الموقظة في علم الحديث
كتاب:المُوْقِظَةُ في علم مصطلح الحديث للإمام الحافظ المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي
بسم الله
الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه .
رب زدني علماً ، ووفق يا كريم
أما بعد ،
قال الشيخُ الإمامُ العالمُ العلاَّمة ، الرُّحْلةُ
المحقَّق ، بحر الفوائد ، ومَعْدِنُ الفرائد ، عُمدةُ الحُفَّاظِ والمحدثين ،
وعُدَّةُ الأئمةِ المحقَّقين ، وآخِرُ المجتهدين ، شمسُ الدين محمدُ بن أحمد بنُ
عُثمان الذهبيُّ الدمشقي رحمه الله ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين
1- الحديثُ الصحيح :
هو ما دَارَ على عَدْلً مُتْقِنٍ واتَّصَل سَنَدُه . فإن
كان مُرسَلاً ففي الاحتجاج به اختلاف
.
وزاد أهلُ الحديث : سلامتَهُ من الشذوذِ والعِلَّة .
وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء ، فإنَّ كثيراً من العِلَل يأبَوْنها .
فالمجُمْعُ على صِحَّتِه إذاً : المتصلُ السالمُ من الشذوذِ
والعِلَّة ، وأنْ يكون رُواتُه ذوي ضَبْطٍ وعدالةٍ وعدمِ تدليس .
فأعلى مراتبِ المجمَع عليه
مالكُ ، عن نافع ، عن
ابن عُمَر .
أو : منصورٌ، إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبدالله . أو :
الزهريٌّ ، عن سالم أبيه .
أو : أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة .
ثم بعدَهُ
:
مَعْمَر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة .
أو : ابنُ أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن أنس .
أو : ابنُ جُرَيج ، عن عطاء ، عن جابر ، وأمثالُه .
ثم بعدَهُ في المرتبةِ :
الليثُ ، وزهير ، عن أبي الزُّبير ، عن جابر .
أو : سِماَكٌ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .
أو : أبو بكر بن عَيّاش ، عن أبي إسحاق ، عن البَرَاء .
أو : العلاءُ بن عبدالرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ،
ونحوُ ذلك من أفراد البخاري أو مسلم
.
2- الحَسَن :
وفي تحرير معناه اضطراب ، فقال الخَطَّابيُّ رحمه الله :
هو ما عُرِفَ مَخْرجُه واشتَهَر رجالُه ، وعليه مَدارُ أكثرِ الحديث ، وهو الذي
يَقبَلُه
أكثرُ العلماء ، ويَستعملُه عامَّة الفقهاء .(1)
وهذه عبارةُ ليسَتْ على صِناعة الحدودِ و التعريفات ،
إذْ الصحيحُ يَنطَبقُ ذلك عليه أيضاً ، لكنْ مُرادُه مما لم يَبْلُغ درجةَ الصحيح .
فأقولُ : الحَسَنُ ما ارتَقَى عن درجة الضعيف ، ولم
يَبلغ درجةَ الصحة .
وإن شِئتَ قلت : الحَسَنُ ما سَلِمَ من ضعفِ الرٌّواة .
فهو حينئذ داخل في قسم الصحيح .
وحينئذ ، يكونُ الصحيحُ مراتب كما قدَّمناه ، والحسَنُ
ذا رتُبةٍ دُونَ تلك المراتب ، فجاء الحسَنُ مثلاً في آخِرِ مراتب الصحيح .
وأما الترمذيُّ فهو أوَّلُ من خَصَّ هذا النوع باسم
الحَسَن ، وذَكَر أنه يريدُ به : أن يَسلم راويه من أن يكون متهماً ، وأن يَسلم من
الشذوذ ، وأن يُروَى نحوهُ من غير وجه
.
وهذا مشكلُ أيضاً على ما يقولُ فيه : حسَنُ غريب ، لا
نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقيل : الحسَنٌ ما ضَعْفُه محتَمَل ، ويَسوغُ العملُ به .
وهذا أيضاً ليس مضبوطاً بضابطٍ يَتميَّزُ به الضَّعْفُ
المحتمَل .
وقال ابن الصلاح رحمه الله : (( إنَّ الحسَنَ قَسمان :
أحدُهما : مالا يخلو سَنَدُه من مستورٍ لم تَتحقَّق
أهليتهُ ، لكنه غير
مُغَفَّل ولا خطَّاءٍ ولا متهم ، ويكون المتنُ مع ذلك
عُرِف مثلُه أو نحوُه من
وجهٍ آخر اعتَضد به .
وثانيهما : أن يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة ،
لكنه لم
يبلغ درجةَ رجالِ الصحيح لقصوره عنهم في الحفظ والإتقان
، وهو مع ذلك يرتفع عن حالِ من يُعَدُّ تفرُّدُه منكَراً ، مع عَدَمِ الشذوذِ
والعِلِّة ))(2).
فهذا عليه مؤاخذات .
وقد قلت لك : إنَّ الحسَنَ ما قَصُرَ سَنَدُه قليلاً عن
رتُبة الصحيح . وسيَظهر لك بأمثلة
.
__________
(1) معالم السنن ( 1 / 11 ) .
(2) مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح ( 1 / 46 ـ 47 ) .
ثم لا تَطمَعْ بأنَّ للحسَنَ قاعدةً تندرجُ كلُ
الأحاديثِ الحِسانِ فيها ، فأَنَا على إِياسٍ من ذلك ، فكم من حديث تردَّدَ فيه
الحُفَّاظُ ، هل هو حسَنُ أو ضعيفُ أو صحيح ؟ بل الحافظُ الواحدُ يتغيَّرُ
اجتهادُه في الحديث الواحد ، فيوماً يَصِفُه بالصحة ، ويوماً يَصِفُه بالحُسْن ،
ولربما استَضعَفَه .
وهذا حقٌّ ، فإنَّ الحديثَ الحَسَنَ يَستضعفه الحافظُ عن
أن يُرَقِّيَه إلى
مرتبةُ الصحيح ، فبهذا الاعتبارِ فيه ضَعْفٌ مَّا ، إذْ
الحَسَنُ لا ينفك عن ضَعْفٍ مَّا ، ولو انفَكَّ عن ذلك لصَحَّ باتفاق .
وقولُ الترمذي : ( هذا حديث حسَنُ صحيح ) ، عليهِ إشكال
، بأن الحَسَن قاصِرُ عن الصحيح ففي الجمع بين السَّمْتَيْنِ لحديثٍ واحدٍ
مُجاذَبَة .
وأُجيبَ عن هذا بشيء لا ينَهض أبداً ، وهو أنَّ ذلك
راجعٌ إلى
الإسناد ، فيكون قد رُوي بإسنادٍ حسن ، وبإسنادٍ صحيح .
وحينئذ لو قيل : حسن صحيح ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، لبَطَلَ هذا الجواب .
وحقيقةُ ذلك ـ أن لو كان كذلك ـ أن يقال : حديث حَسنُ
وَصحيح . فكيف العَملُ في حديثٍ يقول فيه : حسَنٌ صحيحُ . لا نعرفه إلا من هذا
الوجه . فهذا يُبطِلُ قولَ من قال : أن يكون ذلك بإسنادين .
ويَسُوغُ أن يكون مُرادُه بالحَسَن المعنى اللغويَّ لا
الاصطلاحيَّ ، وهو إقبالُ النفوسِ وإصغاءُ الأسماعِ إلى حُسنِ مَتْنِه ، وجِزَالةِ
لفظِه ، وما فيه من الثوابِ والخير ، فكثيرُ من المتون النبوية بهذه المثابة .
قال شيخنا ابنُ وهب : فعلى هذا يَلزمُ إطلاقُ الحَسَنِ
على بعضَ
( الموضوعات ) ولا قائل بهذا (1).
ثم قال : فأقولُ : لا يشُتَرَطُ في الحَسَن قيدُ القُصور
عن الصحيح ، وإنما جاء القصورُ إذا اقتُصر على ( حديثُ حَسَنُ ) ، فالقصورُ يأتيه
من قيدِ الاقتصار ، لا من حيث حقيقتهُ وذاتهُ (2).
