة توحيدية أخرى،
هي (أن إرجاع موسى (- عليه السلام -) إلى أمه كان لقدير إلهي ليكون فرعون وقومه
الذين التقطوه في خانة المحاجة بكفرهم، وهو رسول الله تعالى لهم، ونحن نجد في سورة
القصص أن آيات دلالة التوحيد ذات مبنى ومعنى صيغا بأسلوب يقرر حقيقة التوحيد حتى
لدى أولئك الذين لا يؤمنون بالله جل جلاله ((3)) ، مثل قوله تعالى فيها: {إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} ((4)) في بيان الوعد الإلهي، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ((5)) في المشيئة الكلية، {وَاللَّهُ عَلَى مَا
نَقُولُ وَكِيلٌ} ((6)
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(2) لا ريب أننا لا نعني بالمفهوم الداخلي هاهنا ما كان يعنيه الباطنيون من ملاحدة
القرامطة والإسماعيلية، بل إن مفهومنا لهذا التعبير هو (معرفة إشارات النص الكامنة
فيه) ، راجع فضائح الباطنية. مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الغزالي أبو حامد.
(450 ـ 505) . تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن بدوي. مؤسسة دار الكتب الثقافية. الكويت.
(د. ت) .: ص45.
(3) ينظر التوحيد والمعرفة في الفكر الإسلامي. أحمد حسن الزين. الطبعة الثانية.
دار العرفان. بيروت، لبنان. 1988 م.: ص 222-224.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(1/139)
)
الوكالة الإلهية، {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((1)) التوحيد الخاص
بالربوبية، {بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} ((2)) معطي الهدى، {رَبِّي أَعْلَمُ
بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ}
((3)) .
وقد عرف العلماء التوحيد بأنه:
" إفراد الله تعالى بالعبودية، والإقرار له بالوحدانية " ((4)) .
وهذا التعريف الذي يراه الباحث جامعاً مانعاً يرينا كيف أن سورة القصص قد تضمنت ما
يمكن أن يكون بحق (كل دلائل التوحيد ودلالاتها) استناداً إلى ما ذهب إليه أحد
الباحثين إذ قال: " إن آيات التوحيد الخالص في سورة القصص تنطق في حد ذاتها
بمعنى (لا إله إلاَّ الله) على سبيل الإيضاح، أو الإشارة على حد سواء، لا بل يكاد
أن يكون السياق العام للسورة في خطها البياني التصاعدي المتصاعد نحو الذروة ناطقاً
بإفراد التوحيد. فسورة القصص في هذا الباب شارحة للصفات الالهية التوحيدية "
((5)) .
ولقد لاحظنا أن سورة القصص فيها عشرة مطالب توحيدية نوجزها في النقاط الآتية:
1- المنّ على المؤمنين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 32.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(4) علم الكلام نظرة تحليلية. د. عبد الكريم راجي. الطبعة الثانية. دار ذات
السلاسل. الكويت. 1988 م.: ص93.
(5) القصص القرآني: ص307 وما بعدها.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(1/140)
2- صدق
وعد الله عز وجل: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ
تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ} ((1)) .
3- الجزاء الصالح: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((2)) .
4- غفران الله لعبادة المؤمنين: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ
لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ((3)) .
5- الهداية الإلهية: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي
أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((4)) .
6- إشهاد الله عز وجل: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ
قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} ((5)) .
7- الربوبية: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ} ((6)) .
8- الحق والهداية من الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا
بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}
((7)) ، و {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ((8))
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.
(1/141)
9- عدم
إهلاك القرى إلا بإنذار: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ
فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي
الْقُرَى إِلاَ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ((1)) .
10- التوحيد بإسناد الصفات: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ
إِلاَ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} ((2)) .
فهذه المطالب العشرة تبين لنا أن آيات التوحيد في سورة القصص تجري في نظام قرآني
إعجازي لا يدانيه بحق أي نظام لغوي آخر. وفي ذلك يقول الدكتور ناصر الحسن:
" والذي يحلل ما جاء في سورة القصص الشريفة يلاحظ كيف أن مجرى آيات وحدانية
الله عز وجل فيها تسير في طريق مستقيم فتأخذ بالعقول والقلوب كمثل قوله تعالى
فيها: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} ((3)) ، فإن دلالته على
أن الله عز وجل يتكفل برسله، ويصطفيهم منذ طفولتهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته،
فالآية هنا تجعل تحريم المراضع على موسى (- عليه السلام -) في قصر فرعون فعلاً من
أفعال الله عز وجل، وفي ذلك دلالة عظمى على وحدانيته تعالى " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12.
(4) مباحث في إعجاز الَقُرْآن. د. سليمان علي. الطبعة الثانية. دار المعارف بمصر.
1986 م.: ص 158.
(1/142)
وإذا ما حاول الباحث ـ استناداً إلى ما تقدم ـ إعادة صياغة معنى الآيات التوحيدية في سورة القصص، فإنه يخرج بما يمكن أن نوجزه من صفات الله عز وجل في النص الآتي المستخلص من السورة نفسها على ما قدمنا نقله من سوابق الآيات: (إن وعد الله حق يلحق بالصالحين وهو وكيلهم، رب العالمين ببراهينه، وهو العليم بمن جاء بالهدى، وإن الهدى هو هداه الذي هو الحق من عنده وبيده وحده الهداية، الذي لا يعذب قرية إلا بعد أن يقيم عليها الحجة، وما عنده هو الخير الباقي الذي يخلق، والذي يعلم الخوافي، لا إله إلا هو رب الليل والنهار، وهو الذي لا يحب الفرحين ولا المفسدين، مهلك القرون الماضية الذي ثوابه الثواب لمن آمن وما من احد يشعر امراً من دونه الذي يرد الناس إلى معاد، كلّ شيء هالك إلاّ وجه جل جلالة) .
(1/143)
وهذه
الإشارات لاقت هوى من العارفين، فتحققوا بها، وبخاصة ما ورد منها على الاجمال
((1)) . وقد كان لآية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَ وَجْهَهُ} ((2)) دلالة توحيدية
تنزيهية تشبه دلالة قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالأِكْرَامِ} ((3)) ، أو دلالة قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ} ((4)) ، فإثبات الوجه لله تعالى دون كيفية هو قمة من قمم التوحيد.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد عياش الكبيسي: " وصفات لا يدل ظاهرها على علاقة
معنوية مع هذه الاسماء بل إن ظاهرها ولّد نوع إشكال في فهم المدارس الكلامية ...
كإبعاض وأعضاء أضيفت إلى الله تعالى مثل الوجه في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ
هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} " ((5)) . ثم يعود الدكتور ليقرر ذلك، فيقول:
" إن العقيدة القرآنية عقيدة عامة تناسب جميع المكلفين، لأنها جاءت لهم
جميعاً ... وعلى هذا نرى كيف استطاعت عقيدة القرآن أن تقنع مختلف المستويات
الفكرية والاجتماعية وغيرها ودفعت بالجميع إلى الغاية
العظيمة " ((6)) .
__________
(1) النظام الخاص لأهل الاختصاص. السيد أحمد الرفاعي (512 ـ 578 هـ) تحقيق:
مُحَمَّد علي مُحَمَّد. الدار الجماهيرية. ليبيا. 1978 م.: ص85.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(3) سُوْرَة الرَّحْمَنِ: الآية 27.
(4) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية 115.
(5) العقيدة الإسلامية في القرآن الكريم ومناهج المتكلمين. مُحَمَّد عباس الكبيسي.
الطبعة الأولى. بغداد. 1992 م.: ص121.
(6) المصدر نفسه: ص 32.
(1/144)
وهذا
الكلام مهم جداً جداً في بابه ونجاحه في تقرير آية الوجه في سورة القصص، التي هي
في نفس الوقت آية من الآيات التي تتضمن دلالة التوحيد بما أراده هو سبحانه وتعالى
أن يثبته لنفسه {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ((1)) ، ومن
الواضح استناداً إلى ما تقدم أن آيات وجود الله عز وجل في سورة القصص، قد احتوت
على كثير من دلالات التوحيد ذات المضمون العام المباشر الظاهر اللفظ والمعنى
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} ((2)) .
المطلب الثاني: المرأة في سُوْرَة الْقَصَصِ
هنالك في سور القرآن الكريم وآياته مواضع كثيرة ذكرت فيها المرأة، وبينت فيها
أحكامها، وخوطبت أكرم خطاب وأعزها أعظم إعزاز ((3)) .
وقد كانت المرأة وما زالت مكرمه بإيمانها في النص القرآني، لها ما للرجل، وعليها
ماعليه، وحفظ لها القرآن الكريم كرامتها وشخصيتها وبينت ذلك أحاديث رسول الله (-
صلى الله عليه وسلم -) وأبرزت ذلك كله الشريعه السمحاء.