ثم قال : فللرُواةِ صفاتُ تقتضي قبولَ الرواية ، ولتلك
الصفاتِ دَرَجَاتٌ بعضُها فوقَ بعض ، كالتيقَّظِ والحفظِ والإتقان .
فوجودُ الدَّرَجةِ . الدنيا كالصدقِ مثلاً وعَدَمِ
التُّهمة ، لا ينافيه وجودُ ما هو أعلى منهُ من الإتقانِ والحفظ . فإذا وُجدتْ
الدرجةُ العُلْيا ، لم يُنافِ ذلك وجودُ الدنيا كالحفظ مع الصدق ، فَصحَّ أن يقال :
( حسَنٌ ) باعتبار الدنيا ، ( صحيحٌ ) باعتبار العُلْيا .
ويَلزَمُ على ذلك أن يكون كلُّ صحيحٍ حسناً ، فيُلتَزَمُ
ذلك ،
وعليه عبارات المتقدمين ، فإنهم يقولون فيما صَحَّ : هذا
حديثٌ حسن .
قلتُ : فأعلى مراتب الحَسَن :
بَهْزُ بن حَكيم ، عن أبيه ، عن جَدَّه .
و : عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جَدَّه .
و : محمد بن عَمْرو ، عن أبي سَلَمة ، عن أبي هريرة .
و: ابنُ إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي ،
وأمثالُ ذلك .
وهو قِسمُ مُتجاذَبٌ بين الصحةِ والحُسن ، فإنَّ عِدَّةً
من الحُفَّاظ يصححون هذه الطرق ، وينعتونها بأنها من أدنى مراتب الصحيح .
ثم بعدِ ذلك أمثلةُ كثيرة يُتَنازَعُ فيها ، بعضُهم
يُحسَّنونها ، وآخَرُون يُضعِّفونها ، كحديث الحارثِ بن عبدالله ، وعاصم بن ضَمْرة
، وحَجَّاج بن أَرْطَاة ، وخُصَيْف ، ودَرَّاجٍ أبي السَّمْح ، وخلقٍ سِواهم .
3-
الضعيف
:
ما نَقَص عن درجة الحَسَن قليلاً .
ومن ثَمَّ تُردَّدَ ، في حديثِ أُنَاسٍ ، هل بَلَغ
حديثُهم إلى درجةِ الحَسَنِ أم لا ؟.
وبلا ريبٍ فخَلْقُ كثيرُ من المتوسطين في الرَّوايةِ
بهذه المثابة .
فآخِرُ مراتب الحَسَنِ هي أول مراتب الضَّعيف .
أعني : الضعيفِ الذي في (( السُّنَن )) وفي كتب الفقهاء
ورُواتُه ليسوا بالمتروكين ، كابن لَهِيعَة ، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبي
بكر بن
أبي مريم الحمصي ، وفَرَج بن فَضَالة ، ورِشْدين ، وخلقٍ
كثير .
4-
المطروح
:
ما انحطَّ عن رُتبة الضعيف .
ويُروَى في بعض المسانيد الطِّوال وفي الأجزاء ، وفي ((
سنن ابن ماجَهْ )) و (( جامع أبي عيسى
))
مثلُ عَمْرِو بن شَمِر ، عن جابر الجُعفي ، عن الحَارِث
، عن عليّ .
وكصَدَقَة الدَّقِيقي ، عن فَرْقَدٍ السَّبَخي ، عن
مُرَّةَ الطَّيَب ، عن أبي بكْر.
وجُوَيْبِر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس .
وحفص بن عُمَر العَدَني ، عن الحكَم بن أبان ، عن عكرمة .
وأشباهُ ذلك من المتروكين ، والهَلْكَى ، وبعضهم أفضل من
بعض .
5-
الموضوع
:
ما كان مَتْنُه مخالفاً للقواعد ، وراويه كذَّاباً ،
كالأربعين الوَدْعانيَّة ، وكنسخةِ عليّ الرِّضَا المكذوبةِ عليه .
وهو مراتب ، منه :
ما اتفقوا على أنه كَذِب . ويُعرَفُ ذلك بإقرار واضعِه ،
وبتجربةِ الكذبِ منه ، ونحوِ ذلك
.
ومنه : ما الأكثرون على أنه موضوع ، والآخَرُون يقولون :
هو حديثٌ ساقطٌ مطروح ، ولا نَجسُرُ أن نُسمَّيَه موضوعاً .
ومنه : ما الجمهورُ على وَهْنِه وسُقوطِه ، والبعضُ على
أنه كذِب .
ولهم في نقد ذلك طُرقُ متعدِّدة ، وإدراكٌ قويٌ تَضِيقُ
عنه عباراتُهم ، من جِنسِ ما يُؤتاه الصَّيرفيُّ الِجهْبِذُ في نقدِ الذهب والفضة
، أو الجوهريُّ لنقدِ الجواهرِ والفُصوصِ لتقويمها .
فلكثرةِ ممارستهِم للألفاظ النبوية إذا جاءهم لفظُ ركيك
، أعني مُخالفِاً للقواعد ، أو ـ فيه ـ المجازفةُ في الترغيب والترهيب ، أو
الفضائل ، وكان بإسنادٍ مُظلم ، أو إسنادٍ مُضِيء كالشمس في أثنائه رجلُ كذاب أو
وضَّاع ، فيحكمون بأنَّ هذا مختلَق ، ما قاله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتَتواطأُ أقوالُهم فيه على شيء واحد .
وقال شيخنا ابنُ دقيق العيد : إقرارُ الراوي بالوضع ، في
رَدَّه ، ليس بقاطعٍ في كونه موضوعاً ، لجوازِ أن يَكذب في الإِقرار . (1)
قلتُ : هذا فيه بعضُ ما فيه ، ونحن لو فتحنا بابَ
التجويز والاحتمالِ البعيد ، لوقعنا في الوسوسة والسفسطة !.
__________
(1) 1 )
نعم كثيرٌ من الأحاديث التي وُسِمَتْ بالوضع ، لا دليلَ
على وضعها ، كما أنَّ كثيراً من الموضوعاتِ لا نرتابُ في كونها موضوعة .
6-
المرسل
:
عَلَمُ على ما سَقَط ذكرُ الصحابي من إسناده ، فيقول
التابعيُّ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ويقع في المراسيل الأنواعُ الخمسةُ الماضية ، فمن صِحاح
المراسيل :
مرسَلُ سعيد بن المسيَّب
و : مرسَل مسروق .
و : مرسَلُ الصُّنَابِحِي .
و : مرسَلُ قيس بن أبي حازم ، ونحوُ ذلك .
فإنَّ المرسَل إذا صَحَّ إلى تابعيّ كبير ، فهو حُجَّة
عند خلق من الفقهاء .
فإن كان في الرُّوَاةِ ضَعيْفُ إلى مثلِ ابن المسيَّب ،
ضَعُفَ الحديثُ من قِبَلِ ذلك الرجل ، وإن كان متروكاً ، أو ساقطاً : وهن الحديثُ
وطُرحِ .
ويوُجَدُ في المراسيل موضوعات .
نعم وإن صَحَّ الإسنادُ إلى تابعيٍّ متوسِطِ الطبقة ،
كمراسيل مجاهد ،
وإبراهيم ، والشعبي فهو مرسَل جيّد ، لا بأسَ به ،
يقَبلُه قومٌ ويَرُدُّه آخَرون
.
ومن أوهى المراسيل عندهم : مراسيلُ الحَسَن .
وأوهى من ذلك : مراسيلُ الزهري ، و قتادة ، وحُمَيد
الطويل ،
من صغار التابعين .
وغالبُ المحقَّقين يَعُدُّون مراسيلَ هؤلاء مُعْضَلاتٍ
ومنقطِعات ، فإنَّ
غالبَ رواياتِ هؤلاء عن تابعيٍّ كبير ، عن صحابي ،
فالظنُّ بممُرْسِلِه أنه أَسقَطَ من إسنادِه اثنين .
7- المُعْضَل
:
هو ما سَقَط من إسنادِه اثنانِ فصاعداً .
8 - وكذلك المنقطِع :
فهذا النوعُ قلَّ من احتَجَّ به .
وأجوَدُ ذلك ما قال فيه مالكُ : بلَغَنِي أنَّ رسولَ
الله - صلى الله عليه وسلم - قال : كذا وكذا . فإنَّ مالكاً متثِّبتٌ ، فلعلَّ
بلاغاتهِ أقوى من مراسَيل مِثل حُمَيد ، و قتادة .
9-
الموقوف
:
هو ما أُسنِدَ إلى صحابيّ من قولهِ أو فعِله .
10- ومُقابِلُهُ
المرفوع
:
وهو ما نُسِبَ إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من
قولِه أو فعلِه .
11-
المتصل
:
ما اتَّصَل سَنَدُه ، وسَلِمَ من الانقطاع ، ويَصدُق ذلك
على المرفوع والموقوف .
12- المُسْنَد :
هو ما اتصل سَنَدُه بذكرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل : يَدخُلُ في
المسند كلُّ ما ذُكِرَ فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم
- وإن كان في أثناءِ
سَنَدِه انقطاع .
13-
الشاذ ّ
هو ما خالف راويه الثقاتِ ، أو ما انفَرَد به من لا
يَحتمِلُ حالُه قبولَ تفرُّدِه
.
14- المنكَر
:
وهو ما انفرد الراوي الضعيفُ به . وقد يُعَدُّ مُفْرَدُ
الصَّدُوقِ منكَراً .
15-
الغريب
:
ضِدُّ المشهور .
فتارةً ترجعُ غرابتُه إلى المتن ، وتارةً إلى السَّنَد .
والغريبُ صادقُ على ما صَحَّ ، وعلى ما لم يصحّ ،
والتفرُّدُ يكونُ لما انْفَرَدَ به الراوي إسناداً أو متناً ، ويكونُ لما
تَفَرَّدَ به عن شيخٍ معيَّن ، كما يقال لم يَروِه عن سفيان إلا ابنُ مَهْدِي ،
ولم يَروِه عن ابن جريج إلا ابنُ المبارك .
16- المُسَلْسَل :
ما كان سَنَدُه على صِفةٍ واحدةٍ في طبقاته . كما
سُلْسِلَ بسَمِعتُ ،
أو كما سُلْسِلَ بالأوليَّة إلى سُفْيَان .
وعامَّة
المسلسل اتِ واهِية ، وأكثُرها باطِلةٌ ، لكذبِ رُواتها
. وأقواها المُسَلْسَلُ بقراءة سُورة الصَّفّ ، والمسلسَلُ بالدمشقيين ،
والمسلسَلُ
بالمصريين ، والمسلسَلُ بالمحمَّدِين إلى ابن شِهاب .
17- المُعَنْعن :
ما إسنادُه فلانُ عن فلان .
فمن الناس من قال : لا يَثْبُتُ حتى يَصِحَّ لقاءُ
الراوي بشيخه يوماً مّا ، ومنهم من اكتَفَى بمجرَّد إمكان اللُّقِيّ ، وهو مذهَبُ
مُسْلمِ وقد بالَغَ في الردَ على مخالِفِه .
ثم بتقدير تَيِقُّن اللقاء ، يُشتَرَطُ أن لا يكون
الراوي عن شيخِهِ مُدَلَساً ، فإن لم يكن حملناه على الاتصال ، فإن كان مُدَلّساً
، فالأظهِرُ أنه لا يحمَلُ على السماع
.
ثم إن كان المدلَسُ عن شيخِه ذا تدليسٍ عن الثقات فلا بأس
، وإن
كان ذا تدليسٍ عن الضعفاءِ فمردود.
فإذا قال الوليد أو بَقِيَّة : عن الأوزاعي ، فواهٍ ،
فإنَّهما يُدلَّسانِ كثيراً عن الهَلْكَى ، ولهذا يَتَّقي أصحابُ ( الصحاح ) حديثَ
الوليد ، فما جاء إسنادُه بِصِيغةِ عن ابن جُرَيج ، أو عن الأوزاعي تجنَّبوه .
وهذا في زماننا يَعْسُرُ نقدُه على المحدِّث ، فإنِّ
أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود ، عايَنُوا الأصول ، وعَرَفوا عِلَلَها
، وأمَّا نحن فطالَتْ علينا الأسانيدُ ، وفُقِدَتْ العباراتُ المتيقَّنَة ، وبمثلِ
هذا ونحوِه دَخَل الدَّخلُ على الحاكم في تَصَرَُفِهِ في (( المستدرك )) .
18- المُدَلَّس :
ما رواه الرجل عن آخَر ولم يَسمعه منه ، أو لم يُدركه .
فإن صَرَّح بالاتصال وقال : حدَّثنا ، فهذا كذَّاب ، وإن
قال : عن ، احتُمِلَ ذلك ، ونُظِرَ في طبقِتِه هل يُدرِكُ من هو فوقَهُ ؟ فإن كان
لَقِيَه فقد قرَّرناه ، وإن لم يكن لَقِيَه فأمكن أن يكون مُعاصِرَه ، فهو محلُّ
تردُّد ، وإن لم يُمكِن فمنقطِع ، كقتادة عن أبي هريرة .
وحُكْمُ ( قال ) : حُكمُ ( عن ) . ولهم في ذلك أغراض :
فإن كان لو صَرّحَ بمن حَدَّثه عن المسمىَ ، لعُرِفَ
ضَعْفُه ، فهذا غَرَضّ مذموم وجِنايةُ على السُّنُّة ، ومن يُعاني ذلك جُرِحَ به ،
فإنَّ الدينَ النصيحة .
وإن فَعَلهُ طَلَباً للعلو فقط ، أو إيهاماً بتكثير
الشيوخ ، بأن يُسمَي الشيخَ مرَّةً ويُكَنَّيه أخرى ، وَيَنْسُبَه إلى صَنْعةٍ أو
بلدٍ لا يكادُ يُعرَف به ، وأمثالَ ذلك ، كما تقولُ : حدَّثَنا البُخَاريُّ ،
وتَقصِدُ به من يُبَخَّرُ الناس ، أو : حدَّثنا عليُّ بما وراءَ النهر ، وتعني به
نهراً ، أو حَدَّثنا بزَبِيد ، وتُرِيد موضعاً بقُوص ، أو : حدَّثنا بحَرَّان ،
وتُريدُ قريةَ المَرْج ، فهذا مُحْتَمَل ، والوَرَعُ تركُه .
ومن أمثلة التدليس : الحَسَنُ عن أبي هريرة . وجمهورُهم
على أنه منقطع ، لم يَلْقَه . وقد رُوِيَ عن الحَسَنِ قال : حدَّثنا أبو هريرة .
فقيل : عَنَى بحَدَّثَنا : أهلَ بلدِه
.
وقد يؤدَّي تدليسُ الأسماء إلى جهالةِ الراوي الثقة ،
فيُرَدُّ خبَرُه
الصحيح . فهذه مَفْسَدَة ، ولكنها في غير (( جامع البخاري
)) ونحوِه ، الذي تَقرَّرَ أنَّ موضوعَه للصحاح ، فإنَّ الرجلَ قد قال في (( جامعه )) : حدَّثنا
عبدُالله . وأراد به : ابنَ صالح المصري . وقال : حدَّثنا يعقوب . وأراد به : ابنَ
كاسِب . وفيهما لِين . وبكل حالٍ : التدليسُ منافٍ للإخلاص ، لما فيه من التزيُّن .
19- المضطرب والمُعَلَّل :
ما رُوي على أوجهٍ مختلِفة ، فَيعتلُّ الحديث .
فإن كانت العِلّةُ غيرَ مؤثًرة ، بأن يَرويَه الثَّبْتُ
على وجهٍ ، ويُخالِفَه واهٍ ، فليس بمَعْلُول . وقد ساق الدارقطنيُّ كثيراً من هذا
النمط في (( كتاب العِلَل )) ، فلم يُصِب ، لأنَّ الحُكم للثَّبْت .