ويذكر ذلك بعض الباحثين فيقول: " إن توجيه الخطاب للمرأة في النصوص القرآنية
حظي بأسلوب إلهي خاص جدير بالدراسه إستناداً إلى ظواهر النصوص وبواطنها، ذلك أن
آليات المعنى تشير خلافاً إلى ما يزعمه مبغضو الاسلام إلى أن المرأة في الخطاب
القرآني الموجه لها حضيت بالإكرام الذي ما بعد إكرام " ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الأَعْرَافِ: الآية 180.
(2) سُوْرَة مُحَمَّد (- صلى الله عليه وسلم -) : الآية 19.
(3) ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القُرْآن الكَرِيْم. وضعه مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد
البَاقِي. مطابع الشعب. ط1. 1378 هـ. مادة (نساء) ، (امرأة) ، (المؤمنات) ،
(فتياتكم) . . .. الخ.
(4) خطاب المرأة الَقُرْآني. د. سعاد الحكيم. الطبعة الأولى. دار المعرفة. بيروت.
1988 م: ص88 - 89.
(1/145)
وقد
حاولنا في هذا البحث أن ندرس ـ ضمن دراستنا المتكاملة إن شاء الله تعالى لسورة
القصص ـ طبيعة الوصف القرآني للمرأة فيها، وهو ما أوضحه الدكتور مرشد عبد العزيز،
فقال في ذلك:
" لقد كانت سورة القصص المكية تجد وصفين لنوعين من أنواع النساء:
1- النساء المؤمنات (امرأة فرعون. أُم موسى) .
2- النساء بصورة عامة (يستحيي نساءهم) .
وذلك أوجد نوعاً من ثنائية الوصف الدلالي في إيضاح الصورة القرآنية للمرأة في سورة
القصص " ((1)) .
ونحن نجد أن هذا التقييم قاصر في حد ذاته، فسورة القصص تحتوي ضمن وصفها الإلهي
للمرأة على عدة أنواع من النساء تتعلق بها عدة طبائع ونوازع يمكن تلخيصها في الآتي
بيانه إن شاء الله تعالى:
1. النساء الأسيرات (يستحيي نساءهم) :
والاستحياء ترك القتل مع الأسر، وقد فعل ذلك فرعون بنساء بني إسرائيل، وهن يظهرن
في هذا النص بغير شخصية، فكأنهن ذبن في مجتمع العبيد الفرعوني.
2. الام:
__________
(1) خطاب المرأة القرآني: ص 191.
(1/146)
وتتجسد
ملامح الأم في عدة مواضع من سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَى أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا
تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ((1)) ،
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا
أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ،
{وَقَالَتْ لأُِخْتِهِ قُصِّيهِ} ((3)) ، {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} ((4)) ، ففي هذه
المواضع نجد أم موسى (- عليه السلام -) في أبهى مشاعرها بالامومة من ارضاعة الاول
إلى إلقائه في التابوت في البحر، وتوكيل الله تعالى، وعدم الخوف، إلى فراغ فؤادها،
وكونها كادت أن تخبر بذلك لولا أن سكَّن الله ذلك عنها، ثم أمرها لأخته بالبحث عنه
وإرجاعه إليها بسلام لترضعه من بيت فرعون، فهذه مجموعة مشاعر الأم مجسدة في آيات
سورة القصص على حده.
3. الاخت:
ونجدها هنا صورة الأخت التي تطيع أمها، وتتمتع بقدرات خارقة للنظر عن بعد كما يوحي
بذلك سياق الاية: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ((5)) ، {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} ((6)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12.
(1/147)
فنحن
نشاهد في هاتين الآيتين اللطف في خطاب أخت موسى لحاشية فرعون لتعيد أخاها ـ بإذن
الله جل جلاله ـ إلى أمها بأمر الله تعالى، والله على كل شيء قدير.
4. الملكة المؤمنة:
ويصورها النص القرآني بأنها تتلطف في الخطاب لتحافظ على موسى (- عليه السلام -) من
بطش زوجها الكافر. {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا
تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} ((1)) .
5. المرأة المستضعفة:
وهي شخصية تصورها سورة القصص في حكايتها لأخبار ابنتي النبي الكريم شعيب ـ عليه
وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ في قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ
امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى
يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ((2)) .
6. المرأة الحيية:
وهي سورة بليغة في كل بلاغة النص القرآني، وسورة معجزة في الوصف بما صورها الله
تعالى في وصف حياء ابنة شعيب (- عليه السلام -) ، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا
تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ
مَا سَقَيْتَ لَنَا} ((3)) .
وتتجسد في هذه السورة أعلى مراحل كرامة المرأة في النص وأعظم مراتب شخصيتها
القرآنية.
7. المرأة المخطوبة:
ويستخدم القرآن الكريم في هذا الموضع صيغة خطبة الأب لإبنته لمن رآه مكافئاً لها
كما في قوله تعالى فيها: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ((4)) .
8. المرآة المتزوجة:
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 23.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.
(1/148)
والنص
في سورة القصص يضيف المرآة المتزوجة إلى زوجها اكراماً لها بضمير الغائب، وهذا من
بدائع الوصف القرآني للمرآة، كما في قوله تعالى: {فَسَارَ بِأَهْلِهِ} ، {قَالَ
لأهْلِهِ} ، والمعنى القرآني الكامن في وصف المرأة المتزوجة، وإضافتها إلى موسى (-
عليه السلام -) تقرّ بأن المرأة تبع لزوجها، وهذا من حكمة الله تعالى في خلقه،
فإذا أدركنا مما تقدم صورة المرأة، والوصف القرآني في سورة القصص أدركنا إلى أي
حد، وإلى أي مقدار كرم القرآن الكريم المرأة، وامتدحها وأثنى عليها ووصف ذكأها،
وجعل لها أحكاماً خاصة بها دون مشقة ولا عسر.
المطلب الثالث: الزمن في سورة القصص
يعد الزمن بعداً دلالياً خاضعاً لتغيرات فلسفية ـ ذات صيغة عامة في كونها تتميز
بأبعاد لا يمكن وصفها إلا من خلال تعريف الزمن بأنه: " البعد الدال على تغير
الوقت " ((1)) .
أو هو " مرور الوقت في المكان الذي هو نقيض حركة الزمن " ((2)) ، ويمكن
ربط المفهوم الحديث للزمن بالمفهوم العربي الإسلامي لفكرة الزمن بأنه: " تلك
المداولة الإلهية للساعات والثواني والدقائق واللحظات التي تتحكم بحركة الإنسان
على الأرض من خلال تقرير إلهي لليل والنهار المرتبطين بالشمس والقمر في دورانهما
حيث دارا " ((3)) .
ونجد إضافة إلى ذلك كله ومقارنة به كله، أن للزمن بعداً لغوياً ـ بلاغياً يمكن
تلمسه في قول بعض الباحثين:
__________
(1) موجز تاريخ الزمن. هربرت رج. ترجمة: رضوان علي رضوان. الطبعة الثانية. دار
الشؤون الأكاديمية. بيروت، لبنان 1989 م.: ص 47. وينظر الزمن في الفكر الحديث.
ديفد رأي. ترجمة: أحمد عَبْد الله. الطبعة الأولى. دار الشؤون الأكاديمية. بيروت،
لبنان 1992 م.: ص 115.
(2) موجز تاريخ الزمن: ص48. وينظر الزمن في الفكر الحديث: ص 117.
(3) الزمن في الفكر الحديث: ص 120.
(1/149)
"
لم يختلف اللغويون والنحاة والبلاغيون والكتاب المنشؤون العرب اختلافهم في دلالة
لفظة الزمن على معناها فهي في مقابل الوقت تدلّ على المداولة اليومية للساعات. وقد
شرح القرآن الكريم شرحاً وافياً فكرة أن الأيام بليلها ونهارها من الله سبحانه
وتعالى، وهي الفكرة التي تبناها العلماء العرب في الكلام وفي اللغة على حد سواء،
فالزمن عندهم جميعاً آلة حركة الوقت " ((1)) .
وقد حاول بعض المستشرقين أن ينفوا من اللغة العربية وجود دلالة زمنية في الأفعال
(الماضية والحاضرة والمستقبلية) تدل على معنى زمني ((2)) ، وهذا الزعم باطل من
أساسه لأن الدلالة الذاتية للفعل العربي تحمل الدلالة الزمنية في الماضي الذي ذهب،
والحاضر الذي يضارع الكلام، والمستقبل المجرد عن سوف والسين، أو التصق بهما لفظاً
وتقديراً في كون تلك الأفعال في معناها الفعلي وفي معناها البلاغي تدل على زمن
((3)) .
ولا ريب أن هذه الفرية بعض ما تعود المستشرقون على إلصاقه باللغة العربية منذ زمن
طويل ((4)) .
__________
(1) اللغة العربية وفكرة الزمن. د. علي دك الباب. الطبعة الأولى. الطبعة الأولى.
دار الكتاب العربي. بيروت. دمشق. 1994 م.: ص 145.
(2) اللغة العربية وفكرة الزمن: ص 217.
(3) ينظر اللغة العربية وفكرة الزمن: ص 192.