فإن كان الثَّبْتُ أرسَلَه مثلاً ، والواهي وصَلَه ، فلا
عبرة بوصلِه لأمرين : لضعفِ راويه ، ولأنه معلولّ بإرسال الثَّبْت له .
ثم اعلم أنَّ أكثَرَ المتكلَّمِ فيهم ، ما ضعَّفهم
الحُفَّاظُ إلا لمخالفتهم للأثبات.
وإن كان الحديثُ قد رَوَاه الثَّبْتُ بإسناد ، أو
وَقَفَه ، أو أَرسَلَه ، ورفقاؤه الأثباتُ يُخالفونه ، فالعبِرةُ بما اجتَمَع عليه
الثقات ، فإنَّ الواحد قد يَغلَط . وهنا قد ترجَّع ظهورُ غَلَطِه فلا تعليل ،
والعِبرةُ بالجماعة .
وإن تساوَى العَدَدُ ، واختَلَف الحافظانِ ، ولم يترجَّح
الحكمُ لأحِدهما على الآخر ، فهذا الضَّرْبُ يَسوقُ البخاريُّ ومسلمُ الوجهين ِ ـ
منه ـ في كتابيهما . وبالأولَى سَوْقُهما لما اختَلَفا في لفظِهِ إذا أمكن
جَمْعُ معناه
.
ومن أمثلة اختلاف الحافِظَينِ : أن يُسمَيَ أحدُهما في
الإسناد ثقةً ، ويُبدِله الآخرُ بثقةٍ آخر أو يقولَ أحدُهما : عن رجل ، ويقولَ
الآخرُ : عن فلان ، فيُسميَّ ذلك المبهَمَ ، فهذا لا يَضُرُّ في الصحة .
فأمَّا إذا اختَلَف جماعةُ فيه ، وأَتَوْا به على أقوالٍ
عدًة ، فهذا يُوهِنُ الحديث ، ويَدُلُّ على أنَّ راوِيَه لم يُتقِنه .
نعم لو حَدَّثَ به على ثلاثِة أوجهٍ تَرجعُ إلى وجهٍ
واحد ، فهذا ليس بمُعْتَلّ ، كأن يقولَ مالك : عن الزُّهري ، عن ابن المسَّيب ، عن
أبي هريرة . ويقولَ عُقَيلُ : عن الزُّهري ، عن أبي سَلَمة . ويَرويَه ابنُ عيينة
، عن الزهري ، عن سَعِيدٍ وَأبي سَلَمة معاً .
20- المُدْرَج :
هي ألفاظ تقعُ من بعض الرواة ، متصلةً بالمَتْن ، لا
يبِينُ للسامع إلا أنها من صُلْبِ الحديث ، ويَدلُّ دليلُ على أنها من لفظِ راوٍ ،
بأن يأتيَ الحديثُ من بعضِ الطرق بعبارةٍ تَفْصِلُ هذا من هذا.
وهذا طريقّ ظنيّ ، فإنْ ضَعُفَ توقَّفْنا أو رجَّحْنا
أنها من المتن ،
ويَبْعُدُ الإدراجُ في وسط المتن ، كما لو قال : (( من
مَسَّ أُنْثَيْيِه وذكَرَهُ
فلْيتوضأ
)) .
وقد صنَّف فيه الخطيب تصنيفاً ، وكثيرُ منه غيرُ مُسلَّم
له إدراجُه .
21- ألفاظُ الأداء :
فـ ( حدَّثَنا ) و ( سَمِعتُ ) لِمَا سُمِع من لفظ الشيخ
. واصطُلِح
على أنَّ (حدَّثَني ) لِمَا سَمِعتَ منه وحدَك ، و
(حدَّثَنا ) لِمَا سَمِعتَه معَ
غيرك . وبعضُهم سَوَّغ ( حدَّثَنا ) فيما قراه هو على
الشيخ .
وأما ( أخبَرَنا ) فصادِقةٌ على ما سَمِع من لفظ الشيخ ،
أو قرأه هو،
أو قرأه آخَرُ على الشيخِ وهو يَسمع . فلفظُ ( الإخبار
) أعمُّ من ( التحديث ) .
و ( أخبرني ) للمنفرِد . وسَوَّى المحققون كمالكٍ
والبخاريِّ بين ( حدَّثنا )
و (أخبِرنا ) و ( سَمِعتُ ) ، والأمرُ في ذلك واسع .
فأمَّا ( أنبأنا ) و ( أنا ) فكذلك ، لكنها غلَبتْ في
عُرف المتأخرين
على الإجازة . وقولُه تعالى : { قالَتْ من أَنبأَك هذا
قال: نَبَّأنيَ العليمُ
الخبير } . دَالُّ على التَّساوِي . فالحديثُ والخبرُ
والنَّبأُ مُترادِفاتُ .
وأما المغاربة فيُطلقون : ( أخبرَنا ) ، على ما هو
إجازةُ ، حتى إنَّ
بعضهم يُطلقُ في الإجازة ! : ( حدَّثَنا ) . وهذا تدليس
. ومن الناس من
عَدَّ ( قال لنا ) إِجازَةً ومُناوَلةً .
ومن التدليس أن يقولَ المحدَّثُ عن الشيخ الذي سَمِعَه ،
في أماكنَ
لم يَسمَعْها : قُرِئ على فلان : أخبَرك فلان . فربما
فَعَل ذلك الدار قطنيُّ يقولُ : قُرئ على أبي القاسم البغوي : أخبرك فلان . وقال
أبو
نُعَيم : قُرِئ على عبدا لله بن جعفر بن فارس :حدثنا
هارون بن سليمان . ومن ذلك ( أخبرنا فلانُ من كتابِه ) ، ورأيت ابنَ مُسَيَّب
يفعله .
وهذا لا ينبغي فإنه تدليس ، والصوابُ قولُك : في كتابه
( يراجع هل هنا قطع ) ومن التدليس أن يكون قد حَضَر
طِفْلاً على شيخٍ وهو ابُن سنتينِ أو
ثلاث ، فيقول : أنبأنا فلان ، ولم يقل : وأنا حاضر .
فهذا الحضورُ العَرِيُّ
عن إذنِ المُسْمِع لا يُفيد اتصالاً ، بل هو دون الإجازة
، فإن الإجازة نوعُ
اتصال عن أئمة .
وحضورُ ابنِ عامٍ أو عامَيْنَ إذا لم يَقترن بإجازةٍ كلا
شيءَ ، إلا أن
يكون حضورُه على شيخٍ حافظِ أو محدِّثٍ وهو يَفْهَمُ ما
يُحدِّثُه ، فيكون
إقرارُه بكتابةِ اسمِ الطفل بمنزلةِ الإِذن منه له في
الرواية .
ومن صُوَر الأداء : حدَّثَنا حَجَّاجَ بن محمد ، قال :
قال ابن جُرَيج.
فصيغةُ ( قال ) لا تدلُّ على اتصال .
وقد اغتُفِرَتْ في الصحابة ، كقول الصحابي : قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - .
فحُكمُها الاتصالُ إذا كان ممن تُيُقِّنَ سَمَاعُه من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن
كان لم يكن له إلا مُجرَّدُ رُؤْية ، فقولُه : قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - محمولٌ على
الإرسال ، كمحمود بن الرَّبِيع ، وأبي أُمَامة بن سَهْل
، وأبي الطُّفَيل ، ومروان .
وكذلك ( قال ) من التابعي المعروفِ بلقاء ذلك الصحابي ،
كقول
عُروة : قالت عائشة . وكقولِ ابن سيرين : قال أبو هريرةَ
، فحُكمُه
الاتصال
.
وأرفَعُ من لفظةِ ( قال ) : لفظةُ ( عن ) . وأرفَعُ من (
عن ) : ( أخبرنا ) ،
و ( ذَكَر لنا ) ، و ( أنبأنا ) . وأرفعُ من ذلك : (
حدَّثَنا ) ، و ( سَمِعتُ ) .
وأما في اصطلاح المتأخرين فـ( أنبأنا ) ، و ( عن ) ، و (
كَتبَ إلينا )
واحِدٌ
.
22-
المقلوب
:
هو ما رواه الشيخُ بإسنادٍ لم يكن كذلك ، فيَنقلِبُ عليه
ويَنُطُّ من
إسنادِ حديثٍ إلى مَتْنٍ آخَرَ بعدَه . أو : أن يَنقلِبَ
عليه اسمُ راوٍ مثْلُ
( مُرَّة بن كعب ) بـ (كعب بن مُرَّة ، و (سَعْد بن
سِنان ) بـ (سِنَان
بن سَعْد
) .
فمن فعَلَ ذلك خطأً فقريب ، ومن تعمَّد ذلك وركَّبَ
متناً على
إسنادٍ ليس له ، فهو سارقُ الحديث ، وهو الذي يقال في
حَقَّه : فلانُ
يَسرِقُ الحديث . ومن ذلك أن يَسِرقَ حديثاً ما سَمِعَه
، فيدَّعِيَ سماعَهُ من
رجل .
وإن سَرَق فأَتى بإسنادٍ ضعيفٍ لمتنٍ لم يَثُبت سنَدُه ،
فهو أخفُّ
جُرماً ممن سَرَق حديثاً لم يصحَّ متنُه ، وركَّب له
إسناداً صحيحاً ، فإن
هذا نوع من الوضع والافتراء . فإن كان ذلك في متون
الحلال والحرام ،
فهو أعظمُ إثماً وقد تبوَّأَ بيتاً في جهنم .
وأمَّا سَرِقَهُ السماع وادَّعاءُ ما لم يَسمع من الكتب
والأجزاء ، فهذا
كذبٌ مجرَّد ، ليس من الكذب على الرسول - صلى الله عليه
وسلم - ، بل من الكذب على
الشيوخ ، ولن يُفِلحَ من تعاناه ، وقلَّ من سَتَر الله
عليه منهم ، فمنهم مَنْ
يَفتضِحُ في حياتِه ، ومنهم من يَفتَضِحُ بعدَ وفاتِه ،
فنسألُ الله السَّتر والعفو.
فصل لا تُشتَرَطُ العدالةُ حالةَ التحمُّل ، بل حالةَ
الأداء ، فيَصِحُّ سماعُهُ
كافراً وفاجراً وصَبيّاً ، فقد رَوَى جُبَير بن مُطْعِم
رضي الله عنه أنه سَمِعَ
النبيَّ يقرأ في المغرب بـ (الطُّوْر ) . فسَمِعَ ذلك
حالَ شِركِه ، ورَوَاه
مؤمناً
.
واصطلح المحدَّثون على جعلِهم سَمَاعَ ابن خمس سنين :
سَمَاعاً ،
وما دونها : حُضُوراً . واستأنَسُوا بأنَّ محموداً (
عَقَل مَجَّةَّ ) ولا دليلَ فيه
.
والمعتبَرُ فيه إنما هو أهليةُ الفهم والتمييز .
1ـ
مسألة : يَسُوغُ التصرُّفُ في الإسناد بالمعنى إلى صاحب
الكتابِ أو
الجزء . وكرِهَ بعضُهم أن يزيدَ في ألقابِ الرواة في ذلك
، وأن يزيدَ تاريخَ
سماعِهم ، وبقراءةِ من سَمِعُوا ، لأنه قَدْرُ زائد على
المعنى .
ولا يَسُوغُ إذا وَصَلْتَ إلى الكتاب أو الجزء ، أن
تَتصرَّفَ في تغيير
أسانيدِه ومُتُونِه ، ولهذا قال شيخنا ابنُ وهب : ينبغي
أن يُنظَرَ فيه : هل
يَجبُ ؟ أو هو مُستَحْسَن ؟ وقُوَّى بعضُهم الوجوبَ مع
تحويزهم الروايةَ
بالمعنى ، وقالوا : مالَهُ أن يُغيَّر التصنيفَ . وهذا
كلامُ فيه ضعف
أماَّ إذا نقلنا من ( الجزء ) شيئاً إلى تصانيِفنا
وتخارِيجِنا ، فإنه ليس في
ذلك تغيرٌ للتصنيف الأول .
قلتُ : ولا يَسُوغُ تغييرُ ذلك إلا في تقطيع حديثٍ ، أو
في جَمْعِ
أحاديثَ مفرَّقةٍ ، إسنادُها واحد ، فيقال فيه : وبِهِ
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
- .
2ـ مسألة : تَسمَّحَ بعضُهم أن يقول : سَمِعتُ فلاناً ،
فيما قَرَأه عليه ،
أو يَقرؤُه عليه الغيرُ . وهذا خلافُ الاصطلاح أو من
بابِ الروايِة
بالمعنى ، ومنه قولُ المؤرَّخين : سَمِع فلاناً وفلاناً .
3ـ مسألة : إذا أَفرَد حديثاً من مثل نسخة هَمَّام ، أو
نسخة أبي مُسْهِر ،
فإنْ حافَظَ على العبارة جاز وِفاقاً ،كما يقول مسلم :
(( فذكَرَ أحاديثَ ،
منها : وقال رسولُ - صلى الله عليه وسلم - )) وإلا
فالمحقَّقون على الترخيصِ في التصريفِ
السائِغ
.
4ـ مسألة : اختصارُ الحديث وتقطيعُه جائزُ إذا لم
يُخِلَّ معنىً . ومن
الترخيص تقديمُ مَتْنٍ سَمِعهَ على الإسناد ، وبالعكس ،
كأن يقول : قال
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : النّدَمُ تَوْبَة ،
أخبَرَنا به فلان عن فلان .
5ـ مسألة : إذا ساق حديثاً بإسناد ، ثم أَتبعَه بإسنادٍ
آخَرَ وقال : مثلُه ،
فهذا يجوزُ للحافظ المميز للألفاظ ، فإن اختَلَف اللفظُ
قال : نحوُه ، أو
قال : بمعناه أو بنحوٍ منه .
6ـ مسألة : إذا قال : حدَّثَنا فلانُ مذاكَرةً ، دَلَّ
على وَهْنٍ مَّا ، إذْ
المذاكرةُ يُتَسمَّحُ فيها.
ومن التساهل : السَّماعُ من غير مقابلة ، فإن كان كثيرَ
الغَلَط لم
يَجُز ، وإن جَوَّزنا ذلك فيَصِحُّ فيما صَحَّ من الغلط
، دون المغلوط وإن
نَدَر الغَلَطُ فمُحَتمَل ، لكن لا يجوزُ له فيما بعدُ
أن يُحدَّثَ من أصلِ
شيخِه
.
23- آدابُ المحدَّث :
تصحيحُ النيَّةِ من طالب العلم متعيَّن ، فمن طَلَب
الحديثَ للمكاثرة
أو المفاخرة ، أو ليَروِيَ ، أو لِيتناوَلَ الوظائفَ ،
أو ليُثْنى عليه وعلى معرفتِه
فقد خَسِر . وإنْ طلَبَه لله ، وللعمل به ، وللقُربةِ
بكثرة الصلاة على نبيه
- صلى الله عليه وسلم - ، ولنفعِ الناس ، فقد فاز . وإن
كانت النيَّةُ ممزوجةُ بالأمرينِ فالحكمُ
للغالب
.
وإن كان طَلَبَه لفَرْطِ المحبةِ فيه ، مع قطع النظر عن
الأجْرِ وعن بني
آدم ، فهذا كثيراً ماً : يَعتبري طلبةَ العُلُوم ،
فلعلَّ النيَّةَ أن يَرزُقَها اللهُ بعدُ .
وأيضاً فمن طَلَب العلم للآخِرة كَسَاهُ العِلمُ
خَشْيَةً لله ، واستَكانَ وتواضَعَ ،
ومن طلبه للدنيا تكبَّرَ وتجبَّر ، وازدَرَى بالمسلمين
العامَّة ، وكان عاقبةُ
أمرِه إلى سِفَالٍ وحَقَارة .
فليحتسِب المحدَّثُ بحديثهِ ، رجاءَ الدخولِ في قوله -
صلى الله عليه وسلم - : (( نَضَّر الله
امرءاً سَمِعَ مقالتي فوعاها ، ثم أدَّاها إلى من لم
يَسمعها )) .