(4) أباطيل وأسحار. محمود مُحَمَّد شاكر. الطبعة الرابعة. مَكْتَبَة الخانجي
بالقاهرة. 1988 م: ص 244.
(1/150)
ونحن في
هذا المطلب سنحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ دراسة البلاغة القرآنية المعجزة إلهياً
في استخدام الزمن بصيغه الماضية، والحاضرة، والمستقبلية في سورة القصص تحديداً لما
لاحظناه من هذا الإكثار الذي يكاد أن يعم في مدلولات الزمن، وكل ذلك إنما أتى
لحكمة إلهية قد تكون غابت يوماً عن عصر المفسرين القدماء والبلاغيين القدماء وفق
معارف عصرهم، أما اليوم فمن واجب المفسر المحدث إظهارها. وقد تنبه الرازي لبعض ذلك
فقال في تفسير قوله تعالى:
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} ((1)) ،
" (ونريد) للاستقبال، ولكن أريد به حكاية حال ماضية، ويجوز أن يكون حالاً من
يستضعف، أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم " ((2)) ، فنحن واجدون في
سورة القصص أن قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ}
((3)) يحمل دلالة زمنية في كون الخطاب الحاضر متعلقاً بحال ماضي يؤول في مجمله إلى
المستقبل، وهذا أحد أوجه الإعجاز القرآني في أسلوبه الفخم المتعدد الدلالات
والمعاني.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) مفاتيح الغيب: 12 / 226.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(1/151)
واستخدام
صيغ الماضي بكثرة في سورة القصص مثلما ورد في قصة موسى (- عليه السلام -) مثلاً:
{علاَ فِي الأَرْضِ} ((1)) ، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} ((2)) ،
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} ((3)) ، {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ} ((4))
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ
الْمَرَاضِعَ} ((5)) ، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ((6)) ، {وَدَخَلَ
الْمَدِينَةَ} ((7)) ، مشعر في حد ذاته بأن الزمن الماضي مرتبط ارتباطاً وثيقاً
بالزمن الحاضر لا يكاد ينفصل عنه أبداً، لأن ذلك الاستخدام لا يكاد يفارق ما مضى
إلا لدلالة أخرى بقرينة أخرى، فقوله تعالى: {علاَ فِي الأَرْضِ} هو نفسه (يعلو) و
(سيعلو) لما ضارع ولما استقبل في دلالته، وكذلك تنبه لهذه الدلالة الماضية الإمام
الآلوسي ـ رحمه الله برحمته ـ فقال في تفسير قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ
تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} ((8)) ، " (بالأمس) منذ زمان قريب، وهو
مجاز شائع، وجوز حمله على الحقيقة، والجار والمجرور متعلق بـ (تمنوا) أو بمكانه،
قيل: والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في (فخسفنا) يدل عليه " ((9)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 8.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 12.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(9) روح المعاني في تَفْسِير القُرْآن العَظِيْم والسبع المثاني. لأبي الفضل شهاب
الدِّيْن السيد محمود الآلوسي البغدادي. ت 1307 هـ. إدارة الطباعة المنيرية بمصر
(د. ت) : 20 / 124.
(1/152)
ونحن
نوافق الآلوسي في ذلك، فإن دلالة الفعل الماضي الناقص (وأصبح) مقترنة (بالأمس)
أصبحت تظهر استمرارية الزمن الماضي ودلالات الماضي في هذه السورة بلاغياً توجب
الانبهار لبديع الأسلوب القرآني المعجز فقوله تعالى فيها: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ
الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} ((1)) ، يدلّ على اقتران الفعل
الماضي (عما) بالظرف الزماني (يومئذ) يصلح في استخدامه لوصف حال أولئك القوم الذين
مضوا، مثلما يصلح في استخدامه لوصف حال كل قوم عميت عليهم الأنباء، فهم لا
يتساءلون عن أي شيء لأنهم لا يستفيدون من سؤالهم بعد أن ذهب عنهم الزمن الذي هم
فيه.
وقد تنبه على ذلك الزمخشري ـ رحمه الله برحمته ـ فقال في قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ
عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} : " فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي
إليهم، {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} لا يسال بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في
المشكلات، لأنهم يتساوون جميعاً في عمى الأنباء عليهم " ((2)) .
أما دلالات الفعل المضارع على الحاضر في سورة القصص، فهي ذات صيغة خاصة تجعل قارئ
النص القرآني في سورة القصص يشعر بكونه مشاهداً لما يقرأون في خياله الذي يتصور به
الأشياء.
فقوله تعالى: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((3)) يدلّ فيما يدلّ عليه على أن توالي الأفعال
المضارعة (يستضعف) ، (يذبح) ،
(يستحي) خاص بهذه الصيغة الزمنية التي تجعل النص ليس خاصاً ببني إسرائيل وفرعون
فحسب، بل خاصاً بكل من استضعف في الأرض.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 66.
(2) الكَشَّاف: 3/188.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(1/153)
وقوله
تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((1)) ، يدلّ في
(تمشي) وهو فعل مضارع تام على أن المشي استمر في النص، وهذه دلالة زمنية بليغة كل
البلاغة تشعر بإعجاز النص القرآني.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا
فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِن الْمُؤْمِنِينَ} ((2)) ، فقد توالت الأفعال
المضارعة توالياً جعلها سنة إلهية خاصة بكل مجموعة من الناس في الماضي، والحاضر،
والمستقبل.
وهذه الدلالات المضارعة تنبه لها الزمخشري رحمه الله فقال: " وجيء بالقول
معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ويؤول معناه إلى قولك: ولولا قولهم
هذا " ((3)) ، فجعل الزمخشري هذه الآية دالة على الزمن بكل دلالاته.
فقد قدمنا فيما مضى استعراضاً موجزاً يبرز مكامن دلالات الزمن في سورة القصص،
لنبرهن على جمالية (الاستخدام القرآني) ليجعل منه نصاً متحركاً قابلاً للعمل به في
كل زمان ومكان.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 47.
(3) الكشاف الزمخشري: 3 / 183.
(1/154)
فالذي
دفعني لكتابة هذا المطلب في موضوع الزمن في سورة القصص بصورة خاصة، والذي يعبر عن
دلالته في القرآن الكريم بصورة عامة هو ما يتفوه به بعض المتشدقين بالحضارة
الغربية، والمنبهرين بترهاتها، مما أدى بهم إلى أن ادعوا ظلماً وبهتاناً أن القرآن
لم يعد يصلح لزمن العولمة ولزمن الإنترنت ((1)) ، فنحن نريد أن نثبت ونبرهن من
خلال هذا المطلب أن الزمن مستمر في دلالته على الماضي، والحاضر، والمستقبل على ما
سنبينه ـ إن شاء الله تعالى ـ في الفصل الثامن، وبهذا بينا وجهاً من وجوه الإعجاز
في القرآن الكريم بقدرته على الأخذ بدقة الحياة وتوجيهها نحو شاطئ الأمان، بعد أن
تاه الناس في دوامة الأيديولوجيات الغربية والأفكار المشوهة، فإنها خطوة أولى
تتبعها خطوات على طريق تفعيل العمل بالقرآن الكريم.
قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ((2)) .
المطلب الرابع: التربية والسلوك في سورة القصص
لا يمكن إغفال أمر مهم كل الأهمية في استعراضنا التحليلي لسورة القصص، مفاده أن
المرامي التربوية والسلوكية فيها تختلف كل الاختلاف عن باقي السور القرآنية التي
تحتوي على غايات تربوية وسلوكية وإرشادية في كونها استهدفت أربعة أمور استطعنا أن
نستخلصها من تحليلنا العام للسورة:
تسلية قلوب المؤمنين إيمانياً.
طمأنينة النفوس الإيمانية.
توجيه الفهم المعرفي إيمانياً.
إبراز المآل والعاقبة في الدنيا والآخرة ((3)) .
__________
(1) مفاهيم قرآنية. مُحَمَّد أحمد خلف الله. الطبعة الثانية. الكويت. 1985 م.:
(2) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية 65.
(3) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم. د. عبد الحميد سليمان. الطبعة الأولى.
دار الرياض. جدة. 1411 هـ: ص 221 - 222.
(1/155)
ولا ريب
في أن هذه الأمور تستلزم أن نفهم مسارد مجيء الآيات القرآنية في سورة القصص من تلك
التي تحتوي فيما تحتويه على مكامن تربوية وسلوكية وتحليلها، وفق نظرة عصرية حديثة
جديدة، لأجل فهم أدق وأشمل لتلك الجوانب التربوية والسلوكية، تعد سورة القصص ـ وهي
مكية كما قدمنا ـ من أوائل السور التي احتوت على كافة مبادئ الإرشاد التربوي الخمسة:
القراءة: {نَتْلُو عَلَيْكَ} ((1)) .
البيئة: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} ((2)) .
الاطمئنان: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} ((3)) .
الوصول: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ} ((4))
التذكير {وَمَا كُنتَ} ((5)) .