ولْيَبْذُلْ نفسَه للطلبةِ الأخيار ، لا سيما إذا
تَفرَّد ، ولْيَمْتَنَعْ مع الهَرَمِ
وتغيَّرِ الذهن ، ولْيَعْهَدَ إلى أهله وإخوانه حالَ
صحته : أنكم متى رأيتموني
تغيَّرتُ ، فامنَعُوني من الرواية .
فمن تَغيَّرَ بسُوءِ حفظٍ وله أحاديثُ معدودة ، قد
أَتقَنَ روايتَها ، فلا
بأس بتحديِثه بها زمنَ تغيُّره .
ولا بأس بأن يُجيزَ مروياَّ تِه حالَ تغيُّره ، فإنَّ
أصولَه مضبوطةُ ما
تغيَّرتْ ، وهو فَقَدَ وَعْيَ ما أجاز . فإن اختَلَط
وخَرِفَ امتُنِعَ من أخْذِ
الإجازةِ منه
.
ومن الأدب أن لا يُحدَّثَ مع وجودِ من هو أَولَى منه
لِسِنهِّ وإتقانِه .
بل يَدُلَّهم على المُهِمّ ، فالدَّينُ النصيحة .
فإنْ دَلَّهم على مُعَمَّرٍ عامِيٍ ، وعَلِمَ قُصورَهم
في إقامِة مرويَّاتِ العاميِّ ، نَصَحهم ودَلَّهم على عارفٍ يَسمعون بقراءتهِ ، أو
حَضَر مع العاميِّ ورَوَى بنُزولٍ ، جَمْعاً بين الفوائد .
ورُوي أنَّ مالكاً رحمه الله كان يَغتسِلُ للتحديث ،
ويَتبخَّرُ ،
ويتطيَّبُ ، ويَلبَسُ ثيابَه الحسنة ، ويَلزمُ الوَقارَ
والسَّكينة ، ويَزْبُرُ من يَرفعُ صوتَه ، ويُرَتِّلُ الحديث.
وقد تَسمَّح الناسُ في هذه الأعصار بالإسراع المذموم ،
الذي يَخفَى
معه بعضُ الألفاظ . والسماعُ هكذا لا مِيزةَ له على
الإجازةِ ، بل الإجازةُ
صِدْقّ ، وقولُك : سَمِعتُ أو قرأتُ هذا الجزءَ كلَه ـ
مع التَّمْتَمَةِ ودَمْجِ
بعض الكلمات ـ كَذِبُ .
وقد قال النَّسائيُّ في عِدَّةِ أماكنَ من (( صحيحه )) :
وذَكَرَ كلمةً
معناها كذا وكذا .
وكان الحُفَّاظُ يَعقِدون مجالسَ للإملاء ، وهذا قد
عُدِمَ اليوم ،
والسماع بالإملاء يكون مُحقَّقاً ببيانِ الألفاظِ
للمُسمِع والسامع .
ولْيجتنِبْ روايةَ المشكلات ، مما لا تحملُه قلوبُ
العامَّة ، فإن رَوَى
ذلك فليكن في مجالس خاصة . وَيَحرُمُ عليه روايةُ
الموضوع ، وروايةُ
المطروح ، إلا أن يُبيّنَه للناسِ ليَحذّرُوه .
الثقة
:
تُشتَرَطُ العدالةُ في الراوي كالشاهد ، ويمتازُ الثقةُ
بالضبطِ والإتقان ،
فإن انضاف إلى ذلك المعرفةُ والإكثارُ ، فهو حافظ .
والحُفَّاظُ طبقات :
1ـ في ذِرْوَتِها أبو هريرة رضي الله عنه .
2ـ وفي التابعين كابنِ المسيَّب .
3ـ وفي صِغارِهم كالزُّهريِّ
4ـ وفي أتباعِهم كسفيان ، وشعبة ، ومالك .
5ـ ثم ابنِ المبارك ، ويحيى بنِ سعيد ، ووكيع ، وابنِ
مهدي .
6ـ ثم كأصحابِ هؤلاء ، كابن المَدِيني ، وابنِ مَعِين ،
وأحمد ، وإسحاق ،
وخَلْق
.
7ـ ثم البخاريِّ ، وأبي زُرْعَة ، وأبي حاتم ، وأبي داود
، ومُسْلِم .
8ـ ثم النَّسائيِّ ، وموسى بنِ هارون ، وصالحِ جَزَرَة ،
وابنِ خُزَيمة .
9ـ ثم ابنِ الشَّرْقي . وممن يُوصَفُ بالحفظ والإتقانِ
جماعةُ من الصحابة
والتابعين
.
10ـ ثم عُبَيدِ الله بنِ عمر ، وابنِ عَوْن ، ومِسْعَر .
11ـ ثم زائدة ، والليثِ ، وحمَّادِ بن زيد .
12ـ ثم يزيدُ بنِ هارون ، وأبو أسامة ، وابنُ وهب .
13ـ ثم أبو خيثمة ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نُمَير
، وأحمد بن صالح .
14ـ ثم عَبَّاسٌ الدُّوْرِي ، وابنُ وارَهْ ، والترمذيُّ
، وأحمدُ بن أبي خَيْثَمة ،
وعبدُ الله بن أحمد
15ـ ثم ابنُ صاعِد ، وابن زياد النيسابوري ، وابنُ
جَوْصَا ، وابنُ الأَخْرَم .
16ـ ثم أبو بكر الإسماعيلي ، وابنُ عَدِيّ ، وأبو أحمد
الحاكم .
17ـ ثم ابنُ منده ، ونحوُه .
18ـ ثم الَبرْقَانيُّ ، وأبو حازم العَبْدَوِي .
19ـ ثم البيهقيُّ ، وابنُ عبد البَرّ .
20ـ ثم الحُمَيدي ، وابنُ طَاهِر .
21ـ ثم السِّلَفِيّ ، وابن السَّمْعاني .
22ـ ثم عبدالقادر ، والحازمي .
23ـ ثم الحافظ الضياء ، وابنُ سيد الناس خطيبُ تونس .
24ـ ثم حفيدُه حافظ وقتِه أبو الفتح .
وممن تقدَّم من الحفاظِ في الطبقةِ الثالثة : عَدَدٌ من
الصحابةِ وخلقٌ من
التابعين وتابعيهم ، وهلُمَّ جراً إلى اليوم .
1ـ فمثلُ يحيى القطان ، يقال فيه : إمامُ ، وحُجَّة ،
وثَبْت ، وجِهْبِذ ،
وثِقَةُ ثِقَة .
2ـ ثم ثقةُ حافظ .
3ـ ثم ثقةُ مُتقن .
4ـ ثم ثقةُ عارف ، وحافظُ صدوق ، ونحوُ ذلك .
فهؤلاء الحُفَّاظُ الثقات ، إذا انفرد الرجلُ منهم من
التابعين ، فحديثهُ
صحيح . وإن كان من الأتباعِ قيل : صحيح غريب . وإن كان
من
أصحاب الأتباع قيل : غريبُ فَرْد .
ويَنْدُرُ تفرُّدهم ، فتجدُ الإمامَ منهم عندهَ مِئتا
ألف حديث ، لا يكادُ
ينفرد بحديثينِ ثلاثة .
ومن كان بعدَهم فأين ما يَنفرِدُ به ، ما علمتهُ ، وقد
يوُجَد .
ثم نَنْتَقِلُ إلى اليَقِظ الثقةِ المتوسِطِ المعرفةِ
والطلب ، فهو الذي يُطلَقُ
عليه أنه ثقة ، وهم جُمهورُ رجالِ (( الصحيحين ))
فتابِعِيُّهم ، إذا انفَرَد
بالمَتْن خُرَّج حديثهُ ذلك في ( الصحاح ) .
وقد يَتوقَّفُ كثيرُ من النُّقاَّد في إطلاق ( الغرابة )
مع ( الصحة ) ،
في حديثِ أتباعِ الثقات . وقد يُوجَدُ بعضُ ذلك في (
الصحاح ) دون
بعض .
وقد يُسمِّي جماعةٌ من الحفاظ الحديثَ الذي ينفرد به
مثلُ هُشَيْم ،
وحفصِ بنِ غِياثٍ : منكراً
فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة ، أطلقوا النكارةَ
على ما
انفرد مثلُ عثمان بن أبي شيبة ، وأبي سَلَمة
التَّبُوْذَكِي ، وقالوا : هذا منكر.
فإن رَوَى أحاديثَ من الأفراد المنكرة ، غَمَزُوه
وليَّنوا حديثَه ، وتوقفوا
في توثيقه ، فإن رَجَع عنها وامَتَنع من روايتها ،
وجَوَّز على نفسِه الوَهَمَ ،
فهو خيرُ له وأرجَحُ لعدالته ، وليس من حَدِّ الثقةِ :
أنَّهُ لا يَغلَطُ ولا يُخطِئ ،
فمن الذي يَسلمُ من ذلك غيرُ المعصومِ الذي لا يُقَرُّ
على خطأ .
فصل الثقة : من وثَّقَه كثيرٌ ولم يُضعَّف . ودُونَه :
من لم يُوثق ولا ضُعِّف .
فإن حُرِّج حديثُ هذا في (( الصحيحين )) ، فهو مُوَثَّق
بذلك ، وإن
صَحَّح له مثلُ الترمذيِّ وابنِ خزيمة فجيِّدُ أيضاً ،
وإن صَحَّحَ له
كالدارقطنيِّ والحاكم ، فأقلُّ أحوالهِ : حُسْنُ حديثه .
وقد اشتَهَر عند طوائف من المتأخرين ، إطلاقُ اسم (
الثقة ) على
من لم يُجْرَح ، مع ارتفاع الجهالةِ عنه . وهذا يُسمَّى
: مستوراً ، ويُسمىَّ :
محلهُّ الصدق ، ويقال فيه : شيخ .
وقولهم : ( مجهول ) ، لا يلزمُ منه جهالةُ عينِه ، فإن
جُهِلَ عينُه
وحالُه ، فأَولَى أن لا يَحتجُّوا به .
وإن كان المنفردُ عنه من كبارِ الأثبات ، فأقوى لحاله ،
ويَحتَجُّ بمثلِه
جماعةٌ كالَّنسائي وابنِ حِباَّن .
ويَنْبُوعُ معرفةِ ( الثقات ) : تاريخُ البخاريِّ ،
وابنِ أبي حاتم ، وابنِ
حِبَّان ، وكتابُ (( تهذيب الكمال )) .
فصل
من أَخرَج له الشيخان على قسمين :
أحدُهما : ما احتَجَّا به في الأصول . وثانيهما : من
خرَّجا له متابعةً
وشَهادَةً واعتباراً .
فمن احتَجَّا به أو أحدُهما ، ولم يُوثَّق ، ولا غُمِزَ
، فهو ثقة ، حديُثُه
قوي .
ومن احتَجَّا به أو أحدُهما ، وتُكلِّم فيه :
فتارةً يكون الكلامُ فيه تعنُّتاً ، والجمهورُ على
توثيقِه ، فهذا حديثُهُ
قويّ أيضاً
.
وتارةً يكون الكلامُ في تليينِهِ وحِفظِهِ له اعتبار .
فهذا حديثهُ لا يَنحطُّ
عن مرتبة الحسَن ، التي قد نُسمِّيها : من أدنى درجات (
الصحيح )
فما في (( الكتابين )) بحمد الله رجلٌ احتَجَّ به
البخاريُّ أو مسلمٌ
في الأصولِ ، ورواياتُه ضعيفة ، بل حَسَنةٌ أو صحيحة .
ومن خَرَّجَ له البخاريُّ أو مسلمٌ في الشواهد
والمتابَعات ، ففيهم من
في حِفظِه شيء ، وفي توثيِقه تردُّد . فكلُّ من خُرِّجَ
له في ((الصحيحين )) ،
فقد قَفَزَ القَنْطَرة ، فلا مَعْدِلَ عنه إلا ببرهانٍ
بَيِّن .
نعم ، الصحيحُ مراتب ، والثقاتُ طَبَقات ، فليس مَنْ
وُثِّق مطلقاً
كمن تُكلِّمَ فيه ، وليس من تُكلِّم في سُوءِ حفظِه
واجتهادِه في الطَّلَب ،
كمن ضعَّفوه ولا من ضعَّفوه ورَوَوْا له كمن تركوه ، ولا
من تركوه
كمن اتَّهموه وكذَّبوه .
فالترجيحُ يَدخُلُ عند تعارُضِ الروايات . وحَصْرُ
الثقاتِ في مصنَّفٍ
كالمتعذِّر . وضَبْطُ عَدَدِ المجهولين مستحيل .
فأمَّا من ضُعِّفَ أو قيل فيه أدنى شيء ، فهذا قد
ألَّفتُ فيه مختصراً
سمَّيتُه بـ (( المغني )) ، وبَسَطتُ فيه مؤلَّفاً
سَمَّيتُه بـ ((الميزان )) .
فصل ومن الثقات الذين لم يُخْرَجْ لهم في (( الصحيحين ))
خَلْقٌ ، منهم :
من صَحَّح لهم الترمذيُّ وابنُ خزيمة ثم : من رَوَى لهم
النسائي وابنُ حِبَّان
وغيرُهما ، ثم : ـ مَنْ ـ لم يُضَعِّفْهم أحد واحتَجَّ
هؤلاء المصنِّفون بروايتهم .
وقد قيل في بعضهم : فلانٌ ثقة ، فلان صدوق ، فلان لا بأس
به ،
فلان ليس به بأس ، فلان محلُّه الصدق ، فلان شيخ ، فلان مستور
، فلان
رَوَى عنه شعبة ، أو : مالك ، أو : يحيى ، وأمثالُ ذلك .
كـ: فُلانٌ حسَنُ
الحديث ، فلانٌ صالحُ الحديث ، فلانٌ صدوقٌ إن شاء الله .
فهذه العبارات كلُّها جيَّدة ، ليسَتْ مُضعِّفةً لحالِ
الشيخ ، نعم ولا
مُرَقِّيةً لحديِثه إلى درجة الصِّحَّةِ الكاملةِ
المتفَقِ عليها ، لكنْ كثيرٌ ممن ذكرنا
مُتَجَاذَبٌ بين الاحتجاجِ به وعَدَمِه .
وقد قيل في جَمَاعاتٍ : ليس بالقويِّ ، واحتُجَّ به .
وهذا النَّسائيُّ
قد قال في عِدَّةٍ : ليس بالقويّ ، ويُخرِجُ لهم في ((
كتابه )) ، قال : قولُنا :
( ليس بالقوي ) ليس بجَرْحٍ مُفْسِد .
والكلامُ في الرُّواة يَحتاجُ إلى وَرَعٍ تامّ ،
وبَراءةٍ من الهوى والمَيْل ،
وخِبرةٍ كاملةٍ بالحديثِ وعِلَلِه ، ورجالِه .
ثم نحن نفتَقِرُ إلى تحرير عباراتِ التعديلِ والجرح وما
بين ذلك ، من
العباراتِ المُتَجَاذَبَة .
ثم أهَمُّ من ذلك أن نَعلمَ بالا ستقراءِ التامِّ :
عُرْفَ ذلك الإمامِ
الجِهْبِذ ، واصطلاحَه ، ومقاصِدَه ، بعباراتِه الكثيرة .
أما قولُ البخاري : ( سكتوا عنه ) ، فظاهِرُها أنهم ما
تعرَّضوا له
بجَرْح ولا تعديل ، وعَلِمنا مقصدَه بها بالا ستقراء :
أنها بمعنى تركوه .
وكذا عادَتُه إذا قال : ( فيه نظر ) ، بمعنى أنه متَّهم
، أو ليس بثقة . فهو
عنده أسْوَأُ حالاً من ( الضعيف ) .
وبالا ستقراءِ إذا قال أبو حاتم : ( ليس بالقوي ) ،
يُريد بها : أنَّ
هذا الشيخ لم يَبلُغ درَجَة القويِّ الثَّبْت .