وهذه المبادئ الإرشادية التربوية الخمسة احتوت فيما احتوته على جوانب هي في حد
ذاتها جوانب التربية والسلوك القرآني الإيماني، فنحن نجد مثلاً أن دلالة قوله
تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((6)) ، تدل فيما تدل عليه على أن الإنسان في
بلوغه أشد عمره واستواء فهمه يؤتى إذا ما اخلص نيته لله سبحانه وتعالى الحكم
والعلم، وبخاصة إذا ما ترقى في مرتبة الإحسان التي هي ((أن تعبد الله كأنك تراه،
فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) ((7)) ، وبهذا تستقيم التربية التي حض عليها الله
سبحانه وتعالى.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 13.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 29.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 30.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 44، 45، 46، 86.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(7) صحيح البخاري وهو جزء من حديث طويل عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه: كتاب
الإيمان. باب سؤال جبريل ـ عَلَيْه السَّلام ـ عن الإيمان والإسلام والإحسان 4 /
1793. رقم (50) .
(1/156)
ونجد
كذلك أن دلالة قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى
رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((1)) ، تدل فيما تدل عليه على أن
الخروج لطلب العلم والمعرفة والفهم تكمن في النفسية التي تستطيع بشخصيتها أن
تستهدي بالله سبحانه وتعالى، لأن الهداية الإلهية أساس طلب العلم، وهذا من أهم
مبادئ السلوك التربوي الحديث التي سبقت آيات سورة القصص نظريات التربية الحديثة
إلى أبرزها، ونجد أن قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى
اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} ((2)) ، يدل فيما يدل عليه على أن
المراد بالحياء التربوي أساس من أساسيات السلوك العام والخاص الذي يتوجه، كما قال
علماء النفس والسلوك: في أن الحياء خصلة من خصال التربية التي لا يمكن إقامة نظام
تربوي متكامل إلا بها، لأن الحياء في أساسه أساس فعل كل شيء، أو الامتناع عن فعل
كل شيء ((3)) .
ونجد في قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} ((4)) أنه
يدل على جواز طلب الاستعانة في العلم بمن هو ناطق اللسان، وهذا من مبادئ علم
السلوك التربوي الحديثة التي تنص على أن من حق الطالب أن يستعين في عرض آرائه بمن
هو أقدر منه على عرض المادة.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(3) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 232 – 235.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(1/157)
ونجد في
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، أنه يدل في مجمل دلالاته الكلية والجزئية على أن إتيان
الكتاب يكون من بعد إهلاك من لا يستحق إتيان الكتاب، وأن في العلم البصيرة والبصر،
والهداية والهدى، والرحمة، وأن الغاية التربوية من ذلك كله التذكر العلمي الذي
تكون نتيجة تحصيل كمال المعرفة، وقد نص علماء السلوك على أن أخذ العلم بعد ذهاب من
لا يستحقونه ينتج عنه كمال العلم نفسه، وبهذا كذلك نجد السبق التربوي السلوكي
للقرآن الكريم من قبل أصحاب هذه النظريات الحديثة.
ونجد أن قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ
هُدًى مِنْ اللَّهِ} ((2)) ، يدل في اقتضاءات سياقاته التربوية على أن نقصان
الهداية وإتباع الهوى يؤدي إلى الضلال، وهذا ما قرره علماء التربية الحديثة، إذ
جعلوا الهوى أحد مهلكات تحصيل العلم، وقرنوا بين الهوى النفسي (الرغبات الشخصية
الذاتية) وبين الجهل المطبق، فجاء القرآن الكريم وأثبت هذه الحقيقة مما يدل على
مصدره الإلهي.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 51.
(1/158)
ونجد أن
قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ((1)) ، يدل في الذي
يدل عليه على الأمر بترك سماع ما لا ينفع، لأنه يأخذ مساحة من العقل، جديرة بأن
يخزن فيها أمر نافع، ولعل ذلك بعض العلة في تعوذ رسول الله (- صلى الله عليه وسلم
-) من العلم الذي لا ينفع ((2)) . وهو عين ما قرره علماء الإرشاد التربوي اليوم.
ونجد أن قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} ((3)) ، ثم نهاية
قارون التي خسف فيه من خلالها، يدل على عدم جواز الاغترار بالعلم وحده، بل لا بد
من تطبيق العلم والعمل، أو العمل والعلم. ورحم الله الإمام السنوسي صاحب الجوهرة
إذ قال:
وعالم بعلمه لم يعلمن ... ... معذب من قبل عباد الوثن
وكل من بغير علم يعمل ... ... أعماله مردودة لا تقبل ((4))
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55.
(2) إشارة إلى حديث رواه مسلم عن زيد بن أرقم قال: ((لا أقول لكم إلا كما كان رسول
الله (- صلى الله عليه وسلم -) يقول، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز
والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير
من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع،
ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) . صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء
والاستغفار، 4/ 2088 رقم (2722) .
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(4) بوارق الحقائق. مُحَمَّد مهدي بهاء الدين الرواس. تحقيق: عبد الحكيم القباني.
الطبعة الرابعة. (د. ن.) . دمشق. 1994 م: ص 218.
(1/159)
وهذا هو
عين ما قرره علماء السلوك التربوي إذ قالوا: إن من اغتر بعلمه جهل نفسه وعلمه،
وكان القرآن الكريم قد سبقهم إلى ذلك في هذه الحقيقة التي لا زالت عندهم هنالك في
الغرب نظرية لم تحقق، وهذا بعض أوجه الإعجاز التربوي القرآني.
ونجد أن قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَ
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ((1)) ، يدل في مفهومه العام على أن الإنسان مهما كان في
ماضيه، وحاضره، ومستقبله لا يمكن له أن يتنبأ بما يؤول إليه أمره في العلم
والمعرفة، لأن ذلك من الأمور المقدرة المسلمة بيد الله سبحانه وتعالى، وهذه
الحقيقة كررها في العصر الحديث علماء التربية إذ ذهبوا إلى أن الإنسان مهما بلغ
ذكاؤه لا يمكنه أن يعلم ما سيكون عليه مستواه العلمي والتعليمي، ولكنهم لكفرهم لم
ينسبوا ذلك كله إلى الله سبحانه وتعالى، أما القرآن الكريم كلام الله جلَّ جلاله،
فقد أسند هذه الحقيقة لله سبحانه وتعالى ليسبق هؤلاء العلماء في هذه الحقيقة
التربوية.
وبذلك يمكن لنا أن نقول: إن سورة القصص الكريمة قد احتوت فيما احتوته على كافة
المبادئ التربوية والإرشادية والسلوكية التي لم يتوصل إليها علماء النفس من
التربويين إلا في أخريات العصر الحديث، وهذا مما توصلت إليه بحمد الله وشكره.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 86.
(1/160)
فسورة
القصص الكريمة في جوانبها التربوية، وفي مضامينها للسلوك التربوي لا تغفل أمراً،
هو جد مهم في الحياة الإرشادية التعليمية والتفهيمية للإنسان ألا وهي الحرص على
الجمع بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للآخرة ـ وهو العمل الأهم ـ وبين عموم نسيان
نصيب الإنسان من الحياة الدنيا ـ وهو العمل المهم ـ وهكذا فإن من قيم سُوْرَة
الْقَصَصِ الإرشادية في ذلك قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ
الْوَارِثِينَ} ((1)) ، فالإمامة للدنيا في بعض معانيها، والوراثة للآخرة، كما ذهب
إلى ذلك من ذهب ((2)) .
ونجد أن الإرشاد في ذلك يتمثل في قوله تعالى: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}
(3) ، فالتمكين في الأرض يكون بنصيب من الحياة الدنيا مقابل (الجنة) التي هي نصيب
الآخرة.
ونجد أن موسى (- عليه السلام -) أجر نفسه ثمان حجج أو عشراَ، وهذا أمر دنيوي أريدت
به مجموعة الأمور الأخروية، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا
نَقُولُ وَكِيلٌ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(2) ينظر التربية في الَقُرْآن الكَرِيم: ص 187.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(1/161)
وهكذا
تتضح قيمة التربية الإلهية، والإرشاد السلوكي في الجمع الذي تقدم ذكره قي قوله
تعالى حاكياً عن بعض قوم موسى في مخاطبتهم لقرون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ
اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ
كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((1)) ، فهذه الآية تدلّ في قيمتها التربوية
التي تحملها على أن هناك عدة أمور يجب التنبه لها في التربية الإيمانية:
ابتغاء وجه الله عَزَّ وجَلَّ.
تذكر الدار الآخرة.
عدم نسيان نصيب الحياة الدنيا.
الإحسان، وهو أحد أعظم المراتب المعرفية التربوية السلوكية.
الابتعاد عن الفساد، لأنه خلاف أوامر الله عَزَّ وجَلَّ.
وفي ذلك يقول الله عَزَّ وجَلَّ في سُوْرَة الْقَصَصِ واصفاً الدار الآخرة:
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الأَرْضِ} ((2)) ، ثُمَّ أعقبها بقوله:
{وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
بمعنى تربوي أن الذين يأخذون العلو في الأرض بعيداً عن الفساد يأخذون بفضل الله
عَزَّ وجَلَّ ورحمته الدار الآخرة.
وبذلك تستقيم الحياة الدنيا بالآخرة في القيم التربوية، وفي الإرشاد التربوي
السلوكي في سُوْرَة الْقَصَصِ.
المطلب الخامس: النظرة القرآنية لليهود في سورة القصص
تعد الشخصية اليهودية الإسرائيلية نسباً، من الشخصيات المحورية المعقدة كل التعقيد
في القرآن الكريم، ذلك أن السمات العامة لهذه الشخصية في مجمل آيات القرآن الكريم
على ما لاحظناه تتجسد في انهماكها في:
الكفر والشرك والإلحاد والاستهزاء الديني.
المال والبيع والشراء والاقتصاد والتجارة.
الانغماس في اللذات والأخذ بالدنيا.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 83.
(1/162)
الغرور
بالنسب والدين والقوية والجنس وما في الوعود السابقة.
الجرأة على انتهاك حدود الله عَزَّ وجَلَّ.
والإجرام هو محور هذه الشخصية، والصفة التي اتصفت بها طوال عصورها، ومع هذا
الإجرام هناك لعنة الجبن المحيطة بهذه الشخصية في كل أطوارها، وفي كل نزالاتها
الداخلية والخارجية ((1)) .
ومن الملاحظ أن سورة القصص قد حفلت بجانب كبير، ضمنياً، أو مضمونياً، أو تصريحاً،
أو تلميحاً من هذه الجوانب في إطارها الذي حللناه ودرسناه في كافة فصول هذه
الرسالة.
فموسى (- عليه السلام -) وهو الشخصية المحورية في سورة القصص، وقصته هي الأساس
الذي بينت عليه السورة كما يتضح من استقرائنا لها بصورة عمومية يتمحور من حوله
اليهود وبنو إسرائيل، بمؤمنيهم وكافريهم، وطغاتهم وطواغيتهم.
ونحن نحسب أن من المفيد جداً أن نفهم من خلال كل سورة على حدة كيفية تطور الشخصية
اليهودية دينياً، ووظيفة بعض آيات القرآن الكريم في التحذير منهم، وفي التنبيه إلى
الحكمة الإلهية التي أوجبت أن يتحولوا إلى قردة وخنازير، على ما ورد في النص
القرآني على الحقيقة لا على المجاز على ما أخبر الله سبحانه وتعالى ((2)) .
لذلك يمكن أن نجد في هذا المطلب السمات الشخصية العامة للشخصية اليهودية في سورة
القصص باستقراء كلي شمولي للآيات القرآنية الخاصة بهذا الموضوع.
وفائدة هذا الموضوع تتجلى في كونه معيناً على التصور العام لكل يهودي من بني
إسرائيل في مضمون النص المحلل، وفق آليات الفهم الداخلي والخارجي للمعنى، ومعنى
المعنى في آيات سورة القصص.
إن سورة القصص تجعل الشخصية اليهودية لبني إسرائيل متجسدة كل التجسد في:
__________
(1) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة. مُحَمَّد السيد طنطاوي. الطبعة الرابعة.
القاهرة. 1988 م: 1 /197 –198.
(2) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة: 2/ 284 –287.
(1/163)
الاستضعاف
وموافقة الظالم في طغيانه. {إِنَّ فِرْعَوْنَ علاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا
شِيَعًا} ((1)) .
الجبن والعام والسقوط تحت سيف القتل. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءَهُمْ} ((2)) .
الاستهانة بالعرض وعدم الالتفات لما يقع عليه. {وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} ((3)) .
نبذ الإمامة والوراثة من قبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بدليل الوعود الإلهية
في قوله تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ *
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((4)) .
حاجتهم إلى قوة إلهية للنصر على أعدائهم. {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) .
الإيغال في الشر والقتال بسب أو بدون سبب. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ
شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى
الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} ((6)) .
العودة لصنع الفتن والمشاكل وافتعال الشر والتكرار البالغ فيه. ... {فَإِذَا
الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ((7)) .
الغدر ونكران المعروف. {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا
قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5- 6.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19.
(1/164)
الكذب
على الإنسان في وجهه وصنع البهتان. {إِنْ تُرِيدُ إِلاَ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا
فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ} ((1)) وهذا باب من
أبواب نكر الجميل، فالشخصية هاهنا كما صورت في سورة القصص لا ينفع معها معروف
أبداً.
طول العمر قد ينسيهم ذكر الله عزَّ وجلَّ. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا
فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((2)) .
البغي. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((3)) .
الفرح بالنعمة الدنيوية. {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ((4)) .
نسيان الآخرة. {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} ((5)) .
عدم الموازنة بين الدنيا والآخرة. {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} ((6))
، فإن الشخصية اليهودية تميل إلى عدم التوازن بين الدنيا والآخرة، وجعل جل
الاهتمام بالدنيا وعبادتهم للمال والمظاهر الدنيوية.
عدم الإحسان. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ((7)) .
الإفساد. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} ((8)) .
الظن الكاذب بأن المال يؤتى عن طريق العلم الشخصي. {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((9)) .
محبة الزينة. {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ((10)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 19.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(10) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(1/165)
محبة
الحياة الدنيا. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} ((1)) .
الطع والشراهة وحسد الآخرين. {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ}
((2)) .
الجهل العميق. {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} ((3)) .
عدم نصرة بعضهم لبعض إذا وقع في أمر معضل. {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ((4)) .
حلول اللعنة الأبدية عليهم. {وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} ((5)) .
الانهزامية وعدم الثبات على رأي. {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ
يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَيَقْدِرُ} ((6)) .
تقريرهم للحقائق بعد وقوعها رغم علمهم السابق بها. {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ
الْكَافِرُونَ} ((7)) .
ونحن إذا حللنا ما تقدم من مقومات الشخصية اليهودية في سورة القصص والتي وضعنا لكل
منها دليلاً في آيات السورة، نجد مثلاً أن صفة الاستضعاف وما تلاها من صفات هي
صفات دائمة مما يوصلنا إلى نتيجة مهمة وهي: إن الشخصية اليهودية في سورة القصص،
مصورة في أحوال وأشكال تجمع كل ما وصفهم به القرآن الكريم في كل آياته وسوره ((8))
، وهو وجه آخر من وجوه الإعجاز القرآني في سورة القصص.
المطلب السادس: المال مفهومه وغاياته في سورة القصص
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(8) ينظر بنو إسرائيل في الكتاب والسنة: 1 / 98.
(1/166)
تعد
النظرة القرآنية في الحدود الإلهية للمال ومقوماته، وسبل جمعه وخصائصه، ومقومات
وجوده، والهدف منه، نظرة تجعله سبيلاً لا غاية ولا هدفاً، بل إن كثيراً من آيات
القرآن الكريم تحضّ على عدم الالتهاء والانغرار بالمال، وتجعل المال في الوقت نفسه
مما يلهي، ومما ينسب للذين نسوا الله عزَّ وجلَّ.
ولا ريب في أن للمال في القرآن الكريم مفهوماً مادياً يجعله مما يلهي ويعجب أو
يبعث على الحسد، وأحياناً يزيد من طغيان الطاغية، وتجبر المتجبر ((1)) .
ونلاحظ في سورة القصص التي حللنا كافة مضامينها في هذه الرسالة أنها أشارت إشارات
متعددة للمال تصريحاً، أو مجازاً، أو ضمن مفهوم سياق النص على أنه من الأشياء
المذمومة التي تبعث على الابتعاد عن الله عزَّ وجلَّ، ولكن آيات سورة القصص في
الوقت نفسه حضت على عدم نسيان نصيب الإنسان من الدنيا: (وهو ما يشمل المال بأنواعه
المتنوعة) ((2)) ، لذلك كانت لسورة القصص مجموعة من المفاهيم (عن المال) ، ودعوه
لمجموعة من الغايات (للمال نفسه) يمكن إيجازها في النقاط الآتية استناداً إلى
تحليلنا وتفسيرنا للآيات:
الوراثة الإلهية للمستضعفين مالياً ضمن كل أنواع الإرث من خلال وعد الله عزَّ
وجلَّ: {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((3)) ،
فهاهنا موقف وسط غير رافض للمال في حد ذاته كونه مالاً، وإلا لم يوعد به كلّ هؤلاء
المستضعفين من الله جلَّ جلاله مع التمكين في الأرض وإنما المرفوض ما كان من تصرف
فرعون بماله حتَّى:
{علاَ فِي الأَرْضِ} ((4)) كما قررت سورة القصص.
__________
(1) ينظر في الاقتصاد الإسلامي. د. عمر شقرا. الطبعة الثالثة. دار الحكمة. لندن.
1994 م: ص 277 – 278.
(2) ينظر المصدر نفسه: ص 310.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 – 6.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(1/167)
الإجارة
المالية وإعطاءها حقها الوافي التام، وما يترتب عليها من أجور مالية أو غير مالية،
وهو الوقت الذي قرره الله عزَّ وجلَّ في طلب شعيب ـ عليه وعلى نبينا الصلاة
والسلام ـ من موسى أن يؤجر نفسه له إذ قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ
إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ
أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} ((1)) ، فلم يكن للمال وجود
في هذه الإجارة، ورغم ذلك قبل موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذلك، وزاد عليه في
قبوله عندما قال لشعيب (- عليه السلام -) : {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا
الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ} ((2)) ، فإن موسى (- عليه السلام -) لم يجعل المال (وهو أحد شروط الإجارة
عرفاً وعقلاً وشرعاً وفقهاً في القديم والحديث) غاية، بل قبل بهذه الإجارة الطويلة
الأمد، مما يدل على أن المال هاهنا مفهوم مجازي بعيد كل البعد عن عقله (- عليه
السلام -) (وذلك كذلك قبل بنفسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ) .
الإنفاق المالي من رزق الله جلَّ جلاله من صفات المؤمنين، وذلك بدليل قوله عزَّ
وجلَّ: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ((3)) ، فإن هذا المدح بصفة هؤلاء
المؤمنين هنا إنما كان لأنهم جعلوا المال وسيلة لا هدف، وإنما كانوا ينفقون بقدر
الرزق بإنصاف دون إسراف، فكان ذلك من صفات إيمانهم والذكر المجازي للمال دون
التصريح به في سياق هذه الآية يجعله بعيداً كل البعد عن الذم، بل ربما كان هنا مما
يؤجر عليه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 27.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 28.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.
(1/168)
المال
قد يكون سبباً في البطر والكفر على رغم أنه نعمة من نعم الله عزَّ وجلَّ، وذلك
فيما أمتنه الله عزَّ وجلَّ على قوم الرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) إذ قال
جلَّ جلاله بعد أن قالوا:
{إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} ((1)) ، فبين الله
عزَّ وجلَّ منته (مالياً) عليهم بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا
آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ((2)) ، فالمال في مفهومه المجازي هاهنا مع الثمرات
والرزق لم يكن سبباً لإيمان هؤلاء القوم، بل خافوا على أموالهم، فبين الله عزَّ
وجلَّ لهم سوء رأيهم (المالي) في ذلك بأسلوب إعجازي مبين.
إن الهلاك قد يكون بسبب طغيان المال وبطر المعيشة، وذلك أن بطر المعيشة بمعنى
التمادي في الإسراف ونسيان الآخرة بالدنيا سبب وفرة المال مفهوم كفري بينه الله
عزَّ وجلَّ في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ
قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((3)) ، وما ذكره الله عزَّ وجلَّ من
نسبة الوراثة هذه له تعالى يعزز ما ذهبنا إليه آنفاً.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 57.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(1/169)
إن المال
في حد ذاته أمر دنيوي، وذلك واضح في جعل الله عزَّ وجلَّ للمال في سورة القصص
شيئاً دنيوياً لا يؤبه له في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ((1)) ، بمعنى آخر أن كل مال هو متاع دنيوي معرض إلى زوال،
أي: انه غير باق، وهذا من دلالات السياق القرآني.
إن المال متاع دنيوي لا أخروية له إلا بمقدار ما يوصل المرء إلى إقامة الدين، وذلك
واضح في قوله عزَّ وجلَّ: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاَقِيهِ
كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} ((2)) ، فمن كانت هذه صفته في استمتاعه المالي
كان محضراً للحساب يوم القيامة، كما تقرر هذه الآية الشريفة.
المال فضل من الافضال. وذلك في سياق من الله عزَّ وجلَّ للناس أن جعل لهم أوقات
اليوم في قوله عزَّ وجلَّ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ((3)) ، ثم بين
الله عزَّ وجلَّ كون ذلك الفضل محتاجاً للشكر (اليوم) في قوله عزَّ وجلَّ بعد ذلك
(لعلكم تشكرون) ، لان الشكر دال على الفضل في ابتغاء هذا الرزق، وهذا من معاني
القرآن الكريم التي تجيء بلفظ مختصر يغني عن المقولات.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 60.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 73.
(1/170)
المال
الذي يكون هدفاً في حد ذاته موجب للعذاب، وذلك في قصة قارون إذ أن كنوزه المالية
على كثرتها جعلته يفرح بما ليس له قط ونسي نصيبه من الآخرة، إذ جعل كل نصيبه من
الدنيا وابتعد عن الإحسان (وإعطاء المال بعض صور الإحسان) وابتغى الفساد بماله ثم
زاد على ذلك بأن قال ((1)) {: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}
((2)) ثم كان المال عنده وسيلة للظهور بزينته المادية والمعنوية وفتنته لبعض ضعاف
الإيمان ممن زعموا أن له حظاُ عظيماً، ثم كان عاقبته أنه كما قال عزَّ وجلَّ فيه:
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ} ((3)) وهذا
أمر يشمل ما مضى ومن سيأتي! .
__________
(1) في عصرنا هذا كان من مبادئ العولمة أن المال إنما يأتي من العلم الموجود عند
دعاة العولمة من خلال ثورة المعلومات وأجهزة الاتصالات لنقل المعلومات، فجمعوا مثل
قارون بين ما عندهم وبين العلم الموجود عندهم، ولا ريب أن الاستقراء المستقبلي
لمستقبل العولمة يرينا أنها ستكون في تفككها مثل تخسف قارون بماله في الأرض، وتلك
سنة الله جلَّ جلاله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ونحن نجد أن كل من يقول
لدعاة العولمة (اتقوا الله ولا تكفروا) يستهزئون به كما فعل قارون وحاشيته بمن
وعظوهم، وهذا من عجائب تكرر التاريخ بنفسه؟ ! ، لان استمرارية (كان) في الماضي،
والحاضر، والمستقبل في قوله تعالى: {وما كان من المنتصرين} تدلّ على تلك النهاية
التي نراها للعولمة إن شاء الله العلي العظيم. وينظر نذر العولمة. عبد الحي زلوم.
الطبعة الثانية. بيروت، لبنان. 1998 م.: ص 188 – 189.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 81.
(1/171)
إن
المال في بسط الرزق منسوب لله عزَّ وجلَّ وكذلك التقتير، وهذه من حقائق الفوائد
القرآنية التي تكرر ذكرها فيه بدليل قوله تعالى في سورة القصص: {وَيْكَأَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} ((1)) ،
وهذه النسبة للرزق المالي لله عزَّ وجلَّ تجعل المؤمن مطمئناً عند تحققه الإيماني
بأن المال مفهوم مساعد وليس هدفاً مطلوباً في حد ذاته.
ونصل من ذلك إلى أن المال في سورة القصص في الوقت الذي قد يوصل بعض الأشخاص للعذاب
بعد الطغيان، يمكن أن يوصل المؤمنين للرحمة بعد المحن والصبر عليها، وهم أولئك
الذين استحقوا وراثة الدنيا والآخرة.
المطلب السابع: أسلوب الدعوة في سورة القصص
إن أسلوب الدعوة في سورة القصص يكمن في توجيه النظر الإنساني في نحو معرفة الله
عزَّ وجلَّ، ونحو الوصول إلى الله عن طريق الأداء المعرفي، لذلك كانت غايات الدعوة
وأهدافها في سورة القصص عبارة عن غايات عالمية وأهداف إنسانية ((2)) .
فالدعوة القرآنية عموماً لله عزَّ وجلَّ في كل سور وآيات القرآن الكريم ذات خصوصية
مميزة هي (الحكمة والموعظة الحسنة) ((3)) ، أما سورة القصص فقد جمعت في مجموع
آياتها ما يتعلق بركني الدعوة الإسلامية:
جمعت الحكمة في أخبار الماضين.
جمعت الموعظة الحسنة في المعاصرة في الخطاب.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 82.
(2) ينظر الدعوة إلى الإسلام. د. حسن عَبْد الله. الطبعة الثانية. دار العلم
للملايين. 1986 م: ص 121 - 122.
(3) ينظر المصدر نفسه: ص 88 -89. 147 - 150.
(1/172)
وقد
لاحظت في تحليلي لسورة القصص والاتجاه الدعوي فيها أن أسلوب الدعوة لله عزَّ وجلَّ
يتميز بالتوحيد في الخطاب (بمعنى توجيه الخطاب نحو مخاطب واحد) ، ويتميز بالتذكير
في الوحي (بمعنى تعداد نِعَمِ الله عزَّ وجلَّ) ، ويتميز بالأسلوب المفتوح في عرض
الدعوة وإبراز ما أصاب من رفضوا الدعوة من الأمم الماضية.
وقد لاحظت أن أسلوب الدعوة في سورة القصص جاء بعدة أساليب:
أسلوب التاريخ الماضي.
أسلوب الحاضر الموجود.
أسلوب المستقبل القادم.
أسلوب ما فوق الزمان والمكان من قوى إلهية أصابت الأمم.
أسلوب تمثيل الطغاة.
أسلوب تمثيل الدعاة.
أسلوب الرجع والمال.
أسلوب الجمع بين الدنيا بنصيبها والآخرة بكليتها الجمعية.
وهذه الأساليب الدعوية حفلت بمواطن تبعث على الرجوع إلى الله جلَّ جلاله.
إن أسلوب الدعوة في سورة القصص في مبناها ومعناها يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط
أساسية:
الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
ترك الظلم والطغيان.
معرفة نصيب الدنيا ونصيب الآخرة من الإنسان.
وإذا كان علماء الاجتماع المحدثون قد بينوا أن الدعوة لعقيدة ما أنما تكون
بالتيسير لا بالتعسير ((1)) ، فإن الأسلوب القرآني في سورة القصص جمع تلك النظرية
وعرضها بالخطاب الإلهي في دلالة قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى
وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) فإن دلالة التلاوة هاهنا مع
ذكر وتقديم موسى أولاً، وتأخير فرعون ثانياً ثم ذكر المصدر مقرون بحرف الجر
(بالحق) وذكر أن ذلك إنما هو لقوم يؤمنون، كل ذلك يبين أن أسلوب الدعوة في سورة
القصص هي بالتيسير في الدعوة نحو العقيدة الحقيقية ((3)) .
__________
(1) في علم الاجتماع الإسلامي. أحمد العلمي. الطبعة الأولى. دمشق. الدار
الإسلامية. 1986 م: ص 22 –23.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3) ينظر في علم الاجتماع الإسلامي: ص 171 – 172. 184 –187.
(1/173)
ويمكن
ان نلتمس في سورة القصص أسلوب الدعوة في النقاط الآتية، من خلال ذكر القاعدة
الدعوية والآية القرآنية من سورة القصص:
إبراز أن الله عزَّ وجلَّ وعد المؤمنين بالاستخلاف والنصر. {وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} ((1))
فهذا الخطاب الوعدي جعل للدعاة لله عزَّ وجلَّ:
الإمامة.
الوراثة.
التمكين في الأرض.
إن اللين في الدعوة مطلوب حتَّى مع الكفر، بدليل خطاب امرأة فرعون لفرعون:
{قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} ((2)) ، ثم قالت: {عَسَى أَنْ
يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} ((3)) ، مع أنها بإيمانها كانت تعلم أن
فرعون حريص على قتل موسى (- عليه السلام -) .
إن التوفيق الإلهي بالنصر الرباني يعزز الدعاة في ضيقهم بالاطمئنان بدليل قوله
تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}
((4)) .
إن من صفات الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ الشدة والاستواء في الكمال بدليل قوله
تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (5) ، فهذه الصفات تؤول إلى الحكم والعلم،
وجزاء ذلك (الإحسان) ، وأن يكون الداعية من (المحسنين) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 5 – 6.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 9.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 10.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(1/174)
إن
النصح حتَّى في أوقات المخاطر من صفات الدعاة بدليل قوله عزَّ وجلَّ في حكاية مؤمن
آل فرعون ودعوته لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ}
((1)) ، فهذا الخطاب الدعوي تميز بأنه خطاب ناصح مشفق شفيق.
إن من واجب الدعاة طلب الهداية الإلهية في دعوتهم ومنهاجهم: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}
((2)) ، فهذه الآية في إبرازها لقصة موسى (- عليه السلام -) وخروجه نحو مدين، بينت
انه (- عليه السلام -) استهدى الله عزَّ وجلَّ، وذلك غاية الغايات لكل الدعاة.
إن من واجب الداعية أن يكون فصيح اللسان ليكون مستطيعاً في دعوته لله عزَّ وجلَّ
ليبرز ما أنزله الله عزَّ وجلَّ للناس، وذلك ماثل في قوله تعالى:
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً
يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} ((3)) .
إن الداعية يجب ان يلين في الخطاب {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ
بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((4)) ، فخطاب موسى (- عليه السلام -) احتوى على:
نسبة العلم لله تعالى.
نسبة الهداية لله تعالى.
نسبة عاقبة الدار لله عزَّ وجلَّ.
إبراز عدم فلاح الظالمين.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 20.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(1/175)
إن
الكتاب الإلهي هو أساس كل دعوة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((1)) ، فهذه الآية احتوت على
صفات الكتاب الدعوي:
إنه بصيرة لكل الناس.
إنه هداية ربانية.
إنه رحمة إلهية.
إنه أساس التذكر.
ومعلوم عند علماء الدعوة أن هذه الصفات هي مميزات كل كتاب دعوة، وهي في الإسلام
خاصة بالقرآن الكريم، فجاءت سورة القصص وأبرزت ذلك في خطاب متناسق.
إن من إحدى أساليب خطاب الداعية هو الخطاب الإنذاري بدليل قوله تعالى: {لِتُنذِرَ
قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
((2)) ، إن الغرض من الإنذار لأجل التذكر على ما نصت عليه الآية، وقد جعل علماء
الدعوة الذكرى والتذكر من أهم صفات من توجه لهم الدعوة.
إن الإبلاغ هو أساس الدعوة بدليل قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ *
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}
((3)) ، بدليل أن صبغة الأمر المجرد (قل) تعني الإبلاغ، وفي هذه الآيات دلالة
دعوية مهمة تتمثل في كون المجتمع الذي يتبع هواه بغير علم بعيداً عن السبيل الإلهي
والطريق النبوي، فلا يستجيب للداعين مهما بلغت بلاغة الدعوة.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 46.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 49 –50.
(1/176)
إن
معرفة حقائق القرآن إنما تكون للعلماء الربانيين الداعين إلى الله عزَّ وجلَّ
بإذنه بدليل قوله جلَّ جلاله في هذه السورة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ
مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا
آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} ((1)) .
إن الصبر من صفات الدعاة بدليل سياق الآية المتممة لما سبق {بِمَا صَبَرُوا} ((2))
.
إن من صفات الدعاة اللين في الدعوة بدليل قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ((3)) .
إن الخلق الكريم من صفات الدعاة بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ
أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ
عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (4) .
إن الهداية في الدعوة من الله جلَّ جلاله، حتَّى وإن رغب الدعاة بمزيد هداية لمن
أحبوا بدليل قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((5)) ، وهذا الخطاب وإن رجع إلى رسول الله (- صلى الله
عليه وسلم -) ، إلا انه في محتواه خطاب عام يصلح في دلالته الحالية أن يكون على ما
قدمناه صفة من صفات الدعاة الربانيين، لأن الهداية في آية سورة القصص نسبت حصراً
لله عزَّ وجلَّ.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيات 52 –54.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 54.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 55.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.
(1/177)
إن الله
عزَّ وجلَّ لا يخلي أرضاً من رسول، أو نبي، أو داعية بدليل قوله تعالى: {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} ((1)) .
إن وعظ الدعاة يكون في كل حال، وخاصة عند ظهور الفساد بدليل خطاب بعض قوم قارون
لقارون بعد أن طغى وتكبر وتجبر: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ
نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ
تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} ((2)) ،
فقد تضمنت هذه الآيات جملة من صفات (المَدْعُوِّ) وهي:
النهي عن الفرح.
الأمر بابتغاء الآخرة.
عدم نسيان نصيب الدعوة من الدنيا.
لزوم الإحسان في المعاملة مع الله عزَّ وجلَّ ومع الناس جميعاً.
نبذ الفساد.
فهذه الصفات تلزم (المدعو) بعد أن يتحقق بها معه الداعي في دعوته.
إن من واجب الدعاة التحذير والإنذار بدليل خطاب بعض قوم قارون لمن تمنوا مكانه،
وهم ممن وصفوا في الآية بأنهم (أوتوا العلم) إذ قالوا: لهؤلاء الجهلة من بني
إسرائيل: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَ الصَّابِرُونَ} ((3)) .
تحقق الوعد الإلهي بالنصر بدليل عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ((4)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 59.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآيتان 76 –77.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 80.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(1/178)
إن
الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ أمر إلهي خوطب به رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)
، وما كان خطاباً عاماً لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) ، فهو خطاب خاص لأمته
على ما قرره علماء الأصول وما كان خطاباً عاماً للنبي، فهو خطاب خاص لأمته، ولذلك
كان قوله تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} ((1)) ، يشمل عموم الدعاة من أمة المصطفى
(- صلى الله عليه وسلم -) ، إذ أن هذا الأمر مشترك في الدعوة بين دعوة رسول الله
(- صلى الله عليه وسلم -) ، ودعوة الدعاة العلماء من أمته ـ عليه الصلاة والسلام ـ
((2)) .
وبعد ذلك يمكن أن نقرر استناداً إلى ما تقدم إن سورة القصص سورة دعوية (خاصة وأنها
مما نزل بمكة المكرمة) ، وأنها سورة احتوت أوصاف الدعاة، ومن تمت دعوتهم، ووعد
الله عزَّ وجلَّ لهم بالنصر، والتمكين، والإمامة، والوراثة.
المطلب الثامن: النظرة القرآنية للإنسان في سورة القصص
إن النظرة القرآنية للإنسان في كل أطواره وأحواله هي نظرة جامعة لكل خير ومانعة
لكل شر، ذلك أن الإنسان في القرآن الكريم هو الشخصية المحورية المخلوقة للعبادة
والاستخلاف في الأرض، وإصلاح ما فيها من فساد، واستعمارها بالوعد الإلهي، فإذا ما
زاغ عن الحق، أو عن طريق الحق، أمكن بواسطة السنن الإلهية إرجاعه، وذلك لأن
الإنسان في القرآن الكريم له مقومات شخصية ((3)) . يمكن أن نجعل منها أمرين على
أنها أهم المهم:
الاستخلاف الإلهي.
العبادة الإيمانية.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 87.
(2) ينظر الدعوة إلى الإسلام: ص 139.
(3) ينظر الإنسان الحضاري في الَقُرْآن الكَرِيم: د. سليمة أحمد حسن. الطبعة
الثانية. دار الهدى. تونس. 1991 م: ص 141.
(1/179)
وهكذا
فإن سورة القصص تجسد النظرة القرآنية للإنسان في إيجاز يجمع ما تفرق في كثير من
سوره وآياته الشريفة، ذلك أن سورة القصص تحمل في مضمونها العام النزوع الإنساني
نحو الإيمان بالله جلَّ جلاله، والثقة بنصره، والتحذير من نسيان اليوم الآخر ((1))
.
وسورة القصص في مضامينها الإنسانية تحمل الدواعي الذاتية للتوجه نحو الله عزَّ
وجلَّ من خلال استلهام الإنسان لمعنى إنسانيته التي سبقت علم النفس اليوم، ومعنى وجوده،
ومعنى تكوينه على الأرض منذ آدم (- عليه السلام -) إلى يوم القيامة، وهو الأمر
الذي تكفلت سورة القصص بإبرازه.
إن سورة القصص تبدأ بالإنسان وتنتهي بالإنسان، وما بين ذلك علاقة الإنسان بالله
عزَّ وجلَّ وبالرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وبالمجتمع الإنساني المحيط به، فسورة
القصص تذكر ضمن الإطار الإنساني في نظرتها الإلهية:
التلاوة للمؤمنين بما يراعي الضعف وفق أساس فكري. {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ
مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ((2)) .
الضعف الإنساني. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} ((3)) .
المن الإلهي على الإنسان. {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}
((4)) .
تحذير الإنسان من تجاوزه في الظلم. {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} ((5)) .
__________
(1) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان. عَبْد الله مُحَمَّد. الطبعة الأولى. دار
الهدى الإسلامي. بيروت، لبنان. 1992 م: ص 230 – 231.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 3.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 4.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 5.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 6.
(1/180)
الأمومة
الإنسانية ومشاعرها المتحيرة في نمطها. {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} ((1)) .
الأخوة الإنسانية ومشاعرها. {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ
جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} ((2)) .
كمال الإنسانية بالحكم (الحكمة) والعلم. {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى
آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ((3)) .
الاقتتال قد يكون في نوازع الشر الإنسانية. {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ
غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} ((4)) .
الإنابة الإنسانية. {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ
لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ((5)) .
الخوف سمة إنسانية. {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ((6)) .
إن الإنسان محتاج في استهدائه لله عزَّ وجلَّ. {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي
سَوَاءَ السَّبِيلِ} ((7)) .
الرحمة صفة من صفات الطبع الإنساني. {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى
الظِّلِّ} ((8)) .
الحياء سمة النساء. {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ((9))
.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 7.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 11.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 14.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 15.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 16.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 18.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 22.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 24.
(9) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 25.
(1/181)
إن طلب
النصر للأخ صفة إنسانية كما قرر علماء النفس. {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ
مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ((1)) .
إن الإنسان يتهم ما لا يعرفه بالسحر. {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُفْتَرًى}
((2)) .
إن الظلم لا يدوم إنسانياً. {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ((3)) .
إن الكتب الإلهية هداية ربانية. {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ
مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ((4)) .
طول العمر الحضاري الأممي مبعد عن الله عزَّ وجلَّ. {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا
قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} ((5)) .
إن اتباع الهوى صفة إنسانية قد تفني. {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ((6)) .
الإيمان الإنساني قد يكون بالنصح فقط أو الهداية. {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ
قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ
مُسْلِمِينَ} ((7)) .
إن الهداية الإنسانية من الله عزَّ وجلَّ. {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ((8)) .
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 34.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 36.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 37.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 43.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 45.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 50.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 53.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 56.
(1/182)
إن
البطر الإنساني سمة وسم بها الكفرة. {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ
مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَ
قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} ((1)) .
إن الوعد الإلهي في صميم التحقق الإنساني. {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا
فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ((2)) .
إن التوبة تعيد الإنسان لله عزَّ وجلَّ. {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ} ((3)) .
ليس للإنسان الخيار في الخلق. {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا
كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} ((4)) .
إن مكنونات الصدور بعلم الله سبحانه وتعالى. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ
صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ((5)) .
إن الإنسان قد يطغى بالمال ويبغي. {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى
فَبَغَى عَلَيْهِمْ} ((6)) .
إن الإنسان قد لا يجازي الإحسان بالإحسان. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ
إِلَيْكَ} ((7)) كما قال الأصوليون.
إن الاغترار بالعلم يؤدي للاغترار والاجتراء على الله تعالى. {قَالَ إِنَّمَا
أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} ((8)) فنسب علمه لنفسه.
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 58.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 61.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 67.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 68.
(5) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 69.
(6) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 76.
(7) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 77.
(8) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 78.
(1/183)
إن
الحسد على النعم موجود في بعض الطبيعة البشرية. {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ} ((1)) .
إن الإنسان يفعل ويصنع حسناته وسيئاته بنفسه. {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا
السَّيِّئَاتِ إِلاَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ((2)) .
إن الضلال الإنساني كله في علم الله جلَّ جلاله. {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ
بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} ((3)) .
إن الإنسان يشعر بالراحة الأبدية إذا ما أوكل الأمور في الحكم والرجعة الأخروية
إلى لله عزَّ وجلَّ. {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ((4)) .
إن هذه القواعد في أصولها القرآنية، إنما تكشف عن مجمل السمات البشرية، وترينا كيفية
النظرة القرآنية في سورة القصص للإنسان وأفعاله وأقواله وأحواله، كما يجعل سورة
القصص إحدى النصوص الإلهية التي سبقت علم النفس، والتي جمعت جمعاً عظيماً صفات
النفس البشرية، وهو وجه آخر من أوجه إعجازها الكثيرة ((5)) .
المطلب التاسع: الإيمان والكفر في سورة القصص
__________
(1) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 79.
(2) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 84.
(3) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 85.
(4) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية 88.
(5) ينظر الصورة الَقُرْآنيّة للإنسان: ص 197 -198.
(1/184)
الإيمان
بالله عزَّ وجلَّ هو: تصديق بالقلب، وإقرار باللسان على ما ذهب إليه أكثر المحققين
((1)) . فالإيمان إذاً هو تصديق بالغيب وإطاعة لما صدق به الإنسان في قراره قلبه،
أما الكفر فهو جحود الخالق، والشرك تثنية إله أو آلهة مع الله عزَّ وجلَّ. وقد
حفلت سورة القصص في خطوطها العامة والخاصة بمقومات الإيمان وخصائصه، وبآليات الكفر
والشرك، ومآل الكافرين والمشركين على حد سواء.
جمعت سورة القصص في معانيها الكامنة ومعانيها الظاهرة أنواعاً عديدة من الإيمان
مثل:
الإيمان العام.
الإيمان الخاص.
وأبرزت في حقائقها حقائق الكفر والشرك مثل:
حقيقة الادعاء بالألوهية بعد الطغيان.
حقيقة الحجج التي يسوقها الكفرة والمشركون.
ولا ريب في أن ذلك ساهم ضمن فوائد سورة القصص في استفادة أمر جداً مهم هو:
(إن الإيمان في صراعه مع الكفر والشرك مصيره النصر الإلهي وتعزيز الرسالة النبوية،
ودعم كل المؤمنين، وتوريثهم الأرض في الدنيا والنصيب الحسن في الآخرة) .
ونحن في محاولتنا هذه لإبراز كل ما يتعلق بما تحتويه سورة القصص، سوف نحاول هاهنا
ـ إن شاء الله العلي العظيم ـ إبراز آيات الإيمان والكفر والشرك في سورة القصص
بتحليلها شمولياً، وإظهار معانيها:
1. التلاوة القصصية إنما تكون للمؤمنين حصراً:
__________
(1) ينظر التعريفات (الجرجاني) : ص 70. شرح النسفية. تحقيق: د. عبد الملك السعدي
الطبعة الأولى. دار الأنبار. 1988 م: ص 165.