والبخاريُّ قد يُطلقُ على الشيخ
:
( ليس بالقوي ) ، ويريد أنه ضعيف .
ومن ثَمَّ قيل : تجبُ حكايةُ الجرح والتعديل ، فمنهم من
نَفَسُهُ حادٌّ في
الجَرْح ، ومنهم من هو معتدِل ،ومنهم من هو متساهل .
فالحادُّ فيهم : يحيى بنُ سعيد ، وابنُ معين ، وأبو حاتم
، وابنُ خِراش ،
وغيرُهم
.
والمعتدلُ فيهم : أحمد بن حنبل ، والبخاري ، وأبو
زُرْعَة .
والمتساهلُ كالترمذيِّ ، والحاكم ، والدارقطنيِّ في بعض
الأوقات .
وقد يكون نَفَسُ الإمام ـ فيما وافَقَ مذهبَه ، أو في
حالِ شيخِه ـ
ألطفَ منه فيما كان بخلاف ذلك . والعِصمةُ للأنبياءِ
والصديقين وحُكَّام
القِسْط
.
ولكنَّ هذا الدين مؤيَّد محفوظ من الله تعالى ، لم
يَجتمع علماؤه
على ضلالة ، لا عَمْداً ولا خطأ ، فلا يَجتمِعُ اثنانِ
على توثيقِ ضعيف ،
ولا على تضعيفِ ثقة ، وإنما يقعُ اختلافُهم في مراتبِ
القُوَّةِ أو مراتبِ
الضعف . والحَاكمُ منهم يَتكلَّمُ بحسبِ اجتهادِهِ
وقُوَّةِ مَعارِفِه ، فإن قُدِّرَ
خطؤه في نقده ، فله أجرٌ واحد ، والله الموفق .
وهذا فيما إذا تكلَّموا في نقدِ شيخٍ وَرَدَ شيءٌ في
حِفظَه وغَلَطِه ،
فإن كان كلامُهم فيه من جهةِ معتَقَدِه ، فهو على مراتب :
فمنهم : من بِدْعَتُه غليظة .
ومنهم : من بِدْعَتُه دون ذلك .
ومنهم : الداعي إلى بدعتِه .
ومنهم : الكافُّ ، وما بينَ ذلك .
فمتى جَمَع الغِلَظَ والدعوةَ تُجُنِّبَ الأخذُ عنه .
ومتى جِمِع الخِفَّةَ والكفَّ أَخذوا عنه وقَبِلُوه .
فالغِلَظُ كغُلاةِ الخوارج ، والجهميةِ ، والرافضةِ .
والخِفَّةُ كالتشيُّع والإِرجاء .
وأمَّا من استَحلَّ الكذبَ نَصْراً لِرَأْيِه
كالخطَّابيَّة فبالأولى رَدُّ حديثهِ
.
قال شيخنا ابنُ وَهْب : العقائدُ أَوجبَتْ تكفيرَ البعضِ
للبعض ، أو
التبديعَ ، وأَوجبَتْ العَصَبِيَّةَ ، ونشأ من ذلك
الطعنُ بالتكفيرِ والتبديع ،
وهو كثير في الطبقة المتوسِّطةِ من المتقدمين .
والذي تَقرَّرَ عندنا : أنه لا تُعتَبرُ المذاهبُ في
الرواية ، ولا نُكفِّرُ أهلَ
القِبلة ، إلا بإنكارِ مُتواترٍ من الشريعة ، فإذا
اعتَبَرْنَا ذلك ، وانضمَّ إليه
الورَعُ والضبطُ والتقوى فقد حَصَل مُعْتمَدُ الرواية .
وهذا مذهبُ
الشافعي رضي الله عنه ، حيث يقول : أَقبَلُ شهادةَ أهلِ
الأهواءِ إلا
الخَطَّابيَّةَ من الرَّوَافِض .
قال شيخنا : وهل تُقبَلُ روايةُ المبتدِع فيما يؤيِّدُ
به مذهبَه ؟ فمن
رأى رَدَّ الشهادةِ بالتُّهْمَة ،لم يَقبَل . ومن كان
داعيةً مُتَجاهِراً ببدعتِه ،
فليُترَك إهانةً له ، وإخماداً لمذهبِه ، اللهم إلا أن
يكون عنده أثَرٌ تفرَّدَ به ،
فنُقدَّمُ سَمَاعَهُ منه .
ينبغي أن تُتَفَقَّدَ حالَ الجارح مع من تَكلَّم فيه ،
باعتبار الأهواء فإن لاح
لك انحرافُ الجارح ووجدتَ توثيقَ المجروح من جهةٍ أخرى ،
فلا تَحفِلْ
بالمنحرِف وبغَمْزِه المبهَم ، وإن لم تجد توثيقَ المغموز
فتأَنَّ وترفَّقْ .
قال شيخُنا ابنُ وَهْب رحمه الله : ومن ذلك : الاختلافُ
الواقعُ بين
المتصوِّفة وأهلِ العلمِ الظاهرِ ، فقد وَقَع بينهم
تنافُرٌ أوجَبَ كلامَ بعضِهم
في بعض
.
وهذه غَمْرَةٌ لا يَخلُصُ منها إلا العالمُ الوَافي
بشواهد الشريعة .
ولا أَحْصُرُ ذلك في العلم بالفروع ، فإنَّ كثيراً من
أحوال المُحِقِّينَ من
الصوفية ، لا يَفِي بتمييزِ حَقِّه من باطِلِه عِلمُ
الفروع ، بل لا بُدَّ من معرفةِ
القواعدِ الأصولية ، والتمييزِ بين الواجبِ والجائز ،
والمستحيلِ عقلاً
والمستحيلِ عادَةً .
وهو مقامٌ خَطِر ، إذ القادِحُ في مُحِقَّ الصُّوفية ،
داخلٌ في حديث
(( من عادَى لي وَلِيّاً فقد بارَزَني بالمُحارَبة )) .
والتارِكُ لإنكارِ الباطلِ مما
سَمِعَه من بعضِهم تاركٌ للأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر .
ومن ذلك : الكلامُ بسبب الجهل بمراتب العلوم ، فيُحتاجُ
إليه في
المتأخرين أكثَرُ ، فقد انتَشَرَتْ علومٌ للأوائل ،
وفيها حَقٌّ كالحسابِ
والهندسةِ والطِّبٌ ، وباطلّ كالقولِ في الطبيعيَّاتِ
وكثيرٍ من الإلهيَّاتِ
وأحكامِ النجوم .
فيَحتاجُ القادحُ أن يكون مُميِّزاً بين الحقِّ والباطل
، فلا يُكفِّرَ من
ليس بكافر ، أو يَقبلَ رواية الكافر .
ومنه : الخَلَلُ الواقعُ بسببِ عَدَمِ الوَرَعِ
والأَْخْذِ بالتوهُّم والقرائنِ
التي قد تَتخلَّفُ ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ((
الظَّنُّ أكذَبُ الحديث )) فلا بد من العلم
والتقوى في الجَرْح ، فلصُعُوبةِ اجتماع هذه الشرائط
المزكِّين ، عَظُمَ خَطَرُ
الجَرْح والتعديل .
24ـ المُؤْتلفِ والمختلِف :
فَنٌّ واسعٌ مهم ، وأهمُّه ما تكرَّر وكَثُر ، وقد
يَنْدُرُ كأَجْمَد بن
عُجْيَان ، وآبِي اللَّحْم ، وابنِ أَتَشٍ الصَّنْعَاني
، ومحمد بن عَبَادَة الواسِطي العِجْلي ، ومحمد بن حُبَّان الباهِلي وشُعَيثِ بن
مُحَرَّر . والله أعلم
تَمَّتْ المقدِّمةُ : الموقظة ، علَّقها لنفسه الفقير
إبراهيم بن عمر بن
حَسَنِ الرَّباطِ الرَّوْحائيُّ في الليلة التي يُسفِرُ
صباحُها عن يوم الخميس
خامِسَ عشر ربيعٍ الأوَّلِى سنة اثنتين وثلاثين وثمانِ
مئة ، والحمدُ لله رب
العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين ،
وعلى آله وصحبه أجمعين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق