ج11وج12. ت الطبري
ج11. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
(صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)
وَلا أجد من الانصراف بدا فأذن لي، فأذن لَهُ فانطلق حَتَّى لحق بالحجاز، فأتى أهل الْمَدِينَة، فكان فيمن يحرض الناس عَلَى يَزِيد، وَكَانَ من قوله يَوْمَئِذٍ: إن يَزِيد وَاللَّهِ لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني مَا صنع إلي أن أخبركم خبره، وأصدقكم عنه، وَاللَّهِ إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حَتَّى يدع الصَّلاة، وعابه بمثل مَا عابه بِهِ أَصْحَابه الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وأشد، فكان سَعِيد بن عَمْرو يحدث بالكوفة أن يَزِيد بن مُعَاوِيَة بلغه قوله فِيهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إني آثرته وأكرمته، ففعل مَا قَدْ رأيت، فاذكره بالكذب والقطيعة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سَعِيد بن زَيْد أَبُو المثلم أن يَزِيد بن مُعَاوِيَة بعث النُّعْمَان بن بشير الأنصاري فقال له: ائت الناس وقومك فافثأهم عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا فِي هَذَا الأمر لم يجترئ الناس عَلَى خلافي، وبها من عشيرتي من لا أحب أن ينهض فِي هَذِهِ الْفِتْنَة فيهلك فأقبل النُّعْمَان بن بشير فأتى قومه، ودعا الناس إِلَيْهِ عامة، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الْفِتْنَة، وَقَالَ لَهُمْ: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوي: مَا يحملك يَا نعمان عَلَى تفريق جماعتنا، وفساد مَا أصلح اللَّه من أمرنا! فَقَالَ النُّعْمَان: أما وَاللَّهِ لكأني بك لو قَدْ نزلت تِلَكَ الَّتِي تدعو إِلَيْهَا، وقامت الرجال عَلَى الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحا الموت بين الفريقين قَدْ هربت عَلَى بغلتك تضرب جنبيها إِلَى مكة، وَقَدْ خلفت هَؤُلاءِ المساكين- يعني الأنصار- يقتلون فِي سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم! فعصاه الناس، فانصرف وَكَانَ وَاللَّهِ كما قَالَ.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة وكانت العمال فِي هَذِهِ السنة عَلَى العراق وخراسان العمال الَّذِينَ ذكرت فِي سنة إحدى وستين.
وفي هَذِهِ السنة ولد- فِيمَا ذكر- مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس
(5/481)
ثُمَّ دخلت
سنة ثلاث وستين
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمن ذَلِكَ مَا كَانَ من إخراج أهل الْمَدِينَة عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وإظهارهم خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وحصارهم من كَانَ بِهَا من بني أُمَيَّة، ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، أن أهل الْمَدِينَة لما بايعوا عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل عَلَى خلع يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وثبوا على عثمان ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ومن بِالْمَدِينَةِ من بنى اميه ومواليهم ومن رَأَى رأيهم من قريش، فكانوا نحوا من الف رجل، فخرجوا بجماعتهم حَتَّى نزلوا دار مَرْوَان بن الحكم، فحاصرهم الناس فِيهَا حصارا ضعيفا قَالَ: فدعت بنو أُمَيَّة حبيب بن كرة، وَكَانَ الَّذِي بعث إِلَيْهِ مِنْهُمْ مَرْوَان بن الحكم وعمرو ابن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ، وَكَانَ مَرْوَان هُوَ يدبر أمرهم فأما عُثْمَان بن مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فإنما كَانَ غلاما حدثا لَمْ يَكُنْ لَهُ رأي قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: فَحَدَّثَنِي حبيب بن كرة، قَالَ: كنت مع مَرْوَان، فكتب معي هُوَ وجماعة من بني أُمَيَّة كتابا إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأخذ الكتاب عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان حَتَّى خرج معي إِلَى ثنية الوداع، فدفع إلي الكتاب وَقَالَ: قَدْ أجلتك اثنتي عشرة ليلة ذاهبا واثنتي عشرة ليلة مقبلا، فوافني لأربع وعشرين ليلة فِي هَذَا المكان تجدني إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الساعة جالسا أنتظرك وَكَانَ الكتاب:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ حصرنا فِي دار مَرْوَان بن الحكم، ومنعنا العذب، ورمينا بالجبوب، فيا غوثاه يَا غوثاه! قَالَ: فأخذت الكتاب ومضيت بِهِ حَتَّى قدمت عَلَى يَزِيد وَهُوَ جالس عَلَى كرسي، واضع قدميه فِي ماء طست من وجع كَانَ يجده فيهما- ويقال: كَانَ بِهِ النقرس- فقرأه ثُمَّ قَالَ فِيمَا بلغنا متمثلا:
(5/482)
لقد بدلوا الحلم الَّذِي من سجيتي ... فبدلت قومي غلظة بليان
ثُمَّ قَالَ: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم ألف رجل بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ:
قلت: بلى، وَاللَّهِ وأكثر، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! قَالَ: فقلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أجمع الناس كلهم عَلَيْهِم، فلم يكن لَهُمْ بجمع الناس طاقة، قَالَ: فبعث إِلَى عَمْرو بن سَعِيد فأقرأه الكتاب، وأخبره الخبر، وأمره أن يسير إِلَيْهِم فِي الناس، فَقَالَ لَهُ: قَدْ كنت ضبطت لك البلاد، وأحكمت لك الأمور، فأما الآن إذ صارت إنما هي دماء قريش تهراق بالصعيد، فلا أحب أن أكون أنا أتولى ذَلِكَ، يتولاها مِنْهُمْ من هُوَ أبعد مِنْهُمْ مني قَالَ: فبعثني بِذَلِكَ الكتاب إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ المري- وَهُوَ شيخ كبير ضعيف مريض- فدفعت إِلَيْهِ الكتاب، فقرأه، وسألني عن الخبر فأخبرته، فَقَالَ لي مثل مقالة يَزِيد: أما يكون بنو أُمَيَّة ومواليهم وأنصارهم بِالْمَدِينَةِ ألف رجل! قَالَ: قلت: بلى يكونون، قَالَ: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! ليس هَؤُلاءِ بأهل أن ينصروا حَتَّى يجهدوا أنفسهم فِي جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى دخل عَلَى يَزِيد فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لا تنصر هَؤُلاءِ فإنهم الأذلاء، أما استطاعوا أن يقاتلوا يَوْمًا واحدا أو شطره أو ساعة مِنْهُ! دعهم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يجهدوا أنفسهم فِي جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ويستبين لك من يقاتل مِنْهُمْ عَلَى طاعتك، ويصبر عَلَيْهَا أو يستسلم، قَالَ: ويحك! إنه لا خير فِي العيش بعدهم، فاخرج فأنبئني نبأك، وسر بِالنَّاسِ، فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إِلَى الحجاز عَلَى أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع فِي يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل حَدَّثَنَا ابن حميد قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن مغيرة، قَالَ: كتب يَزِيد إِلَى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: لا أجمعهما للفاسق أبدا،
(5/483)
اقتل ابن بنت رسول الله ص، وأغزو البيت! قَالَ: وكانت مرجانة امرأة صدق، فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين ع: ويلك! ماذا صنعت! وماذا ركبت! رجع الحديث إِلَى حديث حبيب بن كرة قَالَ: فأقبلت حَتَّى أوافي عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان فِي ذَلِكَ المكان فِي تِلَكَ الساعة أو بعيدها شَيْئًا.
قَالَ: فوجدته جالسا متقنعا تحت شجرة، فأخبرته بِالَّذِي كَانَ، فسر بِهِ، فانطلقنا حَتَّى دخلنا دار مَرْوَان عَلَى جماعة بني أُمَيَّة، فنبأتهم بِالَّذِي قدمت بِهِ، فحمدوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: حَدَّثَنِي حبيب، أنه بلغه فِي عشرة قَالَ: فلم أبرح حَتَّى رأيت يَزِيد بن مُعَاوِيَة خرج إِلَى الخيل يتصفحها وينظر إِلَيْهَا، قَالَ: فسمعته وَهُوَ يقول وَهُوَ متقلد سيفا، متنكب قوسا عربية:
أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى ... وهبط القوم عَلَى وادي القرى
عشرون ألفا بين كهل وفتى ... أجمع سكران من القوم ترى!
أم جمع يقظان نفي عنه الكرى! ... يَا عجبا من ملحد يَا عجبا!
مخادع فِي الدين يقفو بالعرى
قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: وفصل ذَلِكَ الجيش من عِنْدَ يَزِيد وعليهم مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَالَ لَهُ: إن حدث بك حدث فاستخلف عَلَى الجيش حصين بن نمير السكوني، وَقَالَ لَهُ: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا اظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما فِيهَا من مال أو رقة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وأنظر عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فاكفف عنه،، واستوص بِهِ خيرا،
(5/484)
وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل فِي شَيْءٍ مما دخلوا فِيهِ، وَقَدْ أتاني كتابه وعلي لا يعلم بشيء مما أوصى بِهِ يَزِيد بن مُعَاوِيَة مسلم بن عُقْبَةَ، وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن لما خرج بنو أُمَيَّة نحو الشام أوى إِلَيْهِ ثقل مَرْوَان بن الحكم، وامرأته عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ، وَهِيَ أم أبان بن مَرْوَان.
وَقَدْ حدثت عن محمد بن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالَ: لما أخرج أهل الْمَدِينَة عُثْمَان بن مُحَمَّد مِنَ الْمَدِينَةِ، كلم مَرْوَان بن الحكم ابن عُمَرَ أن يغيب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل، وكلم عَلِيّ بن الْحُسَيْن، وَقَالَ:
يَا أَبَا الْحَسَن، إن لي رحما، وحرمي تكون مع حرمك، فَقَالَ: افعل، فبعث بحرمه إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فخرج بحرمه وحرم مَرْوَان حَتَّى وضعهم بينبع، وَكَانَ مَرْوَان شاكرا لعلي بن الْحُسَيْن، مع صداقة كَانَتْ بينهما قديمة.
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل، قال:
وأقبل مسلم بن عُقْبَةَ بالجيش حَتَّى إذا بلغ أهل الْمَدِينَة إقباله وثبوا عَلَى من معهم من بني أُمَيَّة، فحصروهم فِي دار مَرْوَان، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نكف عنكم حَتَّى نستنزلكم ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد اللَّه وميثاقه لا تبغونا غائلة، وَلا تدلوا لنا عَلَى عورة، وَلا تظاهروا علينا عدوا، فنكف عنكم ونخرجكم عنا، فأعطوهم عهد اللَّه وميثاقه لا نبغيكم غائلة، وَلا ندل لكم عَلَى عورة، فأخرجوهم مِنَ الْمَدِينَةِ، فخرجت بنو أُمَيَّة بأثقالهم حَتَّى لقوا مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى، وخرجت عَائِشَة بنت عُثْمَان بن عَفَّانَ إِلَى الطائف، فتمر بعلي بن حُسَيْن وَهُوَ بمال لَهُ إِلَى جنب الْمَدِينَة قَدِ اعتزلها كراهية أن يشهد شَيْئًا من أمرهم، فَقَالَ لها: احملي ابني عَبْد اللَّهِ معك إِلَى الطائف، فحملته إِلَى الطائف حَتَّى نقضت أمور أهل الْمَدِينَة.
ولما قدمت بنو أُمَيَّة عَلَى مسلم بن عُقْبَةَ بوادي القرى دعا بعمرو بن
(5/485)
عُثْمَانَ بن عَفَّانَ أول الناس فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي خبر مَا وراءك، وأشر علي، قَالَ: لا أستطيع أن أخبرك، أخذ علينا العهود والمواثيق أَلا ندل عَلَى عورة، وَلا نظاهر عدوا، فانتهره ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لولا أنك ابن عُثْمَان لضربت عنقك، وايم اللَّه لا أقيلها قرشيا بعدك فخرج بِمَا لقي من عنده إِلَى أَصْحَابه، فَقَالَ مَرْوَان بن الحكم لابنه عَبْد الْمَلِكِ: ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني، فدخل عَلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ: هات مَا عندك، أَخْبِرْنِي خبر الناس، وكيف ترى؟ فَقَالَ لَهُ: نعم أَرَى أن تسير بمن معك، فتنكب هَذَا الطريق إِلَى الْمَدِينَة، حَتَّى إذا انتهيت إِلَى أدنى نخل بِهَا نزلت، فاستظل الناس فِي ظله، وأكلوا من صقره، حَتَّى إذا كَانَ الليل أذكيت الحرس الليل كله عقبا بين أهل العسكر، حَتَّى إذا أصبحت صليت بِالنَّاسِ الغداة، ثُمَّ مضيت بهم وتركت الْمَدِينَة ذات اليسار، ثُمَّ أدرت بِالْمَدِينَةِ حَتَّى تأتيهم من قبل الحرة مشرقا، ثُمَّ تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وَقَدْ أشرقت عَلَيْهِم وطلعت الشمس طلعت بين أكتاف أَصْحَابك، فلا تؤذيهم، وتقع فِي وجوههم فيؤذيهم حرها، ويصيبهم أذاها، ويرون مَا دمتم مشرقين من ائتلاق بيضكم وحرابكم، وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم مَا لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم مَا داموا مغربين، ثُمَّ قاتلهم واستعن بِاللَّهِ عَلَيْهِم، فإن اللَّه ناصرك، إذ خالفوا الإمام، وخرجوا من الجماعة فَقَالَ لَهُ مسلم: لِلَّهِ أبوك! أي امرئ ولد إذ ولدك! لقد رَأَى بك خلفا ثُمَّ إن مَرْوَان دخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إيه! قَالَ: أليس قَدْ دخل عَلَيْك عَبْد الْمَلِكِ! قَالَ: بلى، وأي رجل عَبْد الْمَلِكِ! قلما كلمت من رجال قريش رجلا بِهِ شبيها، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني، قَالَ: أجل، ثُمَّ ارتحل من مكانه ذَلِكَ، وارتحل الناس مَعَهُ حَتَّى نزل المنزل الَّذِي أمره بِهِ عَبْد الْمَلِكِ، فصنع فِيهِ مَا أمره بِهِ، ثُمَّ مضى فِي الحرة حَتَّى نزلها، فأتاهم من قبل المشرق ثُمَّ دعاهم مسلم بن عُقْبَةَ، فَقَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ
(5/486)
يَزِيد بن مُعَاوِيَة يزعم أنكم الأصل، وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا مِنْهُ، وانصرفت عنكم، وسرت إِلَى هَذَا الملحد الَّذِي بمكة، وإن أبيتم كنا قَدْ أعذرنا إليكم- وَذَلِكَ فِي ذي الحجة من سنة أربع وستين، هكذا وجدته فِي كتابي، وَهُوَ خطأ، لأن يَزِيد هلك فِي شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وقعة الحرة فِي ذي الحجة من سنة ثلاث وستين يوم الأربعاء لليلتين بقيتا مِنْهُ ولما مضت الأيام الثلاثة قَالَ: يَا أهل الْمَدِينَة، قَدْ مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فَقَالُوا: بل نحارب، فَقَالَ لَهُمْ:
لا تفعلوا، بل ادخلوا فِي الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا عَلَى هَذَا الملحد الَّذِي قَدْ جمع إِلَيْهِ المراق والفساق من كل أوب فَقَالُوا لَهُمْ: يَا أعداء اللَّه، وَاللَّهِ لو أردتم أن تجوزوا إِلَيْهِم مَا تركناكم حَتَّى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت اللَّه الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فِيهِ، وتستحلوا حرمته! لا وَاللَّهِ لا نفعل.
وَقَدْ كَانَ أهل الْمَدِينَة اتخذوا خندقا فِي جانب الْمَدِينَة، ونزله جمع مِنْهُمْ عظيم، وَكَانَ عَلَيْهِم عبد الرَّحْمَن بن زهير بن عبد عوف ابن عم عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن مطيع عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة، وَكَانَ معقل بن سنان الأشجعي عَلَى ربع آخر فِي جانب الْمَدِينَة، وَكَانَ أَمِير جماعتهم عَبْد اللَّهِ بن حنظلة الغسيل الأَنْصَارِيّ، فِي أعظم تِلَكَ الأرباع وأكثرها عددا.
قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي، فذكر أن عَبْد اللَّهِ بن مطيع كَانَ عَلَى قريش من أهل الْمَدِينَة، وعبد اللَّه بن حنظلة الغسيل عَلَى الأنصار، ومعقل بن سنان عَلَى الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد الملك بن نوفل: وصمد مسلم ابن عُقْبَةَ بجميع من مَعَهُ، فأقبل من قبل الحرة حَتَّى ضرب فسطاطه عَلَى
(5/487)
طريق الْكُوفَة، ثُمَّ وجه الخيل نحو ابن الغسيل، فحمل ابن الغسيل عَلَى الخيل فِي الرجال الَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى كشف الخيل، حَتَّى انتهوا إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ، فنهض فِي وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فانصرفوا فقاتلوا قتالا شديدا.
ثُمَّ إن الفضل بْن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب جَاءَ الى عبد الله ابن حنظلة الغسيل فقاتل فِي نحو من عشرين فارسا قتالا شديدا حسنا، ثُمَّ قَالَ لعبد اللَّه: مر من معك فارسا فليأتني فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا، فو الله لا أنتهي حَتَّى أبلغ مسلما، فإما أن أقتله، وإما أن أقتل دونه فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن حنظلة لعبد اللَّه بن الضحاك من بني عبد الأشهل من الأنصار: ناد فِي الخيل فلتقف مع الفضل بن العباس، فنادى فيهم فجمعهم إِلَى الفضل، فلما اجتمعت الخيل إِلَيْهِ حمل عَلَى أهل الشام فانكشفوا، فَقَالَ لأَصْحَابه: الا ترونهم كشفا لئاما! احملوا اخرى جعلت فداكم! فو الله لَئِنْ عاينت أميرهم، لأقتلنه أو لأقتلن دونه، ان صبر ساعه معقب سرور أبد، إنه ليس بعد لصبرنا إلا النصر ثُمَّ حمل وحمل أَصْحَابه مَعَهُ، فانفرجت خيل أهل الشام عن مسلم بن عُقْبَةَ فِي نحو من خمسمائة راجل جثاة عَلَى الركب، مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضى كما هُوَ نحو رايته حَتَّى يضرب رأس صاحب الراية، وإن عَلَيْهِ لمغفرا، فقط المغفر، وفلق هامته فخر ميتا، فَقَالَ: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! فظن أنه قتل مسلما، فَقَالَ: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة، فَقَالَ مسلم: أخطأت استك الحفرة! وإنما كَانَ ذَلِكَ غلاما لَهُ، يقال لَهُ: رومي، وَكَانَ شجاعا.
فأخذ مسلم رايته ونادى: يَا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا بِهِ عن دينهم، وأن يعزوا بِهِ نصر إمامهم! قبح اللَّه قتالكم منذ الْيَوْم! مَا أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي! اما والله ما جزاؤكم عليه الا ان تحرموا العطاء، وأن تجمروا فِي أقاصي الثغور شدوا مع هَذِهِ الراية، ترح اللَّه وجوهكم إن لم تعتبوا! فمشى برايته، وشدت تِلَكَ الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبه الا نحو
(5/488)
من عشر أذرع، وقتل مَعَهُ زَيْد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، وقتل معه ابراهيم ابن نعيم العدوي، فِي رجال من أهل الْمَدِينَة كثير.
قَالَ هِشَام، عن عوانة: وَقَدْ بلغنا فِي حديث آخر أن مسلم بن عُقْبَةَ كَانَ مريضا يوم القتال، وأنه أمر بسرير وكرسي فوضع بين الصفين، ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل الشام، قاتلوا عن أميركم أو دعوا ثُمَّ زحفوا نحوهم فأخذوا لا يصمدون لربع من تِلَكَ الأرباع إلا هزموه، وَلا يقاتلون إلا قليلا حَتَّى تولوا.
ثُمَّ إنه أقبل إِلَى عَبْد اللَّهِ بن حنظلة فقاتله أشد القتال، واجتمع من أراد القتال من تِلَكَ الأرباع إِلَى عَبْد اللَّهِ بن حنظلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فحمل الفضل ابن العباس بن ربيعه في جماعه من وجوه النَّاسِ وفرسانهم يريد مسلم بن عُقْبَةَ، ومسلم عَلَى سريره مريض، فَقَالَ: احملوني فضعوني فِي الصف، فوضعوه بعد مَا حملوه أمام فسطاطه فِي الصف، وحمل الفضل بن العباس هُوَ وأَصْحَابه أُولَئِكَ حَتَّى انتهى إِلَى السرير، وَكَانَ الفضل أحمر، فلما رفع السيف ليضربه صاح بأَصْحَابه: إن العبد الأحمر قاتلي، فأين أنتم يَا بني الحرائر! اشجروه بالرماح، فوثبوا إِلَيْهِ فطعنوه حَتَّى سقط.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ثُمَّ إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله ابن حنظلة الغسيل ورجاله بعده- كما حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ منقذ- حَتَّى دنوا مِنْهُ، وركب مسلم بن عُقْبَةَ فرسا لَهُ، فأخذ يسير فِي أهل الشام ويحرضهم ويقول: يَا أهل الشام، إنكم لستم بأفضل العرب فِي أحسابها وَلا أنسابها، وَلا أكثرها عددا، وَلا أوسعها بلدا، ولم يخصصكم اللَّه بِالَّذِي خصكم بِهِ من النصر عَلَى عدوكم، وحسن المنزلة عِنْدَ أئمتكم، إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هَؤُلاءِ القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير اللَّه بهم، فتموا عَلَى أحسن مَا كنتم عَلَيْهِ من الطاعة يتمم اللَّه لكم أحسن مَا ينيلكم من النصر والفلج ثُمَّ جَاءَ حَتَّى انتهى إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ فِيهِ، وأمر الخيل أن تقدم عَلَى ابن الغسيل وأَصْحَابه، فأخذت الخيل إذا أقدمت عَلَى الرجال فثاروا فِي وجوهها بالرماح
(5/489)
والسيوف نفرت وابذعرت وأحجمت، فنادى فِيهِمْ مسلم بن عُقْبَةَ: يَا أهل الشام، مَا جعلهم اللَّه أولى بالأرض مِنْكُمْ، يَا حصين بن نمير، انزل فِي جندك، فنزل فِي أهل حمص، فمشى إِلَيْهِم، فلما رآهم قَدْ أقبلوا يمشون تحت راياتهم نحو ابن الغسيل قام فِي أَصْحَابه فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إن عدوكم قَدْ أصابوا وجه القتال الَّذِي كَانَ ينبغي أن تقاتلوهم بِهِ، وإني قَدْ ظننت أَلا تلبثوا إلا ساعة حَتَّى يفصل اللَّه بينكم وبينهم إما لكم وإما عَلَيْكُمْ أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة، وَاللَّهِ مَا أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان الْمُسْلِمِينَ بأرضى مِنْهُ عنكم، وَلا عَلَى أهل بلد من بلدان العرب بأسخط مِنْهُ عَلَى هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم ان لكل امرئ مِنْكُمْ ميتة هُوَ ميت بِهَا، وَاللَّهِ مَا من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها، فو الله مَا كل مَا أردتموها وجدتموها ثُمَّ مشى برايته غير بعيد، ثُمَّ وقف، وجاء ابن نمير برايته حَتَّى أدناها، وأمر مسلم بن عُقْبَةَ عَبْد اللَّهِ بن عضاه الأَشْعَرِيّ فمشى في خمسمائة مرام حَتَّى دنوا من ابن الغسيل وأَصْحَابه، فأخذوا ينضحونهم بالنبل، فَقَالَ ابن الغسيل: علام تستهدفون لَهُمْ! من أراد التعجل إِلَى الجنة فليلزم هَذِهِ الراية، فقام إِلَيْهِ كل مستميت، فقال: الغدو الى ربكم، فو الله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين، فنهض القوم بعضهم إِلَى بعض فاقتتلوا أشد قتال رئى فِي ذَلِكَ الزمان ساعة من نهار، وأخذ يقدم بنيه أمامه واحدا واحدا حَتَّى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل يضرب بسيفه، ويقول:
بعدا لمن رام الفساد وطغى ... وجانب الحق وآيات الهدى
لا يبعد الرحمن إلا من عصى.
فقتل، وقتل مَعَهُ أخوه لأمه مُحَمَّد بن ثَابِتِ بْنِ قيس بن شماس، استقدم فقاتل حَتَّى قتل، وَقَالَ: مَا أحب أن الديلم قتلوني مكان هَؤُلاءِ القوم، ثُمَّ قاتل حَتَّى قتل وقتل مَعَهُ مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان
(5/490)
ابن الحكم وكأنه برطيل من فضة، فَقَالَ: رحمك اللَّه! فرب سارية قَدْ رأيتك تطيل القيام فِي الصَّلاة إِلَى جنبها.
قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: فبلغنا أن مسلم بن عُقْبَةَ كَانَ يجلس عَلَى كرسي ويحمله الرجال وَهُوَ يقاتل ابن الغسيل يوم الحرة وَهُوَ يقول:
أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباتين ويوم اليعمله
كل الملوك عنده مغربله ... ورمحه للوالدات مثكله
لا يلبث القتيل حَتَّى يجدله ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب لَهُ
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: وخرج مُحَمَّد بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص يَوْمَئِذٍ يقاتل، فلما انهزم الناس مال عَلَيْهِم يضربهم بسيفه حَتَّى غلبته الهزيمة، فذهب فيمن ذهب مِنَ النَّاسِ وأباح مسلم الْمَدِينَة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأفزع ذَلِكَ من كَانَ بِهَا من الصحابة، فخرج أَبُو سَعِيد الخدري حَتَّى دخل فِي كهف فِي الجبل، فبصر بِهِ رجل من أهل الشام، فَجَاءَ حَتَّى اقتحم عَلَيْهِ الغار.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَسَن بن عطية العوفي، عن أبي سَعِيد الخدري، قَالَ: دخل إلي الشامي يمشي بسيفه، قَالَ: فانتضيت سيفي فمشيت إِلَيْهِ لأرعبه لعله ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قَدْ جد شمت سيفي، ثُمَّ قلت لَهُ: «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» ، فَقَالَ لي: من أنت لِلَّهِ أبوك! فقلت: أنا أَبُو سَعِيد الخدري، قَالَ:
صاحب رَسُول الله ص؟ قلت: نعم، فانصرف عني.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: دعا الناس مسلم بن عُقْبَةَ بقباء إِلَى البيعة، وطلب الأمان لرجلين من قريش: ليزيد بن عَبْدِ اللَّهِ بْن زمعة بْن الأسود بْن
(5/491)
المطلب بن أسد بن عبد العزى ومُحَمَّد بن أبي الجهم بن حُذَيْفَة العدوي ولمعقل ابن سنان الأشجعي، فأتي بهما بعد الوقعة بيوم فقال: بايعا، فَقَالَ القرشيان:
نبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا أقيلكم هَذَا ابدا، فقد مهما فضرب أعناقهما، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: سبحان اللَّه! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما! فنخس بالقضيب فِي خاصرته ثُمَّ قَالَ:
وأنت وَاللَّهِ لو قلت بمقالتهما مَا رأيت السماء إلا برقة.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وجاء معقل بن سنان، فجلس مع القوم، فدعا بشراب ليسقى، فَقَالَ لَهُ مسلم: أي الشراب أحب إليك؟
قَالَ: العسل، قَالَ: اسقوه، فشرب حَتَّى ارتوى، فَقَالَ لَهُ: أقضيت ريك من شرابك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا تشرب بعده شرابا أبدا إلا الحميم فِي نار جهنم، أتذكر مقالتك لأمير الْمُؤْمِنِينَ: سرت شهرا، ورجعت شهرا، وأصبحت صفرا، اللَّهُمَّ غَيّر- تعني يَزِيد! فقدمه فضرب عنقه.
قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عُقْبَةَ بعث عَمْرو بن محرز الأشجعي فأتاه بمعقل بن سنان فَقَالَ لَهُ مسلم: مرحبا بأبي مُحَمَّد! أراك عطشان! قَالَ: أجل، قَالَ: شوبوا لَهُ عسلا بالثلج الَّذِي حملتموه معنا- وَكَانَ لَهُ صديقا قبل ذَلِكَ- فشابوه لَهُ، فلما شرب معقل قَالَ لَهُ:
سقاك اللَّه من شراب الجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم: أما وَاللَّهِ لا تشرب بعدها شرابا أبدا حَتَّى تشرب من شراب الحميم، قال: أنشدك الله والرحيم! فَقَالَ لَهُ مسلم: أنت الَّذِي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عِنْدَ يَزِيد، فقلت: سرنا شهرا ورجعنا من عِنْدَ يَزِيد صفرا، نرجع إِلَى الْمَدِينَة فنخلع هَذَا الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين! فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة! إني آليت بيمين لا ألقاك فِي حرب أقدر فِيهِ عَلَى ضرب عنقك إلا فعلت،
(5/492)
ثُمَّ أمر بِهِ فقتل.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانه: واتى يزيد بن وهب بن زمعة، فَقَالَ: بايع، قَالَ:
أبايعك عَلَى سنة عمر، قَالَ: اقتلوه، قَالَ: أنا أبايع، قَالَ: لا وَاللَّهِ لا أقيلك عثرتك، فكلمه مَرْوَان بن الحكم- لصهر كَانَ بينهما- فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثُمَّ قَالَ: بايعوا عَلَى أنكم خول ليزيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ أمر بِهِ فقتل.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة، عن أبي مخنف قَالَ: قَالَ عَبْد الملك بن نوفل ابن مساحق: ثُمَّ إن مَرْوَان أتي بعلي بن الْحُسَيْن، وَقَدْ كَانَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن حين أخرجت بنو أُمَيَّة منع ثقل مَرْوَان وامرأته وآواها، ثُمَّ خرجت إِلَى الطائف، فهي أم أبان ابنة عُثْمَان بن عَفَّانَ، فبعث ابنه عَبْد اللَّهِ معها، فشكر ذَلِكَ لَهُ مَرْوَان- وأقبل عَلِيّ بن الْحُسَيْن يمشي بين مَرْوَان وعبد الملك يلتمس بهما عِنْدَ مسلم الأمان، فَجَاءَ حَتَّى جلس عنده بينهما، فدعا مَرْوَان بشراب ليتحرم بِذَلِكَ من مسلم، فأتي لَهُ بشراب، فشرب مِنْهُ مَرْوَان شَيْئًا يسيرا، ثُمَّ ناوله عَلِيًّا، فلما وقع فِي يده قَالَ له مسلم: لا تشرب من شرابنا، فأرعدت كفه، ولم يأمنه عَلَى نفسه، وأمسك القدح بكفه لا يشربه وَلا يضعه، فَقَالَ: إنك إنما جئت تمشي بين هَؤُلاءِ لتأمن عندي، وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إليهما لقتلتك، ولكن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فذلك نافعك عندي، فإن شئت فاشرب شرابك الَّذِي فِي يدك، وإن شئت دعونا بغيره، فَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي في كفى اريد، قال: اشربها، ثم قال:
الى هاهنا، فأجلسه مَعَهُ.
قَالَ هِشَام: وَقَالَ عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الْحُسَيْن إِلَى مسلم، قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قَالَ: مرحبا وأهلا، ثُمَّ أجلسه مَعَهُ عَلَى السرير والطنفسة، ثُمَّ قَالَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أوصاني بك قبلا، وَهُوَ يقول: إن هَؤُلاءِ الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك، ثم قال
(5/493)
لعلي: لعل أهلك فزعوا! قَالَ: إي وَاللَّهِ، فأمر بدابته فأسرجت، ثُمَّ حمله فرده عَلَيْهَا.
قَالَ هِشَام: وذكر عوانة أن عَمْرو بن عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ فيمن خرج من بني أُمَيَّة، وأنه أتى بِهِ يَوْمَئِذٍ إِلَى مسلم بن عُقْبَةَ فَقَالَ: يَا أهل الشام، تعرفون هَذَا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: هَذَا الخبيث ابن الطيب، هَذَا عَمْرو بن عُثْمَانَ بن عَفَّانَ امير المؤمنين، هيه يَا عَمْرو! إذا ظهر أهل الْمَدِينَة قلت: أنا رجل مِنْكُمْ، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ، فأمر بِهِ فنتفت لحيته، ثُمَّ قَالَ: يَا أهل الشام، إن أم هَذَا كَانَتْ تدخل الجعل فِي فِيهَا ثُمَّ تقول: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حاجيتك، مَا فِي فمي؟ وفي فمها مَا ساءها وناءها، فخلى سبيله، وكانت أمه من دوس.
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: فَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وَحَدَّثَنِي الحارث، قَالَ: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عُمَرَ، قَالا: كَانَتْ وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين وَقَالَ بعضهم: لثلاث ليال بقين مِنْهُ.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا ابن سعد، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن جَعْفَر، عن ابن عوف، قَالَ: حج ابن الزُّبَيْر بِالنَّاسِ سنة ثلاث وستين، وَكَانَ يسمى يَوْمَئِذٍ العائذ، ويرون الأمر شورى قَالَ: فلما كَانَتْ ليلة هلال المحرم ونحن فِي منزلنا إذ قدم علينا سَعِيد مولى المسور بن مخرمة، فخبرنا بِمَا أوقع مسلم بأهل الْمَدِينَة وما نيل مِنْهُمْ، فجاءهم امر عظيم، فرايت القوم شهروا ووجدوا وأعدوا وعرفوا أنه نازل بهم
(5/494)
وَقَدْ ذكر من أمر وقعة الحرة ومقتل ابن الغسيل أمر غير الَّذِي روي عن أبي مخنف، عن الَّذِينَ روى ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: حدثنا أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُحَدِّثُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لك من اهل الدنيا يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ فَلَمَّا هَلَكَ مُعَاوِيَةُ وَفَدَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، وَكَانَ شَرِيفًا فَاضِلا سَيِّدًا عَابِدًا، مَعَهُ ثَمَانِيةُ بَنِينَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى بَنِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلافٍ سِوَى كِسْوَتِهِمْ وَحِمْلانِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ أَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا بَنِيَّ هَؤُلاءِ لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ، قَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ أَجْدَاكَ وَأَعْطَاكَ وَأَكْرَمَكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلَ، وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ إِلا لأَتَقَوَّى بِهِ، وَحَضَّضَ النَّاسَ فَبَايَعُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، فَبَعَثَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى كُلِّ مَاءٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَصَبُّوا فِيهِ زُقًّا مِنْ قَطِرَانٍ، وَعُوِّرَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ حَتَّى وَرَدُوا الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَهَيْئَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الشَّامِ هَابُوهُمْ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، وَمُسْلِمٌ شَدِيدُ الْوَجَعِ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، وَأَقْحَمَ عَلَيْهِمْ بَنُو حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ، وَهُمْ عَلَى الْجُدِّ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَهُزِمَ النَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَحَدِ بَنِيهِ يَغُطُّ نَوْمًا، فَنَبَّهَهُ ابْنُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَرَأَى مَا صَنَعَ النَّاسُ أَمَرَ أَكْبَرَ بَنِيهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى قُتِلَ، فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، فَدَعَا النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، يَحْكُمْ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مَا شَاءَ.
(5/495)
ثُمَّ دخلت
سنة أربع وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) قَالَ أَبُو جَعْفَر: فمن ذَلِكَ مسير أهل الشام إِلَى مكة لحرب عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ ومن كَانَ عَلَى مثل رأيه فِي الامتناع عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة.
ولما فرغ مسلم بن عُقْبَةَ من قتال أهل الْمَدِينَة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا، شخص بمن مَعَهُ من الجند متوجها الى مكة، كالذي ذكر هشام ابن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل، أن مسلما خرج بِالنَّاسِ إِلَى مكة يريد ابن الزُّبَيْر، وخلف عَلَى الْمَدِينَة روح بن زنباع الجذامي.
وأما الْوَاقِدِيّ فإنه قَالَ: خلف عَلَيْهَا عَمْرو بن محرز الأشجعي، قَالَ:
ويقال: خلف عَلَيْهَا روح بن زنباع الجذامي.
ذكر موت مسلم بن عُقْبَةَ ورمي الكعبة وإحراقها
رجع الحديث إِلَى أبي مخنف قَالَ: حَتَّى إذا انتهى إِلَى المشلل- ويقال:
إِلَى قفا المشلل- نزل بِهِ الموت، وَذَلِكَ فِي آخر المحرم من سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فَقَالَ له: يا بن برذعة الحمار، أما وَاللَّهِ لو كَانَ هَذَا الأمر إلي مَا وليتك هَذَا الجند، ولكن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولاك بعدي، وليس لأمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مرد، خذ عني أربعا: أسرع السير، وعجل الوقاع، وعم الأخبار، وَلا تمكن قرشيا من أذنك ثُمَّ إنه مات، فدفن بقفا المشلل.
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: وذكر عوانة أن مسلم بن عُقْبَةَ شخص يريد ابن الزُّبَيْر، حَتَّى إذا بلغ ثنية هرشا نزل بِهِ الموت، فبعث إِلَى رءوس الأجناد، فَقَالَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عهد إلي إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عَلَيْكُمْ حصين بن نمير السكوني، وَاللَّهِ لو كَانَ الأمر إلي مَا فعلت،
(5/496)
ولكن أكره معصية أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الموت، ثُمَّ دعا بِهِ فَقَالَ: انظر يَا برذعة الحمار فاحفظ مَا أوصيك بِهِ، عم الأخبار، وَلا ترع سمعك قريشا أبدا، وَلا تردن أهل الشام، عن عدوهم، وَلا تقيمن إلا ثلاثا حَتَّى تناجز ابن الزُّبَيْر الفاسق، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إني لم أعمل عملا قط بعد شِهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل الْمَدِينَة، وَلا أرجي عندي فِي الآخرة ثُمَّ قَالَ لبني مرة: زراعتي الَّتِي بحوران صدقة عَلَى مرة، وما أغلقت عَلَيْهِ فلانة بابها فهو لها- يعني أم ولده- ثُمَّ مات.
ولما مات خرج حصين بن نمير بِالنَّاسِ، فقدم عَلَى ابن الزُّبَيْر مكة وَقَدْ بايعه أهلها وأهل الحجاز.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَالَ مسلم قبل الوصية: إن ابني يزعم أن أم ولدي هَذِهِ سقتني السم، وَهُوَ كاذب، هَذَا داء يصيبنا فِي بطوننا أهل البيت قَالَ: وقدم عَلَيْهِ- يعني ابن الزُّبَيْر- كل أهل الْمَدِينَة، وَقَدْ قدم عَلَيْهِ نجدة بن عَامِر الحنفي فِي أناس من الخوارج يمنعون البيت، فَقَالَ لأخيه المنذر: مَا لهذا الأمر ولدفع هَؤُلاءِ القوم غيري وغيرك- وأخوه المنذر ممن شهد الحرة، ثُمَّ لحق بِهِ- فجرد إِلَيْهِم أخاه فِي الناس، فقاتلهم ساعة قتالا شديدا.
ثُمَّ إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إِلَى المبارزة- قَالَ: والشامي عَلَى بغلة لَهُ- فخرج إِلَيْهِ المنذر، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا، فجثا عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ عَلَى ركبتيه وَهُوَ يقول: يَا رب أبرها من أصلها وَلا تشدها، وَهُوَ يدعو عَلَى الَّذِي بارز أخاه ثُمَّ ان اهل الشام شدوا عليهم شدة منكرة، وانكشف أَصْحَابه انكشافة، وعثرت بغلته فَقَالَ: تعسا! ثُمَّ نزل وصاح بأَصْحَابه: إلي، فأقبل إِلَيْهِ المسور بن مخرمة بن نوفل بْن أهيب بْن عبد مناف بْن زهرة، ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، فقاتلوا حَتَّى قتلوا جميعا وصابرهم ابن الزُّبَيْر يجالدهم
(5/497)
حَتَّى الليل، ثُمَّ انصرفوا عنه، وهذا فِي الحصار الأول ثُمَّ إِنَّهُمْ أقاموا عَلَيْهِ يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله، حَتَّى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:
خطارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بِهَا أعواد هَذَا المسجد
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو عوانة: جعل عَمْرو بن حوط السدوسي يقول:
كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروه
يعني بأم فروة المنجنيق.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: سار الحصين بن نمير حين دفن مسلم بن عُقْبَةَ بالمشلل لسبع بقين من المحرم، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزُّبَيْر أربعا وستين يَوْمًا حَتَّى جاءهم نعي يَزِيد بن معاويه لهلال ربيع الآخر
. ذكر الخبر عن حرق الكعبه
وفي هَذِهِ السنة حرقت الكعبة.
ذكر السبب فِي إحراقها:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يَزِيد بن مُعَاوِيَة بتسعة وعشرين يَوْمًا، وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا رياح بن مسلم، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانُوا يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بِهَا الريح، فاحترقت ثياب الكعبة، واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول.
قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن زَيْد، قَالَ: حَدَّثَنِي عروة بن
(5/498)
أذينة، قَالَ: قدمت مكة مع أمي يوم احترقت الكعبة قَدْ خلصت إِلَيْهَا النار، ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت الركن قَدِ اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: مَا أصاب الكعبة؟ فأشاروا إِلَى رجل من أَصْحَاب عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، قَالُوا: هَذَا احترقت بسببه، أخذ قبسا فِي رأس رمح لَهُ فطيرت الريح بِهِ، فضربت أستار الكعبة مَا بين الركن اليماني والأسود
. ذكر خبر وفاه يزيد بن معاويه
وفيها هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين وَهُوَ ابن ثمان وثلاثين سنة فِي قول بعضهم.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يَحْيَى، عن هِشَام بن الْوَلِيد المخزومي، أن الزُّهْرِيّ، كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فِيمَا كتب من ذَلِكَ: ومات يَزِيد بن مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر فِي قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، أنه قَالَ: توفي يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم الثلاثاء لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية اشهر الا ثمان ليال، وصلى عَلَى يَزِيد ابنه مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ.
وأما هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي فإنه قَالَ فِي سن يَزِيد خلاف الَّذِي ذكره الزُّهْرِيّ، والذي قَالَ هِشَام فِي ذَلِكَ- فِيمَا حدثنا عنه-: استخلف ابو خالد يزيد ابن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر فِي هلال رجب سنة ستين، وولي سنتين وثمانية أشهر، وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وَهُوَ ابن خمس وثلاثين، وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبى
(5/499)
ذكر عدد ولده فمنهم مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، يكنى أبا لَيْلَى، وَهُوَ الَّذِي يقول فِيهِ الشاعر:
إني أَرَى فتنة قَدْ حان أولها ... والملك بعد أَبِي لَيْلَى لمن غلبا
وخالد بن يَزِيدَ- وَكَانَ يكنى أبا هاشم، وَكَانَ يقال: إنه أصاب عمل الكيمياء- وأبو سُفْيَان، وأمهما أم هاشم بنت أبي هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس، تزوجها بعد يَزِيد مَرْوَان، وَهِيَ الَّتِي يقول لها الشاعر:
انعمي أم خَالِد ... رب ساع لقاعد
وعبد اللَّه بن يَزِيدَ، قيل: إنه من أرمى العرب فِي زمانه، وأمه أم كلثوم بنت عَبْد اللَّهِ بن عَامِر، وَهُوَ الأسوار، وله يقول الشاعر:
زعم الناس ان خير قريش ... كلهم حين يذكر الأسوار
وعبد اللَّه الأصغر، وعمر، وأبو بكر، وعتبة، وحرب، وعبد الرَّحْمَن، والربيع، ومُحَمَّد، لأمهات اولاد شتى
(5/500)
خلافة مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ
وفي هَذِهِ السنة بويع لمعاوية بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ بالخلافة، ولعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ بالحجاز.
ولما هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة مكث الحصين بن نمير وأهل الشام يقاتلون ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه بمكة- فِيمَا ذكر هِشَام عن عوانة- أربعين يَوْمًا، قَدْ حصروهم حصارا شديدا، وضيقوا عَلَيْهِم ثُمَّ بلغ موته ابن الزُّبَيْر وأَصْحَابه، ولم يبلغ الحصين بن نمير وأَصْحَابه، فَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ جِيلٍ، قَالَ: بَيْنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ يُقَاتِلُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، إِذْ جَاءَ مَوْتُ يَزِيدَ، فَصَاحَ بِهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ طَاغِيَتَكُمْ قَدْ هَلَكَ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَفْعَلْ، فَمَنْ كَرِهَ فَلْيَلْحَقْ بِشَامِهِ، فَغَدَوْا عَلَيْهِ يُقَاتِلُونَهُ.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ: ادْنُ مِنِّي أُحَدِّثْكَ، فَدَنَا مِنْهُ فَحَدَّثَهُ، فَجَعَلَ فَرَسُ أَحَدِهِمَا يَجْفَلُ- وَالْجَفْلُ: الرَّوَثُ- فَجَاءَ حَمَامُ الْحَرَمِ يَلْتَقِطُ مِنَ الْجَفْلِ، فَكَفَّ الْحُصَيْنُ فَرَسَهُ عَنْهُنَّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَا لَكَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُ فَرَسِي حَمَامِ الْحَرَمِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزبير: اتتحرج مِنْ هَذَا وَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ الْمُسْلِمِينَ! فَقَالَ لَهُ: لا أُقَاتِلُكَ، فَأْذَنْ لَنَا نَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَنَنْصَرِفْ عَنْكَ، فَفَعَلَ فَانْصَرَفُوا وَأَمَّا عَوَانَةُ بْنُ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ، عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَوْتُ يَزِيدَ- وَأَهْلُ الشَّامِ لا يَعْلَمُونَ بِذَلِكَ، قَدْ حَصَرُوهُ حِصَارًا شَدِيدًا وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ- أَخَذَ يُنَادِيهِمْ هُوَ وَأَهْلُ مَكَّةَ: عَلامَ تُقَاتِلُونَ؟ قَدْ هَلَكَ طَاغِيَتُكُمْ، وَأَخَذُوا لا يُصَدِّقُونَهُ حَتَّى قَدِمَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْمُنَقِّعِ النَّخَعِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي رُءُوسِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَمَرَّ بِالْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، وَكَانَ بَيْنَهُمَا صِهْرٌ، وَكَانَ يَرَاهُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ يَعْرِفُ فَضْلَهُ
(5/501)
وَإِسْلامَهُ وَشَرَفَهُ- فَسَأَلَ عَنِ الْخَبَرِ، فَأَخْبَرَهُ بِهَلاكِ يزيد، فبعث الحصين ابن نُمَيْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: مَوْعِدٌ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ اللَّيْلَةُ الأَبْطَحَ، فَالْتَقَيَا، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: إِنْ يَكُ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ هَلَكَ فَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الأَمْرِ، هَلُمَّ فَلْنُبَايِعْكَ، ثُمَّ اخْرُجْ مَعِي إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّ هَذَا الْجُنْدَ الَّذِينَ مَعِي هُمْ وُجُوهُ اهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ، وَتُؤَمِّنُ النَّاسَ وَتَهْدِرُ هَذِهِ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَالَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرَّةِ، فَكَانَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ: مَا مَنَعَهُ أَنْ يُبَايِعَهُمْ وَيَخْرُجَ إِلَى الشَّامِ إِلا تَطَيُّرٌ، لأَنَّ مَكَّةَ الَّتِي مَنَعَهُ اللَّهُ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَوْ سَارَ مَعَهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ الشَّامَ مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ مِنْهُمُ اثْنَانِ فَزَعَمَ بَعْضُ قُرَيْشٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَهْدِرُ تِلَكَ الدِّمَاءَ! أَمَا وَاللَّهِ لا أَرْضَى أَنْ أَقْتُلَ بِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشَرَةً، وَأَخَذَ الْحُصَيْنُ يُكَلِّمُهُ سِرًّا، وَهُوَ يَجْهَرُ جَهْرًا، وَأَخَذَ يَقُولُ: لا وَاللَّهِ لا أَفْعَلُ، فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ:
قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يَعُدُّكَ بَعْدَ هَذِهِ دَاهِيًا قَطُّ أَوْ أَدِيبًا! قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ لَكَ رَأْيًا أَلا أَرَانِي أُكَلِّمُكَ سِرًّا وَتُكَلِّمُنِي جَهْرًا، وَأَدْعُوكَ إِلَى الْخِلافَةِ، وَتَعِدُنِي الْقَتْلَ وَالْهَلَكَةَ! ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ وَصَاحَ فِي النَّاسِ، فَأَقْبَلَ فِيهِمْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، وَنَدِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الَّذِي صَنَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَمَا أَنْ أَسِيرَ إِلَى الشَّامِ فَلَسْتُ فَاعِلا، وَأَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَكِنْ بَايِعُوا لِي هُنَالِكَ فَإِنِّي مُؤَمِّنُكُمْ وَعَادِلٌ فِيكُمْ.
فَقَالَ لَهُ الْحُصَيْنُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُقْدِمْ بِنَفْسِكَ، وَوَجَدْتُ هُنَالِكَ أُنَاسًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ يَطْلُبُونَهَا يُجِيبُهُمُ النَّاسُ، فَمَا أَنَا صَانِعٌ؟ فَأَقْبَلَ بِأَصْحَابِهِ وَمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهُ قَتٌّ وَشَعِيرٌ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَسَلَّمَ عَلَى الْحُصَيْنِ، فَلَمْ يَكَدْ يلتفت
(5/502)
إِلَيْهِ، وَمَعَ الْحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَسٌ لَهُ عَتِيقٌ، وَقَدْ فَنِيَ قَتُّهُ وَشَعِيرُهُ، فَهُوَ غَرَضٌ، وَهُوَ يَسُبُّ غُلامَهُ وَيَقُولُ: مِنْ أَيْنَ نَجِدُ هُنَا لِدَابَّتِنَا عَلَفًا! فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هَذَا عَلَفٌ عِنْدَنَا، فَاعْلِفْ مِنْهُ دَابَّتَكَ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عِنْدَ ذَلِكَ بِوَجْهِهِ، فَأَمَرَ له بما كان عِنْدِهِ مِنْ عَلَفٍ، وَاجْتَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَذُلُّوا حَتَّى كَانَ لا يَنْفَرِدُ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلا أَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ ثُمَّ نَكَسَ عَنْهَا، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ فَلا يَفْتَرِقُونَ.
وَقَالَتْ لَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ: لا تَبْرَحُوا حَتَّى تَحْمِلُونَا مَعَكُمْ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا، وَمَضَى ذَلِكَ الْجَيْشُ حَتَّى دَخَلَ الشَّامَ، وَقَدْ أَوْصَى يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْعَةِ لابْنِهِ معاويه ابن يَزِيدَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ عَوَانَةُ: اسْتَخْلَفَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى مَاتَ.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: لما استخلف مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ وجمع عمال أَبِيهِ، وبويع لَهُ بدمشق، هلك بِهَا بعد أربعين يَوْمًا من ولايته.
ويكنى أبا عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ أَبُو لَيْلَى، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن رَبِيعَة، وتوفي وَهُوَ ابن ثلاث عشرة سنة وثمانية عشر يَوْمًا.
وفي هَذِهِ السنة بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، عَلَى أن يقوم لَهُمْ بأمرهم حَتَّى يصطلح الناس عَلَى إمام يرتضونه لأنفسهم، ثُمَّ أرسل عُبَيْد اللَّهِ رسولا إِلَى الْكُوفَةِ يدعوهم إِلَى مثل الَّذِي فعل من ذَلِكَ أهل الْبَصْرَة، فأبوا عَلَيْهِ، وحصبوا الوالي الَّذِي كَانَ عَلَيْهِم، ثُمَّ خالفه أهل الْبَصْرَة أَيْضًا، فهاجت بِالْبَصْرَةِ فتنة، ولحق عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بالشام.
(5/503)
ذكر الخبر عما كَانَ من أمر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأمر أهل الْبَصْرَة مَعَهُ بِهَا بعد موت يَزِيد
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سلمة، عن عَلِيّ بن زيد، عن الحسن، قال: كتب الضحاك ابن قيس إِلَى قيس بن الهيثم حين مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة: سلام عَلَيْك، أَمَّا بَعْدُ، فإن يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَدْ مات، وَأَنْتُمْ إخواننا، فلا تسبقونا بشيء حَتَّى نختار لأنفسنا.
حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن حماد، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي عيينة، قَالَ: حَدَّثَنِي شهرك، قَالَ: شهدت عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حين مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة قام خطيبا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل البصره، انسبوني، فو الله لتجدن مهاجر والدي ومولدي فيكم، وداري، وَلَقَدْ وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل وَلَقَدْ أحصى الْيَوْم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا، وَلَقَدْ أحصي الْيَوْم مائة وأربعين ألفا، وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عَلَيْكُمْ إلا وَهُوَ فِي سجنكم هَذَا وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَدْ توفي، وَقَدِ اختلف أهل الشام، وَأَنْتُمُ الْيَوْم أكثر الناس عددا، وأعرضه فناء، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشام عَلَى رجل ترتضونه، دخلتم فِيمَا دخل فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وإن كرهتم ذَلِكَ كنتم عَلَى جديلتكم حَتَّى تعطوا حاجتكم، فما بكم إِلَى أحد من أهل البلدان حاجة، وما يستغني الناس عنكم
(5/504)
فقامت خطباء أهل الْبَصْرَة فَقَالُوا: قَدْ سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا وَاللَّهِ مَا نعلم أحدا أقوى عَلَيْهَا مِنْكَ، فهلم فلنبايعك، فَقَالَ: لا حاجة لي فِي ذَلِكَ، فاختاروا لأنفسكم، فأبوا عَلَيْهِ، وأبى عَلَيْهِم، حَتَّى كرروا ذَلِكَ عَلَيْهِ ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه، ثُمَّ انصرفوا بعد البيعة وهم يقولون: لا يظن ابن مرجانة أنا نستقاد لَهُ فِي الجماعة والفرقة، كذب وَاللَّهِ! ثُمَّ وثبوا عَلَيْهِ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ زهير: قَالَ: حَدَّثَنَا وهب، قال وحدثنا الأسود ابن شيبان، عن خَالِد بن سمير، أن شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحضين ابن المنذر أتوا عُبَيْد اللَّهِ ليلا وَهُوَ فِي دار الإمارة، فبلغ ذَلِكَ رجلا من الحي من بني سدوس، قَالَ: فانطلقت فلزمت دار الإمارة، فلبثوا مَعَهُ حَتَّى مضى عَلَيْهِ الليل، ثُمَّ خرجوا ومعهم بغل موقر مالا، قَالَ: فأتيت حضينا فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: عَلَيْك ببني عمك، فأتيت شقيقا فقلت: مر لي من هَذَا المال بشيء- قَالَ: وعلى المال مولى لَهُ يقال لَهُ: أيوب- فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائة درهم، قلت: أما مائة درهم وَاللَّهِ لا أقبلها، فسكت عني ساعة، وسار هنيهة، فأقبلت عَلَيْهِ فقلت:
مر لي من هَذَا المال بشيء، فَقَالَ: يَا أيوب، أعطه مائتي درهم، قلت:
لا اقبل والله مائتين، ثم امر بثلاثمائة ثم أربعمائة، فلما انتهينا إِلَى الطفاوة قلت:
مر لي بشيء، قَالَ: أرأيت إن لم أفعل مَا أنت صانع؟ قلت: أنطلق وَاللَّهِ حَتَّى إذا توسطت دور الحي وضعت إصبعي فِي أذني، ثُمَّ صرخت بأعلى صوتي: يَا معشر بكر بن وائل، هَذَا شقيق بن ثور وحضين بن المنذر ومالك بن المسمع، قَدِ انطلقوا إِلَى ابن زياد، فاختلفوا فِي دمائكم، قَالَ:
مَا لَهُ فعل اللَّه بِهِ وفعل! ويلك أعطه خمسمائة درهم، قَالَ: فأخذتها ثُمَّ صبحت غاديا عَلَى مالك- قَالَ وهب: فلم أحفظ مَا أمر له به مالك- قال:
(5/505)
ثم رايت حضينا فدخلت عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا صنع ابن عمك؟ فأخبرته وقلت:
أعطني من هَذَا المال، فَقَالَ: إنا قَدْ أخذنا هَذَا المال ونجونا بِهِ، فلن نخشى مِنَ النَّاسِ شَيْئًا، فلم يعطني شَيْئًا.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو عبيدة معمر بن المثنى أن يونس بن حبيب الجرمي حدثه، قَالَ: لما قتل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الحسين بن على ع وبني أَبِيهِ، بعث برءوسهم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فسر بقتلهم أولا، وحسنت بِذَلِكَ منزلة عُبَيْد اللَّهِ عنده، ثُمَّ لم يلبث إلا قليلا حَتَّى ندم عَلَى قتل الْحُسَيْن، فكان يقول: وما كَانَ علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي فِي داري، وحكمته فِيمَا يريد، وإن كَانَ علي فِي ذَلِكَ وكف ووهن في سلطاني، حفظا لرسول الله ص ورعاية لحقه وقرابته! لعن اللَّه ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وَقَدْ كَانَ سأله أن يخلي سبيله ويرجع فلم يفعل، أو يضع يده فِي يدي، أو يلحق بثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يتوفاه اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فلم يفعل، فأبى ذَلِكَ ورده عَلَيْهِ وقتله، فبغضنى بقتله الى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر، بِمَا استعظم الناس من قتلي حسينا، مَا لي ولابن مرجانة لعنه اللَّه وغضب عَلَيْهِ! ثُمَّ إن عبيد الله بعث مولى يقال لَهُ أيوب بن حمران إِلَى الشام ليأتيه بخبر يَزِيد، فركب عُبَيْد اللَّهِ ذات يوم حَتَّى إذا كَانَ فِي رحبة القصابين، إذا هُوَ بأيوب بن حمران قَدْ قدم، فلحقه فأسر إِلَيْهِ موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فرجع عُبَيْد اللَّهِ من مسيره ذَلِكَ فأتى منزله، وأمر عَبْد اللَّهِ بن حصن أحد بني ثعلبة بن يربوع فنادى: الصَّلاة جامعة.
قَالَ أَبُو عبيدة: وأما عمير بن معن الكاتب، فَحَدَّثَنِي قَالَ: الَّذِي بعثه عُبَيْد اللَّهِ، حمران مولاه، فعاد عُبَيْد اللَّهِ عَبْد اللَّهِ بن نافع أخي زياد لأمه، ثُمَّ خرج عُبَيْد اللَّهِ ماشيا من خوخة كَانَتْ فِي دار نافع إِلَى الْمَسْجِدِ، فلما كَانَ فِي صحنه إذا هُوَ بمولاه حمران أدنى ظلمة عِنْدَ المساء- وَكَانَ حمران رسول عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى مُعَاوِيَةَ حياته وإلى يَزِيد- فلما رآه ولم يكن آن
(5/506)
لَهُ أن يقدم- قَالَ: مهيم! قَالَ: خير، قَالَ: وما وراءك؟ قَالَ: أدنو مِنْكَ؟ قَالَ: نعم- وأسر إِلَيْهِ موت يَزِيد واختلاف أمر الناس بِالشَّامِ، وَكَانَ يَزِيد مات يوم الخميس للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين- فأقبل عُبَيْد اللَّهِ من فوره، فأمر مناديا فنادى: الصَّلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد الْمِنْبَر فنعى يَزِيد، وعرض بثلبه لقصد يَزِيد إِيَّاهُ قبل موته حَتَّى يخافه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ الأحنف لعبيد اللَّه: إنه قَدْ كَانَتْ ليزيد فِي أعناقنا بيعة، وَكَانَ يقال: أعرض عن ذي فنن، فأعرض عنه، ثُمَّ قام عُبَيْد اللَّهِ يذكر اختلاف أهل الشام، وَقَالَ: إني قَدْ وليتكم ثُمَّ ذكر نحو حديث عُمَر بن شَبَّةَ، عن زهير بن حرب إِلَى: فبايعوه عن رضا مِنْهُمْ ومشورة.
ثُمَّ قَالَ: فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا فِي الفرقة! قَالَ: فأقام عُبَيْد اللَّهِ أميرا غير كثير حَتَّى جعل سلطانه يضعف، ويأمرنا بالأمر فلا يقضى، ويرى الرأي فيرد عَلَيْهِ، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.
قَالَ أَبُو عبيدة: فسمعت غيلان بن مُحَمَّد يحدث عن عُثْمَان البتي، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جوشن، قَالَ: تبعت جنازة فلما كَانَ فِي سوق الإبل إذا رجل عَلَى فرس شهباء متقنع بسلاح وفي يده لواء، وَهُوَ يقول: أَيُّهَا النَّاسُ، هلموا إلي أدعكم إِلَى مَا لم يدعكم إِلَيْهِ أحد، أدعوكم إِلَى العائذ بالحرم- يعني عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قَالَ: فتجمع إِلَيْهِ نويس، فجعلوا يصفقون عَلَى يديه، ومضينا حَتَّى صلينا عَلَى الجنازة، فلما رجعنا إذا هُوَ قَدِ انضم إِلَيْهِ أكثر من الأولين، ثُمَّ أخذ بين دار قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلمي ودار الحارثيين قبل بني تميم فِي الطريق الَّذِي يأخذ عَلَيْهِم، فَقَالَ: أَلا من أرادني فأنا سلمة بن ذؤيب- وَهُوَ سلمة بن ذؤيب بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ محكم بن زَيْد بن رياح بن يربوع بن حنظلة- قَالَ: فلقيني عبد الرَّحْمَن بن بكر عِنْدَ الرحبة،
(5/507)
فأخبرته بخبر سلمة بعد رجوعي، فأتى عبد الرَّحْمَن عُبَيْد اللَّهِ فحدثه بالحديث عني، فبعث إلي، فأتيته، فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي خبر بِهِ عنك أَبُو بحر؟
قَالَ: فاقتصصت عَلَيْهِ القصة حَتَّى أتيت عَلَى آخرها، فأمر فنودي عَلَى المكان:
الصَّلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أمره وأمرهم، وما قَدْ كَانَ دعاهم إِلَى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم مَا قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي، ثُمَّ هَذَا سلمة بن ذؤيب يدعو إِلَى الخلاف عَلَيْكُمْ، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف فقال الأحنف صخر بن قيس ابن مُعَاوِيَة بن حصين بن عبادة بن النزال بن مُرَّةَ بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْدِ بْنِ زَيْد مناة بن تميم، والناس جميعا: نحن نأتيك بسلمة، فأتوا سلمة، فإذا جمعه قَدْ كثف، وإذا الفتق قَدِ اتسع عَلَى الراتق، وامتنع عَلَيْهِم، فلما رأوا ذَلِكَ قعدوا عن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فلم يأتوه.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي غير واحد، عن سبرة بن الجارود الْهُذَلِيّ، عَنْ أَبِيهِ الجارود، قَالَ: وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ فِي خطبته: يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لقد لبسنا الخز واليمنة واللين من الثياب حَتَّى لقد أجمنا ذَلِكَ وأجمته جلودنا، فما بنا إِلَى أن نعقبها الحديد! يَا أهل الْبَصْرَة، وَاللَّهِ لو اجتمعتم عَلَى ذنب عير لتكسروه ما كسرتموه قال الجارود: فو الله مَا رمي بجماح حَتَّى هرب، فتوارى عِنْدَ مسعود فلما قتل مسعود لحق بِالشَّامِ.
قَالَ يونس: وَكَانَ فِي بيت مال عُبَيْد اللَّهِ يوم خطب الناس قبل خروج سلمة ثمانية آلاف ألف أو أقل- وَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: تسعة عشر ألف
(5/508)
الف- فقال للناس: ان هذا فيئكم، فخذوا أعطياتكم وأرزاق ذراريكم مِنْهُ، وأمر الكتبة بتحصيل الناس وتخريج الأسماء، واستعجل الكتاب فِي ذَلِكَ حَتَّى وكل بهم من يحبسهم بالليل فِي الديوان، وأسرجوا بالشمع.
قَالَ: فلما صنعوا مَا صنعوا وقعدوا عنه، وَكَانَ من خلاف سلمة عَلَيْهِ مَا كَانَ، كف عن ذَلِكَ، ونقلها حين هرب، فهي إِلَى الْيَوْم تردد فِي آل زياد، فيكون فِيهِمُ العرس أو المأتم فلا يرى فِي قريش مثلهم، وَلا فِي قريش أحسن مِنْهُمْ فِي الغضارة والكسوة فدعا عُبَيْد اللَّهِ رؤساء خاصة السلطان، فأرادهم أن يقاتلوا مَعَهُ، فَقَالُوا: إن أمرنا قوادنا قاتلنا معك، فَقَالَ إخوة عُبَيْد اللَّهِ لعبيد اللَّه: وَاللَّهِ مَا من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت فئت إِلَيْهِ وإن استمددته أمدك، وَقَدْ علمت أن الحرب دول، فلا ندري لعلها تدول عَلَيْك، وَقَدِ اتخذنا بين أظهر هَؤُلاءِ القوم أموالا، فإن ظفروا أهلكونا وأهلكوها، فلم تبق لك باقية وَقَالَ لَهُ أخوه عَبْد اللَّهِ لأبيه وأمه مرجانة: وَاللَّهِ لَئِنْ قاتلت القوم لأعتمدن عَلَى ظبة السيف حَتَّى يخرج من صلبي فلما رَأَى ذَلِكَ عُبَيْد اللَّهِ أرسل إِلَى حارث بن قيس بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن مالك بن فهم، فَقَالَ لَهُ: يَا حار، إن أبي كَانَ أوصاني إن احتجت إِلَى الهرب يَوْمًا أن اختاركم، وإن نفسي تأبى غيركم، فَقَالَ الْحَارِث: قَدْ أبلوك فِي أبيك ما قد علمت، وابلوه فلم يجدوا عنده وَلا عندك مكافأة، وما لك مرد إذا اخترتنا، وما أدري كيف أتاني لك إن أخرجتك نهارا! إني أخاف أَلا أصل بك إِلَى قومي حَتَّى تقتل وأقتل، ولكني أقيم معك حَتَّى إذا وارى دمس دمسا وهدأت القدم، ردفت خلفي لئلا تعرف، ثُمَّ أخذتك عَلَى أخوالي بني ناجية،
(5/509)
قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: نعم مَا رأيت، فأقام حتى إذا قيل: أخوك أم الذئب، حمله خلفه، وَقَدْ نقل تِلَكَ الأموال فأحرزها، ثُمَّ انطلق بِهِ يمر بِهِ عَلَى الناس، وكانوا يتحارسون مخافة الحرورية فيسأل عُبَيْد اللَّهِ أين نحن؟ فيخبره، فلما كَانُوا فِي بني سليم قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: أين نحن؟ قَالَ: فِي بني سليم، قَالَ:
سلمنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما أتى بني ناجيه قال: اين نحن؟ قال: في بني ناجية، قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فقال بنو ناجية: من أنت؟ قَالَ: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: ابن أختكم، وعرف رجل مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ: ابن مرجانة! فأرسل سهما فوقع فِي عمامته، ومضى بِهِ الْحَارِث حَتَّى ينزله دار نفسه فِي الجهاضم، ثُمَّ مضى إِلَى مسعود بن عَمْرو بن عدي بن محارب بن صنيم بن مليح بن شرطان بن معن بن مالك بن فهم، فَقَالَتِ الأزد ومُحَمَّد بن أبي عيينة، فلما رآه مسعود قَالَ: يَا حار، قَدْ كَانَ يتعوذ من سوء طوارق الليل، فنعوذ بِاللَّهِ من شر مَا طرقتنا بِهِ، قَالَ الْحَارِث: لم أطرقك إلا بخير، وَقَدْ علمت أن قومك قَدْ أنجوا زيادا فوفوا لَهُ، فصارت لَهُمْ مكرمة فِي العرب يفتخرون بِهَا عَلَيْهِم، وَقَدْ بايعتم عُبَيْد اللَّهِ بيعة الرضا، رضا عن مشورة، وبيعة أخرى قَدْ كَانَتْ فِي أعناقكم قبل البيعة- يعني بيعة الجماعة- فَقَالَ لَهُ مسعود:
يَا حار، أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا فِي عُبَيْد اللَّهِ، وَقَدْ أبلينا فِي أَبِيهِ مَا أبلينا، ثُمَّ لم نكافأ عَلَيْهِ، ولم نشكر! مَا كنت أحسب أن هَذَا من رأيك، قَالَ الْحَارِث: إنه لا يعاديك أحد عَلَى الوفاء ببيعتك حَتَّى تبلغه مأمنه.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عمر فَحَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد الجهضمي، عن الْحَارِث بن قيس، قَالَ: عرض نفسه- يعني عُبَيْد اللَّهِ بن زياد- علي، فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إني لأعرف سوء رأي كَانَ فِي قومك، قال: فوقفت لَهُ، فأردفته عَلَى بغلتي- وَذَلِكَ ليلا- فأخذت عَلَى بني سليم، فَقَالَ: من هَؤُلاءِ؟ قلت: بنو سليم، قَالَ: سلمنا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مررنا ببني ناجية وهم جلوس ومعهم السلاح- وَكَانَ الناس
(5/510)
يتحارسون إذ ذاك فِي مجالسهم- فَقَالُوا: من هَذَا؟ قلت: الْحَارِث بن قيس، قَالُوا: امض راشدا، فلما مضينا قَالَ رجل مِنْهُمْ: هَذَا وَاللَّهِ ابن مرجانة خلفه، فرماه بسهم، فوضعه فِي كور عمامته، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد، من هَؤُلاءِ؟ قَالَ: الَّذِينَ كنت تزعم أَنَّهُمْ من قريش، هَؤُلاءِ بنو ناجية، قَالَ: نجونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا حارث، إنك قَدْ أحسنت وأجملت، فهل أنت صانع ما أشير عَلَيْك؟ قَدْ علمت منزلة مسعود بن عَمْرو فِي قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه لَهُ، فهل لك أن تذهب بي إِلَيْهِ فأكون فِي داره، فهي وسط الأزد، فإنك إن لم تفعل صدع عَلَيْك أمر قومك، قلت: نعم، فانطلقت بِهِ، فما شعر مسعود بشيء حَتَّى دخلنا عَلَيْهِ وَهُوَ جالس ليلتئذ يوقد بقضيب عَلَى لبنة، وَهُوَ يعالج خفيه قَدْ خلع أحدهما وبقي الآخر، فلما نظر فِي وجوهنا عرفنا وَقَالَ: إنه كَانَ يتعوذ من طوارق السوء، فقلت لَهُ: أفتخرجه بعد ما دخل عَلَيْك بيتك! قَالَ: فأمره فدخل بيت عبد الغافر بن مسعود- وامرأة عبد الغافر يَوْمَئِذٍ خيرة بنت خفاف بن عَمْرو- قَالَ: ثُمَّ ركب مسعود من ليلته وَمَعَهُ الْحَارِث وجماعة من قومه، فطافوا فِي الأزد ومجالسهم، فَقَالُوا: إن ابن زياد قَدْ فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا بِهِ، فأصبحوا فِي السلاح، وفقد الناس ابن زياد فَقَالُوا: أين توجه؟ فَقَالُوا: مَا هُوَ إلا فِي الأزد.
قَالَ وهب: فحدثنا أَبُو بَكْر بن الفضل، عن قبيصة بن مروان انهم جعلوا يقولون: أين ترونه توجه؟ فَقَالَتْ عجوز من بني عقيل: أين ترونه توجه! اندحس وَاللَّهِ فِي أجمة أَبِيهِ.
وكانت وفاة يَزِيد حين جاءت ابن زياد وفي بيوت مال الْبَصْرَة ستة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد طائفة منها فِي بني أَبِيهِ، وحمل الباقي مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ دعا البخارية إِلَى القتال مَعَهُ، ودعا بني زياد إِلَى ذَلِكَ فأبوا عَلَيْهِ.
حدثني عمر، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عن عَبْد اللَّهِ بن جرير المازني، قَالَ: بعث إلي شقيق بن ثور فَقَالَ لي: إنه قَدْ بلغني أن ابن منجوف هَذَا وابن مسمع يدلجان بالليل إِلَى دار
(5/511)
مسعود ليردا ابن زياد إِلَى الدار ليصلوا بين هذين الغارين، فيهريقوا دماءكم، ويعزوا أنفسهم، وَلَقَدْ هممت أن أبعث إِلَى ابن منجوف فأشده وثاقا، وأخرجه عنى، فاذهب الى مسعود فاقرا ع مني، وَقل لَهُ: إن ابن منجوف وابن مسمع يفعلان كذا وكذا، فأخرج هَذَيْنِ الرجلين عنك قَالَ:
وَكَانَ مَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد اللَّه ابنا زياد قَالَ: فدخلت عَلَى مسعود وابنا زياد عنده: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فقلت: السلام عَلَيْك أبا قيس، قَالَ: وعليك السلام، قلت: بعثني إليك شقيق بن ثور يقرأ عَلَيْك السلام ويقول لك: إنه بلغني، فرد الكلام بعينه إلي فأخرجهما عنك، قال مسعود: والله فعلت ذاك، فقال عبيد اللَّهِ: كيف أبا ثور- ونسي كنيته، إنما كان يكنى أبا الفضل- فَقَالَ أخوه عَبْد اللَّهِ: إنا وَاللَّهِ لا نخرج عنكم، قَدْ أجرتمونا، وعقدتم لنا ذمتكم، فلا نخرج حَتَّى نقتل بين أظهركم، فيكون عارا عَلَيْكُمْ إِلَى يوم الْقِيَامَة.
قَالَ وهب: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بن الخريت، عن أبي لبيد، أن أهل الْبَصْرَة اجتمعوا فقلدوا أمرهم النُّعْمَان بن صهبان الراسبي ورجلا من مضر ليختارا لَهُمْ رجلا فيولوه عَلَيْهِم، وَقَالُوا: من رضيتما لنا فقد رضيناه وَقَالَ غير أبي لبيد: الرجل المضري قيس بن الهيثم السلمي قَالَ أَبُو لبيد: ورأي المضري فِي بني أُمَيَّة، ورأي النُّعْمَان فِي بني هاشم، فَقَالَ النُّعْمَان: مَا أَرَى أحدا أحق بهذا الأمر من فلان- لرجل من بني أُمَيَّة- قَالَ: وَذَلِكَ رأيك؟
قَالَ: نعم، قَالَ: قَدْ قلدتك أمري، ورضيت من رضيت ثُمَّ خرجا إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ المضري: قَدْ رضيت من رضي النُّعْمَان، فمن سمى لكم فأنا بِهِ راض، فَقَالُوا للنعمان: مَا تقول! فَقَالَ: مَا أَرَى أحدا غير عبد الله ابن الْحَارِث- وَهُوَ ببة- فَقَالَ المضري: مَا هَذَا الَّذِي سميت لي؟ قَالَ:
بلى، لعمري إنه لهو، فرضي الناس بعبد اللَّه وبايعوه.
قَالَ أَصْحَابنا: دعت مضر إِلَى العباس بن الأَسْوَدِ بْنِ عوف الزُّهْرِيّ، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، ودعت اليمن إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، فتراضى الناس إن حكموا قيس بن الهيثم والنعمان بن صهبان الراسبي لينظرا فِي أمر الرجلين، فاتفق
(5/512)
رأيهما على أن يوليا المضري الهاشمي إِلَى أن يجتمع أمر الناس عَلَى إمام، فقيل فِي ذَلِكَ:
نزعنا وولينا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
فلما أمروا ببة عَلَى الْبَصْرَة ولى شرطته هميان بن عدي السدوسي.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما أَبُو عبيدة فإنه- فِيمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن علي، عن أبي سعدان، عنه- قص من خبر مسعود وعبيد اللَّه بن زياد وأخيه غير القصة الَّتِي قصها وهب بن جرير، عمن روى عَنْهُمْ خبرهم، قال: حدثنى مسلمه ابن محارب بن سلم بن زياد وغيره من آل زياد، عمن أدرك ذَلِكَ مِنْهُمْ ومن مواليهم والقوم أعلم بحديثهم، أن الْحَارِث بن قيس لم يكلم مسعودا، ولكنه آمن عُبَيْد اللَّهِ، فحمل مَعَهُ مائة ألف درهم، ثُمَّ أتى بِهَا إِلَى أم بسطام امرأة مسعود، وَهِيَ بنت عمه، وَمَعَهُ عُبَيْد اللَّهِ وعبد اللَّه ابنا زياد، فاستأذن عَلَيْهَا، فأذنت لَهُ، فَقَالَ لها الْحَارِث: قَدْ أتيتك بأمر تسودين بِهِ نساءك وتتمين بِهِ شرف قومك، وتعجلين غنى ودنيا لك خاصة، هَذِهِ مائة ألف درهم فاقبضيها، فهي لك، وضمي عُبَيْد اللَّهِ قالت، إني أخاف أَلا يرضى مسعود بِذَلِكَ وَلا يقبله، فَقَالَ الْحَارِث: ألبسيه ثوبا من أثوابي، وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود، فقبضت المال، وفعلت، فلما جَاءَ مسعود أخبرته، فأخذ برأسها، فخرج عُبَيْد اللَّهِ والحارث من حجلتها عَلَيْهِ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: قَدْ أجارتني ابنة عمك عَلَيْك، وهذا ثوبك علي، وطعامك فِي بطني، وَقَدِ التف علي بيتك، وشهد لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَارِث، وتلطفا لَهُ حَتَّى رضي.
قَالَ أَبُو عبيدة: وأعطى عُبَيْد اللَّهِ الْحَارِث نحوا من خمسين ألفا، فلم يزل عُبَيْد اللَّهِ فِي بيت مسعود حَتَّى قتل مسعود، قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي يَزِيد بن سمير الجرمي، عن سوار بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيد الجرمي، قَالَ: فلما هرب عُبَيْد اللَّهِ غبر أهل الْبَصْرَة بغير أَمِير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عَلَيْهِم، ثُمَّ تراضوا برجلين يختاران لَهُمْ خيرة، فيرضون بِهَا إذا اجتمعا عَلَيْهَا، فتراضوا بقيس بن الهيثم السلمي، وبنعمان بن سفيان الراسبى- راسب بن جرم
(5/513)
ابن ربان بن حلوان بن عِمْرَان بن الحاف بن قضاعة- أن يختارا من يرضيان لَهُمْ، فذكرا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد المطلب- وأمه هند بنت أبي سُفْيَان بن حرب بن أُمَيَّة- وكان يلقب ببه، وهو جد سليمان ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث، وذكرا عَبْد اللَّهِ بن الأَسْوَدِ الزُّهْرِيّ فلما أطبقا عليهما اتعدا المربد، وواعدا الناس أن تجتمع آراؤهم عَلَى أحد هَذَيْنِ.
قَالَ: فحضر الناس، وحضرت معهم قارعه المربد، اى اعلاه، فجاء قيس ابن الهيثم، ثُمَّ جَاءَ النُّعْمَان بعد، فتجاول قيس والنعمان، فأرى النُّعْمَان قيسا أن هواه فِي ابن الأسود، ثُمَّ قَالَ: إنا لا نستطيع أن نتكلم معا، وأراده أن يجعل الكلام إِلَيْهِ، ففعل قيس وَقَدِ اعتقد أحدهما عَلَى الآخر، فأخذ النُّعْمَان عَلَى الناس عهدا ليرضون بِمَا يختار قَالَ: ثُمَّ أتى النُّعْمَان عَبْد الله ابن الأَسْوَدِ فأخذ بيده، وجعل يشترط عَلَيْهِ شرائط حَتَّى ظن الناس أنه مبايعه، ثُمَّ تركه، وأخذ بيد عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث، فاشترط عَلَيْهِ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ حمد اللَّه تعالى واثنى عليه، وذكر النبي ص وحق أهل بيته وقرابته، ثُمَّ قَالَ: يا أيها الناس، مَا تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم ص، وأمه هند بنت أبي سُفْيَان! فإن كَانَ فِيهِمْ فهو ابن أختكم، ثُمَّ صفق عَلَى يده وَقَالَ: أَلا إني قَدْ رضيت لكم بِهِ، فنادوا: قَدْ رضينا، فأقبلوا بعبد اللَّه بن الْحَارِث إِلَى دار الإمارة حَتَّى نزلها، وَذَلِكَ فِي أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شرطته هيمان بن عدي السدوسي، ونادى فِي الناس: أن احضروا البيعة، فحضروا فبايعوه، فَقَالَ الفرزدق حين بايعه:
وبايعت أقواما وفيت بعهدهم ... وبَبَّة قَدْ بايعته غير نادم
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن عَمْرو بن عِيسَى، قَالَ: كَانَ منزل مالك بن مسمع الجحدري فِي الباطنة عِنْدَ باب عَبْد اللَّهِ الإصبهاني فِي خط بنى جحدر، الَّذِي عِنْدَ مسجد الجامع، فكان مالك يحضر المسجد، فبينا هُوَ قاعد فِيهِ- وَذَلِكَ بعد يسير من أمر ببة- وافى الحلقة
(5/514)
رجل من ولد عَبْد اللَّهِ عَامِر بن كريز القرشي يريد ببة، وَمَعَهُ رسالة من عبد الله ابن خازم، وبيعته بهراة، فتنازعوا، فأغلظ القرشي لمالك، فلطم رجل من بكر بن وائل القرشي، فتهايج من ثُمَّ من مضر وربيعة، وكثرتهم رَبِيعَة الَّذِينَ فِي الحلقة، فنادى رجل: يال تميم! فسمعت الدعوة عصبه من ضبة ابن أد- كَانُوا عِنْدَ القاضي- فأخذوا رماح حرس من المسجد وترستهم، ثُمَّ شدوا عَلَى الربعيين فهزموهم، وبلغ ذَلِكَ شقيق بن ثور السدوسي- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ رئيس بكر بن وائل- فأقبل إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: لا تجدن مضريا إلا قتلتموه، فبلغ ذَلِكَ مالك بن مسمع، فأقبل متفضلا يسكن الناس، فكف بعضهم عن بعض، فمكث الناس شهرا أو أقل، وَكَانَ رجل من بني يشكر يجالس رجلا من بني ضبة فِي المسجد، فتذاكرا لطمة البكري القرشي، ففخر اليشكري قال: ثم قال: ذهبت ظلفا فأحفظ الضبي بِذَلِكَ، فوجأ عنقه، فوقذه الناس فِي الجمعة، فحمل إِلَى أهله ميتا- أعني اليشكري- فثارت بكر إِلَى رأسهم أشيم بن شقيق، فَقَالُوا: سر بنا، فَقَالَ: بل أبعث إِلَيْهِم رسولا، فإن سيبوا لنا حقنا وإلا سرنا إِلَيْهِم، فأبت ذَلِكَ بكر، فأتوا مالك بن مسمع- وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ مملكا عليهم قبل اشيم، فغلب اشيم على الرياسة حين شخص أشيم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فكتب لَهُ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد أن ردوا الرياسة إِلَى أشيم، فأبت اللهازم، وهم بنو قيس بن ثعلبة وحلفاؤهم عنزة وشيع اللات وحلفاؤها عجل حتى توافوهم وآل ذهل بن شيبان وحلفاؤها يشكر، وذهل بن ثعلبة وحلفاؤها ضبيعة بن رَبِيعَة بن نزار، أربع قبائل وأربع قبائل، وَكَانَ هَذَا الحلف فِي أهل الوبر فِي الْجَاهِلِيَّة، فكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت فِي الْجَاهِلِيَّة فِي هَذَا الحلف، لأنهم أهل مدر، فدخلوا فِي الإِسْلام مع أخيهم عجل، فصاروا لهزمة، ثُمَّ تراضوا بحكم عِمْرَان بن عصام العنزي أحد بني هميم، وردها إِلَى أشيم، فلما كَانَتْ هَذِهِ الْفِتْنَة استخفت بكر مالك بن مسمع، فخف وجمع وأعد،
(5/515)
فطلب إِلَى الأزد أن يجددوا الحلف الَّذِي كَانَ بينهم قبل ذَلِكَ فِي الجماعة عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فَقَالَ حَارِثَة بن بدر فِي ذَلِكَ:
نزعنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
وما بات بكريّ من الدهر ليلة ... فيصبح إلا وَهْوَ للذل عارف
قَالَ: فبلغ عُبَيْد اللَّهِ الخبر- وَهُوَ فِي رحل مسعود- من تباعد مَا بين بكر وتميم، فَقَالَ لمسعود: الق مالكا فجدد الحلف الأول، فلقيه، فترادا ذَلِكَ، وتأبى عليهما نفر من هَؤُلاءِ وأولئك، فبعث عُبَيْد اللَّهِ أخاه عَبْد اللَّهِ مع مسعود، فأعطاه جزيلا من المال، حَتَّى أنفق فِي ذَلِكَ أكثر من مائتي ألف درهم عَلَى أن يبايعوهما، وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ لأخيه: استوثق من القوم لأهل اليمن، فجددوا الحلف وكتبوا بينهم كتابا سوى الكتابين اللذين كانا كتبا بينهما فِي الجماعة، فوضعوا كتابا عِنْدَ مسعود بن عَمْرو.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي بعض ولد مسعود، أن أول تسمية من فِيهِ، الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، ووضعوا كتابا عِنْدَ الصلت بن حريث أول تسميته ابن رجاء العوذي، من عوذ بن سود، وَقَدْ كَانَ بينهم قبل هَذَا حلف.
قَالَ أَبُو عبيدة: وزعم مُحَمَّد بن حفص ويونس بن حبيب وهبيرة بن حدير وزهير بن هنيد، أن مضر كَانَتْ تكثر رَبِيعَة بِالْبَصْرَةِ، وكانت جماعة الأزد آخر من نزل بِالْبَصْرَةِ، كَانُوا حَيْثُ مصرت الْبَصْرَة، فحول عُمَر بن الْخَطَّابِ رحمه اللَّه من تنوخ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْبَصْرَة، وأقامت جماعة الأزد لم يتحولوا، ثُمَّ لحقوا بِالْبَصْرَةِ بعد ذَلِكَ فِي آخر خلافة مُعَاوِيَة، وأول خلافة يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلما قدموا قالت بنو تميم للأحنف: بادر إِلَى هَؤُلاءِ قبل أن تسبقنا إِلَيْهِم رَبِيعَة، وَقَالَ الأحنف: إن أتوكم فاقبلوهم، وإلا لا تأتوهم فإنكم إن أتيتموهم صرتم لَهُمْ أتباعا فأتاهم مالك بن مسمع ورئيس الأزد يَوْمَئِذٍ مسعود بن عَمْرو المعني، فَقَالَ مالك: جددوا حلفنا وحلف كندة فِي الْجَاهِلِيَّة، وحلف بني ذهل بن ثعلبة فِي طيئ بن أدد من ثعل،
(5/516)
فقال الأحنف: اما إذ أتوهم فلن يزالوا لَهُمْ أتباعا أذنابا.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي هبيرة بن حدير، عن إِسْحَاق بن سويد، قَالَ:
فلما أن جرت بكر إِلَى نصر الأزد عَلَى مضر، وجددوا الحلف الأول، وأرادوا أن يسيروا، قالت الأزد: لا نسير معكم إلا أن يكون الرئيس منا، فرأسوا مسعودا عَلَيْهِم.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: قَالَ مسعود لعبيد اللَّه:
سر معنا حَتَّى نعيدك فِي الدار، فَقَالَ: مَا أقدر عَلَى ذَلِكَ، امض أنت، وأمر برواحله فشدوا عَلَيْهَا أدواتها وسوادها، وتزمل فِي أهبة السفر، وألقوا لَهُ كرسيا عَلَى باب مسعود، فقعد عَلَيْهِ، وسار مسعود، وبعث عُبَيْد اللَّهِ غلمانا لَهُ عَلَى الخيل مع مسعود، وَقَالَ لَهُمْ: إني لا أدري مَا يحدث فأقول: إذا كَانَ كذا، فليأتني بعضكم بالخبر، ولكن لا يحدثن خير وَلا شر إلا أتاني بعضكم بِهِ، فجعل مسعود لا يأتي عَلَى سكة، وَلا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أُولَئِكَ الغلمان بخبر ذَلِكَ، وقدم مسعود رَبِيعَة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا جميعا سكة المربد، فَجَاءَ مسعود حَتَّى دخل المسجد، فصعد الْمِنْبَر، وعبد اللَّه بن الْحَارِث فِي دار الإمارة، فقيل لَهُ: إن مسعودا وأهل اليمن وربيعة قَدْ ساروا، وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بنى تميم عليهم! فقال: أبعدهم اللَّه! لا وَاللَّهِ لا أفسدت نفسي فِي إصلاحهم، وجعل رجل من أَصْحَاب مسعود يقول:
لأنكحن ببه ... جارية فِي قبه
تمشط رأس لعبه.
فهذا قول الأزد وربيعة، فأما مضر فيقولون: إن أمه هند بنت أبي سُفْيَان كَانَتْ ترقصه وتقول هَذَا، فلما لم يحل أحد بين مسعود وبين صعود الْمِنْبَر، خرج مالك بن مسمع فِي كتيبته حَتَّى علا الجبان من سكة المربد، ثُمَّ جعل يمر بعداد دور بني تميم حَتَّى دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فجعل يحرق دورهم للشحناء الَّتِي فِي صدورهم، لقتل الضبي اليشكري، ولاستعراض ابن خازم رَبِيعَة بهراة، قَالَ: فبينا هُوَ فِي ذَلِكَ إذ أتوه فقالوا: قتلوا
(5/517)
مسعودا، وَقَالُوا: سارت بنو تميم إِلَى مسعود، فاقبل حتى إذا كَانَ عِنْدَ مسجد بني قيس فِي سكة المربد، وبلغه قتل مسعود، وقف.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، قَالَ: حَدَّثَنَا الضحاك- أو الوضاح بن خيثمة أحد بني عَبْد اللَّهِ بن دارم- قَالَ: حَدَّثَنِي مالك بن دينار، قَالَ: ذهبت فِي الشباب الَّذِينَ ذهبوا إِلَى الأحنف ينظرون، قَالَ: فأتيته وأتته بنو تميم، فَقَالُوا: إن مسعودا قَدْ دخل الدار وأنت سيدنا، فَقَالَ:
لست بسيدكم، إنما سيدكم الشَّيْطَان.
وأما هبيرة بن حدير، فَحَدَّثَنِي عن إسحاق بن سويد العدوى، قال: اتيت منزل الأحنف فِي النظارة، فأتوا الأحنف فَقَالُوا: يا أبا بحر، وان رَبِيعَة والأزد قَدْ دخلوا الرحبة، فَقَالَ: لستم بأحق بالمسجد مِنْهُمْ، ثُمَّ أتوه فَقَالُوا: قَدْ دخلوا الدار، فقال: لستم بأحق بالدار مِنْهُمْ، فتسرع سلمة بن ذؤيب الرياحي، فَقَالَ: إلي يَا معشر الفتيان، فإنما هَذَا جبس لا خير لكم عنده، فبدرت ذؤبان بني تميم فانتدب معه خمسمائة، وهم مع ماه أفريذون، فَقَالَ لَهُمْ سلمة: أين تريدون؟ قَالُوا: إياكم أردنا، قَالَ: فتقدموا.
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي زهير بن هنيد، عن ابى نعامة، عن ناشب ابن الحسحاس وحميد بن هلال، قَالا: أتينا منزل الأحنف بحضرة المسجد، قَالا: فكنا فيمن ينظر، فأتته امرأة بمجمر فَقَالَتْ: مَا لك وللرئاسة! تجمر فإنما أنت امرأة، فَقَالَ: است المرأة أحق بالمجمر، فأتوه فَقَالُوا:
إن علية بنت ناجية الرياحي- وَهِيَ أخت مطر، وَقَالَ آخرون: عزة بنت الحر الرياحية- قَدْ سلبت خلاخيلها من ساقيها، وَكَانَ منزلها شارعا فِي رحبة بني تميم عَلَى الميضأة، وَقَالُوا: قتلوا الصباغ الَّذِي عَلَى طريقك، وقتلوا المقعد الَّذِي كَانَ عَلَى باب المسجد، وَقَالُوا: إن مالك بن مسمع قَدْ دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فحرق دورا، فَقَالَ الأحنف: أقيموا البينة عَلَى هَذَا، ففي دون هَذَا مَا يحل قتالهم، فشهدوا عنده عَلَى ذَلِكَ،
(5/518)
فَقَالَ الأحنف: أجاء عباد؟ وَهُوَ عباد بن حصين بن يَزِيدَ بن عَمْرو بن أوس بن سيف بن عزم بن حلزة بن بيان بن سَعْدِ بْنِ الْحَارِث الحبطة بن عمرو ابن تميم، قَالُوا: لا، ثُمَّ مكث غير طويل، فَقَالَ: أجاء عباد؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فهل هاهنا عبس بن طلق بن رَبِيعَة بن عَامِر بن بسطام بن الحكم ابن ظالم بن صريم بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد؟ فَقَالُوا: نعم، فدعاه، فانتزع معجرا فِي رأسه، ثُمَّ جثا عَلَى ركبتيه، فعقده فِي رمح ثُمَّ دفعه إِلَيْهِ، فَقَالَ: سر قَالا: فلما ولي قَالَ: اللَّهُمَّ لا تخزها الْيَوْم، فإنك لم تخزها فِيمَا مضى وصاح الناس: هاجت زبراء- وزبراء أمة للأحنف، وإنما كنوا بِهَا عنه- قَالا: فلما سار عبس جَاءَ عباد فِي ستين فارسا فسأل، مَا صنع الناس؟ فَقَالُوا: ساروا، قَالَ: ومن عَلَيْهِم؟ قَالُوا: عبس بن طلق الصريمي، فَقَالَ عباد: أنا أسير تحت لواء عبس! فرجع والفرسان إِلَى أهله.
فَحَدَّثَنِي زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو ريحانة العريني، قَالَ: كنت يوم قتل مسعود تحت بطن فرس الزرد بن عَبْدِ اللَّهِ السعدي أعدو حَتَّى بلغنا شريعة القديم.
قَالَ إِسْحَاق بن سويد: فأقبلوا، فلما بلغوا أفواه السكك وقفوا، فَقَالَ لَهُمْ ماه أفريذون بالفارسية: ما لكم يَا معشر الفتيان؟ قَالُوا: تلقونا بأسنة الرماح، فَقَالَ لَهُمْ بالفارسية: صكوهم بالفنجقان- أي بخمس نشابات فِي رميه، بالفارسيه- والأساورة أربعمائة، فصكوهم بألفي نشابة فِي دفعة، فأجلوا عن أبواب السكك، وقاموا عَلَى باب المسجد، ودلفت التميمية إِلَيْهِم، فلما بلغوا الأبواب وقفوا، فسألهم ماه أفريذون: ما لكم؟ قَالُوا: أسندوا إلينا أطراف رماحهم، قَالَ: ارموهم أَيْضًا، فرموهم بألفي نشابة، فأجلوهم عن الأبواب، فدخلوا المسجد، فأقبلوا ومسعود يخطب عَلَى الْمِنْبَر ويحضض، فجعل غطفان بن أنيف بن يَزِيدَ بن فهدة، أحد بني كعب بن عَمْرو بن
(5/519)
تميم، وَكَانَ يَزِيد بن فهدة فارسا فِي الجاهلية يقاتل ويحض قومه ويرتحز:
يال تميم إنها مذكوره ... إن فات مسعود بِهَا مشهوره
فاستمسكوا بجانب المقصوره.
أي لا يهرب فيفوت.
قَالَ إِسْحَاق بن يَزِيدَ: فأتوا مسعودا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر يحض، فاستنزلوه فقتلوه، وَذَلِكَ فِي أول شوال سنة أربع وستين، فلم يكن القوم شَيْئًا، فانهزموا.
وبادر أشيم بن شقيق القوم بباب المقصورة هاربا، فطعنه أحدهم، فنجا بِهَا، ففي ذَلِكَ يقول الفرزدق:
لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ... وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد
إذا لصاحب مسعودا وصاحبه ... وَقَدْ تهافتت الأعفاج والكبد
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي سلام بن أبي خيرة، وسمعته أَيْضًا من أبي الخنساء كسيب العنبري يحدث فِي حلقه يونس، قالا: سمعنا الحسن ابن أبي الْحَسَن يقول فِي مجلسه فِي مسجد الأمير: فاقبل مسعود من هاهنا- وأشار بيده إِلَى منازل الأزد فِي أمثال الطير- معلما بقباء ديباج أصفر مغير بسواد، يأمر الناس بالسنة، وينهى عن الْفِتْنَة: أَلا إن من السنة أن تأخذ فوق يديك، وهم يقولون: القمر القمر، فو الله مَا لبثوا إلا ساعة حَتَّى صار قمرهم قميرا، فأتوه فاستنزلوه عن الْمِنْبَر وَهُوَ عَلَيْهِ- قَدْ علم اللَّه- فقتلوه.
قَالَ سلام فِي حديثه: قال الحسن: وجاء الناس من هاهنا- وأشار بيده إِلَى دور بني تميم
(5/520)
قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي مسلمة بن محارب، قَالَ: فأتوا عُبَيْد اللَّهِ فَقَالُوا: قَدْ صعد مسعود المنبر، ولم يرم دون الدار بكثاب، فبيناه فِي ذَلِكَ يتهيأ ليجيء إِلَى الدار، إذ جاءوا فَقَالُوا: قَدْ قتل مسعود، فاغترز فِي ركابه فلحق بِالشَّامِ، وَذَلِكَ فِي شوال سنة أربع وستين قَالَ أَبُو عبيدة: فَحَدَّثَنِي رواد الكعبي، قَالَ: فأتى مالك بن مسمع أناس من مضر، فحصروه فِي داره، وحرقوا، ففي ذَلِكَ يقول غطفان بن أنيف الكعبي فِي أرجوزة:
وأصبح ابن مسمع محصورا ... يبغي قصورا دونه ودورا
حَتَّى شببنا حوله السعيرا.
ولما هرب عُبَيْد اللَّهِ بن زياد اتبعوه، فأعجز الطلبه، فانتهبوا مَا وجدوا لَهُ، ففي ذَلِكَ يقول وافد بن خليفة بن أسماء، أحد بني صخر بن منقر بن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد:
يَا رب جبار شديد كلبه ... قَدْ صار فينا تاجه وسلبه
مِنْهُمْ عُبَيْد اللَّهِ حين نسلبه ... جياده وبزه وننهبه
يوم التقى مقنبنا ومقنبه ... لو لم ينج ابن زياد هربه
وَقَالَ جرهم بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قيس، أحد بني العدوية فِي قتل مسعود فِي كلمة طويلة:
ومسعود بن عَمْرو إذ أتانا ... صبحنا حد مطرور سنينا
رجا التأمير مسعود فأضحى ... صريعا قَدْ أزرناه المنونا
قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير: وأما عمر، فإنه حَدَّثَنِي فِي أمر خروج عُبَيْد اللَّهِ إِلَى الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير بن حازم، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْر بن الخريت، قَالَ: بعث مسعود مع ابن زياد
(5/521)
مائة من الأزد، عَلَيْهِم قرة بن عَمْرو بن قيس، حَتَّى قدموا بِهِ الشام.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عاصم النبيل، عَنْ عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ وخلاد بن يَزِيدَ الباهلي والوليد بن هِشَام، عن عمه، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هبيرة، عن يساف بن شريح اليشكري، قَالَ، وحدثنيه عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ، قَالَ- قَدِ اختلفوا فزاد بعضهم عَلَى بعض- إن ابن زياد خرج مِنَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ ذات ليلة: إنه قَدْ ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي عَلَى ذي حافر، قَالَ: فألقيت لَهُ قطيفة عَلَى حمار، فركبه وإن رجليه لتكادان تخدان فِي الأرض قَالَ اليشكري: فإنه ليسير أمامي إذ سكت سكتة فأطالها، فقلت فِي نفسي: هَذَا عُبَيْد اللَّهِ أَمِير العراق أمس نائم الساعة عَلَى حمار، لو قَدْ سقط مِنْهُ أعنته، ثُمَّ قلت: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نائما لأنغصن عَلَيْهِ نومه، فدنوت مِنْهُ، فقلت: أنائم أنت؟ قَالَ: لا، قلت: فما أسكتك؟
قَالَ: كنت أحدث نفسي، قلت: أفلا أحدثك مَا كنت تحدث بِهِ نفسك؟ قَالَ: هات، فو الله مَا أراك تكيس وَلا تصيب، قَالَ: قلت: كنت تقول: ليتني لم أقتل الْحُسَيْن، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، قَالَ: وماذا؟ قلت: كنت تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء، قَالَ: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين، قال: وماذا؟
قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نطقت بصواب، وَلا سكت عن خطإ، أما الْحُسَيْن فإنه سار إلي يريد قتلي، فاخترت قتله عَلَى أن يقتلني، وأما البيضاء فإني اشتريتها من عَبْد اللَّهِ بن عُثْمَانَ الثقفي، وأرسل يَزِيد بألف ألف فأنفقتها عَلَيْهَا، فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عَلَيْهَا مما لم أعنف فِيهِ، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا فِيّ عِنْدَ مُعَاوِيَة حَتَّى ذكرا قشور الأرز، فبلغا بخراج العراق مائه الف الف، فخيرني معاويه بين الضمان والعزل، فكرهت العزل،
(5/522)
فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت إِلَيْهِ أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضررت بهم، وإن تركته تركت مال اللَّه وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون فِي المطالبه منكم، مع انى قد جعلتكم أمناء عَلَيْهِم لئلا يظلموا أحدا وأما قولك في السخاء، فو الله مَا كَانَ لي مال فأجود بِهِ عَلَيْكُمْ، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت بِهِ بعضكم دون بعض، فيقولون:
مَا أسخاه! ولكني عممتكم، وَكَانَ عندي أنفع لكم وأما قولك: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملا هُوَ أقرب إِلَى اللَّهِ عندي من قتلي من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بِمَا حدثت بِهِ نفسي، قلت: ليتني كنت قاتلت أهل الْبَصْرَة، فإنهم بايعوني طائعين غير مكرهين، وايم اللَّه لقد حرصت عَلَى ذَلِكَ، ولكن بني زياد أتوني فَقَالُوا:
إنك إذا قاتلتهم فظهروا عَلَيْك لم يبقوا منا أحدا، وان تركتهم تغيب الرجل منا عِنْدَ أخواله وأصهاره، فرفقت لَهُمْ فلم أقاتل وكنت أقول: ليتني كنت أخرجت اهل السجن فضربت أعناقهم، فاما إذ فاتت هاتان فليتني كنت أقدم الشام ولم يبرموا أمرا.
قَالَ بعضهم: فقدم الشام ولم يبرموا أمرا، فكأنما كَانُوا مَعَهُ صبيانا، وَقَالَ بعضهم: قدم الشام وَقَدْ أبرموا، فنقض مَا أبرموا إِلَى رأيه.
وفي هَذِهِ السنة طرد أهل الْكُوفَة عَمْرو بن حريث وعزلوه عَنْهُمْ، واجتمعوا عَلَى عَامِر بن مسعود
. ذكر الخبر عن عزلهم عَمْرو بن حريث وتأميرهم عامرا
قَالَ أَبُو جَعْفَر: ذكر الهيثم بن عدي، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عَيَّاش، قَالَ:
(5/523)
كَانَ أول من جمع لَهُ المصران: الْكُوفَة والبصرة زيادا وابنه، فقتلا من الخوارج ثلاثة عشر ألفا، وحبس عُبَيْد اللَّهِ مِنْهُمْ أربعة آلاف، فلما هلك يَزِيد قام خطيبا، فَقَالَ: إن الَّذِي كنا نقاتل عن طاعته قَدْ مات، فان أمرتموني جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم وبعث بِذَلِكَ إِلَى أهل الْكُوفَة مقاتل ابن مسمع وسعيد بن قرحا، أحد بني مازن، وخليفته عَلَى الْكُوفَة عَمْرو بن حريث، فقاما بِذَلِكَ، فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن رويم الشيباني فَقَالَ:
الحمد لِلَّهِ الَّذِي أراحنا من ابن سمية، لا وَلا كرامة! فأمر بِهِ عَمْرو فلبب ومضي بِهِ إِلَى السجن، فحالت بكر بينهم وبينه، فانطلق يَزِيد إِلَى أهله خائفا، فأرسل إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث: أنك عَلَى رأيك، وتتابعت عَلَيْهِ الرسل بِذَلِكَ، وصعد عَمْرو الْمِنْبَر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس فِي المسجد فَقَالُوا: نؤمر رجلا إِلَى أن يجتمع الناس على خليفه، فاجمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين حسينا، ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر، فَقَالَ مُحَمَّد بن الأشعث: جَاءَ أمر غير مَا كنا فِيهِ، وكانت كنده تقوم بأمر عمر بن سعد لانهم أخواله، فاجتمعوا على عامر ابن مسعود، وكتبوا بِذَلِكَ إِلَى ابن الزُّبَيْر، فأقره.
وأما عوانة بن الحكم، فإنه قال فيما ذكر هِشَام بن مُحَمَّد عنه: لما بايع أهل الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعث وافدين من قبله إِلَى الْكُوفَةِ: عَمْرو بن مسمع، وسعد بن القرحا التميمي، ليعلم أهل الْكُوفَة مَا صنع أهل الْبَصْرَة، ويسألانهم البيعة لعبيد اللَّه بن زياد، حَتَّى يصطلح الناس، فجمع الناس عَمْرو بن حريث، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن هَذَيْنِ الرجلين قَدْ أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إِلَى أمر يجمع اللَّه بِهِ كلمتكم، ويصلح بِهِ ذات بينكم، فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشد مَا أتياكم.
فقام عَمْرو بن مسمع، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وذكر أهل الْبَصْرَة واجتماع رأيهم عَلَى تأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حَتَّى يرى الناس رأيهم فيمن يولون عليهم،
(5/524)
وَقَدْ جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدا، فإنما الْكُوفَة مِنَ الْبَصْرَةِ والبصرة من الْكُوفَة، وقام ابن القرحا فتكلم نحوا من كلام صاحبه.
قَالَ: فقام يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ الشيباني- وَهُوَ ابن رويم- فحصبهما أول الناس، ثُمَّ حصبهما الناس بعد، ثُمَّ قَالَ: أنحن نبايع لابن مرجانة! لا وَلا كرامة، فشرفت تِلَكَ الفعلة يَزِيد فِي المصر ورفعته، ورجع الوفد إِلَى الْبَصْرَة فأعلم الناس الخبر فَقَالُوا: أهل الْكُوفَة يخلعونه، وَأَنْتُمْ تولونه وتبايعونه! فوثب بِهِ الناس، وَقَالَ: مَا كَانَ فِي ابن زياد وصمة إلا استجارته بالأزد.
قَالَ: فلما نابذه الناس استجار بمسعود بن عَمْرو الأَزْدِيّ، فأجاره ومنعه، فمكث تسعين يَوْمًا بعد موت يَزِيد، ثُمَّ خرج إِلَى الشام، وبعثت الأزد وبكر ابن وائل رجالا مِنْهُمْ مَعَهُ حَتَّى أوردوه الشام، فاستخلف حين توجه إِلَى الشام مسعود بن عَمْرو عَلَى الْبَصْرَة، فَقَالَتْ بنو تميم وقيس: لا نرضى وَلا نجيز وَلا نولي إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فَقَالَ مسعود: فقد استخلفني فلا أدع ذَلِكَ أبدا، فخرج فِي قومه حَتَّى انتهى إِلَى القصر فدخله، واجتمعت تميم إِلَى الأحنف بن قيس فَقَالُوا لَهُ: إن الأزد قد دخلوا المسجد، قَالَ: ودخل المسجد فمه! إنما هُوَ لكم ولهم، وَأَنْتُمْ تدخلونه، قَالُوا: فإنه قَدْ دخل القصر، فصعد الْمِنْبَر وكانت خوارج قَدْ خرجوا، فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إِلَيْهِم إن هَذَا الرجل الَّذِي قَدْ دخل القصر لنا ولكم عدو، فما يمنعكم من أن تبدءوا بِهِ! فجاءت عصابة مِنْهُمْ حَتَّى دخلوا المسجد، ومسعود بن عَمْرو عَلَى الْمِنْبَر يبايع من أتاه، فيرميه علج يقال لَهُ: مسلم من أهل فارس، دخل الْبَصْرَة فأسلم ثُمَّ دخل فِي الخوارج، فأصاب قلبه فقتله وخرج، وجال الناس بعضهم فِي بعض فَقَالُوا: قتل مسعود بن عَمْرو، قتلته الخوارج، فخرجت الأزد إِلَى تِلَكَ الخوارج فقتلوا مِنْهُمْ وجرحوا، وطردوهم عن الْبَصْرَة، ودفنوا مسعودا، فجاءهم الناس فَقَالُوا لَهُمْ: تعلمون أن بني تميم يزعمون أَنَّهُمْ قتلوا مسعود بن عَمْرو، فبعثت الأزد تسأل عن ذَلِكَ، فإذا أناس مِنْهُمْ يقولونه، فاجتمعت الأزد عِنْدَ ذَلِكَ فرأسوا عَلَيْهِم زياد بن عَمْرو العتكي، ثُمَّ ازدلفوا إِلَى بني تميم
(5/525)
وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد مالك بن مسمع وبكر بن وائل فأقبلوا نحو بني تميم وأقبلت تميم إِلَى الأحنف يقولون: قَدْ جَاءَ القوم، اخرج وَهُوَ متمكث، إذ جاءته امرأة من قومه بمجمر فَقَالَتْ: يَا أحنف اجلس عَلَى هَذَا، أي إنما أنت امرأة، فَقَالَ: استك أحق بِهَا، فما سمع منه بعد كلمه كانت رافث منها، وَكَانَ يعرف بالحلم ثُمَّ إنه دعا برايته فَقَالَ: اللَّهُمَّ انصرها وَلا تذللها، وإن نصرتها أَلا يظهر بِهَا وَلا يظهر عَلَيْهَا، اللَّهُمَّ احقن دماءنا، وأصلح ذات بيننا ثُمَّ سار وسار ابن أخيه إياس بن مُعَاوِيَة بين يديه، فالتقى القوم فاقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة، فَقَالَتْ لَهُمْ بنو تميم: اللَّه اللَّه يَا معشر الأزد فِي دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإِسْلام، فإن كَانَتْ لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينه فانا نحلف بِاللَّهِ مَا قتلنا وَلا أمرنا، وَلا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا ذَلِكَ فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم فاصطلحوا، فأتاهم الأحنف بن قيس فِي وجوه مضر إِلَى زياد بن عَمْرو العتكي، فَقَالَ:
يَا معشر الأزد، أنتم جيرتنا فِي الدار، وإخوتنا عِنْدَ القتال، وَقَدْ آتيناكم فِي رحالكم لإطفاء حشيشتكم، وسل سخيمتكم، ولكم الحكم مرسلا، فقولوا عَلَى أحلامنا وأموالنا، فإنه لا يتعاظمنا ذهاب شَيْء من أموالنا كَانَ فِيهِ صلاح بيننا، فَقَالُوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قَالَ: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا، فَقَالَ الهيثم بن الأَسْوَدِ:
أعلى بمسعود الناعي فقلت لَهُ ... نعم اليماني تجروا عَلَى الناعي
أوفى ثمانين مَا يسطيعه أحد ... فتى دعاه لرأس العده الداعي
آوى ابن حرب وَقَدْ سدت مذاهبه ... فأوسع السرب مِنْهُ أي إيساع
حَتَّى توارت بِهِ أرض وعامرها ... وَكَانَ ذا ناصر فِيهَا وأشياع
(5/526)
وقال عبيد الله بن الحر:
ما زلت أرجو الأزد حَتَّى رأيتها ... تقصر عن بنيانها المتطاول
أيقتل مسعود ولم يثأروا بِهِ ... وصارت سيوف الأزد مثل المناجل
وما خير عقل أورث الأزد ذلة ... تسب بِهِ أحياؤهم فِي المحافل
عَلَى أَنَّهُمْ شمط كأن لحاهمُ ... ثعالب فِي أعناقها كالجلاجل
واجتمع أهل الْبَصْرَة عَلَى أن يجعلوا عَلَيْهِم مِنْهُمْ أميرا يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام، فجعلوا عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر شهرا، ثُمَّ جعلوا ببة- وَهُوَ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن عبد المطلب- فصلى بهم شهرين، ثُمَّ قدم عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر من قبل ابن الزُّبَيْر، فمكث شهرا، ثُمَّ قدم الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ المخزومي بعزله، فوليها الْحَارِث وَهُوَ القباع.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما عُمَر بن شَبَّةَ، فإنه حَدَّثَنِي فِي أمر عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز وأمر ببة ومسعود وقتله، وأمر عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ غير مَا قَالَ هِشَام عن عوانة والذي حَدَّثَنِي عُمَر بن شَبَّةَ فِي ذَلِكَ أنه قَالَ:
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عن أبي مقرن عُبَيْد اللَّهِ الدهني، قَالَ: لما بايع الناس ببة ولى ببة شرطته هميان بن عدي، وقدم عَلَى ببة بعض أهل الْمَدِينَة، وأمر هميان بن عدي بإنزاله قريبا مِنْهُ، فأتى هميان دارا للفيل مولى زياد الَّتِي فِي بني سليم وهم بتفريغها لينزلها إِيَّاهُ، وَقَدْ كَانَ هرب وأقفل أبوابه، فمنعت بنو سليم هميان حَتَّى قاتلوه، واستصرخوا عَبْد الْمَلِكِ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِر بن كريز، فأرسل بخاريته ومواليه فِي السلاح حَتَّى طردوا هميان ومنعوه الدار، وغدا عَبْد الْمَلِكِ من الغد إِلَى دار الإمارة ليسلم عَلَى ببة، فلقيه عَلَى الباب رجل من بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ: أنت المعين علينا بالأمس! فرفع يده فلطمه، فضرب قوم من البخارية يد القيسي فأطارها، ويقال: بل سلم القيسي، وغضب ابن عَامِر فرجع، وغضبت لَهُ مضر فاجتمعت وأتت بكر بن
(5/527)
وائل أشيم بن شقيق بن ثور فاستصرخوه، فأقبل وَمَعَهُ مالك بن مسمع حَتَّى صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: أي مضري وجدتموه فاسلبوه وزعم بنو مسمع أن مالكا جَاءَ يَوْمَئِذٍ متفضلا فِي غير سلاح ليرد أشيم عن رأيه ثُمَّ انصرفت بكر وَقَدْ تحاجزوا هم والمضرية، واغتنمت الأزد ذَلِكَ، فحالفوا بكرا، وأقبلوا مع مسعود إِلَى الْمَسْجِدِ الجامع، وفزعت تميم إِلَى الأحنف، فعقد عمامته عَلَى قناة، ودفعها إِلَى سلمة بن ذؤيب الرياحي، فأقبل بين يديه الأساورة حَتَّى دخل المسجد ومسعود يخطب، فاستنزلوه فقتلوه، وزعمت الأزد أن الأزارقة قتلوه، فكانت الْفِتْنَة، وسفر بينهم عُمَر بن عُبَيْد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الْحَارِث بن هِشَام حَتَّى رضيت الأزد من مسعود بعشر ديات، ولزم عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بيته، وَكَانَ يتدين، وَقَالَ: مَا كنت لأصلح الناس بفساد نفسي.
قَالَ عمر: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فكتب أهل الْبَصْرَة إِلَى ابن الزُّبَيْر، فكتب إِلَى أنس بن مالك يأمره بالصلاة بِالنَّاسِ، فصلى بهم أربعين يَوْمًا.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كتب ابن الزبير الى عمر ابن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي بعهده عَلَى الْبَصْرَة، ووجه بِهِ إِلَيْهِ، فوافقه وَهُوَ متوجه يريد العمرة، فكتب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ يأمره أن يصلي بِالنَّاسِ، فصلى بهم حَتَّى قدم عمر.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قال: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: سمعت مُحَمَّد بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ الناس اصطلحوا عَلَى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث الهاشمي، فولى أمرهم أربعة أشهر، وخرج نافع بن الأزرق إِلَى الأهواز، فَقَالَ الناس لعبد اللَّه: إن الناس قَدْ أكل بعضهم بعضا، تؤخذ المرأة من الطريق فلا يمنعها أحد حَتَّى تفضح، قَالَ: فتريدون ماذا؟
قَالُوا: تضع سيفك، وتشد عَلَى الناس، قَالَ: مَا كنت لأصلحهم بفساد نفسي، يَا غلام، ناولني نعلي، فانتعل ثُمَّ لحق بأهله، وأمر الناس عَلَيْهِم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، قَالَ أبي، عن الصعب بن زيد:
(5/528)
أن الجارف وقع وعبد اللَّه عَلَى الْبَصْرَة، فماتت أمه فِي الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حَتَّى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها إِلَى حفرتها، وَهُوَ الأمير يَوْمَئِذٍ.
حَدَّثَنِي عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: كَانَ ببة قَدْ تناول فِي عمله عَلَى الْبَصْرَة أربعين ألفا من بيت المال، فاستودعها رجلا، فلما قدم عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ أميرا أخذ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث فحبسه، وعذب مولى لَهُ فِي ذَلِكَ المال حَتَّى أغرمه إِيَّاهُ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، عن القافلانى، عن يزيد ابن عَبْدِ اللَّهِ بن الشخير، قَالَ: قلت لعبد اللَّه بن الْحَارِث بن نوفل: رأيتك زمان استعملت علينا أصبت من المال، واتقيت الدم، فَقَالَ: إن تبعة المال أهون من تبعة الدم
. ذكر الخبر عن ولايه عامر بن مسعود على الكوفه
وفي هَذِهِ السنة ولى أهل الْكُوفَة عَامِر بن مسعود امرهم، فذكر هشام ابن مُحَمَّد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، أَنَّهُمْ لما ردوا وافدي أهل الْبَصْرَة اجتمع أشراف أهل الْكُوفَة، فاصطلحوا عَلَى أن يصلي بهم عَامِر بن مسعود- وَهُوَ عَامِر بن مسعود بن خلف القرشي، وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي يقول فِيهِ عَبْد اللَّهِ بن همام السلولي:
اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
وَكَانَ قصيرا- حَتَّى يرى الناس رأيهم، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ثُمَّ قدم عَلَيْهِم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي عَلَى الصَّلاة، وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ عَلَى الخراج، فاجتمع
(5/529)
لابن الزُّبَيْر أهل الْكُوفَة وأهل الْبَصْرَة ومن بالقبلة من العرب وأهل الشام، وأهل الجزيرة الا اهل الأردن.
خلافه مروان بن الحكم
وفي هَذِهِ السنة بويع لمروان بن الحكم بالخلافة بِالشَّامِ.
ذكر السبب فِي البيعة لَهُ:
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ:
لَمَّا بُويِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَلَّى الْمَدِينَةَ عُبَيْدَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَمٍ الْفِهْرِيَّ مِصْرَ، وَأَخْرَجَ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ إِلَى الشَّامِ- وَعَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ- فَلَمَّا قَدِمَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ بِمَا خَلَفَ عَلَيْهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْبَيْعَةِ، فأبى فقال له ولبنى اميه: نَرَاكُمْ فِي اخْتِلاطٍ شَدِيدٍ، فَأَقِيمُوا أَمْرَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ شَامَكُمْ، فَتَكُونَ فِتْنَةً عَمْيَاءَ صَمَّاءَ، فَكَانَ مِنْ رَأْيِ مَرْوَانَ أَنْ يَرْحَلَ فَيَنْطَلِقَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَيُبَايِعَهُ، فَقَدِمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَاجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ مَا يُرِيدُ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَحْيَيْتُ لَكَ مِمَّا تُرِيدُ! أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، تَصْنَعُ مَا تَصْنَعُهُ! فَقَالَ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَامَ مَعَهُ بَنُو أُمَيَّةَ وَمَوَالِيهِمْ، وَتَجَمَّعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَسَارَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا فَاتَ شَيْءٌ بَعْدُ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ وَمَنْ مَعَهُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ، وَيُقِيمَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ أَمْرُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ.
وَأَمَّا عَوَانَةُ فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْهُ- إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ- فِيمَا بَلَغَنِي- أَمَرَ بَعْدَ وِلايَتِهِ فَنُودِيَ بِالشَّامِ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ! فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِكُمْ فَضَعُفْتُ عَنْهُ، فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ رَجُلا مِثْلَ عُمَرَ بن
(5/530)
الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ فَزِعَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَابْتَغَيْتُ لَكُمْ سِتَّةً فِي الشُّورَى مِثْلَ سِتَّةَ عُمَرَ، فَلَمْ أَجِدْهَا، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَمْرِكُمْ، فَاخْتَارُوا لَهُ مَنْ أَحْبَبْتُمْ ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: دُسَّ إِلَيْهِ فَسُقِيَ سُمًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: طُعِنَ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ عَوَانَةَ ثُمَّ قَدِمَ عُبَيْدُ الله بن زياد دمشق وعليها الضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، فَثَارَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلابِيُّ بِقِنَّسْرِينَ يُبَايِعُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الأَنْصَارِيُّ بِحِمْصَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وكان حسان ابن مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ بِفِلَسْطِينَ عَامِلا لِمُعَاوِيَةَ بن ابى سفيان، ثم ليزيد ابن مُعَاوِيَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَهْوَى هَوَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ سَيِّدَ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، فَدَعَا حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَقَالَ: إِنِّي مُسْتَخْلِفُكَ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَدْخُلَ هَذَا الْحَيَّ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ، وَلَسْتَ بِدُونِ رجل إذ كنت عينهم قَاتَلْتَ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ وَخَرَجَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى الأُرْدُنِّ وَاسْتَخْلَفَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَثَارَ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ بِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ فَأَخْرَجَهُ، فَاسْتَوْلَى عَلَى فِلَسْطِينَ، وَبَايَعَ لابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ يَنْفِيَ بَنِي أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَنُفُوا بِعِيَالاتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ إِلَى الشَّامِ، فَقَدِمَتْ بَنُو أُمَيَّةَ دِمَشْقَ وَفِيهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَكَانَ النَّاسُ فَرِيقَيْنِ:
حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ يَهْوَى هَوَى بَنِي اميه، ويدعو اليهم، والضحاك ابن قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ بِدِمَشْقَ يَهْوَى هَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَدْعُو إِلَيْهِ.
قَالَ: فَقَامَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ بِالأُرْدُنِّ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الأُرْدُنِّ، مَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ مُنَافِقٌ وَأَنَّ قَتْلَى أَهْلِ الْحَرَّةِ فِي النَّارِ، قَالَ: فَمَا شَهَادَتُكُمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقَتْلاكُمْ بِالْحَرَّةِ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّ يَزِيدَ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ لَئِنْ كَانَ دِينُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ حَيٌّ حَقًّا يَوْمَئِذٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ وَشِيعَتَهُ عَلَى حَقٍّ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَشِيعُتُهُ عَلَى بَاطِلٍ إِنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى بَاطِلٍ وَشِيعَتَهُ، قَالُوا لَهُ: قَدْ صَدَقْتَ، نَحْنُ نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ
(5/531)
خَالَفَكَ مِنَ النَّاسِ، وَأَطَاعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، عَلَى أَنْ تُجَنِّبْنَا هَذَيْنِ الْغُلامَيْنِ، فَإِنَّا نَكْرَهُ ذَلِكَ- يَعْنُونَ ابْنَيْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَالِدًا- فَإِنَّهُمَا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا، وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَنَا النَّاسُ بِشَيْخٍ وَنَأْتِيَهُمْ بِصَبِيٍّ وَقَدْ كَانَ الضحاك ابن قَيْسٍ بِدِمَشْقَ يَهْوَى هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا بِحَضْرَتِهِ، وَكَانَ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ سِرًّا، فبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بَحْدَلٍ، فَكَتَبَ إِلَى الضَّحَّاكِ كِتَابًا يُعَظِّمُ فِيهِ حَقَّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَيَذْكُرُ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَحُسْنَ بَلاءِ بَنِي أُمَيَّةَ عِنْدَهُ وَصَنِيعَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِمْ، وَيَذْكُرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَيَقَعُ فِيهِ وَيَشْتُمُهُ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، قَدْ خَلَعَ خَلِيفَتَيْنِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ كِتَابَهُ عَلَى النَّاسِ وَدَعَا رَجُلا مِنْ كَلْبٍ يُدْعَى نَاغِضَةَ فَسَرَّحَ بِالْكِتَابِ مَعَهُ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ نُسْخَةَ ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَدَفَعَهُ إِلَى نَاغِضَةَ، وَقَالَ: إِنْ قَرَأَ الضَّحَّاكُ كِتَابِي عَلَى النَّاسِ وَإِلا فَقُمْ فَاقْرَأْ هَذَا الْكِتَابَ عَلَى النَّاسِ، وَكَتَبَ حَسَّانٌ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا ذَلِكَ، فَقَدِمَ نَاغِضَةُ بِالْكِتَابِ عَلَى الضَّحَّاكِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ وَدَفَعَ كِتَابَ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الضَّحَّاكُ الْمِنْبَرَ فَقَامَ إِلَيْهِ نَاغِضَةُ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ! ادْعُ بِكِتَابِ حَسَّانٍ فَاقْرَأْهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ:
اجْلِسْ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَلَمَّا رَآهُ نَاغِضَةُ لا يَفْعَلْ أَخْرَجَ الْكِتَابَ الَّذِي مَعَهُ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَصَدَّقَ حَسَّانًا وَكَذَّبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَشَتَمَهُ، وَقَامَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي النَّمَسِ الْغَسَّانِيُّ، فَصَدَّقَ مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَقَامَ سُفْيَانُ بْنُ الأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فَصَدَّقَ مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَكِتَابَهُ، وَشَتَمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ.
وَقَامَ عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وَأَثْنَى عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ تَبَعًا لَهُمْ، ثُمَّ أَمَرَ الضَّحَّاكُ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ويزيد بن ابى النمس وسفيان
(5/532)
ابن الأَبْرَدِ الَّذِينَ كَانُوا صَدَّقُوا مَقَالَةَ حَسَّانٍ وَشَتَمُوا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَحُبِسُوا، وَجَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَوَثَبَتْ كَلْبٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ الْحَكَمِيِّ فَضَرَبُوهُ وَحَرَّقُوهُ بِالنَّارِ، وَخَرَّقُوا ثِيَابَهُ.
وَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَصَعِدَ مِرْقَاتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَكَلَّمَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بِكَلامٍ أَوْجَزَ فِيهِ لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهُ، وَسَكَنَ النَّاسُ وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ دَخَلَ فَجَاءَتْ كَلْبٌ فَأَخْرَجُوا سُفْيَانَ بْنَ الأَبْرَدِ، وَجَاءَتْ غَسَّانُ فَأَخْرَجُوا يَزِيدَ بْنَ أَبِي النَّمَسِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ: لَوْ كُنْتُ مِنْ كَلْبٍ أَوْ غَسَّانَ أُخْرِجْتُ.
قَالَ: فَجَاءَ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: خَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، مَعَهُمَا أَخْوَالُهُمَا مِنْ كَلْبٍ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ السِّجْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يُسَمِّيهِ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ جَيْرُونَ الأَوَّلِ.
وَأَقَامَ النَّاسُ بِدِمَشْقَ، وَخَرَجَ الضَّحَّاكُ إِلَى مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَجَلَسَ فِيهِ فَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَوَقَعَ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ كَلْبٍ بِعَصًا مَعَهُ فَضَرَبَهُ بِهَا، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ فِي الْحَلَقِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، فَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاقْتَتَلُوا، قَيْسٌ تَدْعُو إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُصْرَةِ الضَّحَّاكِ، وَكَلْبٌ تَدْعُو إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَتَعَصَّبُونَ لِيَزِيدَ، وَدَخَلَ الضَّحَّاكُ دَارَ الإِمَارَةِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى صَلاةِ الْفَجْرِ، وَكَانَ مِنَ الأَجْنَادِ نَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَنَاسٌ يَهْوَوْنَ هَوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَبَعَثَ الضَّحَّاكُ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَذَكَرَ حُسْنَ بَلائِهِمْ عِنْدَ مَوَالِيهِ وَعِنْدَهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يُرِيدُ شَيْئًا يَكْرَهُونَهُ.
قَالَ: فَتَكْتُبُونَ إِلَى حَسَّانٍ وَنَكْتُبُ، فَيَسِيرُ مِنَ الأُرْدُنِّ حَتَّى يَنْزِلَ الْجَابِيَةَ، وَنَسِيرُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ حَتَّى نُوَافِيَهُ بِهَا، فَنُبَايِعَ لِرَجُلٍ مِنْكُمْ، فَرَضِيَتْ بِذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ، وَكَتَبُوا إِلَى حَسَّانٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الضَّحَّاكُ، وَخَرَجَ النَّاسُ وَخَرَجَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَاسْتُقْبِلَتِ الرَّايَاتُ، وَتَوَجَّهُوا يُرِيدُونَ الْجَابِيَةَ، فَجَاءَ ثَوْرُ بْنُ معن بن يزيد ابن الأَخْنَسِ السُّلَمِيُّ إِلَى الضَّحَّاكِ، فَقَالَ: دَعَوْتَنَا إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَبَايَعْنَاكَ
(5/533)
عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْتَ تَسِيرُ إِلَى هَذَا الأَعْرَابِيِّ من كلب تستخلف ابن أخيه خالد ابن يَزِيدَ! فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نُظْهِرَ مَا كُنَّا نُسِرُّ وَنَدْعُو إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَنُقَاتِلُ عَلَيْهَا، فَمَالَ الضَّحَّاكُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ فَعَطَفَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ بِمَرْجِ رَاهِطٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بِمَرْجِ رَاهِطٍ بَيْنَ الضحاك بن قيس ومروان ابن الْحَكَمِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: بُويِعَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَرْوَانُ بِالشَّامِ لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِهَذَا الأَمْرِ حَتَّى أَطْمَعَهُ فِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَرَئِيسُهَا، يَلِي عَلَيْكَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ! فَذَلِكَ حِينَ كَانَ مَا كَانَ، فَخَرَجَ إِلَى الضَّحَّاكِ فِي جَيْشٍ، فَقَتَلَهُمْ مَرْوَانُ وَالضَّحَّاكُ يَوْمَئِذٍ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقُتِلَتْ قَيْسٌ بِمَرْجِ رَاهِطٍ مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْ مِثْلَهَا فِي مَوْطِنٍ قَطُّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ:
قتل الضحاك يوم مَرْجِ رَاهِطٍ عَلَى أنه يدعو إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، وكتب بِهِ إِلَى عَبْد اللَّهِ لما ذكر عنه من طاعته وحسن رأيه.
وَقَالَ غير واحد: كَانَتِ الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان فِي سنة أربع وستين.
وَقَدْ حدثت عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قال: حدثنى موسى ابن يَعْقُوب، عن أبي الحويرث، قَالَ: قَالَ أهل الأردن وغيرهم لمروان: أنت شيخ كبير، وابن يَزِيدَ غلام وابن الزُّبَيْر كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم بنحرك فِي نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها، فبايعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي مُصْعَب بن ثَابِت، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أن الضحاك لما بلغه أن مَرْوَان قَدْ بايعه من بايعه عَلَى الخلافة، بايع من معه
(5/534)
لابن الزُّبَيْر، ثُمَّ سار كل واحد منهما إِلَى صاحبه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الضحاك وأَصْحَابه.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي ابن أبي الزناد، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما ولى الْمَدِينَة عبد الرَّحْمَن بن الضحاك كَانَ فتى شابا، فقال: ان الضحاك ابن قيس قَدْ كَانَ دعا قيسا وغيرها إِلَى البيعة لنفسه، فبايعهم يَوْمَئِذٍ عَلَى الخلافة، فَقَالَ لَهُ زفر بن عقيل الفهري: هَذَا الَّذِي كنا نعرف ونسمع، وإن بني الزُّبَيْر يقولون: إنما كَانَ بايع لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، وخرج فِي طاعته حَتَّى قتل، الباطل وَاللَّهِ يقولون، كَانَ أول ذاك أن قريشا دعته إِلَيْهَا، فأبى عَلَيْهَا حَتَّى دخل فِيهَا كارها
. ذكر الخبر عن الوقعة بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان بن الحكم وتمام الخبر عن الكائن من جليل الأخبار والأحداث فِي سنة أربع وستين
قَالَ أَبُو جَعْفَر: حَدَّثَنَا نوح بن حبيب، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن عوانة بن الحكم الكلبي، قَالَ: مال الضحاك بن قيس بمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ حين سار يريد الجابية للقاء حسان بن مَالِكٍ، فعطفهم، ثُمَّ أقبل يسير حَتَّى نزل بمرج راهط، وأظهر البيعة لابن الزُّبَيْر وخلع بني أُمَيَّة، وبايعه عَلَى ذَلِكَ جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم.
قَالَ: وسارت بنو أُمَيَّة ومن تبعهم حَتَّى وافوا حسان بالجابية، فصلى بهم حسان أربعين يَوْمًا، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك إِلَى النُّعْمَان بن بشير وَهُوَ عَلَى حمص، وإلى زفر بن الْحَارِث وَهُوَ عَلَى قنسرين، وإلى ناتل ابن قيس وَهُوَ عَلَى فلسطين يستمدهم، وكانوا عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، فأمده النُّعْمَان بشُرَحْبِيل بن ذي الكلاع، وأمده زفر بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعت الأجناد إِلَى الضحاك بالمرج.
وَكَانَ الناس بالجابية لَهُمْ أهواء مختلفة، فأما مالك بن هبيرة السكوني فكان يهوى هوى بني يَزِيد بن مُعَاوِيَة، ويحب أن تكون الخلافة فِيهِمْ، وأما الحصين بن نمير السكوني فكان يهوى أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم،
(5/535)
فَقَالَ مالك بن هبيرة لحصين بن نمير: هلم فلنبايع لهذا الغلام الَّذِي نحن ولدنا أباه، وَهُوَ ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كَانَتْ من أَبِيهِ، فإنه يحملنا عَلَى رقاب العرب غدا- يعني خَالِد بن يَزِيدَ- فَقَالَ الحصين: لا، لعمر اللَّه، لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيهم بصبي، فَقَالَ مالك: هَذَا ولم تردى تهامه ولما يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالُوا: مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان! فَقَالَ لَهُ مالك:
وَاللَّهِ لَئِنِ استخلفت مَرْوَان وآل مَرْوَان ليحسدنك عَلَى سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بِهَا، إن مَرْوَان أَبُو عشيرة، وأخو عشيرة، وعم عشيرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لَهُمْ، ولكن عَلَيْكُمْ بابن أختكم خَالِد، فَقَالَ حصين:
إني رأيت فِي المنام قنديلا معلقا من السماء، وإن من يمد عنقه إِلَى الخلافة تناوله فلم ينله، وتناوله مَرْوَان فناله، وَاللَّهِ لنستخلفنه، فَقَالَ لَهُ مالك:
ويحك يَا حصين! أتبايع لمروان وآل مَرْوَان وأنت تعلم أَنَّهُمْ أهل بيت من قيس! فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع الجذامي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنكم تذكرون عَبْد اللَّهِ بن عمر ابن الخطاب وصحبته من رسول الله ص، وقدمه فِي الإِسْلام، وَهُوَ كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمة مُحَمَّد الضعيف، وأما مَا يذكر الناس من عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ ويدعون إِلَيْهِ من أمره فهو وَاللَّهِ كما يذكرون بأنه لابن الزبير حوارى رسول الله ص وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وَهُوَ بعد كما تذكرون فِي قدمه وفضله، ولكن ابن الزُّبَيْر منافق، قَدْ خلع خليفتين: يزيد وابنه معاويه ابن يَزِيدَ، وسفك الدماء، وشق عصا الْمُسْلِمِينَ، وليس صاحب امر أمه محمد ص المنافق، واما مروان بن الحكم، فو الله مَا كَانَ فِي الإِسْلام صدع قط إلا كَانَ مَرْوَان ممن يشعب ذَلِكَ الصدع، وَهُوَ الَّذِي قاتل عن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ يوم الدار، والذي قاتل عَلِيّ بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى لِلنَّاسِ أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير-
(5/536)
يعني بالكبير مَرْوَان بن الحكم، وبالصغير خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة قَالَ:
فأجمع رأي الناس عَلَى البيعة لمروان، ثُمَّ لخالد بن يزيد من بعده، ثم لعمرو ابن سَعِيد بن الْعَاصِ من بعد خَالِد، عَلَى ان اماره دمشق لعمرو بن سعيد ابن الْعَاصِ، وإمارة حمص لخالد بن يَزِيدَ بن معاويه قال: فدعا حسان ابن مالك بن بحدل خَالِد بن يَزِيدَ فَقَالَ: أبني أختي، إن الناس قَدْ أبوك لحداثة سنك، وإني وَاللَّهِ مَا أريد هَذَا الأمر إلا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مَرْوَان إلا نظرا لكم، فَقَالَ لَهُ خَالِد بن يَزِيدَ: بل عجزت عنا، قَالَ: لا وَاللَّهِ مَا عجزت عنك، ولكن الرأي لك مَا رأيت ثُمَّ دعا حسان بمروان فَقَالَ:
يَا مَرْوَان، إن الناس وَاللَّهِ مَا كلهم يرضى بك، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: إن يرد اللَّه أن يعطنيها لا يمنعني إياها أحد من خلقه، وإن يرد أن يمنعنيها لا يعطنيها أحد من خلقه قَالَ: فَقَالَ لَهُ حسان: صدقت، وصعد حسان الْمِنْبَر يوم الاثنين، فَقَالَ: يا أيها الناس، إنا نستخلف يوم الخميس إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلما كَانَ يوم الخميس بايع لمروان، وبايع الناس لَهُ، وسار مَرْوَان إِلَى الجابية فِي الناس حَتَّى نزل مرج راهط عَلَى الضحاك فِي أهل الأردن من كلب، وأتته السكاسك والسكون وغسان، وربع حسان بن مالك بن بحدل إِلَى الأردن.
قَالَ: وعلى ميمنته- أعني مَرْوَان- عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، وعلى ميسرته عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى ميمنة الضحاك زياد بن عَمْرو بن مُعَاوِيَة العقيلي وعلى ميسرته رجل آخر لم أحفظ اسمه، وَكَانَ يَزِيد بن أبي النمس الغساني لم يشهد الجابية، وَكَانَ مختبئا بدمشق، فلما نزل مَرْوَان مرج راهط ثار يزيد ابن أبي نمس بأهل دمشق فِي عبيدها، فغلب عَلَيْهَا، وأخرج عامل الضحاك منها، وغلب عَلَى الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول فتح فتح عَلَى بني أُمَيَّة قَالَ: وقاتل مَرْوَان الضحاك عشرين ليلة كَانَ، ثُمَّ هزم أهل المرج، وقتلوا وقتل الضحاك، وقتل يَوْمَئِذٍ من أشراف الناس من أهل الشام ممن كَانَ مع الضحاك ثمانون رجلا كلهم كَانَ يأخذ القطيفة، والذي كَانَ يأخذ القطيفة يأخذ ألفين فِي العطاء، وقتل أهل الشام يَوْمَئِذٍ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها، وقتل مع الضحاك
(5/537)
يَوْمَئِذٍ رجل من كلب من بني عليم يقال لَهُ مالك بن يَزِيدَ بن مالك بن كعب، وقتل يَوْمَئِذٍ صاحب لواء قضاعة حيث دخلت قضاعه الشام، وهو جد مدلج ابن المقدام بن زمل بن عَمْرو بن رَبِيعَة بن عَمْرو الجرشي، وقتل ثور بن معن بن يَزِيدَ السلمي، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رد الضحاك عن رأيه قَالَ: وجاء برأس الضحاك رجل من كلب، وذكروا أن مَرْوَان حين أتي برأسه ساءه ذَلِكَ وَقَالَ: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت فِي مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض! قَالَ: وذكروا أنه مر يَوْمَئِذٍ برجل قتيل فَقَالَ:
وما ضرهم غير حين النفوس ... أي أميري قريش غلب
وَقَالَ مَرْوَان حين بويع لَهُ ودعا إِلَى نفسه:
لما رأيت الأمر أمرا نهبا ... سيرت غسان لَهُمْ وكلبا
والسكسكيين رجالا غلبا ... وطيئا تأباه إلا ضربا
والقين تمشي فِي الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا
لا تأخذون الملك إلا غصبا ... وإن دنت قيس فقل لا قربا
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام، قَالَ: حَدَّثَنِي من شهد مقتل الضحاك ابن قيس، قَالَ: مر بنا رجل من كلب يقال لَهُ زحنة بن عَبْدِ اللَّهِ، كأنما يرمي بالرجال الجداء، مَا يطعن رجلا إلا صرعه، وَلا يضرب رجلا إلا قتله، فجعلت أنظر إِلَيْهِ أتعجب من فعله ومن قتله الرجال، إذ حمل عَلَيْهِ رجل فصرعه زحنة وتركه، فأتيته فنظرت إِلَى المقتول فإذا هُوَ الضحاك بن قيس، فأخذت رأسه فأتيت بِهِ إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ: أنت قتلته؟ فقلت: لا، ولكن قتله زحنة بن عَبْدِ اللَّهِ الكلبي، فاعجبه صدقى اياه، وتركي ادعائه، فأمر لي بمعروف، وأحسن إِلَى زحنة
(5/538)
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، قَالَ: وَاللَّهِ إن راية مَرْوَان يَوْمَئِذٍ لمعي، وإنه ليدفع بنعل سيفه فِي ظهري، وَقَالَ: ادن برايتك لا أبا لك! إن هَؤُلاءِ لو قَدْ وجدوا لَهُمْ حد السيوف انفرجوا انفراج الرأس، وانفراج الغنم عن راعيها قَالَ: وَكَانَ مَرْوَان فِي ستة آلاف، وَكَانَ عَلَى خيله عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وَكَانَ عَلَى الرجال مالك ابن هبيرة، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: وذكروا أن بشر بن مَرْوَان كَانَتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ راية يقاتل بِهَا وَهُوَ يقول:
إن عَلَى الرئيس حقا حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا
قَالَ: وصرع يَوْمَئِذٍ عَبْد الْعَزِيزِ بن مَرْوَان، قَالَ: ومر مَرْوَان يَوْمَئِذٍ برجل من محارب وَهُوَ فِي نفر يسير تحت راية يقاتل عن مَرْوَان، فَقَالَ مَرْوَان: يرحمك اللَّه! لو أنك انضممت بأَصْحَابك، فإني أراك فِي قلة! فَقَالَ: إن معنا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ من الملائكة مددا أضعاف من تأمرنا ننضم إِلَيْهِ، قَالَ: فسر بِذَلِكَ مَرْوَان وضحك، وضم أناسا إِلَيْهِ ممن كَانَ حوله، قَالَ: وخرج الناس منهزمين من المرج إِلَى أجنادهم، فانتهى أهل حمص إِلَى حمص والنعمان بن بشير عَلَيْهَا، فلما بلغ النُّعْمَان الخبر خرج هاربا ليلا وَمَعَهُ امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية، وَمَعَهُ ثقله وولده، فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وَكَانَ الَّذِي طلبه رجل من الكلاعيين يقال لَهُ عَمْرو بن الخلي فقتله، وأقبل برأس النُّعْمَان بن بشير وبنائلة امرأته وولدها، فألقى الرأس فِي حجر أم أبان ابنة النُّعْمَان الَّتِي كَانَتْ تحت الحجاج بن يُوسُفَ بعد.
قَالَ: فَقَالَتْ نائلة: ألقوا الرأس إلي فأنا أحق بِهِ منها، فألقي الرأس فِي حجرها، ثُمَّ أقبلوا بهم وبالرأس حَتَّى انتهوا بهم إِلَى حمص، فجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها، قَالَ: وخرج زفر بن الْحَارِث من قنسرين هاربا فلحق بقرقيسيا، فلما انتهى إِلَيْهَا وعليها عياض الجرشي وَهُوَ ابن أسلم بن كعب بن مالك بن لغز بن أسود بن كعب بن
(5/539)
حدس بن أسلم- وَكَانَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة ولاه قرقيسيا، فحال عياض بين زفر وبين دخول قرقيسيا، فَقَالَ لَهُ زفر: أوثق لك بالطلاق والعتاق إذا أنا دخلت حمامها أن أخرج منها، فلما انتهى إِلَيْهَا ودخلها لم يدخل حمامها وأقام بِهَا، وأخرج عياضا منها، وتحصن زفر بِهَا وثابت إِلَيْهِ قيس.
قَالَ: وخرج ناتل بن قيس الجذامي صاحب فلسطين هاربا، فلحق بابن الزُّبَيْر بمكة، وأطبق أهل الشام عَلَى مَرْوَان، واستوثقوا لَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عماله.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي رجل من بني عبد ود من أهل الشام- يعني الشرقي- قَالَ: وخرج مَرْوَان حَتَّى أتى مصر بعد ما اجتمع لَهُ أمر الشام، فقدم مصر وعليها عبد الرَّحْمَن بن جحدم القرشي يدعو إِلَى ابن الزُّبَيْر، فخرج إِلَيْهِ فيمن مَعَهُ من بني فهر، وبعث مَرْوَان عَمْرو بن سَعِيد الأشدق من ورائه حَتَّى دخل مصر، وقام عَلَى منبرها يخطب الناس، وقيل لَهُمْ: قَدْ دخل عَمْرو مصر، فرجعوا، وأمر الناس مَرْوَان وبايعوه، ثُمَّ أقبل راجعا نحو دمشق، حَتَّى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزُّبَيْر قَدْ بعث أخاه مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ نحو فلسطين، فسرح إِلَيْهِ مَرْوَان عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فِي جيش، واستقبله قبل أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أَصْحَاب مصعب، وَكَانَ مَعَهُ رجل من بني عذرة يقال لَهُ مُحَمَّد بن حريث بن سليم، وَهُوَ خال بني الأشدق، فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا رأيت مثل مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ رجلا قط أشد قتالا فارسا وراجلا، وَلَقَدْ رأيته فِي الطريق يترجل فيطرد بأَصْحَابه، ويشد عَلَى رجليه، حَتَّى رأيتهما قَدْ دميتا قَالَ: وانصرف مَرْوَان حَتَّى استقرت بِهِ دمشق، ورجع إِلَيْهِ عَمْرو بن سَعِيد.
قَالَ: ويقال: إنه لما قدم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من العراق، فنزل الشام أصاب بني أُمَيَّة بتدمر، قَدْ نفاهم ابن الزُّبَيْر مِنَ الْمَدِينَةِ ومكة، ومن الحجاز كله، فنزلوا بتدمر، وأصابوا الضحاك بن قيس أميرا عَلَى الشام لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، فقدم ابن زياد حين قدم ومروان يريد أن يركب إِلَى ابن الزُّبَيْر فيبايعه بالخلافة، فيأخذ مِنْهُ الأمان لبني أُمَيَّة، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أنشدك الله
(5/540)
تفعل، ليس هَذَا برأي أن تنطلق وأنت شيخ قريش إِلَى أبي خبيب بالخلافة، ولكن ادع أهل تدمر فبايعهم، ثُمَّ سر بهم وبمن معك من بني أُمَيَّة إِلَى الضحاك بن قيس حَتَّى تخرجه من الشام، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ:
صدق وَاللَّهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، ثُمَّ أنت سيد قريش وفرعها، وأنت أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، إنما ينظر الناس إِلَى هَذَا الغلام- يعني خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة- فتزوج أمه فيكون فِي حجرك، قَالَ: ففعل مَرْوَان ذَلِكَ، فتزوج أم خَالِد بن يَزِيدَ، وَهِيَ فاختة ابنة أبي هاشم بْن عتبة بْن رَبِيعَة بْن عبد شمس ثُمَّ جمع بني أُمَيَّة فبايعوه بالإمارة عَلَيْهِم، وبايعه أهل تدمر ثُمَّ سار فِي جمع عظيم إِلَى الضحاك بن قيس، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بدمشق، فلما بلغ الضحاك مَا صنع بنو أُمَيَّة ومسيرتهم إِلَيْهِ، خرج بمن تبعه من أهل دمشق وغيرهم، فِيهِمْ زفر بن الْحَارِث، فالتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الضحاك بن قيس الفهري وعامة أَصْحَابه، وانهزم بقيتهم، فتفرقوا، وأخذ زفر بن الْحَارِث وجها من تِلَكَ الوجوه، هُوَ وشابان من بني سليم فجاءت خيل مَرْوَان تطلبهم، فلما خاف السلميان أن تلحقهم خيل مَرْوَان قَالا لزفر: يَا هَذَا، انج بنفسك، فأما نحن فمقتولان، فمضى زفر وتركهما حَتَّى أتى قرقيسيا، فاجتمعت إِلَيْهِ قيس، فرأسوه عَلَيْهِم، فذلك حَيْثُ يقول زفر بن الْحَارِث:
أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أَرَى الحرب لا تزداد إلا تماديا
أتاني عن مَرْوَان بالغيب أنه ... مقيد دمي أو قاطع من لسانيا
ففي العيس منجاة وفي الأرض مهرب ... إذا نحن رفعنا لهن المثانيا
فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا ... وَلا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
(5/541)
فقد ينبت المرعى عَلَى دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كماهيا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ماهيا!
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لحسان صدعا بينا متنائيا
أبعد ابن عَمْرو وابن معن تتابعا ... ومقتل همام أمني الأمانيا!
فلم تر مني نبوة قبل هَذِهِ ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
عشية أعدو بالقران فلا أَرَى ... مِنَ النَّاسِ إلا من علي وَلا ليا
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا!
فلا صلح حَتَّى تنحط الخيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلب نسائيا
أَلا ليت شعري هل تصيبن غارتي ... تنوخا وحيي طيئ من شفائيا
فأجابه جواس بن قعطل:
لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... عَلَى زفر داء من الداء باقيا
مقيما ثوى بين الضلوع محله ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا
تبكي عَلَى قتلي سليم وعامر ... وذبيان معذورا وتبكي البواكيا
دعا بسلاح ثُمَّ أحجم إذ رَأَى ... سيوف جناب والطوال المذاكيا
(5/542)
عَلَيْهَا كأسد الغاب فتيان نجدة ... إذا شرعوا نحو الطعان العواليا
فأجابه عمر بن المخلاة الكلبي من تيم اللات بن رفيدة، فَقَالَ:
بكى زفر القيسي من هلك قومه ... بعبرة عين مَا يجف سجومها
يبكي عَلَى قتلى أصيبت براهط ... تجاوبه هام القفار وبومها
أبحنا حمى للحي قيس براهط ... وولت شلالا واستبيح حريمها
يبكيهم حران تجري دموعه ... يرجي نزارا أن تئوب حلومها
فمت كمدا أو عش ذليلا مهضما ... بحسرة نفس لا تنام همومها
إذا خطرت حولي قضاعة بالقنا ... تخبط فعل المصعبات قرومها
خبطت بهم من كادني من قبيلة ... فمن ذا إذا عز الخطوب يرومها
وَقَالَ زفر بن الْحَارِث أَيْضًا:
افي الله اما بحدل وابن بحدل ... فيحيا وأما ابن الزُّبَيْر فيقتل!
كذبتم وبيت اللَّه لا تقتلونه ... ولما يكن يوم أغر محجل
ولما يكن للمشرفية فوقكم ... شعاع كقرن الشمس حين ترجل
(5/543)
فأجابه عبد الرَّحْمَن بن الحكم، أخو مَرْوَان بن الحكم، فَقَالَ:
أتذهب كلب قَدْ حمتها رماحها ... وتترك قتلى راهط مَا أجنت!
لحا اللَّه قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور الْمُسْلِمِينَ وولت
فباه بقيس فِي الرخاء وَلا تكن ... أخاها إذا مَا المشرفية سلت
قَالَ أَبُو جَعْفَر: ولما بايع حصين بن نمير مروان بن الحكم وعصا مالك بن هبيرة فِيمَا أشار بِهِ عَلَيْهِ من بيعة خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، واستقر لمروان بن الحكم الملك، وَقَدْ كَانَ الحصين بن نمير اشترط عَلَى مَرْوَان أن ينزل البلقاء من كَانَ بِالشَّامِ من كندة، وأن يجعلها لَهُمْ مأكلة، فأعطاه ذَلِكَ، وإن بني الحكم لما استوثق الأمر لمروان، وَقَدْ كَانُوا اشترطوا لخالد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة شروطا، قَالَ مَرْوَان ذات يوم وَهُوَ جالس فِي مجلسه ومالك بن هبيرة جالس عنده: إن قوما يدعون شروطا مِنْهُمْ عطارة مكحلة- يعني مالك بن هبيرة وَكَانَ رجلا يتطيب ويكتحل- فَقَالَ مالك بن هبيرة: هَذَا ولما تردي تهامة، ولما يبلغ الحزام الطبيين، فَقَالَ مَرْوَان: مهلا يَا أَبَا سُلَيْمَان، إنما داعبناك، فَقَالَ مالك: هُوَ ذاك وَقَالَ عويج الطَّائِيّ يمتدح كلبا وحميد بن بحدل:
لقد علم الأقوام وقع ابن بحدل ... وأخرى عَلَيْهِم إن بقي سيعيدها
يقودون أولاد الوجيه ولاحق ... من الريف شهرا مَا يني من يقودها
فهذا لهذا ثم انى لنافض ... على الناس أقواما كثيرا حدودها
فلولا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لأصبحت ... قضاعة أربابا وقيس عبيدها
وفي هَذِهِ السنة بايع جند خُرَاسَان لسلم بن زياد بعد موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة، عَلَى أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفه
(5/544)
ذكر الخبر عن فتنه عبد الله بن خازم وبيعه سلم بن زياد
وفيها كَانَتْ فتنة عَبْد اللَّهِ بن خازم بخراسان.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرنا مسلمه ابن محارب، قَالَ: بعث سلم بن زياد بِمَا أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة مع عَبْد اللَّهِ بن خازم، وأقام سلم واليا عَلَى خُرَاسَان حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، فبلغ سلما موته، وأتاه مقتل يَزِيد بن زياد فِي سجستان وأسر أبي عبيدة بن زياد، وكتم الخبر سلم، فَقَالَ ابن عرادة:
يَا أَيُّهَا الملك المغلق بابه ... حدثت أمور شأنهن عظيم
قتلى بجنزة والذين بكابل ... ويزيد أعلن شأنه المكتوم
أبني أُمَيَّة إن آخر ملككم ... جسد بحوارين ثُمَّ مقيم
طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم
ومرنة تبكي عَلَى نشوانه ... بالصنج تقعد تارة وتقوم
قَالَ مسلمة: فلما ظهر شعر ابن عرادة أظهر سلم موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ، ودعا الناس إِلَى البيعة عَلَى الرضا حَتَّى يستقيم أمر الناس عَلَى خليفة، فبايعوه، ثُمَّ مكثوا بِذَلِكَ شهرين، ثُمَّ نكثوا بِهِ.
قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: وَحَدَّثَنَا شيخ من أهل خُرَاسَان، قَالَ: لم يحب أهل خُرَاسَان أميرا قط حبهم سلم بن زياد، فسمي فِي تِلَكَ السنين الَّتِي كَانَ بِهَا سلم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم، من حبهم سلما
(5/545)
قَالَ: وأخبرنا أَبُو حفص الأَزْدِيّ، عن عمه قَالَ: لما اختلف الناس بخراسان ونكثوا بيعة سلم، خرج سلم عن خُرَاسَان وخلف عَلَيْهَا المهلب بن أبي صفرة، فلما كَانَ بسرخس لقيه سُلَيْمَان بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبة، فَقَالَ لَهُ: من خلفت عَلَى خُرَاسَان؟ قَالَ: المهلب، فَقَالَ: ضاقت عَلَيْك نزار حَتَّى وليت رجلا من أهل اليمن! فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة بن زفر- وَهُوَ صاحب قصر أوس بِالْبَصْرَةِ- هراة، ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عَبْد اللَّهِ بن خازم فَقَالَ: من وليت خُرَاسَان؟ فأخبره، فَقَالَ: أما وجدت فِي مضر رجلا تستعمله حَتَّى فرقت خُرَاسَان بين بكر بن وائل ومزون عمان! وَقَالَ لَهُ: اكتب لي عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: أوالي خُرَاسَان أنا! قَالَ: اكتب لي عهدا وخلاك ذم.
قَالَ: فكتب لَهُ عهدا عَلَى خُرَاسَان، قَالَ: فأعني الآن بمائة ألف درهم فأمر لَهُ بِهَا، وأقبل إِلَى مرو، وبلغ الخبر المهلب بن أبي صفرة،، فأقبل واستخلف رجلا من بني جشم بن سَعْدِ بْنِ زَيْد مناة بن تميم.
قَالَ: وأخبرنا المفضل بن مُحَمَّد الضبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما صار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى مرو بعهد سلم بن زياد، منعه الجشمي، فكانت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رمية بحجر فِي جبهته، وتحاجزوا وخلى الجشمي بين مرو الروذ وبينه، فدخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد ذَلِكَ بيومين.
قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد المدائني: حَدَّثَنَا الْحَسَن بن رشيد الجوزجاني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة ومعاوية بن يَزِيدَ وثب أهل خُرَاسَان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم عَلَى ناحية، ووقعت الْفِتْنَة، وغلب ابن خازم عَلَى خُرَاسَان، ووقعت الحرب.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة، قَالَ:
أقبل عَبْد اللَّهِ بن خازم فغلب عَلَى مرو، ثُمَّ سار إِلَى سُلَيْمَان بن مرثد فلقيه
(5/546)
بمرو الروذ، فقاتله أياما، فقتل سُلَيْمَان بن مرثد، ثُمَّ سار عَبْد اللَّهِ بن خازم إِلَى عَمْرو بن مرثد وَهُوَ بالطالقان فِي سبعمائة، وبلغ عمرا إقبال عَبْد اللَّهِ إِلَيْهِ وقتله أخاه سُلَيْمَان، فأقبل إِلَيْهِ، فالتقوا عَلَى نهر قبل أن يتوافى إِلَى ابن خازم أَصْحَابه، فأمر عَبْد اللَّهِ من كَانَ مَعَهُ فنزلوا، فنزل وسال عن زهير بن ذؤيب العدوى، فقالوا: لم يجيء حَتَّى أقبل وَهُوَ عَلَى حاله، فلما أقبل قيل لَهُ: هَذَا زهير قَدْ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ: تقدم، فالتقوا فاقتتلوا طويلا، فقتل عَمْرو بن مرثد، وانهزم أَصْحَابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع عَبْد اللَّهِ ابن خازم إِلَى مرو قَالَ: وَكَانَ الَّذِي ولي قتل عَمْرو بن مرثد زهير بن حيان العدوى فيما يروون فَقَالَ الشاعر:
أتذهب أيام الحروب ولم تبئ ... زهير بن حيان بعمرو بن مرثد!
قال: وَحَدَّثَنَا أَبُو السري الخراساني- وَكَانَ من أهل هراة- قَالَ: قتل عَبْد اللَّهِ بن خازم سُلَيْمَان وعمرا ابني مرثد المرثديين من بني قيس بن ثعلبة ثُمَّ رجع إِلَى مرو، وهرب من كَانَ بمرو الروذ من بكر بن وائل إِلَى هراة، وانضم إِلَيْهَا من كَانَ بكور خُرَاسَان من بكر بن وائل، فكان لَهُمْ بِهَا جمع كثير عَلَيْهِم أوس بن ثعلبة، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ نبايعك عَلَى أن تسير إِلَى ابن خازم، وتخرج مضر من خُرَاسَان كلها، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا بغي، وأهل البغي مخذولون، أقيموا مكانكم هَذَا، فإن ترككم ابن خازم- وما أراه يفعل- فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هُوَ فِيهِ، فَقَالَ بنو صهيب- وهم موالي بني جحدر: لا وَاللَّهِ لا نرضى أن نكون نحن ومضر فِي بلد، وَقَدْ قتلوا ابني مرثد، فإن أجبتنا إِلَى هَذَا وإلا أمرنا علينا غيرك، قَالَ: إنما أنا رجل مِنْكُمْ، فاصنعوا مَا بدا لكم، فبايعوه، وسار إِلَيْهِم ابن خازم، واستخلف ابنه مُوسَى، وأقبل حَتَّى نزل عَلَى واد بين عسكره وبين هراة، قَالَ: فَقَالَ البكريون لأوس: اخرج فخندق خندقا دون الْمَدِينَة فقاتلهم فِيهِ، وتكون الْمَدِينَة من ورائنا، فَقَالَ لَهُمْ أوس: الزموا الْمَدِينَة فإنها حصينة، وخلوا ابن خازم ومنزله الَّذِي هُوَ فِيهِ، فإنه إن طال مقامه ضجر فأعطاكم مَا ترضون
(5/547)
بِهِ، فإن اضطررتم إِلَى القتال قاتلتم، فأبوا وخرجوا مِنَ الْمَدِينَةِ فخندقوا خندقا دونها، فقاتلهم ابن خازم نحوا من سنة.
قَالَ وزعم الأحنف بن الأشهب الضبي، وأخبرنا أَبُو الذيال زهير بن الهنيد، سار ابن خازم إِلَى هراة وفيها جمع كثير لبكر بن وائل قَدْ خندقوا عَلَيْهِم، وتعاقدوا عَلَى إخراج مضر إن ظفروا بخراسان، فنزل بهم ابن خازم، فَقَالَ لَهُ هلال الضبي أحد بني ذهل، ثُمَّ أحد بني أوس: إنما تقاتل إخوتك من بني أبيك، وَاللَّهِ إن نلت مِنْهُمْ فما تريد مَا فِي العيش بعدهم من خير، وَقَدْ قتلت بمرو الروذ مِنْهُمْ من قتلت، فلو أعطيتهم شَيْئًا يرضون بِهِ، أو أصلحت هَذَا الأمر! قَالَ: وَاللَّهِ لو خرجت لَهُمْ عن خُرَاسَان مَا رضوا بِهِ، ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدُّنْيَا لأخرجوكم، قَالَ لا، وَاللَّهِ لا أرمي معك بسهم، وَلا رجل يطيعني من خندف حَتَّى تعذر إِلَيْهِم، قَالَ: فأنت رسولي إِلَيْهِم فأرضهم، فأتى هلال إِلَى أوس بن ثعلبة فناشده اللَّه والقرابة، وَقَالَ: أذكرك اللَّه فِي نزار أن تسفك دماءها، وتضرب بعضها ببعض! قَالَ: لقيت بني صهيب؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ، قَالَ: فالقهم، فخرج فلقي أرقم بن مطرف الحنفي، وضمضم بن يَزِيدَ- أو عَبْد اللَّهِ بن ضمضم بن يَزِيدَ- وعاصم بن الصلت بن الحريث الحنفيين، وجماعة من بكر بن وائل وكلمهم بمثل مَا كلم بِهِ أوسا، فَقَالُوا: هل لقيت بني صهيب؟ فَقَالَ: لقد عظم اللَّه أمر بني صهيب عندكم، لا لم ألقهم، قَالُوا: القهم، فأتى بني صهيب فكلمهم، فَقَالُوا: لولا أنك رسول لقتلناك، قَالَ: أفما يرضيكم شَيْء؟
قَالُوا: واحدة من اثنتين، إما أن تخرجوا عن خُرَاسَان وَلا يدعو فِيهَا لمضر داع، وإما أن تقيموا وتنزلوا لنا عن كل كراع وسلاح وذهب وفضة، قَالَ:
أفما شَيْء غير هاتين؟ قَالُوا: لا، قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! فرجع إِلَى ابن خازم، فَقَالَ: مَا عندك؟ قَالَ: وجدت إخوتنا قطعا للرحم، قَالَ:
قَدْ أخبرتك أن رَبِيعَة لم تزل غضابا عَلَى ربها منذ بعث الله النبي ص من مضر
(5/548)
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأخبرنا سُلَيْمَان بن مُجَالِد الضبي، قَالَ: أغارت الترك عَلَى قصر إسفاد وابن خازم بهراة، فحصروا أهله، وفيه ناس من الأزد هم أكثر من فِيهِ، فهزمتهم، فبعثوا إِلَى من حولهم من الأزد فجاءوا لينصروهم فهزمتهم الترك، فأرسلوا إِلَى ابن خازم، فوجه إِلَيْهِم زهير بن حيان فِي بني تميم وَقَالَ لَهُ: إياك ومشاولة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عَلَيْهِم، فأقبل فوافاهم فِي يوم بارد، قَالَ: فلما التقوا شدوا عَلَيْهِم فلم يثبتوا لَهُمْ، وانهزمت الترك واتبعوهم حَتَّى مضى عامة الليل حَتَّى انتهوا إِلَى قصر فِي المفازة، فأقامت الجماعة ومضى زهير فِي فوارس يتبعهم، وَكَانَ عالما بالطريق، ثُمَّ رجع فِي نصف من الليل، وَقَدْ يبست يده عَلَى رمحه من البرد، فدعا غلامه كعبا، فخرج إِلَيْهِ، فأدخله، وجعل يسخن لَهُ الشحم فيضعه عَلَى يده، ودهنوه وأوقدوا لَهُ نارا حَتَّى لان ودفى، ثُمَّ رجع إِلَى هراة، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كعب بن مَعْدَانَ الأشقري:
أتاك أتاك الغوث فِي برق عارض ... دروع وبيض حشوهن تميم
أبوا أن يضموا حشو مَا تجمع القرى ... فضمهمُ يوم اللقاء صميم
ورزقهمُ من رائحات تزينها ... ضروع عريضات الخواصر كوم
وَقَالَ ثَابِت قطنة:
فدت نفسي فوارس من تميم ... عَلَى مَا كَانَ من ضنك المقام
بقصر الباهلي وَقَدْ أراني ... أحامي حين قل بِهِ المحامي
بسيفي بعد كسر الرمح فِيهِمْ ... أذودهمُ بذي شطب حسام
أكر عَلَيْهِم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام
فلولا اللَّه ليس لَهُ شريك ... وضربي قونس الملك الهمام
(5/549)
إذا فاظت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الخراساني، عن أبي حماد السلمي قَالَ: أقام ابن خازم بهراة يقاتل أوس بن ثعلبة أكثر من سنة، فَقَالَ يوما لأَصْحَابه: قَدْ طال مقامنا عَلَى هَؤُلاءِ، فنادوهم: يَا معشر رَبِيعَة، إنكم قَدِ اعتصمتم بخندقكم، أفرضيتم من خُرَاسَان بهذا الخندق! فأحفظهم ذَلِكَ، فتنادى الناس للقتال، فَقَالَ لَهُمْ أوس بن ثعلبة: الزموا خندقكم وقاتلوهم كما كنتم تقاتلونهم، وَلا تخرجوا إِلَيْهِم بجماعتكم، قَالَ: فعصوه وخرجوا إِلَيْهِم، فالتقى الناس، فَقَالَ ابن خازم لأَصْحَابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب، فإن قتلت فأميركم شماس بن دثار العطاردي، فإن قتل فأميركم بكير بن وشاح الثقفي.
قَالَ علي: وَحَدَّثَنَا أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة العدوي عن عبيد بن نقيد، عن إياس بن زهير بن حيان: لما كَانَ الْيَوْم الَّذِي هرب فِيهِ أوس بن ثعلبة وظفر ابن خازم ببكر بن وائل، قَالَ ابن خازم لأَصْحَابه حين التقوا: إني قلع، فشدوني عَلَى السرج، واعلموا أن علي من السلاح مَا لا أقتل قدر جزر جزورين، فان قيل لكم: انى قد قتلت فلا تصدقوا.
قَالَ: وكانت راية بني عدي مع أبي وأنا عَلَى فرس محزم، وَقَدْ قَالَ لنا ابن خازم: إذا لقيتم الخيل فاطعنوها فِي مناخرها، فإنه لن يطعن فرس فِي نخرته إلا أدبر أو رمى بصاحبه، فلما سمع فرسي قعقعة السلاح وثب بي واديا كَانَ بيني وبينهم، قَالَ: فتلقاني رجل من بكر بن وائل فطعنت فرسه فِي نخرته، فصرعه، وحمل أبي ببني عدي، وأتبعته بنو تميم من كل وجه، فاقتتلوا ساعة، فانهزمت بكر بن وائل حَتَّى انتهوا الى خندقهم
(5/550)
وأخذوا يمينا وشمالا، وسقط ناس فِي الخندق فقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس ابن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسير إلا قتله حَتَّى تغيب الشمس، فكان آخر من أتي بِهِ رجل من بني حنيفة يقال لَهُ محمية فَقَالُوا لابن خازم: قَدْ غابت الشمس، قَالَ: وفوا بِهِ القتلى، فقتل.
قَالَ: فأخبرني شيخ من بني سعد بن زَيْد مناة أن أوس بن ثعلبه هرب وبه جراحات إِلَى سجستان، فلما صار بِهَا أو قريبا منها مات.
وفي مقتل ابن مرثد وأمر أوس بن ثعلبة يقول الْمُغِيرَة بن حبناء، أحد بني رَبِيعَة بن حنظلة:
وفي الحرب كنتم فِي خُرَاسَان كلها ... قتيلا ومسجونا بِهَا ومسيرا
ويوم احتواكم فِي الحفير ابن خازم ... فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا
ويوم تركتم فِي الغبار ابن مرثد ... وأوسا تركتم حَيْثُ سار وعسكرا
قَالَ: وأخبرني أَبُو الذيال زهير بن هنيد، عن جده أبي أمه، قَالَ:
قتل من بكر بن وائل يَوْمَئِذٍ ثمانية آلاف.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا التميمي، رجل من أهل خُرَاسَان، عن مولى لابن خازم، قَالَ: قاتل ابن خازم أوس بن ثعلبة وبكر بن وائل، فظفر بهراة، وهرب أوس وغلبه ابن خازم عَلَى هراة، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ابنه مُحَمَّدا، وضم إِلَيْهِ شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وشاح عَلَى شرطته، وَقَالَ لهما:
ربياه فإنه ابن أختكما، فكانت أمه من بني سعد يقال لها صفية، وَقَالَ لَهُ:
لا تخالفهما، ورجع ابن خازم إِلَى مرو
. ذكر الخبر عن تحرك الشيعة للطلب بدم الحسين
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة تحركت الشيعة بالكوفة، واتعدوا الاجتماع بالنخيلة فِي سنة خمس وستين للمسير إِلَى أهل الشام للطلب بدم الْحُسَيْن بن علي، وتكاتبوا فِي ذَلِكَ
(5/551)
ذكر الخبر عن مبدإ أمرهم فِي ذَلِكَ:
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: حَدَّثَنَا أَبُو مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر الأَزْدِيّ، قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة، فدخل الْكُوفَة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أنها قَدْ أخطأت خطأ كبيرا بدعائهم الْحُسَيْن إِلَى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إِلَى جانبهم لم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عَنْهُمْ فِي مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فِيهِ، ففزعوا بالكوفة إِلَى خمسة نفر من رءوس الشيعة إِلَى سُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبه مع النبي ص، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وَكَانَ من أَصْحَاب علي وخيارهم، وإلى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل الأَزْدِيّ، وإلى عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي.
ثُمَّ إن هَؤُلاءِ النفر الخمسة اجتمعوا فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد، وكانوا من خيار أَصْحَاب علي، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم.
قَالَ: فلما اجتمعوا إِلَى منزل سُلَيْمَان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام، فتكلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى على نبيه ص ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدِ ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن فنرغب إِلَى ربنا أَلا يجعلنا ممن يقول لَهُ غدا: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» ، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: [العمر الَّذِي أعذر اللَّه فِيهِ إِلَى ابن آدم ستون سنة، وليس] فينا رجل إلا وَقَدْ بلغه، وَقَدْ كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا، حَتَّى بلا اللَّه أخيارنا فوجدنا كاذبين فِي موطنين من مواطن ابن ابنه نبينا ص، وَقَدْ بلغتنا قبل ذَلِكَ كتبه، وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره عودا
(5/552)
وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا حَتَّى قتل إِلَى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، وَلا جادلنا عنه بألسنتنا، وَلا قويناه بأموالنا، وَلا طلبنا لَهُ النصرة إِلَى عشائرنا، فما عذرنا الى ربنا وعند لقاء نبينا ص وَقَدْ قتل فينا ولده وحبيبه، وذريته ونسله! لا وَاللَّهِ، لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عَلَيْهِ، أو تقتلوا فِي طلب ذَلِكَ، فعسى ربنا أن يرضى عنا عِنْدَ ذَلِكَ، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن أيها القوم، ولوا عَلَيْكُمْ رجلا مِنْكُمْ فإنه لا بد لكم من أَمِير تفزعون إِلَيْهِ، وراية تحفون بِهَا، أقول قولي هَذَا وأستغفر اللَّه لي ولكم.
قَالَ: فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه وصلى على النبي ص ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ هداك لأصوب القول، ودعوت إِلَى أرشد الأمور، بدأت بحمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ، والصلاة عَلَى نبيه ص، ودعوت إِلَى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع مِنْكَ، مستجاب لك، مقبول قولك، قلت: ولوا أمركم رجلا مِنْكُمْ تفزعون إِلَيْهِ، وتحفون برايته، وَذَلِكَ رأي قَدْ رأينا مثل الَّذِي رأيت، فإن تكن أنت ذَلِكَ الرجل تكن عندنا مرضيا، وفينا متنصحا، وفي جماعتنا محبا، وإن رأيت رأي أَصْحَابنا ذَلِكَ ولينا هَذَا الأمر شيخ الشيعة صاحب رَسُول الله ص، وذا السابقه والقدم سليمان ابن صرد المحمود فِي بأسه ودينه، والموثوق بحزمه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قَالَ: ثُمَّ تكلم عَبْد اللَّهِ بن وال وعبد اللَّه بن سَعْد، فحمدا ربهما وأثنيا عَلَيْهِ، وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سُلَيْمَان بن صرد بسابقته، ورضاهما بتوليته، فَقَالَ المسيب ابن نجبة: أصبتم ووفقتم، وأنا أَرَى مثل الَّذِي رايتم، فولوا امركم سليمان ابن صرد
(5/553)
قَالَ أَبُو مخنف: فحدثت سُلَيْمَان بن أبي راشد بهذا الحديث، فَقَالَ:
حَدَّثَنِي حميد بن مسلم، قَالَ: وَاللَّهِ إني لشاهد بهذا الْيَوْم، يوم ولوا سليمان ابن صرد، وإنا يَوْمَئِذٍ لأكثر من مائة رجل من فرسان الشيعة ووجوههم فِي داره.
قَالَ: فتكلم سُلَيْمَان بن صرد فشدد، وما زال يردد ذَلِكَ القول فِي كل جمعة حَتَّى حفظته، بدأ فَقَالَ: أثني عَلَى اللَّه خيرا، وأحمد آلاءه وبلاءه، وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسوله، أَمَّا بَعْدُ، فإني وَاللَّهِ لخائف أَلا يكون آخرنا إِلَى هَذَا الدهر الَّذِي نكدت فِيهِ المعيشة، وعظمت فِيهِ الرزية وشمل فِيهِ الجور أولي الفضل من هَذِهِ الشيعة لما هُوَ خير، أنا كنا نمد أعناقنا إِلَى قدوم آل نبينا، ونمنيهم النصر، ونحثهم عَلَى القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا، وأدهنا، وتربصنا، وانتظرنا مَا يكون حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ، ويسأل النصف فلا يعطاه، اتخذه الفاسقون غرضا للنبل، ودرية للرماح حَتَّى أقصدوه، وعدوا عَلَيْهِ فسلبوه أَلا انهضوا فقد سخط ربكم، وَلا ترجعوا إِلَى الحلائل والأبناء حَتَّى يرضى اللَّه، وَاللَّهِ مَا أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله، أو تبيروا أَلا لا تهابوا الموت فو الله مَا هابه امرؤ قط إلا ذل، كونوا كالأولى من بني إسرائيل إذ قَالَ لَهُمْ نبيهم: «إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» ، فما فعل القوم؟ جثوا عَلَى الركب وَاللَّهِ، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حَتَّى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر عَلَى القتل، فكيف بكم لو قَدْ دعيتم إِلَى مثل مَا دعي القوم إِلَيْهِ! اشحذوا السيوف، وركبوا الأسنة، «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ، حَتَّى تدعوا حين تدعون وتستنفرون
(5/554)
قَالَ: فقام خَالِد بن سَعْدِ بْنِ نفيل، فقال: اما انا فو الله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضي ربي لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم كَانُوا قبلنا ونهينا عنه، فأشهد اللَّه ومن حضر مِنَ الْمُسْلِمِينَ أن كل مَا أصبحت أملكه سوى سلاحي الَّذِي أقاتل بِهِ عدوي صدقة عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أقويهم بِهِ عَلَى قتال القاسطين وقام أَبُو المعتمر حنش بن رَبِيعَة الكناني فَقَالَ: وأنا أشهدكم عَلَى مثل ذَلِكَ.
فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: حسبكم، من أراد من هَذَا شَيْئًا فليأت بماله عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كل مَا تريدون إخراجه من أموالكم جهزنا بِهِ ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم.
قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن سُلَيْمَان بن أبي راشد، قَالَ: فحدثنا حميد بن مسلم الأَزْدِيّ أن سُلَيْمَان بن صرد قَالَ لخالد بن سَعْدِ بْنِ نفيل حين قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لو علمت أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضى عني ربي لقتلتها، ولكن هَذَا أمر بِهِ قوم غيرنا كَانُوا من قبلنا ونهينا عنه، قَالَ: أخوكم هَذَا غدا فريس أول الأسنة، قَالَ: فلما تصدق بماله عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُ: أبشر بجزيل ثواب اللَّه للذين لأنفسهم يمهدون.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ نفيل قَالَ: أخذت كتابا كَانَ سُلَيْمَان بن صرد كتب بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ بالمدائن، فقرأته زمان ولي سُلَيْمَان، قَالَ: فلما قرأته أعجبني، فتعلمته فما نسيته، كتب إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من سُلَيْمَان بن صرد إِلَى سعد بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فإن الدُّنْيَا دار قَدْ أدبر منها مَا كَانَ معروفا، وأقبل منها مَا كَانَ منكرا، وأصبحت قَدْ تشنأت إِلَى ذوي الألباب، وأزمع بالترحال منها عباد اللَّه الأخيار، وباعوا قليلا من الدُّنْيَا
(5/555)
لا يبقى بجزيل مثوبة عِنْدَ اللَّه لا تفنى ان أولياء من إخوانكم، وشيعة آل نبيكم نظروا لأنفسهم فِيمَا ابتلوا بِهِ من أمر ابن بنت نبيهم الَّذِي دعي فأجاب، ودعا فلم يجب، وأراد الرجعة فحبس، وسأل الأمان فمنع، وترك الناس فلم يتركوه، وعدوا عَلَيْهِ فقتلوه، ثُمَّ سلبوه وجردوه ظلما وعدوانا وغرة بِاللَّهِ وجهلا، وبعين الله ما يعملون، وإلى اللَّه مَا يرجعون، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» ، فلما نظروا إخوانكم وتدبروا عواقب مَا استقبلوا رأوا أن قَدْ خطئوا بخذلان الزكي الطيب وإسلامه وترك مواساته، والنصر لَهُ خطأ كبيرا ليس لَهُمْ مِنْهُ مخرج وَلا توبة، دون قتل قاتليه أو قتلهم حَتَّى تفنى عَلَى ذَلِكَ أرواحهم، فقد جد إخوانكم فجدوا، وأعدوا واستعدوا، وَقَدْ ضربنا لإخواننا أجلا يوافوننا إِلَيْهِ، وموطنا يلقوننا فِيهِ، فأما الأجل فغرة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، وأما الموطن الَّذِي يلقوننا فِيهِ فالنخيلة.
أنتم الَّذِينَ لم تزالوا لنا شيعة وإخوانا، وإلا وَقَدْ رأينا أن ندعوكم إِلَى هَذَا الأمر الَّذِي أراد اللَّه بِهِ إخوانكم فِيمَا يزعمون، ويظهرون لنا أَنَّهُمْ يتوبون، وإنكم جدراء بتطلاب الفضل، والتماس الأجر، والتوبة إِلَى ربكم من الذنب، ولو كَانَ فِي ذَلِكَ حز الرقاب، وقتل الأولاد، واستيفاء الأموال، وهلاك العشائر، مَا ضر أهل عذراء الَّذِينَ قتلوا أَلا يكونوا الْيَوْم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، شهداء قَدْ لقوا اللَّه صابرين محتسبين، فأثابهم ثواب الصابرين- يعني حجرا واصحابه- وما ضر إخوانكم المقتلين صبرا، المصلبين ظلما، والمثل بهم، المعتدى عَلَيْهِم، أَلا يكونوا أحياء مبتلين بخطاياكم، قَدْ خير لَهُمْ فلقوا ربهم، ووفاهم اللَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ أجرهم، فاصبروا رحمكم اللَّه عَلَى البأساء والضراء وحين البأس، وتوبوا الى الله عن قريب، فو الله انكم لأحرياء الا يكون أحد من إخوانكم صبر عَلَى شَيْء من البلاء إرادة ثوابه إلا صبرتم التماس الأجر فِيهِ عَلَى مثله، وَلا يطلب رضاء اللَّه طالب بشيء من الأشياء ولو أنه القتل إلا طلبتم رضا اللَّه بِهِ إن التقوى أفضل الزاد فِي الدُّنْيَا، وما سوى ذَلِكَ يبور ويفنى، فلتعزف عنها أنفسكم، ولتكن رغبتكم فِي دار عافيتكم، وجهاد عدو اللَّه وعدوكم، وعدو أهل بيت نبيكم
(5/556)
حَتَّى تقدموا عَلَى اللَّه تائبين راغبين، أحيانا اللَّه وإياكم حياة طيبة، وأجارنا وإياكم من النار، وجعل منايانا قتلا فِي سبيله عَلَى يدي أبغض خلقه إِلَيْهِ وأشدهم عداوة لَهُ، إنه القدير عَلَى مَا يشاء، والصانع لأوليائه فِي الأشياء، والسلام عَلَيْكُمْ.
قَالَ: وكتب ابن صرد الكتاب وبعث بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ مع عَبْد اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ، فبعث بِهِ سعد حين قرأ كتابه إِلَى من كَانَ بالمدائن من الشيعة، وَكَانَ بِهَا أقوام من أهل الْكُوفَة قَدْ أعجبتهم فأوطنوها وهم يقدمون الْكُوفَة فِي كل حين عطاء ورزق، فيأخذون حقوقهم، وينصرفون إِلَى أوطانهم، فقرأ عَلَيْهِم سعد كتاب سُلَيْمَان بن صرد ثُمَّ إنه حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنكم قَدْ كنتم مجتمعين مزمعين عَلَى نصر الْحُسَيْن وقتال عدوه، فلم يفجأكم أول من قتله، وَاللَّهِ مثيبكم عَلَى حسن النية وما أجمعتم عَلَيْهِ من النصر أحسن المثوبة، وَقَدْ بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم، ويدعونكم إِلَى الحق وإلى مَا ترجون لكم بِهِ عِنْدَ اللَّه أفضل الأجر والحظ، فماذا ترون؟ وماذا تقولون؟ فَقَالَ القوم بأجمعهم: نجيبهم ونقاتل معهم، ورأينا فِي ذَلِكَ مثل رأيهم.
فقام عَبْد اللَّهِ بن الحنظل الطَّائِيّ ثُمَّ الحزمري، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ أجبنا إخواننا إِلَى مَا دعونا إِلَيْهِ، وَقَدْ رأينا مثل الَّذِي قَدْ رأوا، فسرحني إِلَيْهِم فِي الخيل، فَقَالَ لَهُ: رويدا، لا تعجل، استعدوا للعدو، وأعدوا لَهُ الحرب، ثُمَّ نسير وتسيرون.
وكتب سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد مع عَبْد اللَّهِ بن مالك الطَّائِيّ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، من سعد بن حُذَيْفَة ومن قبله من الْمُؤْمِنِينَ، سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا الَّذِي دعوتنا إِلَيْهِ من الأمر الَّذِي عَلَيْهِ رأي الملأ من إخوانك، فقد هديت لحظك، ويسرت لرشدك، ونحن جادون مجدون، معدون مسرجون ملجمون ننتظر الأمر، ونستمع الداعي، فإذا جَاءَ الصريخ أقبلنا ولم نعرج إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام
(5/557)
فلما قرأ كتابه سُلَيْمَان بن صرد قرأه على اصحابه، فسروا بذلك.
قالوا: وكتب الى المثنى بن مخربه العبدي نسخة الكتاب الَّذِي كَانَ كتب بِهِ إِلَى سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ وبعث بِهِ مع ظبيان بن عمارة التميمي من بني سعد، فكتب إِلَيْهِ المثنى: أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأت كتابك، وأقرأته إخوانك، فحمدوا رأيك، واستجابوا لك، فنحن موافوك إِنْ شَاءَ اللَّهُ للأجل الَّذِي ضربت وفي الموطن الَّذِي ذكرت، والسلام عَلَيْك وكتب فِي أسفل كتابه:
تبصر كأني قَدْ أتيتك معلما ... عَلَى أتلع الهادي اجش هزيم
طويل القرا نهد الشواه مقلص ... ملح عَلَى فأس اللجام أزوم
بكل فتى لا يملأ الروع نحره ... محس لعض الحرب غير سئوم
أخي ثقة ينوي الإله بسعيه ... ضروب بنصل السيف غير أثيم
قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى، عن الْحَارِث بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، قَالَ: كَانَ أول مَا ابتدعوا بِهِ من أمرهم سنة إحدى وستين، وَهِيَ السنة الَّتِي قتل فِيهَا الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فلم يزل القوم فِي جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال، ودعاء الناس فِي السر من الشيعة وغيرها إِلَى الطلب بدم الْحُسَيْن، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر.
فلم يزالوا كذلك وفي ذَلِكَ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة يوم الخميس لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سنة أربع وستين، وَكَانَ بين قتل الْحُسَيْن وهلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام، وهلك يَزِيد وأمير العراق عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وخليفته بالكوفة عَمْرو بن حريث المخزومي، فَجَاءَ إِلَى سُلَيْمَان أَصْحَابه من الشيعة، فَقَالُوا: قَدْ مات هَذَا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا عَلَى عَمْرو بن حريث فأخرجناه من القصر، ثُمَّ أظهرنا الطلب بدم الْحُسَيْن، وتتبعنا قتلته، ودعونا الناس إِلَى أهل هَذَا البيت المستأثر عَلَيْهِم، المدفوعين عن حقهم، فَقَالُوا فِي ذَلِكَ فأكثروا، فَقَالَ لَهُمْ سُلَيْمَان بن صرد: رويدا، لا تعجلوا، إني قَدْ نظرت فِيمَا تذكرون، فرأيت أن قتلة الْحُسَيْن هم أشراف أهل الْكُوفَة، وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا مَا تريدون، وعلموا أَنَّهُمُ المطلوبون، كَانُوا
(5/558)
أشد عَلَيْكُمْ ونظرت فيمن تبعني مِنْكُمْ فعلمت أَنَّهُمْ لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا أنفسهم، ولم ينكوا فِي عدوهم، وكانوا لَهُمْ جزرا، ولكن بثوا دعاتكم فِي المصر، فادعوا إِلَى أمركم هَذَا، شيعتكم وغير شيعتكم، فإني أرجو أن يكون الناس الْيَوْم حَيْثُ هلك هَذَا الطاغية أسرع إِلَى أمركم استجابة مِنْهُمْ قبل هلاكه ففعلوا، وخرجت طائفة مِنْهُمْ دعاة يدعون الناس، فاستجاب لَهُمْ ناس كثير بعد هلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة أضعاف من كَانَ استجاب لَهُمْ قبل ذَلِكَ.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا الحصين بن يَزِيدَ، عن رجل من مزينة قَالَ: مَا رأيت من هَذِهِ الأمة أحدا كَانَ أبلغ من عُبَيْد اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ المري فِي منطق وَلا عظة، وَكَانَ من دعاة أهل المصر زمان سُلَيْمَان بن صرد، وَكَانَ إذا اجتمعت إِلَيْهِ جماعة مِنَ النَّاسِ فوعظهم بدأ بحمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ والصلاة عَلَى رَسُول الله ص، ثُمَّ يقول: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه اصطفى محمدا ص عَلَى خلقه بنبوته، وخصه بالفضل كله، وأعزكم بأتباعه وأكرمكم بالإيمان بِهِ، فحقن بِهِ دماءكم المسفوكة، وأمن بِهِ سبلكم المخوفة، «وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فهل خلق ربكم فِي الأولين والآخرين أعظم حقا عَلَى هَذِهِ الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقا عَلَى هَذِهِ الأمة من ذرية رسولها؟ لا وَاللَّهِ، مَا كَانَ وَلا يكون لِلَّهِ أنتم! ألم تروا ويبلغكم مَا اجترم إِلَى ابن بنت نبيكم! أما رأيتم إِلَى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم إِيَّاهُ بالدم، وتجرارهموه عَلَى الأرض! لم يرقبوا فِيهِ ربهم ولا قرابته من الرسول ص، اتخذوه للنبل غرضا، وغادروه للضباع جزرا، فلله عينا من رَأَى مثله! ولله حُسَيْن بن علي، ماذا غادروا بِهِ ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم! ابن أول الْمُسْلِمِينَ إسلاما، وابن بنت رسول رب العالمين، قلت حماته، وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه، وخذله وليه فويل للقاتل، وملامة
(5/559)
للخاذل! إن اللَّه لم يجعل لقاتله حجة، وَلا لخاذله معذرة، إلا أن يناصح لِلَّهِ فِي التوبة، فيجاهد القاتلين، وينابذ القاسطين، فعسى اللَّه عِنْدَ ذَلِكَ أن يقبل التوبة، ويقيل العثرة، إنا ندعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل بيته، وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عِنْدَ اللَّه خير للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا.
قَالَ: وَكَانَ يعيد هَذَا الكلام علينا فِي كل يوم حَتَّى حفظه عامتنا.
قَالَ: ووثب الناس عَلَى عَمْرو بن حريث عِنْدَ هلاك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فأخرجوه من القصر، واصطلحوا عَلَى عَامِر بن مسعود بن أُمَيَّة بن خلف الْجُمَحِيّ.
وَهُوَ دحروجة الجعل الَّذِي قَالَ لَهُ ابن همام السلولي:
اشدد يديك بزَيْد إن ظفرت بِهِ ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
وَكَانَ كأنه إبهام قصرا، وزَيْد مولاه وخازنه، فكان يصلي بِالنَّاسِ.
وبايع لابن الزُّبَيْر، ولم يزل أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد يدعون شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم حَتَّى كثر تبعهم، وَكَانَ الناس الى اتباعهم بعد هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة أسرع مِنْهُمْ قبل ذَلِكَ، فلما مضت سته اشهر من هلاك يزيد ابن مُعَاوِيَة، قدم المختار بن أبي عبيد الْكُوفَة، فقدم فِي النصف من شهر رمضان يوم الجمعة قَالَ: وقدم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي من قبل عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ أميرا عَلَى الْكُوفَة عَلَى حربها وثغرها، وقدم مَعَهُ من قبل ابن الزُّبَيْر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ الأعرج أميرا على خراج الْكُوفَة، وَكَانَ قدوم عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الخطمي يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين.
قَالَ: وقدم المختار قبل عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بثمانية أيام، ودخل المختار الْكُوفَة، وَقَدِ اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سُلَيْمَان بن صرد فليس يعدلونه بِهِ، فكان المختار إذا دعاهم إِلَى نفسه وإلى الطلب بدم الْحُسَيْن قالت لَهُ الشيعة: هَذَا سُلَيْمَان بن صرد شيخ الشيعة، قَدِ انقادوا لَهُ واجتمعوا
(5/560)
عَلَيْهِ، فأخذ يقول للشيعة: إني قَدْ جئتكم من قبل المهدي مُحَمَّد بن عَلِيّ ابن الحنفيه مؤتمنا مأمونا، منتجبا ووزيرا، فو الله مَا زال بالشيعة حَتَّى انشعبت إِلَيْهِ طائفة تعظمه وتجيبه، وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان ابن صرد، فسُلَيْمَان أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار.
وَكَانَ المختار يقول لأَصْحَابه: أتدرون مَا يريد هَذَا؟ يعني سُلَيْمَان بن صرد- إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس لَهُ بصر بالحروب، وَلا لَهُ علم بِهَا.
قَالَ: وأتى يَزِيد بن الْحَارِث بن يَزِيدَ بن رويم الشيباني عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ فَقَالَ: إن الناس يتحدثون أن هَذِهِ الشيعة خارجة عَلَيْك مع ابن صرد، ومنهم طائفة أخرى مع المختار، وَهِيَ أقل الطائفتين عددا، والمختار فِيمَا يذكر الناس لا يريد أن يخرج حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان بن صرد، وَقَدِ اجتمع لَهُ أمره، وَهُوَ خارج من أيامه هَذِهِ، فإن رأيت أن تجمع الشرط والمقاتلة ووجوه الناس، ثُمَّ تنهض إِلَيْهِم، وننهض معك، فإذا دفعت الى منزله دعوته، فان أجابك فحسبه، وإن قاتلك قاتلته، وَقَدْ جمعت لَهُ وعبأت وَهُوَ مغتر، فإني أخاف عَلَيْك إن هُوَ بدأك وأقررته حَتَّى يخرج عَلَيْك أن تشتد شوكته، وأن يتفاقم أمره.
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: اللَّه بيننا وبينهم، إن هم قاتلونا قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم، حَدِّثْنِي مَا يريد الناس؟ قَالَ: يذكر الناس أَنَّهُمْ يطلبون بدم الْحُسَيْن بن علي، قَالَ: فأنا قتلت الْحُسَيْن! لعن اللَّه قاتل الْحُسَيْن! قَالَ: وَكَانَ سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، فخرج عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ حَتَّى صعد الْمِنْبَر، ثُمَّ قام فِي الناس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني أن طائفة من أهل هَذَا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الَّذِي دعاهم إِلَى ذَلِكَ مَا هُوَ؟ فقيل لي: زعموا أَنَّهُمْ يطلبون بدم الْحُسَيْن بن علي، فرحم اللَّه هَؤُلاءِ القوم، قَدْ وَاللَّهِ دللت على أماكنهم، وامرت بأخذهم، وقيل: ابداهم قبل
(5/561)
أن يبدءوك، فأبيت ذَلِكَ، فقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم، وعلام يقاتلونني! فو الله مَا أنا قتلت حسينا، وَلا أنا ممن قاتله، وَلَقَدْ أصبت بمقتله رحمة اللَّه عَلَيْهِ! فإن هَؤُلاءِ القوم آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إِلَى من قاتل الْحُسَيْن، فقد أقبل إِلَيْهِم، وأنا لَهُمْ عَلَى قاتله ظهير، هَذَا ابن زياد قاتل الْحُسَيْن، وقاتل خياركم وأماثلكم، قَدْ توجه إليكم، عهد العاهد بِهِ عَلَى مسيرة ليلة من جسر منبج، فقتاله والاستعداد لَهُ أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضا، ويسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم ذَلِكَ العدو غدا وَقَدْ رققتم، وتلك وَاللَّهِ أمنية عدوكم، وإنه قَدْ أقبل إليكم أعدى خلق اللَّه لكم، من ولي عَلَيْكُمْ هُوَ وأبوه سبع سنين، لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هُوَ الَّذِي قتلكم، ومن قبله اتيتم، والذي قتل من تثأرون بدمه، قَدْ جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها بِهِ، وَلا تجعلوها بأنفسكم، إني لم آلكم نصحا، جمع اللَّه لنا كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا! قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة: أَيُّهَا النَّاسُ، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هَذَا المداهن الموادع، وَاللَّهِ لَئِنْ خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استقينا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده، ولنأخذن الحميم بالحميم، والعريف بِمَا فِي عرافته حَتَّى يدينوا للحق، ويذلوا للطاعة فوثب إِلَيْهِ المسيب بن نجبة فقطع عَلَيْهِ منطقه ثُمَّ قَالَ: يا بن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت وَاللَّهِ أذل من ذَلِكَ، إنا لا نلومك عَلَى بغضنا، وَقَدْ قتلنا أباك وجدك، وَاللَّهِ إني لأرجو الا يخرجك اللَّه من بين ظهراني أهل هَذَا المصر حَتَّى يثلثوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا، وإني وَاللَّهِ لأظن من يريد هَذَا الأمر مستنصحا لك، وقابلا قولك.
فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة: إي وَاللَّهِ، ليقتلن وَقَدْ أدهن ثُمَّ أعلن
(5/562)
فقام إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي، فَقَالَ: مَا اعتراضك يَا أخا بني تيم بن مره فيما بيننا وبين أميرنا! فو الله مَا أنت علينا بأمير، وَلا لك علينا سلطان، إنما أنت أَمِير الجزية، فأقبل عَلَى خراجك، فلعمر اللَّه لَئِنْ كنت مفسدا مَا أفسد أمر هَذِهِ الأمة إلا والدك وجدك الناكثان، فكانت بهما اليدان، وكانت عليهما دائرة السوء قَالَ: ثُمَّ أقبل مسيب بن نجبة وعبد اللَّه بن وال عَلَى عَبْد اللَّهِ بن يزيد فقالا: اما رأيك ايها الأمير فو الله إنا لنرجو أن تكون بِهِ عِنْدَ العامة محمودا وأن تكون عِنْدَ الَّذِي عنيت واعتريت مقبولا فغضب أناس من عمال إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة وجماعة ممن كَانَ مَعَهُ، فتشاتموا دونه، فشتمهم الناس وخصموهم.
فلما سمع ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ نزل ودخل، وانطلق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدٍ وَهُوَ يقول: قَدْ داهن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ أهل الْكُوفَة، وَاللَّهِ لأكتبن بِذَلِكَ إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فأتى شبث بن ربعي التميمي عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ فأخبره بِذَلِكَ، فركب بِهِ وبيزيد بن الْحَارِث بن رويم حَتَّى دخل عَلَى إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة، فحلف لَهُ بِاللَّهِ مَا أردت بالقول الَّذِي سمعت إلا العافية وصلاح ذات البين، إنما أتاني يَزِيد بن الْحَارِث بكذا وكذا، فرأيت أن اقوم فيهم بما سمعت اراده الا تختلف الكلمة، وَلا تتفرق الألفة، وألا يقع بأس هَؤُلاءِ القوم بينهم فعذره وقبل مِنْهُ.
قَالَ: ثُمَّ إن أَصْحَاب سُلَيْمَان بن صرد خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين، ويتجهزون يجاهرون بجهازهم وما يصلحهم
. ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن الزبير
وفي هَذِهِ السنة فارق عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الخوارج الَّذِينَ كَانُوا قدموا عَلَيْهِ مكة، فقاتلوا مَعَهُ حصين بن نمير السكوني، فصاروا إِلَى الْبَصْرَة، ثُمَّ افترقت كلمتهم فصاروا أحزابا
(5/563)
ذكر الخبر عن فراقهم ابن الزُّبَيْر والسبب الَّذِي من أجله فارقوه والذي من أجله افترقت كلمتهم:
حدثت عن هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي، عن أبي مخنف لوط بن يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو المخارق الراسبي، قَالَ: لما ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال مَا ركب، وَقَدْ كَانَ قبل ذَلِكَ لا يكف عَنْهُمْ وَلا يستبقيهم غير أنه بعد قتل أبي بلال تجرد لاستئصالهم وهلاكهم، واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزُّبَيْر بمكة، وسار اليه اهل الشام، فتذاكروا أتى إِلَيْهِم، فَقَالَ لَهُمْ نافع بن الأزرق: إن اللَّه قَدْ أنزل عَلَيْكُمُ الكتاب، وفرض عَلَيْكُمْ فِيهِ الجهاد، واحتج عَلَيْكُمْ بالبيان، وَقَدْ جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولو العدا والغشم، وهذا من قَدْ ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هَذَا الرجل، فإن يكن عَلَى رأينا جاهدنا مَعَهُ العدو، وإن يكن عَلَى غير رأينا دافعنا عن البيت مَا استطعنا، ونظرنا بعد ذَلِكَ فِي أمورنا فخرجوا حتى قدموا على عبد الله ابن الزبير، فسر بمقدمهم، ونبأهم أنه عَلَى رأيهم، وأعطاهم الرضا مِنْ غَيْرِ توقف وَلا تفتيش، فقاتلوا مَعَهُ حَتَّى مات يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانصرف أهل الشام عن مكة ثُمَّ إن القوم لقي بعضهم بعضا، فَقَالُوا: إن هَذَا الَّذِي صنعتم أمس بغير رأي وَلا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس عَلَى رأيكم، إنما كَانَ أمس يقاتلكم هُوَ وأبوه ينادي: يال ثأرات عُثْمَان! فأتوه وسلوه عن عُثْمَان، فإن برئ مِنْهُ كَانَ وليكم، وإن أبى كَانَ عدوكم.
فمشوا نحوه فَقَالُوا لَهُ: أيها الإنسان، إنا قَدْ قاتلنا معك، ولم نفتشك عن رأيك حَتَّى نعلم أمنا أنت أم من عدونا! خبرنا مَا مقالتك فِي عُثْمَان؟ فنظر فإذا من حوله من أَصْحَابه قليل، فَقَالَ لَهُمْ: إنكم أتيتموني فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حَتَّى أعلمكم من ذَلِكَ الَّذِي تريدون.
فانصرفوا، وبعث إِلَى أَصْحَابه فَقَالَ: البسوا السلاح، وأحضروني بأجمعكم العشية، ففعلوا، وجاءت الخوارج، وَقَدْ أقام أَصْحَابه حوله سماطين عليهم
(5/564)
السلاح، وقامت جماعة مِنْهُمْ عظيمة عَلَى رأسه بأيديهم الأعمدة، فَقَالَ ابن الأزرق لأَصْحَابه: خشي الرجل غائلتكم، وَقَدْ أزمع بخلافكم واستعد لكم، مَا ترون؟
فدنا مِنْهُ ابن الأزرق، فَقَالَ له: يا بن الزُّبَيْر، اتق اللَّه ربك، وأبغض الخائن المستأثر، وعاد أول من سن الضلالة، وأحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، فإنك إن تفعل ذَلِكَ ترض ربك، وتنج من العذاب الأليم نفسك، وإن تركت ذَلِكَ فأنت من الَّذِينَ استمتعوا بِخَلاقِهِمْ، وأذهبوا فِي الحياة الدُّنْيَا طيباتهم.
يَا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن مَعَهُ أمرنا الَّذِي نحن عَلَيْهِ، والذي ندعو الناس إِلَيْهِ، فتقدم عبيدة بن هلال.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَلْقَمَة الخثعمى، عن قبيصة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ القحافي، من خثعم، قَالَ: أنا وَاللَّهِ شاهد عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقا قط ينطق كَانَ أبلغ وَلا أصوب قولا مِنْهُ، وَكَانَ يرى رأي الخوارج.
قَالَ: وإن كَانَ ليجمع القول الكثير، فِي المعنى الخطير، فِي اللفظ اليسير.
قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه بعث محمدا ص يدعو إِلَى عبادة اللَّه، وإخلاص الدين، فدعا إِلَى ذَلِكَ، فأجابه الْمُسْلِمُونَ، فعمل فِيهِمْ بكتاب الله وامره، حتى قبضه الله اليه ص، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أَبُو بَكْر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رَسُول اللَّهِ، فالحمد لِلَّهِ رب العالمين ثُمَّ إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمى الاحماء، وآثر القربى، وَاسْتَعْمَلَ الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وحقر المسلم
(5/565)
وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول ص، وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم ثُمَّ أخذ فيء اللَّه الَّذِي أفاءه عَلَيْهِم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إِلَيْهِ طائفة مِنَ الْمُسْلِمِينَ أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، لا يبالون فِي اللَّه لومة لائم، فقتلوه، فنحن لَهُمْ أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يا بن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ ابن الزُّبَيْر وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت الذى ذكرتم، وذكرت به النبي ص، فهو كما قلت صلى الله عليه وفوق مَا وصفته، وفهمت مَا ذكرت بِهِ أبا بكر وعمر، وَقَدْ وفقت وأصبت، وَقَدْ فهمت الَّذِي ذكرت بِهِ عُثْمَان بن عَفَّانَ رحمة اللَّه عَلَيْهِ، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق اللَّه الْيَوْم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت مَعَهُ حَيْثُ نقم القوم عَلَيْهِ، واستعتبوه فلم يدع شَيْئًا استعتبه القوم فِيهِ إلا أعتبهم مِنْهُ ثُمَّ إِنَّهُمْ رجعوا إِلَيْهِ بكتاب لَهُ يزعمون أنه كتبه فِيهِمْ، يأمر فِيهِ بقتلهم فَقَالَ لَهُمْ: مَا كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم، فو الله مَا جاءوه ببينة، وَلا استحلفوه ووثبوا عَلَيْهِ فقتلوه، وَقَدْ سمعت مَا عبته بِهِ، فليس كذلك، بل هُوَ لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني ولي لابن عفان فِي الدُّنْيَا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه، قَالُوا: فبرئ اللَّه مِنْكَ يَا عدو اللَّه، قَالَ: فبرئ اللَّه مِنْكُمْ يَا أعداء اللَّه.
وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد اللَّه بن صفار السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد اللَّه بن إباض أَيْضًا من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عَبْد اللَّهِ، وعبيد اللَّه، وَالزُّبَيْر، من بنى سليط ابن يربوع، حَتَّى أتوا الْبَصْرَة، وانطلق أَبُو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن عَلِيّ بن مالك بن بكر بن وائل وعبد اللَّه بن ثور أَبُو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن الأَسْوَدِ اليشكري إِلَى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثُمَّ أجمعوا بعد ذَلِكَ عَلَى نجده ابن عَامِر الحنفي، فأما الْبَصْرِيُّونَ
(5/566)
مِنْهُمْ فإنهم قدموا الْبَصْرَة وهم مجمعون عَلَى رأي أبي بلال.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف لوط بن يَحْيَى: فَحَدَّثَنِي أَبُو المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل الْبَصْرَة، أَنَّهُمُ اجتمعوا فَقَالَتِ العامة مِنْهُمْ: لو خرج منا خارجون فِي سبيل اللَّه، فقد كَانَتْ منا فترة منذ خرج أَصْحَابنا، فيقوم علماؤنا فِي الأرض فيكونون مصابيح الناس يدعونهم إِلَى الدين، ويخرج أهل الورع والاجتهاد فيلحقون بالرب، فيكونون شهداء مرزوقين عِنْدَ اللَّه أحياء.
فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلاثمائة رجل، فخرج، وَذَلِكَ عِنْدَ وثوب الناس بعبيد اللَّه بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس فِي دم مسعود بن عَمْرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل الْبَصْرَة عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِث بْن عبد المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إِلَى الشام، واصطلحت الأزد وبنو تميم، فتجرد الناس للخوارج، فأتبعوهم وأخافوهم حَتَّى خرج من بقي مِنْهُمْ بِالْبَصْرَةِ، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلا مِنْهُمْ ممن لَمْ يَكُنْ أراد الخروج يومه ذَلِكَ، مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن صفار، وعبد الله ابن إباض، ورجال مَعَهُمَا عَلَى رأيهما ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن ولاية من تخلف عنه لا تنبغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة لَهُ، فَقَالَ لأَصْحَابه: إن اللَّه قَدْ أكرمكم بمخرجكم، وبصركم مَا عمي عنه غيركم، ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فَقَالُوا: بلى، فَقَالَ: أليس حكمكم فِي وليكم حكم النَّبِيّ ص فِي وليه، وحكمكم فِي عدوكم حكم النَّبِيّ ص فِي عدوه، وعدوكم الْيَوْم عدو اللَّه وعدو النبي ص، كما ان عدو النبي ص يَوْمَئِذٍ هُوَ عدو اللَّه وعدوكم الْيَوْم! فَقَالُوا: نعم، قَالَ: فقد أنزل اللَّه تبارك وتعالى:
«بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»
(5/567)
وقال: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» ، فقد حرم اللَّه ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عَنْهُمْ، ومناكحتهم، ومواريثهم، وَقَدِ احتج اللَّه علينا بمعرفة هَذَا، وحق علينا أن نعلم هَذَا الدين الَّذِينَ خرجنا من عندهم، وَلا نكتم مَا أنزل اللَّه، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» ، فاستجاب لَهُ إِلَى هَذَا الرأي جميع أَصْحَابه.
فكتب: من عبيد اللَّهِ نافع بن الأزرق إِلَى عَبْد اللَّهِ بن صفار وعبد الله ابن إباض ومن قبلهما مِنَ النَّاسِ سلام عَلَى أهل طاعة اللَّه من عباد اللَّه، فإن من الأمر كيت وكيت، فقص هَذِهِ القصة، ووصف هَذِهِ الصفة، ثُمَّ بعث بالكتاب إليهما فأتيا بِهِ، فقرأه عَبْد اللَّهِ بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه عَلَى الناس خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن إباض: مَا لك لِلَّهِ أبوك! اى شيء اصبت! اان قَدْ أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب إِلَيْهِ، فقرأه، فَقَالَ: قاتله اللَّه!، أي راى راى! صدق نافع ابن الأزرق، لو كَانَ القوم مشركين كَانَ أصوب الناس رأيا وحكما فِيمَا يشير بِهِ، وكانت سيرته كسيره النبي ص فِي المشركين، ولكنه قَدْ كذب وكذبنا فِيمَا يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من الشرك، وَلا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذَلِكَ من أموالهم فهو علينا حرام، فقال ابن صفار: برئ اللَّه مِنْكَ، فقد قصرت، وبرئ اللَّه من ابن الأزرق فقد غلا، برئ اللَّه منكما جميعا، وَقَالَ الآخر:
فبرئ اللَّه مِنْكَ ومنه.
وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل
(5/568)
نحو الْبَصْرَة حَتَّى دنا من الجسر، فبعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث مسلم بن عبيس بن كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف فِي اهل البصره
. ذكر الخبر عن مقدم المختار بن ابى عبيد الكوفه
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي النصف من شهر رمضان من هَذِهِ السنة كَانَ مقدم المختار بن أبي عبيد الْكُوفَة.
ذكر الخبر عن سبب مقدمه إِلَيْهَا:
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي: قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ النضر بن صالح:
كَانَتِ الشيعة تشتم المختار وتعتبه لما كَانَ مِنْهُ فِي أمر الْحَسَن بن علي يوم طعن فِي مظلم ساباط، فحمل إِلَى أبيض المدائن، حَتَّى إذا كَانَ زمن الْحُسَيْن، وبعث الْحُسَيْن مسلم بن عقيل إِلَى الْكُوفَةِ، نزل دار المختار، وَهِيَ الْيَوْم دار سلم بن المسيب، فبايعه المختار بن أبي عبيد فيمن بايعه من أهل الْكُوفَة، وناصحه ودعا إِلَيْهِ من أطاعه، حَتَّى خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار فِي قرية لَهُ بخطرنية تدعى لقفا، فجاءه خبر ابن عقيل عِنْدَ الظهر أنه قَدْ ظهر بالكوفة، فلم يكن خروجه يوم خرج عَلَى ميعاد من أَصْحَابه، إنما خرج حين قيل لَهُ: إن هانئ بن عروة المرادي قَدْ ضرب وحبس، فأقبل المختار فِي موال لَهُ حَتَّى انتهى إِلَى باب الفيل بعد الغروب، وَقَدْ عقد عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لعمرو بن حريث راية عَلَى جميع الناس، وأمره أن يقعد لَهُمْ في المسجد، فلما كان المختار وقف عَلَى باب الفيل مر بِهِ هانئ بن أبي حية الوادعي، فَقَالَ للمختار: مَا وقوفك هاهنا! لا أنت مع الناس، وَلا
(5/569)
أنت فِي رحلك، قَالَ: أصبح رأيي مرتجا لعظم خطيئتكم، فَقَالَ لَهُ: أظنك وَاللَّهِ قاتلا نفسك، ثُمَّ دخل عَلَى عَمْرو بن حريث فأخبره بِمَا قَالَ للمختار وما رد عَلَيْهِ المختار.
قَالَ أَبُو مخنف: فأخبرني النضر بن صالح، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمير الثقفي، قَالَ: كنت جالسا عِنْدَ عَمْرو بن حريث حين بلغه هانئ بن أبي حية عن المختار هَذِهِ المقالة، فَقَالَ لي: قم إِلَى ابن عمك فأخبره أن صاحبه لا يدري أين هُوَ! فلا يجعلن عَلَى نفسه سبيلا، فقمت لآتيه، ووثب إِلَيْهِ زائدة بن قدامة بن مسعود، فَقَالَ لَهُ: يأتيك عَلَى أنه آمن؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن حريث:
أما مني فهو آمن، وإن رقي إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد شَيْء من أمره أقمت لَهُ بمحضره الشهادة، وشفعت لَهُ أحسن الشفاعة، فَقَالَ لَهُ زائدة بن قدامة:
لا يكونن مع هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إلا خير.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فخرجت، وخرج معي زائدة إِلَى المختار، فأخبرناه بمقالة ابن أبي حية وبمقالة عَمْرو بن حريث، وناشدناه بالله الا يجعل عَلَى نفسه سبيلا، فنزل إِلَى ابن حريث، فسلم عَلَيْهِ، وجلس تحت رايته حَتَّى أصبح، وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط بِذَلِكَ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فذكر لَهُ، فلما ارتفع النهار فتح باب عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد وأذن لِلنَّاسِ، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أنت المقبل فِي الجموع لتنصر ابن عقيل! فَقَالَ لَهُ: لم أفعل، ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عَمْرو بن حريث، وبت مَعَهُ وأصبحت، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: صدق أصلحك اللَّه! قَالَ: فرفع القضيب، فاعترض بِهِ وجه المختار فخبط بِهِ عينه فشترها وَقَالَ: أولى لك! أما وَاللَّهِ لولا شهادة عَمْرو لك لضربت عنقك، انطلقوا به الى السجن فانطلقوا به الى فحبس فيه فلم يزل فِي السجن حَتَّى قتل الْحُسَيْن ثُمَّ إن المختار بعث إِلَى زائدة بن قدامة، فسأله أن يسير إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ فيسأله أن يكتب لَهُ إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فيكتب
(5/570)
إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فقدم عَلَيْهِ، فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها وَهِيَ تحت عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ، فبكت وجزعت، فلما رَأَى ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ كتب مع زائدة إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: أَمَّا بَعْدُ، فإن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد حبس المختار، وَهُوَ صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت رحمنا اللَّه وإياك أن تكتب إِلَى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت.
والسلام عَلَيْك.
فمضى زائدة عَلَى رواحله بالكتاب حَتَّى قدم بِهِ عَلَى يَزِيد بِالشَّامِ، فلما قرأه ضحك ثُمَّ قَالَ: يشفع أَبُو عبد الرَّحْمَن، وأهل ذَلِكَ هُوَ فكتب لَهُ إِلَى ابن زياد: أَمَّا بَعْدُ، فخل سبيل المختار بن أبي عبيد حين تنظر فِي كتابي، والسلام عَلَيْك.
فأقبل بِهِ زائدة حَتَّى دفعه، فدعا ابن زياد بالمختار، فأخرجه، ثُمَّ قَالَ لَهُ قَدْ أجلتك ثلاثا، فإن أدركتك بالكوفه بعدها قد برئت مِنْكَ الذمة.
فخرج إِلَى رحله وَقَالَ ابن زياد: وَاللَّهِ لقد اجترأ علي زائدة حين يرحل إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يأتيني بالكتاب فِي تخلية رجل قَدْ كَانَ من شأني أن أطيل حبسه، علي بِهِ فمر بِهِ عَمْرو بن نافع أَبُو عُثْمَان- كاتب لابن زياد- وَهُوَ يطلب، وَقَالَ لَهُ: النجاء بنفسك، واذكرها يدا لي عندك.
قَالَ: فخرج زائدة، فتوارى يومه ذَلِكَ ثُمَّ إنه خرج فِي أناس من قومه حَتَّى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسلم بن عَمْرو الباهلي، فأخذا لَهُ من ابن زياد الأمان.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ولما كَانَ الْيَوْم الثالث خرج المختار إِلَى الحجاز، قَالَ: فَحَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، مولى لثقيف.
قَالَ: أقبلت من الحجاز حَتَّى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة استقبلت المختار بن أبي عبيد خارجا يريد الحجاز حين خلى سبيله ابن زياد، فلما استقبلته رحبت بِهِ، وعطفت إِلَيْهِ، فلما رأيت شتر عينه استرجعت لَهُ، وقلت لَهُ بعد ما توجعت لَهُ: مَا بال عينك، صرف اللَّه عنك السوء!
(5/571)
فَقَالَ: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطة صارت إِلَى مَا ترى فقلت لَهُ: مَا لَهُ شلت أنامله! فَقَالَ المختار: قتلني اللَّه ان لم اقطع أنامله واباجله وأعضائه إربا إربا، قَالَ: فعجبت لمقالته، فقلت لَهُ: مَا علمك بِذَلِكَ رحمك اللَّه؟ فَقَالَ لي: مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه.
قَالَ: ثُمَّ طفق يسألني عن عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فقلت لَهُ: لجأ إِلَى البيت، فَقَالَ: إنما أنا عائذ برب هَذِهِ البنية، والناس يتحدثون أنه يبايع سرا، وَلا أراه إلا لو قَدِ اشتدت شوكته واستكثف من الرجال إلا سيظهر الخلاف، قَالَ: أجل، لا شك فِي ذَلِكَ، أما إنه رجل العرب الْيَوْم، أما إنه إن يخطط فِي أثري، ويسمع قولي أكفه أمر الناس، وإلا يفعل فو الله ما انا بدون احد من العرب، يا بن العرق، إن الْفِتْنَة قَدْ أرعدت وأبرقت، وكأن قَدِ انبعثت فوطئت فِي خطامها، فإذا رأيت ذَلِكَ وسمعت بِهِ بمكان قَدْ ظهرت فِيهِ فقل: إن المختار فِي عصائبه مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف، سيد المسلمين، وابن سيدها، الحسين ابن على، فو ربك لأقتلن بقتله عدة القتلى الَّتِي قتلت عَلَى دم يحيى بن زكرياء ع، قَالَ: فقلت لَهُ: سبحان اللَّه! وهذه أعجوبة مع الأحدوثة الأولى، فَقَالَ: هُوَ مَا أقول لك فاحفظه عني حَتَّى ترى مصداقه.
ثُمَّ حرك راحلته، فمضى ومضيت مَعَهُ ساعة أدعو اللَّه لَهُ بالسلامة، وحسن الصحابة قَالَ: ثُمَّ إنه وقف فأقسم علي لما انصرفت، فأخذت بيده! فودعته، وَسَلَّمَت عَلَيْهِ، وانصرفت عنه، فقلت فِي نفسي: هَذَا الَّذِي يذكر لي هَذَا الإنسان، - يعني المختار- مما يزعم أنه كائن، اشيء حدث به نفسه! فو الله مَا أطلع اللَّه عَلَى الغيب أحدا، وإنما هُوَ شَيْء يتمناه فيرى أنه كائن، فهو يوجب رايه، فهذا والله الرأي الشعاع، فو الله مَا كل مَا يرى الإنسان أنه كائن يكون، قال: فو الله مَا مت حَتَّى رأيت كل مَا قاله قال: فو الله
(5/572)
لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ من علم ألقى إِلَيْهِ لقد أثبت لَهُ، ولئن كَانَ ذَلِكَ رأيا رآه، وشيئا تمناه، لقد كَانَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عن ابن العرق، قَالَ:
فحدثت بهذا الحديث الحجاج بن يُوسُفَ، فضحك ثُمَّ قَالَ لي: إنه كَانَ يقول أيضا:
ورافعه ذيلها ... وداعية ويلها
بدجلة أو حولها
فقلت لَهُ: أترى هَذَا شَيْئًا كَانَ يخترعه، وتخرصا يتخرصه، أم هُوَ من علم كَانَ أوتيه؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أدري مَا هَذَا الَّذِي تسألني عنه، ولكن لِلَّهِ دره! أي رجل دينا، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كَانَ! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو سيف الأَنْصَارِيّ من بني الخزرج، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: قدم المختار علينا مكة، فَجَاءَ الى عبد الله ابن الزُّبَيْرِ وأنا جالس عنده، فسلم عَلَيْهِ، فرد عَلَيْهِ ابن الزُّبَيْر، ورحب بِهِ، وأوسع لَهُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عن حال الناس بالكوفة يَا أَبَا إِسْحَاق، قَالَ:
هم لسلطانهم فِي العلانية أولياء، وفي السر أعداء، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: هَذِهِ صفة عبيد السوء، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، فإذا غابوا عَنْهُمْ شتموهم ولعنوهم، قَالَ: فجلس معنا ساعة، ثُمَّ إنه مال إِلَى ابن الزُّبَيْر كأنه يساره، فَقَالَ لَهُ: مَا تنتظر! ابسط يدك أبايعك، وأعطنا مَا يرضينا، وثب عَلَى الحجاز فإن أهل الحجاز كلهم معك وقام المختار فخرج، فلم ير حولا، ثُمَّ إني بينا أنا جالس مع ابن الزُّبَيْر إذ قَالَ لي ابن الزُّبَيْر: متى عهدك بالمختار بن أبي عبيد؟ فقلت لَهُ: مَا لي بِهِ عهد منذ رأيته عندك عاما أول، فَقَالَ: أين تراه ذهب! لو كان بمكة، لقد رئى بِهَا بعد، فقلت لَهُ:
إني انصرفت إِلَى الْمَدِينَة بعد إذ رأيته عندك بشهر أو شهرين، فلبثت بِالْمَدِينَةِ أشهرا، ثُمَّ إني قدمت عَلَيْك، فسمعت نفرا من أهل الطائف جاءوا معتمرين
(5/573)
يزعمون أنه قدم عَلَيْهِم الطائف، وَهُوَ يزعم أنه صاحب الغضب، ومبير الجبارين، قَالَ: قاتله اللَّه! لقد انبعث كذابا متكهنا، إن اللَّه ان يهلك الجبارين يكن المختار احدهم فو الله مَا كَانَ إلا ريث فراغنا من منطقنا حَتَّى عن لنا فِي جانب المسجد، فَقَالَ ابن الزُّبَيْر: اذكر غائبا تره، أين تظنه يهوي؟ فقلت: أظنه يريد البيت، فأتى البيت فاستقبل الحجر، ثُمَّ طاف بالبيت أسبوعا، ثُمَّ صلى ركعتين عِنْدَ الحجر، ثُمَّ جلس، فما لبث أن مر بِهِ رجال من معارفه من أهل الطائف وغيرهم من أهل الحجاز، فجلسوا إِلَيْهِ، واستبطأ ابن الزُّبَيْر قيامه إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا ترى شأنه لا يأتينا! قلت: لا ادرى، وساعلم لك علمه، فقال: مَا شئت، وكأن ذَلِكَ أعجبه.
قَالَ: فقمت فمررت بِهِ كأني أريد الخروج من المسجد، ثُمَّ التفت إِلَيْهِ، فأقبلت نحوه ثُمَّ سلمت عَلَيْهِ، ثُمَّ جلست إِلَيْهِ، وأخذت بيده، فقلت له:
اين كنت؟ واين بلغت بعدي؟ أبا لطائف كنت؟ فَقَالَ لي: كنت بالطائف وغير الطائف، وعمس علي أمره، فملت إِلَيْهِ، فناجيته، فقلت لَهُ: مثلك يغيب عن مثل مَا قَدِ اجتمع عَلَيْهِ أهل الشرف وبيوتات العرب من قريش والأنصار وثقيف! لم يبق أهل بيت وَلا قبيلة إلا وَقَدْ جَاءَ زعيمهم وعميدهم فبايع هَذَا الرجل، فعجبا لك ولرأيك أَلا تكون أتيته فبايعته، وأخذت بحظك من هَذَا الأمر! فَقَالَ لي: وما رأيتني؟ أتيته العام الماضي، فأشرت عَلَيْهِ بالرأي، فطوى أمره دوني، وإني لما رأيته استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغن عنه، إنه وَاللَّهِ لهو أحوج إلي مني إِلَيْهِ، فقلت لَهُ: إنك كلمته بِالَّذِي كلمته وَهُوَ ظاهر فِي المسجد، وهذا الكلام لا ينبغي أن يكون إلا والستور دونه مرخاة والأبواب دونه مغلقة، القه الليلة إن شئت وأنا معك، فَقَالَ لي: فانى فاعل
(5/574)
إذا صلينا العتمة أتيناه، واتعدنا الحجر.
قَالَ: فنهضت من عنده، فخرجت ثُمَّ رجعت إِلَى ابن الزُّبَيْر، فأخبرته بِمَا كَانَ من قولي وقوله، فسر بِذَلِكَ، فلما صلينا العتمة، التقينا بالحجر، ثُمَّ خرجنا حَتَّى أتينا منزل ابن الزُّبَيْر، فاستأذنا عَلَيْهِ، فأذن لنا، فقلت:
أخليكما؟ فقالا جميعا: لا سر دونك، فجلست، فإذا ابن الزُّبَيْر قَدْ أخذ بيده، فصافحه ورحب بِهِ، فسأله عن حاله وأهل بيته، وسكتا جميعا غير طويل.
فَقَالَ لَهُ المختار وأنا أسمع بعد أن تبدأ فِي أول منطقه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنه لا خير فِي الإكثار من المنطق، وَلا فِي التقصير عن الحاجة، إني قَدْ جئتك لأبايعك على أَلا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون فِي أول من تأذن لَهُ، وإذا ظهرت استعنت بي عَلَى أفضل عملك فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: أبايعك عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه ص، فَقَالَ: وشر غلماني أنت مبايعه عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لي فِي هَذَا الأمر من الحظ مَا ليس لأقصى الخلق مِنْكَ، لا وَاللَّهِ لا أبايعك أبدا إلا عَلَى هَذِهِ الخصال.
قَالَ عباس بن سهل: فالتقمت أذن ابن الزُّبَيْر، فقلت لَهُ: اشتر مِنْهُ دينه حَتَّى ترى من رأيك، فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: فإن لك مَا سألته، فبسط يده فبايعه، ومكث مَعَهُ حَتَّى شاهد الحصار الأول حين قدم الحصين بن نمير السكوني مكة، فقاتل فِي ذَلِكَ الْيَوْم، فكان من أحسن الناس يَوْمَئِذٍ بلاء، وأعظمهم غناء فلما قتل المنذر بن الزُّبَيْرِ والمسور بن مخرمة ومُصْعَب بن عبد الرحمن ابن عوف الزُّهْرِيّ، نادى المختار: يَا أهل الإِسْلام، الى الى! انا ابن ابى عبيد ابن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين، إلي يَا أهل الحفاظ وحماة الأوتار فحمى الناس يَوْمَئِذٍ، وأبلى وقاتل قتالا حسنا
(5/575)
ثُمَّ أقام مع ابن الزُّبَيْر فِي ذَلِكَ الحصار حَتَّى كَانَ يوم أحرق البيت، فإنه أحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فقاتل المختار يومئذ في عصابه معه نحو من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد مِنَ النَّاسِ، إن كَانَ ليقاتل حَتَّى يتبلد، ثُمَّ يجلس ويحيط بِهِ أَصْحَابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كَانَ يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلا ضاربهم حَتَّى يكشفهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف مُحَمَّد بن ثابط، عن عباس بن سَهْل بن سَعْدٍ، قَالَ: تولى قتال أهل الشام يوم تحريق الكعبة عَبْد اللَّهِ بن مطيع وأنا والمختار، قَالَ: فما كَانَ فينا يَوْمَئِذٍ رجل أحسن بلاء من المختار.
قَالَ: وقاتل قبل أن يطلع أهل الشام عَلَى موت يَزِيد بن مُعَاوِيَة بيوم قتالا شديدا، وَذَلِكَ يوم الأحد لخمس عشرة ليلة مضت من ربيع الآخر سنة أربع وستين، وَكَانَ أهل الشام قَدْ رجوا أن يظفروا بنا، وأخذوا علينا سكك مكة.
قَالَ: وخرج ابن الزُّبَيْر، فبايعه رجال كثير عَلَى الموت، قَالَ:
فخرجت فِي عصابة معي أقاتل فِي جانب، والمختار فِي عصابة أخرى يقاتل فِي جميعة من أهل اليمامة فِي جانب، وهم خوارج، وانما قاتلوا ليدفعوا عن البيت، فهم فِي جانب، وعبد اللَّه بن المطيع فِي جانب.
قَالَ: فشد أهل الشام علي، فحازوني فِي أَصْحَابي حَتَّى اجتمعت أنا والمختار وأَصْحَابه فِي مكان واحد، فلم أكن أصنع شَيْئًا إلا صنع مثله، وَلا يصنع شَيْئًا إلا تكلفت أن أصنع مثله، فما رأيت أشد مِنْهُ قط، قَالَ: فإنا لنقاتل إذ شدت علينا رجال وخيل من خيل أهل الشام، فاضطروني وإياه فِي نحو من سبعين رجلا من أهل الصبر إِلَى جانب دار من دور أهل مكة، فقاتلهم المختار يومئذ، وأخذ يقول رجل لرجل:
لا وألت نفس امرئ يفر.
قَالَ: فخرج المختار، وخرجت مَعَهُ، فقلت: ليخرج مِنْكُمْ إلي رجل
(5/576)
فخرج إلي رجل وإليه رجل آخر، فمشيت إِلَى صاحبي فأقتله، ومشى المختار إِلَى صاحبه فقتله، ثم صحنا باصحابنا، وشددنا عليهم، فو الله لضربناهم حَتَّى أخرجناهم من السكك كلها، ثُمَّ رجعنا إِلَى صاحبينا اللذين قتلنا قَالَ:
فإذا الَّذِي قتلت رجل أحمر شديد الحمرة كأنه رومي، وإذا الَّذِي قتل المختار رجل أسود شديد السواد، فَقَالَ لي المختار: تعلم وَاللَّهِ أني لأظن قتيلينا هَذَيْنِ عبدين، ولو أن هَذَيْنِ قتلانا لفجع بنا عشائرنا ومن يرجونا، وما هَذَانِ وكلبان من الكلاب عندي إلا سواء، وَلا أخرج بعد يومي هَذَا لرجل أبدا إلا لرجل أعرفه، فقلت لَهُ: وأنا وَاللَّهِ لا أخرج إلا لرجل أعرفه.
وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر حَتَّى هلك يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وانقضى الحصار، ورجع أهل الشام إِلَى الشام، واصطلح أهل الْكُوفَة عَلَى عَامِر بن مسعود، بعد ما هلك يَزِيد يصلي بهم حَتَّى يجتمع الناس عَلَى إمام يرضونه، فلم يلبث عَامِر إلا شهرا حَتَّى بعث ببيعته وبيعة أهل الْكُوفَة إِلَى ابن الزُّبَيْر، وأقام المختار مع ابن الزُّبَيْر خمسة أشهر بعد مهلك يَزِيد وأياما.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، قَالَ: وَاللَّهِ إني لمع عَبْد اللَّهِ بن الزبير ومعه عبد الله ابن صفوان بن أُمَيَّة بن خلف، ونحن نطوف بالبيت، إذ نظر ابن الزُّبَيْر فإذا هُوَ بالمختار، فقال لابن صفوان: انظر اليه، فو الله لهو أحذر من ذئب قَدْ أطافت بِهِ السباع، قَالَ: فمضى ومضينا مَعَهُ، فلما قضينا طوافنا وصلينا الركعتين بعد الطواف لحقنا المختار، فَقَالَ لابن صفوان: مَا الَّذِي ذكرني بِهِ ابن الزُّبَيْر؟ قَالَ: فكتمه، وَقَالَ: لم يذكرك إلا بخير، قَالَ: بلى ورب هَذِهِ البنية إن كنت لمن شأنكما، أما وَاللَّهِ ليخطن فِي أثري أو لأقدنها عَلَيْهِ سعرا فأقام مَعَهُ خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عَلَيْهِ أحد من الْكُوفَة إلا سأله عن حال الناس وهيئتهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عطية بن الْحَارِث أَبُو روق الهمدانى، ان هانئ ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله
(5/577)
وحال الناس بالكوفة وهيئتهم، فأخبره عَنْهُمْ بصلاح واتساق عَلَى طاعة ابن الزُّبَيْر، إلا أن طائفة مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِم عدد أهل المصر لو كَانَ لَهُمْ رجل يجمعهم عَلَى رأيهم أكل بهم الأرض إِلَى يوم مَا، فَقَالَ لَهُ المختار: أنا أَبُو إِسْحَاق أنا وَاللَّهِ لَهُمْ! أنا أجمعهم عَلَى مر الحق، وأنفي بهم ركبان الباطل، وأقتل بهم كل جبار عنيد، فَقَالَ لَهُ هانئ بن أبي حية: ويحك يا بن أبي عبيد! إن استطعت أَلا توضع فِي الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الْفِتْنَة أقرب شَيْء أجلا، وأسوأ الناس عملا، فَقَالَ لَهُ المختار: إني لا أدعو إِلَى الْفِتْنَة إنما أدعو إِلَى الهدى والجماعة، ثُمَّ وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الْكُوفَة حَتَّى إذا كَانَ بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان- وَكَانَ من أشجع العرب، وَكَانَ ناسكا- فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار، ثُمَّ قَالَ لسلمة بن مرثد: حَدَّثَنِي عن الناس بالكوفة، قَالَ: هم كغنم ضل راعيها، فَقَالَ المختار بن أبي عبيد: أنا الَّذِي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها، فَقَالَ لَهُ سلمة: اتق اللَّه واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزي بعملك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثُمَّ افترقا وأقبل المختار حَتَّى انتهى إِلَى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فِيهِ، وادهن دهنا يسيرا، ولبس ثيابه واعتم، وتقلد سيفه، ثُمَّ ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة، لا يمر بمجلس إلا سلم عَلَى أهله، وَقَالَ: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم مَا تحبون، وأقبل حَتَّى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثَمَّ أحدا، ووجد الناس قَدْ راحوا إِلَى الجمعة، فأقبل حَتَّى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عَمْرو البدى من كنده، فسلم عليه، ثُمَّ قَالَ: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عَمْرو عَلَى رأي حسن، لن يدع اللَّه لك مَعَهُ مأثما إلا غفره، وَلا ذنبا إلا ستره- قَالَ: وَكَانَ عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حبا لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لا يصبر عن الشراب- فلما قَالَ لَهُ المختار هَذَا القول قَالَ لَهُ عبيدة: بشرك اللَّه بخير
(5/578)
إنك قَدْ بشرتنا، فهل أنت مفسر لنا؟ قَالَ: نعم، فالقني فِي الرحل الليلة ثُمَّ مضى.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عَمْرو قَالَ: قَالَ لي المختار هَذِهِ المقالة، ثُمَّ قَالَ لي: القني فِي الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هَذَا عنى أَنَّهُمْ قوم أخذ اللَّه ميثاقهم عَلَى طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثُمَّ مضى فَقَالَ لي:
كيف الطريق إِلَى بني هند؟ فقلت لَهُ: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وَقَدْ أسرج لي فركبته، قَالَ: ومضيت مَعَهُ إِلَى بني هند، فَقَالَ: دلتنى عَلَى منزل إِسْمَاعِيل بن كثير قَالَ: فمضيت بِهِ إِلَى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب بِهِ، وصافحه وبشره، وَقَالَ لَهُ: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عَمْرو فإني قَدْ أتيتكم بكل مَا تحبون، قَالَ: ثُمَّ مضى ومضينا مَعَهُ حَتَّى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثُمَّ مضى إِلَى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثُمَّ دخل المسجد واستشرف لَهُ الناس، وَقَالُوا: هَذَا المختار قَدْ قدم، فقام المختار إِلَى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حَتَّى أقيمت الصَّلاة، فصلى مع الناس ثُمَّ ركد إِلَى سارية أخرى فصلى مَا بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أن المختار مر عَلَى حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فَقَالَ: أبشروا، فإني قَدْ قدمت عَلَيْكُمْ بِمَا يسركم، ومضى حَتَّى نزل داره، وَهِيَ الدار الَّتِي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إِلَيْهَا وإليه فِيهَا.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، عن عبيد بْنِ عَمْرو، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هند، قَالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عَلَيْهِ وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا لَهُ: إن الشيعة قَدِ اجتمعت لسُلَيْمَان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرا حَتَّى يخرج، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى النبي ص ثم قال:
(5/579)
أَمَّا بَعْدُ، فإن المهدي ابن الوصي، مُحَمَّد بن علي، بعثني إليكم أمينا ووزيرا ومنتخبا وأميرا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ فضيل بن خديج: فَحَدَّثَنِي عبيدة بن عَمْرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق اللَّه إجابة وضربا عَلَى يده، وبايعاه.
قَالَ: وأقبل المختار يبعث إِلَى الشيعة وَقَدِ اجتمعت عِنْدَ سُلَيْمَان بن صرد، فيقول لَهُمْ: إني قَدْ جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فِيهِ الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء، أن سُلَيْمَان بن صرد يرحمنا اللَّه وإياه إنما هُوَ عشمة من العشم وحفش بال، ليس بذي تجربة للأمور، وَلا لَهُ علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم إني إنما أعمل عَلَى مثال قَدْ مثل لي، وأمر قَدْ بين لي، فِيهِ عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثُمَّ أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل مَا تأملون خير زعيم.
قال: فو الله مَا زال بهذا القول ونحوه حَتَّى استمال طائفة من الشيعة، وكانوا يختلفون إِلَيْهِ ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يَوْمَئِذٍ ورؤساؤهم مع سُلَيْمَان بن صرد، وَهُوَ شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون بِهِ أحدا، إلا أن المختار قَدِ استمال مِنْهُمْ طائفة ليسوا بالكثير، فسُلَيْمَان بن صرد أثقل خلق اللَّه عَلَى المختار، وَقَدِ اجتمع لابن صرد يَوْمَئِذٍ أمره، وَهُوَ يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، وَلا أن يهيج أمرا حَتَّى ينظر إِلَى مَا يصير إِلَيْهِ أمر سُلَيْمَان، رجاء أن يستجمع لَهُ أمر الشيعة، فيكون أقوى لَهُ عَلَى درك مَا يطلب، فلما خرج سُلَيْمَان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قَالَ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص وشبث بن ربعي ويزيد بن الْحَارِث بن رويم لعبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ: إن المختار أشد
(5/580)
عَلَيْكُمْ من سُلَيْمَان بن صرد، إن سُلَيْمَان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وَقَدْ خرج عن بلادكم، وإن المختار إنما يريد أن يثب عَلَيْكُمْ فِي مصركم، فسيروا إِلَيْهِ فأوثقوه فِي الحديد، وخلدوه فِي السجن حَتَّى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إِلَيْهِ فِي الناس، فما شعر بشيء حَتَّى أحاطوا بِهِ وبداره فاستخرجوه، فلما رَأَى جماعتهم قَالَ: مَا بالكم! فو الله بعد مَا ظفرت أكفكم! قَالَ:
فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: شده كتافا، ومشه حافيا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: سبحان اللَّه! مَا كنت لأمشيه وَلا لأحفيه وَلا كنت لأفعل هَذَا برجل لم يظهر لنا عداوة وَلا حربا، وإنما أخذناه عَلَى الظن فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد: ليس بعشك فادرجي، مَا أنت وما يبلغنا عنك يا بن أبي عبيد! فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي بلغك عني إلا باطل، وأعوذ بِاللَّهِ من غش كغش ابيك وجدك! قال: قال فضيل: فو الله إني لأنظر إِلَيْهِ حين أخرج وأسمع هَذَا القول حين قَالَ لَهُ، غير أني لا أدري أسمعه مِنْهُ إِبْرَاهِيم أم لم يسمعه، فسكت حين تكلم بِهِ، قَالَ: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لعبد اللَّه بن يَزِيدَ: أَلا تشد عَلَيْهِ القيود؟ فَقَالَ: كفى لَهُ بالسجن قيدا.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما يَحْيَى بن أبي عِيسَى فَحَدَّثَنِي أنه قَالَ: دخلت إِلَيْهِ مع حميد بن مسلم الأَزْدِيّ نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيدا، قَالَ: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهند بتار، فِي جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، وَلا بعزل أشرار، حَتَّى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع الْمُسْلِمِينَ، وشفيت
(5/581)
غليل صدور الْمُؤْمِنِينَ، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدُّنْيَا ولم أحفل بالموت إذا أتى.
قَالَ: فكان إذا أتيناه وَهُوَ فِي السجن ردد علينا هَذَا القول حَتَّى خرج مِنْهُ، قَالَ: وَكَانَ يتشجع لأَصْحَابه بعد ما خرج ابن صرد.
ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبه
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة هدم ابن الزُّبَيْر الكعبة، وكانت قَدْ مال حيطانها مما رميت بِهِ من حجارة المجانيق، فذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ الْوَاقِدِيّ أن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حدثه عَنْ عِكْرِمَةَ بن خَالِدٍ، قَالَ: هدم ابن الزُّبَيْر البيت حَتَّى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فِيهِ، وَكَانَ الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إِلَى موضعه، وجعل الركن الأسود عنده فِي تابوت فِي سرقة من حرير، وجعل مَا كَانَ من حلي البيت وما وجد فِيهِ من ثياب أو طيب عِنْدَ الحجبة فِي خزانة البيت، حَتَّى أعادها لما أعاد بناءه.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي معقل بن عَبْدِ اللَّهِ، عن عطاء، قَالَ: رأيت ابن الزُّبَيْر هدم البيت كله حَتَّى وضعه بالأرض.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ.
وَكَانَ عامله عَلَى الْمَدِينَة فِيهَا أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفه عبد الله ابن يَزِيدَ الخطمي، وعلى قضائها سَعِيد بن نمران.
وأبى شريح أن يقضي فِيهَا، وَقَالَ فِيمَا ذكر عنه: أنا لا أقضي فِي الْفِتْنَة.
وعلى الْبَصْرَة عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، وعلى قضائها هِشَام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم
(5/582)
سنة خمس وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ مَا كَانَ من أمر التوابين وشخوصهم للطلب بدم الْحُسَيْن بن علي إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو يُوسُف، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف الأحمري، قَالَ: بعث سُلَيْمَان بن صرد إِلَى وجوه أَصْحَابه حين أراد الشخوص وَذَلِكَ فِي سنة خمس وستين، فأتوه، فلما استهل الهلال هلال شهر ربيع الآخر، خرج فِي وجوه أَصْحَابه، وَقَدْ كَانَ واعد أَصْحَابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة فخرج حَتَّى أتى عسكره، فدار فِي الناس ووجوه أَصْحَابه، فلم يعجبه عدة الناس، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني فِي خيل، وَقَالَ: اذهبا حَتَّى تدخلا الْكُوفَة فناديا: يَا لثأرات الْحُسَيْن! وابلغا المسجد الأعظم فناديا بِذَلِكَ، فخرجا، وكانا أول خلق اللَّه دعوا: يَا لثأرات الْحُسَيْن! قَالَ: فأقبل حكيم بن منقذ الكندي فِي خيل والوليد بن غصين فِي خيل، حَتَّى مرا ببني كثير، وأن رجلا من بني كثير من الأزد يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن خازم مع امرأته سهلة بنت سبرة بن عَمْرو من بني كثير، وكانت من أجمل الناس وأحبهم إِلَيْهِ، سمع الصوت: يَا لثأرات الْحُسَيْن! وما هُوَ ممن كَانَ يأتيهم، وَلا استجاب لَهُمْ فوثب إِلَى ثيابه فلبسها، ودعا بسلاحه، وأمر بإسراج فرسه، فَقَالَتْ لَهُ امرأته: ويحك! أجننت! قَالَ: لا وَاللَّهِ، ولكني سمعت داعي اللَّه، فأنا مجيبه، أنا طالب بدم هَذَا الرجل حَتَّى أموت، أو يقضي اللَّه من أمري مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ، فَقَالَتْ لَهُ: إِلَى من تدع بنيك هَذَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ وحده لا شريك لَهُ، اللَّهُمَّ إني أستودعك أهلي وولدى،
(5/583)
اللَّهُمَّ احفظني فِيهِمْ، وَكَانَ ابنه ذَلِكَ يدعى عزرة، فبقي حَتَّى قتل بعد مع مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وخرج حَتَّى لحق بهم، فقعدت امرأته تبكيه واجتمع إِلَيْهَا نساؤها، ومضى مع القوم، وطافت تِلَكَ الليلة الخيل بالكوفة، حَتَّى جاءوا المسجد بعد العتمة، وفيه ناس كثير يصلون، فنادوا: يَا لثارات الْحُسَيْن! وفيهم أَبُو عزة القابضي وكرب بن نمران يصلي، فَقَالَ:
يَا لثارات الْحُسَيْن! أين جماعة القوم؟ قيل: بالنخيلة، فخرج حَتَّى أتى أهله، فأخذ سلاحه، ودعا بفرسه ليركبه، فجاءته ابنته الرواع- وكانت تحت ثبيت بن مرثد القابضي، فَقَالَتْ: يَا أبت، مَا لي أراك قَدْ تقلدت سيفك، ولبست سلاحك! فَقَالَ لها: يَا بنية، إن أباك يفر من ذنبه إِلَى ربه، فأخذت تنتحب وتبكي، وجاءه أصهاره وبنو عمه، فودعهم، ثُمَّ خرج فلحق بالقوم، قَالَ: فلم يصبح سُلَيْمَان بن صرد حَتَّى أتاه نحو ممن كَانَ فِي عسكره حين دخله، قَالَ: ثُمَّ دعا بديوانه لينظر فِيهِ إِلَى عدة من بايعه حين أصبح، فوجدهم ستة عشر ألفا، فَقَالَ: سبحان اللَّه! مَا وافانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفا.
قَالَ أَبُو مخنف: عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِث، عن حميد بن مسلم، قَالَ: قلت لسُلَيْمَان بن صرد: إن المختار وَاللَّهِ يثبط الناس عنك، إني كنت عنده أول ثلاث، فسمعت نفرا من أَصْحَابه يقولون: قَدْ كملنا ألفي رجل، فَقَالَ:
وهب أن ذَلِكَ كَانَ، فأقام عنا عشرة آلاف، أما هَؤُلاءِ بمؤمنين! أما يخافون اللَّه! أما يذكرون اللَّه، وما أعطونا من أنفسهم من العهود والمواثيق ليجاهدن ولينصرن! فأقام بالنخيلة ثلاثا يبعث ثقاته من أَصْحَابه إِلَى من تخلف عنه يذكرهم اللَّه وما أعطوه من أنفسهم، فخرج إِلَيْهِ نحو من ألف رجل، فقام المسيب بن نجبة إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، فَقَالَ: رحمك
(5/584)
اللَّه، إنه لا ينفعك الكاره، وَلا يقاتل معك الا من اخرجته النيه، فلا ننتظرن أحدا، واكمش فِي أمرك قَالَ: فإنك وَاللَّهِ لنعما رأيت! فقام سُلَيْمَان بن صرد فِي الناس متوكئا عَلَى قوس لَهُ عربية فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، من كَانَ إنما أخرجته إرادة وجه اللَّه وثواب الآخرة فذلك منا ونحن مِنْهُ، فرحمة اللَّه عَلَيْهِ حيا وميتا، ومن كان انما يريد الدنيا وحرثها فو الله مَا نأتي فيئا نستفيئه، وَلا غنيمة نغنمها، مَا خلا رضوان اللَّه رب العالمين، وما معنا من ذهب وَلا فضة، وَلا خز وَلا حرير وما هي إلا سيوفنا فِي عواتقنا، ورماحنا فِي أكفنا، وزاد قدر البلغة إِلَى لقاء عدونا، فمن كَانَ غير هَذَا ينوي فلا يصحبنا.
فقام صخير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المزني، فَقَالَ: آتاك اللَّه رشدك، ولقاك حجتك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره ما لنا خير فِي صحبة من الدُّنْيَا همته ونيته أَيُّهَا النَّاسُ، إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا، والطلب بدم من نبينا، ص ليس معنا دينار وَلا درهم، إنما نقدم عَلَى حد السيوف وأطراف الرماح، فتنادى الناس من كل جانب: إنا لا نطلب الدُّنْيَا، وليس لها خرجنا.
قَالَ أَبُو مخنف: عن إِسْمَاعِيل بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ، عن السري بن كعب الأَزْدِيّ، قَالَ: أتينا صاحبنا عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل نودعه، قَالَ: فقام فقمنا مَعَهُ، فدخل عَلَى سُلَيْمَان ودخلنا مَعَهُ، وَقَدْ أجمع سُلَيْمَان بالمسير، فأشار عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل أن يسير إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ هُوَ ورءوس أَصْحَابه: الرأي مَا أشار بِهِ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل أن نسير إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد قاتل صاحبنا، ومن قبله أتينا، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ وعنده رءوس أَصْحَابه جلوس حوله: إني قَدْ رأيت رأيا إن يكن صوابا فالله
(5/585)
وفق، وأن يكن ليس بصواب فمن قبلي، فإني مَا آلوكم ونفسي نصحا، خطأ كَانَ أم صوابا، إنما خرجنا نطلب بدم الْحُسَيْن، وقتلة الْحُسَيْن كلهم بالكوفة، مِنْهُمْ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فانى نذهب هاهنا وندع الأقتال والأوتار! فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد:
فماذا ترون؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لقد جَاءَ برأي، وان ما ذكر لكما ذكر، والله مَا نلقى من قتلة الْحُسَيْن إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا الا هاهنا بالمصر، فَقَالَ سُلَيْمَان بن صرد: لكن أنا مَا أَرَى ذَلِكَ لكم، إن الَّذِي قتل صاحبكم، وعبا الجنود إِلَيْهِ، وَقَالَ: لا أمان لَهُ عندي دون أن يستسلم فأمضي فِيهِ حكمي هَذَا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة، عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فسيروا إِلَى عدوكم عَلَى اسم اللَّه، فإن يظهركم اللَّه عَلَيْهِ رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة مِنْهُ، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم فِي عافية، فتنظرون إِلَى كل من شرك فِي دم الْحُسَيْن فتقاتلونه وَلا تغشموا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عِنْدَ اللَّه خير للأبرار والصديقين، إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين وَاللَّهِ لو قاتلتم غدا أهل مصركم مَا عدم رجل أن يرى رجلا قَدْ قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلا لَمْ يَكُنْ يريد قتله، فاستخيروا اللَّه وسيروا فتهيأ الناس للشخوص قَالَ: وبلغ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة خروج ابن صرد وأَصْحَابه، فنظرا فِي أمرهما، فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عَلَيْهِم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدة، فإن أبوا إلا الشخوص سألوهم النظرة حَتَّى يعبوا معهم جيشا فيقاتلوا عدوهم بكشف وحد، فبعث عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بْنِ طَلْحَة سويد بن عَبْدِ الرحمن الى سليمان ابن صرد، فَقَالَ لَهُ: إن عَبْد اللَّهِ وإبراهيم يقولان: إنا نريد أن نجيئك
(5/586)
الآن لأمر عسى اللَّه أن يجعل لنا ولك فِيهِ صلاحا، فَقَالَ: قل لهما فليأتيانا، وَقَالَ سُلَيْمَان لرفاعة بن شداد البجلي: قم أنت فأحسن تعبئة الناس، فإن هَذَيْنِ الرجلين قَدْ بعثا بكيت وكيت، فدعا رءوس أَصْحَابه فجلسوا حوله فلم يمكثوا إلا ساعة حَتَّى جَاءَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ فِي أشراف أهل الْكُوفَة والشرط وكثير من المقاتلة، وإبراهيم بن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَة فِي جماعة من أَصْحَابه، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ لكل رجل معروف قَدْ علم أنه قَدْ شرك فِي دم الْحُسَيْن:
لا تصحبني إِلَيْهِم مخافة أن ينظروا إِلَيْهِ فيعدوا عَلَيْهِ، وَكَانَ عُمَر بن سَعْد تِلَكَ الأيام الَّتِي كَانَ سُلَيْمَان معسكرا فِيهَا بالنخيلة لا يبيت إلا فِي قصر الإمارة مع عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ مخافة أن يأتيه القوم فِي داره، ويذمروا عليه في بيته وهو فاعل لا يعلم فيقتل وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: يَا عَمْرو بن حريث، إن أنا أبطأت عنك فصل بِالنَّاسِ الظهر.
فلما انتهى عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد إِلَى سُلَيْمَان بن صرد دخلا عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه، وَلا يغشه، وَأَنْتُمْ إخواننا، وأهل بلدنا، وأحب أهل مصر خلقه اللَّه إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، وَلا تستبدوا علينا برأيكم، وَلا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا، أقيموا معنا حَتَّى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قَدْ شارف بلدنا خرجنا إِلَيْهِم بجماعتنا فقاتلناهم وتكلم إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بنحو من هَذَا الكلام قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ سُلَيْمَان بن صرد وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لهما: إني قَدْ علمت أنكما قَدْ محضتما فِي النصيحة، واجتهدتما فِي المشورة، فنحن بِاللَّهِ وله، وَقَدْ خرجنا لأمر، ونحن نسأل اللَّه العزيمة عَلَى الرشد والتسديد لأصوبه، وَلا نرانا إلا شاخصين إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ: فأقيموا حَتَّى نعبئ معكم جيشا كثيفا، فتلقوا عدوكم بكثف وجمع وحد فقال سُلَيْمَان: تنصرفون، ونرى فِيمَا بيننا، وسيأتيكم إِنْ شَاءَ اللَّهُ رأي
(5/587)
قَالَ أَبُو مخنف: عن عبد الجبار- يعني ابن عباس الهمدانى- عن عون ابن أبي جحيفة السوائي، قَالَ: ثُمَّ إن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد ابن طَلْحَة عرضا عَلَى سُلَيْمَان أن يقيم مَعَهُمَا حَتَّى يلقوا جموع أهل الشام عَلَى أن يخصاه وأَصْحَابه بخراج جوخى خاصة لَهُمْ دون الناس، فَقَالَ لهما سُلَيْمَان: إنا ليس للدنيا خرجنا، وإنما فعلا ذَلِكَ لما قَدْ كَانَ بلغهما من إقبال عُبَيْد اللَّهِ بن زياد نحو العراق وانصرف إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وعبد اللَّه بن يَزِيدَ إِلَى الْكُوفَةِ، وأجمع القوم عَلَى الشخوص واستقبال ابن زياد، ونظروا فإذا شيعتهم من أهل الْبَصْرَة لم يوافوهم لميعادهم وَلا أهل المدائن، فأقبل ناس من أَصْحَابه يلزمونهم، فقال سليمان: لا تلزموهم فإني لا أراهم إلا سيسرعون إليكم، لو قَدِ انتهى إِلَيْهِم خبركم وحين مسيركم، وَلا أراهم خلفهم وَلا أقعدهم إلا قلة النفقة وسوء العدة، فأقيموا ليتيسروا ويتجهزوا ويلحقوا بكم وبهم قوة، وما أسرع القوم فِي آثاركم قَالَ: ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد قام فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّه قَدْ علم مَا تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإن للدنيا تجارا، وللآخرة تجارا، فأما تاجر الآخرة فساع إِلَيْهَا، متنصب بتطلابها، لا يشتري بِهَا ثمنا، لا يرى إلا قائما وقاعدا، وراكعا وساجدا، لا يطلب ذهبا وَلا فضة، وَلا دنيا وَلا لذة، وأما تاجر الدُّنْيَا فمكب عَلَيْهَا، راتع فِيهَا، لا يبتغي بِهَا بدلا، فعَلَيْكُمْ يرحمكم اللَّه فِي وجهكم هَذَا بطول الصَّلاة فِي جوف الليل، وبذكر اللَّه كثيرا عَلَى كل حال، وتقربوا إِلَى اللَّهِ جل ذكره بكل خير قدرتم عَلَيْهِ، حتى تلقوا هذا العدو والمحل القاسط فتجاهدوه، فان تتوسلوا إِلَى ربكم بشيء هُوَ أعظم عنده ثوابا من الجهاد والصلاة، فإن الجهاد سنام العمل جعلنا اللَّه وإياكم من العباد الصالحين، المجاهدين الصابرين عَلَى اللأواء! وإنا مدلجون الليلة من منزلنا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فادلجوا.
فادلج عشية الجمعة لخمس مضين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين للهجرة
(5/588)
قَالَ: فلما خرج سُلَيْمَان وأَصْحَابه من النخيلة دعا سليمان بن صرد حكيم ابن منقذ فنادى فِي الناس: أَلا لا يبيتن رجل مِنْكُمْ دون دير الأعور.
فبات الناس بدير الأعور، وتخلف عنه ناس كثير، ثُمَّ سار حَتَّى نزل الأقساس، أقساس مالك عَلَى شاطئ الفرات، فعرض الناس، فسقط مِنْهُمْ نحو من ألف رجل، فَقَالَ ابن صرد: مَا أحب أن من تخلف عنكم معكم، ولو خرجوا معكم مَا زادوكم إلا خبالا، إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كره انبعاثهم فثبطهم، وخصكم بفضل ذَلِكَ، فاحمدوا ربكم ثُمَّ خرج من منزله ذلك دلجه، فصبحوا قبر الْحُسَيْن، فأقاموا بِهِ ليلة ويوما يصلون عَلَيْهِ، ويستغفرون لَهُ، قَالَ: فلما انتهى الناس إِلَى قبر الْحُسَيْن صاحوا صيحة واحدة، وبكوا، فما رئي يوم كَانَ أكثر باكيا مِنْهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: وَقَدْ حدث عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن ابن غزية، قَالَ: لما انتهينا إِلَى قبر الْحُسَيْن ع بكى الناس بأجمعهم، وسمعت جل الناس يتمنون أَنَّهُمْ كَانُوا أصيبوا مَعَهُ، فَقَالَ سُلَيْمَان: اللَّهُمَّ ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللَّهُمَّ إنا نشهدك أنا عَلَى دينهم وسبيلهم، وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم ثم انصرف ونزل، ونزل أَصْحَابه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا الأعمش، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، قَالَ: لما انتهى سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه إِلَى قبر الْحُسَيْن نادوا صيحة واحدة: يَا رب إنا قَدْ خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا مَا مضى منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسينا وأَصْحَابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يَا رب أنا عَلَى مثل مَا قتلوا عَلَيْهِ، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، قَالَ: فأقاموا عنده يَوْمًا وليلة يصلون عَلَيْهِ ويبكون ويتضرعون، فما انفك الناس من يومهم ذَلِكَ يترحمون عَلَيْهِ وعلى
(5/589)
أَصْحَابه، حَتَّى صلوا الغداة من الغد عِنْدَ قبره، وزادهم ذَلِكَ حنقا ثُمَّ ركبوا، فأمر سُلَيْمَان الناس بالمسير، فجعل الرجل لا يمضي حَتَّى يأتي قبر الْحُسَيْن فيقوم عَلَيْهِ، فيترحم عليه، ويستغفر له، قال: فو الله لرأيتهم ازدحموا عَلَى قبره أكثر من ازدحام الناس عَلَى الحجر الأسود قَالَ: ووقف سُلَيْمَان عِنْدَ قبره، فكلما دعا لَهُ قوم وترحموا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمُ المسيب بن نجبة وسُلَيْمَان بن صرد: الحقوا بإخوانكم رحمكم اللَّه! فما زال كذلك حَتَّى بقي نحو من ثَلاثِينَ من أَصْحَابه، فأحاط سُلَيْمَان بالقبر هُوَ وأَصْحَابه، فَقَالَ سُلَيْمَان: الحمد لِلَّهِ الَّذِي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الْحُسَيْن، اللَّهُمَّ إذ حرمتناها مَعَهُ فلا تحرمناها فِيهِ بعده وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن وال: أما وَاللَّهِ إني لأظن حسينا وأباه وأخاه افضل أمه محمد ص وسيلة عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة، أفما عجبتم لما ابتليت بِهِ هَذِهِ الأمة مِنْهُمْ! إِنَّهُمْ قتلوا اثنين، وأشفوا بالثالث عَلَى القتل، قَالَ: يقول المسيب بن نجبة: فأنا من قتلتهم ومن كَانَ عَلَى رأيهم بريء، إياهم أعادي وأقاتل قَالَ: فأحسن الرءوس كلهم المنطق، وَكَانَ المثنى بن مخربه صاحب أحد الرءوس والأشراف، فساءني حَيْثُ لم أسمعه تكلم مع القوم بنحو مَا تكلموا به، قال: فو الله مَا لبث إن تكلم بكلمات مَا كن بدون كلام أحد من القوم، فَقَالَ: إن الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيهم ص أفضل ممن هُوَ دون نبيهم، وَقَدْ قتلهم قوم نحن لَهُمْ أعداء، ومنهم برآء، وَقَدْ خرجنا من الديار والأهلين والأموال إرادة استئصال من قتلهم، فو الله لو أن القتال فِيهِمْ بمغرب الشمس أو بمنقطع التراب يحق علينا طلبه حَتَّى نناله، فإن ذَلِكَ هُوَ الغنم، وَهِيَ الشهادة الَّتِي ثوابها الجنة، فقلنا لَهُ: صدقت وأصبت ووفقت.
قَالَ: ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد سار من موضع قبر الْحُسَيْن وسرنا مَعَهُ، فأخذنا عَلَى الحصاصة، ثُمَّ عَلَى الأنبار، ثُمَّ عَلَى الصدود، ثُمَّ عَلَى القيارة.
قَالَ أَبُو مخنف: عن الْحَارِث بن حصيرة وغيره: أن سُلَيْمَان بعث على
(5/590)
مقدمته كُرَيْب بن يَزِيدَ الحميري.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ، عن السري بن كعب، قَالَ: خرجنا مع رجال الحي نشيعهم، فلما انتهينا إِلَى قبر الْحُسَيْن وانصرف سُلَيْمَان بن صرد وأَصْحَابه عن القبر، ولزموا الطريق، استقدمهم عبد الله ابن عوف بن الأحمر عَلَى فرس لَهُ مهلوب كميت مربوع، يتأكل تأكلا، وَهُوَ يرتجز ويقول:
خرجن يلمعن بنا أرسالا ... عوابسا يحملننا أبطالا
نريد أن نلقى بِهِ الأقتالا ... القاسطين الغدر الضلالا
وَقَدْ رفضنا الأهل والأموالا ... والخفرات البيض والحجالا
نرضي بِهِ ذا النعم المفضالا.
قَالَ أَبُو مخنف: عن سعد بن مجاهد الطَّائِيّ، عن المحل بن خليفة الطَّائِيّ، أن عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ كتب إِلَى سُلَيْمَان بن صرد، أحسبه قَالَ: بعثني بِهِ، فلحقته بالقيارة، واستقدم أَصْحَابه حَتَّى ظن أن قَدْ سبقهم، قَالَ:
فوقف وأشار إِلَى النَّاسِ، فوقفوا عَلَيْهِ، ثُمَّ أقرأهم كتابه، فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من عَبْد اللَّه بن يَزِيدَ إِلَى سُلَيْمَان بن صرد ومن مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سلام عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ فإن كتابي هَذَا إليكم كتاب ناصح ذي إرعاء، وكم من ناصح مستغش، وكم من غاش مستنصح محب، إنه بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إِلَى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع وَهُوَ مذموم العقل والفعل.
يَا قومنا لا تطمعوا عدوكم فِي أهل بلادكم، فإنكم خيار كلكم، ومتى مَا يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم، فيطمعهم ذَلِكَ فيمن وراءكم
(5/591)
يَا قومنا، «إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» ، يَا قوم، إن أيدينا وأيديكم الْيَوْم واحدة، وإن عدونا وعدوكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر عَلَى عدونا، ومتى تختلف تهن شوكتنا عَلَى من خالفنا، يَا قومنا لا تستغشوا نصحي، وَلا تخالفوا أمري، وأقبلوا حين يقرأ عَلَيْكُمْ كتابي، أقبل اللَّه بكم إِلَى طاعته، وأدبر بكم عن معصيته، والسلام.
قَالَ: فلما قرئ الكتاب عَلَى ابن صرد وأَصْحَابه قَالَ لِلنَّاسِ: مَا ترون؟
قَالُوا: ماذا ترى؟ قَدْ أبينا هَذَا عَلَيْكُمْ وعليهم، ونحن فِي مصرنا وأهلنا، فالآن خرجنا ووطنا أنفسنا عَلَى الجهاد، ودنونا من أرض عدونا! مَا هَذَا برأي ثُمَّ نادوه أن أَخْبِرْنَا برأيك، قَالَ: رأيي وَاللَّهِ أنكم لم تكونوا قط أقرب من إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ مِنْكُمْ يومكم هَذَا، الشهادة والفتح، وَلا أَرَى أن تنصرفوا عما جمعكم اللَّه عَلَيْهِ من الحق، وأردتم بِهِ من الفضل، أنا وهؤلاء مختلفون، إن هَؤُلاءِ لو ظهروا دعونا إِلَى الجهاد مع ابن الزُّبَيْر، وَلا أَرَى الجهاد مع ابن الزُّبَيْر إلا ضلالا، وإنا إن نحن ظهرنا رددنا هَذَا الأمر إِلَى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا، تائبين من ذنوبنا، إن لنا شكلا، وإن لابن الزُّبَيْر شكلا، إنا وإياهم كما قَالَ أخو بني كنانة:
أَرَى لَكَ شكلا غير شكلي فأقصري ... عن اللوم إذ بدلت واختلف الشكل
قَالَ: فانصرف الناس مَعَهُ حَتَّى نزل هيت، فكتب سُلَيْمَان:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ للأمير عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ، من سُلَيْمَان بن صرد ومن مَعَهُ من الْمُؤْمِنِينَ، سلام عَلَيْك، اما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت، فنعم وَاللَّهِ الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة، أنت وَاللَّهِ من نأمنه بالغيب، ونستنصحه فِي المشورة، ونحمده عَلَى كل حال، إنا سمعنا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول فِي كتابه: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» - إِلَى قَوْلِهِ: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» إن القوم قَدِ استبشروا ببيعتهم
(5/592)
الَّتِي بايعوا، أَنَّهُمْ قَدْ تابوا من عظيم جرمهم، وَقَدْ توجهوا إِلَى اللَّهِ، وتوكلوا عَلَيْهِ ورضوا بِمَا قضى اللَّه، «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» ، والسلام عَلَيْك فلما أتاه هَذَا الكتاب قَالَ: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عَنْهُمْ قتلهم، وايم اللَّه ليقتلن كراما مسلمين، وَلا والذي هُوَ ربهم لا يقتلهم عدوهم حَتَّى تشتد شوكتهم، وتكثر القتلى فِيمَا بينهم.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، وعبد الرَّحْمَن بن جندب، عن عبد الرَّحْمَن بن غزية، قَالا: خرجنا من هيت حَتَّى انتهينا إِلَى قرقيسيا، فلما دنونا منها وقف سُلَيْمَان بن صرد فعبانا تعبئة حسنة حَتَّى مررنا بجانب قرقيسيا، فنزلنا قريبا منها، وبها زفر بن الْحَارِث الكلابي قَدْ تحصن بِهَا من القوم، ولم يخرج إِلَيْهِم، فبعث سُلَيْمَان المسيب بن نجبة، فَقَالَ: ائت ابن عمك هَذَا فقل لَهُ: فليخرج إلينا سوقا، فإنا لسنا إِيَّاهُ نريد، إنما صمدنا لهؤلاء المحلين فخرج المسيب بن نجبة حَتَّى انتهى إِلَى باب قرقيسيا، فَقَالَ: افتحوا، ممن تحصنون؟ فَقَالُوا: من أنت؟
قَالَ: أنا المسيب بن نجبة، فأتى الهذيل بن زفر أباه فَقَالَ: هَذَا رجل حسن الهيئة، يستأذن عَلَيْك، وسألناه من هُوَ؟ فَقَالَ: المسيب بن نجبة- قَال:
وأنا إذ ذاك لا علم لي بِالنَّاسِ، وَلا أعلم أي الناس هُوَ- فَقَالَ لي أبي: أما تدري أي بني من هَذَا؟ هَذَا فارس مضر الحمراء كلها، وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم، وهو بعد رجل ناسك له دين، ائذن له فأذنت له، فأجلسه أبي إلى جانبه، وساءله والطفه في المسألة، فقال المسيب ابن نجبه: ممن تتحصن؟ إنا والله ما إياكم نريد، وما اعترينا إلى شيء إلا أن تعيننا عَلَى هَؤُلاءِ القوم الظلمة المحلين، فأخرج لنا سوقا، فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يَوْمًا أو بعض يوم، فَقَالَ لَهُ زفر بن الْحَارِث: إنا لم نغلق أبواب هَذِهِ الْمَدِينَة إلا لنعلم إيانا اعتريتم أم غيرنا! إنا وَاللَّهِ مَا بنا عجز عن الناس مَا لم تدهمنا حيلة، وما نحب أنا بلينا بقتالكم، وَقَدْ بلغنا عنكم
(5/593)
صلاح، وسيرة حسنة جميلة.
ثُمَّ دعا ابنه فأمره أن يضع لَهُمْ سوقا، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فَقَالَ لَهُ المسيب: أما المال فلا حاجة لي فِيهِ، وَاللَّهِ مَا لَهُ خرجنا، وَلا إِيَّاهُ طلبنا، وأما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إِلَيْهِ إن ظلع فرسي، أو غمز تحتي فخرج بِهِ حَتَّى أتى أَصْحَابه وأخرجت لَهُمُ السوق، فتسوقوا، وبعث زفر بن الْحَارِث إِلَى المسيب بن نجبة بعد إخراج الأسواق والأعلاف والطعام الكثير بعشرين جزورا، وبعث إِلَى سُلَيْمَان بن صرد مثل ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر، فسمي لَهُ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل وعبد اللَّه بن وال ورفاعة بن شداد، وسمي لَهُ أمراء الأرباع.
فبعث إِلَى هَؤُلاءِ الرءوس الثلاثة بعشر جزائر عشر جزائر، وعلف كثير وطعام، وأخرج للعسكر عيرا عظيمة وشعيرا كثيرا، فَقَالَ غلمان زفر: هَذِهِ عير فاجتزروا منها مَا أحببتم، وهذا شعير فاحتملوا مِنْهُ مَا أردتم، وهذا دقيق فتزودوا مِنْهُ مَا أطقتم، فظل القوم يومهم ذَلِكَ مخصبين لم يحتاجوا الى شراء شيء من هذه الاسواق الَّتِي وضعت، وَقَدْ كفوا اللحم والدقيق والشعير إلا أن يشتري الرجل ثوبا أو سوطا ثُمَّ ارتحلوا من الغد، وبعث إِلَيْهِم زفر: إني خارج إليكم فمشيعكم، فأتاهم وَقَدْ خرجوا على تعبئة حسنة، فسايرهم، فَقَالَ زفر لسُلَيْمَان: إنه قَدْ بعث خمسة أمراء قَدْ فصلوا من الرقة فِيهِمُ الحصين بن نمير السكوني، وشُرَحْبِيل بن ذي كلاع، وأدهم بن محرز الباهلي وأبو مالك بن أدهم، وربيعة بن المخارق الغنوي، وجبلة بن عَبْدِ اللَّهِ الخثعمي، وَقَدْ جاءوكم فِي مثل الشوك والشجر، أتاكم عدد كثير، وحد حديد، وايم اللَّه لقل مَا رأيت رجالا هم أحسن هيئة وَلا عدة، وَلا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك، ولكنه قَدْ بلغني أنه قَدْ أقبلت إليكم عدة لا تحصى، فَقَالَ ابن صرد: عَلَى اللَّه توكلنا، وعليه فليتوكل المتوكلون، ثُمَّ قَالَ زفر: فهل لكم فِي أمر أعرضه عَلَيْكُمْ، لعل اللَّه أن يجعل لنا ولكم فِيهِ خيرا؟ إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحدا وأيدينا واحدة، وإن شئتم نزلتم عَلَى باب مدينتنا، وخرجنا فعسكرنا إِلَى جانبكم، فإذا جاءنا هَذَا العدو
(5/594)
قاتلناهم جميعا فَقَالَ سُلَيْمَان لزفر: قَدْ أرادنا أهل مصرنا عَلَى مثل مَا أردتنا عَلَيْهِ، وذكروا مثل الَّذِي ذكرت، وكتبوا إلينا بِهِ بعد ما فصلنا، فلم يوافقنا ذَلِكَ، فلسنا فاعلين، فَقَالَ زفر: فانظروا مَا أشير بِهِ عَلَيْكُمْ فاقبلوه، وخذوا بِهِ، فإني للقوم عدو، وأحب أن يجعل اللَّه عَلَيْهِم الدائرة، وأنا لكم واد، أحب أن يحوطكم اللَّه بالعافية، إن القوم قَدْ فصلوا من الرقة، فبادروهم إِلَى عين الوردة، فاجعلوا الْمَدِينَة فِي ظهوركم، ويكون الرستاق والماء والماد فِي أيديكم، وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم لَهُ آمنون، وَاللَّهِ لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة إِلَى عين الوردة، فإن القوم يسيرون سير العساكر، وَأَنْتُمْ عَلَى خيول، وَاللَّهِ لقل مَا رأيت جماعة خيل قط أكرم منها، تأهبوا لها من يومكم هَذَا فإني أرجو أن تسبقوهم إِلَيْهَا، وإن بدرتموهم إِلَى عين الوردة فلا تقاتلوهم فِي فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فأنهم أكثر مِنْكُمْ فلا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لَهُمْ ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لَهُمْ لم يلبثوكم أن يصرعوكم، وَلا تصفوا لَهُمْ حين تلقونهم، فإني لا ارى معكم رجاله، ولا أراكم كلكم إلا فرسانا، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمي رجالها، والرجال تحمي فرسانها، وَأَنْتُمْ ليس لكم رجال تحمي فرسانكم، فالقوهم فِي الكتائب والمقانب، ثُمَّ بثوها مَا بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة كتيبة إِلَى جانبها فإن حمل عَلَى إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال، ومتى مَا شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى مَا شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم فِي صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتقض وكانت الهزيمة، ثُمَّ وقف فودعهم، وسأل اللَّه أن يصحبهم وينصرهم فأثنى الناس عَلَيْهِ، ودعوا لَهُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان بن صرد: نعم المنزول بِهِ أنت! أكرمت النزول، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة ثم ان القوم وجدوا فِي المسير، فجعلوا يجعلون كل مرحلتين مرحلة، قَالَ: فمررنا بالمدن حَتَّى
(5/595)
بلغنا ساعا ثُمَّ إن سُلَيْمَان بن صرد عبى الكتائب كما أمره زفر، ثُمَّ أقبل حَتَّى انتهى إِلَى عين الوردة فنزل فِي غربيها، وسبق القوم إِلَيْهَا، فعسكروا، وأقام بِهَا خمسا لا يبرح، واستراحوا واطمأنوا، وأراحوا خيلهم.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِث، عن عَبْد اللَّهِ بن غزية، قَالَ: أقبل أهل الشام فِي عساكرهم حَتَّى كَانُوا من عين الوردة عَلَى مسيرة يوم وليلة، قَالَ عَبْد اللَّهِ بن غزية: فقام فينا سُلَيْمَان فَحَمِدَ اللَّهَ فأطال، وأثنى عَلَيْهِ فأطنب، ثُمَّ ذكر السماء والأرض، والجبال والبحار وما فيهن من الآيات، وذكر آلاء اللَّه ونعمه، وذكر الدنيا فزهد فيها، وذكر الآخرة فرغب فِيهَا، فذكر من هَذَا مَا لم أحصه، ولم أقدر عَلَى حفظه، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فقد أتاكم اللَّه بعدوكم الَّذِي دابتم فِي المسير إِلَيْهِ آناء الليل والنهار، تريدون فِيمَا تظهرون التوبة النصوح، ولقاء اللَّه معذرين، فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم فِي دارهم وحيزهم، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم، واصبروا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلا يولينهم امرؤ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ: لا تَقْتُلُوا مُدْبِرًا، وَلا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم، إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه، أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة اللَّه عَلَيْهِم، فإن هَذِهِ كَانَتْ سيرة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ بن أبي طالب فِي أهل هَذِهِ الدعوة ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَان: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب بن نجبة فإن أصيب المسيب فأمير الناس عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، فان قتل عبد الله ابن سَعْد فأمير الناس عَبْد اللَّهِ بن وال، فإن قتل عَبْد اللَّهِ بن وال فأمير الناس رفاعة بن شداد، رحم اللَّه امرأ صدق مَا عاهد اللَّه عَلَيْهِ! ثُمَّ بعث المسيب ابن نجبه في أربعمائة فارس، ثُمَّ قَالَ: سر حَتَّى تلقى أول عسكر من عساكرهم فشن فِيهِمُ الغارة، فإذا رأيت مَا تحبه وإلا انصرفت إلي فِي أَصْحَابك، وإياك أن تنزل أو تدع أحدا من أَصْحَابك أن ينزل، أو يستقبل آخر ذَلِكَ، حَتَّى لا تجد مِنْهُ بدا
(5/596)
قال ابو مخنف: فحدثني أبي عن حميد بن مسلم أنه قَالَ: اشهد انى في خيل المسيب بن نجبة تِلَكَ، إذ أقبلنا نسير آخر يومنا كله وليلتنا، حَتَّى إذا كَانَ فِي آخر السحر نزلنا فعلقنا عَلَى دوابنا مخاليها، ثُمَّ هومنا تهويمة بمقدار تكون مقدار قضمها ثُمَّ ركبناها، حَتَّى إذا انبلج لنا الصبح نزلنا فصلينا، ثُمَّ ركب فركبنا فبعث أبا الجويرية العبدي بن الأحمر فِي مائة من أَصْحَابه، وعبد اللَّه بن عوف بن الأحمر فِي مائة وعشرين، وحنش بن رَبِيعَة أبا المعتمر الكناني فِي مثلها، وبقي هُوَ فِي مائة، ثُمَّ قَالَ: انظروا أول من تلقون فأتوني بِهِ، فكان أول من لقينا أعرابي يطرد أحمرة وَهُوَ يقول:
يَا مال لا تعجل إِلَى صحبي ... واسرح فإنك آمن السرب
قَالَ: يقول عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر: يَا حميد بن مسلم، أبشر بشرى ورب الكعبة، فَقَالَ لَهُ ابن عوف بن الأحمر: ممن أنت يَا أعرابي؟
قَالَ: أنا من بني تغلب، قَالَ: غلبتم ورب الكعبة إِنْ شَاءَ اللَّهُ فانتهى إلينا المسيب بن نجبة، فأخبرناه بِالَّذِي سمعنا من الأعرابي وأتيناه به، فقال المسيب ابن نجبة أما لقد سررت بقولك: أبشر، وبقولك: يَا حميد بن مسلم، وإني لأرجو أن تبشروا بِمَا يسركم، وإنما سركم أن تحمدوا أمركم، وأن تسلموا من عدوكم، وإن هَذَا الفأل لهو الفأل الْحَسَن، وَقَدْ كَانَ رَسُول الله ص يعجبه الفأل ثُمَّ قَالَ المسيب بن نجبة للأعرابي: كم بيننا وبين أدنى هَؤُلاءِ القوم منا؟ قَالَ: أدنى عسكر من عساكرهم مِنْكَ عسكر ابن ذي الكلاع، وَكَانَ بينه وبين الحصين اختلاف، ادعى الحصين أنه عَلَى جماعة الناس، وَقَالَ ابن ذي الكلاع: مَا كنت لتولى علي، وَقَدْ تكاتبا إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فهما ينتظران أمره، فهذا عسكر ابن ذي الكلاع مِنْكُمْ عَلَى رأس ميل، قال: فتركنا الرجل، فخرجنا نحوهم مسرعين، فو الله مَا شعروا حَتَّى أشرفنا عَلَيْهِم وهم غارون، فحملنا في جانب عسكرهم فو الله مَا قاتلوا كثير قتال حَتَّى انهزموا، فأصبنا مِنْهُمْ رجالا، وجرحنا فِيهِمْ
(5/597)
فأكثرنا الجراح، وأصبنا لَهُمْ دواب، وخرجوا عن عسكرهم وخلوه لنا، فأخذنا مِنْهُ مَا خف علينا، فصاح المسيب فينا: الرجعة، إنكم قَدْ نصرتم، وغنمتم وَسَلَّمَتم، فانصرفوا، فانصرفنا حَتَّى أتينا سُلَيْمَان.
قَالَ: فأتى الخبر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فسرح إلينا الحصين بن نمير مسرعا حَتَّى نزل فِي اثني عشر ألفا، فخرجنا إِلَيْهِم يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الأولى، فجعل سُلَيْمَان بن صرد عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل عَلَى ميمنته، وعلى ميسرته المسيب بن نجبة، ووقف هُوَ فِي القلب، وجاء حصين بن نمير وَقَدْ عبأ لنا جنده، فجعل عَلَى ميمنته جبلة بن عَبْدِ اللَّهِ، وعلى ميسرته رَبِيعَة بن المخارق الغنوي ثُمَّ زحفوا إلينا، فلما دنوا دعونا إِلَى الجماعة عَلَى عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان وإلى الدخول فِي طاعته، ودعوناهم إِلَى أن يدفعوا إلينا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان، وإلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزُّبَيْر، ثُمَّ نرد هَذَا الأمر إِلَى أهل بيت نبينا الَّذِينَ آتانا اللَّه من قبلهم بالنعمة والكرامة، فأبى القوم وأبينا.
قَالَ حميد بن مسلم: فحملت ميمنتنا عَلَى ميسرتهم وهزمتهم، وحملت ميسرتنا عَلَى ميمنتهم، وحمل سُلَيْمَان فِي القلب عَلَى جماعتهم، فهزمناهم حَتَّى اضطررناهم إِلَى عسكرهم، فما زال الظفر لنا عَلَيْهِم حَتَّى حجز الليل بيننا وبينهم، ثم انصرفنا عنهم وقد حجزناهم فِي عسكرهم، فلما كَانَ الغد صبحهم ابن ذي الكلاع فِي ثمانية آلاف، أمدهم بهم عبيد الله ابن زياد، وبعث إِلَيْهِ يشتمه، ويقع فِيهِ، ويقول: إنما عملت عمل الأغمار، تضيع عسكرك ومسالحك! سر إِلَى الحصين بن نمير حَتَّى توافيه وَهُوَ عَلَى الناس، فجاءه، فغدوا علينا وغاديناهم، فقاتلناهم قتالا لم ير الشيب والمرد مثله قط يومنا كله، لا يحجز بيننا وبين القتال إلا الصَّلاة حَتَّى أمسينا فتحاجزنا، وَقَدْ وَاللَّهِ أكثروا فينا الجراح، وأفشيناها فِيهِمْ، قَالَ: وَكَانَ فينا قُصّاص ثلاثة: رفاعة بن شداد البجلي، وصحير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المري، وأبو الجويرية العبدي، فكان رفاعة يقص ويحضض الناس في الميمنه، لا يبرحها، وجرح أَبُو الجويرية الْيَوْم الثاني فِي أول النهار، فلزم الرحال، وَكَانَ صحير ليلته كلها يدور
(5/598)
فينا ويقول: أبشروا عباد اللَّه بكرامة اللَّه ورضوانه، فحق وَاللَّهِ لمن ليس بينه وبين لقاء الأحبة ودخول الجنة والراحة من إبرام الدُّنْيَا وأذاها إلا فراق هَذِهِ النفس الأمارة بالسوء أن يكون بفراقها سخيا، وبلقاء ربه مسرورا، فمكثنا كذلك حَتَّى أصبحنا، وأصبح ابن نمير وأدهم بن محرز الباهلي فِي نحو من عشرة آلاف، فخرجوا إلينا، فاقتتلنا الْيَوْم الثالث يوم الجمعة قتالا شديدا إِلَى ارتفاع الضحى ثُمَّ إن أهل الشام كثرونا وتعطفوا علينا من كل جانب، ورأى سُلَيْمَان بن صرد مَا لقي أَصْحَابه، فنزل فنادى:
عباد اللَّه، من أراد البكور إِلَى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي، ثُمَّ كسر جفن سيفه، ونزل مَعَهُ ناس كثير، فكسروا جفون سيوفهم، ومشوا مَعَهُ، وانزوت خيلهم حَتَّى اختلطت مع الرجال، فقاتلوهم حَتَّى نزلت الرجال تشتد مصلتة بالسيوف، وَقَدْ كسروا الجفون، فحمل الفرسان عَلَى الخيل وَلا يثبتون، فقاتلوهم وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فِيهِمْ فأكثروا الجراح فلما رَأَى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم، بعث الرجال ترميهم بالنبل، واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سُلَيْمَان بن صرد رحمه اللَّه، رماه يَزِيد بن الحصين بسهم فوقع، ثُمَّ وثب ثُمَّ وقع، قَالَ: فلما قتل سُلَيْمَان بن صرد أخذ الراية المسيب بن نجبة، وَقَالَ لسُلَيْمَان بن صرد: رحمك اللَّه يَا أخي! فقد صدقت ووفيت بِمَا عَلَيْك، وبقي مَا علينا، ثُمَّ أخذ الراية فشد بِهَا، فقاتل ساعة ثُمَّ رجع، ثُمَّ شد بِهَا فقاتل ثُمَّ رجع، ففعل ذَلِكَ مرارا يشد ثُمَّ يرجع، ثُمَّ قتل رحمه اللَّه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنَا فروة بن لقيط، عن مولى للمسيب بن نجبة الفزاري، قَالَ: لقيته بالمدائن وَهُوَ مع شبيب بن يَزِيدَ الخارجي، فجرى الحديث حَتَّى ذكرنا أهل عين الوردة.
قَالَ هِشَام عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنَا هَذَا الشيخ، عن المسيب بن نجبة، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رأيت أشجع مِنْهُ إنسانا قط، وَلا من العصابة الَّتِي كَانَ فِيهِمْ، وَلَقَدْ رأيته يوم عين الوردة يقاتل قتالا شديدا، مَا ظننت أن
(5/599)
رجلا واحدا يقدر أن يبلى مثل مَا أبلى، وَلا ينكأ فِي عدوه مثل مَا نكأ، لقد قتل رجالا، قَالَ: وسمعته يقول قبل أن يقتل وَهُوَ يقاتلهم:
قَدْ علمت ميالة الذوائب ... واضحة اللبات والترائب
أني غداة الروع والتغالب ... أشجع من ذي لبد مواثب
قطاع أقران مخوف الجانب.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أبي وخالي، عن حميد بن مسلم وعبد اللَّه بن غزية قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف، قَالَ: لما قتل المسيب بن نجبة أخذ الراية عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل، ثُمَّ قَالَ رحمه اللَّه: أخوي مِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا وأقبل بمن كَانَ مَعَهُ من الأزد، فحفوا برايته، فو الله إنا لكذلك إذ جاءنا فرسان ثلاثة: عَبْد اللَّهِ بن الخضل الطَّائِيّ، وكثير بن عَمْرو المزني، وسعر بن أبي سعر الحنفي، كَانُوا خرجوا مع سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ فِي سبعين ومائة من أهل المدائن، فسرحهم يوم خرج فِي آثارنا عَلَى خيول مقلمة مقدحة، فَقَالَ لَهُمُ: اطووا المنازل حَتَّى تلحقوا بإخواننا فتبشروهم بخروجنا إِلَيْهِم لتشتد بِذَلِكَ ظهورهم، وتخبروهم بمجيء أهل الْبَصْرَة أَيْضًا، كَانَ المثنى بن مخربه العبدى اقبل في ثلاثمائة من أهل الْبَصْرَة، فَجَاءَ حَتَّى نزل مدينة بهرسير بعد خروج سعد بن حُذَيْفَة من المدائن لخمس ليال، وَكَانَ خروجه مِنَ الْبَصْرَةِ قبل ذَلِكَ قَدْ بلغ سعد بن حُذَيْفَة قبل أن يخرج من المدائن، فلما انتهوا إلينا قَالُوا: أبشروا فقد جاءكم إخوانكم من أهل المدائن وأهل الْبَصْرَة، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن سَعْدِ بْنِ نفيل: ذَلِكَ لو جاءونا ونحن أحياء، قَالَ: فنظروا إلينا، فلما رأوا مصارع إخوانهم وما بنا من الجراح، بكى القوم وَقَالُوا: وَقَدْ بلغ مِنْكُمْ مَا نرى! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قَالَ: فنظروا والله
(5/600)
إِلَى مَا ساء أعينهم، فَقَالَ لَهُمْ عَبْد اللَّهِ بن نفيل: إنا لهذا خرجنا، ثُمَّ اقتتلنا فما اضطربنا إلا ساعة حَتَّى قتل المزني، وطعن الحنفي فوقع بين القتلى، ثُمَّ ارتث بعد ذَلِكَ فنجا، وطعن الطَّائِيّ فجزم أنفه، فقاتل قتالا شديدا، وَكَانَ فارسا شاعرا، فأخذ يقول:
قَدْ علمت ذات القوام الرود ... أن لست بالواني وَلا الرعديد
يَوْمًا وَلا بالفرق الحيود.
قَالَ: فحمل علينا رَبِيعَة بن المخارق حملة منكرة، فاقتتلنا قتالا شديدا.
ثُمَّ إنه اختلف هُوَ وعبد اللَّه بن سَعْدِ بْنِ نفيل ضربتين، فلم يصنع سيفاهما شَيْئًا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إِلَى الأرض، ثُمَّ قاما فاضطربا، ويحمل ابن أخي رَبِيعَة بن المخارق عَلَى عَبْد اللَّهِ بن سَعْدٍ، فطعنه فِي ثغرة نحره، فقتله، ويحمل عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر عَلَى رَبِيعَة بن المخارق، فطعنه فصرعه فلم يصب مقتلا، فقام فكر عَلَيْهِ الثانية، فطعنه أَصْحَاب رَبِيعَة فصرعوه، ثُمَّ إن أَصْحَابه استنقذوه وَقَالَ خَالِد بن سَعْدِ بْنِ نفيل: أروني قاتل أخي، فأريناه ابن أخي رَبِيعَة بن المخارق، فحمل عَلَيْهِ فقنعه بالسيف واعتنقه الآخر فخر إِلَى الأرض، فحمل أَصْحَابه وحملنا، وكانوا أكثر منا فاستنقذوا صاحبهم، وقتلوا صاحبنا، وبقيت الراية ليس عندها أحد.
قَالَ: فنادينا عَبْد اللَّهِ بن وال بعد قتلهم فرساننا، فإذا هُوَ قَدِ استلحم فِي عصابة مَعَهُ إِلَى جانبنا، فحمل عَلَيْهِ رفاعة بن شداد، فكشفهم عنه، ثُمَّ أقبل إِلَى رايته وَقَدْ أمسكها عَبْد الله بن خازم الكثيرى، فَقَالَ لابن وال:
أمسك عني رايتك، قَالَ: أمسكها عني رحمك اللَّه، فإني بي مثل حالك فَقَالَ لَهُ: أمسك عني رايتك، فإني أريد أن أجاهد، قَالَ: فإن هَذَا الَّذِي أنت فِيهِ جهاد وأجر، قَالَ: فصحنا: يَا أَبَا عزة، أطع أميرك يرحمك اللَّه! قَالَ: فأمسكها قليلا، ثُمَّ إن ابن وال أخذها مِنْهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ أَبُو الصلت التيمي الأعور: حَدَّثَنِي شيخ للحي
(5/601)
كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: قَالَ لنا ابن وال: من أراد الحياة الَّتِي ليس بعدها موت، والراحة الَّتِي ليس بعدها نصب، والسرور الَّذِي ليس بعده حزن، فليتقرب إِلَى ربه بجهاد هَؤُلاءِ المحلين، والرواح إِلَى الجنة رحمكم اللَّه! وَذَلِكَ عِنْدَ العصر، فشد عَلَيْهِم، وشددنا مَعَهُ، فأصبنا وَاللَّهِ مِنْهُمْ رجالا، وكشفناهم طويلا، ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد ذَلِكَ تعطفوا علينا من كل جانب، فحازونا حَتَّى بلغوا بنا المكان الَّذِي كنا فِيهِ، وكنا بمكان لا يقدرون أن يأتونا فِيهِ إلا من وجه واحد، وولي قتالنا عِنْدَ المساء أدهم بن محرز الباهلي، فشد علينا فِي خيله ورجاله، فقتل عَبْد اللَّهِ بن وال التيمي.
قَالَ أَبُو مخنف، عن فروة بن لقيط، قَالَ: سمعت أدهم بن محرز الباهلي فِي إمارة الحجاج بن يُوسُفَ وَهُوَ يحدث ناسا من أهل الشام، قَالَ:
دفعت إِلَى أحد أمراء العراق، رجل مِنْهُمْ يقولون لَهُ عَبْد اللَّهِ بن وال وَهُوَ يقول:
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَرِحِينَ» ، الآيات الثلاث، قَالَ: فغاظني، فقلت فِي نفسي:
هَؤُلاءِ يعدوننا بمنزلة أهل الشرك، يرون أن من قتلنا مِنْهُمْ كَانَ شهيدا.
فحملت عَلَيْهِ أضرب يده اليسرى فأطننتها، وتنحيت قريبا، فقلت لَهُ:
أما إني أراك وددت أنك فِي أهلك، فَقَالَ: بئسما رأيت! أما وَاللَّهِ مَا أحب أنها يدك الآن إلا أن يكون لي فِيهَا من الأجر مثل مَا فِي يدي، قَالَ: فقلت لَهُ:
لم؟ قَالَ: لكيما يجعل اللَّه عَلَيْك وزرها، ويعظم لي أجرها، قَالَ: فغاظني فجمعت خيلي ورجالي، ثُمَّ حملنا عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، فدفعت إِلَيْهِ فطعنته فقتلته، وإنه لمقبل إلي مَا يزول، فزعموا بعد أنه كَانَ من فقهاء أهل العراق الَّذِينَ كَانُوا يكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الثقة، عن حميد بن مسلم وعبد اللَّه بن غزية
(5/602)
قَالَ: لما هلك عَبْد اللَّهِ بن وال نظرنا، فإذا عبد الله بن خازم قتيل إِلَى جنبه، ونحن نرى أنه رفاعة بن شداد البجلي، فقال له رجل من بني كنانة يقال لَهُ الْوَلِيد بن غضين: أمسك رايتك، قَالَ: لا أريدها، فقلت لَهُ: إنا لِلَّهِ! مَا لك! فَقَالَ: ارجعوا بنا لعل اللَّه يجمعنا ليوم شر لَهُمْ، فوثب عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر إِلَيْهِ، فَقَالَ: أهلكتنا، وَاللَّهِ لَئِنِ انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخا حَتَّى نهلك من عِنْدَ آخرنا، فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى، فتقربوا إِلَيْهِم بِهِ فيقتل صبرا، أنشدك اللَّه أن تفعل، هَذِهِ الشمس قَدْ طفلت للمغيب، وهذا الليل قَدْ غشينا، فنقاتلهم عَلَى خيلنا هَذِهِ فإنا الآن ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل فرمينا بِهَا، فكان ذَلِكَ الشأن حَتَّى نصبح ونسير ونحن عَلَى مهل، فيحمل الرجل منا جريحه وينتظر صاحبه، وتسير العشرة والعشرون معا، ويعرف الناس الوجه الَّذِي يأخذون، فيتبع فِيهِ بعضهم بعضا، ولو كَانَ الَّذِي ذكرت لم تقف أم عَلَى ولدها، ولم يعرف رجل وجهه، وَلا أين يسقط، وَلا أين يذهب! ولم نصبح إلا ونحن بين مقتول ومأسور فَقَالَ لَهُ رفاعة بن شداد: فإنك نعم مَا رأيت، قَالَ: ثُمَّ أقبل رفاعة عَلَى الكناني فَقَالَ لَهُ: أتمسكها أم آخذها مِنْكَ؟ فَقَالَ لَهُ الكناني: إني لا أريد مَا تريد، إني أريد لقاء ربي، واللحاق بإخواني، والخروج من الدُّنْيَا إِلَى الآخرة، وأنت تريد ورق الدُّنْيَا، وتهوى البقاء، وتكره فراق الدنيا، اما والله انى لاحب لك أن ترشد، ثُمَّ دفع إِلَيْهِ الراية، وذهب ليستقدم فَقَالَ لَهُ ابن أحمر: قاتل معنا ساعة رحمك اللَّه وَلا تلق بيدك إِلَى التهلكة، فما زال بِهِ يناشده حَتَّى احتبس عَلَيْهِ، وأخذ أهل الشام يتنادون: إن اللَّه قَدْ أهلكهم، فأقدموا عَلَيْهِم فافرغوا مِنْهُمْ قبل الليل فأخذوا يقدمون عَلَيْهِم، فيقدمون عَلَى شوكة شديدة، ويقاتلون فرسانا شجعانا ليس فِيهِمْ سقط رجل، وليسوا لَهُمْ بمضجرين فيتمكنوا مِنْهُمْ، فقاتلوهم حَتَّى العشاء قتالا شديدا، وقتل الكناني قبل المساء، وخرج عَبْد اللَّهِ بن عزيز الكندي وَمَعَهُ ابنه مُحَمَّد غلام صغير، فَقَالَ: يَا أهل الشام، هل فيكم أحد من كندة؟ فخرج إِلَيْهِ مِنْهُمْ رجال، فَقَالُوا: نعم، نحن هؤلاء،
(5/603)
فَقَالَ لَهُمْ: دونكم أخوكم فابعثوا بِهِ إِلَى قومكم بالكوفة، فأنا عَبْد اللَّهِ بن عزيز الكندي، فَقَالُوا لَهُ: أنت ابن عمنا، فإنك آمن، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لا أرغب عن مصارع إخواني الَّذِينَ كَانُوا للبلاد نورا، وللأرض أوتادا، وبمثلهم كَانَ اللَّه يذكر، قَالَ: فأخذ ابنه يبكي فِي أثر أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا بني، لو أن شَيْئًا كَانَ آثر عندي من طاعة ربي إذا لكنت أنت، وناشده قومه الشاميون لما رأوا من جزع ابنه وبكائه فِي أثره، وأروا الشاميون لَهُ ولابنه رقة شديدة حَتَّى جزعوا وبكوا، ثُمَّ اعتزل الجانب الَّذِي خرج إِلَيْهِ مِنْهُ قومه، فشد عَلَى صفهم عِنْدَ المساء، فقاتل حَتَّى قتل قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قَالَ: حَدَّثَنِي مسلم بن زحر الخولاني، أن كُرَيْب بن زَيْد الحميري مشى إِلَيْهِم عِنْدَ المساء وَمَعَهُ راية بلقاء فِي جماعة، قلما تنقص من مائة رجل إن نقصت، وَقَدْ كَانُوا تحدثوا بِمَا يريد رفاعة أن يصنع إذا أمسى، فقام لَهُمُ الحميري وجمع إِلَيْهِ رجالا من حمير وهمدان، فَقَالَ: عباد اللَّه! روحوا إِلَى ربكم، وَاللَّهِ مَا فِي شَيْءٍ من الدُّنْيَا خلف من رضاء اللَّه والتوبة إِلَيْهِ، إنه قَدْ بلغني أن طائفة مِنْكُمْ يريدون أن يرجعوا إِلَى مَا خرجوا مِنْهُ إِلَى دنياهم، وإن هم ركنوا إِلَى دنياهم رجعوا الى خطاياهم، فاما انا فو الله لا أولي هَذَا العدو ظهري حَتَّى أرد موارد إخواني، فأجابوه وَقَالُوا: رأينا مثل رأيك ومضى برايته حَتَّى دنا من القوم، فَقَالَ ابن ذي الكلاع: وَاللَّهِ إني لأرى هَذِهِ الراية حميرية أو همدانية، فدنا مِنْهُمْ فسألهم، فأخبروه، فَقَالَ لَهُمْ: إنكم آمنون، فَقَالَ لَهُ صاحبهم: إنا قَدْ كنا آمنين فِي الدُّنْيَا، وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة، فقاتلوا القوم حتى قتلوا، ومشى صخير بن حُذَيْفَة بن هلال بن مالك المزني فِي ثَلاثِينَ من مزينة، فَقَالَ لَهُمْ: لا تهابوا الموت فِي اللَّه، فإنه لاقيكم، وَلا ترجعوا إِلَى الدُّنْيَا الَّتِي خرجتم منها إِلَى اللَّهِ فإنها لا تبقى لكم، وَلا تزهدوا فِيمَا رغبتم فِيهِ من ثواب اللَّه فإن مَا عِنْدَ اللَّه خير لكم، ثُمَّ مضوا فقاتلوا حَتَّى قتلوا، فلما أمسى الناس ورجع أهل الشام إِلَى معسكرهم، نظر رفاعة إِلَى كل رجل قَدْ عقر بِهِ، وإلى
(5/604)
كل جريح لا يعين عَلَى نفسه، فدفعه إِلَى قومه، ثُمَّ سار بِالنَّاسِ ليلته كلها حَتَّى أصبح بالتنينير فعبر الخابور، وقطع المعابر، ثُمَّ مضى لا يمر بمعبر إلا قطعه، وأصبح الحصين بن نمير فبعث فوجدهم قَدْ ذهبوا، فلم يبعث فِي آثارهم أحدا، وسار بِالنَّاسِ فأسرع، وخلف رفاعة وراءهم أبا الجويرية العبدي فِي سبعين فارسا يسترون الناس، فإذا مروا برجل قَدْ سقط حمله، أو بمتاع قَدْ سقط قبضه حَتَّى يعرفه، فإن طلب او ابتغى بعث اليه فاعمله، فلم يزالوا كذلك حَتَّى مروا بقرقيسيا من جانب البر، فبعث إِلَيْهِم زفر من الطعام والعلف مثل مَا كَانَ بعث إِلَيْهِم فِي المرة الأولى، وأرسل إِلَيْهِم الأطباء وَقَالَ: أقيموا عندنا مَا أحببتم، فإن لكم الكرامة والمواساة، فأقاموا ثلاثا، ثُمَّ زود كل امرئ مِنْهُمْ مَا أحب من الطعام والعلف، قَالَ: وجاء سعد بن حُذَيْفَة بن الْيَمَانِ حَتَّى انتهى إِلَى هيت، فاستقبله الأعراب فأخبروه بِمَا لقي الناس، فانصرف، فتلقى المثنى بن مخربة العبدي بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حَتَّى جاءهم الخبر: أن رفاعة قَدْ أظلكم، فخرجوا حين دنا من القرية، فاستقبلوه فسلم الناس بعضهم عَلَى بعض، وبكى بعضهم إِلَى بعض، وتناعوا إخوانهم فأقاموا بِهَا يَوْمًا وليلة، فانصرف أهل المدائن إِلَى المدائن، وأهل الْبَصْرَة إِلَى الْبَصْرَة، وأقبل أهل الْكُوفَة إِلَى الْكُوفَةِ، فإذا المختار محبوس.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف، عن عبد الرَّحْمَن بن يَزِيدَ بن جابر، عن أدهم بن محرز الباهلي، أنه أتى عَبْد الْمَلِكِ بن مَرْوَان ببشارة الفتح، قَالَ:
فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة، ورأس ضلالة، سُلَيْمَان بن صرد، أَلا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف، أَلا وَقَدْ قتل اللَّه من رءوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عَبْد اللَّهِ بن سَعْد أخا الأزد، وعبد اللَّه بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هَؤُلاءِ أحد عنده دفاع وَلا امتناع.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: وحدثت أن المختار مكث نحوا من خمس
(5/605)
عشرة ليلة ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: عدوا لغازيكم هَذَا أكثر من عشر، ودون الشهر، ثُمَّ يجيئكم نبأ هتر، من طعن نتر، وضرب هبر، وقتل جم، وأمر رجم.
فمن لها؟ أنا لها، لا تكذبن، أنا لها.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا الحصين بن يَزِيدَ، عن أبان بن الْوَلِيد، قَالَ:
كتب المختار وَهُوَ فِي السجن إِلَى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة:
أَمَّا بَعْدُ، فمرحبا بالعصب الذين اعظم اللَّه لَهُمُ الأجر حين انصرفوا، ورضي انصرافهم حين قفلوا اما ورب البنيه التي بنى مَا خطا خاط مِنْكُمْ خطوة، وَلا رتا رتوة، إلا كَانَ ثواب اللَّه لَهُ أعظم من ملك الدُّنْيَا إن سُلَيْمَان قَدْ قضى مَا عَلَيْهِ، وتوفاه اللَّه فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الَّذِي بِهِ تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وأمير الجيش، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا، وأبشروا واستبشروا، أدعوكم إِلَى كتاب الله، وسنه نبيه ص، وإلى الطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلين، والسلام.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَبُو زهير العبسي، أن الناس تحدثوا بهذا من أمر المختار، فبلغ ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد، فخرجا فِي الناس حَتَّى أتيا المختار، فأخذاه.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قَالَ: لما تهيأنا للانصراف قام عَبْد اللَّهِ بن غزية ووقف عَلَى القتلى فَقَالَ:
يرحمكم اللَّه، فقد صدقتم وصبرتم، وكذبنا وفررنا، قَالَ: فلما سرنا وأصبحنا إذا عَبْد اللَّهِ بن غزية فِي نحو من عشرين قَدْ أرادوا الرجوع إِلَى العدو والاستقتال، فَجَاءَ رفاعة وعبد اللَّه بن عوف بن الأحمر وجماعة الناس فَقَالُوا لَهُمْ: ننشدكم اللَّه أَلا تزيدونا فلولا ونقصانا، فإنا لا نزال بخير مَا كَانَ فينا مثلكم من ذوي النيات، فلم يزالوا بهم كذلك يناشدونهم حَتَّى ردوهم غير
(5/606)
رجل من مزينة يقال لَهُ عبيدة بن سُفْيَان، رحل مع الناس، حَتَّى إذا غفل عنه انصرف حَتَّى لقي أهل الشام، فشد بسيفه يضاربهم حَتَّى قتل.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحصين بن يَزِيدَ الأَزْدِيّ، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: كَانَ ذَلِكَ المزني صديقا لي، فلما ذهب لينصرف ناشدته اللَّه، فَقَالَ: أما إنك لم تكن لتسألني شَيْئًا من الدُّنْيَا إلا رأيت لك من الحق علي إيتاءكه، وهذا الَّذِي تسألني أريد اللَّه بِهِ، قَالَ: ففارقني حَتَّى لقي القوم فقتل، قال: فو الله مَا كَانَ شَيْء بأحب إلي من أن ألقى إنسانا يحدثني عنه كيف صنع حين لقي القوم! قَالَ: فلقيت عَبْد الْمَلِكِ بن جزء بن الحدرجان الأَزْدِيّ بمكة، فجرى حديث بيننا، جرى ذكر ذَلِكَ الْيَوْم، فَقَالَ: أعجب مَا رأيت يوم عين الوردة بعد هلاك القوم أن رجلا أقبل حَتَّى شد علي بسيفه، فخرجنا نحوه، قَالَ: فانتهى إِلَيْهِ وَقَدْ عقر بِهِ وَهُوَ يقول:
إني من اللَّه إِلَى اللَّهِ أفر ... رضوانك اللَّهُمَّ أبدي وأسر
قَالَ: فقلنا لَهُ: ممن أنت؟ قَالَ: من بني آدم، قَالَ: فقلنا: ممن؟
قَالَ: لا أحب أن أعرفكم وَلا أن تعرفوني يَا مخربى البيت الحرام، قال:
فتزل إِلَيْهِ سُلَيْمَان بن عَمْرو بن محصن الأَزْدِيّ من بني الخيار، قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ من أشد الناس، قَالَ: فكلاهما أثخن صاحبه، قَالَ: وشد الناس عَلَيْهِ من كل جانب، فقتلوه، قال: فو الله مَا رأيت واحدا قط هُوَ أشد مِنْهُ، قَالَ: فلما ذكر لي، وكنت أحب أن أعلم علمه، دمعت عيناي، فَقَالَ:
أبينك وبينه قرابة؟ فقلت لَهُ: لا، ذَلِكَ رجل من مضر كَانَ لي ودا وأخا، فَقَالَ لي: لا أرقأ اللَّه دمعك، أتبكي عَلَى رجل من مضر قتل عَلَى ضلالة! قَالَ: قلت: لا، وَاللَّهِ مَا قتل عَلَى ضلالة، ولكنه قتل عَلَى بينة من ربه وهدى، فَقَالَ لي: أدخلك اللَّه مدخله، قلت: آمين، وأدخلك اللَّه مدخل حصين بن نمير، ثُمَّ لا ارقا الله لك عَلَيْهِ دمعا، ثُمَّ قمت وقام.
وَكَانَ مما قيل من الشعر فِي ذَلِكَ قول أعشى همدان، وَهِيَ إحدى المكتمات، كن يكتمن فِي ذَلِكَ الزمان:
(5/607)
ألم خيال مِنْكَ يَا أم غالب ... فحييت عنا من حبيب مجانب
وما زلت لي شجوا وما زلت مقصدا ... لِهَمٍّ عراني من فراقك ناصب
فما أنس لا أنس انفتالك فِي الضحى ... إلينا مع البيض الوسام الخراعب
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ... لطيفة طي الكشح ريا الحقائب
مبتلة غراء، رود شبابها ... كشمس الضحى تنكل بين السحائب
فلما تغشاها السحاب وحوله ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
فتلك الهوى وَهْيَ الجوى لي والمنى ... فأحبب بِهَا من خلة لم تصاقب
وَلا يبعد اللَّه الشباب وذكره ... وحب تصافي المعصرات الكواعب
ويزداد مَا أحببته من عتابنا ... لعابا وسقيا للخدين المقارب
فإني وإن لم أنسهن لذاكر ... رزيئة مخبات كريم المناصب
توسل بالتقوى إِلَى اللَّهِ صادقا ... وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلى عن الدُّنْيَا فلم يلتبس بِهَا ... وتاب إِلَى اللَّهِ الرفيع المراتب
تخلى عن الدُّنْيَا وَقَالَ اطّرحتها ... فلست إِلَيْهَا مَا حييت بآيب
وما أنا فِيمَا يكبر الناس فقده ... ويسعى لَهُ الساعون فِيهَا براغب
فوجهه نحو الثوية سائرا ... إِلَى ابن زياد فِي الجموع الكباكب
بقوم همُ أهل التقية والنهى ... مصاليت أنجاد سراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طَلْحَة حسبه ... ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم من بين ملتمس التقى ... وآخر مما جر بالأمس تائب
(5/608)
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلا ... إِلَيْهِم فحسوهم ببيض قواضب
يمانيه تذرى الأكف وتارة ... بخيل عتاق مقربات سلاهب
فجاءهمُ جمع من الشام بعده ... جموع كموج البحر من كل جانب
فما برحوا حَتَّى أبيدت سراتهم ... فلم ينج مِنْهُمْ ثَمَّ غير عصائب
وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ... تعاورهم ريح الصبا والجنائب
فاضحى الخزاعي الرئيس مجدلا ... كأن لم يقاتل مرة ويحارب
وراس بنى شمخ وفارس قومه ... شنوءه والتيمي هادي الكتائب
وعمرو بن بشر والوليد وخالد ... وزَيْد بن بكر والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيع ... إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قوم قَدْ أصيب زعيمهم ... وذو حسب فِي ذروة المجد ثاقب
أبوا غير ضرب يفلق الهام وقعه ... وطعن بأطراف الأسنة صائب
وإن سعيدا يوم يدمر عامرا ... لأشجع من ليث بدرنى مواثب
فيا خير جيش للعراق وأهله ... سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدَنْ فرساننا وحماتنا ... إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب
فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتة ... وكل فتى يَوْمًا لإحدى الشواعب
وما قتلوا حَتَّى أثاروا عصابة ... محلين ثورا كالليوث الضوارب
وقتل سُلَيْمَان بن صرد ومن قتل مَعَهُ بعين الوردة من التوابين في شهر ربيع الآخر
(5/609)
ذكر الخبر عن بيعه عبد الملك وعبد العزيز ابنى مروان
وفي هَذِهِ السنة أمر مَرْوَان بن الحكم أهل الشام بالبيعة من بعده لابنيه عَبْد الْمَلِكِ وعبد العزيز، وجعلهما ولي العهد.
ذكر الخبر عن سبب عقد مروان ذلك لها:
قَالَ هِشَام، عن عوانة قَالَ: لما هزم عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الأشدق مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ حين وجهه أخوه عَبْد اللَّهِ إِلَى فلسطين وانصرف راجعا إِلَى مَرْوَان، ومروان يَوْمَئِذٍ بدمشق، قَدْ غلب عَلَى الشام كلها ومصر، وبلغ مَرْوَان أن عمرا يقول: إن هَذَا الأمر لي من بعد مَرْوَان، ويدعي أنه قَدْ كَانَ وعده وعدا، فدعا مَرْوَان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ابنيه من بعده، واخبره بما بلغه عن عَمْرو بن سَعِيدٍ، فَقَالَ: أنا أكفيك عمرا، فلما اجتمع الناس عِنْدَ مَرْوَان عشيا قام ابن بحدل فَقَالَ: إنه قَدْ بلغنا أن رجالا يتمنون أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك ولعبد العزيز من بعده، فقام الناس، فبايعوا من عند آخرهم
. ذكر الخبر عن موت مروان بن الحكم
وفي هَذِهِ السنة مات مَرْوَان بن الحكم بدمشق مستهل شهر رمضان.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بن يَعْقُوب، عن أبي الحويرث، قال: لما حضرت معاويه ابن يَزِيدَ أبا لَيْلَى الوفاة، أبى أن يستخلف أحدا، وَكَانَ حسان بن مالك بن بحدل يريد أن يجعل الأمر بعد مُعَاوِيَة بن يَزِيدَ لأخيه خَالِد بن يَزِيدَ بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ صغيرا، وَهُوَ خال أَبِيهِ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فبايع لمروان، وَهُوَ يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد بن يَزِيدَ، فلما بايع لمروان وبايعه مَعَهُ أهل الشام قيل لمروان: تزوج أم خَالِد- وأمه أم خَالِد ابنة أبي هِشَام بن عتبة حَتَّى تصغر
(5/610)
شأنه، فلا يطلب الخلافة، فتزوجها، فدخل خَالِد يَوْمًا عَلَى مَرْوَان وعنده جماعة كثيرة، وَهُوَ يمشي بين الصفين، فَقَالَ: إنه وَاللَّهِ مَا علمت لاحمق، تعال يا بن الرطبة الاست- يقصر بِهِ ليسقطه من أعين أهل الشام- فرجع إِلَى أمه فأخبرها، فَقَالَتْ لَهُ أمه: لا يعرفن ذَلِكَ مِنْكَ، واسكت فإني أكفيكه، فدخل عَلَيْهَا مَرْوَان، فَقَالَ لها: هل قَالَ لك خَالِد فِيّ شَيْئًا؟
فَقَالَتْ: وخالد يقول فيك شَيْئًا! خَالِد أشد لك إعظاما من أن يقول فيك شَيْئًا، فصدقها، ثُمَّ مكثت أياما، ثُمَّ إن مَرْوَان نام عندها، فغطته بالوسادة حَتَّى قتلته.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وَكَانَ هلاك مَرْوَان فِي شهر رمضان بدمشق، وَهُوَ ابن ثلاث وستين سنة فِي قول الْوَاقِدِيّ، وأما هِشَام بن مُحَمَّد الكلبي فإنه قَالَ:
كَانَ يوم هلك ابن إحدى وستين سنة، وقيل: توفي وَهُوَ ابن إحدى وسبعين سنة، وقيل: ابن إحدى وثمانين سنة، وَكَانَ يكنى أبا عَبْد الْمَلِكِ، وَهُوَ مَرْوَان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت عَلْقَمَة ابن صفوان بن أُمَيَّة الكناني، وعاش بعد أن بويع لَهُ بالخلافة تسعة أشهر، وقيل: عاش بعد أن بويع لَهُ بالخلافة عشرة أشهر إلا ثلاث ليال، وَكَانَ قبل هلاكه قَدْ بعث بعثين: أحدهما إِلَى الْمَدِينَة، عَلَيْهِم حبيش بن دلجة القيني، والآخر منهما إِلَى العراق، عليهم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فأما عُبَيْد الله ابن زياد فسار حَتَّى نزل الجزيرة، فأتاه الخبر بِهَا بموت مَرْوَان، وخرج إِلَيْهِ التوابون من أهل الْكُوفَة طالبين بدم الْحُسَيْن، فكان من أمرهم مَا قَدْ مضى ذكره، وسنذكر إِنْ شَاءَ اللَّهُ باقي خبره إِلَى أن قتل
. ذكر خبر مقتل حبيش بن دلجه
وفي هَذِهِ السنة قتل حبيش بن دلجة وأما حبيش بن دلجة، فإنه سار حَتَّى انتهى- فِيمَا ذكر عن هِشَام، عن عوانة بن الحكم- الى المدينة، وعليهم جابر ابن الأَسْوَدِ بْنِ عوف، ابن أخي عبد الرَّحْمَن بن عوف، من قبل عَبْد اللَّهِ بن
(5/611)
الزُّبَيْرِ، فهرب جابر من حبيش ثُمَّ إن الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ- وَهُوَ أخو عُمَر بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ- وجه جيشا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ قَدْ ولاه الْبَصْرَة، عَلَيْهِم الحنيف بن السجف التميمى لحرب حبيش ابن دلجه، فلما سمع حبيش بن دلجه سار إِلَيْهِم مِنَ الْمَدِينَةِ، وسرح عَبْد اللَّهِ ابن الزُّبَيْرِ عباس بن سَهْل بن سَعْد الأَنْصَارِيّ عَلَى الْمَدِينَة، وأمره أن يسير فِي طلب حبيش بن دلجة حَتَّى يوافي الجند من أهل الْبَصْرَة الَّذِينَ جاءوا ينصرون ابن الزُّبَيْر، عليهم الحنيف، واقبل عباس فِي آثارهم مسرعا حَتَّى لحقهم بالربذة، وَقَدْ قَالَ أَصْحَاب ابن دلجة لَهُ: دعهم، لا تعجل إِلَى قتالهم، فَقَالَ: لا أنزل حَتَّى آكل من مقندهم، - يعني السويق الَّذِي فِيهِ القند- فجاءه سهم غرب فقتله، وقتل مَعَهُ المنذر بن قيس الجذامى، وابو عتاب مولى أبي سُفْيَان، وَكَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ يُوسُف بن الحكم، والحجاج بن يُوسُفَ، وما نجوا يَوْمَئِذٍ إلا عَلَى جمل واحد، وتحرز مِنْهُمْ نحو من خمسمائة في عمود المدينة، فقال لهم عباس: انزلوا عَلَى حكمي، فنزلوا عَلَى حكمه فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إِلَى الشام.
حَدَّثَنِي أحمد بن زهير، عن علي بن محمد انه قال: الذى قتل حبيش ابن دلجة يوم الرَّبَذَة يَزِيد بن سياه الأسواري، رماه بنشابة فقتله، فلما دخلوا الْمَدِينَة وقف يَزِيد بن سياه عَلَى برذون أشهب وعليه ثياب بياض، فما لبث أن اسودت ثيابه، ورايته مما مسح الناس بِهِ ومما صبوا عليه من الطيب
ذكر خبر حدوث الطاعون الجارف
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع بِالْبَصْرَةِ الطاعون الَّذِي يقال لَهُ الطاعون الجارف، فهلك بِهِ خلق كثير من أهل الْبَصْرَة.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بن جرير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، عن المُصْعَب بن زَيْد، ان الجارف وقع وعبيد الله بن
(5/612)
معمر عَلَى الْبَصْرَة، فماتت أمه فِي الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حَتَّى استأجروا لها أربعة علوج فحملوها إِلَى حفرتها وَهُوَ الأمير يومئذ
. مقتل نافع بن الأزرق واشتداد امر الخوارج
وفي هَذِهِ السنة اشتدت شوكة الخوارج بِالْبَصْرَةِ، وقتل فِيهَا نافع بن الأزرق.
ذكر الخبر عن مقتله:
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير بن حرب، قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي، عن مُحَمَّد بن الزُّبَيْرِ، أن عُبَيْد اللَّهِ بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر بعث أخاه عُثْمَان بن عُبَيْد اللَّهِ إِلَى نافع بن الأزرق فِي جيش، فلقيهم بدولاب، فقتل عُثْمَان وهزم جيشه.
قَالَ عمر: قَالَ زهير: قَالَ وهب: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بن أبي عيينة، عن سبرة بن نخف، أن ابن معمر عُبَيْد اللَّهِ بعث أخاه عُثْمَان إِلَى ابن الأزرق، فهزم جنده وقتل، قَالَ وهب: فحدثنا أبي أن أهل الْبَصْرَة بعثوا جيشا عَلَيْهِم حَارِثَة بن بدر، فلقيهم، فَقَالَ لأَصْحَابه:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
حَدَّثَنَا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زهير، قَالَ: حَدَّثَنَا وهب، قَالَ: حَدَّثَنَا أبي ومُحَمَّد بن أبي عيينة، قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَة بن قرة، قَالَ: خرجنا مع ابن عبيس فلقيناهم، فقتل ابن الأزرق وابنان أو ثلاثة للماحوز، وقتل ابن عبيس.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وأما هِشَام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف، عن أبي المخارق الراسبي من قصة ابن الأزرق، وبني الماحوز قصة هي غير مَا ذكره عمر، عن زهير بن حرب، عن وهب بن جرير، والذي ذكر من خبرهم أن نافع بن الأزرق اشتدت شوكته باشتغال أهل الْبَصْرَة بالاختلاف الَّذِي كَانَ بين الأزد وربيعة وتميم بسبب مسعود بن عَمْرو، وكثرت جموعه، فأقبل نحو الْبَصْرَة حَتَّى دنا من الجسر، فبعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث مسلم ابن عبيس بن كريز بن رَبِيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف فِي اهل
(5/613)
الْبَصْرَة، فخرج إِلَيْهِ، فأخذ يحوزه عن الْبَصْرَة، ويدفعه عن أرضها، حَتَّى بلغ مكانا من أرض الأهواز يقال لَهُ: دولاب، فتهيأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس عَلَى ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حَارِثَة بن بدر التميمي، ثُمَّ الغداني، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيده بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزُّبَيْر بن الماحوز التميمي، ثُمَّ التقوا فاضطربوا، فاقتتل الناس قتالا لم ير قتال قط أشد مِنْهُ، فقتل مسلم ابن عبيس أَمِير أهل الْبَصْرَة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمر أهل الْبَصْرَة عَلَيْهِم الحجاج بن باب الحميري، وأمرت الأزارقة عَلَيْهِم عبد الله ابن الماحوز، ثُمَّ عادوا فاقتتلوا أشد قتال، فقتل الحجاج بن باب الحميري أَمِير أهل الْبَصْرَة، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الماحوز أَمِير الأزارقة ثُمَّ إن أهل الْبَصْرَة أمروا عَلَيْهِم رَبِيعَة الأجذم التميمي، وأمرت الخوارج عَلَيْهِم عُبَيْد اللَّهِ بن الماحوز، ثُمَّ عادوا فاقتتلوا حَتَّى أمسوا، وَقَدْ كره بعضهم بعضا، وملوا القتال، فإنهم لمتواقفون متحاجزون حَتَّى جاءت الخوارج سرية لَهُمْ جامة لم تكن شهدت القتال، فحملت عَلَى الناس من قبل عبد القيس، فانهزم الناس، وقاتل امير البصره ربيعه الاجذم، فقتل، وأخذ راية أهل الْبَصْرَة حَارِثَة بن بدر، فقاتل ساعة وَقَدْ ذهب الناس عنه، فقاتل من وراء الناس فِي حماتهم، وأهل الصبر مِنْهُمْ، ثُمَّ أقبل بِالنَّاسِ حَتَّى نزل بهم منزلا بالأهواز ففي ذَلِكَ يقول الشاعر من الخوارج:
يا كبدا مِنْ غَيْرِ جوع وَلا ظما ... ويا كبدي من حب أم حكيم
ولو: شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان امرئ فِي الحرب غير لئيم
(5/614)
غداة طفت فِي الماء بكر بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وَكَانَ لعبد القيس أول حدنا ... وذلت شيوخ الأزد وَهْيَ تعوم
وبلغ ذَلِكَ أهل الْبَصْرَة، فهالهم وأفزعهم، وبعث ابن الزبير الحارث ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ القرشي عَلَى تلك الحره، فقدم، وعزل عبد الله ابن الْحَارِث، فأقبلت الخوارج نحو الْبَصْرَة، وقدم المهلب بن أبي صفرة عَلَى تِلَكَ من حال الناس من قبل عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، مَعَهُ عهده عَلَى خُرَاسَان، فَقَالَ الأحنف للحارث بن أَبِي رَبِيعَةَ وللناس عامة: لا وَاللَّهِ، ما لهذا الأمر الا المهلب بن ابى صفره، فخرج أشراف الناس، فكلموه أن يتولى قتال الخوارج، فَقَالَ: لا أفعل، هَذَا عهد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ معي عَلَى خُرَاسَان، فلم أكن لأدع عهده وأمره، فدعاه ابن أَبِي رَبِيعَةَ فكلمه فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِكَ، فاتفق رأي ابن أَبِي رَبِيعَةَ ورأي أهل الْبَصْرَة عَلَى أن كتبوا عَلَى لسان ابن الزُّبَيْر:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ إِلَى المهلب بن أبي صفرة، سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ كتب إلي أن الأزارقة المارقة أصابوا جندا
(5/615)
لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ عددهم كثيرا، وأشرافهم كثيرا، وذكر أَنَّهُمْ قَدْ أقبلوا نحو الْبَصْرَة، وَقَدْ كنت وجهتك إِلَى خُرَاسَان، وكتبت لك عَلَيْهَا عهدا، وقد رايت حيث ذكر هَذِهِ الخوارج أن تكون أنت تلي قتالهم، فقد رجوت أن يكون ميمونا طائرك، مباركا عَلَى أهل مصرك، والأجر فِي ذَلِكَ أفضل من المسير إِلَى خُرَاسَان، فسر إِلَيْهِم راشدا، فقاتل عدو اللَّه وعدوك، ودافع عن حقك وحقوق أهل مصرك، فإنه لن يفوتك من سلطاننا خُرَاسَان وَلا غير خُرَاسَان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه فأتي بِذَلِكَ الكتاب، فلما قرأه قَالَ: فإني وَاللَّهِ لا أسير إِلَيْهِم إلا أن تجعلوا لي مَا غلبت عَلَيْهِ، وتعطوني من بيت المال مَا أقوي بِهِ من معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت، فَقَالَ جميع أهل الْبَصْرَة: ذَلِكَ لك، قَالَ: فاكتبوا لي عَلَى الأخماس بِذَلِكَ كتابا ففعلوا، إلا مَا كَانَ من مالك بن مسمع وطائفة من بكر بن وائل، فاضطغنها عَلَيْهِم المهلب، وَقَالَ الأحنف وعبيد اللَّه بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل الْبَصْرَة للمهلب: وما عليك الا يكتب لك مالك بن مسمع وَلا من تابعه من أَصْحَابه، إذا أعطاك الَّذِي أردت من ذَلِكَ جميع أهل الْبَصْرَة! ويستطيع مالك خلاف جماعه الناس اوله ذَلِكَ! انكمش أيها الرجل، واعزم عَلَى أمرك، وسر إِلَى عدوك، ففعل ذَلِكَ المهلب، وأمر عَلَى الأخماس، فأمر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بن ظبيان عَلَى خمس بكر بن وائل، وامر الحريش ابن هلال السعدي عَلَى خمس بني تميم، وجاءت الخوارج حَتَّى انتهت إِلَى الجسر الأصغر، عَلَيْهِم عُبَيْد اللَّهِ بن الماحوز، فخرج إِلَيْهِم فِي أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحازهم عن الجسر، ودفعهم عنه، فكان أول شَيْء دفعهم عنه أهل الْبَصْرَة، ولم يكن بقي لَهُمْ إلا أن يدخلوا، فارتفعوا إِلَى الجسر الأكبر ثُمَّ انه عبا لَهُمْ، فسار إِلَيْهِم فِي الخيل والرجال، فلما أن رأوا أن قَدْ أظل عَلَيْهِم، وانتهى إِلَيْهِم، ارتفعوا فوق ذَلِكَ مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم ويرفعهم مرحلة بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حَتَّى انتهوا إِلَى منزل
(5/616)
من منازل الأهواز يقال لَهُ سلى وسلبرى، فأقاموا بِهِ، ولما بلغ حَارِثَة بن بدر الغداني أن المهلب قَدْ أمر عَلَى قتال الأزارقة، قَالَ لمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
قَدْ أمر المهلب.
فأقبل من كَانَ مَعَهُ نحو الْبَصْرَة، فصرفهم الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى المهلب، ولما نزل المهلب بالقوم خندق عَلَيْهِ، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند عَلَى مصافهم، والناس عَلَى راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عَلَيْهَا رجال موكلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا ابيات المهلب ووجدوا أمرا محكما، فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسان قط كَانَ أشد عَلَيْهِم وَلا أغيظ لقلوبهم مِنْهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، أن رجلا كَانَ فِي تِلَكَ الخوارج حدثه ان الخوارج بعثت عبيده ابن هلال وَالزُّبَيْر بن الماحوز فِي خيلين عظيمين ليلا إِلَى عسكر المهلب، فَجَاءَ الزُّبَيْر من جانبه الأيمن، وجاء عبيدة من جانبه الأيسر، ثُمَّ كبروا وصاحوا بِالنَّاسِ، فوجدوهم عَلَى تعبيتهم ومصافهم حذرين مغذين، فلم يصيبوا للقوم غرة، ولم يظفروا مِنْهُمْ بشيء، فلما ذهبوا ليرجعوا ناداهم عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد بن ظبيان فَقَالَ:
وجدتمونا وقرا أنجادا ... لا كشفا خورا وَلا أوغادا
هيهات! إنا إذا صيح بنا أتينا، يَا أهل النار، أَلا ابكروا إِلَيْهَا غدا، فإنها مأواكم ومثواكم، قَالُوا: يَا فاسق، وهل تدخر النار إلا لك ولأشباهك! إنها أعدت للكافرين وأنت مِنْهُمْ، قَالَ: أتسمعون! كل مملوك لي حر
(5/617)
إن دخلتم أنتم الجنة إن بقي فِيمَا بين سفوان إِلَى أقصى حجر من أرض خُرَاسَان مجوسي ينكح أمه وابنته وأخته إلا دخلها، قَالَ لَهُ عبيدة: اسكت يَا فاسق فإنما أنت عبد للجبار العنيد، ووزير للظالم الكفور، قَالَ: يَا فاسق، وأنت عدو المؤمن التقي، ووزير الشَّيْطَان الرجيم، فَقَالَ الناس لابن ظبيان: وفقك الله يا بن ظبيان، فقد وَاللَّهِ أجبت الفاسق بجوابه، وصدقته فلما أصبح الناس أخرجهم المهلب عَلَى تعبيتهم وأخماسهم، ومواقفهم الأزد، وتميم ميمنة الناس، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة الناس، وأهل العالية فِي القلب وسط الناس.
وخرجت الخوارج عَلَى ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزُّبَيْر بن الماحوز، وجاءوا وهم أحسن عدة، وأكرم خيولا، وأكثر سلاحا من أهل الْبَصْرَة، وَذَلِكَ لأنهم مخروا الأرض وجردوها، وأكلوا مَا بين كَرْمَان إِلَى الأهواز، فجاءوا عَلَيْهِم مغافر تضرب إِلَى صدورهم، وعليهم دروع يسحبونها، وسوق من زرد يشدونها بكلاليب الحديد إِلَى مناطقهم، فالتقى الناس فاقتتلوا كأشد القتال، فصبر بعضهم عامة النهار ثُمَّ إن الخوارج شدت عَلَى الناس بأجمعها شدة منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا تلوى أم عَلَى ولد حَتَّى بلغ الْبَصْرَة هزيمة الناس، وخافوا السباء، وأسرع المهلب حَتَّى سبقهم إِلَى مكان يفاع فِي جانب عن سنن المنهزمين.
ثُمَّ إنه نادى الناس: إلي إلي عباد اللَّه، فثاب إِلَيْهِ جماعة من قومه، وثابت إِلَيْهِ سرية عمان فاجتمع إِلَيْهِ مِنْهُمْ نحو من ثلاثة آلاف، فلما نظر إِلَى من قَدِ اجتمع رضي جماعتهم، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه ربما يكل الجمع الكثير إِلَى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر عَلَى الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري مَا بكم الآن من قلة، إني لجماعتكم لراض، وإنكم لأنتم أهل الصبر، وفرسان أهل المصر، وما أحب أن أحدا ممن انهزم معكم، فإنهم لو كَانُوا فيكم مَا زادوكم إلا خبالا عزمت عَلَى كل امرئ مِنْكُمْ لما أخذ عشرة أحجار مَعَهُ، ثُمَّ امشوا بنا نحو
(5/618)
عسكرهم، فإنهم الآن آمنون، وَقَدْ خرجت خيلهم في طلب إخوانكم، فو الله انى لأرجو الا ترجع إِلَيْهِم خيلهم حَتَّى تستبيحوا عسكرهم، وتقتلوا أميرهم ففعلوا، ثُمَّ أقبل بهم راجعا، فلا وَاللَّهِ مَا شعرت الخوارج إلا بالمهلب يضاربهم بالمسلمين فِي جانب عسكرهم ثُمَّ استقبلوا عُبَيْد اللَّهِ بن الماحوز وأَصْحَابه، وعليهم الدروع والسلاح كاملا، فأخذ الرجل من أَصْحَاب المهلب يستقبل الرجل مِنْهُمْ، فيستعرض وجهه بالحجارة فيرميه حَتَّى يثخنه، ثُمَّ يطعنه بعد ذَلِكَ برمحه، أو يضربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلا ساعة حَتَّى قتل عبيد الله ابن الماحوز، وضرب اللَّه وجوه أَصْحَابه، وأخذ المهلب عسكر القوم وما فِيهِ، وقتل الأزارقة قتلا ذريعا، وأقبل من كَانَ فِي طلب أهل الْبَصْرَة مِنْهُمْ راجعا، وَقَدْ وضع لَهُمُ المهلب خيلا ورجالا في الطريق تختطفهم وتقتلهم، فانكفئوا راجعين مفلولين، مقتولين محروبين، مغلوبين، فارتفعوا إِلَى كَرْمَان وجانب أصفهان، وأقام المهلب بالأهواز، ففي ذَلِكَ الْيَوْم يقول الصلتان العبدي:
بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وقتلى لم توسد خدودها
وانصرفت الخوارج حين انصرفت، وإن أَصْحَاب النيران الخمس والست ليجتمعون عَلَى النار الواحدة من الفلول وقلة العدد، حَتَّى جاءتهم مادة لَهُمْ من قبل البحرين، فخرجوا نحو كَرْمَان وأصبهان، فأقام المهلب بالأهواز فلم يزل ذَلِكَ مكانه حَتَّى جَاءَ مصعب الْبَصْرَة، وعزل الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عنها ولما ظهر المهلب عَلَى الأزارقة كتب:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ للأمير الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ، من المهلب بن أبي صفرة سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فالحمد لِلَّهِ الَّذِي نصر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وهزم الفاسقين، وأنزل بهم نقمته، وقتلهم كل قتلة، وشردهم كل مشرد أخبر الأمير أصلحه اللَّه أنا لقينا الأزارقة
(5/619)
بأرض من أرض الأهواز يقال لها سلى وسلبرى، فزحفنا إِلَيْهِم ثُمَّ ناهضناهم، فاقتتلنا كأشد القتال مليا من النهار ثُمَّ إن كتائب الأزارقة اجتمع بعضها إِلَى بعض، ثُمَّ حملوا عَلَى طائفة مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهزموهم، وكانت فِي الْمُسْلِمِينَ جولة قَدْ كنت أشفقت أن تكون هي الاصرى مِنْهُمْ فلما رأيت ذَلِكَ عمدت إِلَى مكان يفاع فعلوته، ثُمَّ دعوت إلي عشيرتي خاصة والمسلمين عامة، فثاب إلي أقوام شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة اللَّه من أهل الدين والصبر والصدق والوفاء، فقصدت بهم إِلَى عسكر القوم، وفيه جماعتهم وحدهم وأميرهم قَدْ أطاف بِهِ أولو فضلهم فِيهِمْ، وذوو النيات مِنْهُمْ، فاقتتلنا ساعة رميا بالنبل، وطعنا بالرماح.
ثُمَّ خلص الفريقان إِلَى السيوف، فكان الجلاد بِهَا ساعة من النهار مبالطة ومبالدة ثُمَّ إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنزل نصره عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وضرب وجوه الكافرين ونزل طاغيتهم فِي رجال كثير من حماتهم وذوي نياتهم، فقتلهم اللَّه فِي المعركة.
ثُمَّ اتبعت الخيل شرادهم فقتلوا فِي الطريق والآخاذ والقري، والحمد لِلَّهِ رب العالمين، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه.
فلما أتى هَذَا الكتاب الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بعث به الى الزُّبَيْر فقرئ عَلَى الناس بمكة.
وكتب الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى المهلب:
أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك، تذكر فِيهِ نصر اللَّه إياك، وظفر الْمُسْلِمِينَ، فهنيئا لك يَا أخا الأزد بشرف الدُّنْيَا وعزها، وثواب الآخرة وفضلها، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه.
فلما قرأ المهلب كتابه ضحك ثُمَّ قَالَ: أما تظنونه يعرفني إلا بأخي الأزد! مَا أهل مكة إلا أعراب.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو المخارق الراسبي أن أبا عَلْقَمَة اليحمدي قاتل يوم سلى وسلبرى قتالا لم يقاتله أحد مِنَ النَّاسِ، وأنه أخذ ينادي فِي
(5/620)
شباب الأزد وفتيان اليحمد: أعيرونا جماجمكم ساعة من نهار، فأخذ فتيان مِنْهُمْ يكرون، فيقاتلون ثُمَّ يرجعون إِلَيْهِ، يضحكون ويقولون: يَا أَبَا عَلْقَمَة، القدور تستعار! فلما ظهر المهلب ورأى من بلائه مَا رَأَى وفاه مائة ألف وَقَدْ قيل: إن أهل الْبَصْرَة قَدْ كَانُوا سألوا الأحنف قبل المهلب أن يقاتل الأزارقة، وأشار عَلَيْهِم بالمهلب، وَقَالَ: هُوَ أقوى عَلَى حربهم مني، وإن المهلب إذ أجابهم إِلَى قتالهم شرط عَلَى أهل الْبَصْرَة أن مَا غلب عَلَيْهِ من الأرض فهو لَهُ ولمن خف مَعَهُ من قومه وغيرهم ثلاث سنين، وإنه ليس لمن تخلف عنه مِنْهُ شَيْء فأجابوه إِلَى ذَلِكَ، وكتب بِذَلِكَ عَلَيْهِم كتابا، وأوفدوا بِذَلِكَ وفدا إِلَى ابن الزُّبَيْر.
وإن ابن الزُّبَيْر أمضى تِلَكَ الشروط كلها للمهلب وأجازها لَهُ، وإن المهلب لما أجيب إِلَى ما سال وجه ابنه حبيبا في ستمائه فارس إِلَى عَمْرو القنا، وَهُوَ معسكر خلف الجسر الاصغر في ستمائه فارس، فأمر المهلب بعقد الجسر الأصغر، فقطع حبيب الجسر إِلَى عَمْرو ومن مَعَهُ، فقاتلهم حَتَّى نفاهم عما بين الجسر، وانهزموا حَتَّى صاروا من ناحية الفرات، وتجهز المهلب فيمن خف من قومه مَعَهُ، وهم اثنا عشر ألف رجل، ومن سائر الناس سبعون رجلا، وسار المهلب حَتَّى نزل الجسر الأكبر، وعمرو القنا بازائه في ستمائه.
فبعث الْمُغِيرَة بن المهلب فِي الخيل والرجالة، فهزمتهم الرجالة بالنبل، واتبعتهم الخيل، وأمر المهلب بالجسر فعقد، فعبر هُوَ وأَصْحَابه، فلحق عَمْرو القنا حينئذ بابن الماحوز وأَصْحَابه، وَهُوَ بالمفتح، فأخبروهم الخبر، فساروا فعسكروا دون الأهواز بثمانية فراسخ، وأقام المهلب بقية سنته، فجبى كور دجلة، ورزق أَصْحَابه، وأتاه المدد من أهل الْبَصْرَة لما بلغهم ذَلِكَ، فأثبتهم فِي الديوان وأعطاهم حَتَّى صاروا ثَلاثِينَ ألفا قَالَ أَبُو جَعْفَر: فعلى قول هَؤُلاءِ كَانَتِ الوقعة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا هزيمة الأزارقة وارتحالهم عن نواحي الْبَصْرَة والأهواز إِلَى ناحية أصبهان وكرمان فِي
(5/621)
سنه ست وستين وقيل: انهم ارتحلوا عن الأهواز وهم ثلاثة آلاف، وإنه قتل مِنْهُمْ فِي الوقعة الَّتِي كَانَتْ بينهم وبين المهلب بسلى وسلبرى سبعة آلاف.
قَالَ أَبُو جَعْفَر: وفي هَذِهِ السنة وجه مَرْوَان بن الحكم قبل مهلكه ابنه مُحَمَّدا إِلَى الجزيرة، وَذَلِكَ قبل مسيره إِلَى مصر.
وفي هَذِهِ السنة عزل عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ عَبْد اللَّهِ بن يزيد عن الْكُوفَة، وولاها عَبْد اللَّهِ بن مطيع، ونزع عن الْمَدِينَة أخاه عبيدة بن الزُّبَيْرِ، وولاها أخاه مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وَكَانَ سبب عزله أخاه عبيدة عنها أنه- فِيمَا ذكر الْوَاقِدِيّ- خطب الناس فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ رأيتم مَا صنع بقوم فِي ناقه قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوم الناقة، وبلغ ذَلِكَ ابن الزبير فقال: ان هذا لهو التكلف
. ذكر خبر بناء عبد الله بن الزبير البيت الحرام
وفي هَذِهِ السنة بنى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ البيت الحرام، فأدخل الحجر فِيهِ.
أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ جِيلٍ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَ غُلِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ أُمِّي أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ حدثتني ان رسول الله ص قَالَ لِعَائِشَةَ: [لَوْلا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ رَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزِيدُ فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْحَجَرِ فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحُفِرَ،] فَوَجَدُوا قِلاعًا أَمْثَالَ الإِبِلِ، فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً، فَبَرَقَتْ بَارِقَةٌ فَقَالَ: أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا، فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ: يَدْخُلُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَخْرُجُ مِنَ الآخَرِ.
قَالَ أَبُو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ فِي آخِرِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ الَّذِي
(5/622)
يُقَالُ لَهُ الْقُبَاعُ وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَام بْنُ هبيرة، وعلى خُرَاسَان عبد الله بن خازم
. خروج بنى تميم بخراسان على عبد الله بن خازم
4 وفي هذه السنة خالف من كَانَ بخراسان من بني تميم عَبْد اللَّهِ بن خازم حَتَّى وقعت بينهم حروب.
ذكر الخبر عن سبب ذَلِكَ:
وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ- فِيمَا ذكر- أن من كَانَ بخراسان من بني تميم أعانوا عَبْد اللَّهِ بن خازم عَلَى من كَانَ بِهَا من رَبِيعَة، وعلى حرب أوس بن ثعلبة حَتَّى قتل من قتل مِنْهُمْ، وظفر بِهِ، وصفا لَهُ خُرَاسَان، فلما صفا لَهُ ولم ينازعه بِهِ أحد جفاهم وَكَانَ قَدْ ضم هراة إِلَى ابنه مُحَمَّد واستعمله عَلَيْهَا، وجعل بكير بن وشاح عَلَى شرطته، وضم إِلَيْهِ شماس بن دثار العطاردي، وكانت أم ابنه مُحَمَّد امرأة من تميم تدعى صفية، فلما جفا ابن خازم بني تميم أتوا ابنه مُحَمَّدا بهراة، فكتب ابن خازم إِلَى بكير وشماس يأمرهما بمنع بني تميم من دخول هراة، فأما شماس بن دثار فأبى ذَلِكَ، وخرج من هراة، فصار من بني تميم، وأما بكير فمنعهم من الدخول.
فذكر عَلِيّ بن مُحَمَّدٍ أن زهير بن الهنيد حدثه أن بكير بن وشاح لما منع بني تميم من دخول هراة أقاموا ببلاد هراة، وخرج إِلَيْهِم شماس بن دثار فأرسل بكير إِلَى شماس: إني أعطيك ثَلاثِينَ ألفا، وأعطي كل رجل من بني تميم ألفا عَلَى أن ينصرفوا، فأبوا، فدخلوا الْمَدِينَة، وقتلوا مُحَمَّد بن عبد الله ابن خازم قَالَ علي: فأخبرنا الْحَسَن بن رشيد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عزيز الكندي قَالَ: خرج مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم يتصيد بهراة، وَقَدْ منع بني تميم من دخولها، فرصدوه، فأخذوه فشدوه وثاقا، وشربوا ليلتهم، وجعل كلما أراد رجل مِنْهُمُ البول بال عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ شماس بن دثار: أما إذ بلغتم هَذَا مِنْهُ فاقتلوه بصاحبيكما اللذين قتلهما بالسياط قَالَ: وَقَدْ كَانَ أخذ قبيل
(5/623)
ذَلِكَ رجلين من بني تميم، فضربهما بالسياط حَتَّى ماتا قَالَ: فقتلوه، قَالَ:
فزعم لنا عمن شهد قتله من شيوخهم أن جيهان بن مشجعة الضبي نهاهم عن قتله، وألقى نفسه عَلَيْهِ، فشكر لَهُ ابن خازم ذَلِكَ، فلم يقتله فيمن قتل يوم فرتنا قَالَ: فزعم عَامِر بن أبي عمر أنه سمع أشياخهم من بني تميم يزعمون أن الَّذِي ولى قتل مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم رجلان من بني مالك بن سَعْدٍ، يقال لأحدهما: عجلة، وللآخر كسيب فَقَالَ ابن خازم: بئس مَا اكتسب كسيب لقومه، وَلَقَدْ عجل عجلة لقومه شرا.
قَالَ علي: وَحَدَّثَنَا أَبُو الذيال زهير بن هنيد العدوي، قَالَ: لما قتل بنو تميم مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خازم انصرفوا إِلَى مرو، فطلبهم بكير بن وشاح فأدرك رجلا من بني عطارد يقال لَهُ شميخ، فقتله، وأقبل شماس وأَصْحَابه إِلَى مرو، فَقَالُوا لبني سعد: قَدْ أدركنا لكم بثأركم، قتلنا مُحَمَّد بن عَبْدِ الله ابن خازم بالجشمي الَّذِي أصيب بمرو، فأجمعوا عَلَى قتال ابن خازم، وولوا عَلَيْهِم الحريش بن هلال القريعي.
قَالَ: فأخبرني أَبُو الفوارس عن طفيل بن مِرْدَاس، قَالَ: أجمع أكثر بني تميم عَلَى قتال عَبْد اللَّهِ بن خازم، قَالَ: وَكَانَ مع الحريش فرسان لم يدرك مثلهم، إنما الرجل مِنْهُمْ كتيبة، مِنْهُمْ شماس بن دثار، وبحير بن ورقاء الصريمي، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري، والحجاج بن ناشب العدوي- وَكَانَ من أرمى الناس- وعاصم بن حبيب العدوي، فقاتل الحريش بن هلال عَبْد اللَّهِ بن خازم سنتين.
قَالَ: فلما طالت الحرب والشر بينهم ضجروا، قَالَ: فخرج الحريش فنادى ابن خازم، فخرج إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ طالت الحرب بيننا، فعلام تقتل قومي وقومك! ابرز لي، فأينا قتل صاحبه صارت الأرض لَهُ، فَقَالَ ابن خازم:
وأبيك لقد أنصفتني، فبرز لَهُ، فتصاولا تصاول الفحلين، لا يقدر أحد
(5/624)
منهما عَلَى مَا يريد وتغفل ابن خازم غفلة، وضربه الحريش عَلَى رأسه، فرمى بفروة رأسه عَلَى وجهه، وانقطع ركابا الحريش، وانتزع السيف قَالَ:
فلزم ابن خازم عنق فرسه راجعا إِلَى أَصْحَابه وبه ضربة قَدْ أخذت من رأسه، ثُمَّ غاداهم القتال، فمكثوا بِذَلِكَ بعد الضربة أياما، ثُمَّ مل الفريقان فتفرقوا ثلاث فرق، فمضى بحير بن ورقاء إِلَى أَبْرَشَهْر فِي جماعة، وتوجه شماس بن دثار العطاردي ناحية أخرى، وقيل: أتى سجستان، وأخذ عُثْمَان بن بشر بن المحتفز إِلَى فرتنا، فنزل قصرا بِهَا، ومضى الحريش إِلَى ناحية مرو الروذ، فاتبعه ابن خازم، فلحقه بقرية من قراها يقال لها قرية الملحمة- أو قصر الملحمة- والحريش بن هلال فِي اثني عشر رجلا، وَقَدْ تفرق عنه أَصْحَابه، فهم فِي خربة، وَقَدْ نصب رماحا كَانَتْ مَعَهُ وترسة.
قَالَ: وانتهى إِلَيْهِ ابن خازم، فخرج إِلَيْهِ فِي أَصْحَابه، ومع ابن خازم مولى لَهُ شديد البأس، فحمل عَلَى الحريش فضربه فلم يصنع شَيْئًا، فَقَالَ رجل من بني ضبة للحريش: أما ترى مَا يصنع العبد! فَقَالَ لَهُ الحريش: عَلَيْهِ سلاح كثير، وسيفي لا يعمل فِي سلاحه، ولكن انظر لي خشبة ثقيلة، فقطع لَهُ عودا ثقيلا من عناب- ويقال: أصابه فِي القصر- فأعطاه إِيَّاهُ، فحمل بِهِ عَلَى مولى ابن خازم، فضربه فسقط وقيذا ثُمَّ أقبل عَلَى ابن خازم، فَقَالَ:
مَا تريد إلي وَقَدْ خليتك والبلاد! قَالَ: إنك تعود إِلَيْهَا، قَالَ: فإني لا أعود، فصالحه عَلَى أن يخرج لَهُ من خُرَاسَان وَلا يعود إِلَى قتاله، فوصله ابن خازم بأربعين ألفا قَالَ: وفتح لَهُ الحريش باب القصر، فدخل ابن خازم، فوصله وضمن لَهُ قضاء دينه، وتحدثا طويلا قَالَ:: وطارت قطنة كَانَتْ عَلَى رأس ابن خازم ملصقة عَلَى الضربة الَّتِي كَانَ الحريش ضربه، فقام الحريش فتناولها، فوضعها عَلَى رأسه، فَقَالَ لَهُ ابن خازم: مسك الْيَوْم يَا أَبَا قدامة ألين من مسك أمس، قَالَ: معذرة إِلَى اللَّهِ وإليك، أما وَاللَّهِ لولا أن ركابي انقطعا لخالط السيف أضراسك فضحك ابن خازم، وانصرف عنه، وتفرق
(5/625)
جمع بني تميم، فَقَالَ بعض شعراء بني تميم:
فلو كنتمُ مثل الحريش صبرتمُ ... وكنتم بقصر الملح خير فوارس
إذا لسقيتم بالعوالي ابن خازم ... سجال دم يورثن طول وساوس
قَالَ: وَكَانَ الأشعث بن ذؤيب أخو زهير بن ذؤيب العدوي قتل فِي تِلَكَ الحرب، فَقَالَ لَهُ أخوه زهير وبه رمق: من قتلك؟ قَالَ: لا أدري، طعنني رجل عَلَى برذون أصفر، قَالَ: فكان زهير لا يرى أحدا عَلَى برذون أصفر إلا حمل عَلَيْهِ، فمنهم من يقتله، ومنهم من يهرب، فتحامى أهل العسكر البراذين الصفر، فكانت مخلاة فِي العسكر لا يركبها أحد وَقَالَ الحريش فِي قتاله ابن خازم:
أزال عظم يميني عن مركبه ... حمل الرديني فِي الإدلاج والسحر
حولين مَا اغتمضت عيني بمنزلة ... إلا وكفي وساد لي عَلَى حجر
بزي الحديد وسربالي إذا هجعت ... عنى العيون محال القارح الذكر
تم الجزء الخامس من تاريخ الطبرى ويليه الجزء السادس، واوله: ذكر حوادث سنه ست وستين.
(5/626)
الجزء السادس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دخلت
سنة ست وستين
(ذكر الخبر عن الكائن الَّذِي كَانَ فِيهَا من الأمور الجليلة) فمما كَانَ فِيهَا من ذَلِكَ وثوب المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبا بدم الْحُسَيْن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وإخراجه منها عامل ابن الزُّبَيْر عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوي.
ذكر الخبر عما كَانَ من أمرهما فِي ذَلِكَ وظهور المختار للدعوة إِلَى مَا دعا إِلَيْهِ الشيعة بالكوفة:
ذَكَرَ هِشَام بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، أَنَّ فُضَيْلَ بْنَ خَدِيجٍ، حَدَّثَهُ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ عَمْرو وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ مِنْ بَنِي هِنْدٍ أَنَّ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ لَمَّا قَدِمُوا كَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمُخْتَارُ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَعْظَمَ لَكُمُ الأَجْرَ، وَحَطَّ عَنْكُمُ الْوِزْرَ، بِمُفَارَقَةِ الْقَاسِطِينَ، وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ، إِنَّكُمْ لَمْ تُنْفِقُوا نَفَقَةً، وَلَمْ تَقْطَعُوا عُقْبَةً، وَلَمْ تَخْطُوا خُطْوَةً إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ لَكُمْ بِهَا دَرَجَةً، وَكَتَبَ لَكُمْ بِهَا حَسَنَةً، إِلَى مَا لا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ مِنَ التَّضْعِيفِ، فَأَبْشِرُوا فَإِنِّي لو قَدْ خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ قَدْ جَرَّدْتُ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي عَدُوِّكُمُ السَّيْفَ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَجَعَلْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ رُكَامًا، وَقَتَلْتُهُمْ فَذًّا وَتُؤَامًا، فَرَحَّبَ اللَّهُ بِمَنْ قَارَبَ مِنْكُمْ وَاهْتَدَى، وَلا يُبْعِدُ اللَّهُ إِلَّا مَنْ عَصَى وَأَبَى، وَالسَّلامُ يَا أَهْلَ الْهُدَى.
فَجَاءَهُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ سَيْحَانُ بْنُ عَمْرٍو، مِنْ بَنِي لَيْثٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدْ أَدْخَلَهُ فِي قُلُنْسُوَتِهِ فِيمَا بَيْنَ الظِّهَارَةِ وَالْبِطَانَةِ، فَأَتَى بِالْكِتَابِ رِفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ
(6/6)
وَالْمُثَنَّى بْنَ مَخْرَبَةَ الْعَبْدِيَّ وَسَعْدَ بْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَيَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ وَأَحْمَرَ بْنَ شُمَيْطٍ الأَحْمَسِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ الْبَجْلِيَّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ ابْنَ كَامِلٍ، فَقَالُوا: قُلْ لَهُ: قَدْ قَرَأْنَا الْكِتَابَ، وَنَحْنُ حَيْثُ يَسُرُّكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ نَأْتِيَكَ حَتَّى نُخْرِجَكَ فَعَلْنَا.
فَأَتَاهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ السِّجْنَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِهِ، فُسَرَّ بِاجْتِمَاعِ الشِّيعَةِ لَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: لا تُرِيدُوا هَذَا، فَإِنِّي أَخْرُجُ فِي أَيَّامِي هَذِهِ.
قَالَ: وَكَانَ الْمُخْتَارُ قَدْ بَعَثَ غُلامًا يُدْعَى زُرَبْيًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ:
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي قَدْ حُبِسْتُ مَظْلُومًا، وَظَنَّ بِيَ الْوُلَاةُ ظُنُونًا كَاذِبَةً، فَاكْتُبْ فِيَّ يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِلَى هَذَيْنِ الظَّالِمَيْنِ كِتَابًا لَطِيفًا، عَسَى اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي مِنْ أيديهما بلطفك وبركتك ويمنك، وَالسَّلامُ عَلَيْكَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ عَلِمْتُمَا الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مِنَ الصَّهْرِ، والَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مِنَ الْوُدِّ، فَأَقْسَمْتُ عَلَيْكُمَا بِحَقِّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا لَمَا خَلَّيْتُمَا سَبِيلَهُ حِينَ تَنْظُرَانِ فِي كِتَابِي هَذَا، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
فَلَمَّا أَتَى عَبْد اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّد بْنِ طَلْحَةَ كِتَابُ عبد الله ابن عُمَرَ دَعَوَا لِلْمُخْتَارِ بِكُفَلَاءَ يَضْمَنُونَهُ بِنَفْسِهِ، فَأَتَاهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُؤَيْمٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ: مَا تَصْنَعُ بِضَمَانِ هَؤُلاءِ كُلِّهِمْ! ضَمِّنْهُ عَشَرَةً مِنْهُمْ أَشْرَافًا مَعْرُوفِينَ، وَدَعْ سَائِرَهُمْ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا ضَمِنُوهُ، دَعَا بِهِ عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ وإبراهيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَةَ فَحَلَّفَاهُ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لا يَبْغِيهِمَا غَائِلَةً، وَلا يَخرُجُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَ لَهُمَا سُلْطَانٌ، فَإِنْ هُوَ فَعَلَ فَعَلَيْهِ أَلْفُ بدنه
(6/8)
يَنْحَرُهَا لَدَى رَتَاجِ الْكَعْبَةِ، وَمَمَالِيكُهُ كُلُّهُمْ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ أَحْرَارٌ فَحَلَفَ لَهُمَا بِذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَاءَ دَارَهُ فَنَزَلَهَا.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يحيى بن أبي عيسى، عن حميد بن مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُخْتَارَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! مَا أَحْمَقَهُمْ حِينَ يَرَوْنَ أَنِّي أَفِي لَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ هَذِهِ! أَمَّا حَلِفِي لَهُمْ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِي إِذَا حَلَفْتُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا أَنْ أَدَعَ مَا حَلَفْتُ عَلَيْهِ وَآتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأُكَفِّرَ يَمِينِي، وَخُرُوجِي عَلَيْهِمْ خَيْرٌ مِنْ كفى عنهم، واكفر يميني، وَأَمَّا هَدْيُ أَلْفِ بَدَنَةٍ فَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ بَصْقَةٍ، وَمَا ثَمَنُ أَلْفِ بَدَنَةٍ فَيَهُولُنِي! واما عتق مماليكى فو الله لَوَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَتَبَّ لِي أَمْرِي، ثُمَّ لَمْ أَمْلِكْ مَمْلُوكًا أَبَدًا.
قَالَ: وَلَمَّا نَزَلَ الْمُخْتَارُ دَارَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ، اخْتَلَفَ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهَا عَلَى الرِّضَا بِهِ، وَكَانَ الَّذِي يُبَايِعُ لَهُ النَّاسَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ خَمْسَةُ نَفَرٍ: السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ الْفِتْيَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن شداد الجشمى.
قال: فلم تزل أَصْحَابُهُ يَكْثُرُونَ، وَأَمْرُهُ يَقْوَى وَيَشْتَدُّ حَتَّى عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبْد اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ بن مُحَمَّد بن طلحه، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ عَلَى عَمَلِهِمَا إِلَى الْكُوفَةِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: دَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ أَخَا بَنِي عَدِيِّ ابن كَعْبٍ وَالْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَبَعَثَ الْحَارِث بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى الْبَصْرَةِ قَالَ:
فَبَلَغَ ذَلِكَ بَحِيرَ بْنَ رَيْسَانَ الْحِمْيَرِيَّ، فَلَقِيَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: يَا هَذَانِ، إِنَّ الْقَمَرَ اللَّيْلَةَ بِالنَّاطِحِ، فَلا تَسِيرَا فَأَمَّا ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، فَأَطَاعَهُ، فأقام يسيرا
(6/9)
ثُمَّ شَخَصَ إِلَى عَمَلِهِ فَسَلِمَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ نَطْلُبُ إِلَّا النَّطْحَ! قَالَ: فَلَقِيَ وَاللَّهِ نَطْحًا وَبَطْحًا، قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: وَالْبَلاءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ.
قال عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالا على البلاد، فقال: من بعث على البصرة؟
فقيل بعث عليها الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفا وجلس! ثم قال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيرا ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته.
قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك، وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين وقال لإبراهيم بن مُحَمَّد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين، فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الخراج، وقال: إنما كانت فتنة، فكف عنه ابن الزبير.
قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة والخراج، وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلي، وأمره أن يحسن السيرة والشدة على المريب.
قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدي- وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير- قال:
إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثني على مصركم وثغوركم، وأمرني بجباية فيئكم، والا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيره عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين، فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا
(6/10)
على أيدي سفهائكم، وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني، فو الله لاوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن درء الأصعر المرتاب فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما أمر ابن الزبير إياك الا تحمل فضل فيئنا عنا إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا، والا يقسم إلا فينا، وألا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا، فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا، وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرا، وقد كان لا يألو الناس خيرا فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله.
فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيره احببتموها وهو يتموها ثم نزل فقال:
يزيد بن أنس الأسدي: ذهبت بفضلها يا سائب، لا يعدمك المسلمون! أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحوا من مقالتك، وما أحب أن الله ولى الرد عليه رجلا من أهل المصر ليس من شيعتنا.
وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع، فقال له: إن السائب بن مالك من رءوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار، فابعث إليه فليأتك، فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس، فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له، وكأنه قد وثب بالمصر قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمي من همدان، فدخلا عليه، فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وامر باسراج دابته وتحشخش للذهاب معهما، فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى:
«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» ، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا علي القطيفة، ما أراني إلا قد وعكت، إني لأجد قفقفة
(6/11)
شديدة، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدي:
إذا ما معشر تركوا نداهم ... ولم يأتوا الكريهة لم يهابوا
ارجعا إلى ابن مطيع، فأعلماه حالي التي أنا عليها فقال له زائدة بن قدامة: أما أنا ففاعل، فقال: وأنت يا أخا همدان فاعذرني عنده فإنه خير لك.
قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني، عن حسين بن عبد الله، قال: قلت في نفسي: والله إن أنا لم أبلغ عن هذا ما يرضيه ما أنا بآمن من أن يظهر غدا فيهلكني قال: فقلت له، نعم، انا أضع عند ابن مطيع عذرك، وأبلغه كل ما تحب، فخرجنا من عنده، فإذا أصحابه على بابه، وفي داره منهم جماعة كثيرة قال: فأقبلنا نحو ابن مطيع، فقلت لزائدة بن قدامة: أما إني قد فهمت قولك حين قرأت تلك الآية، وعلمت ما أردت بها، وقد علمت أنها هي ثبطته عن الخروج معنا بعد ما كان قد لبس ثيابه، وأسرج دابته، وعلمت حين تمثل البيت الذي تمثل إنما أراد يخبرك أنه قد فهم عنك ما أردت أن تفهمه، وأنه لن يأتيه قال: فجاحدني أن يكون أراد شيئا من ذلك، فقلت له: لا تحلف، فو الله ما كنت لأبلغ عنك ولا عنه شيئا تكرهانه، ولقد علمت أنك مشفق عليه، تجد له ما يجد المرء لابن عمه فأقبلنا الى ابن مطيع، فأخبرناه بعلته وشكواه، فصد قنا ولها عنه.
قال: وبعث المختار إلى أصحابه، فأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم، فجاء رجل من أصحابه من شبام- وكان عظيم الشرف يقال له عبد الرحمن بن شريح- فلقي سعيد بن منقذ الثوري وسعر ابن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك الجشمي، فاجتمعوا في منزل سعر الحنفي، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإن المختار يريد أن يخرج بنا، وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلنخبره بما قدم علينا به
(6/12)
وبما دعانا إليه، فإن رخص لنا في اتباعه اتبعناه، وان نهانا عنه اجتنبناه، فو الله ما ينبغي أن يكون شيء من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا.
فقالوا له: أرشدك الله! فقد أصبت ووفقت، اخرج بنا إذا شئت.
فاجمع رأيهم على أن يخرجوا من أيامهم، فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفية، وكان أمامهم عبد الرحمن بن شريح، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فخبروه عن حالهم وما هم عليه قال أبو مخنف: فحدثني خليفة بن ورقاء، عن الأسود بن جراد الكندي قال: قلنا لابن الحنفية، إن لنا إليك حاجة، قال: فسر هي أم علانية؟
قال: قلنا: لا، بل سر، قال: فرويدا إذا، قال: فمكث قليلا، ثم تنحى جانبا فدعانا فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فتكلم، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة، وشرفكم بالنبوة، وعظم حقكم على هذه الأمة، فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرأي، مخسوس النصيب، قد أصبتم بحسين رحمه الله عليه عظمت مصيبه اختصصتم بها، بعد ما عم بها المسلمون وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد يزعم لنا أنه قد جاءنا من تلقائكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء، فبايعناه على ذلك ثم إنا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، وندبنا له، فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه.
ثم تكلمنا واحدا واحدا بنحو مما تكلم به صاحبنا، وهو يسمع، حتى إذا فرغنا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ ص، ثم قال:
أما بعد، فأما ما ذكرتم مما خصصنا الله به من فضل، فإن اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم، فلله الحمد! وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين، فإن ذلك كان في الذكر الحكيم
(6/13)
وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً.
وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا، فو الله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
قال: فخرجنا من عنده، ونحن نقول: قد أذن لنا، قد قال: لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، ولو كره لقال: لا تفعلوا.
قال: فجئنا وأناس من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنا قد أعلمناه بمخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا، ممن كان على رأينا من إخواننا، وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشق ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذل الشيعة عنه، فكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل قدومنا، فلم يتهيأ ذلك له، فكان المختار يقول: إن نفيرا منكم ارتابوا وتحيروا وخابوا، فإن هم أصابوا أقبلوا وأنابوا، وإن هم كبوا وهابوا، واعترضوا وانجابوا، فقد ثبروا وخابوا، فلم يكن الا شهرا وزياده شيء، حتى اقبل القوم على رواحلهم، حتى دخلوا على المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم، فقالوا له: قد أمرنا بنصرتك فقال: الله أكبر! أنا أبو إسحاق، اجمعوا إلي الشيعة، فجمع له منهم من كان منه قريبا فقال: يا معشر الشيعة، إن نفرا منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى ابن خير من طشى ومشى، حاشا النبي المجتبى، فسألوه عما قدمت به عليكم، فنبأهم أني وزيره وظهيره، ورسوله وخليله، وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين.
فقام عبد الرحمن بن شريح، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يا معشر الشيعة، فإنا قد كنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة، فقدمنا على المهدي بن علي، فسألناه عن حربنا هذه، وعما دعانا إليه المختار منها، فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه،
(6/14)
فأقبلنا طيبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشك والغل والريب، واستقامت لنا بصيرتنا في قتال عدونا، فليبلغ ذلك شاهدكم، غائبكم، واستعدوا وتأهبوا ثم جلس وقمنا رجلا فرجلا، فتكلمنا بنحو من كلامه، فاستجمعت له الشيعة وحدبت عليه.
قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة والمشرقي، عن عامر الشعبي، قال: كنت أنا وأبي أول من أجاب المختار قال: فلما تهيأ أمره ودنا خروجه، قال له أحمر بن شميط ويزيد بن أنس وعبد الله بن كامل وعبد الله بن شداد: إن أشراف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع، فإن جامعنا على أمرنا إبراهيم بن الأشتر رجونا بإذن الله القوه على عدونا، والا يضرنا خلاف من خالفنا، فإنه فتى بئيس، وابن رجل شريف بعيد الصيت، وله عشيرة ذات عز وعدد قال لهم المختار: فألقوه فادعوه، وأعلموه الذي أمرنا به من الطلب بدم الحسين وأهل بيته.
قال الشعبي: فخرجوا إليه وأنا فيهم، وأبي، فتكلم يزيد بن أنس، فقال له:
إنا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك، وندعوك إليه، فإن قبلته كان خيرا لك، وإن تركته فقد أدينا إليك فيه النصيحة، ونحن نحب أن يكون عندك مستورا.
فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: وإن مثلي لا تخاف غائلته ولا سعايته، ولا التقرب إلى سلطانه باغتياب الناس، إنما أولئك الصغار الأخطار الدقاق همما.
فقال له: إنما ندعوك إلى أمر قد أجمع عليه رأي الملإ من الشيعة، إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه صَلَّى اللَّه عليه، والطلب بدماء أهل البيت، وقتال المحلين، والدفع عن الضعفاء قال: ثم تكلم أحمر بن شميط، فقال له: إني لك ناصح، ولحظك محب وإن أباك قد هلك وهو سيد الناس وفيك منه إن رعيت حق الله خلف، قد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس، وأحييت من ذلك أمرا قد مات، إنما يكفي مثلك اليسير حتى تبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها، إنه قد بنى لك أولك مفتخرا واقبل القوم
(6/15)
كلهم عليه يدعونه إلى أمرهم ويرغبونه فيه فقال لهم إبراهيم بن الأشتر:
فإني قد أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته، على أن تولوني الأمر، فقالوا: أنت لذلك أهل، ولكن ليس إلى ذلك سبيل، هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي، وهو الرسول والمأمور بالقتال، وقد أمرنا بطاعته فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم فانصرفنا من عنده إلى المختار فأخبرناه بما رد علينا، قال: فغبر ثلاثا، ثم إن المختار دعا بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه- قال الشعبي: أنا وأبي فيهم- قال: فسار بنا ومضى أمامنا يقد بنا بيوت الكوفة قدا لا ندري أين يريد، حتى وقف على باب إبراهيم بن الأشتر، فاستأذنا عليه فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد، فجلسنا عليها وجلس المختار معه على فراشه، فقال المختار:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وصلى الله على مُحَمَّد، والسلام عليه، أما بعد، فإن هذا كتاب إليك من المهدى محمد بن أمير المؤمنين الوصي، وهو خير أهل الأرض اليوم، وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله، وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجة عليك، وسيغني الله المهدي مُحَمَّدا وأولياءه عنك.
قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إلي حين خرج من منزله، فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعته إليه، فدعا بالمصباح وفض خاتمه، وقرأه فإذا هو:
بسم الله الرحمن الرحيم من مُحَمَّد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيرى وأميني ونجيي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي، فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك، فإنك إن نصرتني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري كانت لك عندي بذلك فضيلة، ولك بذلك أعنة الخيل وكل جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة وأقصى بلاد أهل
(6/16)
الشام، على الوفاء بذلك علي عهد الله، فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكا لا تستقيله أبدا، والسلام عليك.
فلما قضى إبراهيم قراءة الكتاب، قال: لقد كتب إلي ابن الحنفية، وقد كتبت إليه قبل اليوم، فما كان يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه، قال له 2 المختار: إن ذلك زمان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلي؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم- قال الشعبي: إلا أنا وأبي- فقالوا: نشهد أن هذا كتاب مُحَمَّد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عند ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنا بفاكهة، فأصبنا منها، ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا، وخرج معنا ابن الأشتر، فركب مع المختار حتى دخل رحله، فلما رجع إبراهيم منصرفا أخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك، أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال: قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقا قال: فقلت له هذه المقالة، وأنا والله لهم على شهادتهم متهم، غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم، وأحب تمام ذلك الأمر، فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك، فقال لي ابن الأشتر: اكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا شهد عليه السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي، حتى أتى على أسماء القوم، ثم كتب: شهدوا أن مُحَمَّد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الاشتر يأمره بموازره المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهاده شراحيل ابن عبد- وهو أبو عامر الشعبي الفقيه- وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي،
(6/17)
وعامر بن شراحيل الشعبي فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال:
دعه يكون قال: ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار.
قال هشام بن مُحَمَّد: قال أبو مخنف: حدثني يحيى بن أبي عيسى الأزدي، قال: كان حميد بن مسلم الأسدي صديقا لإبراهيم بن الأشتر، وكان يختلف إليه، ويذهب به معه، وكان إبراهيم يروح في كل عشية عند المساء، فيأتي المختار، فيمكث عنده حتى تصوب النجوم ثم ينصرف، فمكثوا بذلك يدبرون أمورهم، حتى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين ووطن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر، فأذن، ثم إنه استقدم، فصلى بنا المغرب، ثم خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أو الذئب- وهو يريد المختار، - فأقبلنا علينا السلاح، وقد أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال: إن المختار خارج عليك إحدى الليلتين، قال:
فخرج إياس في الشرط، فبعث ابنه راشدا إلى الكناسة، وأقبل يسير حول السوق في الشرط ثم إن إياس بن مضارب دخل على ابن مطيع، فقال له: إني قد بعثت ابني إلى الكناسة، فلو بعثت في كل جبانة بالكوفة عظيمة رجلا من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة، هاب المريب الخروج عليك قال:
فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبانة السبيع، وقال:
اكفني قومك، لا أوتين من قبلك، وأحكم أمر الجبانة التي وجهتك إليها، لا يحدثن بها حدث، فاوليك العجز والوهن وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة كندة، وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم، وبعث عبد الرحمن بن مخنف بن سليم إلى جبانة الصائديين، وبعث يزيد بن الحارث بن رؤيم أبا حوشب الى جبانه مراد
(6/18)
واوصى كل رجل ان يكفيه قومه، والا يؤتى من قبله، وأن يحكم الوجه الذي وجهه فيه، وبعث شبث بن ربعي إلى السبخة، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم، فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الاثنين، فنزلوا هذه الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار، وقد بلغه أن الجبابين قد حشيت رجالا، وأن الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر.
قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى، عن حميد بن مسلم، قال: خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتى مررنا بدار عمرو بن حريث، ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو من مائة، علينا الدروع، قد كفرنا عليها بالاقبيه، ونحو متقلد والسيوف، ليس معنا سلاح إلا السيوف في عواتقنا، والدروع قد سترناها بأقبيتنا، فلما مررنا بدار سعيد بن قيس فجزناها إلى دار أسامة، قلنا: مر بنا على دار خالد بن عرفطة، ثم امض بنا إلى بجيلة، فلنمر في دورهم حتى نخرج إلى دار المختار- وكان إبراهيم فتى حدثا شجاعا، فكان لا يكره أن يلقاهم- فقال: والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السوق، ولأرعبن به عدونا ولأرينهم هوانهم علينا قال: فأخذنا على باب الفيل على دار ابن هبار، ثم أخذ ذات اليمين على دار عمرو بن حريث، حتى إذا جاوزها ألفينا إياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح، فقال لنا: من أنتم؟ ما أنتم؟
فقال له إبراهيم: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال له ابن مضارب: ما هذا الجمع معك؟
وما تريد؟ والله إن أمرك لمريب! وقد بلغني أنك تمر كل عشية هاهنا، وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه فقال إبراهيم: لا أبا لغيرك! خل سبيلنا، فقال: كلا والله لا أفعل- ومع إياس بن مضارب رجل من همدان، يقال له أبو قطن، كان يكون مع إمرة الشرطة فهم يكرمونه ويؤثرونه، وكان لابن الأشتر صديقا- فقال له ابن الأشتر: يا أبا قطن، ادن مني- ومع أبي قطن رمح له طويل-، فدنا منه أبو قطن، ومعه الرمح،
(6/19)
وهو يرى أن ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب ليخلي سبيله، فقال إبراهيم- وتناول الرمح من يده: إن رمحك هذا لطويل، فحمل به إبراهيم على ابن مضارب، فطعنه في ثغرة نحره فصرعه، وقال لرجل من قومه: انزل عليه، فاحتز رأسه، فنزل إليه فاحتز رأسه، وتفرق أصحابه ورجعوا إلى ابن مطيع فبعث ابن مطيع ابنه راشد بن إياس مكان أبيه على الشرطة، وبعث مكان راشد بن إياس إلى الكناسة تلك الليلة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار ليلة الأربعاء، فدخل عليه فقال له إبراهيم: إنا اتعدنا للخروج للمقابله ليلة الخميس، وقد حدث أمر لا بد من الخروج الليلة، قال المختار: ما هو؟
قال: عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني بزعمه، فقتلته، وهذا رأسه مع أصحابي على الباب فقال المختار: فبشرك الله بخير! فهذا طير صالح، وهذا أول الفتح ان شاء الله ثم قال المختار: قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل في الهرادي النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم أنت يا عبد الله بن شداد، فناد: يا منصور أمت، وقم أنت يا سفيان بن ليل، وأنت يا قدامه ابن مالك، فناد: يا لثأرات الحسين! ثم قال المختار: علي بدرعي وسلاحي، فأتي به، فأخذ يلبس سلاحه ويقول:
قد علمت بيضاء حسناء الطلل ... واضحة الخدين عجزاء الكفل
أني غداة الروع مقدام بطل.
ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الرءوس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم، فلو أني خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتي قومي، فيأتيني كل من قد بايعني من قومي، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا، فخرج إلي من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس، فمن أتاك حبسته عندك إلى من
(6/20)
معك ولم تفرقهم، فإن عوجلت فأتيت كان معك من تمتنع به، وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك في الخيل والرجال قال له إما لا فاعجل وإياك أن تسير إلى أميرهم تقاتله، ولا تقاتل أحدا وأنت تستطيع الا تقاتل، واحفظ ما أوصيتك به إلا أن يبدأك أحد بقتال فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها، حتى أتى قومه، واجتمع إليه جل من كان بايعه وأجابه ثم إنه سار بهم في سكك الكوفة طويلا من الليل، وهو في ذلك يتجنب السكك التي فيها الأمراء، فجاء إلى الذين معهم الجماعات الذين وضع ابن مطيع في الجبابين وأفواه الطرق العظام، حتى انتهى إلى مسجد السكون، وعجلت إليه خيل من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس لهم قائد ولا عليهم أمير فشد عليهم ابراهيم بن اشتر وأصحابه، فكشفوهم حتى دخلوا جبانة كندة، فقال إبراهيم: من صاحب الخيل في 2 جبانة كندة فشد إبراهيم وأصحابه عليهم، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك، وثرنا لهم، فانصرنا عليهم، وتمم لنا دعوتنا، حتى انتهى إليهم هو وأصحابه، فخالطوهم وكشفوهم فقيل له: زحر بن قيس، فقال: انصرفوا بنا عنهم، فركب بعضهم بعضا كلما لقيهم زقاق دخل منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون.
ثم خرج إبراهيم يسير حتى انتهى إلى جبانة أثير، فوقف فيها طويلا، ونادى أصحابه بشعارهم، فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم في جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلا وهم معه في الجبانة، فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه:
يا شرطة الله، انزلوا فإنكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفساق الذين خاضوا دماء اهل بيت رسول الله ص فنزلوا ثم شد عليهم إبراهيم، فضربهم حتى أخرجهم من الصحراء، وولوا منهزمين يركب بعضهم بعضا، وهم يتلاومون، فقال قائل منهم: إن هذا الأمر يراد، ما يلقون لنا جماعة
(6/21)
إلا هزموهم! فلم يزل يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم: أتبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلى من ندعو وما نطلب، وإلى من يدعون وما يطلبون! قال: لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتى يؤمن الله بنا وحشته، ونكون من أمره على علم، ويعلم هو أيضا ما كان من عنائنا، فيزداد هو وأصحابه قوة وبصيرة إلى قواهم وبصيرتهم، مع أني لا آمن أن يكون قد اتى.
فاقبل ابراهيم في أصحابه حتى مر بمسجد الأشعث، فوقف به ساعة، ثم مضى حتى أتى دار المختار، فوجد الأصوات عالية، والقوم يقتتلون، وقد جاء شبث بن ربعي من قبل السبخة، فعبى له المختار يزيد بن أنس، وجاء حجار بن أبجر العجلي، فجعل المختار في وجهه في وجهه أحمر بن شميط، فالناس يقتتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجارا وأصحابه أن إبراهيم قد جاءهم من ورائهم، فتفرقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم، وذهبوا في الأزقة والسكك، وجاء قيس بن طهفة في قريب من مائة رجل من بني نهد من أصحاب المختار، فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا جميعا ثم إن شبث بن ربعي ترك لهم السكة، وأقبل حتى لقي ابن مطيع، فقال: ابعث إلى أمراء الجبابين فمرهم فليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثم انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإن أمر القوم قد قوي، وقد خرج المختار وظهر، واجتمع له أمره فلما بلغ ذلك المختار من مشورة شبث بن ربعي على ابن مطيع خرج المختار في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة.
قال: وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم، يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب بن أبي كعب الخثعمي منهم، وكان كعب في جبانة بشر، فلما بلغه ان شاكرا تخرج جاء يسير حتى نزل بالميدان، وأخذ عليهم بأفواه سككهم وطرقهم قال: فلما أتاهم أبو عثمان النهدي
(6/22)
في عصابة من أصحابه، نادى: يا لثأرات الحسين! يا منصور أمت! يايها الحي المهتدون، ألا إن أمير آل مُحَمَّد ووزيرهم قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعيا ومبشرا، فاخرجوا إليه يرحمكم الله! قال:
فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثأرات الحسين! ثم ضاربوا كعب بن أبي كعب حتى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتى نزلوا معه في عسكره، وخرج عبد الله بن قراد الخثعمي في جماعة من خثعم نحو المائتين حتى لحق بالمختار، فنزلوا معه في عسكره، وقد كان عرض له كعب بن أبي كعب فصافه، فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلى عنهم ولم يقاتلهم.
وخرجت شبام من آخر ليلتهم فاجتمعوا إلى جبانة مراد، فلما بلغ ذلك عبد الرحمن بن سعيد بن قيس بعث إليهم: إن كنتم تريدون اللحاق بالمختار فلا تمروا على جبانة السبيع، فلحقوا بالمختار، فتوافى إلى المختار ثلاثة آلاف وثمانمائه من اثني عشر ألفا كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر، فأصبح قد فرغ من تعبيته.
قال أبو مخنف: فحدثني الوالبي قال: خرجت أنا وحميد بن مسلم، والنعمان بن أبي الجعد إلى المختار ليلة خرج، فأتيناه في داره وخرجنا معه إلى معسكره، قال: فو الله ما انفجر الفجر حتى فرغ من تعبيته، فلما 2 أصبح استقدم، فصلى بنا الغداة بغلس، ثم قرأ وَالنَّازِعاتِ وعَبَسَ وَتَوَلَّى، قال: فما سمعنا إماما أمّ قوما أفصح لهجة منه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله، أن ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين، فأمرهم أن ينضموا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب: ناد في الناس فليأتوا المسجد، فنادى المنادي: ألا برئت الذمة من رجل لم يحضر المسجد الليلة! فتوافى الناس في المسجد، فلما اجتمعوا بعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو من ثلاثة آلاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت التيمي عن أبي سعيد الصيقل
(6/23)
قال: لما صلى المختار الغداة ثم انصرف سمعنا أصواتا مرتفعة فيما بين بني سليم وسكة البريد، فقال المختار: من يعلم لنا علم هؤلاء ما هم؟
فقلت له: أنا أصلحك الله! فقال المختار: أما لا فألق سلاحك وانطلق حتى تدخل فيهم كأنك نظار، ثم تأتيني بخبرهم قال: ففعلت، فلما دنوت منهم إذا مؤذنهم يقيم، فجئت حتى دنوت منهم فإذا شبث بن ربعي معه خيل عظيمة، وعلى خيله شيبان بن حريث الضبي، وهو في الرجالة معه منهم كثرة، فلما أقام مؤذنهم تقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» ، فقلت في نفسي: أما والله إني لأرجو أن يزلزل الله بكم، وقرأ: «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» ، فقال أناس من أصحابه: لو كنت قرأت سورتين هما أطول من هاتين شيئا! فقال شبث: ترون الديلم قد نزلت بساحتكم، وأنتم تقولون: لو قرات سوره البقرة وآل عمران! قال: وكانوا ثلاثة آلاف، قال: فأقبلت سريعا حتى أتيت المختار فأخبرته بخبر شبث وأصحابه، وأتاه معي ساعة أتيته سعر بن أبي سعر الحنفي يركض من قبل مراد، وكان ممن بايع المختار فلم يقدر على الخروج معه ليلة خرج مخافة الحرس، فلما أصبح أقبل على فرسه، فمر بجبانة مراد، وفيها راشد بن إياس، فقالوا:
كما أنت! ومن أنت؟ فراكضهم حتى جاء المختار، فأخبره خبر راشد، وأخبرته أنا خبر شبث، قال: فسرح إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن اياس في تسعمائة- ويقال ستمائة فارس وستمائة راجل- وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائه راجل، وقال لهما: امضيا حتى تلقيا عدو كما، فإذا لقيتماهم فانزلا في الرجال وعجلا الفراغ وابدءاهم بالاقدام، ولا تستهد فالهم، فإنهم أكثر منكم، ولا ترجعا إلي حتى تظهرا أو تقتلا فتوجه إبراهيم إلى راشد، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث في تسعمائة أمامه.
وتوجه نعيم بن هبيرة قبل شبث قال أبو مخنف: قال أبو سعيد الصيقل: كنت انا فيمن توجه مع نعيم
(6/24)
ابن هبيرة إلى شبث ومعي سعر بن أبي سعر الحنفي، فلما انتهينا إليه قاتلناه قتالا شديدا، فجعل نعيم بن هبيرة سعر بن أبي سعر الحنفي على الخيل، ومشى هو في الرجال فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت، فضربناهم حتى أدخلناهم البيوت، ثم إن شبث بن ربعي ناداهم: يا حماة السوء! بئس فرسان الحقائق أنتم! أمن عبيدكم تهربون! قال: فثابت إليه منهم جماعة فشد علينا وقد تفرقنا فهزمنا، وصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر فأسر وأسرت أنا وخليد مولى حسان بن محدوج، فقال شبث لخليد- وكان وسيما جسيما: من أنت؟ فقال: خليد مولى حسان بن محدوج الذهلي، فقال له شبث:
يا بن المتكاء، تركت بيع الصحناة بالكناسة وكان جزاء من أعتقك أن تعدو عليه بسيفك تضرب رقابه! اضربوا عنقه، فقتل، ورأى سعرا الحنفي فعرفه، فقال: أخو بني حنيفة؟ فقال له: نعم، فقال: ويحك! ما أردت إلى اتباع هذه السبئيه! قبح الله رأيك، دعوا ذا فقلت في نفسي: قتل المولى وترك العربي، إن علم والله إني مولى قتلني فلما عرضت عليه قال: من أنت؟ فقلت: من بني تيم الله، قال: أعربي أنت أو مولى؟
فقلت: لا بل عربي، أنا من آل زياد بن خصفة، فقال: بخ بخ! ذكرت الشريف المعروف، الْحَقْ بأهلك قال: فأقبلت حتى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لي في قتال القوم بصيرة، فجئت حتى انتهيت إلى المختار، وقلت في نفسي: والله لاتين اصحابى فلا واسينهم بنفسي، فقبح الله العيش بعدهم! قال: فأتيتهم وقد سبقني إليهم سعر الحنفي، وأقبلت إليه خيل شبث، وجاءه قتل نعيم بن هبيرة، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير، قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بالذي كان من أمري، فقال لي: اسكت، فليس هذا بمكان الحديث وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس
(6/25)
وبعث ابن مطيع يزيد بن الحارث بن رؤيم في ألفين من قبل سكة لحام جرير، فوقفوا في أفواه تلك السكك، وولى المختار يزيد بن أنس خيله، وخرج هو في الرجالة.
قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب الوالبي، والبة الأزد، قال:
حملت علينا خيل شبث بن ربعي حملتين، فما يزول منا رجل من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا: يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم، وتسمل أعينكم، وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم، وأنتم مقيمون في بيوتكم، وطاعة عدوكم، فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذا والله لا يدعون منكم عينا تطرف، وليقتلنكم صبرا، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلا الصدق والصبر، والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم فتيسروا للشدة، وتهيئوا للحملة، فإذا حركت رايتي مرتين فاحملوا قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجثونا على الركب، وانتظرنا أمره.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتر كان حين توجه الى راشد بن اياس، مضى حتى لقمه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال ابراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثره هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصابرين، ثم قال يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل، ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قد ما قد ما واقتتل الناس، فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه
(6/26)
فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشدا ورب الكعبة وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد يبشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين فاعترض إبراهيم بن الأشتر فويق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشى إبراهيم نحوه في الرجال.
فقال:
والله ما أطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف حتى انهزموا وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم وحمل عليه خزيمة بن نصر، فلما رآه عرفه فقال له: يا حسان بن فائد أما والله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء فعثر بحسان فرسه فوقع.
فقال: تعسا لك، أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به فضاربهم ساعة بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر قال: إنك آمن يا أبا عبد الله لا تقتل نفسك وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه ومر به إبراهيم، فقال له خزيمة: هذا ابن عمي وقد آمنته، فقال له إبراهيم: أحسنت، فأمر خزيمة بطلب فرسه حتى أتي به، فحمله عليه، وقال: الحق بأهلك.
قال: وأقبل إبراهيم نحو المختار، وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس.
فلما رآه يزيد بن الحارث وهو على أفواه سكك الكوفة التي تلي السبخة.
وإبراهيم مقبل نحو شبث، أقبل نحوه ليصده عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفة من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال: أغن عنا يزيد بن الحارث، وصمد هو في بقية أصحابه نحو شبث بن ربعي.
قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب أن إبراهيم لما أقبل نحونا رأينا شبثا وأصحابه ينكصون وراءهم رويدا رويدا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه، حمل عليهم، وأمرنا يزيد بن أنس بالحملة عليهم،
(6/27)
فحملنا عليهم، فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفه، وحمل خزيمة ابن نصر على يزيد بن الحارث بن رؤيم فهزمه، وازدحموا على أفواه السكك، وقد كان يزيد بن الحارث وضع رامية على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى، أصحاب المختار إلى أفواه السكك رمته تلك الرامية بالنبل، فصدوهم عن دخول الكوفة من ذلك الوجه، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس، فأسقط في يده.
قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن هانئ، قال: قال عمرو بن الحجاج الزبيدي لابن مطيع: أيها الرجل لا يسقط في خلدك، ولا تلق بيدك، اخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوك فاغزهم، فإن الناس كثير عددهم، وكلهم معك إلا هذه الطاغية التي خرجت على الناس، والله مخزيها ومهلكها، وأنا أول منتدب، فاندب معي طائفة، ومع غيري طائفة، قال: فخرج ابن مطيع، فقام فِي الناس، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إن من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها، خبيث دينها، ضالة مضلة، اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم وقاتلوهم عن مصركم، وامنعوا منهم فيئكم، وإلا والله ليشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه والله لقد بلغني أن فيهم خمسمائة رجل من محرريكم عليهم أمير منهم وإنما ذهاب عزكم وسلطانكم وتغير دينكم حين يكثرون ثم نزل.
قال: ومنعهم يزيد بن الحارث أن يدخلوا الكوفة قال: ومضى المختار من السبخة حتى ظهر على الجبانة، ثم ارتفع إلى البيوت، بيوت مزينة وأحمس وبارق، فنزل عند مسجدهم وبيوتهم، وبيوتهم شاذة منفردة من بيوت أهل الكوفة، فاستقبلوه بالماء، فسقى أصحابه، وأبى المختار أن يشرب قال: فظن أصحابه أنه صائم، وقال أحمر بن هديج من همدان
(6/28)
لابن كامل: اترى الأمير الأمير صائما؟ فقال له: نعم، هو صائم، فقال له: فلو أنه كان في هذا اليوم مفطرا كان أقوى له، فقال له: إنه معصوم، وهو أعلم بما يصنع، فقال له: صدقت، أستغفر الله وقال المختار: نعم مكان المقاتل هذا، فقال له: إبراهيم بن الأشتر: قد هزمهم الله وفلهم وأدخل الرعب قلوبهم، وتنزل هاهنا! سربنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع.
ولا يمتنع كبير امتناع، فقال المختار: ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذي علة، وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتى تسيروا إلى عدونا ففعلوا، فاستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم بن الأشتر أمامه، وعبى أصحابه على الحال التي كانوا عليها في السبخة.
قال: وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل.
فخرج عليهم من سكة الثوريين، فبعث المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، وذهب المختار في أثر إبراهيم، فمضوا جميعا حتى إذا انتهى المختار إلى موضع مصلى خالد بن عبد الله وقف، وأمر إبراهيم أن يمضي على وجهه حتى يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى، فخرج إليه من سكة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرح المختار إليه سعيد بن منقذ الهمذاني فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن اطوه، وامض على وجهك فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة في نحو من ألفين- أو قال: خمسة آلاف.
وهو الصحيح- وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس:
أن الحقوا بابن مساحق قال: واستخلف شبث بن ربعي على القصر، وخرج ابن مطيع حتى وقف بالكناسة.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله، قال: إني لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل في أصحابه، حتى إذا دنا منهم قال لهم: انزلوا، فنزلوا، فقال:
(6/29)
قربوا خيولكم بعضها إلى بعض، ثم امشوا إليهم مصلتين بالسيوف، ولا يهولنكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعي وآل عتيبة بن النهاس وآل الأشعث وآل فلان وآل يزيد بن الحارث قال: فسمى بيوتات من بيوتات أهل الكوفة، ثم قال: إن هؤلاء لو قد ووجدوا لهم حر السيوف قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزى عن الذئب، قال حصيرة: فإني لأنظر إليه وإلى أصحابه حين قربوا خيولهم وحين أخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فرفعه فأدخله في منطقة له حمراء من حواشي البرود، وقد شد بها على القباء، وقد كفر بالقباء على الدرع، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فدى لكم عمي وخالي! قال: فو الله ما لبثهم أن هزمهم، فركب بعضهم بعضا على فم السكة وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق، فأخذ بلجام دابته، ورفع السيف عليه، فقال له ابن مساحق: يا بن الأشتر، أنشدك الله، أتطلبني بثأر! هل بيني وبينك من إحنة! فخلى ابن الأشتر سبيله، وقال له: اذكرها، فكان بعد ذلك ابن مساحق يذكرها لابن الأشتر، وأقبلوا يسيرون حتى دخلوا الكناسة في آثار القوم حتى دخلوا السوق والمسجد، وحصروا ابن مطيع ثلاثا.
قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أن ابن مطيع مكث ثلاثا، يرزق أصحابه في القصر حيث حصر الدقيق، ومعه أشراف الناس، إلا ما كان من عمرو بن حريث، فإنه أتى داره ولم يلزم نفسه الحصار، ثم خرج حتى نزل البر وجاء المختار حتى نزل جانب السوق، وولى حصار القصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، فكان ابن الأشتر مما يلي المسجد وباب القصر، ويزيد بن أنس مما يلي بني حذيفة وسكة دار الروميين، وأحمر بن شميط مما يلي دار عمارة ودار أبي موسى.
فلما اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه كلمه الأشراف، فقام إليه شبث فقال: أصلح الله الأمير انظر لنفسك ولمن معك، فو الله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم قال ابن مطيع: هاتوا، أشيروا علي برأيكم،
(6/30)
قال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أمانا ولنا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك قال ابن مطيع: والله إني لأكره أن آخذ منه أمانا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كله وبأرض البصرة، قال:
فتخرج لا يشعر بك أحد حتى تنزل منزلا بالكوفة عند من تستنصحه وتثق به، ولا يعلم بمكانك حتى تخرج فتلحق بصاحبك، فقال لأسماء بن خارجة وعبد الرحمن بن مخنف وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشراف أهل الكوفة:
ما ترون في هذا الرأي الذي أشار به علي شبث؟ فقالوا: ما نرى الرأي إلا ما أشار به عليك، قال: فرويدا حتى أمسي قال أبو مخنف: فحدثني أبو المغلس الليثي، أن عبد الله بن عبد الله الليثي أشرف على أصحاب المختار من القصر من العشي يشتمهم، وينتحي له مالك بن عمرو أبو نمران النهدي بسهم، فيمر بحلقه، فقطع جلدة من حلقه فمال فوقع، قال: ثم إنه قام وبرأ بعد، وقال النهدي حين أصابه: خذها من مالك، من فاعل كذا.
قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح، عن حسان بن فائد بن بكير، قال: لما أمسينا في القصر في اليوم الثالث، دعانا ابن مطيع، فذكر الله بما هو أهله، وصلى عَلَى نبيه صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أما بعد، فقد علمت الذين صنعوا هذا منكم من هم، وقد علمت أنما هم أراذلكم وسفهاؤكم وطغامكم وأخساؤكم، ما عدا الرجل أو الرجلين، وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم لم يزالوا سامعين مطيعين مناصحين، وأنا مبلغ ذلك صاحبي، ومعلمه طاعتكم وجهادكم عدوه، حتى كان الله الغالب على أمره، وقد كان من رأيكم وما أشرتم به علي ما قد علمتم، وقد رأيت أن أخرج الساعة فقال له شبث: جزاك الله من أمير خيرا! فقد والله عففت عن أموالنا، وأكرمت أشرافنا، ونصحت لصاحبك، وقضيت الذي عليك، والله ما كنا لنفارقك أبدا إلا ونحن منك في إذن، فقال: جزاكم الله خيرا، أخذ امرؤ حيث أحب، ثم خرج من نحو دروب الروميين حتى أتى دار أبي موسى، وخلى القصر، وفتح اصحابه
(6/31)
الباب، فقالوا: يا بن الأشتر، آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون، فخرجوا فبايعوا المختار.
قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر العدوي، من عدي جهينة- وهو أبو الأشعر- أن المختار جاء حتى دخل القصر، فبات به، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر، وعدا مفعولا، وقضاء مقضيا، وقد خاب من افترى أيها الناس، إنه رفعت لنا راية، ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية: أن ارفعوها ولا تضعوها، وفي الغاية: أن اجروا إليها ولا تعدوها، في معنا دعوة الداعي، ومقالة الواعي، فكم من ناع وناعية، لقتلى في الواعية! وبعدا لمن طغى وأدبر، وعصى وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى، فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا، والأرض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها.
ثم نزل فدخل، ودخلنا عليه وأشراف الناس، فبسط يده، وابتدره الناس فبايعوه، وجعل يقول: تبايعوني على كتاب اللَّه وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم ولا نستقيلكم، فإذا قال الرجل:
نعم بايعه قال: فكأني والله أنظر إلى المنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذ أتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفا عند المصطبة، فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح بهم سعيد بن منقذ: لا تعجلوا، لا تعجلوا حتى ننظر ما رأي أميركم فيه قال: وبلغ المختار ذلك، فكرهه حتى رئى ذلك في وجهه، وأقبل المختار يمني الناس، ويستجر مودتهم ومودة الأشراف، ويحسن السيرة جهده
(6/32)
قال: وجاءه ابن كامل فقال للمختار، أعلمت أن ابن مطيع في دار أبي موسى؟ فلم يجبه بشيء، فأعادها عليه ثلاث مرات فلم يجبه، ثم أعادها فلم يجبه، فظن ابن كامل أن ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقا، فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم، فقال له: تجهز بهذه واخرج، فإني قد شعرت بمكانك، وقد ظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلا أنه ليس في يديك ما يقويك على الخروج وأصاب 2 المختار تسعة آلاف ألف في بيت مال الكوفة، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر- وهم ثلاثة آلاف وثمانمائه رجل- كل رجل خمسمائة درهم خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، فأقاموا معه تلك الليلة وتلك الثلاثة الأيام حتى دخل القصر مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومناهم العدل وحسن السيرة، وأدنى الأشراف، فكانوا جلساءه وحداثه، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة مولى عرينة، فقام ذات يوم على رأسه، فرأى الأشراف يحدثونه، ورآه قد أقبل بوجهه وحديثه عليهم، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي: أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا! فدعاه المختار فقال له: ما يقول لك أولئك الذين رأيتهم يكلمونك؟ فقال له- وأسر إليه: شق عليهم أصلحك الله صرفك وجهك عنهم إلى العرب، فقال له: قل لهم: لا يشقن ذلك عليكم، فأنتم مني وأنا منكم ثم سكت طويلا، ثم قرأ:
«إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» قال: فحدثني أبو الأشعر موسى بن عامر قال: ما هو إلا أن سمعها الموالي منه، فقال بعضهم لبعض: أبشروا، كأنكم والله به قد قتلهم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله الأزدي وفضيل بن خديج الكندي والنضر بن صالح العبسي، قالوا: أول رجل عقد له المختار
(6/33)
راية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على أرمينية، وبعث محمد ابن عمير بن عطارد على أذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى، وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري، وهو حليف لثقيف على بهقباذ الأعلى، وبعث مُحَمَّد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعث حبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الأسفل، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان مع سعد بن حذيفة ألفا فارس بحلوان قال:
ورزقه ألف درهم في كل شهر، وأمره بقتال الأكراد، وبإقامة الطرق، وكتب إلى عماله على الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بحلوان، وكان عبد الله بن الزبير قد بعث مُحَمَّد بن الأشعث بن قيس على الموصل، وأمره بمكاتبة ابن مطيع وبالسمع له والطاعة، غير أن ابن مطيع لا يقدر على عزله إلا بأمر ابن الزبير، وكان قبل ذلك في إمارة عَبْد اللَّهِ بن يَزِيدَ، وإبراهيم بن مُحَمَّد منقطعا بإمارة الموصل، لا يكاتب أحدا دون ابن الزبير.
فلما قدم عليه عبد الرحمن بن سعيد بن قيس من قبل المختار أميرا تنحى له عن الموصل، وأقبل حتى نزل تكريت، وأقام بها مع أناس من أشراف قومه وغيرهم، وهو معتزل ينظر ما يصنع الناس، وإلى ما يصير أمرهم، ثم شخص إلى المختار فبايع له، ودخل فيما دخل فيه أهل بلده.
قال أبو مخنف: وحدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما ظهر المختار واستمكن، ونفى ابن مطيع وبعث عماله، أقبل يجلس للناس غدوة وعشية، فيقضي بين الخصمين، ثم قال:
والله إن لي فيما أزاول وأحاول لشغلا عن القضاء بين الناس، قال: فأجلس للناس شريحا، وقضى بين الناس، ثم انه خافهم فمارض، وكانوا يقولون:
إنه عثماني، وإنه ممن شهد على حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ عن هانئ ابن عروة ما أرسله به- وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء- فلما
(6/34)
أن سمع بذلك ورآهم يذمونه ويسندون إليه مثل هذا القول تمارض، وجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم إن عبد الله مرض، فجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا.
قال مسلم بن عبد الله: وكان عبد الله بن همام سمع أبا عمرة يذكر الشيعة وينال من عثمان بن عفان، فقنعه بالسوط، فلما ظهر المختار كان معتزلا حتى استأمن له عبد الله بن شداد، فجاء إلى المختار ذات يوم فقال:
ألا انتسأت بالود عنك وأدبرت ... معالنة بالهجر أم سريع
وحملها واش سعى غير مؤتل ... فأبت بهم في الفؤاد جميع
فخفض عليك الشأن لا يردك الهوى ... فليس انتقال خلة ببديع
وفي ليلة المختار ما يذهل الفتى ... ويلهيه عن رؤد الشباب شموع
دعا يا لثارات الحسين فأقبلت ... كتائب من همدان بعد هزيع
ومن مذحج جاء الرئيس ابن مالك ... يقود جموعا عبيت بجموع
ومن أسد وافى يزيد لنصره ... بكل فتى حامي الذمار منيع
وجاء نعيم خير شيبان كلها ... بأمر لدى الهيجا أحد جميع
وما ابن شميط إذ يحرض قومه ... هناك بمخذول ولا بمضيع
ولا قيس نهد لا ولا ابن هوازن ... وكل أخو إخباتة وخشوع
وسار أبو النعمان لله سعيه ... إلى ابن إياس مصحرا لوقوع
بخيل عليها يوم هيجا دروعها ... وأخرى حسورا غير ذات دروع
فكر الخيول كرة ثقفتهمُ ... وشد بأولاها على ابن مطيع
فولى بضرب يشدخ الهام وقعه ... وطعن غداة السكتين وجيع
فحوصر في دار الإمارة بائيا ... بذل وإرغام له وخضوع
فمن وزير ابن الوصي عليهم ... وكان لهم في الناس خير شفيع
(6/35)
وآب الهدى حقا الى مستقره ... خير إياب آبه ورجوع
إلى الهاشمي المهتدي المهتدى به ... فنحن له من سامع ومطيع
قال: فلما أنشدها المختار قال المختار لأصحابه: قد أثنى عليكم كما تسمعون، وقد أحسن الثناء عليكم، فأحسنوا له الجزاء ثم قام المختار، فدخل وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى أخرج إليكم، قال: وقال عبد الله ابن شداد الجشمى: يا بن همام: إن لك عندي فرسا ومطرفا، وقال قيس بن طهفة النهدي- وكانت عنده الرباب بنت الأشعث: فإن لك عندي 6 فرسا ومطرفا، واستحيا أن يعطيه صاحبه شيئا لا يعطي مثله، فقال ليزيد بن أنس: فما تعطيه؟ فقال يزيد: إن كان ثواب الله أراد بقوله فما عند الله خير له، وإن كان انما اعترى بهذا القول أموالنا، فو الله ما في أموالنا ما يسعه، قد كانت بقيت من عطائي بقية فقويت بها إخواني، فقال أحمر بن شميط مبادرا لهم قبل ان يكلموه: يا بن همام، إن كنت أردت بهذا القول وجه الله فاطلب ثوابك من الله، وإن كنت إنما اعتريت به رضا الناس وطلب أموالهم، فاكدم الجندل، فو الله ما من قال قولا لغير الله وفي غير ذات الله بأهل أن ينحل، ولا يوصل، فقال له: عضضت بأير أبيك! فرفع يزيد بن انس السوط وقال لابن همام: تقول هذا القول يا فاسق! وقال لابن شميط: اضربه بالسيف، فرفع ابن شميط عليه السيف ووثب ووثب أصحابهما يتفلتون على ابن همام وأخذ بيده إبراهيم بن الأشتر فألقاه وراءه، وقال: أنا له جار، لم تأتون إليه ما ارى! فو الله إنه لواصل الولاية، راض بما نحن عليه، حسن الثناء، فإن أنتم لم تكافئوه بحسن ثنائه، فلا تشتموا عرضه، ولا تسفكوا دمه ووثبت مذحج فحالت دونه، وقالوا:
أجاره ابن الأشتر، لا والله لا يوصل إليه قال: وسمع لغطهم المختار، فخرج إليهم، وأومأ بيده إليهم، أن اجلسوا، فجلسوا، فقال لهم:
إذا قيل لكم خير فاقبلوه، وإن قدرتم على مكافأة فافعلوا، وإن لم تقدروا
(6/36)
على مكافأة فتنصلوا، واتقوا لسان الشاعر، فإن شره حاضر، وقوله فاجر، وسعيه بائر، وهو بكم غدا غادر فقالوا: أفلا نقتله؟ قال: إنا قد آمناه وأجرناه، وقد أجاره أخوكم إبراهيم بن الأشتر، فجلس مع الناس قال: ثم إن إبراهيم قام فانصرف إلى منزله فأعطاه ألفا وفرسا ومطرفا فرجع بها وقال: لا والله، لا جاورت هؤلاء أبدا وأقبلت هوازن وغضبت واجتمعت في المسجد غضبا لابن همام، فبعث إليهم المختار فسألهم أن يصفحوا عما اجتمعوا له، ففعلوا، وقال ابن همام لابن الأشتر يمدحه:
أطفأ عني نار كلبين ألبا ... علي الكلاب ذو الفعال ابن مالك
فتى حين يلقى الخيل يفرق بينها ... بطعن دراك أو بضرب مواشك
وقد غضبت لي من هوازن عصبه ... طوال الذرا فيها عراض المبارك
إذا ابن شميط أو يزيد تعرضا ... لها وقعا في مستحار المهالك
وثبتم علينا يا موالي طيئ ... مع ابن شميط شر ماش وراتك
وأعظم ديّار على الله فرية ... وما مفتر طاغ كآخر ناسك
فيا عجبا من أحمس ابنة أحمس ... توثب حولي بالقنا والنيازك
كأنكم في العز قيس وخثعم ... وهل أنتمُ إلا لئام عوارك
وأقبل عبد الله بن شداد من الغد فجلس في المسجد يقول: علينا توثب بنو أسد وأحمس! والله لا نرضى بهذا أبدا فبلغ ذلك المختار، فبعث إليه فدعاه، ودعا بيزيد بن أنس وبابن شميط، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا بن شداد، إن الذي فعلت نزغة من نزغات الشيطان، فتب إلى الله، قال: قد تبت، وقال: إن هذين أخواك، فأقبل إليهما، واقبل منهما، وهب لي هذا الأمر، قال: فهو لك، وكان ابن همام قد قال قصيدة
(6/37)
أخرى في أمر المختار، فقال:
أضحت سليمى بعد طول عتاب ... وتجرم ونفاد غرب شباب
قد ازمعت بصريمتى وتجنبى ... وتهوك مذ ذاك في إعتاب
لما رأيت القصر أغلق بابه ... وتوكلت همدان بالأسباب
ورأيت أصحاب الدقيق كأنهم ... حول البيوت ثعالب الأسراب
ورأيت أبواب الأزقة حولنا ... دربت بكل هراوة وذباب
أيقنت أن خيول شيعة راشد ... لم يبق منها فيش أير ذباب
ذكر الخبر عن امر المختار مع قتله الحسين بالكوفه
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين والمشايعين على قتله، فقتل من قدر عليه منهم، وهرب من الكوفة بعضهم، فلم يقدر عليه.
ذكر الخبر عن سبب وثوبه بهم وتسمية من قتل منهم ومن هرب فلم يقدر عليه منهم:
وكان سبب ذلك- فيما ذكره هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن عوانة بن الحكم- ان مروان بن الحكم لما استوسقت له الشام بالطاعة، بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني- وقد ذكرنا أمره وخبر مهلكه قبل- والآخر منهما إلى العراق عليهم عبيد الله بن زياد- وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين من الشيعة بعين الوردة- وكان مروان جعل لعبيد الله بن زياد إذ وجهه إلى العراق ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا هو ظفر بأهلها ثلاثا.
قال عوانة: فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبها قيس عيلان على
(6/38)
طاعة ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب قيسا يوم مرج راهط وهم مع الضحاك بن قيس مخالفين على مروان، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فلم يزل عبيد الله مشتغلا بهم عن العراق نحوا من سنة ثم إنه أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار: أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصل، وقد وجه قبلي خيله ورجاله، وإني انحزت إلى تكريت حتى يأتيني رأيك وأمرك، والسلام عليك.
فكتب إليه المختار: أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كل ما ذكرت فيه، فقد أصبت بانحيازك إلى تكريت، فلا تبرحن مكانك الذي أنت به حتى يأتيك أمري إن شاء الله، والسلام عليك.
قال هشام، عن أبي مخنف: حدثني موسى بن عامر، أن كتاب عبد الرحمن بن سعيد لما ورد على المختار بعث إلى يزيد بن أنس فدعاه، فقال له: يا يزيد بن أنس، إن العالم ليس كالجاهل، وإن الحق ليس كالباطل، وإني أخبرك خبر من لم يكذب ولم يكذب، ولم يخالف ولم يرتب، وإنا المؤمنون الميامين، الغالبون المساليم، وإنك صاحب الخيل التي تجر جعابها، وتضفر أذنابها، حتى توردها منابت الزيتون، غائرة عيونها، لاحقة بطونها اخرج إلى الموصل حتى تنزل أدانيها، فإني ممدك بالرجال بعد الرجال فقال له يزيد بن أنس: سرح معي ثلاثة آلاف فارس 2 أنتخبهم، وخلني والفرج الذي توجهنا إليه، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك، قال له المختار: فاخرج فانتخب على اسم الله من أحببت.
فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، فجعل على ربع المدينة النعمان بن عوف بن أبي جابر الأزدي، وعلى ربع تميم وهمدان عاصم بن قيس بن حبيب الهمداني، وعلى مذحج وأسد ورقاء بن عازب الأسدي، وعلى ربع ربيعة وكندة سعر بن أبي سعر الحنفي.
ثم إنه فصل من الكوفة، فخرج وخرج معه المختار والناس يشيعونه، فلما
(6/39)
بلغ دير أبي موسى ودعه المختار وانصرف، ثم قال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلي، مع أني ممدك ولو لم تستمدد، فإنه أشد لعضدك، وأعز لجندك، وأرعب لعدوك فقال له يزيد بن أنس: لا تمدني إلا بدعائك، فكفى به مددا وقال له الناس:
صحبك الله وأداك وأيدك، وودعوه: فقال لهم يزيد: سلوا الله لي الشهادة، وايم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفتني الشهادة إن شاء الله فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك فخرج يزيد بن أنس بالناس حتى بات بسورا، ثم غدا بهم سائرا حتى بات بهم بالمدائن، فشكا الناس إليه ما دخلهم من شدة السير عليهم، فأقام بها يوما وليلة ثم إنه اعترض بهم أرض جوخى حتى خرج بهم في الراذانات، حتى قطع بهم الى ارض الموصل، فنزلت ببنات تلي، وبلغ مكانه ومنزله الذي نزل به عبيد الله بن زياد، فسأل عن عدتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس، فقال عبيد الله: فأنا أبعث إلى كل ألف ألفين ودعا ربيعة بن المخارق الغنوي وعبد الله بن حمله الخثعمى، فبعثهما في ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، وبعث ربيعة بن المخارق أولا، ثم مكث يوما، ثم بعث خلفه عبد الله بن حملة، ثم كتب إليهما: أيكما سبق فهو أمير على صاحبه، وإن انتهيتما جميعا فاكبر كما سنا أمير على صاحبه والجماعة قال: فسبق ربيعة بن المخارق فنزل بيزيد بن أنس وهو ببنات تلي، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال:
خرج علينا يزيد بن أنس وهو مريض على حمار يمشي معه الرجال يمسكونه عن يمينه وعن شماله، بفخذيه وعضديه وجنبيه، فجعل يقف على الأرباع:
(6/40)
ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي قال: وأنا والله فيمن يمشي معه ويمسك بعضده ويده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم:
ابرزوا لهم بالعراء، وقدموني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففروا عنه قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحيانا بظهره فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الأسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم.
قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر العدوي، قال: انتهينا الى ربيعه ابن المخارق صاحبهم، وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي: يا أولياء الحق، ويا أهل السمع والطاعة، إلي أنا ابن المخارق، قال موسى: فأما أنا فكنت غلاما حدثا، فهبته ووقفت، ويحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري، فقتلاه.
قال أبو مخنف: وحدثني عمرو بن مالك أبو كبشة القيني، قال:
كنت غلاما حين راهقت مع أحد عمومتي في ذلك العسكر، فلما نزلنا بعسكر الكوفيين عبأنا ربيعة بن المخارق فاحسن التعبئه، وجعل على ميمنته ابن
(6/41)
أخيه، وعلى ميسرته عبد ربه السلمي، وخرج هو في الخيل والرجال وقال:
يا أهل الشام، إنكم إنما تقاتلون العبيد الأباق، وقوما قد تركوا الإسلام وخرجوا منه، ليست لهم تقيه، ولا ينطقون بالعربية، قال: فو الله إن كنت لأحسب أن ذلك كذلك حتى قاتلناهم، قال: فو الله ما هو إلا أن اقتتل الناس إذا رجل من أهل العراق يعترض الناس بسيفه وهو يقول:
برئت من دين المحكمينا ... وذاك فينا شر دين دينا
ثم إن قتالنا وقتالهم اشتد ساعة من النهار، ثم إنهم هزمونا حين ارتفع الضحى فقتلوا صاحبنا، وحووا عسكرنا، فخرجنا منهزمين حتى تلقانا عبد الله بن حملة على مسيرة ساعة من تلك القرية التي يقال لها بنات تلي، فردنا، فأقبلنا معه حتى نزل بيزيد بن أنس، فبتنا متحارسين حتى أصبحنا فصلينا الغداة، ثم خرجنا على تعبئه حسنة، فجعل على ميمنته الزبير بن خزيمة، من خثعم، وعلى ميسرته ابن أقيصر القحافي من خثعم، وتقدم في الخيل والرجال، وذلك يوم الأضحى، فاقتتلنا قتالا شديدا، ثم إنهم هزمونا هزيمة قبيحة، وقتلونا قتالا ذريعا، وحووا عسكرنا، وأقبلنا حتى انهينا إلى عبيد الله بن زياد فحدثناه بما لقينا.
قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: أقبل إلينا عبد الله بن حملة الخثعمي، فاستقبل فل ربيعة بن المخارق الغنوي فردهم، ثم جاء حتى نزل ببنات تلي، فلما أصبح غادوا وغادينا، فتطاردت الخيلان من أول النهار، ثم انصرفوا وانصرفنا، حتى إذا صلينا الظهر خرجنا فاقتتلنا، ثم هزمناهم.
قال: ونزل عبد الله بن حملة فأخذ ينادي أصحابه: الكرة بعد الفرة، يا أهل السمع والطاعة، فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله، وحوينا عسكرهم وما فيه، وأتي يزيد بن انس بثلاثمائة اسير وهو في السوق، فاخذ يومىء بيده أن اضربوا أعناقهم، فقتلوا من عند آخرهم.
وقال يزيد بن أنس: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فما أمسى حتى مات، فصلى عليه ورقاء بن عازب ودفنه، فلما رأى ذلك أصحابه أسقط في أيديهم، وكسر موته قلوب أصحابه، وأخذوا في دفنه،
(6/42)
فقال لهم ورقاء: يا قوم، ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن عبيد الله بن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين ألفا من أهل الشام، فأخذوا يتسللون ويرجعون ثم إن ورقاء دعا رءوس الأرباع وفرسان أصحابه فقال لهم: يا هؤلاء، ماذا ترون فيما أخبرتكم؟ إنما أنا رجل منكم، ولست بأفضلكم رأيا، فأشيروا علي، فإن ابن زياد قد جاءكم في جند أهل الشام الأعظم، وبجلتهم وفرسانهم وأشرافهم، ولا أرى لنا ولكم بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرقت عنا طائفة منا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم وقبل أن نبلغهم، فيعلموا أنا انما ردنا عنهم هلاك صاحبنا، فلا يزالوا لنا هائبين لقتلنا منهم أميرهم! ولأنا إنما نعتل لانصرافنا بموت صاحبنا وإنا إن لقيناهم اليوم كنا مخاطرين، فإن هزمنا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم من قبل اليوم قالوا: فإنك نعما رأيت، انصرف رحمك الله فانصرف، فبلغ منصرفهم ذلك المختار وأهل الكوفة، فأرجف الناس، ولم يعلموا كيف كان الأمر أن يزيد بن أنس هلك، وأن الناس هزموا، فبعث إلى المختار عامله على المدائن عينا له من أنباط السواد فأخبره الخبر، فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر فعقد له على سبعة آلاف رجل، ثم قال له: سر حتى إذا أنت لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثم سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم فخرج إبراهيم فوضع عسكره بحمام أعين قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير النضر بن صالح، قال: لما مات يزيد أنس التقى أشراف الناس بالكوفة فأرجفوا بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس، ولم يصدقوا أنه مات، وأخذوا يقولون: والله لقد تأمر علينا هذا الرجل بغير رضا منا، ولقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب، وأعطاهم وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا فاتعدوا منزل شبث بن ربعي وقالوا: نجتمع في منزل شيخنا- وكان شبث جاهليا إسلاميا- فاجتمعوا فأتوا منزله، فصلى بأصحابه، ثم تذاكروا هذا النحو من الحديث قال: ولم يكن فيما أحدث المختار عليهم شيء هو أعظم من أن جعل للموالي
(6/43)
الفيء نصيبا- فقال لهم شبث: دعوني حتى ألقاه، فذهب فلقيه، فلم يدع شيئا مما أنكره أصحابه إلا وقد ذاكره إياه، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار: أرضيهم في هذه الخصلة، وآتي كل شيء أحبوا، قال:
فذكر المماليك، قال: فأنا أرد عليهم عبيدهم، فذكر له الموالي، فقال:
عمدت إلى موالينا، وهم فيء أفاءه الله علينا وهذه البلاد جميعا فأعتقنا رقابهم، نأمل الأجر في ذلك والثواب والشكر، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاءنا في فيئنا، فقال لهم المختار: إن أنا تركت لكم مواليكم، وجعلت فيئكم فيكم، أتقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطون على الوفاء بذلك عهد الله وميثاقه، وما أطمئن إليه من الإيمان؟ فقال شبث ما أدري حتى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك، فخرج فلم يرجع إلى المختار.
قال: وأجمع رأي أشراف أهل الكوفة على قتال المختار.
قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن حوشب، قال: جاء شبث ابن ربعي وشمر بن ذي الجوشن ومُحَمَّد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس حتى دخلوا على كعب بن أبي كعب الخثعمي، فتكلم شبث، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبره باجتماع رأيهم على قتال المختار، وسأله أن يجيبهم إلى ذلك، وقال فيما يعيب به المختار: إنه تأمر علينا بغير رضا منا، وزعم أن ابن الحنفية بعثه إلينا، وقد علمنا أن ابن الحنفية لم يفعل، واطعم موالينا فيئنا، وأخذ عبيدنا، فحرب بهم يتامانا وأراملنا، وأظهر هو وسبئيته البراءة من أسلافنا الصالحين قال: فرحب بهم كعب بن أبي كعب، وأجابهم إلى ما دعوه إليه.
قال أبو مخنف: حدثني أبي يحيى بن سعيد أن أشراف أهل الكوفة قد كانوا دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى أن يجيبهم إلى قتال المختار، فقال لهم: يا هؤلاء، إنكم إن أبيتم إلا أن تخرجوا لم أخذ لكم، وإن أنتم أطعتموني لم تخرجوا فقالوا: لم؟ قال: لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا وتتخاذلوا، ومع الرجل والله شجعاؤكم وفرسانكم من أنفسكم، اليس
(6/44)
معه فلان وفلان! ثم معه عبيد كم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، وعبيدكم ومواليكم أشد حنقا عليكم من عدوكم، فهو مقاتلكم بشجاعة العرب، وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشام أو بمجيء، أهل البصرة، فتكونوا قد كفيتموه بغيركم، ولم تجعلوا بأسكم بينكم، قالوا:
ننشدك الله أن تخالفنا، وأن تفسد علينا رأينا وما قد اجتمعت عليه جماعتنا قال: فأنا رجل منكم، فإذا شئتم فاخرجوا، فسار بعضهم إلى بعض وقالوا: انتظروا حتى يذهب عنه إبراهيم بن الأشتر، قال: فأمهلوا حتى إذا بلغ ابن الأشتر ساباط، وثبوا بالمختار قال: فخرج عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس الهمداني في همدان في جبانة السبيع، وخرج زحر بن قيس الجعفي وإسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث في جبانة كندة.
قال هشام: فحدثني سُلَيْمَان بن مُحَمَّد الحضرمي، قال: خرج إليهما جبير الحضرمي فقال لهما: اخرجا عن جبانتنا، فإنا نكره أن نعرى بشر، فقال له إسحاق بن مُحَمَّد: وجبانتكم هي؟ قال: نعم، فانصرفوا عنه، وخرج كعب بن أبي كعب الخثعمي في جبانة بشر، وسار بشير بن جرير بن عبد الله إليهم في بجيلة، وخرج عبد الرحمن بن مخنف في جبانة مخنف، وسار إسحاق بن مُحَمَّد وزحر بن قيس إلى عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس بجبانة السبيع، وسارت بجيلة وخثعم الى عبد الرحمن ابن مخنف وهو بالأزد وبلغ الذين في جبانة السبيع ان المختار قد عبا لهم خيلا ليسير اليهم فبعثوا الرسل يتلو بعضها بعضا إلى الأزد وبجيلة وخثعم، يسألونهم بالله والرحم لما عجلوا إليهم فساروا إليهم واجتمعوا جميعا في جبانة السبيع، ولما أن بلغ ذلك المختار سره اجتماعهم في مكان واحد، وخرج شمر بن ذي الجوشن حتى نزل بجبانة بني سلول في قيس، ونزل شبث بن ربعي وحسان بن فائد العبسي وربيعة بن ثروان الضبي في مضر بالكناسة، ونزل حجار بن أبحر ويزيد بن الحارث بن رؤيم في ربيعة فيما بين التمارين والسبخة، ونزل عمرو بن الحجاج الزبيدي في جبانة مراد بمن تبعه من مذحج، فبعث إليه أهل اليمن أن ائتنا، فأبى أن يأتيهم
(6/45)
وقال لهم: وجدوا، فكأني قد أتيتكم قال: وبعث المختار رسولا من يومه يقال له عمرو بن توبة بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط الا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلي قال: وبعث إليهم المختار في ذلك اليوم: أخبروني ما تريدون؟ فإني صانع كل ما أحببتم، فقالوا:
فإنا نريد أن تعتزلنا، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك.
فأرسل إليهم المختار أن ابعثوا إليه من قبلكم وفدا، وابعث إليه من قبلي وفدا، ثم انظروا في ذلك حتى تتبينوه، وهو يريد ان يريثهم بهذه المقالة ليقدم عليه إبراهيم بن الأشتر، وقد أمر أصحابه فكفوا أيديهم، وقد أخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شيء يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلا القليل الوتح، يجيئهم إذا غفلوا عنه قال: وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان، فقاتله شاكر قتالا شديدا، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى رد عاديتهم عنه، ثم أقبلا على حاميتهما يسيران حتى نزل عقبة بن طارق مع قيس في جبانة بني سلول، وجاء عبد الله بن سبيع حتى نزل مع أهل اليمن في جبانة السبيع.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، أن شمر بن ذي الجوشن أتى أهل اليمن فقال لهم: إن اجتمعتم في مكان نجعل فيه مجنبتين ونقاتل من وجه واحد فأنا صاحبكم، وإلا فلا، والله لا أقاتل في مثل هذا المكان في سكك ضيقة، ونقاتل من غير وجه فانصرف إلى جماعة قومه في جبانة بني سلول قال: ولما خرج رسول المختار إلى ابن الأشتر بلغه من يومه عشية، فنادى في الناس: أن ارجعوا إلى الكوفة، فسار بقية عشيته تلك، ثم نزل حين أمسى، فتعشى أصحابه، وأراحوا الدواب شيئا كلا شيء، ثم نادى في الناس، فسار ليلته كلها، ثم صلى الغداة بسورا، ثم سار من يومه فصلى العصر على باب الجسر من الغد، ثم إنه جاء حتى بات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة والجلد، حتى إذا كان صبيحة اليوم الثالث من مخرجهم على المختار، خرج المختار إلى
(6/46)
المنبر فصعده.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن شبث بن ربعي بعث اليه ابنه عبد المؤمن فقال: إنما نحن عشيرتك، وكف يمينك، لا والله لا نقاتلك، فثق بذلك منا، وكان رأيه قتاله، ولكنه كاده ولما أن اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة، فكره كل رأس من رءوس أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: هذا أول الاختلاف، قدموا الرضا فيكم، فإن في عشيرتكم سيد قراء أهل المصر، فليصل بكم رفاعة بن شداد الفتياني من بجيلة، ففعلوا، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة قال أبو مخنف: وحدثني وازع بن السري أن أنس بن عمرو الأزدي انطلق فدخل في أهل اليمن، وسمعهم وهم يقولون: إن سار المختار إلى إخواننا من مضر سرنا إليهم، وإن سار إلينا ساروا إلينا، فسمعها منهم رجل، وأقبل جوادا حتى صعد إلى المختار على المنبر، فأخبره بمقالتهم، فقال: أما هم فخلقاء لو سرت إلى مضر أن يسيروا إليهم، وأما أهل اليمن فأشهد لئن سرت إليهم لا تسير إليهم مضر، فكان بعد ذلك يدعو ذلك الرجل ويكرمه ثم ان المختار نزل فعبا أصحابه في السوق- والسوق إذ ذاك ليس فيها هذا البناء- فقال لإبراهيم بن الأشتر: إلى أي الفريقين أحب إليك أن تسير؟ فقال: إلى أي الفريقين أحببت، فنظر المختار- وكان ذا رأي، فكره أن يسير إلى قومه فلا يبالغ في قتالهم- فقال: سر إلى مضر بالكناسة وعليهم شبث بن ربعي ومُحَمَّد بن عمير بن عطارد، وأنا أسير إلى أهل اليمن.
قال: ولم يزل المختار يعرف بشدة النفس، وقلة البقيا على أهل اليمن وغيرهم إذا ظفر، فسار إبراهيم بن الأشتر إلى الكناسة، وسار المختار إلى جبانة السبيع، فوقف المختار عند دار عمر بن سعد بن أبي وقاص، وسرح بين أيديه أحمر بن شميط البجلي ثم الأحمسي، وسرح عبد الله بن كامل الشاكري، وقال لابن شميط: الزم هذه السكة حتى تخرج إلى اهل
(6/47)
جبانة السبيع من بين دور قومك وقال لعبد الله بن كامل: الزم هذه السكة حتى تخرج على جبانة السبيع من دار آل الأخنس بن شريق، ودعاهما فأسر إليهما أن شباما قد بعثت تخبرني أنهم قد أتوا القوم من ورائهم، فمضيا فسلكا الطريقين اللذين أمرهما بهما، وبلغ أهل اليمن مسير هذين الرجلين إليهم، فاقتسموا تينك السكتين، فأما السكة التي في دبر مسجد أحمس فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وإسحاق بن الأشعث وزحر بن قيس، وأما السكة التي تلي الفرات فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن مخنف، وبشير بن جرير بن عبد الله، وكعب بن أبي كعب ثم إن القوم اقتتلوا كأشد قتال اقتتله قوم ثم إن أصحاب أحمر بن شميط انكشفوا وأصحاب عبد الله بن كامل أيضا، فلم يرع المختار إلا وقد جاءه الفل قد أقبل، فقال: ما وراءكم؟ قالوا: هزمنا، قال: فما فعل أحمر بن شميط؟ قالوا: تركناه قد نزل عند مسجد القصاص- يعنون مسجد أبي داود في وادعة، وكان يعتاده رجال أهل ذلك الزمان يقصون فيه، وقد نزل معه أناس من أصحابه- وقال أصحاب عبد الله: ما ندري ما فعل ابن كامل! فصاح بهم: أن انصرفوا ثم أقبل بهم حتى انتهى إلى دار أبي عبد الله الجدلي، وبعث عبد الله بن قراد الخثعمى- وكان على أربعمائة رجل من أصحابه- فقال: سر في أصحابك إلى ابن كامل، فإن يك هلك فأنت مكانه، فقاتل القوم بأصحابك وأصحابه، وإن تجده حيا صالحا فسر في مائة من أصحابك كلهم فارس، وادفع إليه بقية أصحابك، ومر بالجد معه والمناصحة له، فإنهم إنما يناصحونني، ومن ناصحني فليبشر، ثم امض في المائة حتى تأتي أهل جبانة السبيع مما يلي حمام قطن ابن عبد الله فمضى فوجد ابن كامل واقفا عند حمام عمرو بن حريث
(6/48)
معه أناس من أصحابه قد صبروا، وهو يقاتل القوم، فدفع اليه ثلاثمائة من أصحابه ثم مضى حتى نزل إلى جبانة السبيع.
ثم أخذ في تلك السكك حتى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده، وقال لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: أمرنا لأمرك تبع وكل من كان معه من حاشد من قومه وهم مائة، فقال لهم: والله انى لاحب ان يظهر المختار، وو الله إني لكاره أن يهلك أشراف عشيرتي اليوم، وو الله لأن أموت أحب إلي من أن يحل بهم الهلاك على يدي، ولكن قفوا قليلا فإني قد سمعت شباما يزعمون أنهم سيأتونهم من ورائهم، فلعل شباما تكون هي تفعل ذلك، ونعافى نحن منه قال له أصحابه: فرأيك فثبت كما هو عند مسجد عبد القيس وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي في مائتي رجل- وكان من أشد الناس بأسا- وبعث عبد الله بن شريك النهدي في مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكثروه، فاقتتلوا عند ذلك كأشد القتال، ومضى ابن الأشتر حتى لقي شبث بن ربعي وأنا سامعه من مضر كثيرا، وفيهم حسان بن فائد العبسي، فقال لهم إبراهيم:
ويحكم! انصرفوا، فو الله ما أحب أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم، فأبوا، فقاتلوه فهزمهم، واحتمل حسان بن فائد إلى أهله، فمات حين أدخل إليهم، وقد كان وهو على فراشه قبل موته أفاق إفاقة فقال: أما والله ما كنت أحب أن أعيش من جراحتي هذه، وما كنت أحب أن تكون منيتي إلا بطعنة رمح، أو بضربة بالسيف، فلم يتكلم بعدها كلمة حتى مات وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار البشرى من قبله إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل، فالناس على أحوالهم كل أهل سكة منهم قد أغنت ما يليها.
قال: فاجتمعت شبام وقد رأسوا عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا
(6/49)
واجتمعوا بأن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض: أما والله لو جعلتم جدكم هذا على من خالفكم من غيركم لكان أصوب، فسيروا إلى مضر أو إلى ربيعة فقاتلوهم- وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلم- فقالوا: يا أبا القلوص، ما رأيك؟ فقال: قال الله جل ثناؤه:
«قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً» قوموا، فقاموا، فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة ثم قال لهم: اجلسوا فجلسوا، ثم مشى بهم أنفس من ذلك شيئا، ثم قعد بهم، ثم قال لهم: قوموا، ثم مشى بهم الثالثة أنفس من ذلك شيئا، ثم قعد بهم، فقالوا له: يا أبا القلوص، والله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع! قال: إن المجرب ليس كمن لم يجرب، إني أردت أن ترجع إليكم أفئدتكم، وأن توطنوا على القتال أنفسكم، وكرهت أن أقحمكم على القتال وأنتم على حال دهش، قالوا: أنت أبصر بما صنعت فلما خرجوا إلى جبانة السبيع استقبلهم على فم السكة الأعسر الشاكري، فحمل عليه الجندعي وأبو الزبير بن كريب فصرعاه، ودخلا الجبانة، ودخل الناس الجبانة في آثارهم، وهم ينادون: يا لثارات الحسين! فأجابهم أصحاب ابن شميط يا لثارات الحسين! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران من همدان فقال: يا لثارات عثمان! فقال لهم رفاعة بن شداد: ما لنا ولعثمان! لا أقاتل مع قوم يبغون دم عثمان، فقال له أناس من قومه: جئت بنا وأطعناك، حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت: انصرفوا ودعوهم! فعطف عليهم وهو يقول:
أنا ابن شداد على دين علي ... لست لعثمان بن أروى بولي
لأصلين اليوم فيمن يصطلي ... بحر نار الحرب غير مؤتل
فقاتل حتى قتل، وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران، وقتل النعمان ابن صهبان الجرمي ثم الراسبي- وكان ناسكا- ورفاعة بن شداد بن عوسجة
(6/50)
الفتياني عند حمام المهبذان الذي بالسبخة- وكان ناسكا- وقتل الفرات ابن زحر بن قيس الجعفي، وارتث زحر بن قيس، وقتل عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس، وقتل عمر بن مخنف، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى ارتث، وحملته الرجال على أيديها وما يشعر، وقاتل حوله رجال من الأزد، فقال حميد بن مسلم:
لأضربن عن أبي حكيم ... مفارق الأعبد والصميم
وقال سراقة بن مرداس البارقي:
يا نفس إلا تصبري تليمي ... لا تتولي عن ابى حكيم
واستخرج من دور الوادعيين خمسمائة أسير، فأتي بهم المختار مكتفين، فأخذ رجل من بني نهد وهو من رؤساء أصحاب المختار يقال له: عبد الله ابن شريك، لا يخلو بعربي إلا خلى سبيله، فرفع ذلك إلى المختار درهم مولى لبني نهد، فقال له المختار: اعرضوهم علي، وانظروا كل من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به، فأخذوا لا يمر عليه برجل قد شهد قتل الحسين إلا قيل له: هذا ممن شهد قتله، فيقدمه فيضرب عنقه، حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وثمانية وأربعين قتيلا، وأخذ أصحابه كلما رأوا رجلا قد كان يؤذيهم او يماريهم او يضربهم خلوا به فقتلوه حتى قتل ناس كثير منهم وما يشعر بهم المختار، فأخبر بذلك المختار بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم، وأخذ عليهم المواثيق الا يجامعوا عليه عدوا، ولا يبغوه ولا أصحابه غائلة، إلا سراقة بن مرداس البارقي، فإنه أمر به أن يساق معه إلى المسجد قال: ونادى منادي المختار: إنه من أغلق بابه فهو آمن، إلا رجلا شرك في دم آل محمد ص
(6/51)
قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبى، ان يزيد ابن الحارث بن يزيد بن رؤيم وحجار بن أبجر بعثا رسلا لهما، فقالا لهم:
كونوا من أهل اليمن قريبا، فإن رأيتموهم قد ظهروا فأيكم سبق إلينا فليقل صرفان، وإن كانوا هزموا فليقل جمزان، فلما هزم أهل اليمن أتتهم رسلهم، فقال لهم أول من انتهى إليهم: جمزان، فقام الرجلان فقالا لقومهما:
انصرفوا إلى بيوتكم، فانصرفوا، وخرج عمرو بن الحجاج الزبيدي- وكان ممن شهد قتل الحسين- فركب راحلته، ثم ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتى الساعة، ولا يدرى أرض بخسته، أم سماء حصبته! وأما فرات بن زحر بن قيس فإنه لما قتل بعثت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية- وكانت امرأة الحسين بن علي- إلى المختار تسأله أن يأذن لها أن تواري جسده، ففعل، فدفنته.
وبعث المختار غلاما له يدعى زربيا في طلب شمر بن ذي الجوشن.
قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: تبعنا زربي غلام المختار، فلحقنا وقد خرجنا من الكوفة على خيول لنا ضمر، فأقبل يتمطر به فرسه، فلما دنا منا قال لنا شمر: اركضوا وتباعدوا عني لعل العبد يطمع في، قال: فركضنا، فأمعنا، وطمع العبد في شمر، وأخذ شمر ما يستطرد له، حتى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر فدق ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال: بؤسا لزربي، أما لو يستشيرني ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة.
قال أبو مخنف: حدثني أبو مُحَمَّد الهمداني، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما خرج شمر بن ذي الجوشن وأنا معه حين هزمنا المختار، وقتل أهل اليمن بجبانة السبيع، ووجه غلامه زربيا في طلب شمر، وكان من قتل شمر إياه ما كان، مضى شمر حتى ينزل ساتيدما، ثم مضى حتى ينزل إلى جانب قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر، إلى جانب تل،
(6/52)
ثم أرسل إلى تلك القرية فأخذ منها علجا فضربه، ثم قال: النجاء بكتابي هذا إلى المصعب بن الزبير وكتب عنوانه: للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن قال: فمضى العلج حتى يدخل قرية فيها بيوت، وفيها أبو عمرة، وقد كان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فيما بينه وبين أهل البصرة، فلقي ذلك العلج علجا من تلك القرية، فأقبل يشكو إليه ما لقي من شمر، فإنه لقائم معه يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة، فرأى الكتاب مع العلج، وعنوانه: لمصعب من شمر، فسألوا العلج عن مكانه الذي هو به، فأخبرهم، فإذا ليس بينهم وبينه إلا ثلاثة فراسخ قال: فأقبلوا يسيرون إليه.
قال أبو مخنف: فحدثني مسلم بن عبد الله، قال: وأنا والله مع شمر تلك الليلة، فقلنا: لو أنك ارتحلت بنا من هذا المكان فإنا نتخوف به! فقال: أو كل هذا فرقا من الكذاب! والله لا أتحول منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعبا! قال: وكان بذلك المكان الذي كنا فيه دبى كثير، فو الله إني لبين اليقظان والنائم، إذ سمعت وقع حوافر الخيل، فقلت في نفسي: هذا صوت الدبى، ثم إني سمعته أشد من ذلك، فانتبهت ومسحت عيني، وقلت: لا والله، ما هذا بالدبي قال: وذهبت لأقوم، فإذا أنا بهم قد أشرفوا علينا من التل، فكبروا، ثم أحاطوا بأبياتنا، وخرجنا نشتد على أرجلنا، وتركنا خيلنا قال: فأمر على شمر، وإنه لمتزر ببرد محقق- وكان أبرص- فكأني أنظر إلى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعة، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب الكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمرا، قال: قلت: هل سمعته يقول شيئا ليلتئذ؟ قال: نعم،
(6/53)
خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول:
نبهتمُ ليث عرين ... جهما محياه يدق الكاهلا
لم ير يوما عن عدو ناكلا ... إلا كذا مقاتلا أو قاتلا
يبرحهم ضربا ويروي العاملا.
قال أبو مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر، أخذ سراقة بن مرداس يناديه بأعلى صوته:
امنن علي اليوم يا خير معد ... وخير من حل بشحر والجند
وخير من حيا ولبى وسجد.
فبعث به المختار إلى السجن، فحبسه ليلة، ثم أرسل إليه من الغد فأخرجه، فدعا سراقة، فأقبل إلى المختار وهو يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ... نزونا نزوة كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئا ... وكان خروجنا بطرا وحينا
نراهم في مصافهم قليلا ... هم مثل الدبى حين التقينا
برزنا إذ رأيناهم فلما ... رأينا القوم قد برزوا إلينا
لقينا منهمُ ضربا طلحفا ... وطعنا صائبا حتى انثنينا
نصرت على عدوك كل يوم ... بكل كتيبة تنعى حسينا
كنصر مُحَمَّد في يوم بدر ... ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبة مني فإني ... سأشكر إن جعلت النقد دينا
(6/54)
قال: فلما انتهى إلى المختار، قال له: اصلحك الله ايها الأمير! سراقه ابن مرداس يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض، فقال له المختار: فاصعد المنبر فأعلم ذلك المسلمين، فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل، فخلا به المختار، فقال:
إني قد علمت أنك لم تر الملائكة، وانما اردت ما قد عرفت الا أقتلك، 2 فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد علي أصحابي.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحجاج بن علي البارقي عن سراقة بن مرداس، قال: ما كنت في أيمان حلفت بها قط أشد اجتهادا ولا مبالغة في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة معهم تقاتل فخلوا سبيله فهرب، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج أشراف أهل الكوفة والوجوه فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج سراقة بن مرداس من الكوفة وهو يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهما مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا ... علي قتالكم حتى الممات
أري عيني ما لم تبصراه ... كلانا عالم بالترهات
إذا قالوا أقول لهم كذبتم ... وإن خرجوا لبست لهم أداتي
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا مُحَمَّد بن براد، من ولد أبي موسى الأشعري، عن شيخ، قال: لما أسر سراقة البارقي، قال:
وأنتم أسرتموني! ما أسرني إلا قوم على دواب بلق، عليهم ثياب بيض قال:
فقال المختار: أولئك الملائكة، فأطلقه، فقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهما مصمتات
أري عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات
(6/55)
قال أبو مخنف: حدثني عمير بن زياد أن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال يوم جبانة السبيع: ويحكم! من هؤلاء الذين أتونا من ورائنا؟ قيل له: شبام، فقال: يا عجبا! يقاتلني بقومي من لا قوم له.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو روق أن شرحبيل بن ذي بقلان من الناعطيين قتل يومئذ، وكان من بيوتات همدان، فقال يومئذ قبل أن يقتل: يا لها قتلة، ما أضل مقتولها! قتال مع غير إمام، وقتال على غير نية، وتعجيل فراق الأحبة، ولو قتلناهم إذا لم نسلم منهم، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! أما والله ما خرجت الا مواسيا لقومي بنفسي مخافة أن يضطهدوا، وايم الله ما نجوت من ذلك ولا أنجوا، ولا أغنيت عنهم ولا أغنوا قال: ويرميه رجل من الفائشيين من همدان يقال له أحمر بن هديج بسهم فيقتله.
قال: واختصم في عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني نفر ثلاثة: سعر ابن أبي سعر الحنفي، وأبو الزبير الشبامي: ورجل آخر، فقال سعر: طعنته طعنة، وقال أبو الزبير: لكن ضربته أنا عشر ضربات أو أكثر، وقال لي ابنه: يا أبا الزبير، أتقتل عبد الرحمن بن سعيد سيد قومك! فقلت:
«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.
» فقال المختار: كلكم محسن وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي النضر بن صالح أن القتل إذ ذاك كان استحر في أهل اليمن، وأن مضر أصيب منهم بالكناسة بضعة عشر رجلا، ثم مضوا حتى مروا بربيعة، فرجع حجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رؤيم وشداد بن المنذر- أخو حضين- وعكرمة بن ربعي، فانصرف جميع هؤلاء إلى رحالهم، وعطف عليهم عكرمة فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انصرف عنهم وقد خرج، فجاء حتى دخل منزله، فقيل له: قد مرت خيل في
(6/56)
ناحية الحي، فخرج فأراد أن يثب من حائط داره إلى دار أخرى إلى جانبه فلم يستطع حتى حمله غلام له وكانت وقعة جبانة السبيع يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين.
قال: وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة، وتجرد المختار لقتلة الحسين فقال: ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين يمشون أحياء في الدنيا آمنين، بئس ناصر آل مُحَمَّد أنا إذا في الدنيا! أنا إذا الكذاب كما سموني، فانى بالله استعين عليهم، الحمد الله الذي جعلني سيفا ضربهم به، ورمحا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقهم، إنه كان حقا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم لي ثم اتبعوهم حتى تفنوهم.
قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر أن المختار قال لهم: اطلبوا لي قتلة الحسين، فإنه لا يسوغ لي الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وانفى المصر منهم قال أبو مخنف: وحدثني مالك بن أعين الجهني أن عبد الله بن دباس، وهو الذي قتل محمد بن عمار بن ياسر الذي قال الشاعر:
قتيل ابن دباس أصاب قذاله.
هو الذي دل المختار على نفر ممن قتل الحسين، منهم عبد الله بن أسيد بن النزال الجهني من حرقة، ومالك بن النسير البدي، وحمل بن مالك المحاربى، فبعث اليهم المختار أبا نمران مالك بن عمرو النهدي- وكان من رؤساء أصحاب المختار- فأتاهم وهم بالقادسية، فأخذهم فأقبل بهم حتى أدخلهم عليه عشاء، فقال لهم المختار: يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله، أين الحسين بن علي؟ أدوا إلي الحسين، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة، فقالوا: رحمك الله! بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا واستبقنا، قال المختار: فهلا مننتم على الحسين ابن بنت
(6/57)
نبيكم واستبقيتموه وسقيتموه! ثم قال المختار للبدِّي: أنت صاحب برنسه؟
فقال له عبد الله بن كامل: نعم، هو هو، فقال المختار، اقطعوا يدي هذا ورجليه، ودعوه فليضطرب حتى يموت، ففعل ذلك به وترك، فلم يزل ينزف الدم حتى مات، وأمر بالآخرين فقدما، فقتل عبد الله بن كامل عبد الله الجهني، وقتل سعر بن أبي سعر حمل بن مالك المحاربي.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت التيمي، قال: حدثني أبو سعيد الصيقل أن المختار دل على رجال من قتلة الحسين، دله عليهم سعر الحنفي، قال: فبعث المختار عبد الله بن كامل، فخرجنا معه حتى مر ببني ضبيعة، فأخذ منهم رجلا يقال له زياد بن مالك، قال: ثم مضى إلى عنزة فأخذ منهم رجلا يقال له عمران بن خالد قال: ثم بعثني في رجال معه يقال لهم الدبابة إلى دار في الحمراء، فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني، فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه، فقال لهم:
يا قتلة الصالحين، وقتلة سيد شباب أهل الجنة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم! لقد جاءكم الورس، بيوم نحس- وكانوا قد أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين- أخرجوهم إلى السوق فضربوا رقابهم ففعل ذلك بهم، فهؤلاء أربعة نفر.
قال أبو مخنف: وحدثني سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: جاءنا السائب بن مالك الأشعري في خيل المختار، فخرجت نحو عبد القيس، وخرج عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخب في أثري، وشغلوا بالاحتباس عليهما عني، فنجوت وأخذوهما، ثم مضوا بهما حتى مروا على منزل رجل يقال له عبد الله بن وهب بن عمرو ابن عم أعشى همدان من بني عبد، فأخذوه، فانتهوا بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا في السوق، فهؤلاء ثلاثة فقال حميد بن مسلم في ذلك حيث نجا منهم:
ألم ترني على دهش نجوت ولم أكد انجو
(6/58)
رجاء الله أنقذني ولم أك غيره أرجو
قال أبو مخنف: حدثني موسى بن عامر العدوي من جهينة- وقد عرف ذلك الحديث شهم بن عبد الرحمن الجهني- قال: بعث المختار عبد الله ابن كامل إلى عثمان بن خالد بن أسير الدهماني من جهينة، وإلى أبي أسماء بشر بن سوط القابضي- وكانا ممن شهدا قتل الحسين، وكانا اشتركا في دم عبد الرَّحْمَن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه- فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بني دهمان، ثم قال: علي مثل خطايا بني دهمان منذ يوم خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد بن أسير، إن لم أضرب أعناقكم من عند آخركم فقلنا له: أمهلنا نطلبه، فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبانة- وكانا يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة- فأتى بهما عبد الله بن كامل، فقال: الحمد لله الذي كفى المؤمنين القتال، لو لم يجدوا هذا مع هذا عنانا إلى منزله في طلبه، فالحمد لله الذي حينك حتى أمكن منك فخرج بهما حتى إذا كان في موضع بئر الجعد ضرب أعناقهما، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره أن يرجع إليهما فيحرقهما بالنار، وقال:
لا يدفنان حتى يحرقا فهذان رجلان، فقال أعشى همدان يرثي عثمان الجهني:
يا عين بكّي فتى الفتيان عثمانا لا يبعدن الفتى من آل دهمانا واذكر فتى ماجدا حلوا شمائله ما مثله فارس في آل همدانا قال موسى بن عامر: وبعث معاذ بن هانئ بن عدي الكندي ابن أخي حجر، وبعث أبا عمرة صاحب حرسه، فساروا حتى أحاطوا بدار خولي بن يزيد الأصبحي وهو صاحب راس الحسين الذى جاء به، فاختبا في مخرجه، فأمر معاذ أبا عمرة أن يطلبه في الدار، فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها: أين زوجك؟ فقالت: لا أدري أين هو- وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرة، فأخرجوه، وكان المختار يسير
(6/59)
بالكوفة ثم إنه أقبل في أثر أصحابه وقد بعث أبو عمرة إليه رسولا، فاستقبل المختار الرسول عند دار بلال، ومعه ابن كامل، فأخبره الخبر، فأقبل المختار نحوهم، فاستقبل به، فردده حتى قتله إلى جانب أهله، ثم دعا بنار فحرقه بها، ثم لم يبرح حتى عاد رمادا، ثم انصرف عنه وكانت امرأته من حضرموت يقال لها العيوف بنت مالك بن نهار بن عقرب، وكانت نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين.
قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر أبو الأشعر أن المختار قال ذات يوم وهو يحدث جلساءه: لأقتلن غدا رجلا عظيم القدمين، غائر العينين، مشرف الحاجبين يسر مقتله المؤمنين والملائكة المقربين قال: وكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار حين سمع هذه المقالة، فوقع في نفسه أن الذي يريد عمر بن سعد بن أبي وقاص، فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان فقال: الق ابن سعد الليلة فخبره بكذا وكذا، وقل له: خذ حذرك، فإنه لا يريد غيرك قال: فأتاه فاستخلاه، ثم حدثه الحديث، فقال له عمر بن سعد: جزى الله أباك والإخاء خيرا! كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق! وكان المختار أول ما ظهر أحسن شيء سيرة وتألفا للناس، وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلي، فكلم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة وقال له: إني لا آمن هذا الرجل- يعني المختار- فخذ لي منه أمانا، ففعل، قال: فانا رايت امانه وقراته وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد ابن أبي وقاص، إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديما ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك وأهلك ومصرك، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد
(6/60)
ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلا بخير شهد السائب بن مالك وأحمر بن شميط وعبد الله بن شداد وعبد الله بن كامل وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفين لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلا أن يحدث حدثا، وأشهد الله على نفسه، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً* قال: فكان أبو جعفر مُحَمَّد بن علي يقول: أما أمان المختار لعمر بن سعد:
إلا أن يحدث حدثا، فإنه كان يريد به إذا دخل الخلاء فأحدث.
قال: فلما جاءه العريان بهذا خرج من تحت ليلته حتى أتى حمامه، ثم قال في نفسه: انزل داري، فرجع فعبر الروحاء، ثم أتى داره غدوة، وقد أتى حمامه، فأخبر مولى له بما كان من أمانه وبما أريد به، فقال له مولاه:
وأي حدث أعظم مما صنعت! إنك تركت رحلك وأهلك واقبلت الى هاهنا، ارجع إلى رحلك، لا تجعلن للرجل عليك سبيلا فرجع إلى منزله، وأتى المختار بانطلاقه، فقال: كلا إن في عنقه سلسلة سترده، لو جهد أن ينطلق ما استطاع قال: وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة، وأمره أن يأتيه به، فجاءه حتى دخل عليه فقال: أجب الأمير، فقام عمر: فعثر في جبة له، ويضربه أبو عمرة بسيفه، فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار، فقال المختار لابنه حفص بن عمر بن سعد وهو جالس عنده: أتعرف هذا الرأس؟ فاسترجع وقال: نعم، ولا خير في العيش بعده، قال له المختار: صدقت، فإنك لا تعيش بعده، فأمر به فقتل، وإذا رأسه مع رأس أبيه ثم إن المختار قال: هذا بحسين وهذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله، فقالت حميدة بنت عمر بن سعد تبكي أباها:
لو كان غير أخي قسي غره أو غير ذي يمن وغير الأعجم سخى بنفسي ذاك شيئا فاعلموا عنه وما البطريق مثل الألأم أعطى ابن سعد في الصحيفة وابنه عهدا يلين له جناح الارقم
(6/61)
فلما قتل المختار عمر بن سعد وابنه بعث برأسيهما مع مسافر بن سعيد ابن نمران الناعطي وظبيان بن عمارة التميمي، حتى قدما بهما على مُحَمَّد ابن الحنفية، وكتب إلى ابن الحنفية في ذلك بكتاب.
قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: إنما كان هيج المختار على قتل عمر بن سعد أن يزيد بن شراحيل الأنصاري اتى محمد بن الحنفية، فسلم عليه، فجرى الحديث إلى أن تذاكروا المختار وخروجه وما يدعوا إليه من الطلب بدماء أهل البيت، فقال محمد بن الحنفية: على أهون رسله يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين جلساؤه على الكراسي يحدثونه! قال: فوعاها الآخر منه، فلما قدم الكوفة أتاه فسلم عليه، فسأله المختار: هل لقيت المهدي؟ فقال له: نعم، فقال: ما قال لك وماذا كرك؟ قال: فخبره الخبر قال: فما لبث المختار عمر بن سعد وابنه أن قتلهما، ثم بعث برأسيهما إلى ابن الحنفية مع الرسولين اللذين سمينا، وكتب معهما إلى ابن الحنفية:
بسم الله الرحمن الرحيم للمهدي مُحَمَّد بن علي من المختار بن أبي عبيد سلام عليك يايها المهدي، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم، فهم بين قتيل وأسير، وطريد وشريد، فالحمد لله الذي قتل قاتليكم، ونصر مؤازريكم.
وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا من شرك في دم الحسين وأهل بيته- رحمة الله عليهم- كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنجم عنهم حتى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم أرميا.
فاكتب إلي أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه، والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته.
ثم إن المختار بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن طفيل الطائي السنبسي- وقد كان أصاب صلب العباس بن علي، ورمى
(6/62)
حسينا بسهم، فكان يقول: تعلق سهمي بسر باله وما ضره- فأتاه عبد الله ابن كامل، فأخذه ثم أقبل به، وذهب أهله فاستغاثوا بعدي بن حاتم، فلحقهم في الطريق، فكلم عبد الله بن كامل فيه، فقال: ما إلي من أمره شيء، إنما ذلك إلى الأمير المختار قال: فإني آتيه، قال: فأته راشدا فمضى عدي نحو المختار، وكان المختار قد شفعه في نفر من قومه أصابهم يوم جبانة السبيع، لم يكونوا نطقوا بشيء من أمر الحسين ولا أهل بيته، فقالت الشيعة لابن كامل: إنا نخاف أن يشفع الأمير عدي بن حاتم في هذا الخبيث، وله من الذنب ما قد علمت، فدعنا نقتله قال: شأنكم به، فلما انتهوا به إلى دار العنزيين وهو مكتوف نصبوه غرضا، ثم قالوا له: سلبت ابن علي ثيابه، والله لنسلبن ثيابك وأنت حي تنظر! فنزعوا ثيابه، ثم قالوا له: رميت حسينا، واتخذته غرضا لنبلك، وقلت:
تعلق سهمي بسر باله ولم يضره، وايم الله لنرمينك كما رميته بنبال ما تعلق بك منها أجزاك قال: فرموه رشقا واحدا، فوقعت به منهم نبال كثيرة فخر ميتا.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجارود، عمن رآه قتيلا كأنه قنفذ لما فيه من كثرة النبل: ودخل عدي بن حاتم على المختار فأجلسه معه على مجلسه، فأخبره عدي عما جاء له، فقال له المختار: أتستحل يا أبا طريف أن تطلب في قتلة الحسين! قال: إنه مكذوب عليه أصلحك الله! قال: إذا ندعه لك قال: فلم يكن بأسرع من أن دخل ابن كامل فقال له المختار:
ما فعل الرجل؟ قال: قتلته الشيعة: قال: وما أعجلك إلى قتله قبل أن تأتيني به وهو لا يسره أنه لم يقتله- وهذا عدي قد جاء فيه، وهو أهل أن يشفع ويؤتى ما سره! قال: غلبتني والله الشيعة، قال له عدي: كذبت يا عدو الله، ولكن ظننت أن من هو خير منك سيشفعني فيه، فبادرتني
(6/63)
فقتلته، ولم يكن خطر يدفعك عما صنعت قال: فاسحنفر إليه ابن كامل بالشتيمة، فوضع المختار أصبعه على فيه، يأمر ابن كامل بالسكوت والكف عن عدي، فقام عدي راضيا عن المختار ساخطا على ابن كامل، يشكوه عند من لقي من قومه وبعث المختار إلى قاتل علي بن الحسين عبد الله ابن كامل، وهو رجل من عبد القيس يقال له مرة بن منقذ بن النعمان العبدي وكان شجاعا، فأتاه ابن كامل فأحاط بداره، فخرج إليهم وبيده الرمح، وهو على فرس جواد، فطعن عبيد الله بن ناجية الشبامي، فصرعه ولم يضره قال: ويضربه ابن كامل بالسيف فيتقيه بيده اليسرى، فأسرع فيها السيف، وتمطرت به الفرس، فأفلت ولحق بمصعب، وشلت يده بعد ذلك قال: وبعث المختار أيضا عبد الله الشاكري إلى رجل من جنب يقال له زيد بن رقاد، كان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم وإنه لواضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته، فما استطاع أن يزيل كفه عن جبهته قال أبو مخنف: فحدثني أبو عبد الأعلى الزبيدي أن ذلك الفتى عبد الله ابن مسلم بن عقيل، وأنه قال حيث أثبت كفه في جبهته: اللهم إنهم استقلونا واستذلونا، اللهم فاقتلهم كما قتلونا، وأذلهم كما استذلونا ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر فقتله، فكان يقول: جئته ميتا فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه، فلم أزل أنضنض السهم من جبهته حتى نزعته، وبقي النصل في جبهته مثبتا ما قدرت على نزعه.
قال: فلما أتى ابن كامل داره أحاط بها، واقتحم الرجال عليه، فخرج مصلتا بسيفه- وكان شجاعا- فقال ابن كامل: لا تضربوه بسيف، ولا تطعنوه برمح، ولكن ارموه بالنبل، وارجموه بالحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فقال ابن كامل: إن كان به رمق فأخرجوه، فاخرجوه وبه
(6/64)
رمق، فدعا بنار فحرقه بها وهو حي لم تخرج روحه، وطلب المختار سنان ابن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة، فهدم داره وطلب المختار عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب، ولحق بالجزيرة، فهدم داره، وكان ذلك الغنوي قد قتل منهم غلاما، وقتل رجل آخر من بني أسد يقال له حرملة بن كاهل رجلا من آل الحسين، ففيهما يقول ابن أبي عقب الليثي:
وعند غني قطرة من دمائنا ... وفي أسد أخرى تعد وتذكر
وطلب رجلا من خثعم يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن عروة الخثعمي- كان يقول:
رميت فيهم باثني عشر سهما ضيعة- ففاته ولحق بمصعب، فهدم داره، وطلب رجلا من صداء يقال له عمرو بن صبيح، وكان يقول: لقد طعنت بعضهم وجرحت فيهم وما قتلت منهم أحدا، فأتي ليلا وهو على سطحه وهو لا يشعر بعد ما هدأت العيون، وسيفه تحت رأسه، فأخذوه أخذا، وأخذوا سيفه، فقال: قبحك الله سيفا، ما أقربك وأبعدك! فجيء به إلى المختار، فحبسه معه في القصر، فلما أن أصبح أذن لأصحابه، وقيل: ليدخل من شاء أن يدخل، ودخل الناس، وجيء به مقيدا، فقال:
أما والله يا معشر الكفرة الفجرة إن لو بيدي سيفي لعلمتم أني بنصل السيف غير رعش ولا رعديد ما يسرني إذ كانت منيتي فتلا أنه قتلني من الخلق أحد غيركم لقد علمت أنكم شرار خلق الله، غير أني وددت أن بيدي سيفا أضرب به فيكم ساعة، ثم رفع يده فلطم عين ابن كامل وهو إلى جنبه، فضحك ابن كامل، ثم أخذ بيده وأمسكها، ثم قال: إنه يزعم أنه قد جرح في آل مُحَمَّد وطعن، فمرنا بأمرك فيه، فقال المختار:
علي بالرماح، فأتي بها، فقال: اطعنوه حتى يموت، فطعن بالرماح حتى مات.
قال أبو مخنف: حدثني هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام
(6/65)
أن أصحاب المختار مروا بدار بني أبي زرعة بن مسعود، فرموهم من فوقها، فأقبلوا حتى دخلوا الدار، فقتلوا الهبياط بن عثمان بن أبي زرعة الثقفي وعبد الرحمن بن عثمان بن أبي زرعة الثقفي، وأفلتهم عبد المالك بن أبي زرعة بضربة في رأسه، فجاء يشتد حتى دخل على المختار، فأمر امرأته أم ثابت ابنة سمرة بن جندب، فداوت شجته، ثم دعاه، فقال: لا ذنب لي، أنكم رميتم القوم فأغضبتموهم وكان مُحَمَّد بن الأشعث بن قيس في قرية الأشعث إلى جنب القادسية، فبعث المختار إليه حوشبا سادن الكرسي في مائة، فقال: انطلق إليه فإنك تجده لاهيا متصيدا، أو قائما متلبدا، أو خائفا متلددا، أو كامنا متغمدا، فإن قدرت عليه فأتني برأسه فخرج حتى أتى قصره فأحاط به، وخرج منه مُحَمَّد بن الأشعث فلحق بمصعب، وأقاموا على القصر وهم يرون انه فيه، ثم دخلوا فعلموا أنه قد فاتهم، فانصرفوا إلى المختار، فبعث إلى داره فهدمها، وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، وكان زياد بن سميه قد هدمها
ذكر الخبر عن البيعه للمختار بالبصرة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة دعا المثنى بن مخربة العبدي إلى البيعة للمختار بالبصرة أهلها، فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن عبد الله بن عطية الليثي وعامر بن الأسود، أن المثنى بن مخربة العبدي كان ممن شهد عين الوردة مع سُلَيْمَان بن صرد، ثم رجع مع من رجع ممن بقي من التوابين إلى الكوفة، والمختار محبوس، فأقام حتى خرج المختار من السجن، فبايعه المثنى سرا، وقال له المختار: الحق ببلدك بالبصرة فارع الناس، وأسر أمرك، فقدم البصرة فدعا، فأجابه رجال من قومه وغيرهم فلما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة ومنع عمر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام من الكوفة خرج المثنى بن مخربة فاتخذ مسجدا، واجتمع إليه
(6/66)
قومه، ودعا إلى المختار، ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها، وجمعوا الطعام في المدينة، ونحروا الجزر، فوجه إليهم القباع عباد بن حصين وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم في الشرط والمقاتلة، فأخذوا في سكة الموالي حتى خرجوا إلى السبخة، فوقفوا، ولزم الناس دورهم، فلم يخرج أحد، فجعل عباد ينظر هل يرى أحدا يسأله! فلم ير أحدا، فقال: اما هاهنا رجل من بني تميم؟ فقال خليفة الأعور مولى بني عدي، عدي الرباب: هذه دار وراد مولى بني عبد شمس، قال: دق الباب، فدقه، فخرج إليه وراد، فشتمه عباد وقال: ويحك! انا واقف هاهنا، لم لم تخرج إلي! قال: لم أدر ما يوافقك، قال: شد عليك سلاحك واركب، ففعل، ووقفوا، وأقبل أصحاب المثنى فواقفوهم، فقال عباد لوراد،: قف مكانك مع قيس، فوقف قيس بن الهيثم ووراد، ورجع عباد فأخذ في طريق الذباحين، والناس وقوف في السبخة، حتى اتى الكلا، ولمدينة الرزق أربعة أبواب:
باب مما يلي البصرة، وباب إلى الخلالين، وباب إلى المسجد، وباب إلى مهب الشمال، فأتى الباب الذي يلي النهر مما يلي أصحاب السقط، وهو باب صغير، فوقف ودعا بسلم فوضعه مع حائط المدينة، فصعد ثلاثون رجلا، وقال لهم: الزموا السطح، فإذا سمعتم التكبير فكبروا على السطوح، ورجع عباد إلى قيس بن الهيثم وقال لوراد: حرش القوم، فطارد هم وراد، ثم التبس القتال فقتل أربعون رجلا من أصحاب المثنى، وقتل رجل من أصحاب عباد، وسمع الذين على السطوح في دار الرزق الضجة والتكبير، فكبروا، فهرب من كان في المدينة، وسمع المثنى وأصحابه التكبير من ورائهم، فانهزموا، وأمر عباد وقيس بن الهيثم الناس بالكف عن اتباعهم وأخذوا مدينة الرزق وما كان فيها، وأتى المثنى وأصحابه عبد القيس ورجع عباد وقيس ومن معهما إلى القباع فوجههما إلى عبد القيس، فأخذ قيس بن الهيثم من ناحية الجسر، وأتاهم عباد من طريق المربد، فالتقوا فأقبل زياد بن عمرو العتكي إلى القباع وهو في المسجد جالس على المنبر،
(6/67)
فدخل زياد المسجد على فرسه، فقال: أيها الرجل، لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنها فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا أمر الناس، فأتيا عبد القيس، فقال الأحنف لبكر والأزد وللعامة: ألستم على بيعة ابن الزبير! قالوا: بلى، ولكنا لا نسلم إخواننا.
قال: فمروهم فليخرجوا إلى أي بلاد أحبوا، ولا يفسدوا هذا المصر على أهله، وهم آمنون فليخرجوا حيث شاءوا فمشى مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ووجوه أصحابهم إلى المثنى، فقالوا له ولأصحابه: إنا والله ما نحن على رأيكم، ولكنا كرهنا أن تضاموا، فالحقوا بصاحبكم، فإن من أجابكم إلى رأيكم قليل، وأنتم آمنون فقبل المثنى قولهما وما أشارا به، وانصرف.
ورجع الأحنف وقال: ما غبنت رأيي إلا يومي هذا، إني أتيت هؤلاء القوم وخلفت بكرا والأزد ورائي، ورجع عباد وقيس إلى القباع، وشخص المثنى إلى المختار بالكوفة في نفر يسير من أصحابه، وأصيب في تلك الحرب سويد بن رئاب الشني، وعقبة بن عشيرة الشني، قتله رجل من بني تميم وقتل التميمي فولغ أخوه عقبة بن عشيرة في دم التميمي، وقال: ثأري وأخبر المثنى المختار حين قدم عليه بما كان من أمر مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ومسيرهما إليه، وذبهما عنه حتى شخص عن البصرة، فطمع المختار فيهما، فكتب إليهما: أما بعد، فاسمعا وأطيعا أوتكما من الدنيا ما شئتما، وأضمن لكما الجنة فقال، مالك لزياد: يا أبا المغيرة، قد أكثر لنا أبو إسحاق اعطاءنا الدنيا والآخرة! فقال زياد لمالك مازحا: يا أبا غسان، أما أنا فلا أقاتل نسيئة من أعطانا الدراهم قاتلنا معه وكتب المختار إلى الأحنف بن قيس:
من المختار إلى الأحنف ومن قبله فسلم أنتم، أما بعد، فويل أم ربيعة من مضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم الصدر، وإني لا أملك ما خط في القدر، وقد بلغني أنكم تسمونني كذابا،
(6/68)
وقد كذب الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم.
وكتب إلى الأحنف:
إذا اشتريت فرسا من مالكا ... ثم أخذت الجوب في شمالكا
فاجعل مصاعا حذما من بالكا.
حدثني أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا الحسن بن حماد، عن حبان بن علي، عن المجالد، عن الشعبي، قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال لي بعض القوم: من أنت؟ قلت: رجل من أهل الكوفة، قال: أنتم موال لنا، قلت: وكيف؟
قال: قد أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار، قلت: تدري ما قال شيخ همدان فينا وفيكم؟ فقال الأحنف بن قيس: وما قال؟
قلت: قال:
أفخرتم إن قتلتم أعبدا ... وهزمتم مرة آل عزل
وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل
بين شيخ خاضب عثنونه ... وفتى أبيض وضاح رفل
جاءنا يهدج في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الحمل
وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأجل
وقتلتم خشبيين بهم ... بدلا من قومكم شر بدل
فغضب الأحنف، فقال: يا غلام، هات تلك الصحيفة، فأتي بصحيفة فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنف بن قيس، أما بعد، فويل أم ربيعة ومضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، وإن كذبت
(6/69)
فقد كذب رسل من قبلي، ولست أنا خيرا منهم فقال: هذا منا أو منكم! وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ عن أبي مخنف، قال: حدثني منيع بن العلاء السعدي أن مسكين بن عَامِر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس كان فيمن قاتل المختار، فلما هزم الناس لحق بأذربيجان بمُحَمَّد بن عمير بن عطارد، وقال:
عجبت دختنوس لما رأتني ... قد علاني من المشيب خمار
فأهلت بصوتها وأرنت ... لا تهالي قد شاب مني العذار
إن تريني قد بان غرب شبابي ... وأتى دون مولدي أعصار
فابن عامين وابن خمسين عاما ... أي دهر إلا له أدهار!
ليت سيفي لها وجوبتها لي ... يوم قالت ألا كريم يغار!
ليتنا قبل ذلك اليوم متنا ... أو فعلنا ما تفعل الأحرار
فعل قوم تقاذف الخير عنهم ... لم نقاتل وقاتل العيزار
وتوليت عنهم وأصيبوا ... ونفاني عنهم شنار وعار
لهف نفسي على شهاب قريش ... يوم يؤتى برأسه المختار!
وقال المتوكل:
قتلوا حسينا ثم هم ينعونه ... إن الزمان بأهله أطوار
لا تبعدن بالطف قتلى ضيعت ... وسقى مساكن هامها الأمطار
ما شرطة الدجال تحت لوائه ... بأضل ممن غره المختار
أبني قسي أوثقوا دجالكم ... يجل الغبار وأنتم أحرار
لو كان علم الغيب عند أخيكمُ ... لتوطأت لكم به الأحبار
ولكان أمرا بينا فيما مضى ... تأتي به الأنباء والاخبار
(6/70)
إني لأرجو أن يكذب وحيكم ... طعن يشق عصاكمُ وحصار
ويجيئكم قوم كأن سيوفهم ... بأكفهم تحت العجاجة نار
لا ينثنون إذا همُ لاقوكم ... الا وهام كماتكم اعشار
ذكر الخبر عن بعث المختار جيشه للمكر بابن الزبير
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بعث المختار جيشا إلى المدينة للمكر بابن الزبير، وهو مظهر له أنه وجههم معونة له لحرب الجيش الذي كان عبد الملك بن مروان وجهه إليه لحروبه، فنزلوا وادي القرى.
ذكر الخبر عن السبب الداعي كان للمختار إلى توجيه ذلك الجيش وإلى ما صار أمرهم:
قال هشام بن مُحَمَّد: قال أبو مخنف: حدثني موسى بن عامر، قال:
لما اخرج المختار ابن مطيع من الكوفة لحق بالبصرة وكره أن يقدم ابن الزبير بمكة وهو مهزوم مفلول، فكان بالبصرة مقيما حتى قدم عليه عمر بن عبد الرحمن بن هشام، فصارا جميعا بالبصرة وكان سبب قدوم عمر البصرة أن المختار حين ظهر بالكوفة واستجمع له الأمر وهو عند الشيعة إنما يدعو إلى ابن الحنفية والطلب بدماء أهل البيت، أخذ يخادع ابن الزبير ويكتب إليه، فكتب إليه: أما بعد، فقد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك فلما وفيت لك، وقضيت الذي كان لك علي، خست بي، ولم تف بما عاهدتني عليه، ورأيت مني ما قد رأيت، فإن ترد مراجعتي أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لك وهو يريد بذلك كفه عنه، حتى يستجمع له الأمر، وهو لا يطلع الشيعة على شيء من هذا الأمر، وإذا بلغهم شيء منه أراهم أنه أبعد الناس عن ذلك قال: فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب! فدعا عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ المخزومي
(6/71)
فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليناكها، فقال: كيف وبها المختار! قال:
إنه يزعم أنه سامع مطيع قال: فتجهز بما بين الثلاثين الألف درهم إلى الأربعين ألفا، ثم خرج مقبلا إلى الكوفة قال: ويجيء عين المختار من مكة حتى أخبره الخبر، فقال له: بكم تجهز؟ قال: بما بين الثلاثين ألفا إلى الأربعين ألفا قال: فدعا المختار زائدة بن قدامة وقال له: احمل معك سبعين ألف درهم ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، واخرج معك مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي في خمسمائة فارس دارع رامح، عليهم البيض، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك، فإنه قد بلغنا أنك تجهزت وتكلفت قدر ذلك، فكرهنا أن تغرم، فخذها وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة.
قال: فأخذ زائدة المال، وأخرج معه الخيل، وتلقاه بالمفاوز، وعرض عليه المال، وأمره بالانصراف، فقال له: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره فدعا زائدة بالخيل وقد أكمنها في جانب، فلما رآها قد أقبلت قال: هذا الآن أعذر لي وأجمل بي، هات المال، فقال له زائدة: أما إنه لم يبعث به إليك إلا لما بينك وبينه، فدفعه إليه فأخذه، ثم مضى راجعا نحو البصرة، فاجتمع بها هو وابن مطيع في إمارة الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم أن المختار أخبر أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه به يبدأ، فخشي أن يأتيه أهل الشام من قبل المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداراه وكايده، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، والمختار لابن الزبير مكايد موادع، فكتب المختار إلى ابن الزبير:
(6/72)
أما بعد، فقد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشا، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك.
فكتب إليه عبد الله بن الزبير:
أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتني بيعتك صدقت مقالتك، وكففت جنودي عن بلادك، وعجل علي بتسريح الجيش الذي أنت باعثه، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند ابن مروان فليقاتلوهم.
والسلام.
فدعا المختار شرحبيل بن ورس من همدان، فسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب الا سبعمائة رجل، فقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري، وهو يريد إذا دخلوا المدينة أن يبعث عليهم أميرا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكة حتى يحاصر ابن الزبير ويقاتله بمكة، فخرج الآخر يسير قبل المدينة، وخشي ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده، فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير: إن رأيت القوم في طاعتي فاقبل منهم، وإلا فكايدهم حتى تهلكهم ففعلوا، وأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد عبى ابن ورس أصحابه، فجعل على ميمنته سلمان ابن حمير الثوري من همدان، وعلى ميسرته عياش بن جعدة الجد لي، وكانت خيله كلها في الميمنة والميسرة، فدنا فسلم عليه، ونزل هو يمشي في الرجالة، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون على غير تعبئة، فيجد ابن ورس على الماء قد عبى اصحابه تعبئة القتال، فدنا منهم فسلم عليهم، ثم قال:
اخل معى هاهنا، فخلا به، فقال له: رحمك الله! ألست في طاعة ابن الزبير! فقال له ابن ورس: بلى، قال: فسر بنا إلى عدوه هذا الذي بوادي القرى، فإن ابن الزبير حدثني أنه إنما أشخصكم صاحبكم إليهم، قال ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، إنما أمرت أن أسير حتى آتي المدينة، فإذا نزلتها رأيت رأيي قال له عباس بن سهل: فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد
(6/73)
أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدونا الذين بوادي القرى، فقال له ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، وما أنا بمتبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره فلما رأى عباس بن سهل لجاجته عرف خلافه، فكره أن يعلمه أنه قد فطن له، فقال: فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك، فأما أنا فإني سائر إلى وادي القرى ثم جاء عباس بن سهل فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزائر كانت معه، فأهداها له، وبعث إليه بدقيق وغنم مسلخة- وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعا- فبعث عباس بن سهل إلى كل عشرة منهم شاة، فذبحوها، واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وترك القوم تعبيتهم، وأمن بعضهم بعضا، فلما رأى عباس بن سهل ما هم فيه من الشغل جمع من أصحابه نحوا من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رآهم ابن ورس مقبلين إليه نادى في أصحابه، فلم يتواف إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس بن سهل وهو يقول: يا شرطة الله، إلي إلي! قاتلوا المحلين، أولياء الشيطان الرجيم، فإنكم على الحق والهدى، قد غدروا وفجروا.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباسا انتهى إليهم، وهو يقول:
أنا ابن سهل فارس غير وكل ... أروع مقدام إذا الكبش نكل
وأعتلي رأس الطرماح البطل ... بالسيف يوم الروع حتى ينخزل
قال: فو الله ما اقتتلنا إلا شيئا ليس بشيء حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس بن سهل راية أمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلا نحوا من ثلاثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حمير الهمداني وعياش بن جعدة الجدلي، فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلا نحوا من مائتي رجل، كره ناس من الناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلوا سبيلهم، فرجعوا، فمات أكثرهم في الطريق، فلما
(6/74)
بلغ المختار أمرهم، ورجع من رجع منهم، قام خطيبا فقال: ألا إن الفجار الأشرار، قتلوا الأبرار الأخيار إلا إنه كان أمرا مأتيا، وقضاء مقضيا وكتب المختار إلى ابن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثعمي:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني كنت بعثت إليك جندا ليذلوا لك الأعداء، وليحوزوا لك البلاد، فساروا إليك حتى إذا أظلوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغروهم بعهد الله، فلما اطمأنوا إليهم، ووثقوا بذلك منهم، وثبوا عليهم فقتلوهم، فإن رأيت أن أبعث إلى أهل المدينة من قبلي جيشا كثيفا، وتبعث إليهم من قبلك رسلا، حتى يعلم أهل المدينة أني في طاعتك، وإنما بعثت الجند إليهم عن أمرك، فافعل، فإنك ستجد عظمهم بحقكم أعرف، وبكم أهل البيت اراف لهم بآل الزبير الظلمة الملحدين، والسلام عليك.
فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد، فإن كتابك لما بلغني قرأته، وفهمت تعظيمك لحقي، وما تنوي به من سروري وإن أحب الأمور كلها إلي ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم انى لو اردت لوجدت الناس إلي سراعا، والأعوان لي كثيرا، ولكني أعتزلهم، وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين.
فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفية فودعه وَسَلَّمَ عليه، وأعطاه الكتاب وقال له: قل للمختار فليتق الله، وليكفف عن الدماء، قال:
فقلت له: أصلحك الله! او لم تكتب بهذا اليه! قال له ابن الحنفية:
قد أمرته بطاعة الله، وطاعة الله تجمع الخير كله، وتنهى عن الشر كله فلما قدم كتابه على المختار أظهر للناس أني قد أمرت بأمر يجمع البر واليسر، ويضرح الكفر والغدر
. ذكر الخبر عن قدوم الخشبيه مكة وموافاتهم الحج
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قدمت الخشبية مكة، ووافوا الحج وأميرهم أبو عبد الله الجدلي.
ذكر الخبر عن سبب قدومهم مكة:
وكان السبب في ذلك- فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف وعلي بن مُحَمَّد،
(6/75)
عن مسلمه ابن محارب- أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلا من وجوه أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهدا إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولا يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما توعدهم به ابن الزبير فوجه ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه، وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار، ويسألهم الا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته فقدموا على المختار، فدفعوا إليه الكتاب فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم وقد تركوا محظورا عليهم كما يحظر على الغنم ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزرا، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل.
ووجه أبا عبد الله الجدلي في سبعين راكبا من أهل القوه، ووجه ظبيان ابن عماره أخا بنى تميم ومعه أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى مُحَمَّد بن علي مع الطفيل بن عامر ومُحَمَّد بن قيس بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم في أثر بعض، وجاء أبو عبد الله حتى نزل ذات عرق في سبعين راكبا، ثم لحقه عمير بن طارق في اربعين راكبا، ويونس ابن عمران في أربعين راكبا، فتموا خمسين ومائة، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام، ومعهم الكافر كوبات، وهم ينادون: يا لثأرات الحسين! حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد
(6/76)
بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية، فقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم:
إني لا أستحل القتال في حرم الله فقال ابن الزبير: أتحسبون أني مخل سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا! فقال أبو عبد الله الجدلي: أي ورب الركن والمقام، ورب الحل والحرام، لتخلين سبيله أو لنجالدنك بأسيافنا جلادا يرتاب منه المبطلون فقال ابن الزبير: والله ما هؤلاء إلا أكلة رأس، والله لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتى تقطف رءوسهم، فقال له قيس بن مالك: أما والله إني لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة، ثم قدم أبو المعتمر في مائة، وهانئ بن قيس في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين، ومعه مال حتى دخلوا المسجد، فكبروا: يا لثأرات الحسين! فلما رآهم ابن الزبير خافهم، فخرج مُحَمَّد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبون ابن الزبير، ويستأذنون ابن الحنفية فيه، فيأبى عليهم، فاجتمع مع محمد ابن علي في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال
. ذكر الخبر عن حصار بنى تميم بخراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بني تميم بسبب قتل من قتل منهم ابنه مُحَمَّدا.
قال علي بن مُحَمَّد: حدثنا الحسن بن رشيد الجوزجاني عن الطفيل ابن مرداس العمي، قال: لما تفرقت بنو تميم بخراسان أيام ابن خازم، أتى قصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين، فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفز المزني، ومعه شعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري وزهير بن ذؤيب العدوي، وجيهان بن مشجعة الضبي، والحجاج بن ناشب العدوي، ورقبة بن الحر في فرسان بني تميم، قال: فأتاهم ابن خازم، فحصرهم وخندق خندقا حصينا قال: وكانوا يخرجون إليه
(6/77)
فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر قال: فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم عثمان بن بشر بن المحتفز: انصرفوا اليوم عن ابن خازم، فلا أظن لكم به طاقة، فقال زهير بن ذؤيب العدوي: امرأته طالق إن رجع حتى ينقض صفوفهم- وإلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطم أولهم على آخرهم، واستداروا وكر راجعا، واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به:
لا ينزل إليه أحد، حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدر فيه، فخرج فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع، قال: فقال ابن خازم لأصحابه:
إذا طاعنتم زهيرا فاجعلوا في رماحكم كلاليب فأعلقوها في أداته إن قدرتم عليه، فخرج إليهم يوما وفي رماحهم كلاليب قد هيئوها له، فطاعنوه، فأعلقوا في درعه أربعة أرماح، فالتفت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، فخلوا رماحهم، فجاء يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر، قال: فأرسل ابن خازم غزوان بن جزء العدوي إلى زهير فقال:
قل له: أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف، وجعلت لك باسار طعمة تناصحني، فقال زهير لغزوان: ويحك! كيف اناصح قوما قتلوا الاشعث ابن ذؤيب! فأسقط بها غزوان عند موسى بن عبد الله بن خازم.
قال: فلما طال عليهم الحصار أرسلوا إلى ابن خازم أن خلنا نخرج فنتفرق، فقال: لا إلا أن تنزلوا على حكمي، قالوا: فإنا ننزل على حكمك، فقال لهم زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت أنفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا فإما أن تموتوا جميعا وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم
(6/78)
شدة صادقة ليفرجن لكم عن مثل طريق المربد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم قال: فأبوا عليه، فقال: أما إني سأريكم، ثم خرج هو ورقبة بن الحر ومع رقبة غلام له تركي وشعبة بن ظهير قال:
فحملوا على القوم حملة منكرة، فأفرجوا لهم، فمضوا، فأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر فقال لأصحابه: قد رأيتم فأطيعوني، ومضى رقبة وغلامه وشعبة، قالوا: إن فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة، قال: أبعدكم الله! أتخلون عن أصحابكم! والله لا أكون أجزعكم عند الموت قال: ففتحوا القصر ونزلوا، فأرسل فقيدهم، ثم حملوا إليه رجلا رجلا، فأراد أن يمن عليهم، فأبى ابنه موسى، وقال: والله لئن عفوت عنهم لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري، فقال له عبد الله: أما والله إني لأعلم أن الغي فيما تأمرني به، ثم قتلهم جميعا إلا ثلاثة، قال: أحدهم الحجاج بن ناشب العدوي- وكان رمى ابن خازم وهو محاصرهم فكسر ضرسه، فحلف لئن ظفر به ليقتلنه أو ليقطعن يده، وكان حدثا، فكلمه فيه رجال من بني تميم كانوا معتزلين، من عمرو بن حنظلة، فقال رجل منهم: ابن عمي وهو غلام حدث جاهل، هبه لي، قال: فوهبه له، وقال: النجاء! لا أرينك.
قال: وجيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على ابنه مُحَمَّد يوم قتل، فقال ابن خازم: خلوا عن هذا البغل الدارج، ورجل من بني سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر قال:
وجاءوا بزهير بن ذؤيب فأرادوا حمله وهو مقيد، فأبى وأقبل يحجل حتى جلس بين يديه، فقام له ابن خازم: كيف شكرك ان اطلقتك وجعلت لك باسار طعمة؟ قال: لو لم تصنع بي إلا حقن دمي لشكرتك، فقام ابنه موسى فقال: تقتل الضبع وتترك الذيخ! تقتل اللبؤة وتترك الليث! قال: ويحك! نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين! من لنساء العرب! قال: والله لو شركت في دم أخي أنت لقتلتك، فقام رجل من بني
(6/79)
سليم إلى ابن خازم، فقال: أذكرك الله في زهير! فقال له موسى: اتخذه فحلا لبناتك، فغضب ابن خازم، فأمر بقتله، فقال له زهير: إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقتلني على حدة، ولا تخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله أن لو فعلوا لذعروا بنيك هذا، وشغلوه بنفسه عن طلب الثأر بأخيه فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالا.
فأمر به فنحي ناحية فقتل.
قال مسلمة بن محارب: فكان الأحنف بن قيس إذا ذكرهم قال:
قبح الله ابن خازم! قتل رجالا من بني تميم بابنه، صبي وغد أحمق لا يساوي علقا، ولو قتل منهم رجلا به لكان وفى.
قال: وزعمت بنو عدي أنهم لما أرادوا حمل زهير بن ذؤيب أبى واعتمد على رمحه وجمع رجليه فوثب الخندق، فلما بلغ الحريش بن هلال قتلهم قال:
أعاذل إني لم ألم في قتالهم ... وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما
أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجال وحتى لم أجد متقدما
أعاذل أفناني السلاح ومن يطل ... مقارعة الأبطال يرجع مكلما
أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ... دما لازما لي دون أن تسكبا الدما
أبعد زهير وابن بشر تتابعا ... وورد أرجي في خراسان مغنما
أعاذل كم من يوم حرب شهدته ... أكر إذا ما فارس السوء أحجما
يعني بقوله: أبعد زهير، زهير بن ذؤيب، وابن بشر، عثمان بن بشر المحتفز المازني، وورد بن الفلق العنبري، قتلوا يومئذ، وقتل سُلَيْمَان بن المحتفز أخو بشر.
قال أبو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد الله، وعلى البصره الحارث
(6/80)
ابن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكانت الكوفة بها المختار غالبا عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم.
شخوص ابراهيم بن الاشتر لحرب عبيد الله بن زياد
وفي هذه السنة شخص إبراهيم بن الأشتر متوجها الى عبيد الله ابن زياد لحربه، وذلك لثمان بقين من ذي الحجة.
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي أَبُو مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح- وكان قد أدرك ذلك- قال: حدثني فضيل بن خديج- وكان قد شهد ذلك- وغيرهما، قالوا: ما هو إلا أن فرغ المختار من أهل السبيع وأهل الكناسة، فما نزل إبراهيم بن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه له لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وأخرج المختار معه من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم: ممن قد شهد الحرب وجربها، وخرج معه قيس بن طهفة النهدي على ربع أهل المدينة، وأمر عبد الله بن حية الأسدي على ربع مذجج وأسد، وبعث الأسود بن جراد الكندي على ربع كندة وربيعة، وبعث حبيب بن منقذ الثوري من همدان على ربع تميم وهمدان، وخرج معه المختار يشيعه حتى إذا بلغ دير عبد الرحمن بن أم الحكم، إذا أصحاب المختار قد استقبلوه قد حملوا الكرسي على بغل أشهب كانوا يحملونه عليه، فوقفوا به على القنطرة، وصاحب امر الكرسي حوشب البرسمي، وهو يقول: يا رب عمرنا في طاعتك، وانصرنا على الأعداء، واذكرنا ولا تنسنا واسترنا، قال: وأصحابه يقولون: آمين آمين، قال فضيل: فأنا سمعت ابن نوف الهمداني يقول: قال المختار:
أما ورب المرسلات عرفا ... لنقتلن بعد صف صفا
وبعد ألف قاسطين ألفا.
قال: فلما انتهى إليهم المختار وابن الأشتر ازدحموا ازدحاما شديدا
(6/81)
على القنطرة، ومضى المختار مع إبراهيم إلى قناطر رأس الجالوت- وهي إلى جنب دير عبد الرحمن- فإذا أصحاب الكرسي قد وقفوا على قناطر رأس الجالوت يستنصرون، فلما صار المختار بين قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت وقف، وذلك حين أراد أن ينصرف، فقال لابن الأشتر: خذ عني ثلاثا: خف الله في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم، وان لقيتهم ليلا فاستطعت الا تصبح حتى تناجزهم، وإن لقيتهم نهارا فلا تنتظر بهم الليل حتى تحاكمهم إلى الله، ثم قال: هل حفظت ما أوصيتك به؟ قال: نعم، قال: صحبك الله، ثم انصرف وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمام أعين، ومنه شخص بعسكره
. ذكر امر الكرسي الذى كان المختار يستنصر به!
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج قال: لما انصرف المختار مضى إبراهيم ومعه أصحابه حتى انتهى إلى أصحاب الكرسي وقد عكفوا حوله وهم رافعوا أيديهم إلى السماء يستنصرون، فقال إبراهيم: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء- سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم- فلما جاز القنطرة إبراهيم وأصحابه انصرف أصحاب الكرسي.
ذكر الخبر عن سبب كرسي المختار الذي يستنصر به هو وأصحابه:
قال أبو جعفر: وكان بدء سببه ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، قال: حدثني معبد بن خالد، قال: حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة، قال: أعدمت مره من الورق، فانى لكذلك إذا خرجت يوما فإذا زيات جار لي، له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر على بالي ان لو قلب للمختار في هذا! فرجعت فأرسلت إلى
(6/82)
الزيات: أرسل إلي بالكرسي، فأرسل إلي به، فأتيت المختار، فقلت: إني كنت أكتمك شيئا لم أستحل ذلك، فقد بدا لي أن أذكره لك، قال:
وما هو؟ قلت: كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه يرى أن فيه أثرة من علم، قال: سبحان الله! فأخرت هذا إلى اليوم! ابعث إليه، ابعث إليه، قال: وقد غسل وخرج عود نضار، وقد تشرب الزيت، فخرج يبص، فجيء به وقد غشي، فأمر لي باثني عشر ألفا، ثم دعا: الصلاة جامعة.
فحدثني معبد بن خالد الجدلي قال: انطلق بي وبإسماعيل بن طلحه ابن عبيد الله وشبث بن ربعي والناس يجرون إلى المسجد، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه، فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئيه فرفعوا أيديهم، وكبروا ثلاثا، فقام شبث بن ربعي وقال: يا معشر مضر، لا تكفرن، فنحوه فذبوه وصدوه واخرجوه، قال إسحاق: فو الله إني لأرجو أنها لشبث، ثم لم يلبث أن قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل باهل الشام باجميرا، فخرج بالكرسي على بغل وقد غشي، يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى تعاطوا الكفر، فقلت: إنا لله! وندمت على ما صنعت، فتكلم الناس في ذلك، فغيب، فلم أره بعد.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قال أبو صالح: فقال في ذلك أعشى همدان كما حدثني غير عبد الله:
شهدت عليكم انكم سبئيه ... وإني بكم يا شرطة الشرك عارف
وأقسم ما كرسيكم بسكينة ... وإن كان قد لفت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام حواليه ونهد وخارف
(6/83)
وإني امرؤ أحببت آل مُحَمَّد ... وتابعت وحيا ضمنته المصاحف
وتابعت عبد الله لما تتابعت ... عليه قريش: شمطها والغطارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق إن جئته ... أني بكرسيكم كافر
تنزو شبام حول أعواده ... وتحمل الوحي له شاكر
محمرة أعينهم حوله ... كأنهن الحمص الحادر
فأما أبو مخنف: فإنه ذكر عن بعض شيوخه قصة هذا الكرسي غير الذي ذكره عبد الله بن أحمد بالإسناد الذي حدثنا به، عن طفيل بن جعدة والذي ذكر من ذلك ما حدثنا به، عن هشام بن مُحَمَّد، عنه، قال: حدثنا هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام، أن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي- وكانت أم جعدة أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن ابى طالب ع لأبيه وأمه: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب، فقالوا: لا والله ما هو عندنا، وما ندري من أين نجيء به! قال: لا تكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به، قال: فظن القوم عند ذلك أنهم لا يأتون بكرسي، فيقولون: هو هذا إلا قبله منهم، فجاءوا بكرسي فقالوا: هو هذا فقبله، قال: فخرجت شبام وشاكر ورءوس أصحاب المختار وقد عصبوه بالحرير والديباج.
قال أبو مخنف، عن موسى بن عامر أبي الأشعر الجهني: إن الكرسي لما بلغ ابن الزبير أمره قال: أين بعض جنادبة الأزد عنه! قال أبو الأشعر: لما جيء بالكرسي كان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، وكان يأتي المختار أول ما جاء ويحف به، لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب ثم إنه بعد ذلك عتب عليه فاستحيا
(6/84)
منه، فدفعه إلى حوشب البرسمي، فكان صاحبه حتى هلك المختار قال: وكان أحد عمومة الأعشى رجلا يكنى أبا أمامة يأتي مجلس أصحابه فيقول: قد وضع لنا اليوم وحي ما سمع الناس بمثله، فيه نبأ ما يكون من شيء.
قال أبو مخنف: حدثنا موسى بن عامر أنه إنما كان يصنع ذلك لهم عبد الله بن نوف، ويقول: المختار أمرني به، ويتبرأ المختار منه
(6/85)
ثم دخلت
سنة سبع وستين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك مقتل عبيد الله بن زياد ومن كان معه من أهل الشام.
ذكر الخبر عن صفة مقتله:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: مضينا مع إبراهيم بن الأشتر ونحن نريد عبيد الله بن زياد ومن معه من اهل الشام، فخرجنا مسرعين لاننثنى، نريد أن نلقاه قبل أن يدخل أرض العراق قال: فسبقناه إلى تخوم أرض العراق سبقا بعيدا، ووغلنا في أرض الموصل، فتعجلنا إليه، وأسرعنا السير، فنلقاه بخازر إلى جنب قرية يقال لها باربيثا، بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، وقد كان ابن الأشتر جعل على مقدمته الطفيل بن لقيط، من وهبيل من النخع رجلا من قومه، وكان شجاعا بئيسا، فلما أن دنا من ابن زياد ضم حميد بن حريث إليه، وأخذ ابن الاشتر لا يسير الا على تعبئة، وضم أصحابه كلهم إليه بخيله ورجاله، فأخذ يسير بهم جميعا لا يفرقهم، إلا أنه يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع حتى نزل تلك القرية.
قال: وجاء عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبا منهم على شاطئ خازر.
وأرسل عمير بن الحباب السلمي إلى ابن الأشتر: إني معك، وأنا أريد الليلة لقاءك، فأرسل إليه ابن الأشتر: أن القني إذا شئت، وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم ابن بحدل فأتاه عمير ليلا فبايعه، وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، وقال ابن الأشتر: ما رأيك؟
أخندق علي وأتلوم يومين أو ثلاثة؟ قال عمير بن الحباب: لا تفعل، انا
(6/86)
لله! هل يريد القوم إلا هذه! إن طاولوك وماطلوك فهو خير لهم، هم كثير أضعافكم، وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعبا، فأتهم فإنهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة أنسوا بهم، واجترءوا عليهم، قال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح، صدقت، الرأي ما رأيت، أما إن صاحبي بهذا أوصاني، وبهذا الرأي أمرني قال عمير: فلا تعدون رأيه، فإن الشيخ قد ضرسته الحروب، وقاسى منها ما لم نقاس، أصبح فناهض الرجل.
ثم إن عميرا انصرف، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة الليل كله، ولم يدخل عينه غمض، حتى إذا كان في السحر الأول عبى أصحابه، وكتب كتائبه، وأمر أمراءه فبعث سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي على ميمنته، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأحوص.
وبعث عبد الرحمن بن عبد الله- وهو أخو إبراهيم بن الأشتر لأمه- على الخيل، وكانت خيله قليلة، فضمها إليه، وكانت في الميمنة والقلب، وجعل على رجالته الطفيل بن لقيط، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك قال: فلما انفجر الفجر صلى بهم الغداة بغلس، ثم خرج بهم فصفهم، ووضع أمراء الأرباع في مواضعهم، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجالة بالرجالة، وضم الخيل إليه، وعليها أخوه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطا من الناس، ونزل إبراهيم يمشي، وقال للناس:
ازحفوا، فزحف الناس معه على رسلهم رويدا رويدا حتى أشرف على تل عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرك منهم أحد بعد- فسرح عبد الله بن زهير السلولي وهو على فرس له يتأكل تأكلا، فقال:
قرب علي فرسك حتى تأتيني بخبر هؤلاء، فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء، فقال: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم فما كان له هجيرى إلا يا شيعة أبي تراب، يا شيعة المختار الكذاب! فقلت: ما بيننا وبينكم أجل من الشتم، فقال لي: يا عدو الله، الام
(6/87)
تدعوننا! أنتم تقاتلون مع غير إمام، فقلت له: بل يا لثأرات الحسين، ابن رسول الله! ادفعوا إلينا عبيد الله بن زياد، فإنه قتل ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنة حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلهم مع الحسين، فانا لا نراه الحسين ندا فنرضى أن يكون منه قودا، وإذا دفعتموه إلينا فقتلناه ببعض موالينا الذين قتلهم جعلنا بيننا وبينكم كتاب الله، أو أي صالح من المسلمين شئتم حكما، فقال لي: قد جربناكم مرة أخرى في مثل هذا- يعني الحكمين- فغدرتم، فقلت له: وما هو؟ فقال: قد جعلنا بيننا وبينكم حكمين فلم ترضوا بحكمهما، فقلت له: ما جئت بحجة، إنما كان صلحنا على أنهما إذا اجتمعا على رجل تبعنا حكمهما، ورضينا به وبايعناه، فلم يجتمعا على واحد، وتفرقا، فكلاهما لم يوفقه الله لخير ولم يسدده، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقلت له: من أنت؟ فقال:
عدس- لبغلته يزجرها- فقلت له: ما أنصفتني، هذا أول غدرك! قال: ودعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم مر بأصحاب الرايات كلها، فكلما مر على راية وقف عليها، ثم قال: يا أنصار الدين، وشيعة الحق، وشرطة الله، هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله، حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتي ابن عمه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة حتى قتله وقتل اهل بيته، فو الله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله ص الَّذِينَ أذهب اللَّه عَنْهُمُ الرجس وطهرهم تَطْهِيراً قد جاءكم الله به، وجاءه بكم، فو الله انى لأرجو الا يكون الله جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلا ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم، فقد علم الله أنكم خرجتم غضبا لأهل بيت نبيكم فسار فيما بين الميمنة والميسرة، وسار في الناس كلهم فرغبهم في الجهاد، وحرضهم على القتال، ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف القوم إليه، وقد جعل ابن زياد على
(6/88)
ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمى، وشر حبيل بن ذي الكلاع على الخيل وهو يمشي في الرجال، فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة، وعليها علي بن مالك الجشمي، فثبت له هو بنفسه فقتل، ثم أخذ رايته قرة بن علي، فقتل أيضا من في رجال من أهل الحفاظ قتلوا وانهزمت الميسرة، فأخذ راية علي بن مالك الجشمي عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخي حبشي بن جنادة صاحب رسول الله ص، فاستقبل أهل الميسرة حين انهزموا، فقال: إلي يا شرطة الله، فأقبل إليه جلهم، فقال: هذا أميركم يقاتل، سيروا بنا إليه، فأقبل حتى أتاه وإذا هو كاشف عن رأسه ينادي: يا شرطة الله، إلي أنا ابن الأشتر! إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئا من أعتب فثاب إليه أصحابه، وأرسل إلى صاحب الميمنة: احمل على ميسرتهم- وهو يرجو حينئذ ان ينهزم لهم عمير ابن الحباب كما زعم، فحمل عليهم صاحب الميمنة، وهو سفيان بن يزيد ابن المغفل، فثبت له عمير بن الحباب وقاتله قتالا شديدا، فلما رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: أموا هذا السواد الأعظم، فو الله لو قد فضضناه لا نجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير ذعرتها فطارت.
قال أبو مخنف: فحدثني إبراهيم بن عبد الرحمن الأنصاري، عن ورقاء بن عازب، قال: مشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم أطعنا بالرماح قليلا، ثم صرنا إلى السيوف والعمد، فاضطر بنا بها مليا من النهار، فو الله ما شبهت ما سمعت بيننا وبينهم من وقع الحديد على الحديد إلا مياجن قصاري دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط قال: فكان ذلك كذلك، ثم إن الله هزمهم، ومنحنا أكتافهم.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أبي صادق أن إبراهيم بن الأشتر كان يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم، فيقول له: إنه- جعلت فداك- ليس لي متقدم، فيقول: بلى، فإن أصحابك
(6/89)
يقاتلون، وإن هؤلاء لا يهربون إن شاء الله، فإذا تقدم صاحب رايته برايته شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلا إلا صرعه وكرد إبراهيم الرجال من بين يديه كأنهم الحملان، وإذا حمل برايته شد أصحابه شدة رجل واحد.
قال أبو مخنف: حدثني المشرقي أنه كان مع عبيد الله بن زياد يومئذ حديدة لا تليق شيئا مرت به، وأنه لما هزم أصحابه حمل عيينة ابن أسماء أخته هند بنت أسماء- وكانت امرأة عبيد الله بن زياد- فذهب بها وأخذ يرتجز ويقول:
إن تصرمي حبالنا فربما أرديت في الهيجا الكمي المعلما قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن إبراهيم لما شد على ابن زياد وأصحابه انهزموا بعد قتال شديد وقتلى كثيرة بين الفريقين، وإن عمير بن الحباب لما رأى أصحاب إبراهيم قد هزموا أصحاب عبيد الله بعث إليه: أجيئك الان؟ فقال: لا تأتيني حتى تسكن فورة شرطة الله، فإني أخاف عليك عاد يتهم.
وقال ابن الأشتر: قتلت رجلا وجدت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، تحت راية منفردة، على شاطئ نهر خازر فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلا، ضربه فقده بنصفين، فذهبت رجلاه في المشرق، ويداه في المغرب وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، ونادى التغلبي: اقتلوني وابن الزانية، فقتل ابن نمير.
وحدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله بن المبارك، قال: حدثني الحسن بن كثير، قال: كان شريك بن جدير التغلبى مع على ع، أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علي لحق ببيت المقدس، فكان به، فلما جاءه
(6/90)
قتل الحسين، قال: أعاهد الله أن قدرت على كذا وكذا- يطلب بدم الحسين- لأقتلن ابن مرجانة أو لأموتن دونه فلما بلغه أن المختار خرج يطلب بدم الحسين أقبل إليه قال: فكان وجهه مع إبراهيم بن الأشتر، وجعل على خيل ربيعة، فقال لأصحابه: إني عاهدت الله على كذا وكذا، فبايعه ثلاثمائة على الموت، فلما التقوا حمل فجعل يهتكها صفا صفا مع أصحابه حتى وصلوا إليه، وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد والسيوف، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان ليس بينهما احد، التغلبى وعبيد الله ابن زياد، قال: وهو الذي يقول:
كل عيش قد أراه قذرا ... غير ركز الرمح في طل الفرس
قال هشام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قال: قتل شرحبيل بن ذي الكلاع، فادعى قتله ثلاثة: سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد الله بن زهير السلمي قال:
ولما هزم أصحاب عبيد الله تبعهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم فيه من كل شيء، وبلغ المختار وهو يقول لأصحابه: يأتيكم الفتح أحد اليومين إن شاء الله من قبل ابراهيم ابن الأشتر وأصحابه، قد هزموا أصحاب عبيد الله بن مرجانة قال: فخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، ونزل ساباط.
قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن الشعبي، قال: كنت أنا وأبي ممن خرج معه، قال: فلما جزنا ساباط قال للناس: أبشروا فإن شرطة الله قد حسوهم بالسيوف يوما إلى الليل بنصيبين أو قريبا من نصيبين، ودوين منازلهم، إلا أن جلهم محصور بنصيبين قال: ودخلنا المدائن، واجتمعنا اليه، فصعد المنبر، فو الله إنه ليخطبنا ويأمرنا بالجد وحسن
(6/91)
الرأي والاجتهاد والثبات على الطاعة، والطلب بدماء اهل البيت ع، إذ جاءته البشرى تترى يتبع بعضها بعضا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره، وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار: يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون! قالوا: بلى والله لقد قلت ذلك، قال:
فيقول لي رجل من بعض جيراننا من الهمدانيين: اتؤمن الآن يا شعبي؟
قال: قلت بأي شيء أومن؟ أومن بأن المختار يعلم الغيب! لا أومن بذلك ابدا قال: او لم يقل لنا: إنهم قد هزموا! فقلت له: إنما زعم لنا أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم، فقلت له: من هذا الهمداني الذي يقول لك هذا؟ فقال: رجل لعمري كان شجاعا- قتل مع المختار بعد ذلك يوم حروراء- يقال له: سلمان بن حمير من الثوريين من همدان، قال: وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر من عسكره إلى الموصل، وبعث عماله عليها، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا، وما والاها من أرض الجزيرة، وخرج أهل الكوفة الذين كان المختار قاتلهم فهزمهم، فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة وكان فيمن قدم على مصعب شبث بن ربعي، فقال سراقه ابن مرداس البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر وأصحابه في قتل عبيد الله ابن زياد:
أتاكم غلام من عرانين مذحج ... جري على الأعداء غير نكول
فيا بن زياد بؤ بأعظم مالك ... وذق حد ماضي الشفرتين صقيل
ضربناك بالعضب الحسام بحدة ... إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل
جزى الله خيرا شرطة الله إنهم ... شفوا من عبيد الله أمس غليلى
(6/92)
ذكر الخبر عن عزل القباع عن البصره
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير القباع عن البصرة، وبعث عليها أخاه مصعب بن الزبير، فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي ابن مُحَمَّد، قال: حدثنا الشعبي، قال: حدثني وافد بن أبي ياسر، قال:
كان عمرو بن سرح مولى الزبير يأتينا فيحدثنا، قال: كنت والله في الرهط الذين قدموا مع المصعب بن الزبير من مكة إلى البصرة، قال: فقدم متلثما حتى أناخ على باب المسجد، ثم دخل فصعد المنبر، فقال الناس:
أمير أمير قال: وجاء الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ- وهو أميرها قبله- فسفر المصعب فعرفوه، وقالوا: مصعب بن الزبير! فقال: للحارث:
أظهر أظهر، فصعد حتى جلس تحته من المنبر درجة، قال: ثم قام المصعب فحمد الله واثنى عليه قال: فو الله ما أكثر الكلام، ثم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم: «طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى» إلى قوله: «إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» - وأشار بيده نحو الشام- «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ» - وأشار بيده نحو الحجاز- «وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» - وأشار بيده نحو الشام.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، عن عوانة، قال:
لما قدم مصعب البصرة خطبهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار
. ذكر خبر قتل مصعب المختار بن ابى عبيد
وفي هذه السنة سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله.
ذكر الخبر عن سبب مسير مصعب إليه والخبر عن مقتل المختار:
(6/93)
قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، حدثني حبيب بن بديل، قال:
لما قدم شبث على مصعب بن الزبير البصرة وتحته بغلته له قد قطع ذنبها، وقطع طرف أذنها وشق قباءه، وهو ينادي: يا غوثاه يا غوثاه! فأتى مصعب، فقيل له: إن بالباب رجلا ينادي: يا غوثاه يا غوثاه! مشقوق القباء، من صفته كذا وكذا، فقال لهم: نعم، هذا شبث بن ربعي لم يكن ليفعل هذا غيره، فأدخلوه، فأدخل عليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة فدخلوا عليه، فأخبروه بما اجتمعوا له، وبما أصيبوا به ووثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم، والمسير إلى المختار معهم وقدم عليهم مُحَمَّد بن الأشعث بن قيس- ولم يكن شهد وقعة الكوفة، كان في قصر له مما يلي القادسية بطيزناباذ- فلما بلغه هزيمه الناس تهيأ الشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرح إليه عبد الله بن قراد الخثعمي في مائة، فلما ساروا إليه، وبلغه أن قد دنوا منه، خرج في البرية نحو المصعب حتى لحق به، فلما قدم على المصعب استحثه بالخروج، وأدناه مصعب وأكرمه لشرفه قال: وبعث المختار إلى دار مُحَمَّد بن الأشعث فهدمها قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف بن يزيد أن المصعب لما أراد المسير إلى الكوفة حين أكثر الناس عليه، قال لمُحَمَّد بن الأشعث: إني لا أسير حتى يأتيني المهلب بن أبي صفرة فكتب المصعب إلى المهلب- وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا لتشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة فأبطأ عليه المهلب وأصحابه، واعتل بشيء من الخراج، لكراهة الخروج، فأمر مصعب مُحَمَّد بن الأشعث في بعض ما يستحثه أن يأتي المهلب فيقبل به، وأعلمه أنه لا يشخص دون أن يأتي المهلب، فذهب مُحَمَّد بن الأشعث بكتاب المصعب إلى المهلب، فلما قرأه قال له: مثلك يا مُحَمَّد يأتي بريدا! أما وجد المصعب بريدا غيرك! قال مُحَمَّد: إني والله ما أنا ببريد أحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا فخرج المهلب،
(6/94)
وأقبل بجموع كثيرة وأموال عظيمة معه في جموع وهيئة ليس بها أحد من أهل البصرة ولما دخل المهلب البصرة أتى باب المصعب ليدخل عليه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلب يده فكسر أنفه، فدخل إلى المصعب وأنفه يسيل دما، فقال له: مالك؟ فقال: ضربني رجل ما أعرفه، ودخل المهلب فلما رآه الحاجب قال: هو ذا، قال له المصعب: عد إلى مكانك، وأمر المصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: ائت الكوفة فأخرج إلي جميع من قدرت عليه أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سرا، وخذل أصحاب المختار، فانسل من عنده حتى جلس في بيته مستترا لا يظهر، وخرج المصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدمته، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلب بن أبي صفرة على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل، ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس، والأحنف بن قيس على خمس تميم وزياد بن عمرو الأزدي على خمس الأزد، وقيس بن الهيثم على خمس أهل العالية، وبلغ ذلك المختار، فقام في أَصْحَابه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل الكوفة، يا أهل الدين، وأعوان الحق، وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول، وآل الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ليمصح الحق، وينتعش الباطل، ويقتل أولياء الله، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفري على الله واللعن لأهل بيت نبيه انتدبوا مع أحمر بن شميط فإنكم لو قد لقيتموهم لقد قتلتموهم إن شاء الله قتل عاد وإرم.
فخرج أحمر بن شميط، فعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمر بن شميط، كما كانوا مع ابن الأشتر، فإنهم إنما فارقوا ابن الأشتر، لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار، فانصرفوا عنه، وبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشا كثيفا،
(6/95)
فخرج ابن شميط، فبعث على مقدمته ابن كامل الشاكري، وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار، وجاء المصعب حتى عسكر منه قريبا.
ثم إن كل واحد منهما عبى جنده، ثم تزاحفا، فجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى ميسرته عبد الله ابن وهب بن نضلة الجشمي، وعلى الخيل رزين عبد السلولي، وعلى الرجالة كثير بن إسماعيل الكندي- وكان يوم خازر مع ابن الأشتر- وجعل كيسان أبا عمرة- وكان مولى لعرينة- على الموالي، فجاء عبد الله بن وهب بن أنس الجشمي إلى ابن شميط وقد جعله على ميسرته، فقال له: إن الموالي والعبيد آل خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالا كثيرا على الخيل، وأنت تمشي، فمرهم فلينزلوا معك، فإن لهم بك أسوة، فإني اتخوف ان طوردوا ساعه، وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على متونها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدا، وإنما كان هذا منه غشا للموالي والعبيد، لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالا لا ينجو منهم أحد، ولم يتهمه ابن شميط، وظن أنه إنما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا، فقال: يا معشر الموالي، انزلوا معي فقاتلوا، فنزلوا معه، ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته، وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عباد 2؟ 72 ابن الحصين على الخيل، فجاء عباد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال:
إنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة امير المؤمنين عبد الله ابن الزبير، وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أن أحدا ينبغي له أن يتولى عليهم برئنا منه وجاهدناه.
فانصرف عباد إلى المصعب فأخبره، فقال له: ارجع فاحمل عليهم، فرجع فحمل على ابن شميط وأصحابه فلم يزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موفقه وحمل المهلب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، ثم انصرف عنه المهلب، فقام مكانه، فوقفوا ساعة
(6/96)
ثم قال المهلب لأصحابه: كروا كرة صادقة، فإن القوم قد أطمعوكم، وذلك بجولتهم التي جالوا، فحمل عليهم حملة منكرة فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان، فأخذ المهلب يسمع شعار القوم:
أنا الغلام الشاكري، انا الغلام الشبامي، أنا الغلام الثوري، فما كان إلا ساعة حتى هزموا، وحمل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الله ابن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف، وحمل الناس جميعا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخثعم، الصبر الصبر! فناداهم المهلب: الفرار الفرار! اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضل الله سعيكم ثم نظر إلى أصحابه فقال: والله ما أرى استحرار القتل اليوم إلا في قومي ومالت الخيل على رجالة ابن شميط، فافترقت فانهزمت وأخذت الصحراء، فبعث المصعب عباد بن الحصين على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه.
وسرح مُحَمَّد بن الاشعث في خيل عظيمه أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال: دونكم ثأركم! فكانوا حيث انهزموا أشد عليهم من أهل البصرة، لا يدركون منهزما إلا قتلوه، ولا يأخذون أسيرا فيعفون عنه قال: فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل، وأما رجالتهم فأبيدوا إلا قليلا.
قال أبو مخنف: حدثني ابن عياش المنتوف، عن معاوية بن قرة المزني، قال: انتهيت إلى رجل منهم، فأدخلت سنان الرمح في عينه، فأخذت أخضخض عينه بسنان رمحي، فقلت له: وفعلت به هذا؟ قال:
نعم، إنهم كانوا أحل عندنا دماء من الترك والديلم، وكان معاوية بن قرة قاضيا لأهل البصره، ففي ذلك يقول الأعشى:
الأهل اتَاكَ والأنباء تنمى ... بما لاقت بجيلة بالمذار
اتيح لهم بها ضرب طلحف ... وطعن صائب وجه النهار
كأن سحابة صعقت عليهم ... فعمتهم هنالك بالدمار
(6/97)
فبشر شيعة المختار إما ... مررت على الكويفة بالصغار
أقر العين صرعاهم وفل ... لهم جم يقتل بالصحاري
وما إن سرني إهلاك قومي ... وإن كانوا وجدك في خيار
ولكني سررت بما يلاقي ... أبو إسحاق من خزي وعار
وأقبل المصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تك واسط هذه بنيت حينئذ بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشاذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى نهر يقال له قوسان، ثم أخرجهم من ذلك النهر إلى الفرات.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، إن أهل البصرة كانوا يخرجون فيجرون سفنهم ويقولون:
عودنا المصعب جر القلس ... والزنبريات الطوال القعس
قال: فلما بلغ من مع المختار من تلك الأعاجم ما لقي إخوانهم مع ابن شميط قالوا بالفارسية: أين بار دروغ كفت، يقولون: هذه المرة كذب.
قال أبو مخنف: وحدثني هشام بن عبد الرحمن الثقفي، عن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمير الثقفي، قال: والله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم وما لقوا، قال: فأصغى إلي، فقال: قتلت والله العبيد قتلة ما سمعت بمثلها قط ثم قال: وقتل ابن شميط وابن كامل وفلان وفلان، فسمى رجالا من العرب أصيبوا، كان الرجل منهم في الحرب خيرا من فئام من الناس قال: فقلت له: فهذه والله مصيبة، فقال لي: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من مثل ميتة ابن
(6/98)
شميط، حبذا مصارع الكرام! قال: فعلمت أن الرجل قد حدث نفسه إن لم يصب حاجته أن يقاتل حتى يموت.
ولما بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البحر، وعلى الظهر، سار حتى نزل بهم السيلحين، ونظر إلى مجتمع الأنهار نهر الحيرة ونهر السيلحين ونهر القادسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه وصمدوا صمد الكوفة، فلما رأى ذلك المختار أقبل إليهم حتى نزل حر وراء، وحال بينهم وبين الكوفه، قد كان حصن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدة الحصار، وجاء المصعب يسير إليه وهو بحروراء وقد استعمل على الكوفة عبد الله ابن شداد، وخرج إليه المختار وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وجعل على ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته يومئذ عبد الله بن قراد الخثعمي، وبعث على الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عمرو النهدي، وجعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عُمَر بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر التيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين الحبطى، على الرجال مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكبا قوسا له.
قال: وجعل على أهل الكوفة مُحَمَّد بن الأشعث، فجاء مُحَمَّد حتى نزل بين المصعب والمختار مغربا ميامنا قال: فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل خمس من أخماس أهل البصرة رجلا من اصحابه، فبعث الى بكر ابن وائل سعيد بن منقذ صاحب ميسرته، وعليهم مالك بن مسمع البكري، وبعث إلى عبد القيس وعليهم مالك بن المنذر عبد الرحمن بن
(6/99)
شريح الشبامي، وكان على بيت ماله، وبعث الى اهل العاليه وعليهم قيس ابن الهيثم السلمي عبد الله بن جعدة القرشي، ثم المخزومي، وبعث إلى الأزد وعليهم زياد بن عمرو العتكي مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي، وبعث إلى بني تميم وعليهم الأحنف بن قيس سليم بن يزيد الكندي، وكان صاحب ميمنته، وبعث إلى مُحَمَّد بن الأشعث السائب بن مالك الأشعري، ووقف في بقية أصحابه، وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، ويحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة وعليهم عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلتهم ربيعة قتالا شديدا، وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل واحد فانصرف حمل الآخر، وربما حملا جميعا، قال: فبعث المصعب إلى المهلب: ما تنتظر أن تحمل على من بإزائك! ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان منذ اليوم! احمل بأصحابك، فقال: أي لعمري ما كنت لأجزر الأزد وتميما خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي قال: وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن احمل على من بإزائك، فحمل على أهل العالية فكشفهم حتى انتهوا إلى المصعب، فجثا المصعب على ركبتيه- ولم يكن فرارا- فرمى بأسهمه.
ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعة، ثم تحاجزوا قال: وبعث المصعب إلى المهلب وهو في خمسين جامين كثيري العدد والفرسان: لا أبا لك! ما تنتظر أن تحمل على القوم! فمكث غير بعيد، ثم إنه قال لأصحابه:
قد قاتل الناس منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وقد بقي ما عليكم، احملوا واستعينوا بالله واصبروا، فحمل على من يليه حملة منكرة، فحطموا أصحاب المختار حطمة منكرة، فكشفوهم وقال عبد الله ابن عمرو النهدي- وكان من أصحاب صفين: اللهم إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفين، اللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء- يعني أصحاب المصعب- ثم جالد بسيفه حتى قتل، وأتى مالك بن عمرو أبو نمران النهدي وهو
(6/100)
على الرجاله بفرسه، وانقصف أصحاب المختار انقصافة شديدة كأنهم أجمة فيها حريق، فقال مالك حين ركب: ما اصنع بالركوب! والله لان اقتل هاهنا أحب إلي من أن أقتل في بيتي، أين أهل البصائر؟ أين أهل الصبر؟ فثاب إليه نحو من خمسين رجلا، وذلك عند المساء، فكر على أصحاب مُحَمَّد بن الأشعث، فقتل مُحَمَّد بن الأشعث إلى جانبه هو وعامة أصحابه، فبعض الناس يقول: هو قتل مُحَمَّد بن الأشعث، ووجد أبو نمران قتيلا إلى جانبه- وكندة تزعم أن عبد الملك بن أشاءة الكندي هو الذي قتله- فلما مر المختار في أصحابه على مُحَمَّد بن الأشعث قتيلا قال:
يا معشر الأنصار، كروا على الثعالب الرواغة، فحملوا عليهم، فقتل، خثعم تزعم أن عبد الله بن قراد هو الذي قتله قال أبو مخنف: وسمعت عوف بن عمرو الجشمي يزعم أن مولى لهم قتله، فادعى قتله أربعة نفر، كلهم يزعم أنه قتله، وانكشف أصحاب سعيد بن منقذ، فقاتل في عصابة من قومه نحو من سبعين رجلا فقتلوا، وقاتل سليم بن يزيد الكندي في تسعين رجلا من قومه، وغيرهم ضارب حتى قتل، وقاتل المختار على فم سكه شبث، ونزل وهو يريد الا يبرح، فقاتل عامة ليلته حتى انصرف عنه القوم، وقتل معه ليلتئذ رجال من أصحابه من أهل الحفاظ، منهم عاصم بن عبد الله الأزدي، وعياش بن خازم الهمداني، ثم الثوري، وأحمر بن هديج الهمداني ثم الفايشي.
قال أبو مخنف: حدثنا أبو الزبير أن همدان تنادوا ليلتئذ:
يا معشر همدان، سيفوهم فقاتلوهم أشد القتال، فلما أن تفرقوا عن المختار قال له أصحابه: أيها الأمير، قد ذهب القوم فانصرف إلى منزلك إلى القصر، فقال المختار: أما والله ما نزلت وأنا اريد ان آتى القصر، فاما إذا انصرفوا فاركبوا بنا على اسم الله، فجاء حتى دخل القصر فقال الأعشى في قتل مُحَمَّد بن الأشعث:
تأَوَّب عينك عوارها ... وعاد لنفسك تذكارها
(6/101)
واحدى لياليك راجعتها ... ارقت ولوم سمارها
وما ذاقت العين طعم الرقاد ... حتى تبلج إسفارها
وقام نعاة أبي قاسم ... فأسبل بالدمع تحدارها
فحق العيون على ابن الأشج ... الا يفتر تقطارها
وألا تزال تبكي له ... وتبتل بالدمع أشفارها
عليك مُحَمَّدُ لما ثويت ... تبكي البلاد وأشجارها
وما يذكرونك إلا بكوا ... إذا ذمة خانها جارها
وعارية من ليالي الشتاء ... لا يتمنح أيسارها
ولا ينبح الكلب فيها العقور ... إلا الهرير وتختارها
ولا ينفع الثوب فيها الفتى ... ولا ربة الخدر تخدارها
فأنت مُحَمَّدُ في مثلها ... مهين الجزائر نحارها
تظل جفانك موضوعة ... تسيل من الشحم أصبارها
وما في سقائك مستنطف ... إذا الشول روح أغبارها
فيا واهب الوصفاء الصباح ... ان شبرت تم إشبارها
ويا واهب الجرد مثل القداح ... قد يعجب الصف شوارها
ويا واهب البكرات الهجان ... عوذا تجاوب أبكارها
وكنت كدجلة إذ ترتمي ... فيقذف في البحر تيارها
وكنت جليدا وذا مرة ... إذا يبتغى منك إمرارها
وكنت إذا بلدة أصفقت ... وآذن بالحرب جبارها
بعثت عليها ذواكي العيون ... حتى تواصل أخبارها
بإذن من الله والخيل قد ... أعد لذلك مضمارها
وقد تطعم الخيل منك الوجيف ... حتى تنبذ أمهارها
(6/102)
وقد تعلم البازل العيسجور ... أنك بالخبت حسارها
فيا أسفي يوم لاقيتهم ... وخانت رجالك فرارها
واقبلت الخيل مهزومه ... عثارا تضرب أدبارها
بشط حروراء واستجمعت ... عليك الموالي وسحارها
فأخطرت نفسك من دونهم ... فحاز الرزيئة أخطارها
فلا تبعدن أبا قاسم ... فقد يبلغ النفس مقدارها
وأفنى الحوادث ساداتنا ... ومر الليالي وتكرارها
قال هشام: قال أبي: كان السائب أتى مع مصعب بن الزبير، فقتله ورقاء النخعى من وهبيل، فقال ورقاء:.
من مبلغ عني عبيدا بأنني ... علوت أخاه بالحسام المهند
فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ... صريع لدى الديرين غير موسد
وعمدا علوت الرأس منه بصارم ... فأثكلته سفيان بعد مُحَمَّد
قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي حصيره بن عبد الله، ان هندا بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال من الشيعة فيتحدث في بيتها وفي بيت ليلى بنت قمامة المزنية، وكان أخوها رفاعة ابن قمامة من شيعة علي، وكان مقتصدا، فكانت لا تحبه، فكان أبو عبد الله الجدلي ويزيد بن شراحيل قد أخبرا ابن الحنفية خبر هاتين المرأتين وغلوهما وخبر أبي الأحراس المرادي والبطين الليثي وأبي الحارث الكندي.
قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يحيى بن أبي عيسى، قال: فكان ابن الحنفية قد كتب مع يزيد بن شراحيل إلى الشيعة بالكوفة يحذرهم هؤلاء، فكتب إليهم:
من مُحَمَّد بن علي إلى من بالكوفة من شيعتنا أما بعد، فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسرا ولا تتخذوا من دون المؤمنين
(6/103)
بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين، وأكثروا الصلاة والصيام والدعاء فإنه ليس أحد من الخلق يملك لأحد ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، وكُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ،
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، * والله قائم على كل نفس بما كسبت، فاعملوا صالحا، وقدموا لأنفسكم حسنا، ولا تكونوا من الغافلين، والسلام عليكم.
قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله، أن عبد الله بن نوف خرج من بيت هند بنت المتكلفة حين خرج الناس إلى حروراء وهو يقول: يوم الأربعاء، ترفعت السماء، ونزل القضاء، بهزيمة الأعداء، فاخرجوا على اسم الله إلى حروراء فخرج، فلما التقى الناس للقتال ضرب على وجهه ضربة، ورجع الناس منهزمين، ولقيه عبد الله بن شريك النهدي، وقد سمع مقالته، فقال له: الم تزعم لنا يا بن نوف انا سنهزمهم! قال: او ما قرات في كتاب الله: «يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» ! قال: فلما أصبح المصعب أقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمر بالمهلب، فقال له المهلب: يا له فتحا ما أهنأه لو لم يكن مُحَمَّد بن الأشعث قتل! قال: صدقت، فرحم الله مُحَمَّدا ثم سار غير بعيد، ثم قال:
يا مهلب، قال: لبيك أيها الأمير، قال: هل علمت أن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل! قال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، قال:
المصعب: إما أنه كان ممن أحب أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحق بشيء مما نحن فيه منه، أتدري من قتله؟ قال: لا، قال:
إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه.
قال: ثم مضى حتى نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الاشعث فنزل الكناسة، وبعث عبد الرحمن ابن مخنف بن سليم إلى جبانة السبيع، وقد كان قال لعبد الرحمن بن مخنف:
ما كنت صنعت فيما كنت وكلتك به؟ قال: أصلحك الله! وجدت
(6/104)
الناس صنفين، أما من كان له فيك هوى فخرج إليك، وأما من كان يرى رأي المختار، فلم يكن ليدعه، ولا ليؤثر أحدا عليه، فلم أبرح بيتي حتى قدمت، قال: صدقت، وبعث عباد بن الحصين إلى جبانة كندة، فكل هؤلاء كان يقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة، وهم في قصر المختار، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة مراد، وبعث عبيد الله بن الحر إلى جبانة الصائديين.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج، قال: لقد رأيت عبيد الله ابن الحر، وإنه ليطارد أصحاب خيل المختار، يقاتلهم في جبانة الصائديين ولربما رأيت خيلهم تطرد خيله، وإنه لوراء خيله يحميها حتى ينتهي إلى دار عكرمة، ثم يكر راجعا هو وخيله، فيطردهم حتى يلحقهم بجبانة الصائديين، ولربما رأيت خيل عبيد الله قد أخذت السقاء والسقاءين فيضربون، وإنما كانوا يأتونهم بالماء إنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينارين لما أصابهم من الجهد وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه فقاتلوا قتالا ضعيفا، ولا نكاية لهم، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، ويصب عليهم الماء القذر.
واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء، قد التحفت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابه، فقال له المهلب- وكان مجربا: اجعل عليهم دروبا حتى تمنع من يأتيهم من أهليهم وأبنائهم، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه ليغير طعمه فيشربوا منه، فكان ذلك أيضا مما يروي أكثرهم ثم إن مصعبا أمر أصحابه فاقتربوا من القصر، فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة، وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد
(6/105)
بني مخزوم، وحتى يرمي أصحابه من أشرف عليهم من أصحاب المختار من القصر، وكان لا يلقى امرأة قريبا من القصر إلا قال لها: من أنت؟
ومن أين جئت؟ وما تريدين؟ فأخذ في يوم ثلاث نسوة للشباميين وشاكر أتين أزواجهن في القصر، فبعث بهن إلى مصعب، وإن الطعام لمعهن، فردهن مصعب ولم يعرض لهن، وبعث زحر بن قيس، فنزل عند الحدادين حيث تكرى الدواب، وبعث عبيد الله بن الحر فكان موقفه عند دار بلال، وبعث مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس فكان موقفه عند دار أبيه، وبعث حوشب بن يزيد فوقف عند زقاق البصريين عند فم سكة بني جذيمة بن مالك من بني أسد بن خزيمة، وجاء المهلب يسير حتى نزل چهار سوج خنيس، وجاء عبد الرحمن بن مخنف من قبل دار السقاية، وابتدر السوق أناس من شباب أهل الكوفة وأهل البصرة، أغمار ليس لهم علم بالحرب، فأخذوا يصيحون- وليس لهم امير:
يا بن دومه، يا بن دومة! فأشرف عليهم المختار فقال: أما والله لو أن الذي يعيرني بدومة كان من القريتين عظيما ما عيرني بها وبصر بهم وبتفرقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مائتي رجل، فكر عليهم، فشدخ نحوا من مائة، وهزمهم، فركب بعضهم بعضا، وأخذوا على دار فرات بن حيان العجلي ثم إن رجلا من بني ضبة من أهل البصرة يقال له يحيى بن ضمضم، كانت رجلاه تكادان تخطان الأرض إذا ركب من طوله، وكان أقتل شيء للرجال وأهيبه عندهم إذا رأوه، فأخذ يحمل على أصحاب المختار فلا يثبت له رجل صمد صمده، وبصر به المختار، فحمل عليه فضربه ضربة على جبهته فأطار جبهته وقحف رأسه، وخر ميتا ثم إن تلك الأمراء وتلك الرءوس أقبلوا من كل جانب، فلم تكن لأصحابه بهم طاقة، فدخلوا القصر، فكانوا فيه، فاشتد عليهم الحصار فقال لهم المختار: ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفا، انزلوا بنا فلنقاتل حتى نقتل كراما إن نحن قتلنا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم
(6/106)
أن ينصركم الله، فضعفوا وعجزوا، فقال لهم المختار: اما انا فو الله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب ما يريد المختار تدلى من القصر بحبل، فلحق بأناس من اخوانه، فاختبا عندهم ثم إن المختار أزمع بالخروج إلى القوم حين رأى من أصحابه الضعف، ورأى ما بأصحابه من الفشل، فأرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزاري، فأرسلت اليه بطيب كثير، فاغتسل ونحنط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فيهم السائب بن مالك الأشعري- وكان خليفته على الكوفة إذا خرج إلى المدائن- وكانت تحته عمرة بنت أبي موسى الأشعري، فولدت له غلاما، فسماه مُحَمَّدا، فكان مع أبيه في القصر، فلما قتل أبوه وأخذ من في القصر وجد صبيا فترك، ولما خرج المختار من القصر قال للسائب: ماذا ترى؟ قال: الرأي لك، فماذا ترى؟ قال: أنا أرى أم الله يرى! قال: الله يرى، قال: ويحك! أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر اهل بيت النبي ص إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية، فقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي! فقال المختار عند ذلك يتمثل بقول غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي:
ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ... عني الهموم بأمر ما له طبق
لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ... غنم الحياة وهول النفس والشفق
إما تسف على مجد ومكرمة ... أو أسوة لك فيمن تهلك الورق
فخرج في تسعة عشر رجلا فقال لهم: أتؤمنوني وأخرج إليكم؟ فقالوا:
لا، إلا على الحكم، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا، فضارب بسيفه حتى قتل، وقد كان قال لأصحابه حين أبوا أن يتابعوه على الخروج معه:
(6/107)
إذا أنا خرجت إليهم فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفا وذلا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين قد وترتموهم، فقال كل رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأري فيقتل، وبعضكم ينظر إلى مصارع بعض فيقولون: يا ليتنا أطعنا المختار وعملنا برأيه! ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر متم كراما، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا هذه الساعة أذل من على ظهر الأرض، فكان كما قال قال: وزعم الناس أن المختار قتل عند موضع الزياتين اليوم، قتله رجلان من بني حنيفة أخوان يدعى أحدهما طرفة والآخر طرافا، ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة ولما كان من الغد من قتل المختار قال بجير بن عبد الله المسلي: يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأي لو أطعتموه يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا بأسيافكم فقاتلوا حتى تموتوا كراما فعصوه وقالوا: لقد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك، فعصيناه، أفنحن نطيعك! فأمكن القوم من أنفسهم، ونزلوا على الحكم فبعث إليهم مصعب عباد بن الحصين الحبطي فكان هو يخرجهم مكتفين، وأوصى عبد الله بن شداد الجشمي إلى عباد بن الحصين، وطلب عبد الله ابن قراد عصا أو حديدة أو شيئا يقاتل به فلم يجده، وذلك أن الندامة أدركته بعد ما دخلوا عليه، فأخذوا سيفه، وأخرجوه مكتوفا، فمر به عبد الرحمن وهو يقول:
ما كنت أخشى أن أرى أسيرا ... إن الذين خالفوا الأميرا
قد رغموا وتبروا تتبيرا.
فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث: علي بذا، قدموه إلي أضرب عنقه، فقال له: أما إني على دين جدك الذي آمن ثم كفر، إن لم أكن ضربت أباك بسيفي حتى فاظ فنزل ثم قال: أدنوه مني، فأدنوه منه،
(6/108)
فقتله، فغضب عباد، فقال: قتلته ولم تؤمر بقتله! ومر بعبد الله بن شداد الجشمي وكان شريفا، فطلب عبد الرحمن إلى عباد أن يحبسه حتى يكلم فيه الأمير، فأتى مصعبا، فقال: إني أحب أن تدفع إلي عبد الله بن شداد فأقتله، فإنه من الثأر، فأمر له به، فلما جاءه أخذه فضرب عنقه، فكان عباد يقول: أما والله لو علمت أنك إنما تريد قتله لدفعته إلى غيرك فقتله، ولكني حسبت أنك تكلمه فيه فتخلي سبيله وأتي بابن عبد الله بن شداد، وإذا اسمه شداد، وهو رجل محتلم، وقد اطلى بنورة، فقال: اكشفوا عنه هل أدرك! فقالوا: لا، إنما هو غلام، فخلوا سبيله، وكان الأسود بن سعيد قد طلب الى مصعب يعرض على أخيه الأمان، فإن نزل تركه له، فأتاه فعرض عليه الأمان، فأبى أن ينزل، وقال: أموت مع أصحابي أحب إلي من حياة معكم، وكان يقال له قيس، فأخرج فقتل فيمن قتل، وقال بجير بن عبد الله المسلي- ويقال: كان مولى لهم حين أتي به مصعب ومعه منهم ناس كثير- فقال له المسلي: الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار، وابتلاك بأن تعفو عنا، وهما منزلتان إحداهما رضا الله، والأخرى سخطه، من عفا عفا الله عنه، وزاده عزا، ومن عاقب لم يامن القصاص يا بن الزبير، نحن أهل قبلتكم، وعلى ملتكم، ولسنا تركا ولا ديلما، فإن خالفنا إخواننا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإما أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الشام بينهم، فقد اختلفوا واقتتلوا ثم اجتمعوا، وكما اقتتل أهل البصرة بينهم فقد اختلفوا واقتتلوا ثم اصطلحوا واجتمعوا، وقد ملكتم فأسجحوا، وقد قدرتم فاعفوا فما زال بهذا القول ونحوه حتى رق لهم الناس، ورق لهم مصعب، وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث فقال: تخلى سبيلهم! اخترنا يا بن الزبير أو اخترهم ووثب مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني
(6/109)
فقال: قتل ابى وخمسمائة من همدان وأشراف العشيرة وأهل المصر ثم تخلي سبيلهم، ودماؤنا ترقرق في أجوافهم! اخترنا أو اخترهم ووثب كل قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل فقالوا نحوا من هذا القول.
فلما رأى مصعب بن الزبير ذلك امر بقتلهم، فنادوه باجمعهم: يا بن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا مقدمتك إلى أهل الشام غدا، فو الله ما بك ولا بأصحابك عنا غدا غنى، إذا لقيتم عدوكم فإن قتلنا لم نقتل حتى نرقهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك فأبى عليهم وتبع رضا العامة، فقال بجير المسلي: إن حاجتي إليك الا اقتل مع هؤلاء القوم إني أمرتهم أن يخرجوا بأسيافهم فيقاتلوا حتى يموتوا كراما فعصوني، فقدم فقتل.
قال أبو مخنف: وحدثني أبي، قال: حدثني أبو روق أن مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب بن الزبير: يا بن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمة من المسلمين صبرا! حكموك في دمائهم، فكان الحق في دمائهم الا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس مسلمة، فإن كنا قتلنا عدة رجال منكم فاقتلوا عدة من قتلنا منكم، وخلوا سبيل بقيتنا، وفينا الآن رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا، كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج، ويؤمنون السبيل، فلم يستمع له، فقال: قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكة من هذه السكك فنطردهم، ثم نلحق بعشائرنا، فعصوني حتى حملوني على أن أعطيت التي هي أنقص وأدنى وأوضع، وأبوا أن يموتوا إلا ميتة العبيد، فانا اسالك الا تخلط دمي بدمائهم فقدم فقتل ناحية.
ثم إن المصعب أمر بكف المختار فقطعت ثم سمرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليها فقال: ما هذه؟ قالوا: كف المختار، فأمر بنزعها وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد،
(6/110)
ثم إنه كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته، ويقول له: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق فدعا إبراهيم أصحابه فقال: ما ترون؟ فقال بعضهم:
تدخل في طاعة عبد الملك، وقال بعضهم: تدخل مع ابن الزبير في طاعته، فقال ابن الأشتر: ذاك لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك، مع أني لا أحب أن أختار على أهل مصري مصرا، ولا على عشيرتي عشيرة فكتب إلى مصعب، فكتب إليه مصعب أن أقبل، فأقبل إليه بالطاعة.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن كتاب مصعب قدم على ابن الأشتر وفيه:
أما بعد، فإن الله قد قتل المختار الكذاب وشيعته الذين دانوا بالكفر، وكادوا بالسحر، وإنا ندعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى بيعة أمير المؤمنين، فإن أجبت إلى ذلك فأقبل إلي، فإن لك أرض الجزيرة وأرض المغرب كلها ما بقيت وبقي سلطان آل الزبير، لك بذلك عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد أو عقد، والسلام.
وكتب إليه عبد الملك بن مروان:
أما بعد، فإن آل الزبير انتزوا على أئمة الهدى، ونازعوا الأمر أهله، وألحدوا في بيت الله الحرام والله ممكن منهم، وجاعل دائرة السوء عليهم، وانى ادعوك الى الله وإلى سنة نبيه، فإن قبلت وأجبت فلك سلطان العراق ما بقيت وبقيت، علي بالوفاء بذلك عهد الله وميثاقه.
قال: فدعا أصحابه فأقرأهم الكتاب، واستشارهم في الرأي، فقائل
(6/111)
يقول عبد الملك، وقائل يقول: ابن الزبير، فقال لهم: ورأيي اتباع أهل الشام، ولكن كيف لي بذلك، وليس قبيلة تسكن الشام إلا وقد وترتها، ولست بتارك عشيرتي وأهل مصري! فأقبل إلى مصعب، فلما بلغ مصعبا إقباله بعث المهلب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلب على الفرات.
قال أبو مخنف: حدثني أبو علقمة الخثعمي أن المصعب بعث إلى أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار وإلى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري- وهي امرأة المختار- فقال لهما: ما تقولان في المختار؟ فقالت أم ثابت: ما عسينا أن نقول! ما نقول فيه إلا ما تقولون فيه أنتم، فقالوا لها: اذهبي، وأما عمرة فقالت: رحمة الله عليه، إنه كان عبدا من عباد الله الصالحين، فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب فيها إلى عبد الله بن الزبير أنها تزعم أنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها.
فأخرجها بين الحيرة والكوفة بعد العتمة، فضربها مطر ثلاث ضربات بالسيف- ومطر تابع لآل قفل من بني تيم الله بن ثعلبة، كان يكون مع الشرط- فقالت: يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه! فسمع بها بعض الأنصار، وهو أبان بن النعمان بن بشير، فأتاه فلطمه وقال له: يا بن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك! فلزمه حتى رفعه إلى مصعب، فقال:
إن أمي مسلمة، وادعى شهادة بني قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب: خلوا سبيل الفتى فإنه رأى أمرا فظيعا، فقال عمر بن أبي ربيعة القرشي في قتل مصعب عمرة بنت النعمان بن بشير:
إن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول
قتلت هكذا على غير جرم ... إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
قال ابو مخنف: حدثنى مُحَمَّد بن يوسف، أن مصعبا لقي عبد الله بن
(6/112)
عمر فسلم عليه، وقال له: أنا ابن أخيك مصعب، فقال له ابن عمر:
نعم، أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة! عش ما استطعت! فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر:
والله لو قتلت عدتهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا، فقال سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ ثابت في ذلك:
أتى راكب بالأمر ذي النبإ العجب ... بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب
بقتل فتاة ذات دل ستيرة ... مهذبة الأخلاق والخيم والنسب
مطهرة من نسل قوم أكارم ... من المؤثرين الخير في سالف الحقب
خليل النبي المصطفى ونصيره ... وصاحبه في الحرب والنكب والكرب
أتاني بأن الملحدين توافقوا ... على قتلها لاجنبوا القتل والسلب
فلا هنأت آل الزبير معيشة ... وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب
كأنهمُ إذ أبرزوها وقطعت ... بأسيافهم فازوا بمملكة العرب
ألم تعجب الأقوام من قتل حرة ... من المحصنات الدين محمودة الأدب
من الغافلات المؤمنات، بريئة ... من الذم والبهتان والشك والكذب
علينا كتاب القتل والبأس واجب ... وهن العفاف في الحجال وفي الحجب
على دين أجداد لها وأبوة ... كرام مضت لم تخز أهلا ولم ترب
من الخفرات لا خروج بذيه ... ملائمه تبغي على جارها الجنب
ولا الجار ذي القربى ولم تدر ما الخنا ... ولم تزدلف يوما بسوء ولم تحب
عجبت لها إذ كفنت وهي حية ... ألا إن هذا الخطب من أعجب العجب
حدثت عن علي بن حرب الموصلي، قال: حدثني إبراهيم بن سُلَيْمَان الحنفي، ابن أخي أبي الأحوص، قال: حدثنا مُحَمَّد بن أبان، عن علقمة بن مرثد، عن سويد بن غفلة، قال: بينا أنا اسير بظهر النجف إذ لحقني رجل فطعنني بمخصرة من خلفي، فالتفت إليه، فقال:
(6/113)
ما قولك في الشيخ؟ قلت: أي الشيوخ؟ قال: علي بن أبي طالب، قلت: إني أشهد أني أحبه بسمعي وبصري وقلبي ولساني، قال: وأنا أشهدك أني أبغضه بسمعي وبصري وقلبي ولساني فسرنا حتى دخلنا الكوفة، فافترقنا، فمكث بعد ذلك سنين- أو قال: زمانا- قال: ثم إني لفي المسجد الأعظم إذ دخل رجل معتم يتصفح وجوه الخلق، فلم يزل ينظر فلم ير لحى أحمق من لحى همدان، فجلس إليهم، فتحولت فجلست معهم، فقالوا: من أين أقبلت؟ قال: من عند أهل بيت نبيكم، قالوا:
فماذا جئتنا به؟ قال: ليس هذا موضع ذلك، فوعدهم من الغد موعدا، فغدا وغدوت، فإذا قد أخرج كتابا معه في أسفله طابع من رصاص، فدفعه الى غلام، فقال له: يا غلام، اقرأه- وكان أميا لا يكتب- فقال الغلام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للمختار بن أبي عبيد كتبه له وصي آل مُحَمَّد، أما بعد فكذا وكذا فاستفرغ القوم البكاء، فقال:: يا غلام، ارفع كتابك حتى يفيق القوم، قلت: معاشر همدان، أنا أشهد بالله لقد أدركني هذا بظهر النجف، فقصصت عليهم قصته، فقالوا: أبيت والله إلا تثبيطا عن آل مُحَمَّد، وتزيينا لنعثل شقاق المصاحف قال: قلت:
معاشر همدان، لا أحدثكم إلا ما سمعته أذناي، ووعاه قلبي من على بن ابى طالب ع، سمعته يقول: [لا تسموا عثمان شقاق المصاحف، فو الله ما شققها إلا عن ملإ منا أصحاب مُحَمَّد، ولو وليتها لعملت فيها مثل الذي عمل،] قالوا: آلله أنت سمعت هذا من علي؟ قلت:
والله لأنا سمعته منه، قال: فتفرقوا عنه، فعند ذلك مال إلى العبيد، واستعان بهم، وصنع ما صنع قال أبو جعفر: واقتص الواقدي من خبر المختار بن أبي عبيد بعض ما ذكرنا، فخالف فيه من ذكرنا خبره، فزعم أن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وأن مصعبا لما
(6/114)
سار إليه فبلغه مسيره إليه بعث إليه احمر بن شميط البجلي، وامره ان بواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار، قال: وإنما قال ذلك المختار لأنه قيل: إن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنما كان ذلك للحجاج بن يوسف في قتاله عبد الرحمن بن الأشعث وأمر مصعب صاحب مقدمته عباد الحبطي أن يسير إلى جمع المختار فتقدم وتقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، ونزل مصعب، نهر البصريين على شط الفرات، وحفر هنالك نهرا فسمي نهر البصريين من أجل ذلك قال: وخرج المختار في عشرين ألفا حتى وقف بإزائهم وزحف مصعب ومن معه، فوافوه مع الليل على تعبئة، فأرسل إلى أصحابه حين أمسى: لا يبرحن أحد منكم موقفه حتى يسمع مناديا ينادي: يا محمد، فإذا اسمعتموه فاحملوا فقال رجل من القوم من أصحاب المختار: هذا والله كذا.
على الله، وانحاز ومن معه إلى المصعب، فأمهل المختار حتى إذا طلع القمر أمر مناديا، فنادى: يا مُحَمَّد، ثم حملوا على مصعب وأصحابه فهزموهم، فأدخلوه عسكره، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد، وإذا أصحابه قد وغلوا في أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، فجاء أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليا، فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة، وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم، ووجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه، وكان أصحاب المختار، قتلوا في تلك الليلة من أصحاب مصعب بشرا كثيرا، فيهم مُحَمَّد بن الأشعث، وأقبل مصعب حين أصبح حتى أحاط بالقصر، فأقام مصعب يحاصره اربعه اشهر يخرج اليهم في كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة من وجه واحد، ولا يقدر عليه حتى قتل المختار، فلما قتل المختار بعث من في القصر يطلب الأمان، فأبى مصعب حتى نزلوا على حكمه، فلما نزلوا على حكمه قتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم
(6/115)
من العجم، قال: فلما خرجوا أراد مصعب أن يقتل العجم ويترك العرب، فكلمه من معه، فقالوا: أي دين هذا؟ وكيف ترجو النصر وأنت تقتل العجم وتترك العرب ودينهم واحد! فقد مهم فضرب أعناقهم قال أبو جعفر: وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن مُحَمَّد، قال: لما قتل المختار شاور مصعب أصحابه في المحصورين الذين نزلوا على حكمه، فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث ومُحَمَّد بن عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس وأشباههم ممن وترهم المختار: اقتلهم، وضجت ضبة، وقالوا: دم منذر بن حسان، فقال عبيد الله بن الحر: أيها الأمير، ادفع كل رجل في يديك إلى عشيرته تمن عليهم بهم، فإنهم إن كانوا قتلونا فقد قتلناهم، ولا غنى بنا عنهم في ثغورنا، وادفع عبيدنا الذين في يديك إلى مواليهم فإنهم لأيتامنا وأراملنا وضعفائنا، يردونهم إلى أعمالهم، واقتل هؤلاء الموالي، فإنهم قد بدا كفرهم، وعظم كبرهم، وقل شكرهم.
فضحك مصعب وقال للأحنف: ما ترى يا أبا بحر؟ قال: قد أرادني زياد فعصيته- يعرض بهم- فأمر مصعب بالقوم جميعا فقتلوا، وكانوا ستة آلاف، فقال عقبة الأسدي:
قتلتم ستة الآلاف صبرا ... مع العهد الموثق مكتفينا
جعلتم ذمة الحبطي جسرا ... ذلولا ظهره للواطئينا
وما كانوا غداة دعوا فغروا ... بعهدهمُ بأول خائنينا
وكنت أمرتهم لو طاوعوني ... بضرب في الأزقة مصلتينا
وقتل المختار- فيما قيل- وهو ابن سبع وستين سنة، لأربع عشرة خلت من شهر رمضان في سنة سبع وستين فلما فرغ مصعب من أمر المختار وأصحابه، وصار اليه ابراهيم ابن الأشتر وجه المهلب بن أبي صفرة على الموصل والجزيرة وآذربيجان وأرمينية واقام بالكوفه
(6/116)
خبر عزل عبد الله بن الزبير أخاه المصعب
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن البصرة، وبعث اليه بابنه حمزة بن عبد الله إليها، فاختلف في سبب عزله إياه عنها، وكيف كان الأمر في ذلك فقال بعضهم في ذلك مَا حَدَّثَنِي بِهِ عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد قال: لم يزل المصعب على البصرة حتى سار منها إلى المختار، واستخلف على البصرة عبيد الله بن معمر، فقتل المختار، ثم وفد إلى عبد الله بن الزبير فعزله وحبسه عنده، واعتذر إليه من عزله، وقال: والله إني لأعلم أنك أحرى وأكفى من حمزة، ولكني رأيت فيه رأي عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى الأشعري وولاه وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قدم حمزة البصرة واليا، وكان جوادا سخيا مخلطا، يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه، ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله، فظهرت منه بالبصرة خفة وضعف، فيقال: إنه ركب يوما إلى فيض البصرة، فلما رآه قال: إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم صيفهم، فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرا، فقال: قد رأيت هذا ذات يوم، وظننت أن لن يكفيهم، فقال له الأحنف: إن هذا ماء يأتينا ثم يغيض عنا وشخص إلى الأهواز، فلما رأى جبلها قال: هذا قعيقعان- لموضع بمكة- فسمي الجبل قعيقعان، وبعث الى مرد انشاه فاستحثه بالخراج، فأبطأ به، فقام إليه بسيفه فضربه فقتله، فقال الأحنف: ما أحد سيف الأمير! حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: لما خلط حمزة بالبصرة وظهر منه ما ظهر، وهم بعبد العزيز بن بشر أن يضربه، كتب الأحنف إلى ابن الزبير بذلك، وسأله أن يعيد مصعبا قال:
وحمزة الذي عقد لعبد الله بن عمير الليثي على قتال النجدية بالبحرين
(6/117)
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: لما عزل ابن الزبير حمزة احتمل مالا كثيرا من مال البصرة، فعرض له مالك بن مسمع، فقال: لا ندعك تخرج باعطياتنا فضمن له عبيد الله بن عبيد بن معمر العطاء، فكف، وشخص حمزة بالمال، فترك أباه وأتى المدينة، فأودع ذلك المال رجالا، فذهبوا به إلا يهوديا كان أودعه فوفى له، وعلم ابن الزبير بما صنع، فقال: أبعده الله! أردت أن أباهي به بني مروان فنكص وأما هشام بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن أبي مخنف في أمر مصعب وعزل أخيه إياه عن البصرة ورده إياه إليها غير هذه القصة، والذي ذكر من ذلك عنه في سياق خبر حدثت به عنه، عن أبي المخارق الراسبي، أن مصعبا لما ظهر على الكوفة أقام بها سنة معزولا عن البصرة، عزله عنها عبد الله، وبعث ابنه حمزة، فمكث بذلك سنة، ثم إنه وفد على أخيه عبد الله بمكة، فرده على البصرة وقيل: إن مصعبا لما فرغ من أمر المختار انصرف إلى البصرة وولى الكوفة الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قال: وقال مُحَمَّد بن عمر:
لما قتل مصعب المختار ملك الْكُوفَة والبصرة وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ وَكَانَ عامله عَلَى الكوفة مصعب، وقد ذكرت اختلاف أهل السير في العامل على البصرة وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وبالشام عبد الملك بن مروان وكان على خراسان عبد الله بن خازم السلمي
(6/118)
ثم دخلت
سنة ثمان وستين.
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأمور الجليلة) فمن ذلك ما كان من رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا، وقد ذكرنا السبب في رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا بعد عزله إياه، ولما رده عليها أميرا بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وذلك أنه بدأ بالبصرة مرجعه إلى العراق أميرا بعد العزل، فصار إليها.
ذكر الخبر عن رجوع الازارقه من فارس الى العراق
وفي هذه السنة كان مرجع الأزارقة من فارس إلى العراق حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن.
ذكر الخبر عن أمرهم ومسيرهم ومرجعهم إلى العراق:
ذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، أن مصعبا وجه عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس أميرا، وكانت الأزارقة لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعد ما أوقع بهم المهلب بالأهواز، فلما شخص المهلب عن ذلك الوجه ووجه إلى الموصل ونواحيها عاملا عليها، وعمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، انحطت الأزارقة مع الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله بفارس، فلقيهم بسابور، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم إنه ظفر بهم ظفرا بينا، غير أنه لم يكن بينهم كثير قتلى، وذهبوا كأنهم على حامية، وقد تركوا على ذلك المعركة.
قال أبو مخنف: فحدثني شيخ للحي بالبصرة، قال: إني لأسمع قراءة كتاب عمر بن عبيد الله:
(6/119)
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني اخبر الأمير اصلحه الله ابى لقيت الأزارقة التي مرقت من الدين واتبعت أهواءها بغير هدى من الله، فقاتلتهم بالمسلمين ساعة من النهار أشد القتال ثم إن الله ضرب وجوههم وأدبارهم، ومنحنا أكتافهم، فقتل الله منهم من خاب وخسر، وكل إلى خسران فكتبت إلى الأمير كتابي هذا وأنا على ظهر فرسي في طلب القوم، أرجو أن يجذهم الله إن شاء الله، والسلام.
ثم إنه تبعهم ومضوا من فورهم ذلك حتى نزلوا إصطخر، فسار إليهم حتى لقيهم على قنطرة طمستان، فقاتلهم قتالا شديدا، وقتل ابنه.
ثم إنه ظفر بهم، فقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى نحو من أصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا وقووا، واستعدوا وكثروا، ثم أقبلوا حتى مروا بفارس وبها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أن قد قطعت الخوارج ارضه متوجهه الى البصره خشي الا يحتملها له مصعب بن الزبير، فشمر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا منها متوجهين قبل الأهواز، وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بفارس، وجعلت معه جندا أجري عليهم أرزاقهم في كل شهر، وأوفيهم أعطياتهم في كل سنة، وآمر لهم من المعاون في كل سنة بمثل الأعطيات، تقطع أرضه الخوارج إلي! وقد قطعت علته فأمددته بالرجال وقويتهم، والله لو قاتلهم ثم فر كان أعذر له عندي، وإن كان الفار غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل.
وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز، فأتتهم عيونهم أن عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأن مصعب بن الزبير قد خرج من البصرة إليهم، فقام فيهم الزبير فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن
(6/120)
من سوء الرأي والحيرة وقوعكم فيما بين هاتين الشوكتين، وانهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد فسار بهم حتى قطع بهم أرض جوخى، ثم أخذ على النهر وانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن وبها كردم بن مرثد بن نجبة الفزاري، فشنوا الغارة على أهل المدائن، يقتلون الولدان والنساء والرجال، ويبقرون الحبالى، وهرب كردم، فأقبلوا إلى ساباط فوضعوا أسيافهم في الناس، فقتلوا أم ولد لربيعه ابن ماجد، وقتلوا بنانة ابنة أبي يزيد بن عاصم الأزدي، وكانت قد قرأت القرآن، وكانت من أجمل الناس، فلما غشوها بالسيوف قالت:
ويحكم! هل سمعتم بأن الرجال كانوا يقتلون النساء! ويحكم! تقتلون من لا يبسط إليكم يدا، ولا يريد بكم ضرا، ولا يملك لنفسه نفعا! أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال بعضهم: اقتلوها، وقال رجل منهم: لو أنكم تركتموها! فقال بعضهم: أعجبك جمالها يا عدو الله! قد كفرت وافتتنت، فانصرف الآخر عنهم وتركهم، فظننا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها، فقالت ريطة بنت يزيد: سبحان الله! أترون الله يرضى بما تصنعون! تقتلون النساء والصبيان ومن لم يذنب إليكم ذنبا! ثم انصرفت وحملوا عليها وبين يديها الرواع بنت إياس بن شريح الهمداني، وهي ابنة أخيها لأمها، فحملوا عليها فضربوها على رأسها، بالسيف، ويصيب ذباب السيف رأس الرواع فسقطتا جميعا إلى الأرض، وقاتلهم إياس بن شريح ساعة، ثم صرع فوقع بين القتلى، فنزعوا عنه وهم يرون أنهم قد قتلوه، وصرع منهم رجل من بكر ابن وائل يقال له رزين بن المتوكل.
فلما انصرفوا عنهم لم يمت غير بنانة بنت ابى يزيد، وأم ولد ربيعه ابن ناجد، وأفاق سائرهم، فسقى بعضهم بعضا من الماء، وعصبوا جراحاتهم ثم استأجروا دواب، ثم أقبلوا نحو الكوفة.
قال أبو مخنف: فحدثتني الرواع ابنة إياس، قالت: ما رأيت
(6/121)
رجلا قط كان أجبن من رجل كان معنا وكانت معه ابنته، فلما غشينا ألقاها إلينا وهرب عنها وعنا ولا رأينا رجلا قط كان أكرم من رجل كان معنا، ما نعرفه ولا يعرفنا، لما غشينا قاتل دوننا حتى صرع بيننا، وهو رزين بن المتوكل البكري وكان بعد ذلك يزورنا ويواصلنا ثم إنه هلك في إمارة الحجاج، فكانت ورثته الأعراب، وكان من العباد الصالحين.
قال هشام بن مُحَمَّد- وذكره عن أبي مخنف- قال: حدثني أبي، عن عمه أن مصعب بن الزبير كان بعث أبا بكر بن مخنف على إستان العال، فلما قدم الحارث بن أبي ربيعة أقصاه، ثم أقره بعد ذلك على عمله السنة الثانية، فلما قدمت الخوارج المدائن سرحوا إليه عصابة منهم، عليها صالح بن مخراق، فلقيه بالكرخ فقاتله ساعة، ثم تنازلوا فنزل أبو بكر ونزلت الخوارج، فقتل أبو بكر ويسار مولاه وعبد الرحمن بن أبي جعال، ورجل من قومه، وانهزم سائر أصحابه، فقال سراقة بن مرداس البارقي في بطن من الأزد:
ألا يا لقومي للهموم الطوارق ... وللحدث الجائي بإحدى الصفائق
ومقتل غطريف كريم نجاره ... من المقدمين الذائدين الأصادق
أتاني دوين الخيف قتل ابن مخنف ... وقد غورت أولى النجوم الخوافق
فقلت: تلقاك الإله برحمة ... وصلى عليك الله رب المشارق
لحا الله قوما عردوا عنك بكرة ... ولم يصبروا للامعات البوارق
تولوا فأجلوا بالضحى عن زعيمنا ... وسيدنا في المأزق المتضايق
فأنت متى ما جئتنا في بيوتنا ... سمعت عويلا من عوان وعاتق
(6/122)
يبكين محمود الضريبة ماجدا ... صبورا لدى الهيجاء عند الحقائق
لقد أصبحت نفسي لذاك حزينة ... وشابت لما حملت منه مفارقي
قال أبو مخنف: فحدثني حدرة بن عبد الله الأزدي، والنضر ابن صالح العبسي، وفضيل بن خديج، كلهم أخبرنيه ان الحارث بن ابى ربيعه الملقب بالقباع أتاه أهل الكوفة، فصاحوا إليه وقالوا له:
اخرج فإن هذا عدو لنا قد أظل علينا ليست له بقية، فخرج وهو يكد كدا حتى نزل النخيلة فأقام بها أياما، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه سار إلينا عدو ليست له تقيه، يقتل الرجل والمرأة والمولود، ويخيف السبيل، ويخرب البلاد، فانهض بنا إليه، فأمر بالرحيل فخرج فنزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل إليه شبث بن ربعي، فكلمه بنحو مما كلمه به ابن الأشتر، فارتحل ولم يكد، فلما رأى الناس بطء سيره رجزوا به فقالوا:
سار بنا القباع سيرا نكرا ... يسير يوما ويقيم شهرا
فأشخصوه من ذلك المكان، فكلما نزل بهم منزلا أقام بهم حتى يضج الناس به من ذلك، ويصيحوا به حول فسطاطه، فلم يبلغ الصراة إلا في بضعة عشر يوما، فأتى الصراة وقد انتهى إليها طلائع العدو وأوائل الخيول، فلما أتتهم العيون بأنه قد أتاهم جماعة أهل المصر قطعوا الجسر بينهم وبين الناس، وأخذ الناس يرتجزون:
إن القباع سار سيرا ملسا بين دبيرى ودباها خمسا قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن رجلا من السبيع كان به لمم، وكان بقرية يقال لها جوبر عند الخرارة،
(6/123)
وكان يدعى سماك بن يزيد، فأتت الخوارج قريته فأخذوه وأخذوا ابنته، فقدموا ابنته فقتلوها، وزعم لي أبو الربيع السلولي أن اسم ابنته أم يزيد، وأنها كانت تقول لهم: يا أهل الإسلام، إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فإنما أنا جارية، والله ما أتيت فاحشة قط، ولا آذيت جارة لي قط، ولا تطلعت ولا تشرفت قط فقدموها ليقتلوها، فأخذت تنادي: ما ذنبي ما ذنبي! ثم سقطت مغشيا عليها أو ميتة، ثم قطعوها، بأسيافهم قال أبو الربيع: حدثتني بهذا الحديث ظئر لها نصرانية من أهل الخورنق كانت معها حين قتلت.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن الأزارقة جاءت بسماك بن يزيد معهم حتى أشرفوا على الصراة قال:
فاستقبل عسكرنا، فرأى جماعة الناس وكثرتهم، فأخذ ينادينا ويرفع صوته: اعبروا اليهم فإنهم فل خبيث، فضربوا عند ذلك عنقه وصلبوه ونحن ننظر إليه قال: فلما كان الليل عبرت إليه وأنا رجل من الحي.
فأنزلناه فدفناه قال أبو مخنف: حدثني أبي أن إبراهيم بن الأشتر قال للحارث بن أبي ربيعة: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب، فأجيئك برءوسهم الساعة، فقال شبث بن ربعي وأسماء بن خارجه ويزيد ابن الحارث ومُحَمَّد بن الحارث ومُحَمَّد بن عمير: أصلح الله الأمير! دعهم فليذهبوا، لا تبدأهم، قال: وكأنهم حسدوا ابراهيم ابن الأشتر.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي حصيرة بن عَبْدِ الله وأبو زهير العبسي أن الأزارقة لما انتهوا إلى جسر الصراة فرأوا أن جماعة أهل المصر قد خرجوا إليهم قطعوا الجسر، واغتنم ذلك الحارث، فتحبس ثم إنه جلس للناس فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فان أول القتال الرميه بالنبل، ثم أشراع الرماح، ثم الطعن بها شزرا، ثم السلة آخر ذلك كله
(6/124)
قال: فقام إليه رجل فقال، قد أحسن الأمير اصلحه الله الصفة، ولكن حتام نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبين عدونا! مر بهذا الجسر فليعد كما كان، ثم اعبر بنا إليهم، فإن الله سيريك فيهم ما تحبه، فأمر بالجسر فأعيد، ثم عبر الناس إليهم فطاروا حتى انتهوا إلى المدائن، وجاء المسلمون حتى انتهوا إلى المدائن، وجاءت خيل لهم فطاردت خيلا للمسلمين طردا ضعيفا عند الجسر ثم إنهم خرجوا منها فأتبعهم الحارث بن أبي ربيعة عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا في أرض البصرة خلاهم فأتبعهم حتى إذا خرجوا من أرض الكوفة ووقعوا إلى أصبهان انصرف عنهم ولم يقاتلهم، ولم يكن بينه وبينهم قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتاب بن ورقاء بحى، فأقاموا عليه وحاصروه، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم، وشدوا على أصحابه حتى دخلوا المدينة، وكانت أصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة من مصعب بن الزبير، فبعث عليها عتابا، فصبر لهم عتاب، وأخذ يخرج إليهم في كل أيام فيقاتلهم على باب المدينة، ويرمون من السور بالنبل والنشاب والحجارة، وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هُرَيْرَةَ بن شريح، فكان يخرج مع عتاب، وكان شجاعا، فكان يحمل عليهم ويقول:
كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هُرَيْرَةَ الهرار يهركم بالليل والنهار يا بن أبي الماحوز والأشرار كيف ترى جي على المضمار.
فلما طال ذلك على الخوارج من قوله كمن له رجل من الخوارج يظنون أنه عبيدة بن هلال، فخرج ذات يوم فصنع كما كان يصنع، ويقول كما كان يقول، إذ حمل عليه عبيدة بن هلال فضربه بالسيف ضربة على حبل عاتقه فصرعه، وحمل أصحابه عليه فاحتملوه فأدخلوه
(6/125)
وداووه، وأخذت الأزارقة بعد ذلك تناديهم يقولون: يا أعداء الله، ما فعل أبو هُرَيْرَةَ الهرار؟ فينادونهم: يا أعداء الله، والله ما عليه من بأس، ولم يلبث أبو هُرَيْرَةَ أن برئ، ثم خرج عليهم بعد، فأخذوا يقولون:
يا عدو الله، أما والله لقد رجونا أن نكون قد أزرناك أمك، فقال لهم: يا فساق، ما ذكركم أمي! فأخذوا يقولون: إنه ليغضب لأمه، وهو آتيها عاجلا فقال له أصحابه: ويحك! إنما يعنون النار، ففطن فقال: يا أعداء الله، ما أعقكم بأمكم حين تنتفون منها! إنما تلك أمكم، وإليها مصيركم.
ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرا حتى هلك كراعهم، ونفذت أطعمتهم، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد الشديد، فدعاهم عتاب بن ورقاء فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ أيها الناس، فإنه قد أصابكم من الجهد ما قد ترون، فو الله إن بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه، ولا يصلي عليه، فاتقوا الله، فو الله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء من أنتم منه! اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم وبكم حياه وقوه قبل الا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل الا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته، فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فو الله انى لأرجو ان صدقتموه أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم فناداه الناس من كل جانب: وفقت وأصبت، اخرج بنا إليهم، فجمع إليه الناس من الليل، فأمر لهم بعشاء كثير، فعشي الناس عنده، ثم إنه خرج بهم حين أصبح على راياتهم، فصبحهم في عسكرهم وهم آمنون من أن يؤتوا في عسكرهم، فشدوا عليهم في جانبه، فضاربوهم فاخلوا عن وجه العسكر حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري، فبايعوه،
(6/126)
وجاء عتاب حتى دخل مدينته، وقد أصاب من عسكرهم ما شاء، وجاء قطري في أثره كأنه يريد أن يقاتله، فجاء حتى نزل في عسكر الزبير بن الماحوز، فتزعم الخوارج أن عينا لقطري جاءه فقال: سمعت عتابا يقول: إن هؤلاء القوم إن ركبوا بنات شحاج، وقادوا بنات صهال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحري أن يبقوا، فلما بلغ ذلك قطريا خرج فذهب وخلاهم.
قال أبو مخنف: قال أبو زهير العبسي وكان معهم: خرجنا إلى قطري من الغد مشاة مصلتين بالسيوف، قال: فارتحلوا والله فكان آخر العهد بهم قال: ثم ذهب قطري حتى أتى ناحية كرمان فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض واجتبى المال وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان ثم إنه خرج من شعب ناشط إلى إيذج، فأقام بأرض الأهواز والحارث بن ابى ربيعه عامل المصعب بن الزبير على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره أن الخوارج قد تحدرت إلى الأهواز، وأنه ليس لهم إلا المهلب، فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة.
فأمره بقتال الخوارج والمسير اليهم، وبعث الى عمله إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثانيه أشهر أشد قتال رآه الناس، لا ينقع بعضهم لبعض.
من الطعن والضرب ما يصد بعضهم عن بعض قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام حتى لم يقدروا من شدته على الغزو.
وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان حبيب من أرض قنسرين، فمطروا بها، فكثر الوحل فسموها بطنان الطين، وشتا بها عبد الملك، ثم انصرف منها إلى دمشق.
وفيها قتل عبيد الله بن الحر
(6/127)
ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر
ذكر الخبر عن مقتله والسبب الذي جر ذلك عليه:
روى أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، أن عبيد الله بن الحر كان رجلا من خيار قومه صلاحا وفضلا، وصلاة واجتهادا، فلما قتل عثمان وهاج الهيج بين علي ومعاوية، قال: أما إن الله ليعلم أني أحب عثمان، ولأنصرنه ميتا فخرج إلى الشام، فكان مع معاوية، وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي في العثمانية، فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه صفين، ولم يزل معه حتى قتل على ع، فلما قتل علي قدم الكوفة فأتى إخوانه ومن قد خف في الفتنة، فقال لهم: يا هؤلاء، ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله، كنا بالشام، فكان من أمر معاوية كيت وكيت فقال له القوم: وكان من أمر علي كيت وكيت، فقال: يا هؤلاء، إن تمكننا الأشياء فاخلعوا عذركم، واملكوا أمركم، قالوا: سنلتقي، فكانوا يلتقون على ذلك فلما مات معاوية هاج ذلك الهيج في فتنة ابن الزبير، قال: ما أرى قريشا تنصف، أين أبناء الحرائر! فأتاه خليع كل قبيلة، فكان معه سبعمائة فارس، فقالوا: مرنا بأمرك، فلما هرب عبيد الله بن زياد ومات يزيد بن معاوية، قال عبيد الله بن الحر لفتيانه: قد بين الصبح لذي عينين، فإذا شئتم! فخرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم من الجبل للسلطان إلا أخذه، فأخذ منه عطاءه وأعطية أصحابه، ثم قال: إن لكم شركاء بالكوفة في هذا المال قد استوجبوه، ولكن تعجلوا عطاء قابل سلفا، ثم كتب لصاحب المال براءة بما قبض من المال، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك قال: قلت: فهل كان يتناول أموال الناس والتجار؟ قال لي: إنك لغير عالم بأبي الأشرس، والله ما كان في الأرض
(6/128)
عربي اغير عن حرة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه، ولكن إنما وضعه عند الناس شعره، وهو من أشعر الفتيان فلم يزل على ذلك من الأمر حتى ظهر المختار، وبلغه ما يصنع بالسواد، فأمر بامرأته أم سلمة الجعفية فحبست، وقال: والله لأقتلنه أو لأقتلن أصحابه، فلما بلغ ذلك عبيد الله بن الحر أقبل في فتيانه حتى دخل الكوفة ليلا، فكسر باب السجن، وأخرج امرأته وكل امرأة ورجل كان فيه، فبعث إليه المختار من يقاتله، فقاتلهم حتى خرج من المصرم، فقال حين أخرج امرأته من السجن:
ألم تعلمي يا أم توبة أنني ... أنا الفارس الحامي حقائق مذحج
وأني صبحت السجن في سوره الضحى ... بكل فتى حامي الذمار مدجج
فما إن برحن السجن حتى بدا لنا ... جبين كقرن الشمس غير مشنج
وخد أسيل عن فتاه حييه ... إلينا سقاها كل دان مثجج
فما العيش إلا أن أزورك آمنا ... كعادتنا من قبل حربي ومخرجي
وما أنت إلا همة النفس والهوى ... عليك السلام من خليط مسحج
وما زلت محبوسا لحبسك واجما ... وإني بما تلقين من بعده شج
فبالله هل أبصرت مثليَ فارسا ... وقد ولجوا في السجن من كل مولج!
ومثلي يحامي دون مثلك إنني ... أشد إذا ما غمرة لم تفرج
أضاربهم بالسيف عنك لترجعي ... إلى الأمن والعيش الرفيع المخرفج
إذا ما أحاطوا بي كررت عليهم ... ككر أبي شبلين في الخيس محرج
دعوت إلي الشاكري ابن كامل ... فولى حثيثا ركضه لم يعرج
وإن هتفوا باسمي عطفت عليهمُ ... خيول كرام الضرب أكثرها الوجي
فلا غرو إلا قول سلمى ظعينى: ... اما أنت يا بن الحر بالمتحرج!
(6/129)
دع القوم لا تقتلهمُ وانج سالما ... وشمر هداك الله بالخيل فاخرج
وإني لأرجو يا ابنة الخير أن أرى ... على خير أحوال المؤمل فارتجي
ألا حبذا قولي لأحمر طيئ ... ولابن خبيب قد دنا الصبح فادلج
وقولي لهذا سر وقولي لذا ارتحل ... وقولي لذا من بعد ذلك اسرج
وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه، ووثبت همدان مع المختار فأحرقوا داره، وانتهبوا ضيعته بالجبة والبداة، فلما بلغه ذلك سار إلى ماه إلى ضياع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فأنهبها وأنهب ما كان لهمدان بها، ثم أقبل إلى السواد فلم يدع مالا لهمداني إلا أخذه، ففي ذلك يقول:
وما ترك الكذاب من جل مالنا ... ولا الزرق من همدان غير شريد
أفي الحق أن ينهب ضياعي شاكر ... وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد!
ألم تعلمي يا أم توبة أنني ... على حدثان الدهر غير بليد
أشد حيازيمي لكل كريهة ... وإني على ما ناب جد جليد
فإن لم أصبح شاكرا بكتيبة ... فعالجت بالكفين غل حديد
همُ هدموا داري وقادوا حليلتي ... إلى سجنهم والمسلمون شهودي
وهم أعجلوها أن تشد خمارها ... فيا عجبا هل الزمان مقيدي!
فما أنا بابن الحر إن لم أرعهمُ ... بخيل تعادى بالكماة أسود
وما جبنت خيلي ولكن حملتها ... على جحفل ذي عدة وعديد
وهي طويلة قال: وكان يأتي المدائن فيمر بعمال جوخى فيأخذ ما معهم من الأموال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار، فلما قتل المختار قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إن ابن الحر شاق ابن زياد والمختار، ولا نأمنه أن يثب بالسواد كما كان يفعل، فحبسه مصعب فقال ابن الحر:
(6/130)
من مبلغ الفتيان أن أخاهمُ ... أتى دونه باب شديد وحاجبه
بمنزلة ما كان يرضى بمثلها ... إذا قام عنته كبول تجاوبه
على الساق فوق الكعب أسود صامت ... شديد يداني خطوه ويقاربه
وما كان ذا من عظم جرم جنيته ... ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه
وقد كان في الأرض العريضة مسلك ... وأي امرئ ضاقت عليه مذاهبه!
وفي الدهر والأيام للمرء عبرة ... وفيما مضى إن ناب يوما نوائبه
فكلم عبيد الله قوما من مذحج أن يأتوا مصعبا في أمره، وأرسل إلى وجوههم، فقال: ائتوا مصعبا فكلموه في أمري ذاته، فإنه حبسني على غير جرم، سعى بي قوم كذبة وخوفوه ما لم أكن لأفعله، وما لم يكن من شأني وأرسل إلى فتيان من مذحج وقال: البسوا السلاح، وخذوا عدة القتال، فقد أرسلت قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري، فأقيموا بالباب، فإن خرج القوم وقد شفعهم فلا تعرضوا لأحد، وليكن سلاحكم مكفرا بالثياب، فجاء قوم من مذجح فدخلوا على مصعب فكلموه، فشفعهم، فأطلقه وكان ابن الحر قال لأصحابه: إن خرجوا ولم يشفعهم فكابروا السجن فإني أعينكم من داخل، فلما خرج ابن الحر قال لهم: أظهروا السلاح، فأظهروه، ومضى لم يعرض له أحد، فأتى منزله، وندم مصعب على إخراجه، فأظهر ابن الحر الخلاف، وأتاه الناس يهنئونه، فقال:
هذا الأمر لا يصلح إلا لمثل خلفائكم الماضين، وما نرى لهم فينا ندا ولا شبيها فنلقي إليه أزمتنا، ونمحضه نصيحتنا، فإن كان إنما هو من عز بز، فعلام: نعقد لهم في أعناقنا بيعة، وليسوا بأشجع منا لقاء، ولا اعظم منا غناء! [وقد عهد إلينا رسول الله ص:
ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،] وما رأينا بعد الأربعة الماضين إماما صالحا، ولا وزيرا تقيا، كلهم عاص مخالف، قوي الدنيا، ضعيف
(6/131)
الآخرة، فعلا م تستحل حرمتنا، ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف لنا حقنا وفضلنا، فقاتلوا عن حريمكم، فأي الأمر ما كان فلكم فيه الفضل، وإني قد قلبت ظهر المجن، وأظهرت لهم العداوة، ولا قوة إلا بالله وحاربهم فأغار فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي، فقال له: إن مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته، قال: أوليس لي خراج بادوريا وغيرها! لست قابلا شيئا، ولا آمنهم على شيء، ولكني أراك يا فتى- وسيف يومئذ حدث- حدثا، فهل لك أن تتبعني وأمولك! فأبى عليه، فقال ابن الحر حين خرج من الحبس:
لا كوفة أمي ولا بصرة أبي ... ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل
- قال أبو الحسن: يروي هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي-
فلا تحسبني ابن الزبير كناعس ... إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل
فإن لم أزرك الخيل تردي عوابسا ... بفرسانها لا أدع بالحازم البطل
وإن لم تر الغارات من كل جانب ... عليك فتندم عاجلا أيها الرجل
فلا وضعت عندي حصان قناعها ... ولا عشت إلا بالأماني والعلل
وهي طويلة.
فبعث إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي في نفر، فقاتله فهزمه ابن الحر، وضربه ضربة على وجهه، فبعث اليه مصعب حريث ابن زيد- أو يزيد- فبارزه، فقتله عبيد الله بن الحر، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جاريه الخثعمي ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهم فهزمهم، فأرسل إليه مصعب قوما يدعونه إلى أن يؤمنه ويصله، ويوليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسى ففر دهقانها ظيز جشنس بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فتعوذ بهم الدهقان، فخرجوا إليه فقاتلوه- وكانت خيل بسطام خمسين ومائة فارس- فقال يونس بن
(6/132)
هاعان الهمداني من خيوان، ودعاه ابن الحر إلى المبارزة: شر دهر آخره، ما كنت أحسبني أعيش حتى يدعوني إنسان إلى المبارزة! فبارزه فضربه ابن الحر ضربة أثخنته، ثم اعتنقا فخرا جميعا عن فرسيهما، وأخذ ابن الحر عمامة يونس وكتفه بها ثم ركب، ووافاهم الحجاج بن حارثة الخثعمي، فحمل عليه الحجاج فأسره أيضا عبيد الله، وبارز بسطام بن مصقلة المجشر، فاضطربا حتى كره كل واحد منهما صاحبه، وعلاه بسطام، فلما رأى ذلك ابن الحر حمل على بسطام واعتنقه بسطام، فسقطا إلى الأرض، وسقط ابن الحر على صدر بسطام فأسره، وأسر يومئذ ناسا كثيرا، فكان الرجل يقول: أنا صاحبك يوم كذا، ويقول الآخر: أنا نازل فيكم، ويمت كل واحد منهم بما يرى إنه ينفعه، فيخلي سبيله، وبعث فوارس من أصحابه عليهم دلهم المرادي يطلبون الدهقان، فأصابوه، فأخذوا المال قبل القتال، فقال ابن الحر:
لو أن لي مثل جرير أربعه ... صبحت بيت المال حتى أجمعه
ولم يهلني مصعب ومن معه ... نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه
ثم إن عبيد الله أتى تكريت، فهرب عامل المهلب عن تكريت، فأقام عبيد الله يجبي الخراج، فوجه إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهما المهلب بيزيد بن المغفل في خمسمائة، فقال رجل من جعفي لعبيد الله: قد أتاك عدد كثير، فلا تقاتلهم، فقال:
يخوفني بالقتل قومي وإنما ... أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدني بأطرافها الغنى ... فنحيا كراما أو نكر فنقتل
فقال للمجشر ودفع إليه رايته، وقدم معه دلهما المرادي، فقاتلهم يومين وهو في ثلاثمائه، فخرج جرير بن كريب، وقتل عمرو بن جندب الأزدي وفرسان كثير من فرسانه، وتحاجزوا عند المساء،
(6/133)
وخرج عبيد الله من تكريت فقال لأصحابه: انى سائر بكم الى عبد الملك ابن مروان، فتهيئوا، وقال: إني أخاف أن أفارق الحياة ولم أذعر مصعبا وأصحابه، فارجعوا بنا إلى الكوفة قال: فسار إلى كسكر فنفى عاملها، وأخذ بيت ما لها، ثم أتى الكوفة فنزل لحام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب ورده، وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحر وعقرت خيولهم، وجرح المجشر، وكان معه لواء ابن الحر، فدفعه إلى أحمر طيئ، فانهزم حجار بن أبجر ثم كر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا، فقال ابن الحر:
لو أن لي مثل الفتى المجشر ... ثلاثة بيتهم لا أمتري
ساعدني ليلة دير الأعور ... بالطعن والضرب وعند المعبر
لطاح فيها عمر بن معمر.
وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رؤيم الشيباني- وهو بالمدائن- يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشبا فلقيه بباجسري، فهزمه عبيد الله وقتل فيهم، وأقبل ابن الحر فدخل المدائن، فتحصنوا، فخرج عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون حولايا، وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر، فقتله ابن الحر، وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا، فخرج إليه عبد الرحمن بن عبد الله، فحمل عليه ابن الحر فطعنه فقتله وهزم أصحابه، وتبعهم، فخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي، فالتقوا بسورا فاقتتلوا قتالا شديدا، فانحاز بشير عنه، فرجع إلى عمله، وقال: قد هزمت ابن الحر،
(6/134)
فبلغ قوله مصعبا، فقال: هذا من الذين يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا وأقام عبيد الله في السواد يغير ويجبي الخراج، فقال ابن الحر في ذلك:.
سلوا ابن رؤيم عن جلادي وموقفي ... بإيوان كسرى لا أوليهمُ ظهري
أكر عليهم معلما وتراهمُ ... كمعزى تحنى خشية الذئب بالصخر
وبيتهم في حصن كسرى بن هرمز ... بمشحوذة بيض وخطية سمر
فاجزيتهم طعنا وضربا تراهمُ ... يلوذون منا موهنا بذرا القصر
يلوذون متى رهبة ومخافة ... لواذا كما لاذ الحمائم من صقر
ثم إن عبيد الله بن الحر- فيما ذكر- لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه وجهه في عشرة نفر نحو الكوفة، وأمره بالمسير نحوها حتى تلحقه الجنود، فسار بهم، فلما بلغ الأنبار وجه إلى الكوفة من يخبر أصحابه بقدومه، ويسألهم أن يخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية، فأتوا الْحَارِث بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عامل ابن الزبير على الكوفة، فسألوه أن يبعث معهم جيشا، فوجه معهم، فلما لقوا عبيد الله قاتلهم ساعة، ثم غرقت فرسه، وركب معبرا فوثب عليه رجل من الأنباط فأخذ بعضديه وضربه الباقون بالمرادي، وصاحوا: إن هذا طلبة أمير المؤمنين، فاعتنقا فغرقا، ثم استخرجوه فجزوا رأسه، فبعثوا به إلى الكوفة ثم إلى البصرة.
قال أبو جعفر: وقد قيل في مقتله غير ذلك من القول، قيل: كان سبب مقتل عبيد الله ابن الحر أنه كان يغشى بالكوفة مصعبا، فرآه يقدم عليه أهل البصرة، فكتب إلى عبد الله بن الزبير- فيما ذكر- قصيدة يعاتب بها مصعبا ويخوفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان، يقول فيها:
(6/135)
ابلغ أمير المؤمنين رسالة ... فلست على رأي قبيح أواربه
أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب ... وزيريه من قد كنت فيه أحاربه!
فكيف وقد أبليتكم حق بيعتي ... وحقي يلوى عندكم واطالبه
وابليتكم مالا يضيّع مثله ... وآسيتكم والأمر صعب مراتبه
فلما استنار الملك وانقادت العدا ... وأدرك من مال العراق رغائبه
جفا مصعب عني ولو كان غيره ... لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه
لقد رابني من مصعب أن مصعبا ... أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه
وما أنا إن حلأتموني بوارد ... على كدر قد غص بالصفو شاربه
وما لا مرى إلا الذي الله سائق ... إليه وما قد خط في الزبر كاتبه
إذا قمت عند الباب أدخل مسلم ... ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه
وهي طويلة.
وقال لمصعب وهو في حبسه، وكان قد حبس معه عطية بن عمرو البكري، فخرج عطية، فقال عبيد الله:
أقول له صبرا عطي فإنما ... هو السجن حتى يجعل الله مخرجا
أرى الدهر لي يومين يوما مطردا ... شريدا ويوما في الملوك متوجا
أتطعن في ديني غداة أتيتكم ... وللدين تدنى الباهلي وحشرجا!
ألم تر أن الملك قد شين وجهه ... ونبع بلاد الله قد صار عوسجا!
وهي طويلة.
وقال أيضا يعاتب مصعبا في ذلك، ويذكر له تقريبه سويد ابن منجوف، وكان سويد خفيف اللحية:
بأي بلاء أم بأية نعمة ... تقدم قبلي مسلم والمهلب
(6/136)
ويدعى ابن منجوف أمامي كأنه ... خصي أتى للماء والعير يسرب
وشيخ تميم كالثغامة رأسه ... وعيلان عنا خائف مترقب
جعلت قصور الأزد ما بين منبج ... إلى الغاف من وادي عمان تصوب
بلاد نفى عنها العدو سيوفنا ... وصفره عنها نازح الدار أجنب
وقال قصيدة يهجو فيها قيس عيلان، يقول فيها:
أنا ابن بني قيس فإن كنت سائلا ... بقيس تجدهم ذروة في القبائل
ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل!
وما زلت أرجو الأزد حتى رأيتها ... تقصر عن بنيانها المتطاول
فكتب زفر بن الحارث إلى مصعب: قد كفيتك قتال ابن الزرقاء وابن الحر يهجو قيسا ثم إن نفرا من بني سليم أخذوا ابن الحر فأسروه، فقال: إني إنما قلت:
ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ... إلينا وسارت بالقنا والقنابل
فقتله رجل منهم يقال له عياش فقال زفر بن الحارث:
لما رأيت الناس أولاد علة ... وأغرق فينا نزغة كل قائل
تكلم عنا مشينا بسيوفنا ... إلى الموت واستنشاط حبل المراكل
فلو يسأل ابن الحر أخبر أنها ... يمانية لا تشترى بالمغازل
وأخبر أنا ذات علم سيوفنا ... بأعناق ما بين الطلى والكواهل
وقال عبد الله بن همام:
ترنمت يا بن الحر وحدك خاليا ... بقول امرئ نشوان أو قول ساقط
أتذكر قوما أوجعتك رماحهم ... وذبوا عن الأحساب عند المآقط
وتبكي لما لاقت ربيعة منهم ... وما أنت في أحساب بكر بواسط!
فهلا بجعفي طلبت ذحولها ... ورهطك دنيا في السنين الفوارط!
تركناهمُ يوم الثري أذلة يلوذون ... من أسيافنا بالعرافط
(6/137)
وخالطكم يوم النخيل بجمعه ... عمير فما استبشرتمُ بالمخالط
ويوم شراحيل جدعنا أنوفكم ... وليس علينا يوم ذاك بقاسط
ضربنا بحد السيف مفرق رأسه ... وكان حديثا عهده بالمواشط
فإن رغمت من ذاك آنف مذحج ... فرغما وسخطا للأنوف السواخط
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وافت عرفات أربعة ألوية، قال مُحَمَّد بن عمر: حدثنى شر حبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: وقفت في سنة ثمان وستين بعرفات أربعة ألوية: ابن الحنفية في أصحابه في لواء قام عند جبل المشاة، وابن الزبير في لواء، فقام مقام الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري خلفهما، ولواء بني أمية عن يسارهما، فكان أول لواء انفض لواء مُحَمَّد ابن الحنفية، ثم تبعه نجدة، ثم لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، واتبعه الناس.
قال مُحَمَّد: حدثني ابن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر لم يدفع تلك العشية إلا بدفعه ابن الزبير، فلما أبطأ ابن الزبير وقد مضى ابن الحنفية ونجدة وبنو أمية- قال ابن عمر: ينتظر ابن الزبير أمر الجاهلية- ثم دفع، فدفع ابن الزبير على أثره.
قال مُحَمَّد: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن مُحَمَّد بن جبير، عن أبيه، قال: خفت الفتنة، فمشيت إليهم جميعا، فجئت مُحَمَّد بن علي في الشعب، فقلت: يا أبا القاسم، اتق الله فإنا في مشعر حرام، وبلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجهم، فقال: والله ما أريد ذلك، وما أحول بين أحد وبين هذا البيت، ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي من ابن الزبير، وما يروم مني، وما أطلب هذا الأمر الا الا يختلف علي فيه اثنان! ولكن ائت ابن الزبير فكلمه، وعليك بنجدة، قال
(6/138)
مُحَمَّد: فجئت ابن الزبير فكلمته بنحو ما كلمت به ابن الحنفية، فقال:
أنا رجل قد اجتمع علي الناس وبايعوني، وهؤلاء أهل خلاف، فقلت:
أرى خيرا لك الكف، قال: أفعل، ثم جئت نجدة الحروري فأجده في أصحابه، وأجد عكرمة غلام ابن عباس عنده، فقلت له:
استأذن لي على صاحبك، قال: فدخل، فلم ينشب أن أذن لي، فدخلت فعظمت عليه، وكلمته كما كلمت الرجلين، فقال: اما ان ابتدى أحدا بقتال فلا، ولكن من بدأ بقتال قاتلته، قلت: فإني رأيت الرجلين لا يريدان قتالك، ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحو ما كلمت به القوم، فقالوا: نحن على الا نقاتل أحدا إلا أن يقاتلنا، فلم أر في تلك الألوية قوما أسكن ولا أسلم دفعة من ابن الحنفية.
قال أبو جعفر: وكان العامل لابن الزبير في هذه السنة على المدينة جابر ابن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة أخوه مصعب، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عقبة بن مسعود، وعلى خراسان عبد الله بن خازم السلمى، وبالشام عبد الملك ابن مروان.
(6/139)
ثم دخلت
سنه تسع وستين
ذكر خبر قتل عبد الملك سعيد بن عمرو
ففيها كان خروج عبد الملك بن مروان- فيما زعم الواقدي- إلى عين وردة، واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها، فبلغ ذلك عبد الملك، فرجع إلى دمشق، فحاصره- قال: ويقال:
خرج معه- فلما كان ببطنان حبيب، رجع إلى دمشق فتحصن فيها، ورجع عبد الملك إلى دمشق.
وأما عوانة بن الحكم فإنه قال- فيما ذكر هشام بن مُحَمَّد عنه: - إن عبد الملك بن مروان لما رجع من بطنان حبيب إلى دمشق مكث بدمشق ما شاء الله، ثم سار يريد قرقيسياء، وفيها زفر بن الحارث الكلابي ومعه عمرو بن سعيد، حتى إذا كان ببطنان حبيب فتك عمرو بن سعيد، فرجع ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي، حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو ابن سعيد هرب وترك عمله، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها.
وقال غيرهما: كانت هذه القصة في سنة سبعين وقال: كان مسير عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى شيء، فانصرف عنه عمرو راجعا إلى دمشق، فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق
(6/140)
رجع الحديث إلى حديث هشام، عن عوانة، قال: ولما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه، فأمر بداره فهدمت واجتمع الناس، وصعد المنبر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وإنه ليس إلي من ذلك شيء، غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية ونزل.
واصبح عبد الملك، ففقد عمرو وسعيد، فسأل عنه، فأخبر خبره، فرجع عبد الملك إلى دمشق، فإذا عمرو قد جلل دمشق المسوح فقاتله بها أياما، وكان عمرو بن سعيد إذا أخرج حميد بن حريث الكلبي على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي، وإذا أخرج عمرو بن سعيد زهير بن الأبرد الكلبي أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل الكلبي.
قال هشام حدثني عوانة، أن الخيلين تواقفتا ذات يوم، وكان مع عمرو بن سعيد رجل من كلب يقال له رجاء بن سراج، فقال رجاء:
يا عبد الرحمن بن سليم، ابرز- وكان عبد الرحمن مع عبد الملك- فقال عبد الرحمن: قد أنصف القارة من راماها، وبرز له، فاطعنا وانقطع ركاب عبد الرحمن، فنجا منه ابن سراج، فقال عبد الرحمن:
والله لولا انقطاع الركاب لرميت بما في بطنك من تبن، وما اصطلح عمرو وعبد الملك أبدا، فلما طال قتالهم جاء نساء كلب وصبيانهم فبكين وقلن لسفيان بن الأبرد ولابن بحدل الكلبي: علام تقتلون أنفسكم لسلطان قريش! فحلف كل واحد منهما الا يرجع حتى يرجع صاحبه، فلما أجمعوا على الرجوع نظروا فوجدوا سفيان أكبر من حريث، فطلبوا إلى حريث، فرجع ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وآمنه عبد الملك وذلك عشية الخميس.
قال هشام: فحدثني عوانة أن عمرو بن سعيد خرج في الخيل
(6/141)
متقلدا قوسا سوداء، فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب سرادق عبد الملك، فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو: يا أبا أمية، كأنك تشبه بتقلدك هذه القوس بهذا الحي من قيس! قال: لا، ولكني أتشبه بمن هو خير منهم، العاص بن أمية.
ثم قام مغضبا والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس، فبعث إلى عمرو أن أعط الناس أرزاقهم، فأرسل إليه عمرو:
أن هذا لك ليس ببلد فاشخص عنه فلما كان يوم الاثنين وذلك بعد دخول عبد الملك دمشق بأربع بعث إلى عمرو أن ائتني- وهو عند امرأته الكلبية، وقد كان عبد الملك دعا كريب بن أبرهة بن الصباح الحميري فاستشاره في أمر عمرو بن سعيد، فقال له: في هذا هلكت حمير، لا أرى لك ذلك، لا ناقتي في ذا ولا جملي- فلما أتى رسول عبد الملك عمرا يدعوه صادق الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو بن سعيد: يا أبا أمية، والله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وقد أرى هذا الرجل قد بعث إليك أن تأتيه، وأنا ارى لك الا تفعل، فقال له عمرو: ولم؟ قال: لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار.
قال: إن عظيما من عظماء ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل، فقال له عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه- وكان عبد الله بن يزيد زوج أم موسى بنت عمرو بن سعيد- فقال عمرو للرسول: أبلغه السلام، وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله فلما كان العشي لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهي وقميص قوهي، وتقلد سيفه وعنده امرأته الكلبية، وحميد بن حريث بن بحدل الكلبي، فلما نهض متوجها، عثر بالبساط، فقال له حميد: أما والله لئن أطعتني لم تأته، وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت إلى قولهم، ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده، فلما بلغ عبد الملك
(6/142)
أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له فدخل، ولم تزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى دخل عمرو قاعة الدار، وما معه إلا وصيف له، فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك، فإذا حوله بنو مروان، وفيهم حسان ابن مالك بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، فلما رأى جماعتهم أحس بالشر، فالتفت إلى وصيفه فقال: انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد، فقل له يأتيني فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له: لبيك! فقال له: اغرب عني في حرق الله وناره وقال عبد الملك لحسان وقبيصة: إذا شئتما فقوما فالتقيا وعمرا في الدار، فقال عبد الملك لهما كالمازح ليطمئن عمرو بن سعيد: أيكما أطول؟ فقال حسان: قبيصة يا أمير المؤمنين أطول مني بالإمرة، وكان قبيصة على الخاتم ثم التفت عمرو إلى وصيفه فقال: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني، فقال له: لبيك، ولم يفهم عنه، فقال له عمرو: اغرب عني، فلما خرج حسان وقبيصة أمر بالأبواب فغلقت، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: هاهنا يا أبا أمية، يرحمك الله! فأجلسه معه على السرير، وجعل يحدثه طويلا، ثم قال:
يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: أو تطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك! فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية! فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو:
قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس! فقال عبد الملك: أمكرا أبا أمية عند الموت! لاها الله إذا! ما كنا
(6/143)
لنخرجك في جامعة على رءوس الناس، ولما نخرجها منك إلا صعدا.
ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو:
أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك إلى كسر عظم مني أن تركب ما هو أعظم من ذلك فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقي عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على مثل ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه فلما رأى عمرو أن ثنيته قد اندقت وعرف الذي يريد عبد الملك، قال: أغدرا يا بن الزرقاء! وقيل: إن عبد الملك لما جذب عمرا فسقطت ثنيته جعل عمرو يمسها، فقال عبد الملك له: أرى ثنيتك قد وقعت منك موقعا لا تطيب نفسك بعدها فأمر به فضرب عنقه.
رجع الحديث إلى حديث عوانة وأذن المؤذن العصر، فخرج عبد الملك يصلي بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتله، فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي، وليتول ذلك من هو أبعد رحما منك! فألقى عبد العزيز السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل، وغلقت الأبواب ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس عمرو معه، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد فأقبل في الناس حتى حل بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو، وأناس بعد من أصحابه كثير، فجعل من كان معه يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! وأقبل مع يحيى بن سعيد حميد بن حريث وزهير بن الأبرد فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد لعمرو بن سعيد يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله ابراهيم ابن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلى فوجد عمرا حيا، فقال لعبد العزيز: ما منعك من أن تقتله! قال:
(6/144)
منعني أنه ناشدني الله والرحم فرققت له فقال له عبد الملك: أخزى الله أمك البوالة على عقبيها، فإنك لم تشبه غيرها- وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وذلك قول ابن الرقيات:
ذاك ابن ليلى عبد العزيز ... ببابليون تغدو جفانه رذما
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام، ائتني بالحربة فأتاه بالحربة فهزها، ثم طعنه بها فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مس الدرع، فضحك، ثم قال: ودارع أيضا يا أبا أمية! إن كنت لمعدا! يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك رعدة- وكذلك الرجل زعموا يصيبه إذا قتل ذا قرابة له- فحمل عبد الملك عن صدره فوضع على سريره، فقال:
ما رأيت مثل هذا قط، قتله صاحب دنيا ولا طالب آخره ودخل يحيى ابن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن كان معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى واصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ المال في البدور، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا الرأس انتهبوا الأموال وتفرقوا وقد قيل: إن عبد الملك ابن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى الناس وإلى أصحابه.
قال هشام: قال عوانة: فحدثت أن عبد الملك أمر بتلك الأموال التي طرحت إلى الناس فجبيت حتى عادت كلها إلى بيت المال، ورمي يحيى بن سعيد يومئذ في رأسه بصخرة، وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى
(6/145)
المسجد، وخرج فجلس عليه، وفقد الوليد بن عبد الملك فجعل يقول:
ويحكم! أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فقال: هذا الوليد عندي، قد أصابته جراحة، وليس عليه بأس، فأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد! فأمر بيحيى فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام اليه عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها! فأمر بعنبسه فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان، فقال: اذكرك لك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها! فأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب رأسه عبد الملك بقضيب خيزران كان معه، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي! قال: نعم، لأن عمرا أكرمني وأهنتني، وأدناني وأقصيتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلي، فكنت معه عليك فأمر به عبد الملك أن يقتل، فقام عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي! فوهبه له وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر ثم إن عبد الملك صعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس فقال: يا أمير المؤمنين، هل تلد الحية إلا حية! نرى والله أن تقتله فإنه منافق عدو ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما قد صنعت، ولست لهم بآمن، ولا أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم بيد غيرك، وإن هم سلموا ورجعوا رأيت فيهم رأيك.
فأخذ برأيه، وأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير، فلما قدموا عليه دخل يحيى بن سعيد، فقال له ابن الزبير: انفلت وانحص الذنب، فقال: والله إن الذنب لبهلبه ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته
(6/146)
لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربه، وكان عمرو بن سعيد وعبد الملك يلتقيان في النسب إلى أمية، وكانت أم عمرو أم البنين ابنة الحكم ابن أبي العاص عمة عبد الملك قال هشام: فحدثنا عوانة أن الذي كان بين عبد الملك وعمرو كان شرا قديما، وكان ابنا سعيد أمهما أم البنين، وكان عبد الملك ومعاوية ابني مروان، فكانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أم مروان بن الحكم الكنانية يتحدثون عندها، فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود، وكانت أم مروان إذا أتوها هيأت لهم طعاما، ثم تأتيهم به فتضع بين يدي كل رجل صحفة على حدة، وكانت لا تزال تؤرش بين معاويه ابن مروان ومُحَمَّد بن سعيد، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد، فيقتتلون ويتصارمون الحين، لا يكلم بعضهم بعضا، وكانت تقول: إن لم يكن عند هذين عقل فعند هذين، فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم.
وذكر أن عبد الله بن يزيد القسري أبا خالد كان مع يحيى ابن سعيد حيث دخل المسجد فكسر باب المقصورة، فقاتل بني مروان، فلما قتل عمرو وأخرج رأسه إلى الناس ركب عبد الله وأخوه خالد فلحقوا بالعراق، فأقام مع ولد سعيد وهم مع مصعب حتى اجتمعت الجماعة على عبد الملك، وقد كانت عين عبد الله بن يزيد فقئت يوم المرج، وكان مع ابن الزبير يقاتل بني أمية، وإنه دخل على عبد الملك بعد الجماعة، فقال: كيف أنتم آل يزيد؟ فقال عبد الله: حرباء حرباء، فقال عبد الملك: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ*، وما الله بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ*.
قال هشام عن عوانة: إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومُحَمَّد، فلما نظر إليهم عبد الملك قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم
(6/147)
يكن حديثا، بل كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية.
فأقطع بأمية بن عمرو- وكان أكبرهم- فلم يقدر أن يتكلم، وكان أنبلهم وأعقلهم، فقام سعيد بن عمرو وكان الأوسط فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعي علينا أمرا كان في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، فوعدنا جنة، وحذرنا نارا! وأما الذي كان بينك وبين عمرو فان عمرا ابن عملك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو الى الله، وكفى بالله حسيبا، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك رقة شديدة، وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم، وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم! فأحسن جائزتهم، ووصلهم وقربهم.
وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: عجب منك ومن عمرو بن سعيد، كيف أصبت غرته فقتلته! فقال عبد الملك:
دانيته مني ليسكن روعه ... فأصول صولة حازم مستمكن
غضبا ومحمية لديني أنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن
قال عوانة: لقي رجل سعيد بن عمرو بن سعيد بمكة، فقال له: ورب هذه البنية، ما كان في القوم مثل أبيك، ولكنه نازع القوم ما في أيديهم فعطب.
وكان الواقدي يقول: إنما كان في سنة تسع وستين بين عبد الملك ابن مروان وعمرو بن سعيد الحصار، وذلك أن عمرو بن سعيد تحصن بدمشق فرجع عبد الملك إليه من بطنان حبيب، فحاصره فيها، وأما قتله إياه فإنه كان في سنة سبعين.
وفي هذه السنة حكم محكم من الخوارج بالخيف من منى فقتل عند الجمرة، ذكر محمد بن عمر أن يحيى بن سعيد بن دينار حدثه عن
(6/148)
أبيه، قال: رأيته عند الجمرة سل سيفه، وكانوا جماعة فأمسك الله بأيديهم، وبدر هو من بينهم، فحكم، فمال الناس عليه فقتلوه.
وأقام الحج للناس فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ.
وكان عامله فيها على المصرين: الكوفة والبصرة أخوه مصعب بن الزبير وكان على قضاء الْكُوفَة شريح وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى خُرَاسَان عَبْد اللَّهِ بن خازم.
(6/149)
ثم دخلت
سنه سبعين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة ثارت الروم، واستجاشوا على من بالشام من ذلك من المسلمين، فصالح عبد الملك ملك الروم، على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على المسلمين.
وفيها شخص- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر- مصعب بن الزبير إلى مكة فقدمها بأموال عظيمة، فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال، فأرسل إلى عبد الله بن صفوان وجبير بن شيبة، وعبد الله بن مطيع مالا كثيرا، ونحر بدنا كثيرة.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير.
وكان عماله على الأمصار في هذه السنة عماله في السنة التي قبلها على المعاون والقضاء.
(6/150)
ثم دخلت
سنه إحدى وسبعين
ذكر ما كان فيها من الأحداث فمن ذلك
مسير عبد الملك بن مروان فيها إلى العراق لحرب مصعب بن الزبير،
وكان عبد الملك- فيما قيل- لا يزال يقرب من مصعب، حتى يبلغ بطنان حبيب، ويخرج مصعب إلى باجميرا، ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه، ثم يعودان، فقال عدي بن زيد بن عدي بن الرقاع العاملي:
لعمري لقد أصحرت خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب
إذا ما منافق أهل العراق ... عوتب ثمت لم يعتب
دلفنا إليه بذي تدرإ ... قليل التفقد للغيب
يهزون كل طويل القناة ... ملتئم النصل والثعلب
كأن وعاهم إذا ما غدوا ... ضجيج قطا بلد مخصب
فقدمنا واضح وجهه ... كريم الضرائب والمنصب
أعين بنا ونصرنا به ... ومن ينصر الله لم يغلب
(6/151)
فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: أقبل عبد الملك من الشام يريد مصعبا- وذلك قبل هذه السنة، في سنة سبعين- ومعه خالد بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فَقَالَ خالد لعبد الملك: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلب لك عليها، فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا في مواليه وخاصته، حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي.
قال عمر: قال أبو الحسن: قال مسلمة بن محارب: أجار عمرو بن أصمع خالدا، وأرسل إلى عباد بن الحصين وهو على شرطة ابن معمر- وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عليها عبيد الله بن عبيد الله بن معمر- ورجا عمرو بن أصمع ان يبايعه عباد بن الحصين- باتى قد اجرت خالدا فأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهرا فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل فقال عمرو لخالد: إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة، ولا والله ما أقدر على منعك، ولكن عليك بمالك بن مسمع قال أبو زيد: قال أبو الحسن: ويقال إنه نزل على علي بن أصمع، فبلغ ذلك عبادا فأرسل إليه عباد: أني سائر إليك.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن محمد، عن مسلمة وعوانة أن خالدا خرج من عند ابن أصمع يركض، عليه قميص قوهي رقيق، قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين، حتى أتى مالكا، فقال: إني قد اضطررت إليك، فأجرني، قال: نعم، وخرج هو وابنه، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فكانت أول راية أتته راية بني يشكر وأقبل عباد في الخيل، فتواقفوا، ولم يكن بينهم، فلما كان من الغد غدوا الى حفره نافع بن الحارث التي نسبت بعد إلى خالد، ومع خالد رجال من بني تميم قد أتوه، منهم صعصعة بن معاوية، وعبد العزيز بن
(6/152)
بشر، ومرة بن محكان، في عدد منهم، وكان أصحاب خالد جفرية ينسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، فكان من الجفرية عبيد الله بن أبي بكرة وحمران والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية قيس بن الهيثم السلمي، وكان يستأجر الرجال يقاتلون معه، فتقاضاه رجل أجرة فقال: غدا أعطيكها، فقال غطفان بن أنيف، أحد بن كعب بن عمرو:
لبئس ما حكمت يا جلاجل ... النقد دين والطعان عاجل
وأنت بالباب سمير آجل.
وكان قيس يعلق في عنق فرسه جلاجل، وكان على خيل بني حنظله عمرو بن وبرة القحيفي، وكان له عبيد يؤاجرهم بثلاثين ثلاثين كل يوم، فيعطيهم عشرة عشرة، فقيل له:
لبئس ما حكمت يا بن وبره ... تعطى ثلاثين وتعطي عشره
ووجه المصعب زحر بن قيس الجعفي مددا لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مددا لخالد، فكره أن يدخل البصرة، وأرسل مطر بن التوءم فرجع إليه فأخبره بتفرق الناس، فلحق بعبد الملك.
قال أبو زيد: قال أبو الحسن: فحدثني شيخ من بني عرين، عن السكن بن قتادة، قال: اقتتلوا أربعة عشرين يوما، وأصيبت عين مالك، فضجر من الحرب، ومشت السفراء، بينهم يوسف بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فصالحه، على أن يخرج خالدا وهو آمن، فأخرج خالدا من البصره، وخاف الا يجيز المصعب أمان عبيد الله، فلحق مالك بثأج، فقال الفرزدق يذكر مالكا ولحوق التميمية به وبخالد:
عجبت لأقوام تميم أبوهمُ ... وهم في بني سعد عظام المبارك
(6/153)
وكانوا أعز الناس قبل مسيرهم ... إلى الأزد مصفرا لحاها ومالك
فما ظنكم بابن الحواري مصعب ... إذا افتر عن أنيابه غير ضاحك
ونحن نفينا مالكا عن بلاده ... ونحن فقأنا عينه بالنيازك
قال أبو زيد: قال أبو الحسن: حدثني مسلمة أن المصعب لما انصرف عبد الملك إلى دمشق لم يكن له همة إلا البصرة، وطمع أن يدرك بها خالدا، فوجده قد خرج، وأمن ابن معمر الناس، فأقام أكثرهم، وخاف بعضهم مصعبا فشخص، فغضب مصعب على ابن معمر، وحلف الا يوليه، وأرسل إلى الجفرية فسبهم وأنبهم.
قال أبو زيد: فزعم المدائني وغيره من رواة أهل البصرة أنه أرسل إليهم فأتي بهم، فأقبل على عبيد الله بن أبي بكرة، فقال: يا بن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب، فجاءت بأحمر وأسود وأصفر من كل كلب بما يشبهه، وإنما كان أبوك عبدا نزل الى رسول الله ص من حصن الطائف، ثم أقمتم البينة تدعون أن أبا سفيان زنى بأمكم، أما والله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم ثم دعا بحمران فقال: يا بن اليهودية، إنما أنت علج نبطي سبيت من عين التمر ثم قال للحكم بن المنذر بن الجارود: يا بن الخبيث، أتدري من أنت ومن الجارود! إنما كان الجارود علجا بجزيرة ابن كاوان فارسيا، فقطع إلى ساحل البحر، فانتمى إلى عبد القيس، ولا والله ما أعرف حيا أكثر اشتمالا على سوءة منهم ثم أنكح أخته المكعبر الفارسي فلم يصب شرفا قط أعظم منه، فهؤلاء ولدها يا بن قباذ ثم أتي بعبد الله بن فضالة الزهراني فقال: ألست من أهل هجر ثم من أهل سماهيج! أما والله لآردنك إلى نسبك ثم أتي بعلي بن أصمع، فقال: أعبد لبني تميم مرة وعزي من باهلة! ثم أتي بعبد العزيز بن بشر بن حناط فقال: يا بن المشتور، ألم يسرق عمك عنزا في عهد عمر، فأمر به فسير ليقطعه! أما والله ما أعنت إلا
(6/154)
من ينكح أختك- وكانت أخته تحت مقاتل بن مسمع- ثم أتي بأبي حاضر الأسدي فقال: يا بن الإصطخرية، ما أنت والأشراف! وإنما أنت من أهل قطر دعي في بني أسد، ليس لك فيهم قريب ولا نسيب ثم أتي بزياد بن عمرو فقال: يا بن الكرماني، إنما أنت علج من أهل كرمان قطعت الى فارس فصرت ملاحا، مالك وللحرب! لأنت بجر القلس أحذق ثم أتي بعبد الله بن عثمان بن أبي العاص فقال: أعلي تكثر وأنت علج من أهل هجر، لحق أبوك بالطائف وهم يضمون من تأشب إليهم يتعززون به! أما والله لأردنك إلى أصلك ثم أتي بشيخ بن النعمان فقال: يا بن الخبيث، انما أنت علج من اهل زند ورد، هربت أمك وقتل أبوك، فتزوج أخته رجل من بني يشكر، فجاءت بغلامين، فألحقناك بنسبهما، ثم ضربهم مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وهدم دورهم، وصهرهم في الشمس ثلاثا، وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة، وأحلفهم ألا ينكحوا الحرائر وبعث مصعب خداش بن يزيد الأسدي في طلب من هرب من أصحاب خالد، فأدرك مرة بن محكان فأخذه، فقال مرة:
بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ... تميما إذا الحرب العوان اشمعلت
بني أسد هل فيكمُ من هوادة ... فتعفون إن كانت بي النعل زلت
فلا تحسب الأعداء إذ غبت عنهمُ ... وأوريت معنا أن حربيَ كلت
تمشى خداش في الأسكة آمنا ... وقد نهلت مني الرماح وعلت
فقربه خداش فقتله- وكان خداش على شرطة مصعب يومئذ- وأمر مصعب سنان بن ذهل أحد بني عمرو بن مرثد بدار مالك بن
(6/155)
مسمع فهدمها، وأخذ مصعب ما كان في دار مالك، فكان فيما أخذ جارية ولدت له عمر بن مصعب قال: وأقام مصعب بالبصرة حتى شخص إلى الكوفة، ثم لم يزل بالكوفة حتى خرج لحرب عبد الملك، ونزل عبد الملك مسكن، وكتب عبد الملك إلى المروانية من أهل العراق، فأجابه كلهم وشرط عليه ولاية أصبهان، فأنعم بها لهم كلهم، منهم حجار ابن أبجر، والغضبان بن القبعثرى، وعتاب بن ورقاء، وقطن بن عبد الله الحارثي، ومُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وزحر بن قيس، ومحمد ابن عمير، وعلى مقدمته مُحَمَّد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار إليه مصعب وقد خذله أهل الكوفة.
قال عروة بن المغيرة بن شعبة: فخرج يسير متكئا على معرفة دابته، ثم تصفح الناس يمينا وشمالا فوقعت عينه علي، فقال: يا عروة، إلي، فدنوت منه، فقال: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فقال:
إن الألى بالطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
قال: فعلمت أنه لا يريم حتى يقتل، وكان عبد الملك- فيما ذكر محمد بن عمر عن عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بن أبي قره، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة- قال: لما قتل عمرو بن سعيد وضع السيف فقتل من خالفه، فلما أجمع بالمسير إلى مصعب وقد صفت له الشام وأهلها خطب الناس وأمرهم بالتهيؤ إلى مصعب، فاختلف عليه رؤساء أهل الشام من غير خلاف لما يريده، ولكنهم أحبوا أن يقيم ويقدم الجيوش، فإن ظفروا فذاك، وإن لم يظفروا أمدهم بالجيوش خشية على الناس إن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أقمت مكانك وبعثت على هؤلاء الجيوش رجلا من أهل بيتك، ثم
(6/156)
سرحته إلى مصعب! فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجئت إلى ذلك ومصعب في بيت شجاعة، أبوه أشجع قريش، وهو شجاع ولا علم له بالحرب يحب الخفض، ومعه من يخالفه ومعي من ينصح لي فسار عبد الملك حتى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا، وكتب عبد الملك إلى شيعته من أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال: ما فيه؟ فقال: ما قرأته، فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس منه مني، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم قال: إذا لا تناصحنا عشائرهم قال: فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعنقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم فقال: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه! حدثني عمر، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سلام، عن عبد القاهر بن السري، قال: هم أهل العراق بالغدر بمصعب، فقال قيس بن الهيثم:
ويحكم! لا تدخلوا أهل الشام عليكم، فو الله لئن تطعموا بعيشكم ليصفين عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف وأحدنا على ألف بعير، وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه.
قال: ولما تدانى العسكران بدير الجاثليق من مسكن، تقدم إبراهيم بن الأشتر فحمل على مُحَمَّد بن مروان فأزاله عن موضعه، فوجه عبد الملك بن مروان عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقرب من محمد بن
(6/157)
مروان والتقى القوم فقتل مسلم بن عمرو الباهلى، وقتل يحيى ابن مبشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع، وقتل ابراهيم بن الاشتر، فهرب عتاب ابن ورقاء- وكان على الخيل مع مصعب- فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثي: أبا عثمان، قدم خيلك، قَالَ: ما أرى ذلك، قَالَ: ولم؟
قَالَ: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء، فقال لحجار بن أبجر:
أبا أسيد، قدم رايتك، قال: إلى هذه العذرة! قال: ما تتأخر إليه والله أنتن وألأم، فقال لمُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك، فقال: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله، فقال مصعب: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم! حدثني أبو زيد، قال: حدثني مُحَمَّد بن سلام، قال: أخبر ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس، قال: افمعه المهلب بن ابى صفره؟
قيل: لا، استعمله على الموصل، قال: أفمعه عباد بن الحصين؟ قيل:
لا، استخلفه على البصرة، فقال: وأنا بخراسان!
خذيني فجريني جعار وابشرى ... بلحم امرى لم يشهد اليوم ناصره
فقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب: يا بني، اركب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره ما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول.
فقال ابنه: والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن إن أردت ذلك فالحق بالبصرة فهم على الجماعة، أو الحق بأمير المؤمنين قال مصعب: والله لا تتحدث قريش أني فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة ولا خلق، ولكن إن أردت أن ترجع فارجع فقاتل فرجع فقاتل حتى قتل.
قال علي بن مُحَمَّد عن يحيى بن إسماعيل بن أبي المهاجر، عن أبيه
(6/158)
أن عبد الملك أرسل إلى مصعب مع أخيه مُحَمَّد بن مروان: أن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا.
وقال الهيثم بن عدي: حدثنا عبد الله بن عياش، عن أبيه، قال:
إنا لوقوف مع عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعبا إذ دنا زياد بن عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، قلما أرادني مصعب بسوء إلا دفعه عني، فإن رأيت أن تؤمنه على جرمه! قال: هو آمن، فمضى زياد- وكان ضخما على ضخم- حتى صار بين الصفين، فصاح: أين أبو البختري إسماعيل بن طلحة؟ فخرج إليه، فقال: إني أريد أن أذكر لك شيئا، فدنا حتى اختلفت أعناق دوابهما- وكان الناس ينتطقون بالحواشي المحشوة- فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه- وكان نحيفا- فقال: أنشدك الله يا أبا المغيرة، إن هذا ليس بالوفاء لمصعب، فقال: هذا أحب الى من أن أراك غدا مقتولا.
ولما أبى مصعب قبول الأمان نادى مُحَمَّد بن مروان عيسى بن مصعب وقال له: يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان، فقال له مصعب:
قد آمنك عمك فامض إليه، قال: لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل، قال: فتقدم بين يدي أحتسبك، فقاتل بين يديه حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي، ونظر إليه زائدة بن قدامة فشد عليه فطعنه، وقال: يا لثأرات المختار! فصرعه، ونزل اليه عبيد الله ابن زياد بن ظبيان، فاحتز رأسه، وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد فأتي به عبد الملك بن مروان فأثابه ألف دينار، فأبى أن يأخذها، وقال: إني لم أقتله على طاعتك، إنما قتلته على وتر صنعه بي، ولا آخذ في حمل رأس مالا فتركه عند عبد الملك.
وكان الوتر الذي ذكره عبيد الله بن زياد بن ظبيان أنه قتل عليه مصعبا أن مصعبا كان ولي في بعض ولايته شرطه مطرف بن سيدان الباهلي ثم أحد بني جأوة
(6/159)
فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني أبو الحسن المدائني ومخلد بن يحيى بن حاضر، ان مطرفا اتى بالنابى بن زياد بن ظبيان ورجل من بني نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ، وضرب النميري بالسياط فتركه، فجمع له عبيد الله بن زياد بن ظبيان جمعا بعد أن عزله مصعب عن البصرة وولاه الأهواز، فخرج يريده، فالتقيا فتواقفا وبينهما نهر، فعبر مطرف إليه النهر، وعاجله ابن ظبيان فطعنه فقتله، فعبث مصعب مكرم بن مطرف في طلب ابن ظبيان، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق ابن ظبيان ولحق ابن ظبيان بعبد الملك لما قتل أخوه، فقال البعيث اليشكري بعد قتل مصعب يذكر ذلك:
ولما رأينا الأمر نكسا صدوره ... وهم الهوادي أن تكن تواليا
صبرنا لأمر الله حتى يقيمه ... ولم نرض إلا من أمية واليا
ونحن قتلنا مصعبا وابن مصعب ... أخا أسد والنخعي اليمانيا
ومرت عقاب الموت منا بمسلم ... فأهوت له نابا فأصبح ثاويا
سقينا ابن سيدان بكأس روية ... كفتنا، وخير الأمر ما كان كافيا
حدثني أبو زيد، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: مر ابن ظبيان بابنة مطرف بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيك، فقالت:
في سبيل الله أبي، فقال ابن ظبيان:
فلا في سبيل الله لاقى حمامه ... أبوك ولكن في سبيل الدراهم
فلما قتل مصعب دعا عبد الملك بن مروان أهل العراق إلى البيعة، فبايعوه، وكان مصعب قتل على نهر يقال له الدجيل عند دير الجاثليق فلما قتل أمر به عبد الملك وبابنه عيسى فدفنا ذكر الواقدي عن عثمان بن مُحَمَّد، عن أبي بكر بن عمر، عن عروة
(6/160)
قال: قال عبد الملك حين قتل مصعب: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم.
قال أبو زيد: وحدثني أبو نعيم، قال: حدثني عبد الله بن الزبير أبو أبي أحمد، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك العامري، قَالَ: إني لواقف إلى جنب مصعب بن الزبير فأخرجت له كتابا من قبائي، فقلت له: هذا كتاب عبد الملك، فقال: ما شئت، قال: ثم جاء رجل من أهل الشام فدخل عسكره، فاخرج جاريه فصاحت: وا ذلاه! فنظر إليها مصعب، ثم أعرض عنها.
قال: وأتي عبد الملك برأس مصعب، فنظر إليه فقال: متى تغدو قريش مثلك! وكانا يتحدثان إلى حبى، وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب، فقالت: تعس قاتله، قيل: قتله عبد الملك بن مروان، قالت: بأبي القاتل والمقتول! قال: وحج عبد الملك بعد ذلك، فدخلت عليه حبى، فقالت:
أقتلت أخاك مصعبا؟ فقال:
من يذق الحرب يجد طعمها ... مرا وتتركه بجعجاع
وقال ابن قيس الرقيات:
لقد أورث المصرين خزيا وذلة ... قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل ... ولا صبرت عند اللقاء تميم
ولو كان بكريا تعطف حوله ... كتائب يغلي حميها ويدوم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ... بها مضري يوم ذاك كريم
جزى الله كوفيا هناك ملامة ... وبصريهم إن المليم مليم
وإن بني العلات أخلوا ظهورنا ... ونحن صريح بينهم وصميم
(6/161)
فان نفن لا يبقوا ولا يك بعدنا ... لذي حرمة في المسلمين حريم
قال أبو جعفر: وقد قيل: إن ما ذكرت من مقتل مصعب والحرب التي جرت بينه وبين عبد الملك كانت في سنة اثنتين وستين، وان امر خالد ابن عبد الله بن خالد بن أسيد ومصيره إلى البصرة من قبل عبد الملك كان في سنة إحدى وسبعين، وقتل مصعب في جمادى الآخرة
. ذكر الخبر عن دخول عبد الملك بن مروان الكوفه
وفي هذه السنة دخل عبد الملك بن مروان الكوفة وفرق أعمال العراق والمصرين الكوفة والبصرة على عماله في قول الواقدي، وأما أبو الحسن فإنه ذكر أن ذلك في سنة اثنتين وسبعين.
وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قتل مصعب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الآخرة سنة اثنتين وسبعين.
ولما أتي عبد الملك الكوفة- فيما ذكر- نزل النخيلة، ثم دعا الناس إلى البيعة، فجاءت قضاعة، فرأى قلة، فقال: يا معشر قضاعة، كيف سلمتم من مضر مع قلتكم! فقال: عبد الله بن يعلى النهدي:
نحن أعز منهم وأمنع، قال: بمن؟ قال: بمن معك منا يا امير المؤمنين.
ثم جاءت مذجح وهمدان فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا ثم جاءت جعفي، فلما نظر إليهم عبد الملك قال: يا معشر جعفي، اشتملتم على ابن أختكم، وواريتموه؟ يعني يحيى بن سعيد بن العاص- قالوا: نعم، قال: فهاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون أيضا! فقال رجل منهم: إنا والله ما نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحب عليه تسحب الولد على والده، فقال: أما والله لنعم الحي أنتم، إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والاسلام، هو آمن، فجاءوا به وكان يكنى أبا أيوب، فلما نظر إليه عبد الملك قال أبا قبيح، بأي وجه تنظر إلى ربك وقد
(6/162)
خلعتني! قال: بالوجه الذي خلقه، فبايع ثم ولى فنظر عبد الملك في قفاه فقال: لله دره! أي ابن زوملة هو! يعني غريبة.
وقال علي بن مُحَمَّد: حدثني القاسم بن معن وغيره أن معبد بن خالد الجدلي قال: ثم تقدمنا إليه معشر عدوان، قال: فقدمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخرت- وكان معبد دميما- فقال عبد الملك: من؟
فقال الكاتب: عدوان، فقال عبد الملك:
عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادات ... والموفون بالقرض
ثم أقبل على الجميل فقال: إيه! فقال: لا أدري، فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي
ومنهم من يجيز ... الحج بالسنة والفرض
وهم مذ ولدوا شبوا ... بسر النسب المحض
قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال: من هو؟ قال:
لا أدري، فقلت من خلفه: ذو الإصبع، قال: فأقبل على الجميل فقال:
ولم سمى ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه فقطعتها، فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟
فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: حرثان بن الحارث، فأقبل على الجميل، فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: من بني ناج، فقال:
أبعد بني ناج وسعيك بينهم ... فلا تتبعن عينيك ما كان هالكا
(6/163)
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ... يقول وهيب: لا أصالح ذلكا
فأضحى كظهر العير جب سنامه ... تطيف به الولدان أحدب باركا
ثم أقبل على الجميل، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، فقال لي:
في كم أنت؟ قلت: في ثلاثمائة، فأقبل على الكاتبين، فقال: حطا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا، فرجعت وأنا في سبعمائة، وهو في ثلاثمائة ثم جاءت كندة فنظر إلي عبد الله بن إسحاق بن الأشعث، فأوصى به بشرا أخاه، وقال: اجعله في صحابتك وأقبل داود بن قحذم في مائتين من بكر بن وائل، عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك، ثم نهض ونهضوا معه فأتبعهم عبد الملك بصره، فقال: هؤلاء الفساق، والله لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة.
ثم إنه ولى- فيما قيل- قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، وولى بشر بن مروان وصعد منبر الكوفة فخطب فقال:
إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم ثم قال: إني قد استعملت عليكم بشر بن مروان، وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
817 واستعمل مُحَمَّد بن عمير على همذان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق العمال، ولم يف لأحد شرط عليه ولاية أصبهان، ثم قال: علي هؤلاء الفساق الذين انغلوا الشام، وأفسدوا العراق، فقيل:
قد أجارهم رؤساء عشائرهم، فقال: وهل يجير علي أحد! وكان عبد الله بن يزيد بن أسد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وعمرو بن زيد الحكمي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فآمنهم عبد الملك، فظهروا
(6/164)
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تنازع الرياسة بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان، فحدثني عمر بن شبة قال: حدثني علي بن مُحَمَّد قال: لما قتل المصعب وثب حمران بن أبان وعبيد الله بن أبي بكرة فتنازعا في ولاية البصرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم غناء منك، أنا كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة، فاستعن بعبد الله بن الأهتم، فإنه إن أعانك لم يقو عليك ابن أبي بكرة، ففعل، وغلب حمران على البصرة وابن الأهتم على شرطها.
وكان لحمران منزلة عند بني أمية، حدثني أبو زيد قال: حدثني أبو عاصم النبيل قال: أخبرني رجل قال: قدم شيخ أعرابي فرأى حمران فقال: من هذا؟ فقالوا: حمران، فقال: لقد رأيت هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه قال أبو زيد:
قال أبو عاصم: فحدثت بذلك رجلا من ولد عبد الله بن عامر، فقال:
حدثني أبي أن حمران مد رجله فابتدر معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها
. ذكر خبر ولايه خالد بن عبد الله على البصره
وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا، حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: مكث حمران على البصرة يسيرا، وخرج ابن أبي بكرة حتى قدم على عبد الملك الكوفة بعد مقتل مصعب، فولى عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة وأعمالها، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة خليفته على البصرة، فلما قدم على حمران، قال: أقد جئت لا جئت! فكان ابن أبي بكرة على البصرة حتى قدم خالد.
وفي هذه السنة رجع عبد الملك- فيما زعم الواقدي- إلى الشام
(6/165)
قال: وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف قال: وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة، وأقام طارق بالمدينة حتى كتب إليه عبد الملك.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة عَبْد اللَّهِ بن الزبير في قول الواقدى
. خطبه عبد الله بن الزبير بعد مقتل مصعب
وذكر أبو زيد عن أبي غسان مُحَمَّد بن يحيى، قال: حدثنى مصعب ابن عثمان، قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل مصعب قام في الناس فقال:
الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه، وإن كان فردا، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طرا ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر حزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب رحمة الله عليه، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي حزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، ولئن أصبت بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني إلا أن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف ألا انما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر لا ابك عليها بكاء الحرق المهين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
(6/166)
وذكر أن عبد الملك لما قتل مصعبا ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصنع، وأمر به إلى الخورنق، وأذن إذنا عاما، فدخل الناس فأخذوا مجالسهم، فدخل عمرو بن حريث المخزومي فقال: إلي وعلى سريري، فأجلسه معه، ثم قال: أي الطعام أكلت أحب إليك وأشهى عندك؟ قال:
عناق حمراء قد أجيد تمليحها، وأحكم نضجها، قال:
ما صنعت شيئا، فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه، وأحكم نضجه، اختلجت إليك رجله، فأتبعتها يده، غذي بشريجين من لبن وسمن ثم جاءت الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك بن مروان: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم! ولكنا كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان
فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث: لمن هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك:
وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إلى كان
ثم أتى مجلسه فاستلقى، وقال:
اعمل على مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائن قد كان
وفي هذه السنة افتتح عبد الملك- في قول الواقدي- قيساريه.
(6/167)
ثم دخلت
سنة اثنتين وسبعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) قال أبو جعفر: فمن ذلك ما كان من امر الخوارج وامر المهلب بن ابى ضفره وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف أن حصيرة بن عبد الله وأبا زهير العبسي حدثاه أن الأزارقة والمهلب بعد ما اقتتلوا بسولاف ثمانية أشهر أشد القتال، أتاهم أن مصعب بن الزبير قد قتل، فبلغ ذلك الخوارج قبل أن يبلغ المهلب وأصحابه، فناداهم الخوارج: ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: فهو وليكم في الدنيا والآخرة؟ قالوا:
نعم، قالوا: وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا؟ قالوا: ونحن أولياؤه أحياء وأمواتا، قالوا: فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟ قالوا: ذلك ابن اللعين، نحن إلى الله منه برآء، هو عندنا أحل دما منكم، قالوا: فأنتم منه برآء في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم كبراءتنا منكم، قالوا: وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا؟
قالوا: نعم نحن له أعداء كعداوتنا لكم، قالوا: فان امامكم مصعبا قد قتله عبد الملك بن مروان، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، وأنتم الآن تتبرءون منه، وتلعنون أباه! قالوا: كذبتم يا أعداء الله فلما كان من الغد تبين لهم قتل مصعب، فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان فأتتهم الخوارج فقالوا: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه، وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم عندهم، قالوا:
فقد أخبرتمونا أمس أنه وليكم في الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك إمامنا وخليفتنا- ولم يجدوا إذ بايعوه بدا من أن يقولوا هذا القول- قالت لهم الأزارقة: يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرءون منه في الدنيا والآخرة، وتزعمون انكم له أعداء احياء وأمواتا، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم، وقد قتل إمامكم الذي كنتم
(6/168)
تولونه! فأيهما المحق، وأيهما المهتدي، وأيهما الضال! قالوا لهم: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان ولي أمورنا، ونرضى بهذا كما رضينا بذاك، قالوا:
لا والله ولكنكم إخوان الشياطين، وأولياء الظالمين، وعبيد الدنيا وبعث عبد الملك بن مروان بشر بن مروان على الكوفة، وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة فلما قدم خالد أثبت المهلب على خراج الأهواز ومعونتها، وبعث عامر بن مسمع على سابور، ومقاتل بن مسمع على أردشير خرة، ومسمع بن مالك بن مسمع على فسا ودرابجرد، والمغيرة بن المهلب على إصطخر.
ثم إنه بعث إلى مقاتل فبعثه على جيش، وألحقه بناحية عبد العزيز فخرج يطلب الأزارقة، فانحطوا عليه من قبل كرمان حتى أتوا درابجرد، فسار نحوهم وبعث قطري مع صالح بن مخراق تسعمائة فارس، فأقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير بالناس ليلا، يجرون على غير تعبئة، فهزم الناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز بن عبد الله وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت مائة ألف- وكانت جميلة- فغار رجل من قومها كان من رءوس الخوارج يقال له: أبو الحديد الشني، فقال:
تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها ثم زعموا أنه لحق بالبصرة، فرآه آل منذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيرة وحمية وجاء عبد العزيز حتى انتهى إلى رامهرمز، وأتى المهلب فأخبر به، فبعث إليه شيخا من أشياخ قومه كان أحد فرسانه، فقال: ائته فإن كان منهزما فعزه وأخبره أنه لم يفعل شيئا لم يفعله الناس قبله، وأخبره أن الجنود تأتيه عاجلا، ثم يعزه الله وينصره فأتاه ذلك الرجل، فوجدوه نازلا في نحو من ثلاثين رجلا كئيبا حزينا، فسلم عليه الأزدي، وأخبره أنه رسول المهلب، وبلغه ما أمره به، وعرض عليه أن يذكر له ما كانت له من حاجة ثم انصرف إلى المهلب فأخبره الخبر، فقال له المهلب: الحق الآن بخالد بالبصرة فأخبره الخبر،
(6/169)
فقال: أنا آتيه أخبره أن أخاه هزم! والله لا آتيه، فقال المهلب: لا والله لا يأتيه غيرك، أنت الذي عاينته ورأيته، وأنت كنت رسولي إليه، قال:
هو إذا بهديك يا مهلب إن ذهب إليه العام، ثم خرج قال المهلب:
أما أنت والله فإنك لي آمن، أما والله لو أنك مع غيري، ثم أرسلك على رجليك خرجت تشتد! قال له وأقبل عليه: كأنك إنما تمن علينا بحلمك! فنحن والله نكافئك بل نزيد، أما تعلم أنا نعرض أنفسنا للقتل دونك، ونحميك من عدوك! ولو كنا والله مع من يجهل علينا، ويبعثنا في حاجاته على أرجلنا، ثم احتاج إلى قتالنا ونصرتنا جعلناه بيننا وبين عدونا، ووقينا به أنفسنا قال له المهلب: صدقت صدقت ثم دعا فتى من الأزد كان معه فسرحه إلى خالد يخبره خبر أخيه، فأتاه الفتى الأزدي وحوله الناس، وعليه جبة خضراء ومطرف أخضر، فسلم عليه، فرد عليه، فقال: ما جاء بك؟ قال: أصلحك الله! أرسلني إليك المهلب لأخبرك خبر ما عاينته، قال: وما عاينت؟ قال: رأيت عبد العزيز برامهرمز مهزوما، قال: كذبت، قال: لا، والله ما كذبت، وما قلت لك إلا الحق، فإن كنت كاذبا فاضرب عنقي، وإن كنت صادقا فأعطني أصلحك الله جبتك ومطرفك قال: ويحك! ما أيسر ما سألت، ولقد رضيت مع الخطر العظيم إن كنت كاذبا بالخطر الصغير إن كنت صادقا.
فحبسه وأمر بالإحسان إليه حتى تبينت له هزيمة القوم، فكتب إلى عبد الملك:
أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه الله أني بعثت عبد العزيز بن عبد الله في طلب الخوارج، وأنهم لقوه بفارس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عبد العزيز لما انهزم عنه الناس، وقتل مقاتل بن مسمع، وقدم الفل إلى الأهواز أحببت أن أعلم أمير المؤمنين ذلك ليأتيني رأيه وأمره أنزل عنده إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله
(6/170)
فكتب إليه:
أما بعد، فقد قدم رسولك في كتابك، تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال الخوارج، وبهزيمة من هزم، وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب، فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، الحسن السياسة، البصير بالحرب، المقاسي لها، ابنها وابن أبنائها! انظر ان تنهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز وقد بعثت إلى بشر أن يمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا أنت لقيت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب، وتستشيره فيه إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله فشق عليه انه فيل رأيه في بعثة أخيه وترك المهلب، وفي أنه لم يرض رأيه خالصا حتى قال: أحضره المهلب واستشره فيه وكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله.
آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلا من قبلك ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم، وكانوا في مسالحهم، وجبوا فيئهم حتى تأتي أيام عقبهم فتعقبهم وتبعث آخرين مكانهم.
فقطع على أهل الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى الري.
وكتب له عليها عهدا وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وجاء عبد الرحمن بن مُحَمَّد ببعث أهل الكوفة حتى وافاهم بالأهواز،
(6/171)
وجاءت الأزارقة حتى دنوا من مدينة الأهواز ومن معسكر القوم، وقال المهلب لخالد بن عبد الله: انى ارى هاهنا سفنا كثيره، فضمها إليك، فو الله ما أظن القوم إلا محرقيها فما لبث إلا ساعة حتى ارتفعت خيل من خيلهم إليها فحرقتها وبعث خالد بن عبد الله على ميمنته المهلب، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن مُحَمَّد ولم يخندق، فقال: يا بن أخي، ما يمنعك من الخندق! فقال: والله لهم أهون علي من ضرطة الجمل، قال: فلا يهونوا عليك يا بن أخي، فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقا، ففعل وبلغ الخوارج قول عبد الرحمن بن مُحَمَّد لهم: أهون علي من ضرطة الجمل، فقال شاعرهم:
يا طالب الحق لا تستهو بالأمل ... فإن من دون ما تهوى مدى الأجل
واعمل لربك واسأله مثوبته ... فإن تقواه فاعلم أفضل العمل
واغز المخانيث في الماذي معلمة ... كيما تصبّح غدوا ضرطة الجمل
فأقاموا نحوا من عشرين ليلة ثم إن خالدا زحف إليهم بالناس، فرأوا أمرا هالهم من عدد الناس وعدتهم، فأخذوا ينحازون، واجترأ عليهم الناس، فكرت عليهم الخيل، وزحف إليهم فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون لهم طاقة بقتال جماعة الناس، واتبعهم خالد بن عبد الله داود بن قحذم في جيش من أهل البصرة، وانصرف خالد إلى البصرة، وانصرف عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى الري وأقام المهلب بالأهواز، فكتب خالد بن عبد الله إلى عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله أني خرجت إلى الأزارقة الذين مرقوا من الدين، وخرجوا من ولاية المسلمين، فالتقينا بمدينة الأهواز
(6/172)
فتناهضنا فاقتتلنا كأشد قتال كان في الناس ثم إن الله أنزل نصره على المؤمنين والمسلمين، وضرب الله وجوه أعدائه، فأتبعهم المسلمون يقتلونهم، ولا يمنعون ولا يمتنعون، وأفاء الله ما في عسكرهم على المسلمين، ثم أتبعتهم داود بن قحذم، والله ان شاء مهلكهم ومستأصلهم، والسلام عليك.
فلما قدم هذا الكتاب على عبد الملك كتب عبد الملك الى بشر ابن مروان:
أما بعد، فابعث من قبلك رجلا شجاعا بصيرا بالحرب في أربعة آلاف فارس، فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالدا كتب إلي يخبرني أنه قد بعث في طلبهم داود بن قحذم، فمر صاحبك الذى تبعث الا يخالف داود بن قحذم إذا ما التقيا، فإن اختلاف القوم بينهم عون لعدوهم عليهم والسلام عليك.
فبعث بشر بن مروان عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فخرجوا حتى التقوا هم وداود بن قحذم بأرض فارس، ثم اتبعوا القوم يطلبونهم حتى نفقت خيول عامتهم، وأصابهم الجهد والجوع، ورجع عامة ذينك الجيشين مشاة إلى الأهواز، فقال ابن قيس الرقيات- من بني مخزوم- في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته:
عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل
من بين ذي عطش يجود بنفسه ... وملحب بين الرجال قتيل
هلا صبرت مع الشهيد مقاتلا ... إذ رحت منتكث القوى بأصيل
وتركت جيشك لا أمير عليهمُ ... فارجع بعار في الحياه طويل
نسيت عرسك إذ تقاد سبية ... تبكي العيون برنة وعويل
(6/173)
خروج ابى فديك الخارجي وغلبته على البحرين
وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي، وهو من بنى قيس ابن ثعلبة، فغلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله على جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له فاتخذها لنفسه، وسار أمية على فرس له حتى دخل البصرة في ثلاثة أيام، فكتب خالد إلى عبد الملك بحاله وحال الازارقه
. خبر توجيه عبد الملك الحجاج لقتال ابن الزبير
وفي هذه السنة وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال عبد الله ابن الزبير، وكان السبب في توجيهه الحجاج إليه دون غيره- فيما ذكر- أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام، قام إليه الحجاج بن يوسف فقال.
يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولني قتاله فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، فسار حتى قدم مكة، وقد كتب إليهم عبد الملك بالأمان إن دخلوا في طاعته.
فحدثني الحارث، قال: حدثني مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي الأسود، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قال: بعث عبد الملك بن مروان حين قتل مصعب ابن الزبير الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير بمكة، فخرج في ألفين من جند أهل الشام في جمادى من سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، فكان يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن الزبير بعثا فيقتتلون هنالك، فكل ذلك تهزم خيل ابن الزبير وترجع خيل الحجاج بالظفر ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير ودخول الحرم عليه، ويخبره أن
(6/174)
شوكته قد كلت، وتفرق عنه عامة أصحابه، ويسأله أن يمده برجال، فجاءه كتاب عبد الملك، وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجاج وكان قدوم الحجاج الطائف في شعبان سنة اثنتين وسبعين فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون وحصر ابن الزبير.
وحج الحجاج بالناس في هذه السنة، وابن الزبير محصور، وكان قدوم طارق مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل عبد الله بن الزبير ونحر ابن الزبير بدنا بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة.
قال محمد بن عمر: حدثني سعيد بن مسلم بن بابك، عن أبيه، قال: حججت في سنة اثنتين وسبعين فقدمنا مكة، فدخلناها من أعلاها، فنجد أصحاب الحجاج وطارق فيما بين الحجون إلى بئر ميمون، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حج بالناس الحجاج، فرأيته واقفا بالهضبات من عرفة على فرس، وعليه الدرع والمغفر، ثم صدر فرأيته عدل إلى بئر ميمون، ولم يطف بالبيت وأصحابه متسلحون، ورأيت الطعام عندهم كثيرا، ورأيت العير تأتي من الشام تحمل الطعام، الكعك والسويق والدقيق، فرأيت أصحابه مخاصيب، ولقد ابتعنا من بعضهم كعكا بدرهم، فكفانا إلى أن بلغنا الجحفة وإنا لثلاثة نفر.
قال مُحَمَّد بن عمر: حدثني مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال- وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين
(6/175)
امر عبد الله بن خازم السلمى مع عبد الملك
وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم السلمي يدعوه إلى بيعته ويطعمه خراسان سبع سنين، فذكر علي بن مُحَمَّد أن المفضل بن مُحَمَّد ويحيى بن طفيل وزهير بن هنيد حدثوه- قال: وفي خبر بعضهم زيادة على خبر بعض- أن مصعب بن الزبير قتل سنة اثنتين وسبعين وعبد الله بن خازم بأبرشهر يقاتل بحير بن ورقاء الصريمي صريم بن الحارث، فكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن خازم مع سوره بن أشيم النميري: أن لك خراسان سبع سنين على أن تبايع لي فقال ابن خازم لسورة: لولا أن أضرب بين بني سليم وبني عامر لقتلتك ولكن كل هذه الصحيفة، فأكلها قال: وقال أبو بكر بن مُحَمَّد بن واسع: بل قدم بعهد عبد الله بن خازم سوادة بن عبيد الله النميري وقال بعضهم: بعث عبد الملك إلى.
ابن خازم سنان بن مكمل الغنوي، وكتب إليه: أن خراسان طعمة لك، فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غني، وقد علم أني لا أقتل رجلا من قيس، ولكن كل كتابه.
قال: وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح أحد بني عوف بن سعد- وكان خليفة ابن خازم على مرو- بعهده على خراسان ووعده ومناه، فخلع بكير بن وشاح عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو وأهل أبرشهر، فترك بحيرا، وأقبل إلى مرو يريد أن يأتي ابنه بالترمذ، فأتبعه بحير، فلحقه بقرية يقال لها بالفارسية: شاهميغد، بينها وبين مرو ثمانية فراسخ.
قال: فقاتله ابن خازم، فقال مولى لبني ليث: كنت قريبا من معترك
(6/176)
القوم في منزل، فلما طلعت الشمس تهايج العسكران، فجعلت أسمع وقع السيوف، فلما ارتفع النهار خفيت الأصوات، فقلت: هذا لارتفاع النهار، فلما صليت الظهر- أو قبل الظهر- خرجت، فتلقاني رجل من بني تميم، فقلت: ما الخبر؟ قال: قتلت عدو الله ابن خازم وها هو ذا، وإذا هو محمول على بغل، وقد شدوا في مذاكيره حبلا وحجرا وعدلوه به على البغل.
قال: وكان الذي قتله وكيع بن عميرة القريعي وهو ابن الدورقية.
اعتور عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع، فطعنوه فصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله، فقال بعض الولاة لوكيع:
كيف قتلت ابن خازم؟ قال: غلبته بفضل القنا، فلما صرع قعدت على صدره، فحاول القيام فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثأرات دويلة! ودويلة أخ لوكيع لأمه، قتل قبل ذلك في غير تلك الأيام.
قال وكيع: فتنخم في وجهي وقال: لعنك الله! تقتل كبش مضر، بأخيك علج لا يساوي كفا من نوى- أو قال: من تراب- فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت.
قال: فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث فقال: هذه والله البسالة.
قال: وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بني غدانة إلى عبد الملك ابن مروان يخبره بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم، فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس وقيد بحيرا وحبسه، وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله، فلما قدم بالرأس على عبد الملك دعا الغداني رسول بحير وقال: ما هذا؟ قال: لا أدري، وما فارقت القوم حتى قتل، فقال رجل من بني سليم:
أليلتنا بنيسابور ردي ... علي الصبح ويحك أو أنيري
كواكبها زواحف لا غبات ... كأن سماءها بيدي مدير
(6/177)
تلوم على الحوادث أم زيد ... وهل لك في الحوادث من نكير!
جهلن كرامتي وصددن عني ... إلى أجل من الدنيا قصير
فلو شهد الفوارس من سليم ... غداة يطاف بالأسد العقير
لنازل حوله قوم كرام ... فعز الوتر في طلب الوتور
فقد بقيت كلاب نابحات ... وما في الأرض بعدك من زئير
فولي الحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف.
وكان العامل على المدينة طارق مولى عثمان من قبل عبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بن مسعود.
وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضائها هشام ابن هبيرة وعلى خراسان في قول بعضهم عبد الله بن خازم السلمى، في قول بعض: بكير بن وشاح وزعم من قال: كان على خراسان في سنة اثنتين وسبعين عبد الله بن خازم أن عبد الله بن خازم إنما قتل بعد ما قتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك إنما كتب إلى عبد الله بن خازم يدعوه إلى الدخول في طاعته على أن يطعمه خراسان عشر سنين بعد ما قتل عبد الله بن الزبير، وبعث برأسه إليه، وأن عبد الله بن خازم حلف لما ورد عليه رأس عبد الله بن الزبير الا يعطيه طاعة أبدا، وأنه دعا بطست فغسل رأس ابن الزبير، وحنطه وكفنه، وصلى عليه، وبعث به إلى أهل عبد الله بن الزبير بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لضربت عنقك وقال بعضهم: قطع يديه ورجليه وضرب عنقه
. فصل نذكر فيه الكتاب من بدء أمر الإسلام
روى هشام وغيره أن أول من كتب من العرب حرب بن أمية بن عبد شمس بالعربية، وأن أول من كتب بالفارسية بيوراسب، وكان في زمان إدريس وكان أول من صنف طبقات الكتاب وبين منازلهم لهراسب ابن كاوغان بن كيموس
(6/178)
وحكي أن أبرويز قال لكاتبه: إنما الكلام أربعة أقسام:
سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء، فهذه دعائم المقالات إن التمس لها خامس لم يوجد، وإن نقص منها رابع لم تتم، فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فاحتم، وإذا أخبرت فحقق.
وقال أبو موسى الأشعري: أول من قال: أما بعد داود، وهي فصل الخطاب الذي ذكره الله عنه.
وقال الهيثم بن عدي: أول من قال: أما بعد قس بن ساعدة الإيادي
. أسماء من كتب للنبي ص
على بن ابى طالب ع وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت.
وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه.
وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في حوائجهم، وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب إلى الملوك عن النبي ص
. أسماء من كان يكتب للخلفاء والولاه
وكتب لأبي بكر عثمان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن خلف الخزاعي، وحنظلة بن الربيع.
وكتب لعمر بن الخطاب زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم، وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة، وكتب له على ديوان الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك الأنصاري.
وقال عمر بن الخطاب لكتابه وعماله: ان القوه على العمل الا
(6/179)
تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت عليكم الأعمال، فلا تدرون بأيها تبدءون، وأيها تأخذون وهو أول من دون الدواوين في العرب في الإسلام.
وكان يكتب لعثمان مروان بن الحكم، وكان عبد الملك يكتب له على ديوان المدينة، وأبو جبيرة الأنصاري على ديوان الكوفة، وكان أبو غطفان ابن عوف بن سعد بن دينار من بني دهمان من قيس عيلان يكتب له، وكان يكتب له أهيب مولاه، وحمران مولاه.
وكان يكتب لعلى ع سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولي قضاء الكوفة لابن الزبير وكان يكتب له عبد الله بن مسعود، وروي أن عبد الله بن جبير كتب له وكان عبيد الله بن أبي رافع يكتب له واختلف في اسم أبي رافع، فقيل: اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: سنان، وقيل:
عبد الرحمن وكان يكتب لمعاوية على الرسائل عبيد بن أوس الغساني.
وكان يكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور الرومي وكتب له عبد الرحمن بن دراج، وهو مولى معاوية، وكتب على بعض دواوينه عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن علاء السلمي.
وكان يكتب لمعاوية بن يزيد الريان بن مسلم، ويكتب له على الديوان سرجون ويروى أنه كتب له أبو الزعيزعة.
وكتب لعبد الملك بن مروان قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي، ويكنى أبا إسحاق وكتب على ديوان الرسائل أبو الزعيزعة مولاه.
وكان يكتب للوليد القعقاع بن خالد- أو خليد العبسي، وكتب له على ديوان الخراج سُلَيْمَان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم شعيب
(6/180)
العماني مولاه، وعلى ديوان الرسائل جناح مولاه، وعلى المستغلات نفيع ابن ذؤيب مولاه.
وكان يكتب لسُلَيْمَان سُلَيْمَان بن نعيم الحميري.
وكان يكتب لمسلمة سميع مولاه، وعلى ديوان الرسائل الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، وعلى ديوان الخراج سُلَيْمَان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم نعيم بن سلامة مولى لأهل اليمن من فلسطين، وقيل: بل رجاء بن حيوة كان يتقلد الخاتم.
وكان يكتب ليزيد بن المهلب المغيرة بن أبي فروة.
وكان يكتب لعمر بن عبد العزيز الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، ورجاء بن حيوة وكتب له إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير، وعلى ديوان الخراج سُلَيْمَان بن سعد الخشني، وقلد مكانه صالح بن جبير الغساني- وقيل: الغداني- وعدي بن الصباح بن المثنى، ذكر الهيثم بن عدي أنه كان من جلة كتابه.
وكتب ليزيد بن عبد الملك قبل الخلافة رجل يقال له يزيد بن عبد الله، ثم استكتب أسامة بن يزيد السليحي.
وكتب لهشام سعيد بن الوليد بن عمرو بن جبلة الكلبى الابرش، ويكنى أبا مخاشع، وكان نصر بن سيار يتقلد ديوان خراج خراسان لهشام وكان من كتابه بالرصافة شعيب بن دينار.
وكان يكتب للوليد بن يزيد بكير بن الشماخ، وعلى ديوان الرسائل سالم مولى سعيد بن عبد الملك، ومن كتابه عبد الله بن أبي عمرو، ويقال:
عبد الأعلى بن أبي عمرو، وكتب له على الحضرة عمرو بن عتبة وكتب ليزيد بن الوليد الناقص عبد الله بن نعيم، وكان عمرو ابن الحارث مولى بني جمح يتولى له ديوان الخاتم، وكان يتقلد له ديوان
(6/181)
الرسائل ثابت بن سُلَيْمَان بن سعد الخشني- ويقال الربيع بن عرعرة الخشني- وكان يتقلد له الخراج والديوان الذي للخاتم الصغير النضر بن عمرو من أهل اليمن.
وكتب لإبراهيم بن الوليد ابن أبي جمعة، وكان يتقلد له الديوان بفلسطين، وبايع الناس إبراهيم- أعني ابن الوليد- سوى أهل حمص، فإنهم بايعوا مروان بن مُحَمَّد الجعدي وكتب لمروان عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب العامري، ومصعب بن الربيع الخثعمي، وزياد بن أبي الورد وعلى ديوان الرسائل عثمان بن قيس مولى خالد القسري وكان من كتابه مخلد بن مُحَمَّد بن الحارث- ويكنى أبا هاشم- ومن كتابه مصعب بن الربيع الخثعمي، ويكنى أبا موسى وكان عبد الحميد بن يحيى من البلاغة في مكان مكين، ومما اختير له من الشعر:
ترحل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالزائل
فلهفي على الخلف النازل ... ولهفي على السلف الراحل
أبكّي على ذا وأبكي لذا ... بكاء مولهة ثاكل
تبكّي من ابن لها قاطع ... وتبكي على ابن لها واصل
فليست تفتر عن عبرة ... لها في الضمير ومن هامل
تقضت غوايات سكر الصبى ... ورد التقى عنن الباطل
وكتب لأبي العباس خالد بن برمك، ودفع أبو العباس ابنته ريطة إلى خالد بن برمك حتى أرضعتها زوجته أم خالد بنت يزيد بلبان بنت لخالد تدعى أم يحيى، وأرضعت أم سلمة زوجة أبي العباس أم يحيى بنت خالد بلبان ابنتها ريطة وقلد ديوان الرسائل صالح بن الهيثم مولى ريطة بنت أبي العباس
(6/182)
وكتب لأبي جعفر المنصور عبد الملك بن حميد مولى حاتم بن النعمان الباهلي من أهل خراسان، وكتب له هاشم بن سعيد الجعفي وعبد الأعلى بن أبي طلحة من بني تميم بواسط وروي أن سُلَيْمَان بن مخلد كان يكتب لأبي جعفر، ومما كان يتمثل به أبو جعفر المنصور:
وما إن شفى نفسا كأمر صريمة ... إذا حاجة في النفس طال اعتراضها
وكتب له الربيع وكان عمارة بن حمزة من نبلاء الرجال، وله:
لا تشكون دهرا صححت به ... إن الغنى في صحة الجسم
هبك الإمام أكنت منتفعا ... بغضارة الدنيا مع السقم!
وكان يتمثل بقول عبد بني الحسحاس:
أمن أمية دمع العين مذروف ... لو أن ذا منك قبل اليوم معروف
لا تبك عينك إن الدهر ذو غير ... فيه تفرق ذو إلف ومألوف
وكتب للمهدي أبو عبيد الله وأبان بن صدقة على ديوان رسائله، ومُحَمَّد بن حميد الكاتب على ديوان جنده ويعقوب بن داود، وكان اتخذه على وزارته وأمره، وله:
عجبا لتصريف الأمور ... محبة وكراهية
والدهر يلعب بالرجال ... له دوائر جاريه
ولابنه عبد الله بن يعقوب- وكان له مُحَمَّد ويعقوب، كلاهما شاعر مجيد:
وزع المشيب شراستى وغرامى ... ومرى الجفون بمسبل سجام
ج12. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
(صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)
ولقد حرصت بأن أو ارى شخصه ... عن مقلتي فرمت غير مرام
وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم ... صبغي ودامت صبغة الأيام
لا تبعدن شبيبة ذيالة ... فارقتها في سالف الأعوام
ما كان ما استصحبت من أيامها ... إلا كبعض طوارق الأحلام
ولأبيه:
طلق الدنيا ثلاثا ... واتخذ زوجا سواها
إنها زوجة سوء ... لا تبالي من أتاها
واستوزر بعده الفيض بن أبي صالح، وكان جوادا.
وكتب للهادي موسى عبيد الله بْن زياد بْن أبي ليلى ومُحَمَّد بن حميد.
وسأل المهدي يوما أبا عبيد الله عن أشعار العرب، فصنفها له، فقال:
أحكمها قول طرفة بن العبد:
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح مصمد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
وقوله:
وقد أرانا كلانا هم صاحبه ... لو أن شيئا إذا ما فاتنا رجعا
وكان شيء إلى شيء ففرقه ... دهر يكر على تفريق ما جمعا
(6/184)
وقول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى كل ذي رأي إلى الله واسل
وكقول النابغة الجعدي:
وقد طال عهدي بالشباب وأهله ... ولاقيت روعات تشيب النواصيا
فلم أجد الإخوان إلا صحابة ... ولم أجد الأهلين إلا مثاويا
ألم تعلمي أن قد رزئت محاربا ... فما لك منه اليوم شيء ولا ليا
وكقول هدبة بن خشرم:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أتبغى الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
وما يعرف الأقوام للدهر حقه ... وما الدهر مما يكرهون بمعتب
وللدهر في أهل الفتى وتلاده ... نصيب كحز الجازر المتشعب
وكقول زيادة بن زيد، وتمثل به عبد الملك بن مروان:
تذكر عن شحط أميمة فارعوى ... لها بعد إكثار وطول نحيب
وإن امرأ قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب
هل الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزيئة مال أو فراق حبيب
وكل الذي يأتي فأنت نسيبه ... ولست لشيء ذاهب بنسيب
(6/185)
وليس بعيد ما يجيء كمقبل ... ولا ما مضى من مفرح بقريب
وكقول ابن مقبل:
لما رأت بدل الشباب بكت له ... والشيب أرذل هذه الأبدال
والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحياة يزيد غير خبال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال
ووزر له يحيى بن خالد ووزر للرشيد ابنه جعفر بن يحيى بن خالد، فمن مليح كلامه: الخط سمة الحكمة، به تفصل شذورها، وينظم منثورها قال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكون الاسم محيطا بمعناك، مخبرا عن مغزاك، مخرجا من الشركة، غير مستعان عليه بالفكرة قال الأصمعي: سمعت يحيى بن خالد يقول:
الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة.
ونأتي بتسمية باقي كتاب خلفاء بني العباس إذا انتهينا إلى الدولة العباسية ان شاء الله تعالى.
(6/186)
ثم دخلت
سنة ثلاث وسبعين
ذكر الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة فمن ذلك
مقتل عبد الله بن الزبير.
ذكر الخبر عن صفة ذَلِكَ:
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر.
قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن عبيد الله بن القبطية، قال: كانت الحرب بين ابن الزبير والحجاج ببطن مكة ستة أشهر وسبع عشرة ليلة.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عمر: وَحَدَّثَنِي مُصْعَب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد- وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان حصر الحجاج لابن الزبير ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة.
حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد ابن عمر: قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن يوسف بن ماهك، قال:
رأيت المنجنيق يرمى به، فرعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة، فاشتمل عليها، فأعظم ذلك أهل الشام، فأمسكوا بأيديهم، فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: أرموا، ورمى معهم قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هذا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون وأنتم على الطاعة، وهم على خلاف
(6/187)
الطاعة! فلم تزل الحرب بين ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنى إسحاق بن عبد الله، عن المنذر بن جهم الأسدي، قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه وخذله من معه خذلانا شديدا، وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف.
وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا، فدخل على أمه أسماء- كما ذكر مُحَمَّد بن عمر عن أبي الزناد، عن مخرمة بن سُلَيْمَان الوالبي، قال: دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع اكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني، بصيرة مع بصيرتي.
فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمى الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملا بفاحشة، ولم يجر في
(6/188)
حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، أخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك قال: جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد فقالت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين.
قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا عشرا، ويقال: خمسة أيام.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ يعقوب بن عبد الله، عن عمه قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والمغفر، فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد، قال ابن الزبير:
جئت مودعا، إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، وادن مني أودعك، فدنا منها فقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشد منك، قالت العجوز: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول:
البس ثيابك مثمره ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول:
(6/189)
إني إذا أعرف يومي أصبر ... إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
فسمعت العجوز قوله، فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب.
حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرني مُحَمَّد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن شيخ من أهل حمص شهد وقعة ابن الزبير مع أهل الشام، قال: رأيته يوم الثلاثاء وإنا لنطلع عليه اهل حمص خمسمائة خمسمائة من باب لنا ندخله، لا يدخله غيرنا، فيخرج إلينا وحده في أثرنا، ونحن منهزمون منه، فما أنسى أرجوزة له:
إني إذا أعرف يومي أصبر وإنما يعرف يوميه الحر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر.
فأقول: أنت والله الحر الشريف، فلقد رأيته يقف في الأبطح ما يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال:
رأيت الأبواب قد شحنت من أهل الشام يوم الثلاثاء، وأسلم أصحاب ابن الزبير المحارس، وكثرهم القوم فأقاموا على كل باب رجالا وقائدا وأهل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية فلكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال، فيعدو في أثر القوم وهم على الباب حتى يخرجهم وهو يرتجز:
إني إذا أعرف يومي أصبر وإنما يعرف يوميه الحر ثم يصيح: يا أبا صفوان، ويل أمه فتحا لو كان له رجال!
(6/190)
لو كان قرني واحدا كفيته.
قال ابن صفوان: إي والله وألف.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فحدثني ابن أبي الزناد وأبو بكر بن عبد الله بن مصعب، عن ابى المنذر، وحدثنا نافع مولى بني أسد، قالا: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يصلي عامة الليل، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه بالفجر فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدم، وأقام المؤذن فصلى بأصحابه، فقرأ «ن وَالْقَلَمِ» حرفا حرفا، ثم سلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
اكشفوا وجوهكم حتى أنظر، وعليهم المغافر والعمائم، فكشفوا وجوههم فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا في الله لم تصبنا زباء بتة أما بعد يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطنا قط الا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه، واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقه، وليشغل كل امرى قرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول.
ابى لابن سلمى أنه غير خالد ... ملاقي المنايا أي صرف تيمما
فلست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
(6/191)
احملوا على بركة الله.
ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرمي بأجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودمى وجهه، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال:
فلسنا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تقطر الدما
وتغاووا عليه.
قالا: وصاحت مولاه لنا مجنونه: وا امير المؤمنيناه! قالا: وقد رأته حيث هوى، فأشارت لهم إليه، فقتل وإن عليه ثياب خز وجاء الخبر إلى الحجاج، فسجد وسار حتى وقف عليه وطارق بن عمرو، فقال طارق:
ما ولدت النساء أذكر من هذا، فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين! قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر، أنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو، فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوب طارقا.
حدثنا عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن رجاله، قال: كأني أنظر إلى الزبير وقد قتل غلاما أسود، ضربه فعرقبه، وهو يمر في حملته عليه ويقول: صبرا يا بن حام، ففي مثل هذه المواطن تصبر الكرام! حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن ابى بكر ابن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، قال: بعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان، ثم دخل الحجاج
(6/192)
مكة، فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان
[أخبار متفرقة]
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة ولى عبد الملك طارقا مولى عثمان المدينة فوليها خمسة أشهر.
وفي هذه السنة توفي بشر بن مروان في قول الواقدي، وأما غيره فإنه قال: كانت وفاته في سنة أربع وسبعين.
وفيها أيضا وجه- فيما ذكر- عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر لقتال أبي فديك، وأمره أن يندب معه من أحب من أهل المصرين، فقدم الكوفه فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، ثم قدم البصرة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم وأعطياتهم، فأعطوها ثم سار بهم عمر بن عبيد الله، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم مُحَمَّد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وجعل خيله في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر بن عبيد الله أصحابه، وقدم الرجالة في أيديهم الرماح قد ألزموها الأرض، واستتروا بالبراذع فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر بن عبيد الله حتى ذهبوا في الأرض إلا المغيرة بن المهلب ومعن بن المغيرة ومجاعة ابن عبد الرحمن وفرسان الناس فإنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة وهم ثابتون، وارتث عمر بن موسى بن عبيد الله، فهو في القتلى قد أثخن جراحة.
فلما رأى أهل البصرة أهل الكوفة لم ينهزموا تذمموا ورجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير حتى مروا بعمر بن موسى بن عبيد الله جريحا فحملوه حتى أدخلوه عسكر الخوارج وفيه تبن كثير فأحرقوه، ومالت عليهم الريح، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك، وحصروهم في المشقر، فنزلوا على الحكم، فقتل عمر بن عبيد الله منهم- فيما ذكر- نحوا من سته آلاف، واسر ثمانمائه، وأصابوا جاريه اميه بن عبد الله حبلى من أبي فديك وانصرفوا إلى البصرة
(6/193)
وفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشر بن مروان، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه، فشخص بشر لما ولي مع الكوفة البصرة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث.
وفيها غزا مُحَمَّد بن مروان الصائفة، فهزم الروم وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم في ناحية أرمينية وهو في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا، فهزمهم وأكثر القتل فيهم.
وأقام الحج في هذه السنة للناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة، وعلى الكوفة والبصرة- في قول الواقدي- بشر بن مروان، وفي قول غيره على الكوفة بشر بن مروان، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء البصره هشام ابن هبيرة، وعلى خراسان بكير بن وشاح
(6/194)
ثم دخلت
سنة أربع وسبعين
(ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة) قال أبو جعفر: فمما كان فيها من ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاج بن يوسف، فقدمها- فيما ذكر- فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا.
وفيها كان- فيما ذكر- نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين، فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه.
واستخف فيها باصحاب رسول الله ص، فختم في أعناقهم، فذكر مُحَمَّد بن عمران بن أبي ذئب، حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده.
وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يريد أن يذله بذلك.
قال ابن عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان! قال: قد فعلت قال: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه برصاص.
وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني- فيما ذكر الواقدي.
وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها.
ذكر الخبر عن حرب المهلب للازارقه
وفي هذه السنة ولي المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك
(6/195)
ذكر الخبر عن أمره وأمرهم فيها:
ولما صار بشر بالبصرة كتب عبد الملك إليه- فِيمَا ذكر هِشَام عن أبي مخنف، عن يونس بْن أبي إسحاق، عن أبيه:
أما بعد، فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصره وجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم، وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا، حسيبا صليبا، يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين فليتبعوهم أي وجه ما توجهوا حتى يبيدهم الله ويستأصلهم والسلام عليك.
فدعا بشر المهلب فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء، فبعث بجديع بن سعيد بن قبيصة بن سراق الأزدي- وهو خال يزيد ابنه- فأمره أن يأتي الديوان فينتخب الناس، وشق على بشر أن أمرة المهلب جاءت من قبل عبد الملك، فلا يستطيع أن يبعث غيره، فأوغرت صدره عليه حتى كأنه كان له إليه ذنب ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولي الفضل منهم والنجدة.
قال أبو مخنف: فحدثني أشياخ الحي، عن عبد الرحمن بن مخنف قال: دعاني بشر بن مروان فقال لي: انك قد عرفت منزلتك منى، واثرتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش للذي عرفت من جزئك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظني بك أنظر هذا الكذا كذا- يقع في المهلب- فاستبد عليه بالأمر، ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا، وتنقصه وقصر به.
قال: فترك أن يوصيني بالجند، وقتال العدو، والنظر لأهل
(6/196)
الإسلام، وأقبل يغريني بابن عمى كأني من السفهاء أو ممن يستصبي ويستجهل، ما رأيت شيخا مثلي في مثل هيئتي ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني، شب عمرو عن الطوق.
قال: ولما رأى أني لست بالنشيط إلى جوابه قال لي: مالك؟ قلت:
أصلحك الله! وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك في كل ما أحببت وكرهت! قال: امض راشدا قال: فودعته وخرجت من عنده، وخرج المهلب بأهل البصرة حتى نزل رام مهرمز فلقي بها الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة على ربع أهل المدينة معه بشر بن جرير، وعلى ربع تميم وهمدان مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وعلى ربع كندة وربيعة إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث، وعلى ربع مذحج، وأسد زحر بن قيس فأقبل عبد الرحمن حتى نزل من المهلب على ميل أو ميل ونصف حيث تراءى العسكران برام مهرمز، فلم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، وتوفي بالبصرة، فارفض ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر خالد بن عبد الله ابن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن مُحَمَّد بن الاشعث ومحمد بن ابن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فبعث عبد الرحمن بن مخنف ابنه جعفرا في آثارهم، فرد إسحاق ومُحَمَّدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم أخذ عليهما الا يفارقاه، فلم يلبثا إلا يوما حتى انصرفا، فأخذا غير الطريق، وطلبا فلم يحلقا، وأقبلا حتى لحقا زحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا وبعث رسولا يضرب وجوه الناس ويردهم، فقدم بكتابه مولى له، فقرأ الكتاب على الناس، وقد جمعوا له:
(6/197)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ خَالِدِ بْنِ عبد الله، إِلَى من بلغه كتابي هَذَا من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هو أما بعد، فإن الله كتب على عباده الجهاد، وفرض طاعة ولاة الأمر، فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، ومن ترك الجهاد في الله كان الله عنه أغنى، ومن عصى ولاة الأمر والقوام بالحق أسخط الله عليه، وكان قد استحق العقوبة في بشره، وعرض نفسه لاستفاءة ماله وإلقاء عطائه، والتسيير إلى أبعد الأرض وشر البلدان أيها المسلمون، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم! إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، الذي ليست فيه غميزة، ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه على من عصى، وعلى من خالف سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحه عباد الله، ارجعوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين فيأتيكم ما تكرهون أقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلا قتلته إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وأخذ كلما قرأ عليهم سطرا أو سطرين قال له زحر: أوجز، فيقول له مولى خالد: والله إني لأسمع كلام رجل ما يريد أن يفهم ما يسمع أشهد لا يعيج، بشيء مما في هذا الكتاب فقال له: اقرأ أيها العبد الأحمر ما أمرت به، ثم ارجع إلى أهلك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إلى ما في كتابه، وأقبل زحر وإسحاق بن مُحَمَّد ومُحَمَّد بن عبد الرحمن حتى نزلوا قرية لآل الأشعث إلى جانب الكوفة، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:
أما بعد، فإن الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمة الله عليه تفرقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا الى الأمير والى مصرنا، وأحببنا الا ندخل الكوفة إلا بإذن الأمير وعلمه
(6/198)
فكتب إليهم:
أما بعد، فإنكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا إذن ولا أمان.
فلما أتاهم ذلك انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجاج بن يوسف
. عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولايه اميه بن عبد الله عليها
وفي هذه السنة عزل عبد الملك بكير بن وشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد.
ذكر الخبر عن سبب عزل بكير وولاية أمية:
وكانت ولاية بكير بن وشاح خراسان إلى حين قدم أمية عليها واليا سنتين في قول أبي الحسن، وذلك أن ابن خازم قتل سنة ثلاث وسبعين وقدم أمية سنة أربع وسبعين.
وكان سبب عزل بكير عن خراسان أن بحيرا- فيما ذكر علي عن المفضل- حبسه بكير بن وشاح لما كان منه فيما ذكرت في رأس ابن خازم حين قتله، فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة! فمشت السفراء بينهم، فأبى بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي، فقال: ألا أراك مائقا! يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره، والمشرفي في يده- ولو قتلك ما حبقت فيك عنز- ولا تقبل منه! ما أنت بموفق اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك فقبل مشورته، وصالح بكيرا، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير الا يقاتله وكانت تميم قد اختلفت بخراسان، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون له، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد، ويقهرهم عدوهم من المشركين، فكتبوا إلى
(6/199)
عبد الملك بن مروان: أن خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه، فقال عبد الملك: خراسان ثغر المشرق، وقد كان به من الشر ما كان، وعليه هذا التميمي، وقد تعصب الناس وخافوا أن يصيروا إلى ما كانوا عليه، فيهلك الثغر ومن فيه، وقد سألوا أن أولي أمرهم رجلا من قريش فيسمعوا له ويطيعوا، فقال أمية بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل منك، قال: لولا انحيازك عن أبي فديك كنت ذلك الرجل قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انحزت حتى لم أجد مقاتلا، وخذلني الناس، فرأيت أن انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة، وقد علم ذلك مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكتب إليك خالد بن عبد الله بما بلغه من عذري- قال: وكان خالد كتب إليه بعذره، ويخبره أن الناس قد خذلوه- فقال مرار:
صدق أمية يا أمير المؤمنين، لقد صبر حتى لم يجد مقاتلا، وخذله الناس.
فولاه خراسان، وكان عبد الملك يحب أمية، ويقول: نتيجتي، أي لدتي، فقال الناس: ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية، فر من أبي فديك فاستعمل على خراسان، فقال رجل من بكر بن وائل في محبس بكير بن وشاح:
أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع
كأن مواقع الأكوار منها ... حمام كنائس بقع وقوع
بأبيض من أمية مضرحي ... كأن جبينه سيف صنيع
وبحير يومئذ بالسنج يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه انه قد قارب ابرشهر قال الرجل من عجم أهل مرو يقال له رزين- أو زرير: دلني
(6/200)
على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه، ولك كذا وكذا، وأجزل لك العطية، وكان عالما بالطريق، فخرج به فسار من السنج إلى أرض سرخس في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور فوافى أمية حين قدم أبرشهر، فلقيه فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها وتحسن به طاعتهم، ويخف على الوالي مئونتهم، ورفع على بكير أموالا أصابها، وحذره غدره.
قال: وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية سيدا كريما، فلم يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه أن يوليه شرطته، فأبى بكير، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيرا رجال من قومه، فقالوا: أبيت أن تلي، فولى بحيرا وقد عرفت ما بينكما! قال: كنت أمس والي خراسان تحمل الحراب بين يدي، فأصير اليوم على الشرطة أحمل الحربة! وقال أمية لبكير: اختر ما شئت من عمل خراسان، قال:
طخارستان، قال: هي لك قال: فتجهز بكير وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأمية: إن أتى بكير طخارستان خلعك، فلم يزل يحذره حتى حذر، فأمره بالمقام عنده
[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف وكان ولي قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مخرمة قبل شخوصه إلى المدينة كذلك، ذكر ذلك عن مُحَمَّد بن عمر.
وكان على المدينة ومكة الحجاج بن يوسف، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن مروان، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان اعتمر في هذه السنة، ولا نعلم صحة ذلك.
(6/201)
ثم دخلت
سنة خمس وسبعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك غزوة مُحَمَّد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مرعش.
وفي هذه السنة ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة.
وفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان. سنه 75
ولايه الحجاج على الكوفه وخطبته في أهلها
وفيها قدم الحجاج الكوفة فحدثني أبو زيد، قال: حدثنى محمد ابن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بْن أبي عبيدة بْن محمد بن عمار ابن ياسر، قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خر حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خارجة، فهموا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامه تعرفوني
(6/202)
اما والله انى لأحمل الشر محمله، واخذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى.
قد شمرت عن ساقها تشميرا. ... هذا أوان الشد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم ... قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوي ... مهاجر ليس بأعرابي.
ليس أوان يكره الخلاط ... جاءت به والقلص الأعلاط
تهوي هوي سابق الغطاط.
وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان ولقد فررت عن ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى إن أمير المؤمنين، عبد الملك نشر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة،
(6/203)
ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا، وما يقول، وفيم أنتم وذاك؟ والله لتسقيمن على سبل الحق اولاد عن لكل رجل منكم شغلا في جسده من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله.
ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.
قال: ويقال: إنه لما طال سكوته تناول مُحَمَّد بن عمير حصى فأراد أن يحصبه بها، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمه! والله إني لأحسب خبره كروائه فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده ولا يعقل به، وأن الحجاج قال في خطبته:
شاهت الوجوه! إن الله ضرب «مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» ، وأنتم أولئك واشباه أولئك، فاستوثقوا واستقيموا فو الله لأذيقنكم الهوان حتى تدروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتدعن الأرجاف، وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبر وما الهبر! أو لأهبرنكم؟ 866 بالسيف هبرا يدع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا السُّمَّهَى، وتقلعوا عن هاوها إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده الا انه لوساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، وقد بلغني رفضكم المهلب، وإقبالكم على مصركم عصاة مخالفين، وإني أقسم لكم بالله لا أجد أحدا بعد ثالثة إلا ضربت عنقه
(6/204)
ثم دعا العرفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وأتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضي هذه المدة.
تفسير الخطبة: قوله: أنا ابن جلا، فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ وأينع الثمر: بلغ إدراكه.
وقوله: فاشتدي زيم، فهي اسم للحرب والحطم: الذي يحطم كل شيء يمر به والوضم: ما وقي به اللحم من الأرض والعصلبي:
الشديد والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل.
والأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها، أنشد أبو زيد الأصمعي:
واعرورت العلط العرضي تركضه ... أم الفوارس بالديداء والربعه
والشنان، جمع شنة: القربة البالية اليابسة، قال الشاعر:
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
وقوله: فعجم عيدانها، أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى:
وملفوظها كلقيط العجم.
وقوله: أمرها عودا، أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل وقوله: لأعصبنكم عصب السلمة، فالعصب القطع، والسلمة، شجرة من العضاه وقوله: لا أخلق إلا فريت، فالخلق:
التقدير، قال الله تعالى: «مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» ، أي مقدرة وغير مقدرة، يعني ما يتم وما يكون سقطا، قال الكميت يصف قربة:
لم تجشم الخالقات فريتها ... ولم يفض من نطاقها السرب
(6/205)
وإنما وصف حواصل الطير، يقول: ليست كهذه وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر:
وبهو هواء فوق مور كأنه ... من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب
ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي:
وذاب للشمس لعاب فنزل ... وقام ميزان الزمان فاعتدل
والزرافات: الجماعات تم التفسير.
قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني مُحَمَّد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال:
يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها، وأدبا لما بعدها.
قوله: تحتها قصف، فهو شدة الريح واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء والظلع: الضعف والوهن من شدة السير وقوله:
تهوى هوي سابق الغطاط، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير.
قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وانشد الحسان ابن ثابت:
(6/206)
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن الغطاط المقبل
بفتح الغين قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز:
قام إلى أدماء في الغطاط ... يمشي بمثل قائم الفسطاط
تم التفسير.
قال: فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابنى، وهو أشب مني، قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابئ التميمي، قال:
أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى، قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخا كبيرا، قال: او ليس يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه، فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله.
ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال:
لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان، فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلا! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر مناديا فنادى: ألا إن عمير بن ضابئ أتى بعد ثالثة، وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب: قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو.
قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذحج، فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر
(6/207)
قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليهم كتاب عبد الملك قال القارئ: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله فقال له:
اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: أما بعد، سلام عليكم، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمي، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابئ البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني- وكذب عليه فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابئ، فأتي به شيخا كبيرا، فقال له:
ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلا فهو أجلد مني جلدا، وأحدث مني سنا، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقا وإلا فعاقبني قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلا، فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه، قال عمرو بن سعيد: فو الله.
إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزا مضريا، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟
فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابئ فضرب عنقه
(6/208)
ولما قتل الحجاج عمير بن ضابئ لقي إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر، فقال ابن الزبير:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا
تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا كره نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه ... رآها مكان السوق او هي اقربا
فكائن ترى من مكره العدو مسمن ... تحمم حنو السرج حتى تحنبا
وكان قدوم الحجاج الكوفة- فيما قيل- في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أيوب الثقفي، على البصرة أميرا، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالدا الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف وعلى خراسان
(6/209)
أمية بن عبد الله وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة زراره ابن أوفى.
وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ.
ذكر الخبر عن ثوره الناس بالحجاج بالبصرة
وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة.
ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به:
ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: خرج الحجاج بن يوسف من الكوفة بعد ما قدمها، وقتل ابن ضابئ من فوره ذلك حتى قدم البصرة، فقام فيها بخطبة مثل الذي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إياهم، فأتي برجل من بني يشكر فقيل:
هذا عاص، فقال: إن بي فتقا، وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصره، فخرجوا حتى تداكئوا على العارض بقنطرة رامهرمز، فقال المهلب:
جاء الناس رجل ذكر.
وخرج الحجاج حتى نزل رستقباذ في أول شعبان سنة خمس وسبعين فثار الناس بالحجاج، عليهم عبد الله بن الجارود، فقتل عبد الله بن الجارود، وبعث بثمانية عشر رأسا فنصبت برامهرمز للناس، فاشتدت ظهور المسلمين، وساء ذلك الخوارج، وقد كانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف، فانصرف الحجاج إلى البصرة.
وكان سبب أمر عبد الله بن الجارود أن الحجاج لما ندب الناس إلى
(6/210)
اللحاق بالمهلب بالبصرة فشخصوا سار الحجاج حتى نزل رستقباذ قريبا من دستوى في آخر شعبان ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج وتابعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه ورءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، وانصرف إلى البصرة، وكتب الى المهلب والى عبد الرحمن ابن مخنف: أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج، والسلام
. نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز
وفي هذه السنة نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من أمرهم في هذه السنة: ذكر هشام عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: ناهض المهلب وابن مخنف الأزارقة برامهرمز بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان يوم الاثنين سنة خمس وسبعين، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا اليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرض منها يقال لها كازرون، وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أن المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل، وإن أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا وإن الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق،
(6/211)
فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فقتل، وقتلوا حوله، فقال شاعرهم:
لمن العسكر المكلل بالصرعى ... فهم بين ميت وقتيل
فتراهم تسفي الرياح عليهم ... حاصب الرمل بعد جر الذيول
وأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أن كتاب الحجاج بن يوسف أتى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف، أن ناهضا الخوارج حين يأتيكما كتابي فناهضاهم يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان سنة خمس وسبعين واقتتلوا قتالا شديدا لم يكن بينهم فيما مضى قتال كان أشد منه، وذلك بعد الظهر، فمالت الخوارج بحدها على المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى عسكره، فسرح إلى عبد الرحمن رجالا من صلحاء الناس، فأتوه، فقالوا: إن المهلب يقول لك: إنما عدونا واحد، وقد ترى ما قد لقي المسلمون، فأمد إخوانك يرحمك الله فأخذ يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجيء من عسكر عبد الرحمن من الخيل والرجال إلى عسكر المهلب ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا خمس كتائب أو ستا تجاه عسكر المهلب، وانصرفوا بحدهم وجمعهم إلى عبد الرحمن بن مخنف، فلما رآهم قد صمدوا له نزل ونزل معه القراء، عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر ابن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من خاصة قومه أحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلتهم قتالا شديدا ثم إن الناس انكشفوا عنه، فبقي في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى إذا دنا من أبيه حالت الخوارج بينه وبين أبيه، فقاتل حتى ارتثته الخوارج، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلك العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب حتى
(6/212)
أتاه، فدفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب بذلك الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فنعى عبد الرحمن بمنى، وذم أهل الكوفة، وبعث الحجاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف عتاب بن ورقاء، وأمره إذا ضمتهما الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك، فلم يجد بدا من طاعة الحجاج ولم يقدر على مراجعته، فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يقضي أموره، ولا يكاد يستشير المهلب في شيء فلما رأى ذلك المهلب اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة، فأغراهم بعتاب.
قال أبو مخنف عن يوسف بن يزيد: إن عتابا أتى المهلب يسأله أن يرزق أصحابه، فأجلسه المهلب معه على مجلسه، قال: فسأله أن يرزق أصحابه سؤالا فيه غلظه وتجهم، قال: فقال له المهلب: وانك لها هنا بابن اللخناء! فبنو تميم يزعمون أنه رد عليه، وأما يوسف بن يزيد وغيره فيزعمون أنه قال: والله إنها لمعمة مخولة، ولوددت أن الله فرق بيني وبينك قال: فجرى بينهما الكلام حتى ذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب عليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب، وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكرهه فاحتمله له، فإنه لذلك منك أهل، ففعل وقام عتاب فرجع من عنده، واستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه، ويقع فيه.
فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء أهل المصر، ويسأله أن يضمه إليه، فوافق ذلك من الحجاج حاجة إليه فيما لقي أشراف الكوفة من شبيب، فبعث إليه أن أقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب، فبعث المهلب عليه حبيب بن المهلب.
وقال حميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن بن مخنف:
إن يقتلوك أبا حكيم غدوة ... فلقد تشد وتقتل الأبطالا
(6/213)
أو يثكلونا سيدا لمسود ... سمح الخليقة ماجدا مفضالا
فلمثل قتلك هد قومك كلهم ... من كان يحمل عنهمُ الأثقالا
من كان يكشف غرمهم وقتالهم ... يوما إذا كان القتال نزالا!
أقسمت ما نيلت مقاتل نفسه ... حتى تدرع من دم سربالا
وتناجز الأبطال تحت لوائه ... بالمشرفية في الأكف نصالا
يوما طويلا ثم آخر ليلهم ... حين استبانوا في السماء هلالا
وتكشفت عنه الصفوف وخيله ... فهناك نالته الرماح فمالا
وقال سراقة بن مرداس البارقي:
أعيني جودا بالدموع السواكب ... وكونا كواهي شنة مع راكب
على الأزد لما أن أصيب سراتهم ... فنوحا لعيش بعد ذلك خائب
نرجى الخلود بعدهم وتعوقنا ... عوائق موت أو قراع الكتائب
وكنا بخير قبل قتل ابن مخنف ... وكل امرئ يوما لبعض المذاهب
أمار دموع الشيب من أهل مصره ... وعجل في الشبان شيب الذوائب
وقاتل حتى مات أكرم ميتة ... وخر على خد كريم وحاجب
وضارب عنه المارقين عصابة ... من الأزد تمشي بالسيوف القواضب
فلا ولدت أنثى ولا آب غائب ... إلى أهله إن كان ليس بآيب
فيا عين بكي مخنفا وابن مخنف ... وفرسان قومي قصرة وأقاربي
وقال سراقة أيضا يرثي عبد الرحمن بن مخنف:
ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة ... وأزد عمان رهن رمس بكازر
وضارب حتى مات اكرم ميته ... بابيض صاف كالعقيقة باتر
وصرع حول التل تحت لوائه ... كرام المساعي من كرام المعاشر
(6/214)
قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنف ... وأدبر عنه كل ألوث داثر
أمد فلم يمدد فراح مشمرا ... إلى الله لم يذهب بأثواب غادر
وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحوا من سنة.
وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وكان يرى رأي الصفرية وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية
. ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج وما كان منه في هذه السنة
ذكر أن صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس حج سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب بالفتك به، وبلغه ذرء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ليعدهم، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها
(6/215)
ثم دخلت
سنة ست وسبعين
(ذكر الكائن من الأحداث فيها) فمن ذلك خروج صالح بن مسرح.
ذكر الخبر عن خروج صالح بن مسرح وعن سبب خروجه
وكان سبب خروجه- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي- أن صالح بن مسرح التميمي كان رجلا ناسكا مخبتا مصفر الوجه، صاحب عبادة، وأنه كان بدارا وأرض الموصل والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن ويفقههم ويقص عليهم، فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن يرى رأيهم، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل.
وكان قصصه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» اللهم إنا لا نعدل بك، ولا نحفد إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير ونشهد أن مُحَمَّدا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين، وجاهد المشركين، حتى توفاه الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ.
أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما
(6/216)
عند الله، وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت يخيف العبد من ربه حتى يجأر إليه، ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ.
» وإن حب المؤمنين للسبب الذي تنال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولي الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله- رحمه الله- واستخلف عمر، فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله، ولم يحنق في الحق على جرته، ولم يخف في الله لومة لائم، حتى لحق به رحمة الله عليه، وولي المسلمين من بعده عثمان، فاستأثر بالفيء، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، وولي أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه برآء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم، وحلائلكم ودنياكم، وان اشتد لذلك كرهكم وجزعكم ألا فبيعوا الله أنفسكم
(6/217)
طائعين وأموالك تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة، قال: بينا أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم: ما ادرى ما تنتظرون! حتى متى أنتم مقيمون! هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدا عن الحق، وجرأة على الرب، فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون.
قال: فتراسل أصحاب صالح، وتلاقوا في ذلك، فبينا هم في ذلك إذ قدم عليهم المحلل بن وائل اليشكري بكتاب من شبيب إلى صالح بن مسرح: أما بعد، فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك منا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني، فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولما أجاهد الظالمين.
فيا له غبنا، ويا له فضلا متروكا! جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه، والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك.
قال: فلما قدم على صالح المحلل بن وائل بذلك الكتاب من شبيب كتب إليه صالح:
أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطأ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأ من المسلمين نبأني بنبإ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا وقد قدم علي رسولك بكتابك، فكل ما فيه قد فهمته، ونحن
(6/218)
في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا، ثم اخرج بنا متى ما أحببت، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور والسلام عليك.
فلما قدم على شبيب كتابه بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه، منهم اخوه مصاد بن يزيد بن نعيم، والمحلل بن وائل اليشكري، والصقر ابن حاتم من بني تيم بن شيبان، وإبراهيم بن حجر أبو الصقير من بني محلم، والفضل بن عامر من بني ذهل بن شيبان، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله! فو الله ما تزداد السنة إلا دروسا، ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا فبث صالح رسله في أصحابه، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين فاجتمع بعضهم إلى بعض، وتهيئوا، وتيسروا للخروج في تلك الليلة، واجتمعوا جميعا عنده في تلك الليلة لميعاده.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: والله إني لمع شبيب بالمدائن إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت:
يا أمير المؤمنين، كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك، أما أنا فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله، واستحوذ عليهم الشيطان فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يزري عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم قال: فقلت له: فكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا قال: فأحسن القول وأصاب، رحمة الله عليه وعلينا قال أبو مخنف: فحدثني رجل من بني محلم أن صالح بن مسرح
(6/219)
قال لأصحابه ليلة خرج: اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قوما يريدونكم، وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصي في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤلون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمُحَمَّد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أراجلكم، وتقووا بها على عدوكم فخرجوا فأخذوا تلك الليلة الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وصارت رجالتها فرسانا، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين- وقيل في مائة وعشرة- قال: وبلغ مخرجهم مُحَمَّد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدي بن عدي بن عميرة من بني الحارث بن معاوية بن ثور في خمسمائة، فقال له: أصلح الله الأمير! أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة! قد خرج معه رجال من ربيعة قد سموا لي، كانوا يعازوننا، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل قال له: فانى ازيدك خمسمائة أخرى، فسر إليهم في ألف، فسار من حران في الف رجل، فكان أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي، وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة، يقال له: زياد بن عبد الله، فقال: إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلدا آخر فتقاتل أهله، فإن عديا للقائك كاره، فقال له صالح: ارجع اليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك من هذا البلد إلى غيره، وإن كنت على رأي الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا، فان شئنا
(6/220)
بدأنا بك، وإن شئنا رحلنا إلى غيرك فانصرف إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به، فقال له: ارجع إليه فقل له: إني والله ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتل غيري، فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى يأتي عدى بن عدى بن عميرة في سوق دوغان وهو قائم يصلي الضحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم، فلما بصروا بها تنادوا، وجعل صالح شبيبا في كتيبة في ميمنة أصحابه، وبعث سويد بن سليم الهندي من بني شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه، ووقف هو في كتيبة في القلب، فلما دنا منهم رآهم على غير تعبئة، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيبا فحمل عليهم، ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا، وأتي عدي بن عدي بدابته وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه، وجاء صالح ابن مسرح حتى نزل عسكره وحوى ما فيه، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على مُحَمَّد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة من بني ربيعة بن عامر بن صعصعة فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعاهما، فقال:
أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا الخروج، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه، فخرجا من عنده فأغذا السير، وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: إنه توجه نحو آمد، فأتبعاه حتى انتهيا إليه، وقد نزل على أهل آمد فنزلا ليلا، فخندقا وانتهيا إليه وهما متساندان كل واحد منهما في أصحابه على حدته، فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد بن جزء البسلمى قال أبو مخنف: فحدثني المحلمي، قال: انتهوا إلينا في أول وقت العصر، فصلى بنا صالح العصر، ثم عبانا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله قوم قط، وجعلنا والله نرى الظفر يحمل الرجل منا على العشرة منهم فيهزمهم، وعلى العشرين فكذلك، وجعلت خيلهم لا تثبت لخيلنا
(6/221)
فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جل من معهما فترجل، فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد، إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا وبينهم، وقد أفشوا فينا الجراحه، وافشيناها فيهم، وقد قتلوا منا نحوا من ثلاثين رجلا، وقتلنا منهم اكثر من سبعين، وو الله ما أمسينا حتى كرهناهم وكرهونا، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا.
وما نقدم عليهم، فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم، ورجعنا إلى عسكرنا فصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر ثم إن صالحا دعا شبيبا ورءوس أصحابه فقال: يا أخلائي، ماذا ترون؟ فقال شبيب: أرى أنا قد لقينا هؤلاء القوم فقاتلناهم، وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم، فقال صالح: وأنا أرى ذلك، فخرجوا من تحت ليلتهم سائرين، فمضوا حتى قطعوا أرض الجزيرة، ثم دخلوا أرض الموصل فساروا فيها حتى قطعوها ومضوا حتى قطعوا الدسكرة.
فلما بلغ ذلك الحجاج سرح إليهم الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني في ثلاثة آلاف رجل من أهل الكوفة، ألف من المقاتلة الأولى، وألفين من الفرض الذي فرض لهم الحجاج فسار حتى إذا دنا من الدسكرة خرج صالح بن مسرح نحو جلولاء وخانقين، واتبعه الحارث ابن عميرة حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج من أرض الموصل على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى، وصالح يومئذ في تسعين رجلا، فعبى الحارث ابن عميرة يومئذ أصحابه، وجعل على ميمنته أبا الرواغ الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، ثم شد عليهم- وذلك بعد العصر- وقد جعل أصحابه ثلاثة كراديس، فهو في كردوس، وشبيب في كردوس في ميمنته، وسويد بن سليم في كردوس في الميسرة، في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا.
فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد
(6/222)
ابن سليم، وثبت صالح بن مسرح فقتل، وضارب شبيب حتى صرع، فوقع في رجالة، فشد عليهم فانكشفوا، فجاء حتى انتهى الى موقف صالح ابن مسرح فأصابه قتيلا، فنادى: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به، فقال لأصحابه: ليعجل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن، ونرى رأينا، ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا بشبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه: أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه فإنهم لا يقدرون على أن يخرجوا منه حتى نصبحهم فنقتلهم ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى عسكرهم، فأشرف شبيب عليهم وطائفة من أصحابه، فقال بعض أولئك الفرض: يا بني الزواني، ألم يخزكم الله! فقالوا:
يا فساق، نعم تقاتلوننا لقتالنا إياكم إذ أعماكم الله عن الحق الذي نحن عليه، فما عذركم عند الله في الفري على أمهاتنا! فقال لهم حلماؤهم:
إنما هذا من قول شباب فينا سفهاء، والله ما يعجبنا قولهم ولا نستحله.
وقال شبيب لأصحابه: يا هؤلاء، ما تنتظرون! فو الله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم، فقالوا له: مرنا بأمرك، فقال لهم: إن الليل أخفى للويل، بايعوني ومن شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم لذلك منكم آمنون، وأنا أرجو أن ينصركم الله عليهم قالوا: فابسط يدك فلنبايعك، فبايعوه، ثم جاءوا ليخرجوا، وقد صار بابهم جمرا، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم قطعوا عليها، فلم يشعر الحارث بن عميرة ولا أهل العسكر إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، فكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب، وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى من سنه
(6/223)
خبر دخول شبيب الكوفه وما كان من امره مع الحجاج
وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة ومعه زوجته غزالة.
ذكر الخبر عن دخوله الكوفة وما كان من أمره وأمر الحجاج بها والسبب الذي دعا شبيبا إلى ذلك:
وكان السبب في ذلك- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي- أن شبيبا لما قتل صالح بن مسرح بالمدبج وبايعه أصحاب صالح، ارتفع إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سيار بن المضاء التيمي تيم شيبان، فدعاه إلى الخروج معه، وكان يعرفه قبل ذلك إذ كانا في الديوان والمغازي، فاشترط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسا، ثم لا يغيب عنه إلا ثلاث ليال عددا.
ففعل، فانتخب ثلاثين فارسا، فانطلق بهم نحو عنزة، وإنما أرادهم ليشفى نفسه منهم لقتلهم أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج قبل ذلك في ثمانية عشر نفسا حتى نزل ماء يقال له الشجرة من ارض الجبال، عليه أثلة عظيمة، وعليه عنزة، فلما رأته عنزه قال بعضهم لبعض:
نقتلهم ثم نغدو بهم الى الأمير فنعطى ونحبى، فأجمعوا على ذلك فقالت بنو نصر أخواله: لعمر الله لا نساعدكم على قتل ولدنا فنهضت عنزة إليهم فقاتلوهم فقتلوهم، وأتوا برءوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم بانقيا، وفرض لهم، ولم تكن لهم فرائض قبل ذلك إلا قليلة، فقال سلامة بن سيار، أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه:
وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ... لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر
قال: وكان خروج أخيه فضالة قبل خروج صالح بن مسرح وشبيب
(6/224)
فلما بايع سلامة شبيبا اشترط عليه هذا الشرط، فخرج في ثلاثين فارسا حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة منهم بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته، وقد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فقالت وأخرجت ثديها إليه: أنشدك برحم هذا يا سلامة! فقال: لا والله، ما رأيت فضالة مذ أناخ بعمر الشجرة- يعني أخاه- لتقومن عنه، أو لأجمعن حافتك بالرمح، فقامت عن ابنها عند ذلك فقتله قال أبو مخنف: فحدثني المفضل بن بكر من بني تيم بن شيبان أن شبيبا أقبل في أصحابه نحو راذان، فلما سمعت به طائفه من بنى تيم ابن شيبان خرجوا هرابا منه، ومعهم ناس من غيرهم قليل، فأقبلوا حتى نزلوا دير خرزاد إلى جنب حولايا، وهم نحو من ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو من سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم، فهابوه وتحصنوا منه.
ثم إن شبيبا سرى في اثني عشر فارسا من أصحابه إلى أمه، وكانت في سفح ساتيدما نازلة في مظلة من مظال الأعراب: فقال: لآتين بأمي فلأجعلنها في عسكري فلا تفارقني أبدا حتى أموت أو تموت وخرج رجلان من بني تيم بن شيبان تخوفا على أنفسهما فنزلا من الدير، فلحقا بجماعه من قومهما وهم نزول بالحال منهم على مسيرة ساعة من النهار، وخرج شبيب، في أولئك الرهط في أولهم وهم اثنا عشر، يريد أمه بالسفح، فإذا هو بجماعة من بني تيم بن شيبان غارين في أموالهم مقيمين، لا يرون أن شبيبا يمر بهم لمكانهم الذي هم به، ولا يشعر بهم، فحمل عليهم في فرسانه تلك، فقتل منهم ثلاثين شيخا، فيهم حوثرة بن أسد ووبرة بن عاصم اللذان كانا نزلا من الدير، فلحقا بالجبال، ومضى شبيب إلى أمه فحملها من السفح، فأقبل بها، وأشرف رجل من أصحاب الدير من بكر بن وائل على أصحاب شبيب، وقد استخلف شبيب أخاه على أصحابه مصاد بن يزيد، ويقال لذلك الرجل الذي أشرف عليهم سلام بن حيان، فقال لهم: يا قوم، القرآن بيننا وبينكم، ألم تسمعوا قول الله: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» ،
(6/225)
قالوا: بلى، قال لهم: فكفوا عنا حتى نصبح، ثم نخرج إليكم على أمان لنا منكم، لكيلا تعرضوا لنا بشيء نكرهه حتى تعرضوا علينا أمركم هذا، فإن نحن قبلناه حرمت عليكم أموالنا ودماؤنا، وكنا لكم إخوانا، وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم فيما بيننا وبينكم، قالوا لهم: فهذا لكم فلما أصبحوا خرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، ووصفوا لهم أمرهم، فقبلوا ذلك كله، وخالطوهم، ونزلوا إليهم، فدخل بعضهم إلى بعض، وجاء شبيب وقد اصطلحوا، فأخبره أصحابه خبرهم، فقال: أصبتم ووفقتم وأحسنتم.
ثم إن شبيبا ارتحل فخرجت معه طائفة وأقامت طائفة جانحة، وخرج يومئذ معه إبراهيم بن حجر المحلمي أبو الصقير كان مع بني تيم بن شيبان نازلا فيهم، ومضى شبيب في أداني أرض الموصل وتخوم أرض جوخى، ثم ارتفع نحو أذربيجان، وأقبل سفيان بن أبي العالية الخثعمي في خيل قد كان أمر أن يدخل بها طبرستان، فأمر بالقفول، فأقبل راجعا في نحو من ألف فارس، فصالح صاحب طبرستان.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمه عن سفيان بن ابى العاليه الخثعمي إن كتاب الحجاج أتاه: أما بعد، فسر حتى تنزل الدسكرة فيمن معك، ثم أقم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن ذي المشعار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه فلما أتاه الكتاب أقبل حتى نزل الدسكرة، ونودي في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن: أن برئت الذمة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف سفيان بن أبي العالية بالدسكرة.
قال: فخرجوا حتى أتوه، وأتته خيل المناظر، وكانوا خمسمائة، عليهم سوره بن أبجر التميمي من بني أبان بن دارم، فوافوه إلا نحوا من خمسين رجلا تخلفوا عنه، وبعث إلى سفيان بن أبي العاليه الا تبرح العسكر حتى آتيك فعجل سفيان فارتحل في طلب شبيب، فلحقه بخانقين في سفح جبل على ميمنته خازم بن سفيان الخثعمي من بنى
(6/226)
عمرو بن شهران، وعلى ميسرته عدي بن عميرة الشيباني، وأصحر لهم شبيب، ثم ارتفع عنهم حتى كأنه يكره لقاءه، وقد أكمن له أخاه مصادا معه خمسون في هزم من الأرض.
فلما رأوه جمع أصحابه ثم مضى في سفح الجبل مشرقا فقالوا:
هرب عدو الله فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونسير بها، فإن يكونوا قد أكمنوا لنا كمينا كنا قد حذرناه، وإلا فإن طلبهم لن يفوتنا فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم.
ولما راى الكمين ان قد جاوزوهم خرجوا إليهم، فحمل عليهم شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من ورائهم، فلم يقاتلهم أحد، وكانت الهزيمة، فثبت ابن أبي العالية في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حسنا، حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه فقال سويد بن سليم لأصحابه: أمنكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العاليه؟ فو الله لئن عرفته لأجهدن نفسي في قتله، فقال شبيب: أنا من أعرف الناس به، أما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية! فإنه ذلك، فإن كنت تريده فأمهله قليلا ثم قال: يا قعنب، اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم، فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم.
فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا يتنقضون ويتسللون، وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية فطاعنه، فلم تصنع رمحاهما شيئا، ثم اضطربا بسيفيهما ثم اعتنق كل منهما صاحبه، فوقعا الى الارض يعتركان، ثم تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له يقال له غزوان، فنزل عن برذونه، وقال: اركب يا مولاي، فركب سفيان، وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان فقتل، وكانت معه رايته وأقبل سفيان بن أبي العاليه حتى انتهى الى بابل مهروذ،
(6/227)
فنزل بها، وكتب إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقاتلتهم، فضرب الله وجوههم، ونصرنا عليهم، فبينا نحن كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيبا عنهم، فحملوا على الناس فهزموهم، فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم، حتى خررت بين القتلى، فحملت مرتثا، فاتى بي بابل مهروذ، فها انا بها والجند الذين وجههم إلي الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف، ويعتذر بغير العذر والسلام فلما قرأ الحجاج الكتاب قال: من صنع كما صنع هذا، وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه:
أما بعد، فقد أحسنت البلاء، وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك والسلام.
وكتب إلى سورة بن أبجر:
أما بعد فيابن أم سورة، ما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى الخيل التي بالمدائن، فلينتخب منهم خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة، واحزم في أمرك، وكد عدوك، فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة والسلام.
فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عميرة إلى المدائن، وكان بها الف فارس، فانتخب منهم خمسمائة، ثم دخل على عبد الله بن أبي عصيفير- وهو أمير المدائن في إمارته الأولى- فسلم عليه، فأجازه بألف درهم، وحمله على فرس، وكساه أثوابا ثم إنه خرج من عنده، فأقبل بأصحابه حتى قدم بهم على سورة بن أبجر ببابل مهروذ، فخرج في طلب شبيب، وشبيب
(6/228)
يجول في جوخى وسورة في طلبه، فجاء شبيب حتى انتهى إلى المدائن، فتحصن منه أهل المدائن وتحرزوا، ووهى أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن، فأصاب بها دواب جند كثيرة، فقتل من ظهر له ولم يدخلوا البيوت، فأتي فقيل له: هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك، فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن ابى طالب ع، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرءوا من علي وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه فأخبرته بمنزل شبيب بالنهروان، فدعا رءوس أصحابه فقال: إنهم قلما يلقون مصحرين أو على ظهر إلا انتصفوا منكم، وظهروا عليكم، وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائه رجل الا قليلا، وقد رايت ان انتخبكم فاسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فآتيهم الآن إذ هم آمنون لبياتكم، فو الله إني لأرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم الذين صرعوا منهم بالنهروان من قبل فقالوا: اصنع ما أحببت فاستعمل على عسكره حازم بن قدامه الخثعمى، وانتخب من اصحابه ثلاثمائه رجل من أهل القوة والجلد والشجاعة، ثم أقبل بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم، فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم.
فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا واستعدوا، فحمل عليهم سورة وأصحابه فثبتوا لهم، وضاربوهم حتى صد عنهم سورة وأصحابه، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا له العرصة، وحملوا عليهم معه، وجعل شبيب يضرب ويقول:
من ينك العير ينك نيّاكا ... جندلتان اصطكتا اصطكاكا
فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم حتى أقبل بهم نحو المدائن، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذي
(6/229)
فيه شبيب، واتبعه شبيب وهو يرجو أن يلحقه فيصيب عسكره، ويصيب بهزيمته أهل العسكر، فأغذ السير في طلبهم، فانتهوا إلى المدائن فدخلوها، وجاء شبيب حتى انتهى إلى بيوت المدائن، فدفع إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي عصيفير في أهل المدائن، فرماهم الناس بالنبل، ورموا من فوق البيوت بالحجارة، فارتفع شبيب بأصحابه عن المدائن، فمر على كلواذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج فأخذها، ثم خرج يسير في أرض جوخى، ثم مضى نحو تكريت، فبينا ذلك الجند في المدائن إذ أرجف الناس بينهم، فقالوا: هذا شبيب قد دنا، وهو يريد أن يبيت أهل المدائن الليلة، فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة الخثعمي، قال: والله لقد هربوا من المدائن وقالوا: نبيت الليلة، وإن شبيبا لبتكبريت، قال:
ولما قدم الفل على الحجاج سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندي.
قال أبو مخنف: حدثنا النضر بن صالح العبسي وفضيل بن خديج الكندي أن الحجاج لما أتاه الفل قال: قبح الله سورة! ضيع العسكر والجند، وخرج يبيت الخوارج، أما والله لأسوأنه، وكان بعد قد حبسه ثم عفا عنه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن الحجاج دعا الجزل- وهو عثمان بن سعيد- فقال له: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق، ولا تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت؟ لله أنت يا أخا بني عمرو بن معاوية! فقال: نعم أصلح الله الأمير قد فهمت، قال له: فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس، فقال: أصلح الله الأمير! لا تبعثن معي أحدا من أهل هذا الجند المفلول المهزوم، فإن الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت الا ينفعك والمسلمين منهم أحد، قال له: فإن ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت ثم دعا أصحاب الدواوين فقال: اضربوا على
(6/230)
الناس البعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس، من كل ربع الف رجل، وعجلوا ذلك، فجمعت العرفاء، وجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف فأمرهم بالعسكر فعسكروا، ثم نودي فيهم بالرحيل، ثم ارتحلوا ونادى منادي الحجاج: أن برئت الذمة من رجل أصبناه من هذا البعث متخلفا، قال: فمضى الجزل بن سعيد، وقد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته، فخرج حتى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وبغلين وألفي درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام حتى ارتحلوا، فأصاب الناس ما شاءوا من تلك الجزر والعلف الذي وضع لهم ابن أبي عصيفير ثم إن الجزل بن سعيد خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج، ولا يقيم له إرادة أن يفرق الجزل أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على غير تعبئة فعجل الجزل لا يسير الا على تعبئة، ولا ينزل إلا خندق على نفسه خندقا، فلما طال ذلك على شبيب أمر أصحابه ذات ليلة فسروا.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبا دعانا ونحن بدير بيرما ستون ومائة رجل، فجعل على كل أربعين من أصحابه رجلا، وهو في أربعين، وجعل أخاه مصادا في أربعين، وبعث سويد بن سليم في أربعين، وبعث المحلل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل دير يزدجرد، قال: فدعانا عند ذلك فعبانا هذه التعبئة، وأمرنا فعلقنا على دوابنا، وقال لنا: تيسروا فإذا قضمت دوابكم فاركبوا، وليسر كل امرئ منكم مع أميره الذي أمرناه عليه، ولينظر كل امرئ منكم ما يأمره أميره فليتبعه ودعا أمراءنا فقال لهم: إني أريد أن أبيت هذا العسكر الليلة، ثم قال لأخيه مصاد: ايتهم فارتفع من فوقهم حتى تأتيهم من ورائهم من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامي من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت يا محلل من قبل المغرب، وليلج
(6/231)
كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم، تحملون وتكرون عليهم، وتصيحون بهم حتى يأتيكم أمري فلم نزل على تلك التعبئة، وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، حتى إذا قضمت دوابنا- وذلك أول الليل أول ما هدأت العيون- خرجنا حتى انتهينا الى دير الخراره، فإذا للقوم مسلحة، عليهم عياض بن أبي لينة، فما هو إلا أن انتهينا إليهم، فحمل عليهم مصاد أخو شبيب في أربعين رجلا، وكان أمام شبيب، وقد كان أراد أن يسبق شبيبا حتى يرتفع عليهم ويأتيهم من ورائهم كما أمره، فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا ساعة، وقاتلوهم ثم إنا دفعنا إليهم جميعا، فحملنا عليهم فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلا قريب من ميل.
فقال لنا شبيب: اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم، فأتبعناهم والله ملظين بهم، ملحين عليهم، ما نرفه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همة إلا عسكرهم، فانتهوا إلى عسكرهم، ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقونا بالنبل، وكانت عيون لهم قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليه، وتحرز ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان على الطريق، فلما أن دفعنا إلى هذه المسلحة التي كانت بدير الخرارة فألحقناهم بعسكر جماعتهم ورجعت المسالح الأخر حتى اجتمعت، ومنعها أهل العسكر دخول العسكر وقالوا لهم: قاتلوا، وانضحوا عنكم بالنبل قال أبو مخنف: وحدثني جرير بن الحسين الكندي، قال: كان على المسلحتين الأخريين عاصم بن حجر على التي تلي حلوان، وواصل ابن الحارث السكوني على الأخرى فلما أن اجتمعت المسالح جعل شبيب يحمل عليها حتى اضطرها إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنبل حتى ردوهم عنهم فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم قال لأصحابه سيروا ودعوهم، فمضى على الطريق نحو حلوان حتى إذا كان قريبا
(6/232)
من موضع قباب حسين بن زفر من بني بدر بن فزارة- وإنما كانت قباب حسين بن زفر بعد ذلك- قال: لأصحابه: انزلوا فأقضموا وأصلحوا نبلكم وتروحوا وصلوا ركعتين، ثم اركبوا، فنزلوا ففعلوا ذلك ثم إنه أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة أيضا، وقال: سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها بدير بيرما أول الليل، ثم أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم، فأقبلوا قال: فأقبلنا معه وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنونا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا قريبا منهم، فانتهينا إليهم قبيل الصبح فأحطنا بعسكرهم، ثم صيحنا بهم من كل جانب، فإذا هم يقاتلوننا من كل جانب، ويرموننا بالنبل ثم إن شبيبا بعث إلى أخيه مصاد وهو يقاتلهم من نحو الكوفة أن أقبل إلينا وخل لهم سبيل الطريق الى الكوفه فاقبل اليه، وترك ذلك الوجه، وجعلنا نقاتلهم من تلك الوجوه الثلاثة حتى أصبحنا، فأصبحنا ولم تستفل منهم شيئا، فسرنا وتركناهم فجعلوا يصيحون بنا: أين يا كلاب النار! أين أيتها العصابة المارقة! أصبحوا نخرج إليكم، فارتفعنا عنهم نحوا من ميل ونصف، ثم نزلنا فصلينا الغداة، ثم أخذنا الطريق على براز الروذ، ثم مضينا إلى جرجرايا وما يليها، فأقبلوا في طلبنا.
قال أبو مخنف: فحدثني مولى لنا يدعى غاضرة أو قيصر، قال: كنت مع الناس تاجرا وهم في طلب الحرورية وعلينا الجزل بن سعيد، فجعل يتبعهم فلا يسير الا على تعبئة، ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في ارض جوخى وغيرها يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إليه كتابا، فقرئ على الناس:
أما بعد، فإني بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتباع هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها، فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم والسلام.
فقرئ الكتاب علينا ونحن بقطراثا ودير أبي مريم، فشق ذلك على
(6/233)
الجزل، وأمر الناس بالسير، فخرجوا في طلب الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل.
قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني ثم البرسمي أن الحجاج بعث سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وعهد إليه إن لقيت المارقة فازحف إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم وواقفهم واستعن بالله عليهم، ولا تصنع صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع واقبل بجزل في طلب شبيب حتى انتهوا إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره، وخندق عليه وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا، فقام فيهم خطيبا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم.
أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين، وهم قد خربوا بلادكم، وكسروا خراجكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم، ونزلوا بلدا سوى بلدكم، فاخرجوا على اسم الله إليهم.
فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل، فقال له الجزل: أقم أنت في جماعه الجيش، فارسهم وراجلهم، واصحر له، فو الله ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك، فإن ذلك شر لهم وخير لك فقال له: قف أنت في الصف، فقال: يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين فقال: هو رأيي إن اصبت، فالله وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برآء، قال: فوقف الجزل في صف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق، وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الرواسي، ووقف الجزل في جماعتهم
(6/234)
واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطيا، وأمر دهقانها أن يشتري لهم ما يصلحهم، ويتخذ لهم غداء، ففعل، ودخل مدينة قطيطيا وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل ذلك.
العسكر، فصعد الدهقان السور فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من حصنه، فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: ما لي أراك متغير اللون! فقال له الدهقان: قد جاءتك الجنود من كل ناحية، قال: لا بأس، هل أدرك غداؤنا؟ قال:
نعم، قال: فقربه، وقد أغلق الباب، وأتي بالغداء، فتغدى وتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه.
ثم إنهم اجتمعوا على باب المدينة، فأمر بالباب ففتح، ثم خرج على بغله فحمل عليهم وقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، اثبتوا إن شئتم وجعل سعيد يجمع قومه وخيله، ويزلفها في أثره، ويقول:
ما هؤلاء! إنما هم أكلة رأس، فلما رآهم شبيب قد تقطعوا وانتشروا لف خيله كلها، ثم جمعها، ثم قال: استعرضوهم استعراضا، وانظروا الى أميرهم، فو الله لأقتلنه أو يقتلني وحمل عليهم مستعرضا لهم، فهزمهم وثبت سعيد بن المجالد، ثم نادى أصحابه: إلي إلي، أنا ابن ذي مران! وأخذ قلنسوته فوضعها على قربوس سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه السيف، فخالط دماغه، فخر ميتا، وانهزم ذلك الجيش، وقتلوا كل قتلة، حتى انتهوا إلى الجزل، ونزل الجزل ونادى: أيها الناس، إلي.
وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن كان أميركم القادم قد هلك فأميركم الميمون النقيبة المبارك حي لم يمت، فقاتل الجزل قتالا شديدا حتى حمل من بين القتلى، فحمل إلى المدائن مرتثا، وقدم فل أهل ذلك العسكر الكوفة، وكان من أشد الناس بلاء يومئذ خالد بن
(6/235)
نهيك من بني ذهل بن معاوية وعياض بن أبي لينة، حتى استنقذاه وهو مرتث هذا حديث طائفة من الناس، والحديث الآخر قتالهم فيما بين دير أبي مريم إلى براز الروز ثم إن الجزل كتب إلى الحجاج.
قال: وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد فآمنهم، وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، فأحب أن يؤمنهم، وكان أصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دواب وثيابا وأشياء ليس لهم منها بد، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، وساروا أول الليل حتى نزلوا عقر الملك الذي يلي قصر ابن هبيرة ثم أغذ السير من الغد، فبات بين حمام عمر بن سعد وبين قبين فلما بلغ الحجاج مكانه بعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فبعثه في ألفي فارس نقاوة، وقال له:
اخرج إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليه في الرجال فإن استطرد ذلك فدعه ولا تتبعه فخرج فعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيبا قد أقبل، فأقبل نحوه وكأنما يساقون الى الموت، وامر الحجاج عثمان ابن قطن فعسكر بالناس بالسبخة، ونادى: ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة! وأمر سويد بن عبد الرحمن أن يسير في الألفين اللذين معه حتى يلقى شبيبا فعبر بأصحابه إلى زرارة وهو يعبئهم ويحرضهم إذ قيل له: قد غشيك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، وقدم رايته ومضى إلى أقصى زرارة، فأخبر أن شبيبا قد أخبر بمكانك فتركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات وهو يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به ثم قيل له: أما تراهم! فنادى:
في أصحابه، فركبوا في آثارهم.
وإن شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل: إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون بالسبخة، فلما بلغهم مكان شبيب صاح بعضهم ببعض
(6/236)
وجالوا، وهموا ان يدخلوا الكوفه حتى قيل لهم: إن سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل.
قال هشام: وأخبرني عمر بن بشير، قال: لما نزل شبيب الدير أمر بغنم تهيأ له، فصعد الدهقان، ثم نزل وقد تغير لونه، فقال: مالك! قال: قد والله جاءك جمع كثير، قال: أبلغ الشواء بعد؟ قال: لا، قال: دعه.
قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال: قد والله أحاطوا بالجوسق، قال:
هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث لهم، فلما فرغ توضأ وصلى بأصحابه الأولى، ثم تقلد سيفين بعد ما لبس درعه، وأخذ عمود حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فقال أخوه مصاد: أفي هذا اليوم تسرج بغلة! قال: نعم أسرجوها، فركبها، ثم قال: يا فلان، أنت على الميمنة وأنت يا فلان على الميسرة، وقال لمصاد: أنت في القلب، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم قال: فخرج اليهم وهو يحكم، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير نحو من ميل.
قال: وجعل سعيد يقول: يا معشر همدان، أنا ابن ذي مران، إلي إلي ووجه سربا مع ابنه وقد أحس أنها تكون عليه، فننظر شبيب إلى.
مصاد فقال: أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده قال: ثم علاه بالعمود، فسقط ميتا، وانهزم أصحابه وما قتل بينهم يومئذ إلا قتيل واحد قال:
وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى أتوا الجزل، فناداهم الجزل: أيها الناس، إلي إلي وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم قد هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة، أقبلوا إليه، وقاتلوا معه، فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما، وقاتل الجزل قتالا شديدا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض ابن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتث، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، فأتي بالجزل حتى أدخل المدائن، وكتب إلى الحجاج بن يوسف.
قال أبو مخنف: حدثني بذلك ثابت مولى زهير:
(6/237)
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم ورأيه، فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك، ولقد أرادني العدو بكل ريده فلم يصب مني غرة، حتى قدم علي سعيد بن مجالد رحمة الله عليه، ولقد امرته بالتؤده، ونهيته عن العجله، وامرته الا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني، وتعجل إليهم في الخيل، فأشهدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع فمضى فأصيب تجاوز الله عنه، ودفع الناس إلي، فنزلت ودعوتهم إلي، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له عند ذلك أني قد صدقته ونصحت له والسلام.
فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، فقد أتاني كتابك وقرأته، وفهمت كل ما ذكرت فيه، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم، وقد أصبت وأحسنت البلاء، وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحه، وقد اشخصت إليك حيان
(6/238)
ابن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام.
فقدم عليه حيان بن أبجر الكناني من بني فراس- وهم يعالجون الكي وغيره- فكان يداويه، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفير بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللطف والهدية قال: وأقبل شبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وبعث إلى أهل سوق بغداد وهو بالكرخ أن اثبتوا في سوقكم فلا بأس عليكم- وكان ذلك يوم سوقهم- وقد كان بلغه أنهم يخافونه قال: ويخرج سويد حتى جعل بيوت مزينة وبني سليم في ظهره وظهور أصحابه، وحمل عليهم شبيب حملة منكرة، وذلك عند المساء، فلم يقدر منهم على شيء، فأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وأتبعه سويد لا يفارقه حتى قطع بيوت الكوفة كلها إلى الحيرة، وأتبعه سويد حتى انتهى إلى الحيرة، فيجده قد قطع قنطرة الحيرة ذاهبا، فتركه وأقام حتى أصبح، وبعث إليه الحجاج أن أتبعه فأتبعه، ومضى شبيب حتى أغار في أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع في البر من وراء خفان في أرض يقال لها الغلظة، فيصيب رجالا من بني الورثة، فحمل عليهم، فاضطرهم إلى جدد من الأرض، فجعلوا يرمونه واصحابه بالحجارة من حجارة الأرحاء كانت حولههم، فلما نفدت وصل إليهم فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم حنظلة بن مالك ومالك بن حنظلة وحمران بن مالك، كلهم من بني الورثة.
قال أبو مخنف: حدثني بذلك عطاء بن عرفجة بن زياد بن عبد الله الورثي ومضى شبيب حتى يأتي بني أبيه على اللصف ماء لرهطه وعلى ذلك الماء الفزر بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وهو الذي كان ينهى شبيبا عن رأيه، وأن يفسد بني عمه وقومه، فكان شبيب يقول: والله لئن ملكت سبعة أعنة لأغزون الفزر فلما غشيهم شبيب
(6/239)
في الخيل سأل عن الفزر فاتقاه الفزر، فخرج على فرس لا تجارى من وراء البيوت، فذهب عليها في الأرض، وهرب منه الرجال، ورجع وقد أخاف أهل البادية حتى أخذ على القطقطانة، ثم على قصر مقاتل، ثم أخذ على شاطئ الفرات حتى أخذ على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم مضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان فتركه الحجاج وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب من ماذرواسب دهقان بابل مهروذ وعظيمها إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني فذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك، ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتي فحدثاني أنه قد نزل خانيجار فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج بالبصرة، فلما قرأه الحجاج أقبل جوادا إلى الكوفة، وأقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية يقال لها حربى على شاطئ دجلة فعبر منها، فقال: ما اسم هذه القرية؟ فقالوا: حربى، فقال: حرب يصلى بها عدوكم، وحرب تدخلونه بيوتهم، إنما يتطير من يقوف ويعيف، ثم ضرب رايته وقال لأصحابه: سيروا، فأقبل حتى نزل عقرقوفا، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين، لو تحولت بنا من هذه القرية المشئومة الاسم، قال.
وقد تطيرت أيضا! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوي منها، إنما شؤمها إن شاء الله على عدوكم تحملون عليهم فيها، فالعقر لهم ثم قال لأصحابه: يا هؤلاء، إن الحجاج ليس بالكوفة، وليس دون الكوفة إن شاء الله شيء، فسيروا بنا فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكتب عروة إلى الحجاج أن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل فطوى الحجاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة، ونزلها الحجاج صلاة الظهر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، فصلى المغرب والعشاء، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة، فجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق، ثم شد حتى ضرب باب القصر بعموده
(6/240)
قال أبو المنذر: رأيت ضربة شبيب بباب القصر قد أثرت أثرا عظيما، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبة، ثم قال:
وكأن حافرها بكل خميلة ... كيل يكيل به شحيح معدم
عبد دعى من ثمو أصله ... لا بل يقال أبو أبيهم يقدم
ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان كبيرا لا يفارقه قوم يصلون فيه، فقتل عقيل بن مصعب الوادعى وعدي بن عمرو الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان، وقتلوا أزهر بن عبد الله العامري، ومروا بدار حوشب وهو على الشرط فوقفوا على بابه وقالوا: إن الأمير يدعو حوشبا، فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب ليركبه حوشب، فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم، فأراد أن يدخل، فقالوا له: كما أنت، حتى يخرج صاحبك فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فخرج إليهم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم، وذهب لينصرف، فعجلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب، وقتلوا غلامه ميمونا، وأخذوا برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف ابن نبيط الشيباني من رهط حوشب، فقال له سويد: انزل إلينا، فقال له: ما تصنع بنزولي! قال له سويد: أقضيك ثمن البكرة التي كنت ابتعت منك بالبادية، فقال له الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس قضاء الدين هذا المكان! أما ذكرت أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على ظهر فرسك! قبح الله يا سويد دينا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة.
قال: ثم مضوا فمروا بمسجد بني ذهل فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فشدوا عليه ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم.
اللهم إني عنهم ضعيف، فانتصر لي منهم! فضربوه حتى قتلوه، ثم مضوا حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة
(6/241)
قال هشام: قال أبو بكر بن عياش: واستقبله النضر بن قعقاع ابن شور الذهلي، وأمه ناجية بنت هانئ بن قبيصة بن هانئ الشيباني فأبطره حين نظر إليه- قال: يعني بقوله: أبطره أفزعه- فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله، قال له سويد مبادرا: أمير المؤمنين، ويلك! فقال: أمير المؤمنين حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة، وأمر الحجاج المنادي فنادى: يا خيل الله اركبي وأبشري، وهو فوق باب القصر، وثم مصباح مع غلام له قائم، فكان أول من جاء إليه من الناس عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة، ومعه مواليه، وناس من أهله، فقال: أنا عثمان بن قطن، أعلموا الأمير مكاني فليأمر بأمره، فقال له ذلك الغلام: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل جانب، وبات عثمان فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح.
ثم ان الحجاج بعث بسر بن غالب الأسدي من بني والبة في ألفي رجل، وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألف من الموالي، وأعين- صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان- في ألف رجل، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث مُحَمَّد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإذا قدم عليك مُحَمَّد بن موسى فجهز معه ألفي رجل إلى سجستان، وعجل سراحه وأمر عبد الملك مُحَمَّد بن موسى بمكاتبة الحجاج، فلما قدم مُحَمَّد ابن موسى جعل يتحبس في الجهاز، فقال له نصحاؤه: تعجل أيها الأمير إلى عملك، فإنك لا تدري ما يكون من أمر الحجاج! وما يبدو له فأقام على حاله، وحدث من أمر شبيب ما حدث، فقال الحجاج لمحمد ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تلقى شبيبا وهذه الخارجة فتجاهدهم ثم تمضي إلى عملك، وبعث الحجاج مع هؤلاء الأمراء أيضا عبد الأعلى بن
(6/242)
عبد الله بن عامر بن كريز القرشي وزياد بن عمرو العتكي، وخرج شبيب حيث خرج من الكوفة، فأتى المردمة وبها رجل من حضرموت على العشور يقال له ناجية بن مرثد الحضرمي، فدخل الحمام ودخل عليه شبيب فاستخرجه فضرب عنقه، واستقبل شبيب النضر بن القعقاع بن شور- وكان مع الحجاج حين أقبل من البصرة، فلما طوى الحجاج المنازل خلفه وراءه- فلما رآه شبيب ومعه أصحابه عرفه، فقال له شبيب: يا نضر بن القعقاع، لا حكم إِلَّا لِلَّهِ*- وإنما أراد شبيب بمقالته له تلقينه، فلم يفهم النضر- فقال: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ، فقال أصحاب شبيب: يا أمير المؤمنين، كأنك إنما تريد بمقالتك أن تلقنه فشدوا على نضر فقتلوه.
قال: واجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القواد، وأخذ نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوه الف وثمانمائه فارس، وقال له: اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته، إلا أن يكون منطلقا ذاهبا فاتركه ما لم يعطف عليك أو ينزل فيقيم لك، فلا تبرح إن هو أقام حتى تواقعه، فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز النهدي، وكان شجاعا، وعلى ميسرته عدى بن عدى بن عميرة الكندى الشيباني، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة، ثم اعترض بها الصف، فوجف وجيفا، واضطرب حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر بن قيس، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه، وظن القوم أنهم قد قتلوه، فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضعة عشر جراحة ما بين ضربة وطعنة، فمكث أياما، ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحه القطن، فأجلسه الحجاج معه على السرير، وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو
(6/243)
شهيد فلينظر إلى هذا وقال أصحاب شبيب لشبيب وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا: قد هزمنا لهم جندا، وقتلنا لهم أميرا من أمرائهم عظيما، انصرف بنا الآن وافرين، فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل، وهزيمتنا هذا الجند، قد أرعبت هذه الأمراء والجنود التي بعثت في طلبكم، فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون الحجاج من شيء وأخذ الكوفة إن شاء الله فقالوا: نحن لرأيك سمع تبع، ونحن طوع يديك.
قال: فانقض بهم جوادا حتى يأتي نجران- وهي نجران الكوفة ناحية عين التمر-، ثم سأل عن جماعة القوم فخبر باجتماعهم بروذبار في أسفل الفرات في بهقباذ الأسفل، على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة فبلغ الحجاج مسيره إليهم، فبعث إليهم عبد الرحمن بن الغرق مولى ابن أبي عقيل- وكان على الحجاج كريما- فقال له: الحق بجماعتهم- يعني جماعة الأمراء- فأعلمهم بمسير المارقة إليهم، وقل لهم: إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة، فأتاهم ابن الغرق فأعلمهم ذلك، وانصرف عنهم.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: انتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة، ففي ميمنتنا زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتنا بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه فأقبل شبيب حتى وقف على تل، فأشرف على الناس وهو على فرس له كميت أغر، فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فتقف في ميمنتنا، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت على ميسرتنا، وجاء شبيب في كتيبه حتى وقف مقابل القلب قال: وخرج زائده ابن قدامة يسير في الناس فيما بين ميمنتهم إلى ميسرتهم يحرض الناس ويقول:
(6/244)
يا عباد الله، أنتم الكثيرون الطيبون، وقد نزل بكم القليلون الخبيثون، فاصبروا- جعلت لكم الفداء- لكرتين أو ثلاث تكرون عليهم، ثم هو النصر ليس بينه حاجز ولا دونه شيء ألا ترون إليهم والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، إنما هم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم، ثم انصرف إلى موقفه.
قال: ويحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم كر عليهم ثانية، ثم اطعنوا ساعة.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: أنا والله فيهم يومئذ، قال: اطعنا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا، وجعل ينادي: يا خيلي، ويشد بالسيف فيقاتل قتالا شديدا، فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشجع العرب وأشده قتالا، وما يعرض له قال: ثم انا ارتفعنا عنهم آخرا فإذا هم يتقوضون، فقال له أصحابه: ألا تراهم يتقوضون! احمل عليهم، فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا، فتركوهم قليلا، ثم حمل عليهم الثالثه فانهزموا فنظرت الى زياد ابن عمرو وإنه ليضرب بالسيف وما من سيف يضرب به إلا نبا عنه وهو مجفف، ولقد رأيته اعتوره أكثر من عشرين سيفا فما ضره من ذلك شيء ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة، وذلك عند المساء.
قال: ثم شددنا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزمناه، وما قاتلنا كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو، فمضينا منهزمين حتى انتهينا إلى مُحَمَّد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلنا قتالا شديدا وصبر لنا
(6/245)
ذكر هِشَام عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط، أن أخا شبيب مصادا حمل على بشر بن غالب وهو في الميسرة، فأبلى وكرم والله وصبر، فنزل ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو من خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا عن آخرهم، وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الأزدي، وأمه زرارة امرأة ولدت في الأزد، فيقال لهم بنو زرارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه مالوا فشدوا على أبي الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم شدوا عليه وعلى أعين جميعا فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إليه نزل ونادى: يا اهل الاسلام، والارض الأرض، إلي إلي! لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم، فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر ثم إن شبيبا شد عليه في جماعة من أصحابه فقتله وأصحابه وتركهم ربضة حوله من أهل الحفاظ.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب قال: سمعت زائده ابن قدامه ليلتئذ رافعا صوته يقول: يايها الناس، اصبروا وصابروا، «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ.
» ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل.
قال أبو مخنف: وحدثني فروه بن لقيط ان أبا الصقير الشيباني ذكر أنه قتل زائدة بن قدامة، وقد حاجه في ذلك آخر يقال له الفضل ابن عامر قال: ولما قتل شبيب زائدة بن قدامة دخل أبو الضريس وأعين جوسقا عظيما، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم إلى البيعة عند الفجر.
قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت فيمن قدم إليه فبايعه وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه، فكل من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه، وأخذ سلاحه منه، ثم يدنى من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، ثم يخلى سبيله قال: وإنا لكذلك إذ انفجر الفجر ومُحَمَّد بن
(6/246)
موسى بن طلحة بن عبيد الله في أقصى العسكر، معه عصابة من أصحابه قد صبروا، فلما انفجر الفجر أمر مؤذنه فأذن، فلما سمع شبيب الأذان قال: ما هذا؟ فقال: هذا مُحَمَّد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله لم يبرح، فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا، نحوا هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل قال: فنزل فأذن هو، ثم استقدم فصلى بأصحابه، فقرأ:
«وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» ، و «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» ، ثم سلم، ثم ركبوا فحمل عليهم فانكشفت طائفة.
من أصحابه، وثبتت طائفة قال فروة: فما أنسى قوله وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه وهو يقول:
«الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» قال: وضارب حتى قتل قال: فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيبا هو الذي قتله ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شيء، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيبا، فلم يبق منهم أحد.
وقد ذكر من أمر مُحَمَّد بن موسى بن طلحة غير أبي مخنف أمرا غير الذي ذكرته عنه، والذي ذكر من ذلك أن عبد الملك بن مروان كان ولى مُحَمَّد بن موسى بن طلحة سجستان، فكتب إليه الحجاج: أنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك فعدل إليه مُحَمَّد، فأرسل إليه شبيب: إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجاج، وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك، فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله، فدعا إلى البراز، فبرز إليه البطين ثم قعنب ثم سويد، فأبى إلا شبيبا، فقالوا لشبيب: قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم هذه الأشراف! فبرز إليه شبيب، وقال: إني أنشدك الله في دمك، فإن لك جوارا فأبى إلا قتاله، فحمل عليه شبيب فضربه بعصا حديد
(6/247)
فيها اثنا عشر رطلا بالشامي، فهشم بها بيضة عليه ورأسه فسقط، ثم كفنه ودفنه، وابتاع ما غنموا من عسكره، فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة.
قال عمر بن شبة: قال أبو عبيدة: كان محمد بن موسى مع عمر ابن عبيد الله بن معمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فديك وكان على ميمنته، وشهر بالنجدة وشدة البأس وزوجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان- فولاه سجستان، فمر بالكوفة وبها الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إن صار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب، منعك منه، قال: فما الحيلة؟ قيل: تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه وأن شبيبا في طريقه، وأنه قد أعياك، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته ففعل، فعدل إليه مُحَمَّد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فواقعه شبيب، فقال له شبيب: إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك لو قد التقت حلقتا البطان قد أسلموك، فصرعت مصرع أصحابك، فأطعني وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن الموت، فأبى مُحَمَّد بن موسى، فبارزه شبيب فقتله رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف قَالَ عبد الرحمن: لقد كان فيمن بايعه تلك الليلة أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما بايعه قال له شبيب: ألست أبا بردة! قال: بلى، قال شبيب لأصحابه: يا أخلائي، أبو هذا أحد الحكمين، فقالوا: الا نقتل هذا؟ فقال: ان هذا لاذنب له فيما صنع أبوه، قالوا: أجل قال: وأصبح شبيب: فأتى مقبلا نحو القصر الذي فيه أبو الضريس وأعين
(6/248)
فرموه بالنبل، وتحصنا منه، فأقام ذلك اليوم عليهم، ثم شخص عنهم، فقال له أصحابه: ما دون الكوفة أحد يمنعنا، فنظر فإذا اصحابه قد جرحوا، فقال لهم: ما عليكم أكثر مما قد فعلتم، فخرج بهم على نفر، ثم على الصراة، ثم على بغداد، ثم خرج إلى خانيجار فأقام بها.
قال: ولما بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر ظن أنه يريد المدائن- وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يده من أرض الكوفة أكثر- فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، ودعاه وسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان.
فخرج مسرعا حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج عبد الله بن أبي عصيفير، وكان بها الجزل مقيما أشهرا يداوي جراحته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده ويكرمه، فلما قدم عثمان بن قطن المدائن لم يعده، ولم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء، فقال الجزل: اللهم زد ابن عصيفير جودا وكرما وفضلا، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا قال: ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث فقال: انتخب الناس، واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة آلاف، فانتخب فرسان الناس ووجوههم، واخرج من قومه ستمائه من كندة وحضرموت، واستحثه الحجاج بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمن، فلما أراد الحجاج إشخاصهم كتب إليهم:
أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء، ووليتم الدبر يوم الزحف، وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة وإني أقسم لكم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا أكون أشد عليكم من هذا العدو الذى تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتستترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر
وقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
(6/249)
والسلام عليكم.
قال: ثم سرح ابن الأصم مؤذنه، فاتى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث عند طلوع الشمس، فقال له: ارتحل الساعة وناد في الناس: أن برئت الذمة عن رجل من هذا البعث وجدناه متخلفا فخرج عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث في الناس حتى مر بالمدائن فنزل يوما وليلة، وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا، ثم أقبلوا حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل فسأله عن جراحته، وسأله ساعة وحدثه ثم ان الجزل قال له: يا بن عم: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم، فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت علي وقاتلتهم في مضيق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا في تعبئة أو في خندق ثم إنه ودعه، فقال له الجزل: هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنها لا تجاري فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه، حتى إذا كان على التخوم أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه، فكتب إليه الحجاج بن يوسف:
أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده- والسلام.
فخرج عبد الرحمن حين قرأ كتاب الحجاج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه قد تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وادنى
(6/250)
المرامية، فلا يصيب له غرة ولا له علة، فيمضي ويدعه.
قال: ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل اليه، جعل يخرج إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله، فينزل على مسيرة عشرين فرسخا، ثم يقيم في ارض غليظه حزنه، فيجيء عبد الرحمن، فإذا دنا من شبيب ارتحل شبيب فسار خمسة عشر أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا، ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب أن شبيبا كان قد عذب ذلك العسكر وشق عليهم، وأحفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء، فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين ثم على جلولاء ثم على تامرا، ثم أقبل حتى نزل البت- قرية من قرى الموصل على تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر يسمى حولايا- قال:
وجاء عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث حتى نزل في نهر حولايا وفي راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عواقيل من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن قال:
وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: أن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فان رايتم ان تواد عونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا فقال له عبد الرحمن:
نعم، ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة قال:
وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخى كلها خندقا واحدا، وخلى شبيبا وكسر خراجها وهو يأكل أهلها والسلام.
فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل
(6/251)
ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله إن شاء الله ناصرك عليهم والسلام.
قال: وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن بن مُحَمَّد ومن معه من أهل الكوفة وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت، عشية الثلاثاء، وذلك يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس، اخرجوا إلى عدوكم فوثب إليه الناس، فقالوا: ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال، فبت الليلة ثم اخرج بالناس على تعبئة.
فجعل يقول: لاناجزنهم، ولتكونن الفرصة لي اولهم فأتاهم عبد الرحمن فأخذ بعنان دابته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي:
إن الذي تريد من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا، وهو غدا خير لك وللناس إن هذه ساعة ريح وغبرة، وقد أمسيت فانزل، ثم أبكر بنا إليهم غدوة فنزل، فسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج فبنوا له قبة فبات فيها، ثم أصبح يوم الأربعاء، فجاء أهل البت إلى شبيب- وكان قد نزل ببيعتهم- فقالوا: أصلحك الله! أنت ترحم الضعفاء وأهل الجزية، ويكلمك من تلي عليه، ويشكون إليك ما نزل بهم فتنظر لهم، وتكف عنهم، وإن هؤلاء القوم جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إن قضي لك أن ترتحل عنا، فإن رأيت فانزل جانب القرية ولا تجعل لهم علينا مقالا، قال: فإني أفعل ذلك بكم، ثم خرج فنزل جانب القرية قال: فبات عثمان ليلته كلها يحرضهم، فلما أصبح- وذلك يوم الأربعاء- خرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه، فقالوا: ننشدك الله أن تخرج بنا في هذا اليوم، فإن الريح علينا! فأقام بهم ذلك اليوم، وأراد شبيب قتالهم، وخرج أصحابه، فلما رآهم لم يخرجوا إليه أقام، فلما كان
(6/252)
ليلة الخميس خرج عثمان فعبى الناس على أرباعهم، فجعل كل ربع في جانب العسكر، وقال لهم: اخرجوا على هذه التعبئة، وسألهم: من كان على ميمنتكم؟ قالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي، وكان على ميسرتنا عقيل بن شداد السلولي، فدعاهما فقال لهما: قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد وليتكما المجنتين، فاثبتا ولا تفرا، فو الله لا أزول حتى يزول نخل راذان عن أصوله فقالا: ونحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيرا ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج فجعل ربع أهل المدينة تميم وهمدان نحو نهر حولايا في الميسرة، وجعل ربع كندة وربيعة ومذحج وأسد في الميمنة، ونزل يمشي في الرجال، وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلا، فقطع إليهم النهر فكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصاد بن يزيد أخاه، وزحفوا وسما بعضهم لبعض.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح العبسي أن عثمان كان يقول فيكثر: «لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» أين المحافظون على دينهم، المحامون عن فيئهم! فقال عقيل بن شداد بن حبشي السلولي: لعلي أن أكون أحدهم، قتل أولئك يوم روذبار ثم قال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ثم المرهبي، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم:
لأضربن بالحسام الباتر ضرب غلام من سلول صابر
(6/253)
ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها، وعليها خالد بن نهيك بن قيس الكندي، فنزل خالد فقاتل قتالا شديدا، وحمل عليه شبيب من ورائه وهو على ربع كندة وربيعة يومئذ، وهو صاحب الميمنة، فلم ينثن شبيب حتى علاه بالسيف فقتله، ومضى عثمان بن قطن وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين راجلا، فلما دنا منهم عثمان بن قطن شد عليهم في الأشراف وأهل الصبر فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقد كان شبيب رجلهم، فاضطربوا ساعة، وقاتل عثمان بن قطن فأحسن القتال ثم إنهم شدوا عليهم فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف استدار لها، ثم قال: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا*» ثم إن الناس قتلوه، وقتل يومئذ الأبرد بن ربيعة الكندي، وكان على تل، فألقى سلاحه إلى غلامه وأعطاه فرسه، وقاتل حتى قتل ووقع عبد الرحمن فرآه ابن أبي سبرة الجعفي وهو على بغلة فعرفه، فنزل إليه فناوله الرمح وقال له: اركب، فقال عبد الرحمن ابن مُحَمَّد: أينا الرديف؟ قال: ابن أبي سبرة: سبحان الله! أنت الأمير تكون المقدم، فركب وقال لابن أبي سبرة: ناد في الناس: الحقوا بدير أبي مريم، فنادى، ثم انطلقا ذاهبين، ورأى واصل بن الحارث السكوني فرس عبد الرحمن الذي حمله عليه الجزل يجول في العسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قد هلك، فطلبه في القتلى فلم يجده، وسأل عنه فقيل له: قد رأينا رجلا قد نزل عن دابته فحمله عليها، فما أخلقه أن يكون إياه، وقد أخذ هاهنا آنفا فأتبعه واصل بن الحارث على برذونه ومع واصل غلامه على بغل، فلما دنوا منهما قال مُحَمَّد بن أبي سبرة لعبد الرحمن: قد والله لحق بنا فارسان، فقال عبد الرحمن: فهل
(6/254)
غير اثنين؟ فقال: لا، فقال عبد الرحمن: فلا يعجز اثنان عن اثنين:
قال: وجعل يحدث ابن أبي سبرة كأنه لا يكترث بهما، حتى لحقهما الرجلان، فقال له ابن أبي سبرة: رحمك الله! قد لحقنا الرجلان، فقال له: فانزل بنا، فنزلا فانتضيا سيفيهما، ثم مضيا إليهما، فلما رآهما واصل عرفهما، فقال لهما: إنكما قد تركتما النزول في موضعه، فلا تنزلا الآن، ثم حسر العمامة عن وجهه، فعرفاه فرحبا به، وقال لابن الأشعث:
إني لما رأيت فرسك يجول في العسكر ظننتك راجلا، فأتيتك ببرذوني هذا لتركبه، فترك لابن أبي سبرة بغلته، وركب البرذون، وانطلق عبد الرحمن بن الأشعث حتى نزل دير اليعار، وأمر شبيب أصحابه فرفعوا عن الناس السيف، ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجالة فبايعوه، وقال له أبو الصقير المحلمي: قتلت من الكوفيين سبعة في جوف النهر كان آخرهم رجلا تعلق بثوبي وصاح، ورهبني حتى رهبته، ثم إني أقدمت عليه فقتلته وقتل من كندة مائة وعشرون يومئذ والف من سائر الناس او ستمائه، وقتل عظم العرفاء يومئذ قال أبو مخنف: حدثني قدامة بن حازم بن سفيان الخثعمي أنه قتل منهم يومئذ جماعة، وبات عبد الرحمن بن مُحَمَّد تلك الليلة بدير اليعار، فأتاه فارسان فصعدا إليه فوق البيت، وقام آخر قريبا منهما فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلا يناجيه، ثم نزل هو وأصحابه، وقد كان الناس يتحدثون أن ذلك كان شبيبا، وأنه قد كان كاتبه، ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى دير أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة صبر الشعير والقت بعضه على بعض كأنه القصور، ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، فأكلوا يومئذ، وعلفوا دوابهم، واجتمع الناس إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث فقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد ذهب الناس وتفرقوا وقتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة فخرج إلى الكوفة ورجع الناس أيضا، وجاء
(6/255)
فاختبأ من الحجاج حتى أخذ الأمان بعد ذلك
. نقش الدنانير والدراهم بأمر عبد الملك بن مروان
وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدنانير والدراهم.
ذكر الواقدي: أن سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان بذلك.
قال: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك ضرب الدراهم والدنانير عامئذ، وهو أول من أحدث ضربها.
قال: وحدثني خالد بن أبي ربيعة، عن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة، وكان العشرة وزن سبعة.
قال: وحدثني عبد الرحمن بن جرير الليثي عن هلال بن أسامة قال:
سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين مثقالا بالشامي نصف مثقال، قلت: ما بال الشامي من المصري؟
قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب الدنانير، كانت اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة، قال سعيد قد عرفته، قد أرسلت بدنانير الى دمشق فضربت على ذلك.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة: وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك بن مروان وولي أبان بن عثمان المدينة في رجب.
وفيها استقضي أبان بن نوفل بن مساحق بن عمرو بن خداش من بني عامر بن لؤي.
وفيها ولد مروان بن مُحَمَّد بن مروان وأقام الحج للناس في هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير على المدينة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة زرارة بن أوفى
(6/256)
ثم دخلت
سنه سبع وسبعين
محاربه شبيب عتاب بن ورقاء وزهره بن حوية وقتلهما
ففي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية ذكر الخبر عن سبب مقتلهما:
وكان سبب ذلك فِيمَا ذكر هِشَامٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن جندب وفروة بن لقيط، أن شبيبا لما هزم الجيش الذي كان الحجاج وجهه مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث إليه، وقتل عثمان ابن قطن، وذلك في صيف وحر شديد، اشتد الحر عليه وعلى أصحابه، فأتى ماه بهزاذان فتصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا فلحقوا به، وناس ممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تباعات، كان منهم رجل من الحي يقال له الحر بن عبد الله بن عوف، وكان دهقانان من أهل نهر درقيط قد أساءا إليه وضيقا عليه، فشد عليهما فقتلهما، ثم لحق بشبيب فكان معه بماه، وشهد معه مواطنه حتى قتل، فلما آمن الحجاج كل من كان خرج إلى شبيب من أصحاب المال والتباعات- وذلك بعد يوم السبخة- خرج إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج، فأتي به فدخل، وقد أوصى ويئس من نفسه، فقال له الحجاج يا عدو الله، قتلت رجلين من أهل الخراج! فقال له: قد كان أصلحك الله ما هو أعظم من هذا، فقال:
وما هو؟ قال: خروجي من الطاعة وفراق الجماعة، ثم آمنت كل من خرج إليك، فهذا أماني وكتابك لي فقال له الحجاج: أولى لك! قد لعمري فعلت، وخلى سبيله قال: ولما انفسخ الحر عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائه رجل، فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء
(6/257)
حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب ماذرواسب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج:
أما بعد: فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن شبيبا قد أقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ولا أدري أين يريد! فلما قرأ الحجاج كتابه قام فِي الناس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم فقام إليه الناس من كل جانب، فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا الأمير إليهم فإنا حيث سره وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال له: أصلح الله الأمير! إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة فلينفروا إليهم كافة، وابعث عليهم رجلا ثبتا شجاعا مجربا للحرب ممن يرى الفرار هضما وعارا والصبر مجدا وكرما فقال الحجاج: فأنت ذاك فاخرج، فقال: أصلح الله الأمير! إنما يصلح للناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إنما أثبت على الراحلة فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي فقال له الحجاج: جزاك الله عن الإسلام وأهله في أول الإسلام خيرا، وجزاك الله عن الإسلام في آخر الإسلام خيرا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة ألا فسيروا أيها الناس فانصرف الناس فجعلوا يسيرون وليس يدرون من أميرهم! وكتب الحجاج إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه الله أن شبيبا قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في
(6/258)
كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم فليفعل، والسلام.
فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين فسرحهم حين أتاه الكتاب إلى الحجاج، وجعل أهل الكوفة يتجهزون إلى شبيب ولا يدرون من أميرهم! وهم يقولون: يبعث فلانا أو فلانا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه وهو على خيل الكوفة مع المهلب، وقد كان ذلك الجيش من أهل الكوفة هم الذين كان بشر بن مروان بعث عبد الرحمن بن مخنف عليهم إلى قطري، فلم يلبث عبد الرحمن بن مخنف إلا نحوا من شهرين حتى قدم الحجاج على العراق، فلم يلبث عليهم عبد الرحمن بن مخنف بعد قدوم الحجاج الا رجب وشعبان.
وقتل قطري عبد الرحمن في آخر رمضان فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك الجيش من أهل الكوفة الذين أصيب فيهم عبد الرحمن ابن مخنف، وأمر الحجاج عتابا بطاعة المهلب فكان ذلك قد كبر على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك الجيش ويضمه إليه، فلما أن جاءه كتاب الحجاج بإتيانه سر بذلك.
قال: ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة، فيهم زهرة بن حوية السعدي من بني الأعرج، وقبيصة بن والق التغلبي، فقال لهم: من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ فقالوا: رأيك أيها الأمير أفضل، قال:
فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة، فيكون هو الذي يسير في الناس، قال زهرة بن حوية: اصلح الله الأمير! رمتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل.
وقال له قبيصة بن والق: انى مشير عليك برأيي، فانى يكن خطأ فبعد
(6/259)
اجتهادي في النصيحة لأمير المؤمنين وللأمير ولعامة المسلمين، وإن يك صوابا فالله سددني له، إنا قد تحدثنا وتحدث الناس أن جيشا قد فصل إليك من قبل الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وفلوا واستخفوا بالصبر، وهان عليهم عار الفرار فقلوبهم كأنها ليست فيهم، كأنما هي في قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يبيتوا إلا وهم يرون أنهم مبيتون فعلت، فإنك تحارب حولا قلبا، ظعانا رحالا، وقد جهزت إليه أهل الكوفة ولست واثقا بهم كل الثقة، وإنما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام.
أن شبيبا بينا هو في أرض إذ هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارون فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق فقال: لله أنت! ما أحسن ما رأيت! وما أحسن ما أشرت به علي! قال: فبعث عبد الرحمن بن الغرق مولى عقيل الى من اقبل من أهل الشام، فأتاهم وقد نزلوا هيت بكتاب من الحجاج:
أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله، وخذوا حذركم، وعجلوا السير والسلام.
فأقبل القوم سراعا قال: وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه قادم عليكم فيها، فأمره الحجاج فخرج بالناس فعسكر بهم بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف بن المغيره ابن شعبة جسر دجلة.
فلما نزل شبيب مدينة بهرسير قطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب: أن ابعث إلي رجالا من وجوه أصحابك ادار سهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه فبعث إليه شبيب رجالا من وجوه أصحابه، فيهم قعنب وسويد والمحلل، فلما أرادوا أن ينزلوا في السفينة بعث اليهم شبيب الا
(6/260)
تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، فرجع الرسول.
وبعث إلى مطرف أن ابعث إلي من أصحابك بعدد أصحابي يكونوا رهنا في يدي حتى ترد علي أصحابي فقال مطرف لرسوله: ألقه وقل له: كيف آمنك أنا على أصحابي إذا أنا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فرجع الرسول إلى شبيب فأبلغه، فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم تفعلونه وتستحلونه، فبعث إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي وسُلَيْمَان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني ويزيد بن أبي زياد مولاه وصاحب حرسه، فلما صاروا في يدي شبيب سرح إليه أصحابه، فأتوا مطرفا فمكثوا أربعة أيام يتراسلون، ثم لم يتفقوا على شيء، فلما تبين لشبيب أن مطرفا غير تابعه ولا داخل معه تهيأ للمسير إلى عتاب بن ورقاء وإلى أهل الشام قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبا دعا رءوس أصحابه فقال لهم: إنه لم يثبطني على رأي قد كنت رأيته إلا هذا الثقفي منذ أربعة أيام، قد كنت حدثت نفسي أن أخرج في جريدة خيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام رجاء أن أصادف غرتهم أو يحذروا فلا أبالي كنت ألقاهم منقطعين من المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيوني اليوم فخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءتني عيوني من نحو عتاب بن ورقاء فحدثوني أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة الصراة، فما أقرب ما بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب بن ورقاء.
قال: وخاف مطرف أن يبلغ خبره وما كان من إرساله إلى شبيب الحجاج، فخرج نحو الجبال، وقد كان أراد أن يقيم حتى ينظر ما يكون بين شبيب وعتاب، فأرسل إليه شبيب: أما إذ لم تبايعني فقد نبذت إليك على سواء، فقال مطرف لأصحابه: اخرجوا بنا وافرين فإن الحجاج سيقاتلنا، فيقاتلنا وبنا قوة أمثل فخرج ونزل المدائن، فعقد شبيب الجسر،
(6/261)
وبعث إلى المدائن أخاه مصادا، وأقبل إليه عتاب حتى نزل بسوق حكمة، وقد أخرج الحجاج جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم، ومن نشط إلى الخروج من شبابهم، وكانت مقاتلتهم أربعين ألفا سوى الشباب، ووافى مع عتاب يومئذ أربعون ألفا من المقاتلة وعشرة آلاف من الشباب بسوق حكمة، فكانوا خمسين ألفا، ولم يدع الحجاج قرشيا ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر حين وجه عتابا إلى شبيب في الناس وهو يقول:
يا أهل الكوفة، اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة.
والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي كانت لأولينكم كنفا خشنا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل ثم نزل، وتوافى الناس مع عتاب بسوق حكمة قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: عرضنا شبيب بالمدائن فكنا ألف رجل، فقام فينا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا معشر المسلمين، إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان وأكثر من ذلك قليلا، وأنقص منه قليلا، فأنتم اليوم مئون ومئون، الا انى مصل الظهر ثم سائر بكم فصلى الظهر ثم نودي في الناس: يا خيل الله اركبي وأبشري، فخرج في أصحابه، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون، فلما جاوزنا ساباط ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة ساعة طويلة، ثم أمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بنا على عتاب بن ورقاء وأصحابه، فلما أن رآهم من ساعته نزل وأمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا المغرب،
(6/262)
وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني، وكانت عيون عتاب بن ورقاء قد جاءوه فأخبروه أنه قد أقبل إليه، فخرج بالناس كلهم فعبأهم، وكان قد خندق أول يوم نزل، وكان يظهر كل يوم أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن، فبلغ ذلك شبيبا، فقال: أسير إليه أحب إلي من أن يسير إلي، فأتاه، فلما صف عتاب الناس بعث على ميمنته مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا بن أخي، إنك شريف فاصبر وصابر، فقال: أما انا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان وقال لقبيصة بن والق- وكان يومئذ على ثلث بني تغلب: أكفني الميسرة، فقال: أنا شيخ كبير، كثير منى ان اثبت تحت رايتي، قد انبت مني القيام، ما أستطيع القيام إلا أن أقام، ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ونعيم بن عليم التغلبيان- وكان كل واحد منهما على ثلث من أثلاث تغلب- فقال: ابعث أيهما أحببت، فأيهما بعثت فلتبعثن ذا حزم وعزم وغناء.
فبعث نعيم بن عليم على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي- وهو ابن عم عتاب شيخ أهل بيته- على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف:
صف فيهم الرجال معهم السيوف، وصف وهم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية، ثم سار فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية، فيحثهم على تقوى الله، ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم.
قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله أن تميم بن الحارث الأزدي قال: وقف علينا فقص علينا قصصا كثيرا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات، قال: يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» ! فمن حمد الله فعله فما أعظم
(6/263)
درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي، ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله! فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار، أين القصاص؟ قال ذلك فلم يجبه والله أحد منا، فلما رأى ذلك، قال: أين من يروي شعر عنترة؟ قال: فلا والله ما رد عليه إنسان كلمة فقال: إنا لله! كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح.
ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن ابن مُحَمَّد بن الأشعث وأبو بكر بن مُحَمَّد بن أبي جهم العدوي وأقبل شبيب وهو في ستمائه وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟
قالوا: رايات ربيعة فقال: شبيب: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت الباطل، لها في كل نصيب، والله لأجاهدنكم محتسبا للخير في جهادكم، أنتم ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدلة، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم وهو على مسناة أمام الخندق ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها وتنادى أناس من بني تغلب: قتل قبيصة بن والق فقال شبيب: قتلتم قبيصة بن والق التغلبي يا معشر المسلمين! قال الله:
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» ، هذا مثل ابن عمكم قبيصة بن والق، اتى رسول الله ص فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الكافرين! ثم وقف عليه فقال: ويحك! لو ثبت على إسلامك الأول سعدت، ثم حمل من الميسرة على عتاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها مُحَمَّد بن عبد الرحمن،
(6/264)
فقاتل في الميمنة في رجال من بني تميم وهمدان، فأحسنوا القتال، فما زالوا كذلك حتى أتوا فقيل لهم: قتل عتاب بن ورقاء، فانفضوا، ولم يزل عتاب جالسا على طنفسة في القلب وزهرة بن حوية معه، إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: يا زهرة بن حوية، هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من نحو رجال تميم معي من جميع الناس! ألا صابر لعدوه! ألا مؤاس بنفسه! فانفضوا عنه وتركوه، فقال له زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا، فقال له: جزاك الله خيرا ما جزى آمرا بمعروف وحاثا على تقوى.
فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة صبرت معه قليلة، وقد ذهب الناس يمينا وشمالا، فقال له عمار بن يزيد الكلبي من بني المدينة: أصلحك الله! إن عبد الرحمن بن مُحَمَّد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير، فقال له: قد فر قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبتل بمثله قط أقل مقاتلا ولا أكثر هاربا خاذلا، فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب من بني زيد بن عمرو يقال له عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وكان قد أصاب دما في قومه، فلحق بشبيب، وكان من الفرسان، فقال لشبيب: والله إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء! فحمل عليه فطعنه، فوقع فكان هو ولي قتله ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يقوم، فجاء الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه، فقال: من قتل هذا؟
فقال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهره حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد
(6/265)
ذعرتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين! قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط قال: رأيناه والله توجع له، فقال رجل من شبان بكر بن وائل: والله إن أمير المؤمنين منذ الليلة ليتوجع لرجل من الكافرين! قال: إنك لست بأعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ما لو ثبتوا عليه كانوا إخوانا وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي، وقتل أبو خيثمة بن عبد الله يومئذ، واستمكن شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعا إلى البيعة، فبايعه الناس من ساعتهم، وهربوا من تحت ليلتهم، وأخذ شبيب يبايعهم، ويقول: إلى ساعة يهربون وحوى شبيب على ما في العسكر، وبعث إلى أخيه، فأتاه من المدائن، فلما وافاه بالعسكر أقبل إلى الكوفة وقد أقام بعسكره ببيت قرة يومين، ثم توجه نحو وجه أهل الكوفة وقد دخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج فيمن معهما من أهل الشام الكوفة، فشدوا للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبر الكوفة فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملا، ومن لم يكن شهد قتال عتاب بن ورقاء.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: والله لخرجنا نتبع آثار الناس، فانتهي إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث ومُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وهما يمشيان كأني أنظر إلى رأس عبد الرحمن قد امتلأ طينا، فصددت عنهما، وكرهت أن أذعرهما، ولو أني أوذن بهما أصحاب شبيب لقتلا مكانهما، وقلت في نفسي: لئن سقت إلى مثلكما من قومي القتل ما أنا برشيد الرأي، وأقبل شبيب حتى نزل الصراة
(6/266)
قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن سوار أن شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فندب الناس، فقال: أيكم يأتيني برأس عامل سورا؟ فانتدب له بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، فساروا مغذين حتى انتهوا إلى دار الخراج والعمال في سمرجة فدخلوا الدار وقد كادوا الناس بأن قالوا: أجيبوا الأمير، فقالوا: أي الأمراء؟
قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا، فاغتر بذلك العامل منهم ثم إنهم شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه فضربوا عنقه، وقبضوا على ما كان من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين، هلم الحربة يا غلام، فخرق بها البدور، وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء ثم خرج إليه سفيان بن الأبرد مع الحجاج، وكان أتاه قبل خروجه معه، فقال:
ابعثني أستقبله قبل أن يأتيك، فقال: ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا
. ذكر الخبر عن دخول شبيب الكوفه مره ثانيه
وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة دخلته الثانية.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من حربه بها الحجاج:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن موسى بن سوار، قال: قدم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف من الدسكرة الكوفة بعد ما قدم جيش الشام الكوفة، وكان مطرف بن المغيرة كتب إلى الحجاج: أن شبيبا قد أطل علي، فابعث إلي المدائن بعثا فبعث إليه سبرة بن عبد الرحمن ابن مخنف في مائتي فارس، فلما خرج مطرف يريد الجبل خرج بأصحابه
(6/267)
معه وقد أعلمهم ما يريد، وكتم ذلك سبرة، فلما انتهى إلى دسكرة الملك دعا سبرة فأعلمه ما يريد، ودعاه إلى أمره، فقال له: نعم أنا معك، فلما خرج من عنده بعث إلى أصحابه فجمعهم، وأقبل بهم فصادف عتاب ابن ورقاء قد قتل وشبيبا قد مضى إلى الكوفة، فأقبل حتى انتهى إلى قرية يقال لها بيطرى، وقد نزل شبيب حمام عمر، فخرج سبرة حتى يعبر الفرات في معبر قرية شاهي، ثم أخذ الظهر حتى قدم على الحجاج، فوجد أهل الكوفة مسخوطا عليهم، فدخل على سفيان بن الأبرد فقص قصته عليه وأخبره بطاعته وفراقه مطرفا، وأنه لم يشهد عتابا ولم يشهد هزيمة في موطن من مواطن أهل الكوفة، ولم أزل للأمير عاملا، ومعي مائتا رجل لم يشهدوا معي هزيمة قط، وهم على طاعتهم ولم يدخلوا في فتنة.
فدخل سفيان إلى الحجاج فخبره بخبر ما قص عليه سبرة بن عبد الرحمن، فقال: صدق وبر! قل له: فليشهد معنا لقاء عدونا، فخرج إليه فأعلمه ذلك وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمام أعين، ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتاب، ورجالا كانوا عمالا في نحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في نحو من ألف، فنزل زرارة، وبلغ ذلك شبيبا، فتعجل إليه في أصحابه، فلما انتهى اليه حمل عليه فقتله، وهزم أصحابه، وجاءت المنهزمة فدخلوا الكوفة وجاء شبيب حتى قطع الجسر، وعسكر دونه إلى الكوفة، وأقام شبيب في عسكره ثلاثة أيام، فلم يكن في أول يوم إلا قتل الحارث بن معاوية، فلما كان في اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه وغلمانه عليهم السلاح، فأخذوا بأفواه السكك مما يلي الكوفة، وخرج أهل الكوفة فأخذوا بأفواه سككهم، وخشوا إن لم يخرجوا موجدة الحجاج وعبد الملك بن مروان وجاء شبيب
(6/268)
حتى ابتنى مسجدا في أقصى السبخة مما يلي موقف أصحاب القت عند الإيوان، وهو قائم حتى الساعة، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولى له عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة وغلمانا له، وقالوا:
هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم إن الحجاج أخرج له غلامه طهمان في مثل تلك العدة على مثل تلك الهيئة، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فقال: ائتوني ببغل أركبه ما بيني وبين السبخة، فأتي ببغل محجل، فقيل له: إن الأعاجم أصلحك الله تطير أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل، فقال:
ادنوه مني، فإن اليوم يوم أغر محجل، فركبه ثم خرج في أهل الشام حتى أخذ في سكة البريد، ثم خرج في أعلى السبخة، فلما نظر الحجاج إلى شبيب واصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائه فارس، فلما رأى الحجاج قد خرج إليه أقبل بأصحابه، وجاء سبرة بن عبد الرحمن إلى الحجاج فقال: أين يأمرني الأمير أن أقف؟ فقال: قف على أفواه السكك، فإن جاءوكم فكان فيكم قتال فقاتلوا، فانطلق حتى وقف في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة، فجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء، وأقبل إليهم شبيب حتى إذا دنا منهم عبى أصحابه ثلاثة كراديس، كتيبة معه، وكتيبة مع سويد بن سليم، وكتيبة مع المحلل بن وائل، فقال لسويد:
احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم، فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدما حتى انصرف،
(6/269)
وصاح الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا قدم كرسي يا غلام، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعلوا بسويد، فناداهم الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا، قدم كرسي يا غلام ثم إن شبيبا حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الرماح وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلا ثم إن أهل الشام طعنوه قدما حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد، احمل في خيلك على أهل هذه السكة- يعني سكة لحام جرير- لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه فانفرد سويد بن سليم فحمل على أهل تلك السكة، فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك، فانصرف، وقد كان الحجاج جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه لئلا يؤتوا من ورائه قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط: أن شبيبا قال لنا يومئذ: يا أهل الإسلام إنما شرينا لله، ومن شرى لله لم يكبر عليه ما أصابه من الأذى والألم في جنب الله الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة.
ثم جمع أصحابه، فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه:
يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح فجثوا على الركب، وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس، فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون قدما ويدفعون شبيبا وأصحابه وهو يقاتلهم حتى بلغوا موضع بستان زائدة، فلما بلغ ذلك المكان نادى شبيب أصحابه: يا أولياء الله، الأرض الأرض، ثم نزل وأمر أصحابه فنزل نصفهم وترك نصفهم مع سويد بن سليم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب، ثم قال: يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، هذا
(6/270)
أول الفتح والذي نفس الحجاج بيده! وصعد المسجد معه نحو من عشرين رجلا معهم النبل، فقال: إن دنوا منا فارشقوهم، فاقتتلوا عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحة، قال: فإني قد أذنت لك، قال: فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم، فقال له: افعل ما بدا لك، قال:
فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، قتلها فروة بن الدفان الكلبي، وحرق في عسكره، وأتي ذلك الخبر الحجاج وشبيبا، فأما الحجاج وأصحابه فكبروا تكبيرة واحدة، وأما شبيب فوثب هو وكل راجل معه على خيولهم، وقال الحجاج لأهل الشام: شدوا عليهم فإنه قد أتاهم ما أرعب قلوبهم فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس.
قال هشام: فحدثني أصغر الخارجي، قال: حدثني من كان مع شبيب قال: لما انهزم الناس فخرج من الجسر تبعه خيل الحجاج، قال:
فجعل يخفق برأسه، فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك، قال: فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه، قال: ودنوا منا، فقلنا: يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك، قال: فالتفت والله غير مكترث، ثم جعل يخفق برأسه قال: فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق الله وناره، فتركوه ورجعوا.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو عمرو العذري، قال:
قطع شبيب الجسر حين عبر قال: وقال لي فروة: كنت معه حين انهزمنا فما حرك الجسر، ولا اتبعونا حتى قطعنا الجسر ودخل الحجاج الكوفة، ثم صعد المنبر فحمد الله، ثم قال: والله ما قوتل شبيب
(6/271)
قبلها، ولى والله هاربا، وترك امرأته يكسر في استها القصب.
وقد قيل في قتال الحجاج شبيبا بالكوفة ما ذكره عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن المغيرة بن عطية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا مزاحم بن زفر بن جساس التيمي، قال: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه وهو على سرير عليه لحاف، فقال: إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشيروا علي، إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم، ودخل حريمكم، وقتل مقاتلتكم، فأشيروا علي، فأطرقوا وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: إن أذن لي الأمير تكلمت، فقال، تكلم، فقال: إن الأمير والله ما راقب الله، ولا حفظ أمير المؤمنين، ولا نصح للرعية، ثم جلس بكرسيه في الصف.
قال: وإذا هو قتيبة، قال: فغضب الحجاج وألقى اللحاف، ودلى قدميه من السرير كأني أنظر إليهما، فقال: من المتكلم؟ قال: فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج إليه فتحاكمه، قال: فارتد لي معسكرا ثم اغد إلي، قال:
فخرجنا نلعن عنبسة بن سعيد، وكان كلم الحجاج في قتيبة، فجعله من أصحابه، فلما أصبحنا وقد أوصينا جميعا، غدونا في السلاح، فصلى الحجاج الصبح ثم دخل، فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة فيقول:
أجاء بعد؟ أجاء بعد؟ ولا ندري من يريد! وقد أفعمت المقصورة بالناس، فخرج الرسول فقال: أجاء بعد؟ وإذا قتيبة يمشي في المسجد عليه قباء هروي أصفر، وعمامة خز أحمر، متقلدا سيفا عريضا قصير الحمائل كأنه في إبطه، قد أدخل بركة قبائه في منطقته، والدرع يصفق ساقيه ففتح له الباب فدخل ولم يحجب، فلبث طويلا ثم خرج، وأخرج معه لواء منشورا، فصلى الحجاج ركعتين، ثم قام فتكلم، وأخرج اللواء من باب الفيل، وخرج الحجاج يتبعه، فإذا بالباب بغلة شقراء غراء محجلة فركبها، وعارضه الوصفاء بالدواب، فأبى غيرها، وركب الناس،
(6/272)
وركب قتيبة فرسا أغر محجلا كميتا كأنه في سرجه رمانة من عظم السرج، فأخذ في طريق دار السقاية حتى خرج إلى السبخة وبها عسكر شبيب، وذلك يوم الأربعاء فتواقفوا، ثم غدوا يوم الخميس للقتال، ثم غادوهم يوم الجمعة، فلما كان وقت الصلاة انهزمت الخوارج قال أبو زيد: حدثني خلاد بن يزيد، قال: حدثنا الحجاج بن قتيبة، قال: جاء شبيب وقد بعث إليه الحجاج أميرا فقتله، ثم آخر فقتله، أحدهما أعين صاحب حمام أعين، قال: فجاء حتى دخل الكوفة ومعه غزالة، وقد كانت نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران قال: ففعلت قال: واتخذ شبيب في عسكره أخصاصا، فقام الحجاج فقال: لا أراكم تناصحون في قتال هؤلاء القوم يا أهل العراق! وأنا كاتب إلى أمير المؤمنين ليمدني بأهل الشام قال:
فقام قتيبة فقال: إنك لم تنصح لله ولا لأمير المؤمنين في قتالهم.
قال عمر بن شبة: قال خلاد: فحدثني مُحَمَّد بن حفص بن موسى ابن عبيد الله بن معمر بن عثمان التميمي أن الحجاج خنق قتيبة بعمامته خنقا شديدا.
ثم رجع الحديث إلى حديث الحجاج وقتيبة قال: فقال:
وكيف ذاك؟ قال: تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعا من الناس فينهزمون عنه، ويستحيى فيقاتل حتى يقتل، قال:
فما الرأي؟ قال: أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيؤاسونك بانفسهم قال: فلعنه من ثم وقال الحجاج: والله لأبرزن له غدا، فلما كان الغد حضر الناس، فقال قتيبة: اذكر يمينك أصلح الله الأمير! فلعنوه أيضا وقال الحجاج: اخرج فارتد لي معسكرا، فذهب وتهيأ هو وأصحابه فخرجوا، فأتى على موضع فيه بعض القذر، موضع كناسه،
(6/273)
فقال: القوا لي هاهنا فقيل: إن الموضع قذر، فقال: ما تدعونني إليه أقذر، الأرض تحته طيبة، والسماء فوقه طيبة قال: فنزل وصف الناس وخالد بن عتاب بن ورقاء مسخوط عليه فليس في القوم، وجاء شبيب وأصحابه فقربوا دوابهم، وخرجوا يمشون، فقال لهم شبيب: الهوا عن رميكم، ودبوا تحت تراسكم، حتى إذا كانت أسنتهم فوقها، فأزلقوها صعدا، ثم ادخلوا تحتها لتستقلوا فتقطعوا أقدامهم، وهي الهزيمة بإذن الله فأقبلوا يدبون إليهم وجاء خالد بن عتاب في شاكريته، فدار من وراء عسكرهم، فأضرم أخصاصهم بالنار، فلما رأوا ضوء النار وسمعوا معمعتها التفتوا فرأوها في بيوتهم، فولوا إلى خيلهم وتبعهم الناس، وكانت الهزيمة ورضي الحجاج عن خالد، وعقد له على قتالهم.
قال: ولما قتل شبيب عتابا أراد دخول الكوفة ثانية، فأقبل حتى شارفها فوجه إليه الحجاج سيف بن هانئ ورجلا معه ليأتياه بخبر شبيب، فأتيا عسكره، ففطن بهما، فقتل الرجل، وأفلت سيف، وتبعه رجل من الخوارج، فأوثب سيف فرسه ساقية، ثم سأل الرجل الأمان على أن يصدقه، فآمنه، فأخبره أن الحجاج بعثه وصاحبه ليأتياه بخبر شبيب.
قال: فأخبره أنا نأتيه يوم الاثنين فأتى سيف الحجاج فأخبره، فقال:
كذب وماق، فلما كان يوم الاثنين توجهوا يريدون الكوفة، فوجه إليهم الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي، فلقيه شبيب بزرارة فقتله، وهزم أصحابه ودنا من الكوفة فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق، فأقبل البطين وقد وجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم، فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه ونجا، ومضى البطين إلى دار الرزق، وعسكر على شاطئ الفرات، وأقبل شبيب فنزل دون الجسر، فلم يوجه إليه الحجاج أحدا، فمضى فنزل
(6/274)
السبخة بين الكوفة والفرات، فأقام ثلاثا لا يوجه إليه الحجاج أحدا، فأشير على الحجاج أن يخرج بنفسه، فوجه قتيبة بن مسلم، فهيأ له عسكرا ثم رجع، فقال: وجدت المأتي سهلا، فسر على الطائر الميمون، فنادى في أهل الكوفة فخرجوا، وخرج معه الوجوه حتى نزلوا في ذلك العسكر وتواقفوا، وعلى ميمنة شبيب البطين، وعلى ميسرته قعنب مولى بني أبي ربيعة بن ذهل، وهو في زهاء مائتين، وجعل الحجاج على ميمنته مطر بن ناجية الرياحي، وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي في زهاء أربعة آلاف، وقيل له: لا تعرفه موضعك، فتنكر وأخفى مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب، فحمل عليه، فضربه بعمود وزنه خمسة عشر رطلا فقتله، وشبه له أعين صاحب حمام أعين بالكوفة، وهو مولى لبكر بن وائل فقتله، فركب الحجاج بغلة غراء محجلة، وقال: إن الدين أغر محجل، وقال لأبي كعب: قدم لواءك، أنا ابن أبي عقيل وحمل شبيب على خالد بن عتاب وأصحابه، فبلغ بهم الرحبة، وحملوا على مطر بن ناجية فكشفوه، فنزل عند ذلك الحجاج وأمر أصحابه فنزلوا، فجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب، فقال: ما تقول في صالح بن مسرح؟ وبم تشهد عليه؟ قال: أعلى هذه الحال، وفي هذه الحزة! والحجاج ينظر، قال: فبرئ من صالح، فقال مصقلة: برئ الله منك، وفارقوه إلا أربعين فارسا هم أشد أصحابه، وانحاز الآخرون إلى دار الرزق، وقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتاهم فقاتلهم، فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج فارس فعرفه شبيب، فأمر علوان فشد على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ودفنه وقال: هي أقرب إليكم رحما- يعني غزالة.
ومضى القوم على حاميتهم، ورجع خالد إلى الحجاج فأخبره بانصراف
(6/275)
القوم، فأمره أن يحمل على شبيب فحمل عليهم، وأتبعه ثمانية، منهم قعنب والبطين وعلوان وعيسى والمهذب وابن عويمر وسنان، حتى بلغوا به الرحبة، وأتي شبيب في موقفه بخوط بن عمير السدوسي، فقال له شبيب: يا خوط، لا حكم إِلَّا لِلَّهِ، * فقال: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ، * فقال شبيب: خوط من أصحابكم، ولكنه كان يخاف، فأطلقه وأتي بعمير بن القعقاع فقال له: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ* يا عمير، فجعل لا يفقه عنه، ويقول:
في سبيل الله شبابي، فردد عليه شبيب: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ* ليتخلصه، فلم يفقه فأمر بقتله، وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر النفر الذين تبعوا خالدا فأبطئوا، ونعس شبيب فأيقظه حبيب بن خدرة، وجعل أصحاب الحجاج لا يقدمون عليه هيبة له، وسار إلى دار الرزق، فجمع رثة من قتل من أصحابه، وأقبل الثمانية إلى موضع شبيب فلم يجدوه، فظنوا أنهم قتلوه، ورجع مطر وخالد الى الحجاج فامر هما فأتبعا الرهط الثمانية، وأتبع الرهط شبيبا، فمضوا جميعا حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحوا من فرسخين حتى ألقوا أنفسهم في دجلة بخيلهم، وألقى خالد نفسه بفرسه فمر به ولواؤه في يده، فقال شبيب: قاتله الله فارسا وفرسه! هذا أشد الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض، فقيل له: هذا خالد بن عتاب، فقال: معرق له في الشجاعة، والله لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عَنْ أبي عمرو العذري، أن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال: والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولى والله هاربا، وترك امرأته يكسر في استها القصب ثم دعا حبيب بن
(6/276)
عبد الرحمن الحكمي فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام، فقال له الحجاج: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله قد فل حده، وقصم نابه فخرج حبيب بن عبد الرحمن في أثر شبيب حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن، فكان كل من ليست له تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، وقبل ذلك ما قد نادى فيهم الحجاج يوم هزموا: أن من جاءنا منكم فهو آمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى إذا دنا من عسكرهم نزل فصلى بهم المغرب.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في أهل الشام ليلة جاءنا شبيب فبيتنا قال: فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعا، وقال لكل ربع منا: ليجزى كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يغثهم هذا الربع الآخر، فإنه قد بلغني أن هذه الخوارج منا قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون، فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب فبيتنا، فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري فضاربهم طويلا، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر، وقد جعل عليهم سعد بن بجل العامري فقاتلهم، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر وعليهم النعمان بن سعد الحميري فما قدر منهم على شيء، ثم أقبل على الربع الآخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء، ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألز بنا حتى قلنا، لا يفارقنا، ثم نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدي، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منا نحوا من مائة، والله لو كانوا فيما نرى يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وايم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهونا وكرهناهم،
(6/277)
ولقد رأيت الرجل منا يضرب بسيفه الرجل منهم فما يضره شيء من الأعياء والضعف، ولقد رايت الرجل منا يقاتل جالسا ينفح بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء، فلما يئسوا منا ركب شبيب ثم قال لمن كان نزل من أصحابه: اركبوا، فلما استووا على متون خيولهم وجه منصرفا عنا.
قال أبو مخنف: حدثني فروة بن لقيط، عن شبيب، قال: لما انصرفنا عنهم وبنا كآبة شديدة، وجراحة ظاهرة، قال لنا: ما أشد هذا الذي بنا لو كنا إنما نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في ثواب الله! فقال أصحابه:
صدقت يا أمير المؤمنين، قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم ولا مقالته له: قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، والآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال: كأنك لم تشتر علفا، فقلت:
إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، فقلت له: أين ترى عدونا هذا نزل؟
قال: بلغني أنه قد نزل منا قريبا، وايم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم، قلت له: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت سيفي، فخر والله ميتا، فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو قد مات، فانصرفت راجعا، فأستقبل الآخر خارجا من القرية، فقال: أين تذهب هذه الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم! فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، وأتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه فقلت له: مالك؟ فقال: أنت والله من عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي، فاضطربنا بسيفينا ساعه، فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته، قال: فمضينا حتى قطعنا دجلة، ثم أخذنا في أرض جوخى حتى قطعنا دجلة مرة أخرى من
(6/278)
عند واسط، ثم أخذنا إلى الأهواز ثم الى فارس، ثم ارتفعنا الى كرمان. 1
. ذكر الخبر عن مهلك شبيب
وفي هذه السنة هلك شبيب في قول هشام بن مُحَمَّد، وفي قول غيره كان هلاكه سنة ثمان وسبعين.
ذكر سبب هلاكه:
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي أبو يزيد السكسكي، قال: أقفلنا الحجاج إليه- يعني إلى شبيب- فقسم فينا مالا عظيما، وأعطى كل جريح منا وكل ذي بلاء، ثم أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، فتجهز سفيان، فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسان أصحابه! فأمضى سفيان بعد شهرين، وأقام شبيب بكرمان، حتى إذا انجبر واستراش هو وأصحابه أقبل راجعا، فيستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وقد كان الحجاج كتب إلى الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو زوج ابنة الحجاج وعامله على البصرة.
أما بعد، فابعث رجلا شجاعا شريفا من أهل البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع.
فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان وشبيب، ولما أن التقيا بجسر دجيل عبر شبيب إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مهاصر بن صيفي العذري على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسان الفهري، وبعث على ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري، فأقبل شبيب في ثلاثة كراديس من أصحابه، هو في كتيبة وسويد في كتيبة، وقعنب المحلمي في كتيبة، وخلف المحلل بن وائل في عسكره قال: فلما حمل سويد وهو في ميمنته
(6/279)
على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته على ميمنته حمل هو على سفيان، فاضطربنا طويلا من النهار، حتى انحازوا فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه، فكر علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، كل ذلك لا نزول من صفنا وقال لنا سفيان بن الأبرد: لا تتفرقوا، ولكن لتزحف الرجال اليهم زحفا، فو الله ما زلنا نطاعنهم ونضاربهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم حتى المساء أشد قتال قاتله قوم قط، فما هو إلا أن نزلوا فأوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله من قوم قط فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن مع ذلك ظفرهم، دعا الرماة فقال:
ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل بالنبل، عند المساء، وقد صفهم سفيان بن الأبرد على حدة، وبعث على المرامية رجلا، فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم، فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم، فشغلناهم عنهم، فلما رموا بالنبل ساعة ركب شبيب وأصحابه ثم كروا على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلا، ثم عطف بخيله علينا، فمشى عامدا نحونا، فطاعناه حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا، فقال سفيان لأصحابه:
أيها الناس، دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله، فعبرنا أمامه، وتخلف في أخرانا، فأقبل على فرسه، وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة، ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة، فسقط في الماء، فلما سقط قال: «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا*» فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*»
(6/280)
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي بهذا الحديث- وكان ممن يقاتله من أهل الشام، وحدثني فروة بن لقيط، وكان ممن شهد مواطنه- فأما رجل من رهطه من بني مرة بن همام فإنه حدثني أنه كان معه قوم يقاتلون من عشيرته، ولم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالا كثيرا، فكأن ذلك قد أوجع قلوبهم، وأوغر صدورهم، وكان رجل يقال له مقاتل من بني تيم بن شيبان من أصحاب شبيب، فلما قتل شبيب رجالا من بني تيم بن شيبان أغار هو على بني مرة بن همام فأصاب منهم رجلا، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهم بغير أمري! فقال له: أصلحك الله! قتلت كفار قومي، وقتلت كفار قومك، قال: وأنت الوالي علي حتى تقطع الأمور دوني! فقال: أصلحك الله! أليس من ديننا قتل من كان على غير رأينا، منا كان أو من غيرنا! قال: بلى، قال:
فإنما فعلت ما كان ينبغى، ولا والله يا أمير المؤمنين ما أصبت من رهطك عشر ما أصبت من رهطي، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد من قتل الكافرين، قال: إني لا أجد من ذلك وكان معه رجال كثير قد أصاب من عشائرهم، فزعموا أنه لما تخلف في أخريات أصحابه قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة! فقطعوا الجسر، فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، ووقع في الماء فغرق قال أبو مخنف: فحدثني ذلك المري بهذا الحديث، وناس من رهط شبيب يذكرون هذا أيضا، وأما حديث العامة فالحديث الأول.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: إنا والله لنتهيأ للانصراف إذ جاء صاحب الجسر فقال: أين أميركم؟ قلنا: هو هذا، فجاءه فقال: أصلحك الله! إن رجلا منهم وقع في الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبرنا، ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاصر بن صيفي فعبر إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه منهم صافر
(6/281)
ولا آثر فنزل فيه، فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا، وأصبحنا فطلبنا شبيبا حتى استخرجناه وعليه الدرع، فسمعت الناس يزعمون أنه شق بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعا صلبا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان، فقال سفيان: احمدوا الله الذي أعانكم فأصبح عسكرهم في أيدينا.
قال أبو زيد عمر بن شبة: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط، قال:
كان شبيب ينعى لأمه فيقال: قتل فلا تقبل قال: فقيل لها: إنه غرق، فقبلت، وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء.
قال هشام عن ابى مخنف: حدثنى فروه بن لقيط الأزدي ثم الغامرى أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سلمان بن ربيعة إذ بعث به وبمن معه الوليد بن عقبة عن أمر عثمان إياه بذلك مددا لأهل الشام أرض الروم، فلما قفل المسلمون اقيم السبى للبيع، فراى يزيد ابن نعيم أبو شبيب جارية حمراء، لا شهلاء ولا زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، فابتاعها ثم أقبل بها، وذلك سنة خمس وعشرين أول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت عليه فضربها فلم تزدد إلا عصيانا، فلما رأى ذلك أمر بها فأصلحت، ثم دعا بها فأدخلت عليه، فلما تغشاها تلقت منه بحمل فولدت شبيبا، وذلك سنة خمس وعشرين في ذي الحجة في يوم النحر يوم السبت وأحبت مولاها حبا شديدا- وكانت حدثة- وقالت: إن شئت أجبتك إلى ما سألتني من الاسلام، فقال لها: شئت، فأسلمت، وولدت شبيبا وهي مسلمة، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قبلي شهاب فثقب يسطع حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وإني
(6/282)
قد أولت رؤياي هذه أني أرى ولدي هذا غلاما، أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعا قال: فكان أبوه يختلف به وبأمه إلى البادية إلى أرض قومه على ماء يدعى اللصف.
قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن أبي سويد بن رادي أن جند أهل الشام الذين جاءوا حملوا معهم الحجر فقالوا: لا نفر من شبيب حتى يفر هذا الحجر، فبلغ شبيبا أمرهم، فأراد أن يكيدهم، فدعا بأفراس أربعة، فربط في أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه، ومعه غلام له يقال له حيان، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثم سار حتى يأتي ناحية من العسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرسا، ثم يمسوها الحديد حتى تجد حرة ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: من نجا منكم فإن موعده هذه التلعة، وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى ذلك منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم، ثم وغلت في العسكر، ودخل يتلوها محكما فضرب الناس بعضهم بعضا، فقام صاحبهم الذي كان عليهم، وهو حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فنادى: أيها الناس، إن هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر، ففعلوا وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنته، فلما أن هدأ الناس ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيان، فقال: أفرغ يا حيان على رأسي من الماء، فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان أن يضرب عنقه، فقال لنفسه: لا أجد لي مكرمة ولا ذكرا أرفع من قتلي هذا، وهو امانى عند الحجاج، فاستقبلته الرعده حيث هم بما هم به، فلما أبطأ بحل الإداوة قال: ما يبطئك بحلها! فتناول السكين من موزجه فخرقها به، ثم ناولها إياه، فأفرغ عليه من الماء فقال حيان: منعني والله الجبن وما أخذني من
(6/283)
الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به ثم لحق شبيب بأصحابه في عسكره.
خروج مطرف بن المغيره على الحجاج وعبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان ولحق بالجبال فقتل.
ذكر السبب الذي كان عند خروجه وخلعه عبد الملك بن مروان:
قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يوسف بن يزيد بن بكر الأزدي أن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء نبلاء، أشرافا بأبدانهم سوى شرف أبيهم ومنزلتهم في قومهم قال: فلما قدم الحجاج فلقوه وشافههم علم أنهم رجال قومه وبنو أبيه، فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف بن المغيرة على المدائن، وحمزة بن المغيرة على همدان.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سعد بن نفيل الأزدي، قال: قدم علينا مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، فإن عملت بما أمرني به فأنا أسعد الناس، وان لم افعل فنفسي او بقت، وحظ نفسي ضيعت، ألا إني جالس لكم العصرين، فارفعوا إلي حوائجكم، وأشيروا علي بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوكم خيرا ما استطعت ثم نزل.
وكان بالمدائن إذ ذاك رجال من أشراف أهل المصر وبيوتات الناس، وبها مقاتلة لا تسعها عدة، إن كان كون بأرض جوخى أو بأرض الأنبار فأقبل مطرف حين نزل حتى جلس للناس في الإيوان، وجاء حكيم بن الحارث الأزدي يمشي نحوه، وكان من وجوه الأزد وأشرافهم، وكان الحجاج قد
(6/284)
استعمله بعد ذلك على بيت المال- فقال له: أصلحك الله! إني كنت منك نائيا حين تكلمت، وإني أقبلت نحوك لأجيبك، فوافق ذلك نزولك، إنا قد فهمنا ما ذكرت لنا، أنه عهد إليك، فأرشد الله العاهد والمعهود إليه، وقد منيت من نفسك العدل، وسألت المعونة على الحق، فأعانك الله على ما نويت، إنك تشبه أباك في سيرته برضا الله والناس، فقال له مطرف:
هاهنا إلي، فأوسع له فجلس إلى جنبه.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد أنه كان من خير عامل قدم عليهم قط، أقمعه لمريب، وأشده إنكارا للظلم، فقدم عليه بشر بن الأجدع الهمداني، ثم الثوري، وكان شاعرا فقال:
اتى كلفت بخود غير فاحشة ... غراء وهنانة حسانة الجيد
كأنها الشمس يوم الدجن إذ برزت ... تمشي مع الآنس الهيف الأماليد
سل الهوى بعلنداة مذكرة ... عنها إلى المجتدى ذي العرف والجود
إلى الفتى الماجد الفياض نعرفه ... في الناس ساعة يحلى كل مردود
من الأكارم أنسابا إذا نسبوا ... والحامل الثقل يوم المغرم الصيد
إني أعيذك بالرحمن من نفر ... حمر السبال كأسد الغابة السود
فرسان شيبان لم نسمع بمثلهمُ ... أبناء كل كريم النجل صنديد
شدوا على ابن حصين في كتيبته ... فغادروه صريعا ليلة العيد
وابن المجالد أردته رماحهمُ ... كأنما زل عن خوصاء صيخود
وكل جمع بروذابار كان لهم ... قد فض بالطعن بين النخل والبيد
فقال له: ويحك! ما جئت الا لترغبنا وقد كان شبيب أقبل من ساتيدما، فكتب مطرف إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أكرمه الله أن شبيبا قد أقبل نحونا، فإن رأى الأمير أن يمدني برجال أضبط بهم المدائن فعل، فإن المدائن باب الكوفة وحصنها
(6/285)
فبعث إليه الحجاج بن يوسف سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف في مائتين وعبد الله بن كناز في مائتين، وجاء شبيب فاقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ثم جاء حتى انتهى إلى كلواذا، فعبر منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير ومطرف بن المغيرة في المدينة العتيقة التي فيها منزل كسرى والقصر الأبيض، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبين شبيب، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالا من صلحاء أصحابك ادار سهم القرآن، وأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه رجالا، منهم سويد بن سليم وقعنب والمحلل بن وائل، فلما أدني منهم المعبر وأرادوا ان ينزلوا فيه ارسل اليهم شبيب الا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، وبعث إلى مطرف: أن ابعث إلي بعدة من أصحابك حتى ترد علي أصحابي، فقال لرسوله: القه فقل له: فكيف آمنك على أصحابي إذا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل في ديننا الغدر، وأنتم تفعلونه وتهونونه فسرح إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي، وسُلَيْمَان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة- وكان على حرس مطرف- فلما وقعوا في يديه بعث أصحابه إليه.
قَالَ أَبُو مخنف:
حَدَّثَنِي النضر بن صالح، قال: كنت عند مطرف ابن المغيرة بن شعبة فما أدري أقال: أني كنت في الجند الذين كانوا معه، أو قال: كنت بإزائه حيث دخلت عليه رسل شبيب! وكان لي ولأخي ودا مكرما، ولم يكن ليستر منا شيئا، فدخلوا عليه وما عنده أحد من الناس غيري وغير أخي حلام بن صالح، وهم ستة ونحن ثلاثة، وهم شاكون في السلاح، ونحن ليس علينا إلا سيوفنا، فلما دنوا قال سويد: السلام على من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله، فقال له مطرف: أجل، فسلم الله على أولئك، ثم جلس القوم، فقال لهم
(6/286)
مطرف: قصوا علي أمركم، وخبروني ما الذي تطلبون؟ والام تدعون؟
فحمد الله سويد بن سليم وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الذي ندعو اليه كتاب الله وسنه محمد ص، وإن الذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، ولا نقمتم إلا جورا ظاهرا، أنا لكم على هذا متابع، فتابعوني إلى ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، وتكون يدي وأيديكم واحدة، فقالوا: هات، اذكر ما تريد أن تذكر، فإن يكن ما تدعونا إليه حقا نجبك، قال: فإني أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة العاصين على إحداثهم الذي أحدثوا، وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمرون عليهم من يرضون لأنفسهم على مثل الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت ان ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا، وكثر تبعكم منهم وأعوانكم على عدوكم، وتم لكم هذا الأمر الذي تريدون.
قال: فوثبوا من عنده، وقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه أبدا، فلما مضوا فكادوا أن يخرجوا من صفة البيت التفت إليه سويد بن سليم، فقال:
يا بن المغيرة، لو كان القوم عداة غدرا كنت قد أمكنتهم من نفسك، ففزع لها مطرف، وقال: صدقت وإله موسى وعيسى.
قال: ورجعوا إلى شبيب فأخبروه بمقالته، فطمع فيه، وقال لهم:
ان أصبحتم فليأته أحدكم، فلما أصبحوا بعث إليه سويد وأمره بأمره، فجاء سويد حتى انتهى إلى باب مطرف، فكنت أنا المستأذن له، فلما دخل وجلس أردت أن أنصرف، فقال لي مطرف: اجلس فليس دونك ستر، فجلست وأنا يومئذ شاب أغيد، فقال له سويد: من هذا الذى ليس لك دونه ستر؟ فقال له: هذا الشريف الحسيب، هذا ابن مالك بن زهير بن جذيمة، فقال له: بخ أكرمت فارتبط، إن كان دينه على
(6/287)
قدر حسبه فهو الكامل، ثم أقبل عليه فقال: إنا لقينا أمير المؤمنين بالذي ذكرت لنا، فقال لنا: القوه فقولوا له: ألست تعلم أن اختيار المسلمين منهم خيرهم لهم فيما يرون رأي رشيد! فقد مضت به السنه بعد الرسول ص، فإذا قال لكم: نعم، فقولوا له: فإنا قد اخترنا لأنفسنا أرضانا فينا، وأشدنا اضطلاعا لما حمل، فما لم يغير ولم يبدل فهو ولي أمرنا وقال لنا: قولوا له فيما ذكرت لنا من الشورى حين قلت: أن العرب إذا علمت أنكم إنما تريدون بهذا الأمر قريشا كان أكثر لتبعكم منهم، فإن أهل الحق لا ينقصهم عند الله أن يقلوا، ولا يزيد الظالمين خيرا أن يكثروا، وإن تركنا حقنا الذي خرجنا له، ودخولنا فيما دعوتنا إليه من الشورى خطيئة وعجز ورخصة إلى نصر الظالمين ووهن، لأنا لا نرى أن قريشا أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب وقال: فإن زعم أنهم أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب فقولوا له: ولم ذاك؟ فان قال:
لقرابه محمد ص بهم فقولوا له: فو الله ما كان ينبغي إذا لأسلافنا الصالحين من المهاجرين الأولين أن يتولوا على أسرة مُحَمَّد، ولا على ولد أبي لهب لو لم يبق غيرهم، ولولا أنهم علموا أن خير الناس عند الله أتقاهم، وأن أولاهم بهذا الأمر أتقاهم وأفضلهم فيهم، وأشدهم اضطلاعا بحمل أمورهم ما تولوا أمور الناس، ونحن أول من أنكر الظلم وغير الجور وقاتل الأحزاب، فإن اتبعنا فله ما لنا وعليه ما علينا، وهو رجل من المسلمين، وإلا يفعل فهو كبعض من نعادي ونقاتل من المشركين.
فقال له مطرف: قد فهمت ما ذكرت، ارجع يومك هذا حتى تنظر في أمرنا.
فرجع، ودعا مطرف رجالا من أهل ثقاته واهل نصائحه، منهم سُلَيْمَان بن حذيفة المزني والربيع بن يزيد الأسدي قال النضر بن صالح: وكنت أنا ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة قائمين على
(6/288)
رأسه بالسيف، وكان على حرسه، فقال لهم مطرف: يا هؤلاء، إنكم نصحائي وأهل مودتي ومن أثق بصلاحه وحسن رأيه، والله ما زلت لأعمال هؤلاء الظلمة كارها، أنكرها بقلبي، وأغيرها ما استطعت بفعلي وأمري، فلما عظمت خطيئتهم، ومر بي هؤلاء القوم يجاهدونهم، لم أر أنه يسعني إلا مناهضتهم وخلافهم إن وجدت أعوانا عليهم، وإني دعوت هؤلاء القوم فقلت لهم كيت وكيت، وقالوا لي كيت وكيت، فلست أرى القتال معهم، ولو تابعوني على رأيي وعلى ما وصفت لهم لخلعت عبد الملك والحجاج، ولسرت إليهم أجاهدهم فقال له المزني: إنهم لن يتابعوك، وإنك لن تتابعهم فأخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد، وقال له الأسدي مثل ذلك، فجثا مولاه ابن أبي زياد على ركبتيه ثم قال: والله لا يخفى مما كان بينك وبينهم على الحجاج كلمة واحدة، وليزادن على كل كلمة عشرة أمثالها، والله إن لو كنت في السحاب هاربا من الحجاج ليلتمسن أن يصل إليك حتى يهلكك أنت ومن معك، فالنجاء النجاء من مكانك هذا، فإن أهل المدائن من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، وأهل عسكر شبيب يتحدثون بما كان بينك وبين شبيب، ولا تمس من يومك هذا حتى يبلغ الخبر الحجاج، فاطلب دارا غير المدائن فقال له صاحباه: ما نرى الرأي إلا كما ذكر لك، قال لهما مطرف: فما عند كما؟ قالا: الإجابة إلى ما دعوتنا إليه والمؤاساة لك بأنفسنا على الحجاج وغيره قال: ثم نظر إلي، فقال:
ما عندك؟ فقلت: قتال عدوك، والصبر معك ما صبرت، فقال لي:
ذاك الظن بك.
قال: ومكث حتى إذا كان في اليوم الثالث أتاه قعنب فقال له:
إن تابعتنا فأنت منا، وإن أبيت فقد نابذناك، فقال: لا تعجلوا اليوم فإنا ننظر.
قال: وبعث إلى أصحابه أن ارحلوا الليلة من عند آخركم حتى توفوا الدسكرة معي لحدث حدث هنالك
(6/289)
ثم أدلج وخرج أصحابه معه حتى مر بدير يزدجرد فنزله، فلقيه قبيصة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ القحافي من خثعم، فدعاه إلى صحبته، فصحبه فكساه وحمله، وأمر له بنفقة، ثم سار حتى نزل الدسكرة، فلما أراد أن يرتحل منها لم يجد بدا من أن يعلم أصحابه ما يريد، فجمع إليه رءوس أصحابه، فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا: «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منكم صحبتي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوا قال: فوثب إليه أصحابه فبايعوه، ثم إنه دخل رحله وبعث إلى سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وإلى عبد الله بن كناز النهدي فاستخلاهما، ودعاهما إلى مثل ما دعا إليه عامة أصحابه، فأعطياه الرضا، فلما ارتحل انصرفا بمن معهما من أصحابه حتى أتيا الحجاج فوجداه قد نازل شبيبا، فشهدا معه وقعة شبيب قال: وخرج مطرف بأصحابه من الدسكرة موجها نحو حلوان، وقد كان الحجاج بعث في تلك السنة سويد بن عبد الرحمن السعدي على حلوان وماسبذان، فلما بلغه أن مطرف بن المغيرة قد أقبل نحو أرضه عرف أنه إن رفق في أمره أو داهن لا يقبل ذلك منه الحجاج، فجمع له سويد أهل البلد والأكراد، فأما الأكراد فأخذوا عليه ثنية حلوان، وخرج إليه سويد وهو يحب أن يسلم من قتاله، وأن يعافى من الحجاج، فكان خروجه كالتعذير.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة الخثعمي أن
(6/290)
الحجاج بن جارية الخثعمي حين سمع بخروج مطرف من المدائن نحو الجبل أتبعه في نحو من ثلاثين رجلا من قومه وغيرهم قال: وكنت فيهم فلحقناه بحلوان، فكنا ممن شهد معه قتال سويد بن عبد الرحمن.
قال أبو مخنف: وحدثني بذلك أيضا النضر قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة قال: ما هو إلا أن قدمنا على مطرف بن المغيرة، فسر بمقدمنا عليه، واجلس الحجاج ابن جارية معه على مجلسه.
قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح، وعبد الله بن علقمه، ان سويدا لما خرج اليهم بمن معه وقف في الرجال ولم يخرج بهم من البيوت، وقدم ابنه القعقاع في الخيل، وما خيله يومئذ بكثير.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ النضر بن صالح: أراهم كانوا مائتين، وقال ابن ابن علقمه: اراهم كانوا ينقصون عن الثلاثمائة قال: فدعا مطرف الحجاج بن جارية فسرحه إليهم في نحو من عدتهم، فأقبلوا نحو القعقاع وهم جادون في قتاله، وهم فرسان متعالمون، فلما رآهم سويد قد تيسروا نحو ابنه أرسل إليهم غلاما له يقال له رستم- قتل معه بعد ذلك بدير الجماجم- وفي يده راية بني سعد، فانطلق غلامه حتى انتهى إلى الحجاج بن جارية، فأسر إليه: إن كنتم تريدون الخروج من بلادنا هذه إلى غيرها فاخرجوا عنا، فإنا لا نريد قتالكم، وإن كنتم إيانا تريدون فلا بد من منع ما في أيدينا فلما جاءه بذلك قال له الحجاج بن جارية: ائت أميرنا فاذكر له ما ذكرت لي، فخرج حتى أتى مطرفا فذكر له مثل الذي ذكر للحجاج بن جارية، فقال له مطرف:
ما أريدكم ولا بلادكم، فقال له: فالزم هذا الطريق حتى تخرج من بلادنا، فإنا لا نجد بدا من أن يرى الناس وتسمع بذلك إنا قد خرجنا إليك قال: فبعث مطرف إلى الحجاج فأتاه، ولزموا الطريق حتى مروا بالثنية فإذا الأكراد بها، فنزل مطرف ونزل معه عامة أصحابه
(6/291)
وصعد إليهم في الجانب الأيمن الحجاج بن جارية، وفي الجانب الأيسر سُلَيْمَان بن حذيفة، فهزماهم وقتلاهم، وَسَلَّمَ مطرف وأصحابه فمضوا حتى دنوا من همذان، فتركها وأخذ ذات اليسار إلى ماه دينار، وكان أخوه حمزة بن المغيرة على همذان، فكره أن يدخلها فيتهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرض ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة:
أما بعد، فإن النفقة قد كثرت والمؤنة قد اشتدت، فأمدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح.
وبعث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلا، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك! أنت قتلت مطرفا؟ فقال له: ما أنا قتلته جعلت فداك! ولكن مطرفا قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك، فقال له: ويحك! من سول له هذا الأمر! فقال: نفسه سولت هذا له ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه ثم قال:
نعم، وأنا باعث إليه بمال وسلاح، ولكن أخبرني ترى ذلك يخفى لي؟
قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزه: فو الله لئن أنا خذلته في أنفع النصرين له نصر العلانية، لا أخذله في أيسر النصرين نصر السريرة.
قال: فسرح إليه مع يزيد بن أبي زياد بمال وسلاح، فأقبل به حتى أتى مطرفا ونحن نزول في رستاق من رساتيق ماه دينار، يقال له: سامان متاخم ارض أصبهان، وهو رستاق كانت الحمراء تنزله.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، قال: والله ما هو إلا أن مضى يزيد بن أبي زياد، فسمعت أهل العسكر يتحدثون أن الأمير بعث إلى أخيه يسأله النفقة والسلاح، فأتيت مطرفا فحدثته بذلك، فضرب بيده على جبهته ثم قال: سبحان الله!، قال الأول: ما يخفى الا مالا يكون،
(6/292)
قال: وما هو إلا أن قدم يزيد بن أبي زياد علينا، فسار مطرف بأصحابه حتى نزل قم وقاشان وأصبهان.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة أن مطرفا حين نزل قم وقاشان واطمأن، دعا الحجاج بن جارية فقال له: حدثني عن هزيمة شبيب يوم السبخة أكانت وأنت شاهدها، أم كنت خرجت قبل الوقعة؟
قال: لا، بل شهدتها، قال: فحدثني حديثهم كيف كان؟ فحدثه، فقال: إني كنت أحب أن يظفر شبيب وإن كان ضالا.
فيقتل ضالا قال: فظننت أنه تمنى ذلك لأنه كان يرجو أن يتم له الذي يطلب لو هلك الحجاج قال: ثم إن مطرفا بعث عماله.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح أن مطرفا عمل عملا حازما لولا أن الأقدار غالبة قال: كتب مع الربيع بن يزيد الى سويد ابن سرحان الثقفي، وإلى بكير بن هارون البجلي:
أما بعد، فإنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى جهاد من عند عن الحق، واستأثر بالفيء، وترك حكم الكتاب، فإذا ظهر الحق ودمغ الباطل، وكانت كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمة يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا، فمن قبل هذا منا كان أخانا في ديننا، وولينا في محيانا ومماتنا، ومن رد ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه فكفى بنا عليه حجة، وكفى بتركه الجهاد في سبيل الله غبنا، وبمداهنة الظالمين في أمر الله وهنا! إن الله كتب القتال على المسلمين وسماه كرها، ولن ينال رضوان الله إلا بالصبر على أمر الله، وجهاد أعداء الله، فأجيبوا رحمكم الله إلى الحق، وادعوا إليه من ترجون اجابته، وعرفوه مالا يعرفه، وليقبل إلي كل من رأى رأينا، وأجاب دعوتنا، ورأى عدوه عدونا.
أرشدنا الله وإياكم، وتاب علينا وعليكم، إنه هو التواب الرحيم والسلام
(6/293)
فلما قدم الكتاب على ذينك الرجلين دبا في رجال من أهل الري ودعوا من تابعهما، ثم خرجا في نحو من مائة من أهل الري سرا لا يفطن بهم، فجاءوا حتى وافوا مطرفا وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان:
أما بعد، فإن كان للأمير أصلحه الله حاجة في أصبهان فليبعث إلى مطرف جيشا كثيفا يستأصله ومن معه، فإنه لا تزال عصابة قد انتفحت له من بلدة من البلدان حتى توافيه بمكانه الذي هو به، فإنه قد استكثف وكثر تبعه، والسلام.
فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، إذا أتاك رسولي فعسكر بمن معك، فإذا مر بك عدى ابن وتاد فاخرج معه في أصحابك، واسمع له وأطع والسلام.
فلما قرأ كتابه خرج فعسكر، وجعل الحجاج بن يوسف يسرح إلى البراء بن قبيصة الرجال على دواب البريد عشرين عشرين، وخمسة عشر خمسة عشر، وعشرة عشرة، حتى سرح اليه نحوا من خمسمائة، وكان في ألفين.
وكان الأسود بن سعد الهمذاني أتى الري في فتح الله على الحجاج يوم لقي شبيبا بالسبخة، فمر بهمذان والجبال، ودخل على حمزة فاعتذر إليه، فقال الأسود: فأبلغت الحجاج عن حمزة، فقال: قد بلغني ذاك، وأراد عزله، فخشي أن يمكر به، وأن يمتنع منه، فبعث إلى قيس بن سعد العجلي- وهو يومئذ على شرطة حمزة بن المغيرة ولبني عجل وربيعة عدد بهمذان- فبعث إلى قيس بن سعد بعهده على همذان، وكتب اليه ان اوثق حمزه ابن المغيرة في الحديد، واحبسه قبلك حتى يأتيك أمري.
فلما أتاه عهده وأمره أقبل ومعه ناس من عشيرته كثير، فلما دخل المسجد وافق الإقامة لصلاة العصر، فصلى حمزة، فلما انصرف حمزة انصرف معه
(6/294)
قيس بن سعد العجلي صاحب شرطه، فأقرأه كتاب الحجاج إليه، وأراه عهده، فقال حمزة سمعا وطاعة، فأوثقه وحبسه في السجن، وتولى أمر همذان، وبعث عماله عليها، وجعل عماله كلهم من قومه، وكتب إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله، أني قد شددت حمزة بن المغيرة في الحديد، وحبسته في السجن، وبعثت عمالي على الخراج، ووضعت يدي في الجباية، فإن رأى الأمير أبقاه الله أن يأذن لي في المسير إلى مطرف أذن لي حتى أجاهده في قومي، ومن أطاعني من أهل بلادي، فإني أرجو أن يكون الجهاد أعظم أجرا من جباية الخراج والسلام.
فلما قرأ الحجاج كتابه ضحك ثم قال: هذا جانب آثرا ما قد أمناه.
وقد كان حمزة بهمذان أثقل ما خلق الله على الحجاج مخافة أن يمد أخاه بالسلاح والمال، ولا يدري لعله يبدو له فيعق، فلم يزل يكيده حتى عزله، فاطمان وقصد قصد مطرف.
قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة أن الحجاج لما قرأ كتاب قيس بن سعد العجلي وسمع قوله: إن أحب الأمير سرت إليه حتى أجاهده في قومي، قال: ما أبغض إلي أن تكثر العرب في أرض الخراج.
قال: فقال لي ابن الغرق: ما هو إلا أن سمعتها من الحجاج فعلمت أنه لو قد فرغ له قد عزله.
قال: وحدثني النضر بن صالح أن الحجاج كتب إلى عدي بن وتاد الإيادي وهو على الري يأمره بالمسير إلى مطرف بن المغيرة وبالممر على البراء ابن قبيصة، فإذا اجتمعوا فهو أمير الناس.
قال أبو مخنف: وحدثني أبي عن عبد الله بن زهير،، عن عبد الله بن سليم الأزدي قال: إني لجالس مع عدي بن وتاد على مجلسه بالري إذ أتاه كتاب الحجاج، فقرأه ثم دفعه إلي، فقرأته فإذا فيه:
أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فانهض بثلاثة أرباع من معك من أهل الري، ثم أقبل حتى تمر بالبراء بن قبيصة بجى، ثم سيرا جميعا، فإذا
(6/295)
لقيتهما فأنت أمير الناس حتى يقتل الله مطرفا، فإذا كفى الله المؤمنين مؤنته فانصرف إلى عملك في كنف من الله وكلاءته وستره فلما قرأته قال لي: قم وتجهز.
قال: وخرج فعسكر، ودعا الكتاب فضربوا البعث على ثلاثة أرباع الناس، فما مضت جمعة حتى سرنا فانتهينا إلى جي، ويوافينا بها قبيصة القحافى في تسعمائة من أهل الشام، فيهم عمر بن هبيرة، قال: ولم نلبث بجي إلا يومين حتى نهض عدي بن وتاد بمن أطاعه من الناس ومعه ثلاثة آلاف مقاتل من أهل الري وألف مقاتل مع البراء بن قبيصة بعثهم اليه الحجاج من الكوفه، وسبعمائة من أهل الشام، ونحو ألف رجل من أهل أصبهان والأكراد، فكان في قريب من ستة آلاف مقاتل، ثم أقبل حتى دخل على مطرف بن المغيرة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، عن عبد الله بن علقمة، أن مطرفا لما بلغه مسيرهم اليه خندق على اصحابه خندقا، فلم يزالوا فيه حتى قدموا عليه.
قال أبو مخنف: وحدثني يزيد مولى عبد الله بن زهير، قال: كنت مع مولاي إذ ذاك، قال: خرج عدي بن وتاد فعبى الناس، فجعل على ميمنته عبد الله بن زهير، ثم قال للبراء بن قبيصة: قم في الميسرة، فغضب البراء، وقال: تأمرني بالوقوف في الميسرة وأنا أمير مثلك! تلك خيلي في الميسرة، وقد بعثت عليها فارس مضر الطفيل بن عامر بن وائلة، قال: فأنهي ذلك إلى عدي بن وتاد، فقال لابن أقيصر الخثعمي: انطلق فأنت على الخيل، وانطلق إلى البراء بن قبيصة فقل له: إنك قد أمرت بطاعتي، ولست من الميمنة والميسرة والخيل والرجالة في شيء، إنما عليك أن تؤمر فتطيع، ولا تعرض لي في شيء أكرهه فأتنكر لك- وقد كان له مكرما.
ثم إن عديا بعث على الميسرة عمر بن هبيرة، وبعثه في مائة من أهل الشام، فجاء حتى وقف برايته، فقال رجل من أصحابه للطفيل بن عامر:
(6/296)
خل رايتك وتنح عنا، فإنما نحن أصحاب هذا الموقف، فقال الطفيل:
إني لا أخاصمكم، إنما عقد لي هذه الراية البراء بن قبيصة، وهو أميرنا، وقد علمنا أن صاحبكم على جماعة الناس، فإن كان قد عقد لصاحبكم هذا فبارك الله له، ما أسمعنا وأطوعنا! فقال لهم عمر بن هبيرة: مهلا، كفوا عن أخيكم وابن عمكم، رايتنا رايتك، فإن شئت آثرناك بها قال: فما رأينا رجلين كانا أحلم منهما في موقفهما ذلك قال: ونزل عدي بن وتاد ثم زحف نحو مطرف قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح وعبد الله بن علقمة أن مطرفا بعث على ميمنته الحجاج بن جارية، وعلى ميسرته الربيع بن يزيد الأسدي، وعلى الحامية سليمان بن صخر المزنى، ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع يزيد بن أبي زياد مولى أبيه المغيرة بن شعبة قال: فلما زحف القوم بعضهم إلى بعض وتدانوا قال لبكير بن هارون البجلي: اخرج إليهم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وبكتهم بأعمالهم الخبيثة فخرج إليهم بكير بن هارون على فرس له أدهم أقرح ذنوب عليه الدرع والمغفر والساعدان، في يده الرمح، وقد شد درعه بعصابة حمراء من حواشي البرود، فنادى بصوت له عال رفيع: يا أهل قبلتنا، وأهل ملتنا، وأهل دعوتنا، إنا نسألكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي علمه بما تسرون مثل علمه بما تعلنون لما أنصفتمونا وصدقتمونا، وكانت نصيحتكم لله لا لخلقه، وكنتم شهداء لله على عباده بما يعلمه الله من عباده خبروني عن عبد الملك بن مروان، وعن الحجاج بن يوسف، ألستم تعلمونهما جبارين مستأثرين يتبعان الهوى، فيأخذان بالظنة، ويقتلان على الغضب قال: فتنادوا من كل جانب:
يا عدو الله كذبت، ليسا كذلك، فقال لهم: وَيْلَكُمْ «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» ويلكم، أوتعلمون من الله ما لا يعلم، إني قد استشهدتكم وقد قال الله في الشهاده: «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» ،
(6/297)
فخرج إليه صارم مولى عدي بن وتاد وصاحب رايته، فحمل على بكير ابن هارون البجلي، فاضطربا بسيفيهما، فلم تعمل ضربة مولى عدي شيئا، وضربه بكير بالسيف فقتله، ثم استقدم، فقال: فارس لفارس، فلم يخرج إليه أحد، فجعل يقول:
صارم قد لاقيت سيفا صارما ... وأسدا ذا لبده ضبار ما
قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسره، وفيها الطفيل بن عامر بن وائله، فالتقى هو والطفيل- وكانا صديقين متؤاخيين- فتعارفا، وقد رفع كل واحد منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلا ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلا، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشفت ميسره مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالا طويلا، ثم إنه حذره حتى انتهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سُلَيْمَان بن صخر المزني فقتله، وانكشفت خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح انه جعل يناديهم يومئذ:
«يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
» قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده
(6/298)
به عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسنا.
قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحا ناسكا عفيفا.
أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأسه مع ابن أقيصر الخثعمي فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله لقد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيرا قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ما له؟ قال: فأخبره بمقالتي، فقال: إنه ضعيف العقل، قال: ثم انصرفنا إلى الري مع عدي بن وتاد قال: وبعث رجالا من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال من أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا.
فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناسا كثيرا فخلى عنهم.
قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلي فيه.
قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير قال كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف:
(6/299)
أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعدا له فذاك ما أهوى وأحب، وإن كان حيا فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلي إن شاء الله والسلام.
قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولا بد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه وقمنا من عنده.
قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفا حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنه وقال حبيب بن خدرة مولى لبني هلال بن عامر:
هل أتى فائد عن أيسارنا ... إذ خشينا من عدو خرقا
إذ أتانا الخوف من مأمننا ... فطوينا في سواد أفقا
وسلي هدية يوما هل رأت ... بشرا أكرم منا خلقا!
وسليها أعلى العهد لنا ... أو يصرون علينا حنقا!
ولكم من خلة من قبلها ... قد صرمنا حبلها فانطلقا
قد أصبنا العيش عيشا ناعما ... وأصبنا العيش عيشا رنقا
وأصبت الدهر دهرا أشتهي ... طبقا منه وألوي طبقا
وشهدت الخيل في ملمومة ... ما ترى منهن إلا الحدقا
يتساقون بأطراف القنا ... من نجيع الموت كأسا دهقا
فطراد الخيل قد يؤنقني ... ويرد اللهو عني الأنقا
بمشيح البيض حتى يتركوا ... لسيوف الهند فيها طرقا
فكأني من غد وافقتها ... مثل ما وافق شن طبقا
ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الازارقه
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب
(6/300)
قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري.
ذكر الخبر عن ذلك، وعن السبب الذي من أجله حدث الاختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك:
ذكر هشام عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَزِيدَ، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطريا وأصحابه من الأزارقة بعد ما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت- وجيرفت مدينة كرمان- فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالا شديدا، وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يدي المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إلى الحجاج:
أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسا ودرابجرد، وكورة إصطخر.
فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول شاعر الأزد وهو يعاتب المهلب:
نقاتل عن قصور درابجرد ... ونجبي للمغيرة والرقاد
وكان الرقاد بن زياد بن همام- رجل من العتيك- كريما على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة، وكتب إلى المهلب:
أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما ارى لقد اصطلمت هذه الخارجه المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك، وقد بعثت إليك البراء بن
(6/301)
قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، ثم جاهدهم أشد الجهاد، وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة، والسلام.
فأخرج المهلب بينه، كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم واخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا.
فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرسانا قط، ولا كفرسانك من العرب فرسانا قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم، وقال هؤلاء: نحن من بني تميم، فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء:
كيف رأيت؟ قال: رأيت قوما والله ما يعينك عليهم إلا الله فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه، وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصرف إلى الحجاج فأتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج:
أما بعد، فقد أتاني كتاب الأمير أصلحه الله، واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فاما انا فو الله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت
(6/302)
لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير- أصلحه الله- فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام.
ثم إن المهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهرا لا يستقل منهم شيئا، ولا يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يرد عونهم به ويكفونهم عنهم ثم إن رجلا منهم كان عاملا لقطري على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بنى ضبة، فقتل رجلا قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطري، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم:
ما أرى أن أفعل، رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى، قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد رب الكبير، وخلعوا قطريا، وبايع قطريا منهم عصابة نحوا من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحوا من شهر غدوة وعشية.
فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج:
أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطريا وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضا غدو وعشيا، وقد رجوت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله، والسلام.
فكتب إِلَيْهِ:
أَمَّا بَعْدُ فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا أتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مئونتهم عليك أشد، والسلام فكتب إليه:
أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم
(6/303)
يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضا، فأناهضهم على تفيئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام.
فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهرا لا يحركهم.
ثم إن قطريا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالا شديدا ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين وقال كعب الأشقري- والأشقر بطن من الأزد- يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور، وأيام جيرفت.
يا حفص إني عداني عنكمُ السفر ... وقد أرقت فآذى عيني السهر
علقت يا كعب بعد الشيب غانية ... والشيب فيه عن الأهواء مزدجر
أممسك أنت عنها بالذي عهدت ... أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر
علقت خودا بأعلى الطف منزلها ... في غرفة دونها الأبواب والحجر
درما مناكبها ريا مآكمها ... تكاد إذ نهضت للمشي تنبتر
وقد تركت بشط الزابيين لها ... دارا بها يسعد البادون والحضر
واخترت دارا بها حي أسر بهم ... ما زال فيهم لمن نختارهم خير
لما نبت بي بلادي سرت متجعا ... وطالب الخير مرتاد ومنتظر
أبا سعيد فإني جئت منتجعا ... أرجو نوالك لما مسني الضرر
لولا المهلب ما زرنا بلادهمُ ... ما دامت الأرض فيها الماء والشجر
فما من الناس من حي علمتهمُ ... إلا يرى فيهمُ من سيبكم أثر
أحييتهم بسجال من نداك كما ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر.
(6/304)
إني لأرجو إذا ما فاقة نزلت ... فضلا من الله في كفيك يبتدر
فاجبر اخالك او هي الفقر قوته ... لعله بعد وهي العظم ينجبر
جفا ذوو نسبي عني وأخلفني ... ظني فلله دري كيف آتمر
يا واهب القينة الحسناء سنتها ... كالشمس هركولة في طرفها فتر
وما تزال بدور منك رائحة ... وآخرون لهم من سيبك الغرر
نماك للمجد أملاك ورثتهمُ ... شم العرانين في أخلاقهم يسر
ثاروا بقتلى وأوتار تعددها ... في حين لا حدث في الحرب يتئر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ... فما لأمرهمُ ورد ولا صدر
وما تجاوز باب الجسر من احد و ... عضت الحرب أهل المصر فانجحروا
وأدخل الخوف أجواف البيوت على ... مثل النساء رجال ما بهم غير
واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ... أمر تشمر في أمثاله الأزر
نظل من دون خفض معصمين بهم ... فشمر الشيخ لما اعظم الخطر
كنا نهون قبل اليوم شأنهمُ ... حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ... واستنفر الناس تارات فما نفروا
نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته ... عنه وليس به في مثله قصر
أفشى هنالك مما كان مذ عصروا ... فيهم صنائع مما كان يدخر
تلبسوا لقراع الحرب بزتها ... فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا
ساروا بألوية للمجد قد رفعت ... وتحتهن ليوث في الوغى وقر
حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا ... برامهرمز وافاهم بها الخبر
نعي بشر فجال القوم وانصدعوا ... إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا
ثم استمر بنا راض ببيعته ... ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا.
(6/305)
حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد ... شبت لنا ولهم نار لها شرر
نلقى مساعير أبطالا كأنهم ... جن نقارعهم ما مثلهم بشر
نسقى ونسقيهمُ سما على حنق ... مستأنفي الليل حتى أسفر السحر
قتلى هنالك لا عقل ولا قود ... منا ومنهم دماء سفكها هدر
حتى تنحوا لنا عنها تسوقهمُ ... منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا
لم يغن عنهم غداة التل كيدهمُ ... عند الطعان ولا المكر الذي مكروا
باتت كتائبنا تردي مسومة ... حول المهلب حتى نور القمر
هناك ولوا حزانا بعد ما فرحوا ... وحال دونهمُ الأنهار والجدر
عبوا جنودهمُ بالسفح إذ نزلوا ... بكازرون فما عزوا ولا ظفروا
وقد لقوا مصدقا منا بمنزلة ... ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا
بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت ... أسد بسفك دماء الناس قد زئروا
لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهمُ ... فيهم على من يقاسي حربهم صعر
المقدمين إذ ما خيلهم وردت ... والعاطفين إذا ما ضيع الدبر
وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهمُ ... ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا
والله ما نزلوا يوما بساحتنا ... إلا أصابهمُ من حربنا ظفر
ننفيهمُ بالقنا عن كل منزلة ... تروح منا مساعير وتبتكر
ولوا حذارا وقد هزوا أسنتنا ... نحو الحروب فما نجاهم الحذر
صلت الجبين طويل الباع ذو فرح ... ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر
مجرب الحرب ميمون نقيبته ... لا يستخف ولا من رأيه البطر
وفي ثلاث سنين يستديم بنا ... يقارع الحرب أطوارا ويأتمر.
(6/306)
يقول إن غدا مبد لناظره ... وفي الليالي وفي الأيام معتبر
دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا ... ان المحارب يستأني وينتظر
حتى أتته أمور عندها فرج ... وقد تبين ما يأتي وما يذر
لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا ... وقد تقاربت الآجال والقدر
سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا ... وقبل ذلك كانت بيننا مئر
وزادنا حنقا قتلى نذكرها ... لا تستفيق عيون كلما ذكروا
إذا ذكرنا جروزا والذين بها ... قتلى مضى لهمُ حولان ما قبروا
تأتي علينا حزازات النفوس فما ... نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا
ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا ... ولا نقيلهمُ يوما إذا عثروا
لا عذر يقبل منا دون أنفسنا ... ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا
صفان بالقاع كالطودين بينهما ... كالبرق يلمع حتى يشخص البصر
على بصائر كل غير تاركها ... كلا الفريقين تتلى فيهم السور
يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ... مشي الزوامل تهدي صفهم زمر
وشيخنا حوله منا ململمة ... حي من الأزد فيما نابهم صبر
في موطن يقطع الأبطال منظره ... تشاط فيه نفوس حين تبتكر
ما زال منا رجال ثم نضربهم ... بالمشرفي ونار الحرب تستعر
وباد كل سلاح يستعان به ... في حومة الموت إلا الصارم الذكر
ندوسهم بعناجيج مجففة ... وبيننا ثَم من صم القنا كسر
يغشين قتلى وعقرى ما بها رمق ... كأنما فوقها الجادي يعتصر
قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ... تشفي صدور رجال طالما وتروا
(6/307)
مجاورين بها خيلا معقرة ... للطير فيها وفي أجسادهم جزر
في معرك تحسب القتلى بساحته ... أعجاز نخل زفته الريح ينعقر
وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ... قد كان للأزد فيها الحمد والظفر
في كل يوم تلاقي الأزد مفظعة ... يشيب في ساعة من هولها الشعر
والأزد قومي خيار القوم قد علموا ... إذا قرومهمُ يوم الوغى خطروا
فيهم معاقل من عز يلاذ بها ... يوما إذا شمرت حرب لها درر
حي بأسيافهم يبغون مجدهمُ ... إن المكارم في المكروه تبتدر
لولا المهلب للجيش الذي وردوا ... أنهار كرمان بعد الله ما صدروا
إنا اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ... بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ... دينا يخالف ما جاءت به النذر
وقال الطفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه، وذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم:
لقد مس منا عبد رب وجنده ... عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم
سما لهمُ بالجيش حتى أزاحهم ... بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم
وما قطري الكفر إلا نعامة ... طريد يدوي ليلة غير نائم
إذا فر منا هاربا كان وجهه ... طريقا سوى قصد الهدى والمعالم
فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ... به الفلك في لج من البحر دائم
ذكر الخبر عن هلاك قطري واصحابه
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة
(6/308)
ذكر سبب مهلكهم: وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلاف الذى حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه- فِيمَا ذكر هِشَام عن أبي مخنف، عن يونس بن يزيد- سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشا من أهل الشام عظيما في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم وكتب الحجاج إلى إسحاق بن مُحَمَّد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطع لسفيان فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازه وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزا فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي، فقطعت المغفر، وقطعت جلدة من حلقي، وأختلج السيف فأضرب به وجهها، فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتة، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز، وقال: ما أردت الى قتل هذه أخزاها الله- فقلت: او ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله.
إن كادت لتقتلني، قال: قد رايت، فو الله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطريا حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري:
اسقني من الماء- وقد كان اشتد عطشه- فقال: أعطني شيئا حتى أسقيك، فقال: ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا
(6/309)
أتيتني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتى بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرا عظيما من فوقه دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سوره بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن مُحَمَّد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارا مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله، فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي- وكلهم يزعم أنه قاتله- فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه.
فأقبل به إلى إسحاق بن مُحَمَّد- وهو على أهل الكوفة- ولم يأته جعفر لشيء كان بينه وبينه قبل ذلك- وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق، وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج، فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا فيه إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما- يعني أنه يفرض للصغار في الديوان- وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطريا كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره، فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربه فصرعته، ثم جاءوني بعد، فأقبلوا يضربونه بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه قال: جئت الآن وقد سرحنا بالراس فانصرف عنه فقال له اصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه
(6/310)
ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفا إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أياما ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن، فقال عبيدة بن هلال:
لعمري لقد قام الأصم بخطبة ... لذي الشك منها في الصدور غليل
لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي ... وفارقت ديني إنني لجهول
إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ... تساوك هزلي مخهن قليل
تعاورها القذاف من كل جانب ... بقومس حتى صعبهن ذلول
فإن يك أفناها الحصار فربما ... تشحط فيما بينهن قتيل
وقد كن مما أن يقدن على الوجى ... لهن بأبواب القباب صهيل
فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برءوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند وطبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم
. ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ
قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه.
وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد- أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام
(6/311)
فلما ولاه غزو ما وراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على خراسان ابنه زيادا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أياما، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: اقطع يا بكير، فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! اعبر ثم يعبر الناس بعدك فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت الا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلي مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى اميه الى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إنا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: احرق هذه السفن، وامض إلى مرو فاخلع أمية، وتقيم بمرو تأكلها إلى يوم ما، قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي ما رأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك من هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلمون، قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع، قال: فيهلك أمية ومن معه، قال:
ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن
(6/312)
أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكي منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحدا من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فأعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابا، فقال عتاب في ذلك:
إن الحواضن تلقاها مجففة ... غلب الرقاب على المنسوبة النجب
تركت أمرك من جبن ومن خور ... وجئتنا حمقا يا ألأم العرب
لما رأيت جبال السغد معرضة ... وليت موسى ونوحا عكوة الذنب
وجئت ذيخا مغذا ما تكلمنا ... وطرت من سعف البحرين كالخرب
أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ... تحت الخوافق دون العارض اللجب
يخب بي مشرف عار نواهقه ... يغشى الكتيبة بين العدو والخبب
قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه.
فقال شماس بن دثار- وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله فقدمه اميه في ثمانمائه، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه
(6/313)
مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيعا مني، لم تف لأمية ولم تشكر له صنيعه بك، قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك.
قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية في الناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة- وعارمة جارية بكير- فأحجم، فقال له بكير: لا أبا لك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارمة فحلا يمنعها، فقدم لواءك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثم التقوا يوما آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم:
لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس قال:
ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش، فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يوما آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيرا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض
(6/314)
السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة.
قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد.
قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح، وأحب ذلك أيضا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه- وكان أمية يحب العافيه- فصالحه على ان يقضى عنه أربعمائة الف، ويصل اصحابه ويوليه أيضا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتى يخرج عن مرو، فأخذ الأمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابا على باب سنجان، ودخل أمية المدينة قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة، فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي، قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فأستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفا، قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك فأدى عنه عشرين ألفا، وكان أمية سهلا لينا سخيا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه، قال: وكان مع ذلك ثقيلا عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي وعزل أمية بحيرا
(6/315)
عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب، وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه، فضرب عبد الملك بعثا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليك الأسدي جعالته رجلا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، فجلس بكير يوما في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا:
سلط علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاحم بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحما فسأله فقال: انما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان، فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل، فآمنته ووصلته.
قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وان تركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز، وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذا دخل بكير، وبدل وشمردل بنا أخيه، فنهضت فخدوهم.
وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام اميه عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذا وكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع.
فلما كان من الغد أخرج بكيرا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعه والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة- وهو رأس أهل العالية- ولابن والان العدوي- وهو يومئذ من رؤساء بنى تميم- ليعقوب بن خالد الذهلي:
(6/316)
اتقتلونه؟ فلم يجيبوه، فقال لبحير: اتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه، فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه- وكان صديقا لبكير- فاحتضن اميه، وقال: اذكرك الله ايها امير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: يا يعقوب ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير، قال:
لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك، قال: يا يعقوب، ما أعطيته ذمة ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من إسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد، فقال بحير: لا والله يا بن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة.
وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت ممن أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء قال: ثم وجه أمية رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه، فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم الى اميه.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك، فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية:
ألا أبلغ أمية أن سيجزى ... ثواب الشر إن له ثوابا
ومن ينظر عتابك أو يرده ... فلست بناظر منك العتابا
(6/317)
محا المعروف منك خلال سوء ... منحت صنيعها بابا فبابا
ومن سماك إذ قسم الأسامي ... أمية إذ ولدت فقد أصابا
قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان اميه ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين.
وسنة سبع وسبعين وقد قيل: إن هلاك شبيب كان في سنة ثمان وسبعين، وكذلك قيل في هلاك قطري وعبيدة بن هلال وعبد ربه الكبير.
وغزا في هذه السنة الصائفة الوليد.
(6/318)
ثم دخلت
سنة ثمان وسبعين
(ذكر الخبر عن الكائن في هذه السنة من الأحداث الجليلة) فمن ذلك عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان وضمه خراسان وسجستان إلى الحجاج بن يوسف فلما ضم ذلك إليه فرق فيه عماله.
ذكر الخبر عن العمال الذين ولاهم الحجاج خراسان وسجستان
وذكر السبب في توليته من ولاه ذلك وشيئا منه ذكر أن الحجاج لما فرغ من شبيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل- وقد قيل: إنه استخلف عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم عزله، وجعل مكانه المغيرة بن عبد الله- فقدم عليه المهلب بها، وقد فرغ من امر الأزارقة.
فقال هشام: حدثني أبو مخنف عن أبي المخارق الراسبي، أن المهلب بن أبي صفرة لما فرغ من الأزارقة قدم على الحجاج- وذلك سنه ثمان وسبعين- فاجلسه معه، ودعا باصحاب البلاء من اصحاب المهلب، فأخذ الحجاج لا يذكر له المهلب رجلا من أصحابه ببلاء حسن إلا صدقه الحجاج بذلك، فحملهم الحجاج وأحسن عطاياهم، وزاد في أعطياتهم، ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال، وأحق بالأموال، هؤلاء حماة الثغور، وغيظ الأعداء.
قال هشام عن أبي مخنف: قال يونس بن ابى إسحاق: وقد كان الحجاج ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: ألا أدلك على رجل هو أعلم بسجستان مني، وقد كان ولي كابل وزابل، وجباهم
(6/319)
وقاتلهم وصالحهم؟ قال له: بلى، فمن هو؟ قال عبيد الله بن أبي بكرة.
ثم إنه بعث المهلب على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان العامل هنالك أمية بن عبد الله بن خالد بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وكان عاملا لعبد الملك بن مروان، لم يكن للحجاج شيء من أمره حين بعث على العراق حتى كانت تلك السنة، فعزله عبد الملك وجمع سلطانه للحجاج، فمضى المهلب إلى خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته.
فهذه رواية أبي مخنف عن أبي المخارق، وأما علي بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن المفضل بن مُحَمَّد أن خراسان وسجستان جمعتا للحجاج مع العراق في أول سنة ثمان وسبعين بعد ما قتل الخوارج، فاستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على خراسان، والمهلب بن أبي صفرة على سجستان، فكره المهلب سجستان، فلقي عبد الرحمن بن عبيد بن طارق العبشمي- وكان على شرطة الحجاج- فقال: إن الأمير ولاني سجستان، وولى ابن أبي بكرة خراسان، وأنا أعرف بخراسان منه، قد عرفتها أيام الحكم بن عمرو الغفاري، وابن أبي بكرة أقوى على سجستان مني، فكلم الأمير يحولني إلى خراسان، وابن أبي بكرة إلى سجستان، قال: نعم، وكلم زاذان فروخ يعينني، فكلمه، فقال: نعم، فقال عبد الرحمن بن عبيد للحجاج: وليت المهلب سجستان وابن أبي بكرة أقوى عليها منه، فقال زاذان فروخ: صدق، قال: إنا قد كتبنا عهده، قال زاذان فروخ: ما أهون تحويل عهده! فحول ابن أبي بكرة إلى سجستان، والمهلب إلى خراسان، وأخذ المهلب بألف ألف من خراج الأهواز، وكان ولاها إياه خالد بن عبد الله، فقال المهلب لابنه المغيرة: إن خالدا ولاني الأهواز، وولاك إصطخر، وقد أخذني الحجاج بألف ألف، فنصف علي ونصف عليك، ولم يكن عند المهلب مال، كان إذا عزل استقرض، قال: فكلم أبا ماوية مولى عبد الله بن عامر- وكان أبو ماوية على بيت مال عبد الله بن عامر- فأسلف المهلب ثلاثمائة الف،
(6/320)
فقالت خيرة القشيرية امرأة المهلب: هذا لا يفي بما عليك، فباعت حليا لها ومتاعا، فأكمل خمسمائة الف، وحمل المغيره الى ابيه خمسمائة ألف فحملها إلى الحجاج، ووجه المهلب ابنه حبيبا على مقدمته، فأتى الحجاج فودعه، فأمر الحجاج له بعشرة آلاف وبغلة خضراء، قال:
فسار حبيب على تلك البغلة حتى قدم خراسان هو وأصحابه على البريد، فسار عشرين يوما، فتلقاهم حين دخلوا حمل حطب، فنفرت البغلة فتعجبوا منها ومن نفارها بعد ذلك التعب وشدة السير فلم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عبد الملك، حدثني بذلك احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكان أمير المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وأمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وخليفته بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله ابن أبي بكرة، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة- فيما قيل- موسى بن أنس.
وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.
(6/321)
ثم دخلت
سنة تسع وسبعين
(ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ ما أصاب أهل الشام في هذه السنة من الطاعون حتى كادوا يفنون من شدته، فلم يغز في تلك السنة أحد- فيما قيل- للطاعون الذي كان بها، وكثرة الموت.
وفيها- فيما قيل-: أصابت الروم أهل أنطاكية.
ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن ابى بكره رتبيل
وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل.
ذكر الخبر عن غزوته إياه:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال:
لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحا، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضبابي، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ما شاء وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم
(6/322)
ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخا، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: أني مصالح القوم على أن أعطيهم مالا، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل اليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا، قال شريح: والله لقد بلغت سنا، وقد هلكت لداتي، ما تأتي علي ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما أخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم، فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز يومئذ ويقول:
أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا قد عشت بين المشركين أعصرا ثمت أدركت النبي المنذرا وبعده صديقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا والجمع في صفينهم والنهرا وباجميرات مع المشقرا هيهات ما أطول هذا عمرا فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطعمة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك:
أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم
(6/323)
ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله.
وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرا، وانصرف عنها أمية بن عبد الله، وقيل استعفى شريح القاضي من القضاء في هذه السنة، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج وولى أبا بردة.
وحج بالناس في هذه السنة- فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر- أبان بن عثمان، وكذلك قال الواقدي وغيره من أهل السير.
وكان أبان هذه السنة أميرا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف.
وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج.
وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة على خراجها، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن انس.
(6/324)
ثم دخلت
سنة ثمانين
(ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة) وفي هذه السنة جاء- فيما حدثت عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الواقدي- سيل بمكة ذهب بالحجاج، فغرقت بيوت مكة فسمي ذلك العام عام الجحاف، لأن ذلك السيل جحف كل شيء مر به.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء السيل حتى ذهب بالحجاج ببطن مكة، فسمي لذلك عام الجحاف، ولقد رأيت الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء تمر بهم ما لأحد فيهم حيلة، وإني لأنظر إلى الماء قد بلغ الركن وجاوزه.
وفي هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف، فيما زعم الواقدى.
ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهر
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك- وكان الملك يومئذ اسمه السبل- في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر في عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه.
على الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله قال:
فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين
(6/325)
بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعه اخوه قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: أن الأسد تقل أولادها.
والخنازير كثير أولادها ووجه المهلب ابنه حبيبا إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفا، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب.
قال: فمكث المهلب سنتين مقيما بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين.
قال: وخرج رجل من العدو يوما، فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي، أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عدلوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قوما من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم، وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم فقال المهلب:
خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم.
وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري ثم صالح المهلب أهل كس على فدية، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج
. تسيير الجنود الى مع ابن الاشعث لحرب رتبيل
وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك، وقد اختلف أهل السير في سبب
(6/326)
توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل، فأما يونس بن أبي إسحاق- فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه- فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل، وما لقوا بها كتب إليه:
أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم.
وأما ما أردت أن يأتيك فيه رأيي من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذى اصيب فيه المسلمون او كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشدا موفقا.
وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله.
قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي، عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالسا حين دخل عليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثا هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج.
فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له، فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء.
ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملا، وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال
(6/327)
عباد: ما رأيت فرسا أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغله علنداه، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج، يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا.
فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمى فعسكر بالاهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له:
لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطانا فقال الحجاج: ليس هناك، هو لي أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي، فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان سنة ثمانين، فجمع أهلها حين قدمها.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي- رجل من همدان كان معه- أنه صعد منبرها فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس فعسكر الناس كلهم في معسكرهم ووضعت لهم الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارها، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه.
ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود إليه حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقا رستاقا، وحصنا حصنا، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا، وبعث معه أعوانا، ووضع
(6/328)
البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضا عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.
ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم.
وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج ابن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه.
ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشا أنفق عليهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وامره بالاقدام على رتبيل.
[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ محمد بن عمر الواقدي.
وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة سُلَيْمَان بْن عبد الملك.
وكان على المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله
(6/329)
الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس.
وأغزى عبد الملك في هذه السنة ابنه الوليد
(6/330)
ثم دخلت
سنة إحدى وثمانين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة كان فتح قاليقلا، حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي ابن مُحَمَّد، قال: أغزى عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بن عبد الملك، ففتح قاليقلا.
ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان
وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان.
ذكر الخبر عن مقتله:
وكان سبب قتله أن بحيرا كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر:
لعمري لقد أغضيت عينا على القذى ... وبت بطينا من رحيق مروق
وخليت ثأرا طل واخترت نومة ... ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق
فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ... تركت بحيرا في دم مترقرق
فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا ... بعوف فعوف أهل شاة حبلق
دع الضأن يوما قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثا بين غرب ومشرق
وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ... صحيحا لغاداهم بجأواء فيلق
وقال أيضا:
فلو كان بكر بارزا في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير
(6/331)
ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير
وبلغ بحيرا أن الأبناء يتوعدونه، فقال:
توعدني الأبناء جهلا كأنما ... يرون فنائي مقفرا من بني كعب
رفعت له كفي بحد مهند ... حسام كلون الملح ذي رونق عضب
فذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفا، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حمارا، ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير هناك ولاطفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثا قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيرا عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابا يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز قال: فلقي قوما من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجرا، فعمل له خنجرا واحماه وغمسه لبن أتان مرارا ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بآخرون يومئذ، فلقي بحيرا بالكتاب، وقال:
إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة.
قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهرا أو نحوا من شهر يحضر
(6/332)
معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحدا، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يوما وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه بكلمة، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى:
يا لثأرات بكير، انا ثائر ببكير! فقال الناس: خارجي! فنادى:
يا لثأرات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤسا لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكنني ما صنعت خاليا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرا، فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت صبرا من هذا، وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبحير، فقال له أنس بن طلق ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشتمه أنس.
وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل ان يموت، فقال له انس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيرا، فاستحى هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير:
لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، غزوة أصيب فيها بحير، فغضب عوف بن كعب والأنباء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواء ببكير
(6/333)
فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
لله در فتى تجاوز همه ... دون العراق مفاوزا وبحورا
ما زال يدأب نفسه ويكدها ... حتى تناول في خرون بحيرا
قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فاخذ لصعصعة ديتين.
ذكر الخبر عن خلاف ابن الاشعث على الحجاج
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق، وأقبلوا إليه لحربه في قول أبي مخنف وروايته لذلك عن أبي المخارق الراسبي، وأما الواقدي فإنه زعم أن ذلك كان في سنة اثنتين وثمانين.
ذكر الخبر عن السبب الذي دعا عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى ما فعل من ذلك وما كان من صنيعه بعد خلافه الحجاج في هذه السنة:
قد ذكرنا فيما مضى قبل ما كان من عبد الرحمن بن مُحَمَّد في بلاد رتبيل، وكتابه إلى الحجاج بما كان منه هناك، وبما عرض عليه من الرأي فيما يستقبل من أيامه في سنة ثمانين، ونذكر الآن مَا كَانَ من أمره فِي سنة إحدى وثمانين في رواية أبي مخنف، عن أبي المخارق.
ذكر هشام عن أبي مخنف قال: قال أبو المخارق الراسبي: كتب الحجاج إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد جواب كتابه:
أما بعد، فإن كتابك أتاني، وفهمت ما ذكرت فيه، وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدوا قليلا ذليلا، قد أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا، وغناؤهم في الاسلام عظيما.
لعمرك يا بن أم عبد الرحمن، إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي
(6/334)
لسخي النفس عمن أصيب من المسلمين إني لم أعدد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأي مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك، والتياث رأيك، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم.
ثم أردفه كتابا فيه أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم.
ثم أردفه كتابا آخر فيه:
أما بعد، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، وإلا فإن إسحاق ابن مُحَمَّد أخاك أمير الناس، فخله وما وليته.
فقال حين قرأ كتابه: أنا أحمل ثقل إسحاق، فعرض له، فقال:
لا تفعل، فقال: ورب هذا- يعني المصحف- لئن ذكرته لأحد لأقتلنك فظن أنه يريد السيف، فوضع يده على قائم السيف، ثم دعا الناس إليه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب، ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولي التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج، فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني، ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبي إذا أبيتم فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع.
قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني أن أباه كان أول متكلم يومئذ، وكان شاعرا خطيبا، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عَلَيْهِ:
أما بعد، فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال
(6/335)
لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذي لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع فنادى الناس من كل جانب، فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله، وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيا- وكان على شرطته حين أقبل- فقال: عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال:
تبايعوني على خلع الحجاج عدو الله وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق، فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء.
قال أبو مخنف: حدثني عمر بن ذر القاص أن أباه كان معه هنالك، وأن ابن مُحَمَّد كان ضربه وحبسه لانقطاعه كان إلى أخيه القاسم بن مُحَمَّد، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف دعاه فحمله وكساه واوطاه، فأقبل معه فيمن أقبل، وكان قاصا خطيبا.
قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي أن ابن مُحَمَّد لما أقبل من سجستان أمر على بست عياض ابن هميان البكري، من بني سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي ثم الدارمي، ثم بعث إلى رتبيل، فصالحه على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي، وإن هزم فأراده ألجأه عنده
(6/336)
قال أبو مخنف: حدثني خشينة بن الوليد العبسي أن عبد الرحمن لما خرج من سجستان مقبلا إلى العراق سار بين يديه الأعشى على فرس، وهو يقول:
شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان
من عاشق أمسى بزابلستان ... إن ثقيفا منهمُ الكذابان
كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان
يوما إلى الليل يسلى ما كان ... إنا سمونا للكفور الفتان
حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن
سار بجمع كالدبى من قحطان ... ومن معد قد أتى ابن عدنان
بجحفل جم شديد الإرنان ... فقل لحجاج ولي الشيطان
يثبت لجمع مذحج وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيفان
وملحقوه بقرى ابن مروان
قال: وبعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وبعث الحجاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلا هزمها، فقال الحجاج: من هذا؟ فقيل له:
عطية، فذلك قول الأعشى:
فإذا جعلت دروب فارس ... خلفهم دربا فدربا
فابعث عطية في الخيول ... يكبهن عليك كبا
ثم إن عبد الرحمن أقبل يسير بالناس، فسأل عن أبي إسحاق السبيعي، وكان قد كتبه في أصحابه، وكان يقول: أنت خالي، فقيل له: ألا تأتيه فقد سأل عنك! فكره أن يأتيه، ثم أقبل حتى مر بكرمان فبعث عليهم خرشه ابن عمرو التميمي، ونزل أبو إسحاق بها، فلم يدخل في فتنته حتى كانت
(6/337)
الجماجم، ولما دخل الناس فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا:
إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس.
قال أبو مخنف فيما حدثني أبو الصلت التيمي: خلع عبد الملك بن مروان تيحان بن أبجر من بني تيم الله بن ثعلبة، فقام فقال: أيها الناس، إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي، فخلعه الناس إلا قليلا منهم، ووثبوا إلى ابن مُحَمَّد فبايعوه، وكانت بيعته: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره خبر عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، ويسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه، وبعث كتابه إلى عبد الملك يتمثل في آخره بهذه الأبيات، وهي للحارث بن وعلة:
سائل مجاور جرم هل جنيت لهم ... حربا تفرق بين الجيرة الخلط
وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط
وهل تركت نساء الحي ضاحية ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط
وجاء حتى نزل البصرة وقد كان بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن وهو بسجستان، فكتب إليه:
أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا بن مُحَمَّد في غرز طويل الغي على أمة محمد ص الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم والسلام عليك
(6/338)
وكتب المهلب إلى الحجاج:
أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويشموا أولادهم، ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله فلما قرأ كتابه قال: فعل الله.
به وفعل، لا والله ما لي نظر ولكن لابن عمه نصح لما وقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته قال: فخرج إلى الناس فقام فيهم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك.
ثم نزل.
وأقام الحجاج بالبصرة وتجهز ليلقى ابن مُحَمَّد، وترك رأي المهلب وفرسان الشام يسقطون إلى الحجاج، في كل يوم مائة وخمسون وعشرة وأقل على البرد من قبل عبد الملك، وهو في كل يوم تسقط إلى عبد الملك كتبه ورسله بخبر ابن مُحَمَّد أي كورة نزل، ومن اى كوره يرتحل، وأي الناس إليه أسرع.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج أن مكتبه كان بكرمان، وكان بها أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأهل البصرة، فلما مر بهم ابن مُحَمَّد بن الأشعث، انجفلوا معه، وعزم الحجاج رأيه على استقبال ابن الأشعث، فسار بأهل الشام حتى نزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حر العكي- أو الجذامي- وعبد الله بن رميثة الطائي، ومطهر على الفريقين، فجاءوا حتى انتهوا إلى دجيل، وقد قطع عبد الرحمن بن مُحَمَّد خيلا له،
(6/339)
عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلاثمائة فارس- وكانت مسلحة له وللجند- فلما انتهى إليه مطهر بن حر أمر عبد الله بن رميثة الطائي فأقدم عليهم، فهزمت خيل عبد الله حتى انتهت إليه، وجرح أصحابه.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في أصحاب ابن مُحَمَّد إذ دعا الناس وجمعهم إليه ثم قال: اعبروا إليه من هذا المكان، فأقحم الناس خيولهم دجيل من ذلك المكان الذي أمرهم به، فو الله ما كان بأسرع من أن عبر عظم خيولنا، فما تكاملت حتى حملنا على مطهر بن حر والطائي فهزمناهما يوم الأضحى في سنة إحدى وثمانين وقتلناهم قتلا ذريعا، وأصبنا عسكرهم، وأتت الحجاج الهزيمة وهو يخطب، فصعد إليه أبو كعب بن عبيد بن سرجس فاخبره بهزيمه الناس، فقال:
أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر ومقاتل وطعام ومادة، فإن هذا المكان الذي نحن به لا يحمل الجند ثم انصرف راجعا وتبعته خيول أهل العراق، فكلما أدركوا منهم شاذا قتلوه، وأصابوا ثقلا حووه، ومضى الحجاج لا يلوي على شيء حتى نزل الزاوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلا فأخذه فحمله إليه، وخلى البصرة لأهل العراق وكان عامله عليها الحكم ابن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة وقد كان الحجاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعا دعا بكتاب المهلب، فقرأه ثم قال: لله أبوه! أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي، ولكنا لم نقبل.
وقال غير أبي مخنف: كان عامل البصرة يومئذ الحكم بن أيوب على الصلاة والصدقة، وعبد الله بن عامر بن مسمع على الشرط، فسار الحجاج في جيشه حتى نزل رستقباذ وهي من دستوى من كور الأهواز، فعسكر بها، وأقبل ابن الأشعث فنزل تستر، وبينهما نهر، فوجه الحجاج مطهر ابن حر العكي في ألفي رجل، فأوقعوا بمسلحة لابن الأشعث، وسار ابن
(6/340)
الأشعث مبادرا، فواقعهم، وهي عشية عرفة من سنة إحدى، وثمانين فيقال: إنهم قتلوا من اهل الشام ألفا وخمسمائة، وجاءه الباقون منهزمين، ومعه يومئذ مائة وخمسون ألف ألف، ففرقها في قواده، وضمنهم إياها، وأقبل منهزما إلى البصرة وخطب ابن الأشعث أصحابه فقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، وبلغ أهل البصرة هزيمة الحجاج، فأراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر دونه، فرشاه الحكم ابن أيوب مائة ألف، فكف عنه ودخل الحجاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر فانتزع المائة الألف منه.
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عَنْ أبي الزبير الهمداني.
فلما دخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد البصرة بايعه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من قرائها وكهولها، وكان رجل من الأزد من الجهاضم يقال له عقبة بن عبد الغافر له صحابة، فنزا فبايع عبد الرحمن مستبصرا في قتال الحجاج، وخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن على البصرة وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة من سنة إحدى وثمانين.
وحج بالناس في هذه السنة سُلَيْمَان بْن عبد الملك، كذا حدثنى احمد ابن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قال الواقدي، وقال: وفي هذه السنة ولد ابن أبي ذئب.
وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن مهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة
(6/341)
ثم دخلت
سنة اثنتين وثمانين
(ذكر الخبر عن الكائن من الاحداث فيها)
خبر الحرب بين الحجاج وابن الاشعث بالزاوية
فمن ذلك ما كان بين الحجاج وعبد الرحمن بن مُحَمَّد من الحروب بالزاوية.
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني قال: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج، وحتى قاتلوهم على خنادقهم، وانهزمت عامة قريش، وثقيف، حتى قال عبيد بن موهب مولى الحجاج وكاتبه:
فر البراء وابن عمه مصعب ... وفرت قريش غير آل سعيد
ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام، فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوض صفهم، حتى دنوا منا، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه، وانتضى نحوا من شبر من سيفه، وقال: لله در مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل! فعلمت أنه والله لا يريد أن يفر قال: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي، فغمزني غمزة شديدة، فسكنت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد الكلبي قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: أبشر أيها الأمير، فإن الله قد هزم العدو فقال لي: قم فانظر، قال: فقمت فنظرت، فقلت: قد هزمهم الله، قال: قم يا زياد فانظر، قال: فقام فنظر فقال: الحق أصلحك الله يقينا قد هزموا، فخر ساجدا، فلما رجعت شتمني أبي وقال: أردت أن تهلكني وأهل بيتي
(6/342)
وقتل في المعركة عبد الرحمن بن عوسجة ابو سفيان النهمي، وقتل عقبه ابن عبد الغافر الأزدي ثم الجهضمي، في أولئك القراء في ربضة واحدة، وقتل عبد الله بن رزام الحارثي، وقتل المنذر بن الجارود، وقتل عبد الله ابن عامر بن مسمع، وأتي الحجاج برأسه، فقال: ما كنت أرى هذا فارقني حتى جاءني الآن برأسه، وبارز سعيد بن يحيى بن سعيد بن العاص رجلا يومئذ فقتله، وزعموا أنه كان مولى للفضل بن عباس بن ربيعه بن الحارث ابن عبد المطلب، كان شجاعا يدعى نصيرا، فلما رأى مشيته بين الصفين، وكان يلومه على مشيته قال: لا ألومه على هذه المشية ابدا.
وقتل الطفيل بن عامر بن واثله، وقد كان قال وهو بفارس يقبل مع عبد الرحمن من كرمان إلى الحجاج:
ألا طرقتنا بالغريين بعد ما ... كللنا على شحط المزار جنوب
أتوك يقودون المنايا وإنما ... هدتها بأولانا إليك ذنوب
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار القرار نصيب
ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله ... عذاب بأيدي المؤمنين مصيب
متى نهبط المصرين يهرب مُحَمَّد ... وليس بمنجي ابن اللعين هروب
قال: منيتنا أمرا كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة.
ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب اهل البصره الى عبد الرحمن ابن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة- وكان جريحا- إلى سفوان فمات من جراحته،
(6/343)
وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت:
وحامى زياد على رايتيه ... وفر جدي بني العنبر
فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمنا بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال:
علام تلومين من لم يلم ... تطاول ليلك من معصر!
فإن كان أردى أباك السنان ... فقد تلحق الخيل بالمدبر
وقد تنطح الخيل تحت العجاج ... غير البري ولا المعذر
ونحن منعنا لواء الحريش ... وطاح لواء بني جحدر
فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا:
1068 خلى طفيل علي الهم فانشعبا وهد ذلك ركني هدة عجبا وابني سمية لا أنساهما أبدا فيمن نسيت وكل كان لي نصبا وأخطأتني المنايا لا تطالعني حتى كبرت ولم يتركن لي نشبا وكنت بعد طفيل كالذي نضبت عنه المياه وفاض الماء فانقضبا فلا بعير له في الأرض يركبه وإن سعى إثر من قد فاته لغبا وسار من أرض خاقان التي غلبت أبناء فارس في أربائها غلبا ومن سجستان أسباب تزينها لك المنية حينا كان مجتلبا حتى وردت حياض الموت فانكشفت عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا وغادروك صريعا رهن معركة ترى النسور على القتلى بها عصبا
(6/344)
تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا وأسلموا للعدو السبي والسلبا يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهمُ وهم كثير يرون الخزي والحربا قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقام بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصره أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامر الحضرمى، حليف حرب ابن أمية على الكوفة.
قال أبو مخنف- كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: أنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام.
قال أبو مخنف: فحدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني أنهم كانوا ألفين، وكان حنظلة بن الوراد من بني رياح بن يربوع التميمي وابن عتاب ابن ورقاء على المدائن، وكان مطر بن ناجية من بني يربوع على المعونة، فلما بلغه ما كان من أمر ابن الأشعث أقبل حتى دنا من الكوفة، فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر بن ناجية بابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام فحاصرهم، فصالحوه على أن يخرجوا ويخلوه والقصر، فصالحهم.
قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فالقى جحلفته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها وأقبل ابن الأشعث منهزما إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها.
(6/345)
وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين.
ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها:
ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعد ما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق- فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى- فافعل فعدلت ودخل الناس، فلما دخل الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند دار عمرو بن حريث الا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتي به عبد الرحمن بن مُحَمَّد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك واعظمهم عنك غناء، فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من اهل البصره عبد الرحمن ابن العباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثا، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدي الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثا وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين
(6/346)
فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم! واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعا على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم وجاءت الحجاج أيضا أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا فنزل فكان في عسكره مخندقا وابن مُحَمَّد في عسكره مخندقا، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدني خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضا، وأدنى خندقه من صاحبه واشتد القتال بينهم فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماءهم فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه مُحَمَّد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعا جميعا عنده، كلاهما في جنديهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجرى على أهل الشام، وأن ينزل ابن مُحَمَّد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه واليا ما دام حيا، وكان عبد الملك واليا، فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان مُحَمَّد بن مروان
(6/347)
أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولي القتال، ومُحَمَّد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك:
يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح خار الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك.
فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال:
يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا وقال مُحَمَّد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال قالوا:
نرجع العشية، فرجعوا فاجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، فقد أعطيتم أمرا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدا حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم 2 1075 جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدا ما بقيتم.
فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في
(6/348)
الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل.
فأعادوا خلعه ثانيه وكان عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيحان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس.
فرجع مُحَمَّد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا:
شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع، فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة، وقد زعم أبو يزيد السكسكي أنه إنما كان أيضا يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها.
قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي مُحَمَّد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن مُحَمَّد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعني فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس- ومد بها صوته يسمع الناس- وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمى، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بْن عباس بْن ربيعة بْن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي،
(6/349)
وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبى، وسعيد ابن جبيرع وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون، وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفه ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، قد غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلا ركينا وقورا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن مُحَمَّد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم.
قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات، كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئا
. ذكر الخبر عن وفاه المغيره بن المهلب
وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان.
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: كان المغيرة بن المهلب خليفة أبيه بمرو على عمله كله، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد، وعلمه أهل العسكر فلم يخبروا المهلب، وأحب يزيد أن يبلغه، فأمر النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة،
(6/350)
فاسترجع، وجزع حتى ظهر جزعه عليه، فلامه بعض خاصته، فدعا يزيد فوجهه إلى مرو، فجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيدا، وكان المهلب يوم مات المغيره مقيما بكس وراء النهر لحرب أهلها قال: فسار يزيد في ستين فارسا- ويقال: سبعين- فيهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي، وعبد الله بن معمر بن سمير اليشكري، ودينار السجستاني، والهيثم بن المنخل الجرموزي، وغزوان الإسكاف صاحب زم- وكان أسلم على يد المهلب- وأبو مُحَمَّد الزمى، وعطية- مولى لعتيك- فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة نسف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار، قالوا: فأين الأثقال؟ قالوا: قدمناها، قالوا: فأعطونا شيئا، فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة ثوبا وكرابيس وقوسا، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنت أعلم بهم فقاتلوهم، فاشتد القتال بينهم، ويزيد، على فرس قريب من الأرض، ومعه رجل من الخوارج كان يزيد أخذه، فقال: استبقني، فمن عليه، فقال له: ما عندك؟ فحمل عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقد قتل رجلا، ثم كر فخالطهم حتى تقدمهم وقتل رجلا ثم رجع إلى يزيد وقتل يزيد عظيما من عظمائهم ورمي يزيد في ساقه، واشتدت شوكتهم، وهرب أبو مُحَمَّد الزمي، وصبر لهم يزيد حتى حاجزوهم، وقالوا: قد غدرنا، ولكن لا ننصرف حتى نموت جميعا أو تموتوا أو تعطونا شيئا، فحلف يزيد لا يعطيهم شيئا، فقال مجاعة: أذكرك الله، قد هلك المغيرة، وقد رأيت ما دخل على المهلب من مصابه، فأنشدك الله أن تصاب اليوم! قال: إن المغيرة لم يعد أجله، ولست أعدو أجلي فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا، وجاء أبو مُحَمَّد الزمي بفوارس وطعام، فقال له يزيد: أسلمتنا يا أبا مُحَمَّد، فقال: إنما ذهبت لأجيئكم بمدد وطعام، فقال الراجز:
(6/351)
يزيد يا سيف أبي سعيد ... قد علم الأقوام والجنود
والجمع يوم المجمع المشهود ... أنك يوم الترك صلب العود
وقال الأشقري:
والترك تعلم إذ لاقى جموعهمُ ... أن قد لقوه شهابا يفرج الظلما
بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ... غير التأسي وغير الصبر معتصما
نرى شرائج تغشى القوم من علق ... وما أرى نبوة منهم ولا كزما
وتحتهم قرح يركبن ما ركبوا ... من الكريهة حتى ينتلعن دما
في حازة الموت حتى جن ليلهمُ ... كلا الفريقين ما ولى ولا انهزما
وفي هذه السنه صالح المهلب اهل كس على فدية، ورحل عنها يريد مرو
. ذكر الخبر عن سبب انصراف المهلب عن كس
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن المهلب اتهم قوما من مضر فحبسهم وقفل من كس وخلفهم، وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة، وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن وقطع النهر فلما صار ببلخ أقام بها وكتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخلي الرهن حتى تقدم ارض بلخ فقال حريث لملك كس: إن المهلب كتب إلي أن أحبس الرهن حتى أقدم أرض بلخ، فإن عجلت لي ما عليك سلمت إليك رهائنك، وسرت فأخبرته أن كتابه ورد، وقد استوفيت ما عليكم، ورددت عليكم الرهن، فعجل لهم صلحهم، ورد عليهم من كان في أيديهم منهم وأقبل فعرض لهم الترك، فقالوا: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا
(6/352)
يزيد بن المهلب ففدى نفسه فقال حريث: ولدتني إذا أم يزيد! وقاتلهم فقتلهم، وأسر منهم أسرى ففدوهم، فمن عليهم وخلاهم، ورد عليهم الفداء، وبلغ المهلب قوله: ولدتني أم يزيد إذا، فقال: يأنف العبد أن تلده رحمه! وغضب.
فلما قدم عليه بلخ قال له: أين الرهن؟ قال: قبضت ما عليهم وخليتهم، قال: الم اكتب إليك الا تخليهم! قال: أتاني كتابك وقد خليتهم، وقد كفيت ما خفت، قال: كذبت، ولكنك تقربت إليهم وإلى ملكهم فأطلعته على كتابي إليك وأمر بتجريده، فجزع من التجريد حتى ظن المهلب أن به برصا، فجرده وضربه ثلاثين سوطا فقال حريث: وددت انه ضربني ثلاثمائه سوط ولم يجردني، أنفا واستحياء من التجريد، وحلف ليقتلن المهلب.
فركب المهلب يوما وركب حريث، فأمر غلامين له وهو يسير خلف المهلب أن يضرباه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، ولم يجترئ الآخر لما صار وحده أن يقدم عليه، فلما رجع قال لغلامه: ما منعك منه؟ قال:
الاشفاق والله عليك، والله ما جزعت على نفسي، وعلمت أنا إن قتلناه أنك ستقتل ونقتل، ولكن كان نظري لك، ولو كنت أعلم أنك تسلم من القتل لقتلته.
قال: فترك حريث إتيان المهلب، وأظهر أنه وجع، وبلغ المهلب أنه تمارض وأنه يريد الفتك به، فقال المهلب لثابت بن قطبة: جئني بأخيك، فإنما هو كبعض ولدي عندي، وما كان ما كان مني إليه إلا نظرا له وأدبا، ولربما ضربت بعض ولدي أؤدبه فأتى ثابت أخاه فناشده، وسأله أن يركب إلى المهلب، فأبى وخافه وقال: والله لا أجيئه بعد ما صنع بي ما صنع، ولا آمنه ولا يأمنني فلما رأى ذلك أخوه ثابت قال له: أما إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، وخاف ثابت أن يفتك حريث بالمهلب فيقتلون جميعا، فخرجا في ثلاثمائة من شاكريتهما والمنقطعين إليهما من العرب
(6/353)
خبر وفاه المهلب بن ابى صفره
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي المهلب بن أبي صفرة.
ذكر الخبر عن سبب موته ومكان وفاته:
قال علي بن مُحَمَّد: حدثني المفضل، قال: مضى المهلب منصرفه من كس يريد مرو، فلما كان بزاغول من مرو الروذ أصابته الشوصة- وقوم يقولون: الشوكة- فدعا حبيبا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فان صله الرحم تنسئ في الأجل، وتشرى المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة، فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا، وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم، إن بني الأم يختلفون، فكيف ببني العلات! وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن، وأدب الصالحين، وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه
(6/354)
ومات المهلب وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب، ثم سار إلى مرو.
وكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج.
ويقال: إنه قال عند موته ووصيته: لو كان الأمر إلي لوليت سيد ولدي حبيبا قال: وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين، فقال نهار بن توسعة التميمي:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقاما بمرو الروذ رهنى ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب
إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ... على الناس؟ قلناه ولم نتهيب
أباح لنا سهل البلاد وحزنها ... بخيل كأرسال القطا المتسرب
يعرضها للطعن حتى كأنما ... يجللها بالأرجوان المخضب
تطيف به قحطان قد عصبت به ... وأحلافها من حي بكر وتغلب
وحيا معد عوذ بلوائه ... يفدونه بالنفس الام والأب
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة ولى الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب خراسان بعد موت المهلب.
وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة، قال الواقدي: عزله عنها لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة.
قال: وفيها ولى عبد الملك هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة وعزل هشام بن إسماعيل عن قضاء المدينة لما وليها نوفل بن مساحق العامري، وكان يحيى بن الحكم هو الذي استقضاه على المدينة، فلما عزل يحيى ووليها ابان ابن عثمان أقره على قضائها، وكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاث عشرة ليلة، فلما عزل هشام بن إسماعيل نوفل بن مساحق عن القضاء ولى مكانه عمرو بن خالد الزرقي
(6/355)
وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكان على الكوفة والبصرة والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج.
(6/356)
ثم دخلت
سنة ثلاث وثمانين
(ذكر الأحداث التي كانت فيها)
خبر هزيمه ابن الاشعث بدير الجماجم
فمما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث بدير الجماجم.
ذكر الخبر عن سبب انهزامه:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في خيل جبله بن زحل، فلما حمل عليه أهل الشام مرة بعد مرة، نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم، إني سمعت عليا- رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصديقين- يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانا يعمل به، ومنكرا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم.
فو الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم وقال الشعبي: يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم،
(6/357)
فو الله ما أعلم قوما على بسيط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار.
وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة.
قال أبو مخنف، قال أبو الزبير: فتهيأنا للحملة عليهم، فقال لنا جبلة: إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم قال: فحملنا عليهم حملة بجد منا في قتالهم، وقوة منا عليهم، فضربنا الكتائب الثلاث حتى اشتفرت، ثم مضينا حتى واقعنا صفهم فضربناهم حتى أزلناهم عنه، ثم انصرفنا فمررنا بجبلة صريعا لا ندري كيف قتل.
قال: فهدنا ذلك وجبنا فوقفنا موقفنا الذي كنا به، وإن قراءنا لمتوافرون، ونحن نتناعى جبلة بن زحر بيننا، كأنما فقد به كل واحد منا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشد علينا فقدا فقال لنا أبو البختري الطائي: لا يستبينن فيكم قتل جبلة بن زحر، فإنما كان كرجل منكم أتته منيته ليومها، فلم يكن ليتقدم يومه ولا ليتأخر عنه، وكلكم ذائق ما ذاق، ومدعو فمجيب قال: فنظرت إلى وجوه القراء فإذا الكآبة على وجوههم بينة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل فيهم قد ظهر، وإذا أهل الشام قد سروا وجذلوا، فنادوا: يا أعداء الله، قد هلكتم، وقد قتل الله طاغوتكم.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي أن جبلة حين حمل هو وأصحابه علينا انكشفنا، وتبعونا، وافترقت منا فرقة فكانت ناحية، فنظرنا فإذا أصحابه يتبعون أصحابنا، وقد وقف لأصحابه ليرجعوا إليه على
(6/358)
رأس رهوة، فقال بعضنا، هذا والله جبلة بن زحر، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال عنه لعلكم تصيبونه قال: فحملنا عليه، فأشهد ما ولى، ولكن حمل علينا بالسيف فلما هبط من الرهوة شجرناه بالرماح فأذريناه عن فرسه فوقع قتيلا، ورجع أصحابه، فلما رأيناهم مقبلين تنحينا عنهم، فلما رأوه قتيلا رأينا من استرجاعهم وجزعهم ما قرت به أعيننا، قال: فتبينا ذلك في قتالهم إيانا وخروجهم إلينا.
قال أبو مخنف: حدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني، قال: لما أصيب جبلة هد الناس مقتله، حتى قدم علينا بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجع الناس مقدمه، وقالوا: هذا يقوم مقام جبلة، فسمع هذا القول من بعضهم أبو البختري، فقال: قبحتم! إن قتل منكم رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن ابن مصقلة ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، وقلتم: لم يبق أحد يقاتل معه! ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم! وكان مقدم بسطام من الري، فالتقى هو وقتيبة في الطريق، فدعاه قتيبة إلى الحجاج وأهل الشام، ودعاه بسطام إلى عبد الرحمن وأهل العراق، فكلاهما أبى على صاحبه، وقال بسطام: لأن أموت مع أهل العراق أحب إلي من أن أعيش مع أهل الشام، وكان قد نزل ماسبذان، فلما قدم قال لابن مُحَمَّد: أمرني على خيل ربيعة، ففعل، فقال لهم:
يا معشر ربيعة، إن في شرسفة عند الحرب فاحتملوها لي- وكان شجاعا- فخرج الناس ذات يوم ليقتتلوا، فحمل في خيل ربيعة حتى دخل عسكرهم، فأصابوا فيهم نحوا من ثلاثين امرأة من بين أمة وسرية، فأقبل بهن حتى إذا دنا من عسكره ردهن، فجئن ودخلن عسكر الحجاج، فقال: أولى لهم! منع القوم نساءهم، أما لو لم يردوهن لسبيت نساؤهم غدا إذا ظهرت ثم اقتتلوا يوما آخر بعد ذلك، فحمل عبد الله بن مليل الهمداني في خيل له حتى دخل
(6/359)
عسكرهم فسبا ثماني عشرة امرأة، وكان معه طارق بن عبد الله الأسدي- وكان راميا- فخرج شيخ من أهل الشام من فسطاطه، فأخذ الأسدي يقول لبعض أصحابه: استر مني هذا الشيخ لعلني أرميه أو أحمل عليه فأطعنه، فإذا الشيخ يقول رافعا صوته: اللهم لمنا وإياهم بعافية، فقال الأسدي: ما أحب أن أقتل مثل هذا، فتركه، وأقبل ابن مليل بالنساء غير بعيد، ثم خلى سبيلهن أيضا، فقال الحجاج مثل مقالته الأولى.
قال هشام: قال أبي: أقبل الوليد بن نحيت الكلبي من بني عامر في كتيبة إلى جبلة بن زحر، فانحط عليه الوليد من رابية- وكان جسيما، وكان جبلة رجلا ربعة- فالتقيا- فضربه على رأسه فسقط، وانهزم أصحابه وجيء برأسه قال هشام: فحدثني بهذا الحديث أبو مخنف وعوانة الكلبي، قال:
لما جيء برأس جبلة بن زحر إلى الحجاج حمله على رمحين ثم قال: يا أهل الشام، أبشروا، هذا أول الفتح، لا والله ما كانت فتنة قط فخبت حتى يقتل فيها عظيم من عظماء أهل اليمن، وهذا من عظمائهم ثم خرجوا ذات يوم فخرج رجل من أهل الشام يدعو إِلَى المبارزة، فخرج اليه الحجاج ابن جارية، فحمل عليه، فطعنه فأذراه، وحمل أصحابه فاستنقذوه، فإذا هو رجل من خثعم يقال له أبو الدرداء، فقال الحجاج بن جارية:
أما إني لم أعرفه حتى وقع، ولو عرفته ما بارزته، ما أحب أن يصاب من قومي مثله وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه ابن عم له من أهل الشام، فاضطربا بسيفيهما، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي، فقال كل واحد منهما لصاحبه:
من أنت؟ فلما تساءلا تحاجزا وخرج عبد الله بن رزام الحارثي إلى كتيبة الحجاج، فقال: أخرجوا إلي رجلا رجلا، فأخرج إليه رجل، فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام، يقتل كل يوم رجلا، حتى إذا كان اليوم الرابع
(6/360)
أقبل، فقالوا: قد جاء لا جاء الله به! فدعا إلى المبارزة، فقال الحجاج للجراح: اخرج إليه، فخرج إليه، فقال له عبد الله بن رزام- وكان له صديقا: ويحك يا جراح! ما أخرجك إلي! قال: قد ابتليت بك، قال: فهل لك في خير؟ قال: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فإني أحتمل مقالة الناس في انهزامي عنك حبا لسلامتك، فإني لا أحب أن أقتل من قومي مثلك، قال: فافعل، فحمل عليه فأخذ يستطرد له- وكان الحارثي قد قطعت لهاته، وكان يعطش كثيرا، وكان معه غلام له معه إداوة من ماء، فكلما عطش سقاه الغلام- فاطرد له الحارثي، وحمل عليه الجراح حملة بجد لا يريد إلا قتله، فصاح به غلامه: إن الرجل جاد في قتلك! فعطف عليه فضربه بالعمود على رأسه فصرعه، فقال لغلامه: انضح على وجهه من ماء الإداوة، واسقه، ففعل ذلك به، فقال: يا جراح، بئسما ما جزيتني، أردت بك العافية وأردت أن تزيرني المنية! فقال: لم أرد ذلك، فقال: انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة.
قال مُحَمَّد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: قال سعيد الحرشي: أنا في صف القتال يومئذ إذ خرج رجل من أهل العراق، يقال له: قدامة بن الحريش التميمي، فوقف بين الصفين، فقال: يا معشر جرامقة أهل الشام، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن أبيتم فليخرج إلي رجل، فخرج إليه رجل من أهل الشام فقتله، حتى قتل أربعة، فلما رأى ذلك الحجاج أمر مناديا فنادى: لا يخرج إلى هذا الكلب أحد، قال: فكف الناس قال سعيد الحرشي: فدنوت من الحجاج فقلت: أصلح الله الأمير! إنك رأيت الا يخرج إلى هذا الكلب أحد، وإنما هلك من هلك من هؤلاء النفر بآجالهم، ولهذا الرجل أجل، وأرجو أن يكون قد حضر، فأذن لأصحابي الذين قدموا معي فليخرج إليه رجل منهم، فقال الحجاج: إن هذا الكلب لم يزل هذا له عادة
(6/361)
وقد أرعب الناس، وقد أذنت لأصحابك، فمن أحب أن يقوم فليقم.
فرجع سعيد الحرشي إلى أصحابه فأعلمهم، فلما نادى ذلك الرجل بالبراز برز إليه رجل من أصحاب الحرشي، فقتله قدامة، فشق ذلك على سعيد، وثقل عليه لكلامه الحجاج، ثم نادى قدامة: من يبارز؟ فدنا سعيد من الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير! ائذن لي في الخروج إلى هذا الكلب، فقال:
وعندك ذلك؟ قال سعيد: نعم، أنا كما تحب، فقال الحجاج: أرني سيفك، فأعطاه إياه، فقال الحجاج: معي سيف أثقل من هذا، فأمر له بالسيف، فأعطاه إياه، فقال الحجاج- ونظر إلى سعيد فقال: ما أجود درعك وأقوى فرسك! ولا أدري كيف تكون مع هذا الكلب! قال سعيد:
أرجو أن يظفرني الله به، قال الحجاج: اخرج على بركة الله قال سعيد:
فخرجت إليه، فلما دنوت منه، قال: قف يا عدو الله، فوقفت، فسرني ذلك منه، فقال: اختر إما أن تمكنني فأضربك ثلاثا، وإما أن أمكنك فتضربني ثلاثا، ثم تمكنني قلت: أمكني، فوضع صدره على قربوسه ثم قال: اضرب، فجمعت يدي على سيفي، ثم ضربت على المغفر متمكنا، فلم يصنع شيئا، فساءني ذلك من سيفي ومن ضربتي، ثم أجمع رأيي أن أضربه على أصل العاتق، فإما أن أقطع وإما أن أوهن يده عن ضربته، فضربته فلم أصنع شيئا، فساءني ذلك ومن غاب عني ممن هو في ناحية العسكر حين بلغه ما فعلت، والثالثة كذلك ثم اخترط سيفا ثم قال: أمكني، فأمكنته، فضربني ضربة صرعني منها، ثم نزل عن فرسه وجلس على صدري، وانتزع من خفيه خنجرا أو سكينا فوضعها على حلقي يريد ذبحي، فقلت له: أنشدك الله! فإنك لست مصيبا من قتلي الشرف والذكر مثل ما أنت مصيب من تركي، قال: ومن أنت؟ قلت: سعيد الحرشي، قال: أولى يا عدو الله! فانطلق فأعلم صاحبك ما لقيت.
قال سعيد: فانطلقت أسعى حتى انتهيت إلى الحجاج، فقال: كيف
(6/362)
رأيت! فقلت: الأمير كان أعلم بالأمر.
رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف، عَنْ أبي يزيد، قال: وكان أبو البختري الطائي وسعيد بن جبير يقولان: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» إلى آخر الآية، ثم يحملان حتى يواقعا الصف.
قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم سواء أعدها عدا قال: نزلنا دير الجماجم مع ابن مُحَمَّد غداة الثلاثاء لليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وهزمنا يوم الأربعاء لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة عند امتداد الضحى ومتوع النهار، وما كنا قط أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم.
قال: خرجنا إليهم وخرجوا إلينا يوم الأربعاء، لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة، فقاتلناهم عامة النهار أحسن قتال قاتلناهموه قط، ونحن آمنون من الهزيمة، عالون للقوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من قبل ميمنة أصحابه، حتى دنا من الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن بن محمد، فو الله ما قاتله كبير قتال حتى انهزم، فأنكرها الناس منه، وكان شجاعا، ولم يكن الفرار له بعاده، فظن الناس انه قد كان أومن، وصولح على ان ينهزم بالناس، فلما فعلها تقوضت الصفوف من نحوه، وركب الناس وجوههم وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن بن مُحَمَّد المنبر، فأخذ ينادي الناس:
عباد الله، إلي أنا ابن مُحَمَّد، فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره، وجاء عبد الله بن ذؤاب السلمي في خيل له، فوقف منه قريبا، وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبلهم تحوزه، فقال: يا بن رزام، احمل على هذه الرجال والخيل، فحمل عليهم حتى أمعنوا ثم جاءت
(6/363)
خيل لهم أخرى ورجالة، فقال: احمل عليهم يا بن ذؤاب، فحمل عليهم حتى أمعنوا، وثبت لا يبرح منبره، ودخل أهل الشام العسكر، فكبروا، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدي- وكانت مليكه ابنة أخيه امرأة عبد الرحمن- فقال: انزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعا يهلكهم الله به بعد اليوم فنزل وخلى أهل العراق العسكر، وانهزموا لا يلوون على شيء، ومضى عبد الرحمن بن مُحَمَّد مع ابن جعدة بن هبيرة ومعه أناس من أهل بيته، حتى إذا حاذوا قرية بني جعدة بالفلوجة دعوا بمعبر، فعبروا فيه، فانتهى إليهم بسطام بن مصقلة، فقال: هل في السفينة عبد الرحمن بن مُحَمَّد؟ فلم يكلموه، وظن أنه فيهم، فقال:
لا وألت نفس عليها تحاذر.
ضرم قيس علي البلاد ... حتى إذا اضطرمت أجذما
ثم جاء حتى انتهى إلى بيته وعليه السلاح، وهو على فرسه لم ينزل عنه، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج إليه أهله يبكون، فأوصاهم بوصية وقال:
لا تبكوا، أرأيتم إن لم أترككم، كم عسيت أن أبقى معكم حتى أموت! وإن أنا مت فإن الذي رزقكم الآن حي لا يموت، وسيرزقكم بعد وفاتي كما رزقكم في حياتي، ثم ودع أهله وخرج من الكوفة.
قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي مُحَمَّد بن السائب، أنهم لما هزموا ارتفاع النهار حين امتد ومتع، قال: جئت أشتد ومعي الرمح والسيف والترس حتى بلغت أهلي من يومي، ما ألقيت شيئا من سلاحي، فقال الحجاج:
اتركوهم فليتبددوا ولا تتبعوهم، ونادى المنادي: من رجع فهو آمن ورجع مُحَمَّد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخليا الحجاج والعراق، وجاء الحجاج حتى دخل الكوفه، واجلس مصقله ابن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيبا، فقال: اشتم كل
(6/364)
امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره ولؤم عهده، ومن علمت منه عيبا فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه وكان لا يبايعه أحد إلا قال له:
أتشهد أنك قد كفرت؟ فإذا قال: نعم، بايعه وإلا قتله، فجاء إليه رجل من خثعم قد كان معتزلا للناس جميعا من وراء الفرات، فسأله عن حاله فقال: ما زلت معتزلا وراء هذه النطفة منتظرا أمر الناس حتى ظهرت، فأتيتك لأبايعك مع الناس، قال: أمتربص! أتشهد أنك كافر؟ قال:
بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر، قال: إذا اقتلك، قال: وان قتلتني فو الله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار، وانى لانتظر الموت صباح مساء قال: اضربوا عنقه فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبق حوله قرشي ولا شامي ولا أحد من الحزبين إلا رحمه ورثى له من القتل.
ودعا بكميل بن زياد النخعي فقال له: أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا، فقال: والله ما أدري على أينا أنت أشد غضبا؟ عليه حين أقاد من نفسه، أم علي حين عفوت عنه؟ ثم قال: أيها الرجل من ثقيف، لا تصرف علي أنيابك، ولا تهدم علي تهدم الكثيب، ولا تكثر كشران الذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة، اقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب قال الحجاج: فإن الحجة عليك، قال: ذلك إن كان القضاء إليك، قال: بلى، كنت فيمن قتل عثمان، وخلعت أمير المؤمنين، اقتلوه فقدم فقتل، قتله أبو الجهم بن كنانة الكلبي من بني عامر بن عوف، ابن عم منصور بن جمهور.
وأتي بآخر من بعده، فقال الحجاج: إني أرى رجلا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي عن نفسي! أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله.
وأقام بالكوفة شهرا، وعزل أهل الشام عن بيوت اهل الكوفه.
(6/365)
هزيمه ابن الاشعث واصحابه في وقعه مسكن
وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعد ما انهزم من دير الجماجم.
ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وعن صفتها:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي يزيد السكسكي، قال:
خرج مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شمس القرشي حتى أتى البصرة وبها أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج، فأخذها، وخرج عبد الرحمن بن مُحَمَّد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن ونزل، فأقبل عبيد الله حينئذ إلى ابن مُحَمَّد بن الأشعث، وقال له: إني لم أرد فراقك، وإنما أخذتها لك وخرج الحجاج فبدأ بالمدائن، فأقام عليها خمسا حتى هيأ الرجال في المعابر، فلما بلغ مُحَمَّد بن سعد عبورهم إليهم خرجوا حتى لحقوا بابن الأشعث جميعا وأقبل نحوهم الحجاج، فخرج الناس معه إلى مسكن على دجيل، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبثق الماء من جانب، فجعل القتال من وجه واحد، وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشد القتال حتى قتل زياد بن غنيم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وأصحابه هدا شديدا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جهضم الأَزْدِيّ، قال: بات الحجاج ليله كله يسير فينا يقول لنا: إنكم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، وأنتم تسعون في رضوان الله، وهم يسعون في سخط الله، وعادة الله عندكم فيهم
(6/366)
حسنة، ما صدقتموهم في موطن قط ولا صبرتم لهم إلا أعقبكم الله النصر عليهم والظفر بهم، فأصبحوا اليهم عادين جادين، فانى لست أشك في النصر إن شاء الله قال: فأصبحنا، وقد عبأنا في السحر، فباكرناهم فقاتلناهم أشد قتال قاتلنا هموه قط، وقد جاءنا عبد الملك بن المهلب مجففا، وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد، فقال له الحجاج: ضم إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلي أحمل عليهم، ففعل، وحمل الناس من كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضا، وقتل أبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقالا قبل ان يقتلا: إن الفرار كل ساعة بنا لقبيح فأصيبا قال: ومشى بسطام بن مصقلة الشيباني في أربعة آلاف من أهل الحفاظ من أهل المصرين، فكسروا جفون السيوف، وقال لهم ابن مصقلة:
لو كنا إذا فررنا بأنفسنا من الموت نجونا منه فررنا، ولكنا قد علمنا أنه نازل بنا عما قليل، فأين المحيد عما لا بد منه! يا قوم إنكم محقون، فقاتلوا على الحق، والله لو لم تكونوا على الحق لكان موت في عز خيرا من حياة في ذل فقاتل هو وأصحابه قتالا شديدا كشفوا فيه أهل الشام مرارا، حتى قال الحجاج: علي بالرماة لا يقاتلهم غيرهم، فلما جاءتهم الرماة، وأحاط بهم الناس من كل جانب قتلوا إلا قليلا، وأخذ بكير بن ربيعة بن ثروان الضبي أسيرا، فأتي به الحجاج فقتله قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجهضم، قال: جئت بأسير كان الحجاج يعرفه بالبأس، فقال الحجاج: يا أهل الشام، إنه من صنع الله.
لكم إن هذا غلام من الغلمان جاء بفارس أهل العراق أسيرا، اضرب عنقه، فقتله.
قال: ومضى ابن الأشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه مُحَمَّد بن الحجاج وعمارة أمير
(6/367)
على القوم، فسار عمارة بن تميم إلى عبد الرحمن فأدركه بالسوس، فقاتله ساعة من نهار، ثم إنه انهزم هو وأصحابه فمضوا حتى أتوا سابور، واجتمعت إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد الأكراد مع من كان معه من الفلول، فقاتلهم عمارة بن تميم قتالا شديدا على العقبة حتى جرح عمارة وكثير من أصحابه، ثم انهزم عمارة وأصحابه وخلوا لهم عن العقبة، ومضى عبد الرحمن حتى مر بكرمان.
قال الواقدي: كانت وقعة الزاوية بالبصرة في المحرم سنة ثلاث وثمانين.
قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي، قال: لما دخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد كرمان تلقاه عمرو بن لقيط العبدي- وكان عامله عليها- فهيأ له نزلا فنزل، فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل: والله لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أن قد كنت جبانا، فقال عبد الرحمن: والله ما جبنت، والله لقد دلفت الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت فارسا، وقاتلت راجلا، وما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلا ولا أرى معي مقاتلا، ولكني زاولت ملكا مؤجلا ثم إنه مضى بمن معه حتى فوز في مفازة كرمان قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: لما مضى ابن مُحَمَّد في مفازة كرمان وأتبعه أهل الشام دخل بعض أهل الشام قصرا في المفازة، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر أبي جلدة اليشكري، وهي قصيدة طويلة:
أيا لهفا ويا حزنا جميعا ... ويا حر الفواد لما لقينا!
تركنا الدين والدنيا جميعا ... وأسلمنا الحلائل والبنينا
فما كنا أناسا أهل دين ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
وما كنا أناسا أهل دنيا ... فنمنعها ولو لم نرج دينا
(6/368)
تركنا دورنا لطغام عك ... وأنباط القرى والأشعرينا
ثم إن ابن مُحَمَّد مضى حتى خرج على زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بني تميم قد كان عبد الرحمن استعمله عليها، يقال له عبد الله بن عامر البعار من بني مجاشع بن دارم، فلما قدم عليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها، فأقام عليها عبد الرحمن أياما رجاء افتتاحها ودخولها فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، وقد كان استعمل عليها رَجُلا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي، فاستقبله، وقال له: انزل، فجاء حتى نزل به، وانتظر حتى إذا غفل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه وثب عليه فأوثقه، وأراد أن يأمن بها عند الحجاج، ويتخذ بها عنده مكانا وقد كان رتبيل سمع بمقدم عبد الرحمن عليه، فاستقبله في جنوده، فجاء رتبيل حتى أحاط ببست، ثم نزل وبعث إلى البكري: والله لئن آذيته بما يقذي عينه، أو ضررته ببعض المضرة، أو رزأته حبلا من شعر لا أبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم بين الجند أموالكم فأرسل إليه البكري أن أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا، ونحن ندفعه إليك سالما، وما كان له من مال موفرا فصالحهم على ذلك، وآمنهم، ففتحوا لابن الأشعث الباب وخلوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له: إن هذا كان عاملي على هذه المدينة، وكنت حيث وليته واثقا به، مطمئنا إليه، فغدر بي وركب مني ما قد رأيت، فأذن لي في قتله، قال:
قد آمنته وأكره أن أغدر به، قال: فأذن لي في دفعه ولهزه، والتصغير به، قال: أما هذا فنعم ففعل به عبد الرحمن بن مُحَمَّد، ثم مضى حتى دخل مع رتبيل بلاده، فأنزله رتبيل عنده وأكرمه وعظمه، وكان معه ناس من الفل كثير.
ثم إن عظم الفلول وجماعة أصحاب عبد الرحمن ومن كان لا يرجو
(6/369)
الأمان، من الرءوس والقادة الذين نصبوا للحجاج في كل موطن مع ابن الأشعث، ولم يقبلوا أمان الحجاج في أول مرة، وجهدوا عليه الجهد كله، أقبلوا في أثر ابن الأشعث وفي طلبه حتى سقطوا بسجستان، فكان بها منهم وممن تبعهم من أهل سجستان وأهل البلد نحو من ستين ألفا، ونزلوا على عبد الله بن عامر البعار فحصروه، وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بقدومهم وعددهم وجماعتهم، وهو عند رتبيل وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، فكتبوا إليه: أن أقبل إلينا لعلنا نسير إلى خراسان، فإن بها منا جندا عظيما، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام، وهي بلاد واسعة عريضة، وبها الرجال والحصون فخرج إليهم عبد الرحمن بن مُحَمَّد بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر البعار حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن فضرب وعذب وحبس وأقبل نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال أصحاب عبد الرحمن بن مُحَمَّد لعبد الرحمن: اخرج بنا عن سجستان فلندعها له ونأتي خراسان، فقال عبد الرحمن بن مُحَمَّد:
على خراسان يزيد بن المهلب، وهو شاب شجاع صارم، وليس بتارك لكم سلطانه، ولو دخلتموها وجدتموه إليكم سريعا، ولن يدع أهل الشام اتباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان واهل الشام، واخاف الا تنالوا ما تطلبون، فقالوا: إنما أهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو قد دخلناها أن يكون من يتبعنا منهم أكثر ممن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة ننتحي فيها حيث شئنا، ونمكث حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أو نرى من رأينا فقال لهم عبد الرحمن: سيروا على اسم الله.
فساروا حتى بلغوا هراة، فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين، ففارقه، فأخذ طريقا سوى طريقهم، فلما أصبح ابن مُحَمَّد قام فيهم فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس فيها مشهد
(6/370)
إلا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى منكم فيه أحد، فلما رأيت أنكم لا تقاتلون، ولا تصبرون، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فإنا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيت أن أمضي إلى خراسان وزعمتم انكم مجتمعون على، وأنكم لن تفرقوا عني ثم هذا عبيد الله بن عبد الرحمن قد صنع ما قد رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب في عياذ من الله.
فتفرقت منهم طائفة، ونزلت معه طائفة، وبقي عظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس لما انصرف عبد الرحمن، فبايعوه ثم مضى ابن مُحَمَّد إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، فلقوا بها الرقاد الأزدي من العتيك، فقتلوه، وسار إليهم يزيد بن المهلب.
وأما علي بن مُحَمَّد المدائني فإنه ذكر عن المفضل بن مُحَمَّد أن ابن الأشعث لما انهزم من مسكن مضى إلى كابل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة أتى هراة، فذم ابن الأشعث وعابه بفراره، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان فانضم إليه فل ابن الأشعث، فسار إلى خراسان في جمع يقال عشرين ألفا، فنزل هراة ولقوا الرقاد بن عبيد العتكي فقتلوه، وكان مع عبد الرحمن من عبد القيس عبد الرحمن بن المنذر بن الجارود، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع، ومن هو أكل مني حدا وأهون شوكة، فارتحل الى بلد ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببت أن أمدك بمال لسفرك أعنتك به، فأرسل إليه: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نريح، ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية، وبلغ يزيد، فقال: من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج، فقدم المفضل في أربعة آلاف- ويقال في ستة آلاف-
(6/371)
ثم أتبعه في أربعة آلاف، ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثقلت عن الحرب، أي فرس يحملني! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله جديع بن يزيد، وصير طريقه على مرو الروذ، فأتى قبر أبيه فأقام عنده ثلاثة أيام، وأعطى من معه مائة درهم مائة درهم، ثم أتى هراة فأرسل إلى الهاشمي: قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وان اردت زياده زدناك، فاخرج فو الله ما أحب أن أقاتلك قال: فأبى إلا القتال ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يمنيهم ويدعوهم إلى نفسه، فأخبر بعضهم يزيد، فقال: جل الأمر عن العتاب، أتغدى بهذا قبل أن يتعشى بي، فسار إليه حتى تدانى العسكران، وتأهبوا للقتال، وألقي ليزيد كرسي فقعد عليه، وولى الحرب أخاه المفضل، فأقبل رجل من أصحاب الهاشمي- يقال له خليد عينين من عبد القيس- على ظهر فرسه، فرفع صوته فقال:
دعت يا يزيد بن المهلب دعوة ... لها جزع ثم استهلت عيونها
ولو يسمع الداعي النداء أجابها ... بِصُم القنا والبيض تلقى جفونها
وقد فر أشراف العراق وغادروا ... بها بقرا للحين جما قرونها
وأراد أن يحض يزيد، فسكت يزيد طويلا حتى ظن الناس أن الشعر قد حركه، ثم قال لرجل: ناد وأسمعهم، جشموهم ذلك، فقال خليد:
لبئس المنادي والمنوه باسمه ... تناديه أبكار العراق وعونها
يزيد إذا يدعى ليوم حفيظة ... ولا يمنع السوآت إلا حصونها
فإني أراه عن قليل بنفسه ... يدان كما قد كان قبل يدينها
فلا حرة تبكيه لكن نوائح ... تبكي عليه البقع منها وجونها
(6/372)
فقال يزيد للمفضل: قدم خيلك، فتقدم بها، وتهايجوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرق الناس عن عبد الرحمن، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، وصبر معه العبديون، وحمل سعد بن نجد القردوسي على حليس الشيباني وهو أمام عبد الرحمن، فطعنه حليس فأذراه عن فرسه، وحماه أصحابه، وكثرهم الناس فانكشفوا، فأمر يزيد بالكف عن اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، فولى يزيد عطاء بن أبي السائب العسكر، وأمره بضم ما كان فيه، فأصابوا ثلاث عشرة امرأة، فأتوا بهن يزيد، فدفعهن إلى مرة بن عطاء بن أبي السائب، فحملهن إلى الطبسين، ثم حملهن إلى العراق وقال يزيد لسعد بن نجد: من طعنك؟ قال: حليس الشيباني، وأنا والله راجلا أشد منه وهو فارس قال:
فبلغ حليسا، فقال: كذب والله، لأنا أشد منه فارسا وراجلا وهرب عبد الرحمن بن منذر بن بشر بن حارثة فصار إلى موسى بن عبد الله بن خازم قال: فكان في الأسرى مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زراره، وفيروز حصين، وأبو العلج مولى عبيد الله بن معمر، ورجل من آل أبي عقيل، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني.
ولحق الهاشمى بالسند، وأتى ابن سمرة مرو، ثم انصرف يزيد إلى مرو وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نخف بن أبي صفرة، وخلى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة، وسعى قوم بعبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد فحبسه.
وأما هشام فإنه ذكر أنه حدثه القاسم بن محمد الحضرمى، عن حفص ابن عمرو بن قبيصة، عن رجل من بني حنيفة يقال له جابر بن عمارة، أن يزيد بن المهلب حبس عنده عبد الرحمن بن طلحة وأمنه، وكان الطلحي قد آلى على يمين الا يرى يزيد بن المهلب في موقف إلا أتاه حتى يقبل يده شكرا لما أبلاه قال: وقال مُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص ليزيد: أسألك
(6/373)
بدعوة أبي لأبيك! فخلى سبيله ولقول مُحَمَّد بن سعد ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك حديث فيه بعض الطول.
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي أَبُو مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: بعث يزيد بن المهلب ببقية الأسرى إلى الحجاج بن يوسف، بعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فقال:
أنت صاحب شرطه عبد الرحمن؟ فقال: أصلح الله الأمير! كانت فتنة شملت البر والفاجر، فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبحلمك وفضلك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين، فقال الحجاج: أما قولك: انها شملت البر والفاجر فكذبت، ولكنها شملت الفجار، وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك.
فعزل، ورجا الناس له العافية حتى قدم بالهلقام بن نعيم، فقال له الحجاج: أخبرني عنك، ما رجوت من اتباع عبد الرحمن بن مُحَمَّد؟
أرجوت أن يكون خليفة؟ قال: نعم، رجوت ذلك، وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك، قال: فغضب الحجاج وقال: اضربوا عنقه، فقتل.
قال: ونظر الى عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وقد نحي عنه فقال: اضربوا عنقه، وقتل بقيتهم وقد كان آمن عمرو بن أبي قرة الكندي ثم الحجري وهو شريف وله بيت قديم، فقال: يا عمرو، كنت تفضي إلي وتحدثني أنك ترغب عن ابن الأشعث وعن الأشعث قبله، ثم تبعت عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، والله ما بك عن اتباعهم رغبة، ولا نعمة عين لك ولا كرامة.
قال: وقد كان الحجاج حين هزم الناس بالجماجم نادى مناديه:
من لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو أمانه، فلحق ناس كثير بقتيبة، وكان فيمن لحق به عامر الشعبي، فذكر الحجاج الشعبي يوما فقال: أين هو؟ وما فعل؟ فقال له يزيد بن أبي مسلم: بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، قال: فابعث إليه فلنؤت به
(6/374)
فكتب الحجاج إلى قتيبة: أما بعد، فابعث إلي بالشعبي حين تنظر في كتابي هذا، والسلام عليك، فسرح إليه.
قال أبو مخنف: فحدثني السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: كنت لابن أبي مسلم صديقا، فلما قدم بي على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم فقلت: أشر علي، قال: ما أدري ما أشير به عليك غير أن أعتذر ما استطعت من عذر! وأشار بمثل ذلك علي نصحائي وإخواني، فلما دخلت عليه رأيت والله غير ما رأوا لي، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت:
أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقا، قد والله سودنا عليك، وحرضنا وجهدنا عليك كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف.
قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي، قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبي، فاطمأنت نفسي، قال:
كيف وجدت الناس يا شعبي بعدنا؟ قال- وكان لي مكرما: فقلت:
أصلح الله الأمير! اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا.
قال: انصرف يا شعبي، فانصرفت قال أبو مخنف: قال خالد بن قطن الحارثي: أتي الحجاج بالأعشى، أعشى همدان، فقال: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: بين الأشج وبين
(6/375)
قيس، أنفذ بيتك، قال: بل أنشدك ما قلت لك، قال: بل أنشدني هذه، فأنشده:
ابى الله الا ان يتمم نوره ... ويطفى نور الفاسقين فيخمدا
ويظهر أهل الحق في كل موطن ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا
وينزل ذلا بالعراق وأهله ... لما نقضوا العهد الوثيق المؤكد
وما أحدثوا من بدعة وعظيمة ... من القول لم تصعد إلى الله مصعدا
وما نكثوا من بيعة بعد بيعة ... إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا
وجبنا حشاه ربهم في قلوبهم ... فما يقربون الناس إلا تهددا
فلا صدق في قول ولا صبر عندهم ... ولكن فخرا فيهمُ وتزيدا
فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا!
فقتلاهمُ قتلى ضلال وفتنة ... وحيهمُ أمسى ذليلا مطردا
ولما زحفنا لابن يوسف غدوة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا
قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا
فكافحنا الحجاج دون صفوفنا ... كفاحا ولم يضرب لذلك موعدا
بصف كأن البرق في حجراته ... إذا ما تجلى بيضه وتوقدا
دلفنا إليه في صفوف كأنها ... جبال شرورى لو تعان فتنهدا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج إلا رأيته ... معانا ملقى للفتوح معودا
(6/376)
وإن ابن عباس لفي مرجحنة ... نشبهها قطعا من الليل أسودا
فما شرعوا رمحا ولا جردوا له ... ألا ربما لاقى الجبان فجردا
وكرت علينا خيل سفيان كره ... بفرسانها والسمهري مقصدا
وسفيان يهديها كأن لواءه ... من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا
كهول ومرد من قضاعة حوله ... مساعير أبطال إذا النكس عردا
إذا قال شدوا شدة حملوا معا ... فأنهل خرصان الرماح وأوردا
جنود أمير المؤمنين وخيله ... وسلطانه أمسى عزيزا مؤيدا
فيهني أمير المؤمنين ظهوره ... على أمة كانوا بغاة وحسدا
نزوا يشتكون البغي من أمرائهم ... وكانوا همُ أبغى البغاة وأعندا
وجدنا بني مروان خير أئمة ... وافضل هذى الناس حلما وسوددا
وخير قريش في قريش أرومة ... وأكرمهم إلا النبي مُحَمَّدا
إذا ما تدبرنا عواقب أمره ... وجدنا أمير المؤمنين مسددا
سيغلب قوم غالبوا الله جهرة ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا
كذاك يضل الله من كان قلبه ... مريضا ومن والى النفاق وألحدا
فقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ... وبيضا عليهن الجلابيب خردا
ينادينهم مستعبرات إليهمُ ... ويذرين دمعا في الخدود وإثمدا
فإلا تناولهن منك برحمة ... يكن سبايا والبعولة أعبدا
أنكثا وعصيانا وغدرا وذلة ... أهان الإله من أهان وأبعدا
لقد شأم المصرين فرخ محمد ... يحق وما لاقى من الطير أسعدا
(6/377)
كما شأم الله النجير وأهله ... بجد له قد كان أشقى وأنكدا
فقال أهل الشام: أحسن، أصلح الله الأمير! فقال الحجاج: لا، لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها، ثم قال: يا عدو الله، إنا لسنا نحمدك على هذا القول، إنما قلت: تأسف الا يكون ظهر وظفر، وتحريضا لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنفذ لنا قولك:
بين الاشج وبين قيس باذخ.
فأنفذها، فلما قال:
بخ بخ لوالده وللمولود
قال الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبدا، فقدمه فضرب عنقه.
وقد ذكر من أمر هؤلاء الأسرى الذين أسرهم يزيد بن المهلب ووجههم إلى الحجاج ومن فلول ابن الأشعث الذين انهزموا يوم مسكن أمر غير ما ذكره أبو مخنف عن أصحابه والذي ذكر عنهم من ذلك أنه لما انهزم ابن الأشعث مضى هؤلاء مع سائر الفل إلى الري، وقد غلب عليها عمر بن ابى الصلت بن كنار مولى بني نصر بن معاوية، وكان من أفرس الناس، فانضموا إليه، فأقبل قتيبة بن مسلم إلى الري من قبل الحجاج وقد ولاه عليها.
فقال النفر الذين ذكرت أن يزيد بن المهلب وجههم إلى الحجاج مقيدين وسائر فل ابن الأشعث الذين صاروا إلى الري لعمر بن أبي الصلت: نوليك أمرنا وتحارب بنا قتيبة، فشاور عمر أباه أبا الصلت، فقال له أبوه: والله يا بني ما كنت أبالي إذا سار هؤلاء تحت لوائك أن تقتل من غد فعقد لواءه، وسار فهزم وهزم أصحابه، وانكشفوا إلى سجستان، واجتمعت بها الفلول، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن مُحَمَّد وهو عند رتبيل، ثم كان من أمرهم وأمر يزيد بن المهلب ما قد ذكرت
(6/378)
وذكر أبو عبيدة أن يزيد لما أراد أن يوجه الأسرى إلى الحجاج قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت ابن طلحة! فقال يزيد:
هو الحجاج، ولا يتعرض له! وقال: وطن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإن له عندنا بلاء، قال: وما بلاؤه؟ قال لزم المهلب في مسجد الجماعة بمائتي ألف، فأداها طلحة عنه فأطلقه، وأرسل بالباقين، فقال الفرزدق:
وجد ابن طلحة يوم لاقى قومه ... قحطان يوم هراة خير المعشر
وقيل: إن الحجاج لما أتي بهؤلاء الأسرى من عند يزيد بن المهلب قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، فأبرز سريره- وهو حينئذ بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط- ثم قال لحاجبه: جئني بسيدهم، فقال لفيروز: قم، فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا ذمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس، فكنا فيها، قال: اكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا؟ قال:
اكتبها أول، قال: ثم أنا آمن على دمي؟ قال: اكتبها، ثم أنظر، قال: اكتب يا غلام، ألف ألف ألفي ألف، فذكر مالا كثيرا، فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي، قال: فأدها، قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك، قال: والله لا تجمع مالي ودمي، فقال الحجاج للحاجب: نحه، فنحاه.
ثم قال: ائتني بمُحَمَّد بن سعد بن أبي وقاص، فدعاه فقال له الحجاج:
إيها يا ظل الشيطان أعظم الناس تيها وكبرا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية، وتشبه بحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنا لابن كنارا عبد بني نصر- يعني عمر بن أبي الصلت- وجعل يضرب بعود في يده رأسه حتى أدماه، فقال له مُحَمَّد: أيها الرجل، ملكت فأسجح! فكف يده، فقال: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكا في ذلك محمودا، وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت فأطرق مليا ثم قال: اضرب عنقه، فضربت عنقه
(6/379)
ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة، أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك، وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت! أين الفرزدق؟ قم فأنشده ما قلت فيه، فأنشده:
وخضبت أيرك للزناء ولم تكن ... يوم الهياج لتخضب الأبطالا
فقال: أما والله لقد رفعته عن عقائل نسائك، ثم أمر بضرب عنقه.
ثم دعا ابن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فإذا غلام حدث، فقال:
أصلح الله الأمير! ما لي ذنب، إنما كنت غلاما صغيرا مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي، وكنت معهما حيث كانا، فقال: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟ قال: نعم، قال: على أبيك لعنة الله.
ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: اجعل ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك قال: قم يا حوشب فاضرب عنقه، فقام اليه، فقال له الهلقام: يا بن لقيطة، أتنكأ القرح! فضرب عنقه.
ثم أتى بعبد الله بن عامر، فلما قام بين يديه قال: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن المهلب بما صنع قال: وما صنع؟ قال:
لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضرا
وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا
فأطرق الحجاج مليا ووقرت في قلبه، وقال: وما أنت وذاك! اضرب عنقه فضربت عنقه ولم تزل في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه.
ثم أمر بفيروز فعذب، فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق، ثم يجر عليه حتى يخرق جسده، ثم ينضح عليه الخل والملح، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أني قد قتلت، ولي ودائع وأموال عند الناس، لا تؤدى
(6/380)
إليكم أبدا، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال فأعلم الحجاج، فقال: أظهروه، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا فيروز حصين، إن لي عند أقوام مالا، فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤدين منه أحد درهما، ليبلغ الشاهد الغائب فأمر به الحجاج فقتل وكان ذلك مما روى الوليد بن هشام بن قحذم عن أبي بكر الهذلي.
وذكر ضمره بن ربيعه، عن ابى شوذب، أن عمال الحجاج كتبوا إليه:
أن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها.
فخرج الناس فعسكروا، فجعلوا يبكون وينادون: يا مُحَمَّداه يا مُحَمَّداه! وجعلوا لا يدرون أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم متقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون قال: فقدم ابن الأشعث على تفيئة ذلك، واستبصر قراء أهل البصرة في قتال الحجاج مع عبد الرحمن ابن مُحَمَّد بن الأشعث.
وذكر عن ضمرة بن ربيعة عن الشيباني، قال: قتل الحجاج يوم الزاوية أحد عشر ألفا، ما استحيا منهم الا واحدا، كان ابنه في كتاب الحجاج، فقال له: أتحب أن نعفو لك عن أبيك؟ قال: نعم، فتركه لابنه، وإنما خدعهم بالأمان، أمر مناديا فنادى عند الهزيمة: ألا لا أمان لفلان ولا فلان، فسمى رجالا من أولئك الأشراف، ولم يقل: الناس آمنون، فقالت العامة: قد آمن الناس كلهم إلا هؤلاء النفر، فأقبلوا إلى حجرته فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال: لآمرن بكم اليوم رجلا ليس بينكم وبينه قرابة، فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمي فقربهم فقتلهم.
وروي عن النضر بن شميل، عن هشام بن حسان، أنه قال: بلغ
(6/381)
ما قتل الحجاج صبرا مائة وعشرين، أو مائة وثلاثين ألفا.
وقد ذكر في هزيمة ابن الأشعث بمسكن قول غير الذي ذكره أبو مخنف، والذي ذكر من ذلك أن ابن الأشعث والحجاج اجتمعا بمسكن من أرض أبزقباذ، فكان عسكر ابن الأشعث على نهر يدعى خداش مؤخر النهر، نهر تيرى، ونزل الحجاج على نهر أفريذ والعسكران جميعا بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهرا- وقيل: دون ذلك- ولم يكن الحجاج يعرف إليهم طريقا إلا الطريق الذي يلتقون فيه، فأتى بشيخ كان راعيا يدعى زورقا، فدله على طريق من وراء الكرخ طوله ستة فراسخ، في أجمة وضحضاح من الماء، فانتخب أربعة آلاف من جلة أهل الشام، وقال لقائدهم:
ليكن هذا العلج أمامك، وهذه أربعة آلاف درهم معك، فإن أقامك على عسكرهم فادفع المال إليه، وإن كان كذبا فاضرب عنقه، فإن رأيتهم فاحمل عليهم فيمن معك، وليكن شعاركم: يا حجاج يا حجاج.
فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه وذلك مع صلاة العصر، فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجاج حتى عبر السيب- وكان قد عقده- ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهب ما فيه، فقيل له: لو اتبعته؟ فقال: قد تعبنا ونصبنا، فرجع إلى عسكره فألقى أصحابه السلاح، وباتوا آمنين في أنفسهم لهم الظفر وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم، فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدري أين يتوجه! دجيل عن يساره ودجلة أمامه، ولها جرف منكر، فكان من غرق أكثر ممن قتل.
وسمع الحجاج الصوت فعبر السيب إلى عسكره، ثم وجه خيله إلى القوم فالتقى العسكران على عسكر ابن الأشعث، وانحاز في ثلاثمائة، فمضى على شاطئ دجلة حتى أتى دجيلا فعبره في السفن، وعقروا دوابهم، وانحدروا في السفن إلى البصرة، ودخل الحجاج عسكره فانتهب ما فيه، وجعل يقتل من وجد حتى قتل أربعة آلاف، فيقال: إن فيمن قتل عبد الله
(6/382)
ابن شداد بن الهاد، وقتل فيهم بسطام بن مصقله بن هبيرة، وعمر ابن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود والحكم بن مخرمة العبديين، وبكير بن ربيعة بن ثروان الضبي، فأتي الحجاج برءوسهم على ترس، فجعل ينظر إلى رأس بسطام ويتمثل:
إذا مررت بوادي حية ذكر ... فاذهب ودعني أقاسي حية الوادي
ثم نظر إلى رأس بكير، فقال: ما ألقى هذا الشقي مع هؤلاء خذ بأذنه يا غلام فألقه عنهم ثم قال: ضع هذا الترس بين يدي مسمع بن مالك ابن مسمع، فوضع بين يديه، فبكى، فقال له الحجاج: ما أبكاك؟ أحزنا عليهم؟ قال: بل جزعا لهم من النار
. ذكر خبر بناء مدينه واسط
وفي هذه السنة: بنى الحجاج واسطا، وكان سبب بنائه ذلك- فيما ذكر- أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر وكان فتى من أهل الكوفة من بني أسد حديث عهد بعرس بابنة عم له، انصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلا، فطرق الباب طارق ودقه دقا شديدا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شرا، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه، وعرفوا ذلك، فقال: ائذنوا له، ففعلوا، فأغلق الباب، وقد كانت المرأة نجدت منزلها وطيبته، فقال الشامي:
قد آن لكم، فاستقنأه الأسدي، فأندر رأسه، فلما أذن بالفجر خرج الرجل إلى العسكر وقال لامرأته: إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين أن أخرجوا صاحبكم، فسيأتون بك الحجاج، فاصدقيه الخبر على وجهه،
(6/383)
ففعلت، ورفع القتيل إلى الحجاج، وأدخلت المرأة عليه وعنده عنبسة ابن سعيد على سريره، فقال لها: ما خطبك؟ فأخبرته، فقال: صدقتني.
ثم قال لولاة الشامي: ادفنوا صاحبكم فإنه قتيل الله إلى النار، لا قود له ولا عقل، ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، واخرجوا فعسكروا.
وبعث روادا يرتادون له منزلا، وأمعن حتى نزل أطراف كسكر، فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حمار له وعبر دجلة، فلما كان في موضع واسط تفاجت الأتان فبالت، فنزل الراهب، فاحتفر ذلك البول، ثم احتمله فرمى به في دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: علي به، فأتي به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده.
فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عزل عبد الملك- فيما قال الواقدي- عن المدينة أبان بن عثمان، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل، وحدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكان العمال في هذه السنة على الأمصار سوى المدينة هم العمال الذين كانوا عليها في السنة التي قبلها، وأما المدينة فقد ذكرنا من كان عليها فيها.
(6/384)
ثم دخلت
سنة أربع وثمانين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كانت غزوة عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم، ففتح فيها المصيصة، كذلك ذكر الواقدي.
خبر قتل الحجاج أيوب بن القرية
وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان ممن كان مع ابن الأشعث، وكان سبب قتله إياه- فيما ذكر- أنه كان يدخل حوشب بن يزيد بعد انصرافه من دير الجماجم- وحوشب على الكوفة عامل للحجاج- فيقول حوشب:
انظروا إلى هذا الواقف معي، وغدا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا استطيع الا نفاذه، فبينا هو ذات يوم واقف إذ أتاه كتاب من الحجاج:
أما بعد، فإنك قد صرت كهفا لمنافقي أهل العراق ومأوى، فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه، مع ثقة من قبلك.
فلما قرأ حوشب الكتاب رمى به إليه، فقرأه فقال: سمعا وطاعة، فبعث به إلى الحجاج موثقا، فلما دخل الحجاج قال له: يا بن القرية، ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: أصلح الله الأمير! ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف، دنيا، وآخرة، ومعروف قال: اخرج مما قلت، قال: أفعل، أما الدنيا فمال حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وأما الآخرة فميزان عادل، ومشهد ليس فيه باطل، وأما المعروف فإن كان علي اعترفت، وإن كان لي اغترفت قال: أما لا فاعترف بالسيف إذا وقع بك قال:
أصلح الله الأمير! أقلني عثرتي، واسغنى ريقي، فإنه ليس جواد إلا له
(6/385)
كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة قال الحجاج: كلا والله لأرينك جهنم، قال: فأرحني فإني أجد حرها، قال: قدمه يا حرسي فاضرب عنقه فلما نظر إليه الحجاج يتشحط في دمه قال: لو كنا تركنا ابن القرية حتى نسمع من كلامه! ثم أمر به فأخرج فرمي به قال هشام: قال عوانة: حين منع الحجاج من الكلام ابن القرية، قال له ابن القرية: أما والله لو كنت أنا وأنت على السواء لسكنا جميعا، أولا لفيت منيعا
. فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس
وفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس ذكر سبب فتحه إياها:
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: كان نيزك ينزل بقلعة باذغيس، فتحين يزيد غزوه، ووضع عليه العيون، فبلغه خروجه، فخالفه يزيد إليها، وبلغ نيزك فرجع، فصالحه على أن يدفع إليه ما في القلعة من الخزائن، ويرتحل عنها بعياله، فقال كعب بن معدان الأشقري:
وباذغيس التي من حل ذروتها ... عز الملوك فان شاء جار أو ظلما
منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلا إذا واجهت جيشا له وجما
تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما
لما أطاف بها ضاقت صدورهمُ ... حتى أقروا له بالحكم فاحتكما
فذل ساكنها من بعد عزته ... يعطى الجزى عارفا بالذل مهتضما
وبعد ذلك أياما نعددها ... وقبلها ما كشفت الكرب والظلما
أعطاك ذاك ولي الرزق يقسمه ... بين الخلائق والمحروم من حرما
(6/386)
يداك إحداهما تسقي العدو بها ... سما وأخرى نداها لم يزل ديما
فهل كسيب يزيد أو كنائله ... إلا الفرات وإلا النيل حين طما
ليسا بأجود منه حين مدهما ... إذ يعلوان حداب الأرض والأكما
وقال:
ثنائي على حي العتيك بأنها ... كرام مقاريها، كرام نصابها
إذا عقدوا للجار حل بنجوة ... عزيز مراقيها، منيع هضابها
نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك ... بمنزله أعيا الملوك اغتصابها
محلقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زل عنها سحابها
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها
وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها
تمنيت أن ألقى العتيك ذوي النهي ... مسلطة تحمي بملك ركابها
كما يتمنى صاحب الحرث أعطشت ... مزارعه غيثا غزيرا ربابها
فأسقي بعد اليأس حتى تحيرت ... جداولها ريا وعب عبابها
لقد جمع الله النوى وتشعبت ... شعوب من الآفاق شتى مآبها
قال: وكان نيزك يعظم القلعة إذا رآها سجد لها وكتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بالفتح، وكانت كتب يزيد إلى الحجاج يكتبها يحيى بن يعمر العدواني، وكان حليفا لهذيل، فكتب: أنا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برءوس الجبال وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان وأثناء الأنهار، فقال الحجاج:
من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد فحمله على البريد، فقدم عليه أفصح الناس، فقال له: أين ولدت؟ قال: بالأهواز، قال: فهذه الفصاحة؟ قال: حفظت كلام أبي وكان فصيحا قال: من
(6/387)
هناك فأخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيرا، قال: ففلان؟
قال: نعم، قال: فأخبرني عنى االحن؟ قال: نعم تلحن لحنا خفيا، تزيد حرفا وتنقص حرفا، وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن قال: قد أجلتك ثلاثا، فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك، فرجع الى خراسان
. [أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين سميت قبل في سنة ثلاث وثمانين
(6/388)
ثم دخلت
سنة خمس وثمانين
(ذكر ما كان فيها من الاحداث)
خبر هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث
ففيها كان هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث ذكر السبب الذي به.
هلك، وكيف كان:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: لما انصرف ابن الأشعث من هراة راجعا إلى رتبيل كان معه رجل من أود يقال له علقمة بن عمرو، فقال له: ما أريد أن أدخل معك، فقال له عبد الرحمن: لم؟ قال:
لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب الحجاج قد جاء، فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلما او قتلكم.
ولكن هاهنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطي أمانا أو نموت كراما، فقال له عبد الرحمن: أما لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك، فأبى عليه علقمة، ودخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودودا النضري، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفي لهم.
قال: وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن بن مُحَمَّد أن ابعث به إلي، وإلا فو الذى لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل.
وكان عند رتبيل رجل من بني تميم ثم من بني يربوع يقال له عبيد بن أبي سبيع، فقال لرتبيل: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفن الخراج
(6/389)
عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد، قال رتبيل لعبيد: فإن فعلت فإن لك عندي ما سألت.
فكتب إلى الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث إليه بعبد الرحمن بن مُحَمَّد، فأعطاه الحجاج على ذلك مالا وأخذ من رتبيل عليه مالا، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى الحجاج، وترك له الصلح الذي كان يأخذه منه سبع سنين وكان الحجاج يقول: بعث إلى رتبيل بعدو الله فألقى نفسه من فوق إجار فمات.
قال أبو مخنف: وحدثني سُلَيْمَان بن أبي راشد أنه سمع مليكة ابنة يزيد تقول: والله لمات عبد الرحمن وإن رأسه لعلى فخذي، كان السل قد أصابه فلما مات وأرادوا دفنه بعث إليه رتبيل فحز رأسه، فبعث به إلى الحجاج، وأخذ ثمانية عشر رجلا من آل الأشعث فحبسهم عنده، وترك جميع من كان معه من أصحابه وكتب إلى الحجاج بأخذه الثمانية عشر رجلا من أهل بيت عبد الرحمن، فكتب إليه: أن اضرب رقابهم، وابعث إلي برءوسهم وكره أن يؤتى بهم إليه أحياء فيطلب فيهم إلى عبد الملك، فيترك منهم أحدا.
وقد قيل في امر بن أبي سبيع وابن الأشعث غير ما ذكرت عن أبي مخنف، وذلك ما ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يقول:
زعم أن عمارة بن تميم خرج من كرمان فأتى سجستان وعليها رجل من بني العنبر يدعى مودودا، فحصره ثم آمنه، ثم استولى على سجستان، وأرسل إلى رتبيل وكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفا من أهل الشام لم يخالفوا طاعة، ولم يخلعوا خليفة، ولم يتبعوا إمام ضلالة يجرى على كل رجل منهم في كل شهر مائة درهم، يستطعمون الحرب استطعاما، يطلبون ابن الأشعث فأبى رتبيل أن يسلمه وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع التميمي قد خص به،
(6/390)
وكان رسوله إلى رتبيل، فخص برتبيل أيضا، وخف عليه فقال القاسم ابن مُحَمَّد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر التميمي، فاقتله، فهم به، وبلغ ابن أبي سبيع، فخافه فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث فأجابه، فخرج سرا إلى عمارة بن تميم، فاستعجل في ابن الأشعث، فجعل له ألف ألف، فأقام عنده، وكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه أن أعط عبيدا ورتبيل ما سالاك واشترط، فاشترط رتبيل الا تغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنه تسعمائة ألف، فأعطى رتبيل وعبيدا ما سألا، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث فأحضره وثلاثين من أهل بيته، وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق القاسم جامعة، وأرسل بهم جميعا إلى أدنى مسالح عمارة منه، وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث من الناس: تفرقوا إلى حيث شئتم، ولما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات، فاحتز رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة، فضرب أعناقهم، وأرسل برأس ابن الأشعث وبرءوس أهله وبامرأته إلى الحجاج، فقال في ذلك بعض الشعراء:
هيهات موضع جثة من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
وكان الحجاج أرسل به إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى عبد العزيز وهو يومئذ على مصر.
وذكر عمر بن شبة أن ابن عائشة حدثه قال: أخبرني سعد بن عبيد الله قال: لما أتي عبد الملك برأس ابن الأشعث أرسل به مع خصي إلى امرأة منهم كانت تحت رجل من قريش، فلما وضع بين يديها قالت: مرحبا بزائر لا يتكلم، ملك من الملوك طلب ما هو أهله فأبت المقادير فذهب الخصي يأخذ الرأس فاجتذبته من يده، قالت: لا والله حتى أبلغ
(6/391)
حاجتي، ثم دعت بخطمي فغسلته وغلفته ثم قالت: شأنك به الآن.
فأخذه، ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها، قال: إن استطعت أن تصيب منها سخلة.
وذكر أن ابن الأشعث نظر إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رتبيل فتمثل:
يطرده الخوف فهو تائه ... كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الخفين يشكو الوجا ... تنكبه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
فالتفت إليه فقال: يا لحية، هلا ثبت في موطن من المواطن فنموت بين يديك، فكان خيرا لك مما صرت إليه! قال هشام: قال أبو مخنف: خرج الحجاج في أيامه تلك يسير ومعه حميد الأرقط وهو يقول:
ما زال يبني خندقا ويهدمه ... عن عسكر يقوده فيسلمه
حتى يصير في يديك مقسمه ... هيهات من مصفه منهزمه
إن أخا الكظاظ من لا يسأمه.
فقال الحجاج: هذا أصدق من قول الفاسق أعشى همدان:
نبئت أن بني يوسف ... خر من زلق فتبا
قد تبين له من زلق وتب ودحض فانكب، وخاف وخاب، وشك وارتاب، ورفع صوته فما بقي أحد إلا فزع لغضبه، وسكت الأريقط، فقال له الحجاج: عد فيما كنت فيه، ما لك يا أرقط! قال: إني جعلت فداك أيها الأمير وسلطان الله عزيز، ما هو إلا أن رأيتك غضبت فأرعدت خصائلي، واحزألت مفاصلي، وأظلم بصري، ودارت بي الأرض قال له
(6/392)
الحجاج: أجل، إن سلطان الله عزيز، عد فيما كنت فيه، ففعل وقال الحجاج وهو ذات يوم يسير ومعه زياد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو أعور، فقال الحجاج للأريقط: كيف قلت لابن سمرة؟ قال: قلت:
يا أعور العين فديت العورا ... كنت حسبت الخندق المحفورا
يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات السوء أن تدورا
وقد قيل: إن مهلك عبد الرحمن بن مُحَمَّد كان في سنة أربع وثمانين
عزل يزيد بن المهلب عن خراسان
وفي هذه السنة عزل الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل بن المهلب أخا يزيد.
ذكر السبب الذي من أجله عزله الحجاج عن خراسان واستعمل المفضل:
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن الحجاج وفد إلى عبد الملك، فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن في هذا الدير شيخا من أهل الكتب عالما، فدعا به فقال: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم، نجد ما مضى من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن، قال: أفمسمى أم موصوفا؟ قال: كل ذلك، موصوف بغير اسم، واسم بغير صفة، قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه، ملك أقرع، من يقم لسبيله يصرع، قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، قال: ثم ماذا؟ قال: رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس، قال: أفتعرفني؟ قال: قد أخبرت بك.
قال: أفتعلم ما ألي؟ قال: نعم، قال: فمن يليه بعدي؟ قال: رجل يقال له يزيد، قال: في حياتي أم بعد موتي؟ قال: لا أدري، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا
(6/393)
قال: فوقع في نفسه يزيد بن المهلب، وارتحل فسار سبعا وهو وجل من قول الشيخ، وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق، فكتب اليه: يا بن أم الحجاج، قد علمت الذي تغزو، وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك، ولعمري إني لأرى مكان نافع بن علقمة، فاله عن هذا حتى يأتي الله بما هو آت، فقال الفرزدق يذكر مسيره:
لو أن طيرا كلفت مثل سيره ... إلى واسط من إيلياء لملت
سرى بالمهاري من فلسطين بعد ما ... دنا الليل من شمس النهار فولت
فما عاد ذاك اليوم حتى أناخها ... بميسان قد ملت سراها وكلت
كأن قطاميا على الرحل طاويا ... إذا غمرة الظلماء عنه تجلت
قال فبينا الحجاج يوما خال إذ دعا عبيد بن موهب، فدخل وهو ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: ويحك يا عبيد! إن أهل الكتب يذكرون أن ما تحت يدي يليه رجل يقال له يزيد، وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة، ويزيد بن حصين بن نمير، ويزيد بن دينار، فليسوا هناك، وما هو إن كان إلا يزيد بن المهلب، فقال عبيد: لقد شرفتهم وأعظمت ولايتهم، وإن لهم لعددا وجلدا، وطاعة وحظا، فأخلق به، فأجمع على عزل يزيد فلم يجد له شيئا حتى قدم الخيار بن أبي سبرة بن ذؤيب بن عرفجة بن مُحَمَّد بن سفيان بن مجاشع- وكان من فرسان المهلب- وكان مع يزيد- فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، قال: حسن الطاعة، لين السيرة، قال: كذبت، أصدقني عنه، قال: الله أجل وأعظم، قد أسرج ولم يلجم، قال: صدقت، واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك
(6/394)
قال: ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب بالزبيرية، فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى نقصا بآل المهلب طاعتهم لآل الزبير، بل أراه وفاء منهم لهم، وإن وفاءهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لي فكتب إليه الحجاج يخوفه غدرهم لما أخبره به الشيخ فكتب إليه عبد الملك: قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلا يصلح لخراسان، فسمى له مجاعة بن سعر السعدي، فكتب إليه عبد الملك: إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعر، فانظر لي رجلا صارما، ماضيا لأمرك، فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه: ولّه وبلغ يزيد ان الحجاج نزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان؟ قالوا: رجلا من ثقيف، قال: كلا، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلا من قيس، وأخلق بقتيبة! قال: فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه أن استخلف المفضل وأقبل فاستشار يزيد حضين بن المنذر، فقال له: أقم واعتل، فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنما أتيت من الحجاج، فإن أقمت ولم تعجل رجوت أن يكتب إليه أن يقر يزيد، قال: إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف، فأخذ في الجهاز، وأبطأ ذلك على الحجاج، فكتب إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان، فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، قال: بل حسدتني، قال يزيد: يا بن بهلة، أنا أحسدك! ستعلم وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين.
فعزل الحجاج المفضل، فقال الشاعر للمفضل وعبد الملك وهو اخوه لامه:
يا بنى بهلة إنما أخزاكما ... ربي غداة غدا الهمام الأزهر
أحفرتمُ لأخيكمُ فوقعتمُ ... في قعر مظلمة أخوها المعور
جودوا بتوبة مخلصين فإنما ... يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر
(6/395)
وقال حضين ليزيد:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما
فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: كيف قلت ليزيد؟ قال: قلت:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فنفسك أول اللوم إن كنت لائما
فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ... فإنك تلقى أمره متفاقما
قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته الا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير، فقال رجل لعياض بن حضين: أما أبوك فوجده قتيبة حين فره قارحا بقوله: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير.
قال علي: وحدثنا كليب بن خلف، قال: كتب الحجاج إلى يزيد أن اغز خوارزم، فكتب إليه: أيها الأمير، إنها قليلة السلب، شديدة الكلب فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم، فكتب إليه: إني أريد أن أغزو خوارزم فكتب إليه: لا تغزها فإنها كما وصفت، فغزا ولم يطعه، فصالحه أهل خوارزم، وأصاب سبيا مما صالحوه، وقفل في الشتاء، فاشتد عليهم البرد، فأخذ الناس ثياب الأسرى فلبسوها، فمات ذلك السبي من البرد قال: ونزل يزيد بلستانة، وأصاب أهل مرو الروذ طاعون ذلك العام، فكتب إليه الحجاج: أن أقدم فقدم، فلم يمر ببلد إلا فرشوا له الرياحين وكان يزيد ولي سنة اثنتين وثمانين، وعزل سنة خمس وثمانين، وخرج من خراسان في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وولي قتيبة.
وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف في عزل الحجاج يزيد عن خراسان سببا غير الذي ذكره علي بن مُحَمَّد، والذي ذكر من ذلك عن أبي مخنف أن أبا المخارق الراسبي وغيره حدثوه أن الحجاج لم يكن له حين فرغ من عبد الرحمن بن مُحَمَّد هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته- وقد
(6/396)
كان الحجاج أذل أهل العراق كلهم إلا يزيد وأهل بيته ومن معهم من أهل المصرين بخراسان، ولم يكن يتخوف بعد عبد الرحمن بن مُحَمَّد بالعراق غير يزيد بن المهلب- فاخذ الحجاج في مواربه يزيد ليستخرجه من خراسان، فكان يبعث إليه ليأتيه، فيعتل عليه بالعدو وحرب خراسان، فمكث بذلك حتى كان آخر سلطان عبد الملك ثم إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد بن المهلب، ويخبره بطاعة آل المهلب لابن الزبير، وأنه لا وفاء لهم، فكتب إليه عبد الملك: أني لا أرى تقصيرا بولد المهلب طاعتهم لآل الزبير ووفاءهم لهم، فإن طاعتهم ووفاءهم لهم، هو دعاهم إلى طاعتي والوفاء لي ثم ذكر بقية الخبر نحو الذي ذكره علي.
بن محمد
. غزو المفضل باذغيس واخرون
وفي هذه السنة غزا المفضل باذغيس ففتحها.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: عزل الحجاج يزيد، وكتب إلى المفضل بولايته على خراسان سنة خمس وثمانين، فوليها تسعة أشهر، فغزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنما، فقسمه بين الناس، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائه درهم، ثم غزا أخرون وشومان، فظفر وغنم، وقسم ما أصاب بين الناس، ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاءه شيء، وإن غنم شيئا قسمه بينهم، فقال كعب الأشقري يمدح المفضل:
ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر ... عصائب شتى ينتوون المفضلا
فمن زائر يرجو فواضل سيبه ... وآخر يقضي حاجة قد ترحلا
(6/397)
إذا ما انتوينا غير أرضك لم نجد ... بها منتوى خيرا ولا متعللا
إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهى ... وقد قدموا من صالح كنت أولا
لعمري لقد صال المفضل صولة ... أباحت بشومان المناهل والكلا
ويوم ابن عباس تناولت مثلها ... فكانت لنا بين الفريقين فيصلا
صفت لك أخلاق المهلب كلها ... وسربلت من مسعاته ما تسربلا
أبوك الذي لم يسع ساع كسعيه ... فأورث مجدا لم يكن متنحلا
خبر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ
وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم السلمي بالترمذ.
ذكر سبب قتله ومصيره إلى الترمذ حتى قتل بها:
ذكر أن سبب مصيره إلى الترمذ كان أن أباه عبد الله بن خازم لما قتل من قتل من بني تميم بفرتنا- وقد مضى ذكرى خبر قتله إياهم- تفرق عنه عظم من كان بقي معه منهم، فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: حول ثقلي عن مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه فشخص موسى من مرو في عشرين ومائتي فارس، فأتى آمل وقد ضوى إليه قوم من الصعاليك، فصار في أربعمائة، وانضم إليه رجال من بني سليم، منهم زرعة بن علقمة، فأتى زم فقاتلوه، فظفر بهم وأصاب مالا، وقطع النهر، فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه، وقال: رجل فاتك، وأصحابه مثله أصحاب حرب وشر، فلا آمنه وبعث إليه بصلة عين ودواب وكسوة، ونزل على عظيم من عظماء أهل بخارى في نوقان، فقال له: إنه
(6/398)
لا خير في المقام في هذه البلاد، وقد هابك القوم وهم لا يأمنونك فأقام عند دهقان نوقان أشهرا، ثم خرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنا، فلم يأت بلدا إلا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم.
قال علي بن مُحَمَّد: فأتى سمرقند فأقام بها، وأكرمه طرخون ملكها، وأذن له في المقام، فأقام ما شاء الله، ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم ودك وخبز وإبريق شراب، وذلك في كل عام يوما، يجعل ذلك لفارس الصغد فلا يقربه أحد غيره، هو طعامه في ذلك اليوم، فإن أكل منه أحد غيره بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له، فقال رجل من أصحاب موسى:
ما هذه المائدة؟ فأخبر عنها، فسكت، فقال صاحب موسى: لآكلن ما على هذه المائدة، ولأبارزن فارس الصغد، فإن قتلته كنت فارسهم فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة، فجاء مغضبا، فقال:
يا عربي، بارزني، قال: نعم، وهل أريد إلا المبارزة! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارس الصغد! لولا أني أعطيتك وأصحابك الأمان لقتلتكم اخرجوا عن بلدي، ووصله فخرج موسى فأتى كس فكتب صاحب كس إلى طرخون يستنصره، فأتاه، فخرج إليه موسى في سبعمائة فقاتلهم حتى امسوا، وتحاجزوا باصحاب موسى جراح كثيرة، فلما أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رءوسهم كما يصنع الخوارج، وقطعوا صفنات أخبيتهم كما يصنع العجم إذا استماتوا.
وقال موسى لزرعة بن علقمة: انطلق إلى طرخون فاحتل له فأتاه، فقال له طرخون: لم صنع أصحابك ما صنعوا؟ قال: استقتلوا فما حاجتك إلى أن تقتل أيها الملك موسى وتقتل! فإنك لا تصل إليه حتى يقتل مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعا ما نلت حظا، لأن له قدرا في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لم تسلم من آخر، قال: ليس إلى ترك كس في يده سبيل، قال: فكف عنه حتى
(6/399)
يرتحل، فكف وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر إلى جانب منه، فنزل موسى على بعض دهاقين الترمذ خارجا من الحصن والدهقان مجانب لترمذ شاه، فقال لموسى: إن صاحب الترمذ متكرم شديد الحياء، فإن ألطفته وأهديت إليه أدخلك حصنه، فإنه ضعيف، قال: كلا، ولكني أسأله أن يدخلني حصنه، فسأله فأبى، فما كره موسى وأهدى له وألطفه، حتى لطف الذي بينهما، وخرج فتصيد معه، وكثر إلطاف موسى له، فصنع صاحب الترمذ طعاما وأرسل إليه: أني أحب اكرمك، فتغد عندي، وائتني في مائة من أصحابك فانتخب موسى من أصحابه مائة، فدخلوا على خيولهم، فلما صارت في المدينة تصاهلت، فتطير أهل الترمذ وقالوا لهم: انزلوا، فنزلوا، فأدخلوا بيتا، خمسين في خمسين، وغدوهم.
فلما فرغوا من الغداء اضطجع موسى، فقالوا له: اخرج، قال:
لا أصيب منزلا مثل هذا، فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبري.
وقاتلوهم في المدينة، فقتل من أهل الترمذ عدة، وهرب الآخرون فدخلوا منازلهم، وغلب موسى على المدينة، وقال لترمذ شاه: اخرج، فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك فخرج الملك وأهل المدينة فأتوا الترك يستنصرونهم، فقالوا: دخل إليكم مائة رجل فاخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكس، نحن لا نقاتل هؤلاء فأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل اليه اصحابه، وكانوا سبعمائة، فأقام، فلما قتل أبوه انضم إليه من اصحاب ابيه أربعمائة فارس، فقوي، فكان يخرج فيغير على من حوله قال: فأرسل الترك قوما إلى أصحاب موسى ليعلموا علمه، فلما قدموا قال موسى لأصحابه:
لا بد من مكيدة لهؤلاء- قال: وذلك في أشد الحر- فأمر بنار فأججت، وأمر أصحابه فلبسوا ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودا، ومدوا أيديهم إلى النار كأنهم يصطلون وأذن موسى للترك فدخلوا، ففزعوا مما رأوا، وقالوا:
(6/400)
لم صنعتم هذا؟ قالوا: نجد البرد في هذا الوقت، ونجد الحر في الشتاء، فرجعوا وقالوا: جن لا نقاتلهم قال: وأراد صاحب الترك أن يغزو موسى، فوجه إليه رسلا، وبعث بسم ونشاب في مسك، وإنما أراد بالسم أن حربهم شديدة، والنشاب الحرب، والمسك السلم، فاختر الحرب او السلم، فاخرق السم، وكسر النشاب، ونثر المسك، فقال القوم: لم يريدوا الصلح، وأخبر أن حربهم مثل النار، وأنه يكسرنا، فلم يغزهم.
قال: فولي بكير بن وشاح خراسان فلم يعرض له، ولم يوجه إليه أحدا، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريده، فخالفه بكير، وخلع، فرجع إلى مرو، فلما صالح أمية بكيرا أقام عامه ذلك، فلما كان في قابل وجه إلى موسى رجلا من خزاعة في جمع كثير، فعاد أهل الترمذ إلى الترك فاستنصروهم فأبوا، فقالوا لهم: قد غزاهم قوم منهم وحصروهم، فإن أعناهم عليهم ظفرنا بهم فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة، فقال موسى لعمرو بن خالد بن حصين الكلابي- وكان فارسا: قد طال أمرنا وأمر هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيت عسكر الخزاعي، فإنهم للبيات آمنون، فما ترى؟ قال: البيات نعما هو، وليكن ذلك بالعجم، فإن العرب أشد حذرا، وأسرع فزعا، وأجرأ على الليل من العجم، فبيتهم فإني أرجو أن ينصرنا الله عليهم، ثم ننفرد لقتال الخزاعي فنحن في حصن وهم بالعراء، وليسوا باولى بالصبر، ولا أعلم بالحرب منا قال: فأجمع موسى على بيات الترك، فلما ذهب من الليل ثلثه خرج في أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد: اخرجوا بعدنا وكونوا منا قريبا، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر، ثم أخذ من ناحية كفتان، فلما قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعا، ثم قال: أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأقبل
(6/401)
وقدم عمرا بين يديه ومشوا خلفه، فلما رأته أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابري سبيل.
قال: فلما جازوا الرصد تفرقوا وأطافوا بالعسكر وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف، فثاروا يقتل بعضهم بعضا وولوا، وأصيب من المسلمين ستة عشر رجلا، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا ومالا، وأصبح الخزاعي وأصحابه قد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها من البيات، فتحذروا.
فقال لموسى عمرو بن خالد: إنك لا تظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم يكثرون، فدعني آتهم لعلي أصيب من صاحبهم فرصة، إني إن خلوت به قتلته، فتناولني بضرب، قال: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل! قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد فتناوله بضرب، ضربه خمسين سوطا، فخرج من عسكر موسى فأتى عسكر الخزاعي مستأمنا وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فلم أزل معه، وكنت أول من أتاه، فلما قدمت اتهمني، وتعصب علي، وتنكر لي وقال لي: قد تعصبت لعدونا، فأنت عين له، فضربني، ولم آمن القتل، وقلت: ليس بعد الضرب إلا القتل، فهربت منه، فآمنه الخزاعي وأقام معه قال: فدخل يوما وهو خال ولم ير عنده سلاحا، فقال كأنه ينصح له: أصلحك الله! إن مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحواله بغير سلاح، فقال: إن معي سلاحا، فرفع صدر فراشه فإذا سيف منتضى، فتناوله عمرو فضربه فقتله، وخرج فركب فرسه، ونذروا به بعد ما أمعن، فطلبوه ففاتهم، فأتى موسى وتفرق ذلك الجيش، فقطع بعضهم النهر، وأتى بعضهم موسى مستأمنا، فآمنه، فلم يوجه إليه أمية أحدا قال: وعزل أمية، وقدم المهلب أميرا، فلم يعرض لابن خازم،
(6/402)
وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة هذا الثغر ما أقام هذا الثط بمكانه، فإن قتل كان أول طالع عليكم أميرا على خراسان رجل من قيس فمات المهلب ولم يوجه إليه أحدا، ثم تولى يزيد بن المهلب فلم يعرض له وكان المهلب ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما، الحارث بن منقذ، وقتل صهرا لهما كانت عنده أم حفص ابنة ثابت، فبلغهما ما صنع يزيد قال: فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به- وكان ثابت محببا في العجم، بعيد الصوت، يعظمونه ويثقون به، فكان الرجل منهم إذا أعطى عهدا يريد الوفاء به حلف بحياة ثابت فلا يغدر- فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله، وقد سقط إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة، وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، وقوم من بني تميم ممن كان يقاتل ابن خازم في الفتنة من أهل خراسان، فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن، فقال له ثابت وحريث: سر تقطع النهر فتخرج يزيد بن المهلب عن خراسان، ونوليك، فإن طرخون ونيزك والسبل وأهل بخارى معك، فهم أن يفعل، فقال له أصحابه:
إن ثابتا وأخاه خائفان ليزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان وأمنا توليا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم مكانك فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر مما يلينا، وتكون هذه الناحية لنا نأكلها فرضي ثابت بذلك، وأخرج من كان من عمال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، وقوي أمرهم وأمر موسى، وانصرف طرخون ونيزك وأهل بخارى والسبل إلى بلادهم، وتدبير الأمر لحريث وثابت، والأمير موسى ليس له غير الاسم،
(6/403)
فقال لموسى أصحابه: لسنا نرى من الأمر في يديك شيئا أكثر من اسم الإمارة، فأما التدبير فلحريث وثابت، فاقتلهما وتول الأمر فأبى وقال:
ما كنت لأغدر بهما وقد قويا أمري، فحسدوهما وألحوا على موسى في أمرهما حتى أفسدوا قلبه، وخوفوه غدرهما، وهم بمتابعتهم على الوثوب بثابت وحريث واضطرب أمرهم، فإنهم لفي ذلك إذ خرجت عليهم الهياطلة والتبت والترك، فأقبلوا في سبعين ألفا لا يعدون الحاسر ولا صاحب بيضة جماء، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس قال: فخرج ابن خازم إلى ربض المدينة في ثلاثمائة راجل وثلاثين مجففا، وألقي له كرسي فقعد عليه قال: فأمر طرخون أن يثلم حائط الربض، فقال موسى:
دعوهم، فهدموا ودخل أوائلهم، فقال: دعوهم يكثرون، وجعل يقلب طبرزينا بيده، فلما كثروا قال: الآن امنعوهم، فركب وحمل عليهم فقاتلهم حتى أخرجهم عن الثلمة، ثم رجع فجلس على الكرسي وذمر الملك أصحابه ليعودوا، فأبوا، فقال لفرسانه: هذا الشيطان، من سره أن ينظر إلى رستم فلينظر إلى صاحب الكرسي، فمن أبى فليقدم عليه ثم تحولت الأعاجم إلى رستاق كفتان قال: فأغاروا على سرح موسى، فاغتم ولم يطعم، وجعل يعبث بلحيته، فسار ليلا على نهر في حافتيه نبات لم يكن فيه ماء، وهو يفضى الى خندقهم، في سبعمائة، فأصبحوا عند عسكرهم، وخرج السرح فأغار عليه فاستاقه، وأتبعه قوم منهم، فعطف عليه سوار، مولى لموسى، فطعن رجلا منهم فصرعه، فرجعوا عنهم وَسَلَّمَ موسى بالسرح قال: وغاداهم العجم القتال، فوقف ملكهم على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم صدر النهار، وألح عليهم حتى أزالوهم عن التل، ورمي يومئذ حريث بنشابة في جبهته، فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة.
ملكهم،
(6/404)
فوجأ رجلا منهم بقبيعة سيفه، فطعن فرسه، فاحتمله فألقاه في نهر بلخ فغرق، وعليه درعان، فقتل العجم قتلا ذريعا، ونجا منهم من نجا بشر، ومات حريث بن قطبة بعد يومين، فدفن في قبته قال: وارتحل موسى، وحملوا الرءوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرءوس جوسقين، وجعلوا الرءوس يقابل بعضها بعضا وبلغ الحجاج خبر الوقعة، فقال: الحمد لله الذي نصر المنافقين على الكافرين، فقال أصحاب موسى:
قد كفينا أمر حريث، فأرحنا من ثابت، فأبى وقال: لا وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه، فدس مُحَمَّد بن عبد الله بن مرثد الخزاعي، عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري- وكان في خدمة موسى بن عبد الله- وقال له: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك من أين أنت! فقل: من سبي الباميان، فكان يخدم موسى وينقل إلى ثابت خبرهم، فقال له:
تحفظ ما يقولون وحذر ثابت فكان لا ينام حتى يرجع الغلام، وأمر قوما من شاكريته يحرسونه ويبيتون عنده في داره، ومعهم قوم من العرب، وألح القوم على موسى فأضجروه، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم علي، وفيم تريدون هلاككم، وقد أبرمتموني! فعلى أي وجه تفتكون به، وأنا لا أغدر به! فقال نوح بن عبد الله أخو موسى: خلنا وإياه، فإذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك، قال: أما والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم- والغلام يسمع- فأتى ثابتا فأخبره، فخرج من ليلته في عشرين فارسا فمضى وأصبحوا وقد ذهب فلم يدروا من أين أوتوا، وفقدوا الغلام، فعلموا أنه كان عينا له عليهم، ولحق ثابت بحشورا فنزل المدينة، وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم، فقال موسى لأصحابه:
قد فتحتم على أنفسكم بابا فسدوه، وسار اليه موسى، فخرج إليه ثابت في جمع كثير فقاتلهم، فأمر موسى بإحراق السور، وقاتلهم حتى ألجئوا ثابتا وأصحابه إلى المدينة، وقاتلوهم عن المدينة
(6/405)
فأقبل رقبة بن الحر العنبري حتى اقتحم النار، فانتهى إلى باب المدينة ورجل من أصحاب ثابت واقف يحمي أصحابه، فقتله، ثم رجع فخاض النار وهي تلتهب، وقد أخذت بجوانب نمط عليه، فرمى به عنه ووقف، وتحصن ثابت في المدينة، وأقام موسى في الربض، وكان ثابت حين شخص إلى حشورا أرسل إلى طرخون، فأقبل طرخون معينا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وأعانه أهل كس ونسف وبخارى، فصار ثابت في ثمانين ألفا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا.
قال: وكان أصحاب ثابت يعبرون نهرا إلى موسى بالنهار- ثم يرجعون بالليل إلى عسكرهم، فخرج يوما رقبة- وكان صديقا لثابت، وقد كان ينهى أصحاب موسى عما صنعوا- فنادى ثابتا، فبرز له- وعلى رقبة قباء خز- فقال له: كيف حالك يا رقبة؟ فقال: ما تسأل عن رجل عليه جبة خز في حمارة القيظ! وشكا إليه حالهم، فقال: أنتم صنعتم هذا بأنفسكم، فقال: أما والله ما دخلت في أمرهم، ولقد كرهت ما أرادوا، فقال ثابت: أين تكون حتى يأتيك ما قدر لك؟ قال: أنا عند المحل الطفاوي- رجل من قيس من يعصر- وكان المحل شيخا صاحب شراب- فنزل رقبة عنده.
قال: فبعث ثابت إلى رقبه بخمسمائة درهم مع علي بن المهاجر الخزاعي، وقال: إن لنا تجارا قد خرجوا من بلخ، فإذا بلغك أنهم قد قدموا فأرسل إلي تأتك حاجتك فأتى على باب المحل، فدخل فإذا رقبة والمحل جالسان بينهما جفنة فيها شراب، وخوان عليه دجاج وأرغفة، ورقبة شعث الرأس، متوشح بملحفة حمراء، فدفع إليه الكيس، وأبلغه الرسالة وما كلمه، وتناول الكيس وقال له بيده، اخرج، ولم يكلمه قال: وكان رقبة جسيما كبيرا، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، مفلج، بين كل سنين له موضع سن، كان وجهه ترس
(6/406)
قال: فلما أضاق أصحاب موسى واشتد عليهم الحصار قال يزيد بن هزيل: إنما مقام هؤلاء مع ثابت والقتل أحسن من الموت جوعا، والله لأفتكن بثابت أو لأموتن فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، إن هذا لم يأتك رغبة فيك ولا جزعا لك، ولقد جاءك بغدرة، فاحذره وخلني وإياه، فقال: ما كنت لأقدم على رجل أتاني، لا أدري أكذلك هو أم لا قال: فدعني أرتهن منه رهنا، فأرسل ثابت إلى يزيد فقال: أما أنا فلم أكن أظن رجلا يغدر بعد ما يسأل الأمان، وابن عمك أعلم بك مني، فانظر ما يعاملك عليه، فقال يزيد لظهير: أبيت يا أبا سعيد إلا حسدا! قال: أما يكفيك ما ترى من الذل! تشردت عن العراق وعن أهلي، وصرت بخراسان فيما ترى، أفما تعطفك الرحم! فقال له ظهير: أما والله لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنا ابنيك قدامة والضحاك فدفعهما إليهم، فكانا في يدي ظهير.
قال: وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت، لا يقدر منه على ما يريد، حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتى أباه نعيه من مرو، فخرج متفضلا إلى زياد ليعزيه، ومعه ظهير ورهط من أصحابه، وفيهم يزيد بن هزيل، وقد غابت الشمس، فلما صار على نهر الصغانيان تأخر يزيد بن هزيل ورجلان معه، وقد تقدم ظهير وأصحابه، فدنا يزيد من ثابت فضربه فعض السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ قال: ورمى يزيد وصاحباه بأنفسهم في نهر الصغانيان، فرموهم، فنجا يزيد سباحة وقتل صاحباه، وحمل ثابت إلى منزله، فلما أصبح طرخون أرسل إلى ظهير: ائتني بابني يزيد، فأتاه بهما، فقدم ظهير الضحاك بن يزيد فقتله، ورمى به وبرأسه في النهر، وقدم قدامة ليقتله، فالتفت فوقع السيف في صدره، ولم يبن، فألقاه في النهر حيا فغرق، فقال طرخون: أبوهما قتلهما وغدره فقال يزيد بن هزيل: لأقتلن يا بني كل خزاعي بالمدينة، فقال له عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء- وكان ممن أتى موسى من فل ابن الأشعث:
(6/407)
لو رمت ذاك من خزاعة لصعب عليك وعاش ثابت سبعة أيام ثم مات وكان يزيد بن هزيل سخيا شجاعا شاعرا، ولي أيام ابن زياد جزيرة ابن كاوان، فقال:
قد كنت أدعو الله في السر مخلصا ... ليمكنني من جزية ورجال
فأترك فيها ذكر طلحة خاملا ... ويحمد فيها نائلي وفعالي
قال: فقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياما ضعيفا، وانتشر أمرهم، فأجمع موسى على بياتهم، فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه، فكيف يبيتنا! لقد طار قلبك، لا يحرسن الليلة أحد العسكر.
فلما ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثمانمائه قد عباهم من النهار، وصيرهم أرباعا قال: فصير على ربع رقبة بن الحر وعلى ربع أخاه نوح بن عبد الله بن خازم، وعلى ربع يزيد بن هزيل، وصار هو في ربع، وقال لهم: إذا دخلتم عسكرهم فتفرقوا، ولا يمرن أحد منكم بشيء إلا ضربه، فدخلوا عسكرهم من أربع نواح لا يمرون بدابة ولا رجل ولا خباء ولا جوالق إلا ضربوه وسمع الوجبة نيزك فلبس سلاحه، ووقف في ليلة مظلمة، وقال لعلي بن المهاجر الخزاعي: انطلق إلى طرخون فأعلمه موقفي، وقل له: ما ترى أعمل به، فأتى طرخون، فإذا هو في فازة قاعد على كرسي وشاكريته قد أوقدوا النيران بين يديه، فأبلغه رسالة نيزك، فقال: اجلس، وهو طامح ببصره نحو العسكر والصوت، إذا أقبل محمية السلمي وهو يقول: حم لا ينصرون، فتفرق في الشاكرية، ودخل محمية الفازة، وقام إليه طرخون فبدره فضربه، فلم يغن شيئا، قال: وطعنه طرخون بذباب السيف في صدره فصرعه، ورجع إلى الكرسي فجلس عليه، وخرج محمية يعدو
(6/408)
قال: ورجعت الشاكرية، فقال لهم طرخون: فررتم من رجل! أرأيتم لو كان نارا هل كانت تحرق منكم أكثر من واحد! فما فرغ من كلامه حتى دخل جوارية الفازة، وخرج الشاكرية هرابا، فقال للجواري:
اجلسن، وقال لعلي بن المهاجر: قم، قال: فخرجا فإذا نوح بن عبد الله ابن خازم في السرادق، فتجاولا ساعة، واختلفا ضربتين، فلم يصنعا شيئا، وولى نوح وأتبعه طرخون، فطعن فرس نوح في خاصرته فشب، فسقط نوح والفرس في نهر الصغانيان، ورجع طرخون وسيفه يقطر دما، حتى دخل السرادق وعلي بن المهاجر معه، ثم دخلا الفازة.
وقال طرخون للجواري: ارجعن، فرجعن إلى السرادق، وأرسل طرخون إلى موسى: كف أصحابك؟ فإنا نرتحل إذا أصبحنا، فرجع موسى إلى عسكره، فلما أصبحوا ارتحل طرخون والعجم جميعا، فأتى كل قوم بلادهم قال: وكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ابن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان حتى أتى ملكا فغلبه على مدينته وأخرجه منها، ثم سارت إليه الجنود من العرب والترك فكان يقاتل العرب أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشره سنه، وصار ما وراء النهر لموسى، لا يعازه فيه أحد.
قال: وكان بقومس رجل يقال له عبد الله، يجتمع إليه فتيان يتنادمون عنده في مؤونته ونفقته، فلزمه دين، فأتى موسى بن عبد الله، فأعطاه أربعة آلاف، فأتى بها أصحابه، فقال الشاعر يعاتب رجلا يقال له موسى:
فما أنت موسى إذ يناجي إلهه ... ولا واهب القينات موسى بن خازم
قال: فلما عزل يزيد وولي المفضل خراسان أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فأخرج عثمان بن مسعود- وكان يزيد حبسه- فقال: إني أريد أن أوجهك إلى موسى بن عبد الله، فقال: والله لقد وترني، وإني لثائر بابن عمتي ثابت وبالخزاعي، وما يد أبيك
(6/409)
وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستموني وشردتم بني عمي، واصطفيتم أموالهم فقال له المفضل: دع هذا عنك، وسر فأدرك بثأرك، فوجهه في ثلاثة آلاف، وقال له: مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان، فنادى بذلك في السوق، فسارع إليه الناس وكتب المفضل إلى مدرك وهو ببلخ أن يسير معه، فخرج، فلما كان ببلخ خرج ليلة يطوف في العسكر، فسمع رجلا يقول: قتلته والله، فرجع إلى أصحابه، فقال:
قتلت موسى ورب الكعبة! قال: فأصبح فسار من بلخ وخرج مدرك معه متثاقلا، فقطع النهر فنزل جزيرة بالترمذ يقال لها اليوم جزيرة عثمان- لنزول عثمان بها في خمسة عشر ألفا- وكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى، فضيقوا عليه وعلى أصحابه، فخرج موسى ليلا فأتى كفتان، فامتار منها، ثم رجع فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرة، فقال لأصحابه: حتى متى! اخرجوا بنا فاجعلوا يومكم، إما ظفرتم وإما قتلتم وقال لهم: اقصدوا للصغد والترك، فخرج وخلف النضر بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له:
إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك بن المهلب.
وخرج فصير ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال: لا تهايجوه إلا أن يقاتلكم، وقصد لطرخون وأصحابه، فصدقوهم، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم فجعلوا ينقلونه، ونظر معاوية بن خالد بن أبي برزة إلى عثمان وهو على برذون لخالد بن أبي برزة الأسلمي، فقال: انزل أيها الأمير، فقال خالد: لا تنزل فإن معاوية مشئوم وكرت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصن، فقاتلهم، فعقر به فسقط، فقال لمولى له: احملني، فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعا، وإن هلكنا هلكنا جميعا قال: فارتدف، فنظر إليه عثمان حين وثب فقال: وثبة موسى ورب الكعبة! وعليه مغفر له موشى بخز أحمر
(6/410)
في أعلاه، ياقوتة أسمانجونية، فخرج من الخندق فكشفوا أصحاب موسى.
فقصد لموسى، وعثرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فابتدروه فانطووا عليه فقتلوه، ونادى منادي عثمان: لا تقتلوا أحدا، من لقيتموه فخذوه أسيرا قال: فتفرق أصحاب موسى، وأسر منهم قوم، فعرضوا على عثمان، فكان إذا أتي بأسير من العرب قال: دماؤنا لكم حلال، ودماؤكم علينا حرام! ويأمر بقتله، وإذا أتي بأسير من الموالي شتمه، وقال: هذه العرب تقاتلني، فهلا غضبت لي! فيأمر به فيشدخ وكان فظا غليظا، فلم يسلم عليه يومئذ أسير إلا عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء، فإنه كان مولاه، فلما نظر إليه أعرض عنه وأشار بيده أن خلوا عنه، ورقبة بن الحر لما أتي به نظر إليه وقال: ما كان من هذا إلينا كبير ذنب، وكان صديقا لثابت، وكان مع قوم فوفى لهم، والعجب كيف أسرتموه! قالوا: طعن فرسه فسقط عنه في وهدة فأسر، فأطلقه وحمله، وقال لخالد بن أبي برزة: ليكن عندك قال: وكان الذي أجهز على موسى ابن عبد الله واصل بن طيسلة العنبري ونظر يومئذ عثمان إلى زرعة بن علقمة السلمي والحجاج بن مروان وسنان الأعرابي ناحية فقال: لكم الأمان، فظن الناس أنه لم يؤمنهم حتى كاتبوه.
قال: وبقيت المدينة في يدي النضر بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن خازم، فقال:
لا أدفعها إلى عثمان، ولكني أدفعها إلى مدرك، فدفعها إليه وآمنه، فدفعها مدرك إلى عثمان وكتب المفضل بالفتح إلى الحجاج، فقال الحجاج: العجب من ابن بهلة! آمره بقتل ابن سمرة فيكتب إلي أنه لمآبه ويكتب إلي: أنه قتل موسى بن عبد الله بن خازم، قال: وقتل موسى سنة خمس وثمانين، فذكر البحتري أن مغراء بن المغيرة بن أبي صفرة قتل موسى فقال:
وقد عركت بالترمذ الخيل خازما ... ونوحا وموسى عركة بالكلاكل
(6/411)
قال: فضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولي قتيبة أخبر عنه فقال:
ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته! قال: كان قتل أخي، فأمر به قتيبة فقتل بين يديه
. عزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز
وفي هذه السنة أراد عبد الملك بن مروان خلع أخيه عبد العزيز بن مروان.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من أمرهما فيه:
ذكر الواقدي أن عبد الملك هم بذلك، فنهاه عنه قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل هذا، فإنك باعث على نفسك صوت نعار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه! فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه إلى أن يخلعه.
ودخل عليه روح بن زنباع الجذامي- وكان أجل الناس عند عبد الملك- فقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، فقال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: إي والله، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال:
نصيح إن شاء الله قال: فبينا هو على ذلك وقد نام عبد الملك وروح ابن زنباع إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقا، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه فقال: لا يجب عني قبيصة أي ساعة جاء من ليل أو نهار، إذا كنت خاليا أو عندي رجل واحد، وإن كنت عند النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه فدخل، وكان الخاتم إليه، وكانت السكة إليه، تأتيه الأخبار قبل عبد الملك، ويقرأ الكتب قبله، ويأتي بالكتاب إلى عبد الملك منشورا فيقرؤه، إعظاما لقبيصة- فدخل عليه فسلم عليه وقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك عبد العزيز! قال: وهل توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح فقال: كفانا الله أبا زرعة ما كنا نريد وما أجمعنا عليه، وكان ذلك مخالفا لك يا أبا إسحاق، فقال قبيصة:
ما هو؟ فأخبره بما كان، فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله
(6/412)
في الأناة، والعجلة فيها ما فيها، فقال عبد الملك: ربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمرو بن سعيد، ألم تكن العجله فيه خيرا من التانى!
خبر موت عبد العزيز بن مروان
وفي هذه السنة توفي عبد العزيز بن مروان بمصر في جمادى الأولى، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وولاه مصر.
وأما المدائني فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أبو زيد عنه، أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد، وأوفد وفدا في ذلك عليهم عمران ابن عصام العنزي، فقام عمران خطيبا، فتكلم وتكلم الوفد وحثوا عبد الملك، وسألوه ذلك، فقال عمران بن عصام:
أمير المؤمنين إليك نهدي ... على النأي التحية والسلاما
أجبني في بنيك يكن جوابي ... لهم عادية ولنا قواما
فلو أن الوليد أطاع فيه ... جعلت له الخلافة والذماما
شبيهك حول قبته قريش ... به يستمطر الناس الغماما
ومثلك في التقى لم يصب يوما ... لدن خلع القلائد والتماما
فإن تؤثر أخاك بها فإنا ... وجدك لا نطيق لها اتهاما
ولكنا نحاذر من بنيه ... بني العلات مأثرة سماما
ونخشى إن جعلت الملك فيهم ... سحابا ان تعود لهم جهاما
فلايك ما حلبت غدا لقوم ... وبعد غد بنوك هم العياما
فأقسم لو تخطأني عصام ... بذلك ما عذرت به عصاما
ولو أني حبوت أخا بفضل ... أريد به المقالة والمقاما
(6/413)
لعقب في بني على بنيه ... كذلك أو لرمت له مراما
فمن يك في أقاربه صدوع ... فصدع الملك أبطؤه التئاما
فقال عبد الملك: يا عمران، إنه عبد العزيز، قال: احتل له يا أمير المؤمنين.
قال علي: أراد عبد الملك بيعة الوليد قبل أمر ابن الأشعث، لأن الحجاج بعث في ذلك عمران بن عصام، فلما أبى عبد العزيز أعرض عبد الملك عما أراد حتى مات عبد العزيز، ولما أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك! فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فإنه أعز الخلق على أمير المؤمنين فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد، فقال عبد الملك: اللهم إن عبد العزيز قطعني فاقطعه فكتب إليه عبد الملك: احمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إني وإياك قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا، وإني لا ادرى ولا تدرى أينا يأتيه الموت أولا! فإن رأيت إلا تغثث علي بقية عمري فافعل.
فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، قال لابنيه: إن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك.
وقال لابنيه: الوليد وسُلَيْمَان: هل قارفتما حراما قط؟ قالا: لا والله، قال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة! قال: فلما أبى عبد العزيز أن يجيب عبد الملك إلى ما أراد، قال عبد الملك: اللهم قد قطعني فاقطعه، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره، فدعا عليه، فاستجيب له.
قال: وكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه أن يستكتب مُحَمَّد بن يزيد الأنصاري، وكتب إليه: إن أردت رجلا مأمونا فاضلا عاقلا وديعا مسلما
(6/414)
كتوما تتخذه لنفسك، وتضع عنده سرك، وما لا تحب أن يظهر، فاتخذ مُحَمَّد بن يزيد فكتب إليه عبد الملك: احمله إلي فحمله، فاتخذه عبد الملك كاتبا قال مُحَمَّد: فلم يكن يأتيه كتاب إلا دفعه إلي، ولا يستر شيئا إلا أخبرني به وكتمه الناس، ولا يكتب إلى عامل من عماله إلا أعلمنيه، فإني لجالس يوما نصف النهار إذا ببريد قد قدم من مصر، فقال: الإذن على أمير المؤمنين قلت: ليست هذه ساعة اذن، فأعلمني ما قد قدمت له، قال: لا قلت: فإن كان معك كتاب فادفعه إلي قال: لا، قال: فأبلغ بعض من حضرني أمير المؤمنين، فخرج فقال: ما هذا؟ قلت: رسول قدم من مصر، قال: فخذ الكتاب، قلت: زعم أنه ليس معه كتاب، قال: فسله عما قدم له، قلت: قد سألته فلم يخبرني، قال أدخله، فأدخلته، فقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز! فاسترجع وبكى ووجم ساعة ثم قال: يرحم الله عبد العزيز! مضى والله عبد العزيز لشأنه، وتركنا وما نحن فيه، ثم بكى النساء وأهل الدار، ثم دعاني من غد، فقال: إن عبد العزيز رحمه الله قد مضى لسبيله، ولا بد للناس من علم وقائم يقوم بالأمر من بعدي، فمن ترى؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سيد الناس وأرضاهم وأفضلهم الوليد بن عبد الملك، قال: صدقت وفقك الله! فمن ترى أن يكون بعده؟
قلت: يا أمير المؤمنين، أين تعدلها عن سُلَيْمَان فتى العرب! قال: وفقت، أما إنا لو تركنا الوليد وإياها لجعلها لبنيه، اكتب عهدا للوليد وسُلَيْمَان من بعده، فكتبت بيعة الوليد ثم سُلَيْمَان من بعده فغضب علي الوليد فلم يولني شيئا حين أشرت بسُلَيْمَان من بعده.
قال علي، عن ابن جعدبة: كتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس لبيعة الوليد وسُلَيْمَان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حتى، فضربه هشام ضربا
(6/415)
مبرحا وألبسه المسوح، وسرحه إلى ذباب- ثنية بالمدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يصلبوني ما لبست سراويل مسوح، ولكن قلت: يصلبونني فيسترني وبلغ عبد الملك الخبر، فقال: قبح الله هشاما! إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه، او يكف عنه
. بيعه عبد الملك لابنيه: الوليد ثم سليمان
وفي هذه السنة بايع عبد الملك لابنيه: الوليد، ثم من بعده لسُلَيْمَان، وجعلهما وليي عهد المسلمين، وكتب ببيعته لهما إلى البلدان، فبايع الناس، وامتنع من ذلك سعيد بن المسيب، فضربه هشام بن إسماعيل- وهو عامل عبد الملك على المدينة- وطاف به وحبسه، فكتب عبد الملك إلى هشام يلومه على ما فعل من ذلك، وكان ضربه ستين سوطا، وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية.
وأما الحارث فإنه قَالَ: حَدَّثَنِي ابن سعد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عمر الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا قالوا: استعمل عبد الله ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، وقال: ما لنا ولسعيد، دعه! وحدثني الحارث، عن ابن سعد، أن مُحَمَّد بن عمر أخبره، قال:
حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا أن عبد العزيز بن مروان توفي بمصر في جمادى سنة أربع وثمانين، فعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسُلَيْمَان العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ هشام بن إسماعيل المخزومي،
(6/416)
فدعا الناس إلى البيعة، فبايع الناس، ودعا سعيد بن المسيب أن يبايع لهما، فأبى وقال: لا حتى أنظر، فضربه هشام بن إسماعيل ستين سوطا، وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن، قال: والله لولا أني، ظننت أنه الصلب لما لبست هذا التبان أبدا فرده إلى السجن، وحبسه وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول: سعيد والله كان أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من شقاق ولا خلاف.
[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثنا أحمد بْن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكذلك قَالَ الواقدي.
وكان العامل على المشرق في هذه السنة مع العراق الحجاج بن يوسف
(6/417)
ثم دخلت
سنة ست وثمانين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
خبر وفاه عبد الملك بن مروان
فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الملك بن مروان، وكان مهلكه في النصف من شوال منها حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي عبد الملك بن مروان يوم الخميس للنصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر.
وأما الحارث فإنه حدثني عَنِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، قال: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل بن أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قال: أجمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين.
قال ابن عمر: وحدثني أبو معشر نجيح، قال: مات عبد الملك بن مروان بدمشق يوم الخميس للنصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت ولايته منذ يوم بويع إلى يوم توفي إحدى وعشرين سنة وشهرا ونصفا، كان تسع سنين منها يقاتل فيها عبد الله بن الزبير، ويسلم عليه بالخلافة بالشام، ثم بالعراق بعد مقتل مصعب، وبقي بعد مقتل عبد الله بن الزبير واجتماع الناس عليه ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلا سبع ليال.
وأما علي بن مُحَمَّد المدائني، فإنه- فيما حدثنا أبو زيد عنه- قال: مات عبد الملك سنة ست وثمانين بدمشق، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوما.
(6/418)
ذكر الخبر عن مبلغ سنه يوم توفي
اختلف اهل السير في ذلك، فقأن أبو معشر فيه- ما حدثني الحارث عن ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو معشر نجيح.
قال: مات عبد الملك بن مروان وله ستون سنة.
قال الواقدي: وقد روي لنا أنه مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
قال: والأول أثبت وهو على مولده، قال: وولد سنة ست وعشرين في خلافه عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وشهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنين.
وقال المدائني علي بن مُحَمَّد- فيما ذكر، أبو زيد عنه: مات عبد الملك وهو ابن ثلاث وستين سنة
. ذكر نسبه وكنيته
أما نسبه، فإنه عبد الملك بن مروان بن الحكم بن ابى العاص بن اميه ابن عبد شمس بن عبد مناف وأما كنيته فأبو الوليد وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وله يقول ابن قيس الرقيات:
أنت ابن عائشة التي ... فضلت أروم نسائها
لم تلتفت للداتها ... ومضت على غلوائها
ذكر أولاده وأزواجه
منهم الوليد، وسليمان، ومروان الاكبر- درج- وعائشة، أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن
(6/419)
ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض.
ويزيد، ومروان، ومعاوية- درج- وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وهشام، وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وقال المدائني: اسمها عائشة بنت هشام.
وأبو بكر، واسمه بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله، والحكم- درج- أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان.
وفاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغيرة.
بن خالد بن العاص ابن هشام بن المغيرة وعبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة ومُحَمَّد وسعيد الخير والحجاج، لأمهات أولاد.
قال المدائني: وكان له من النساء- سوى من ذكرنا- شقراء بنت سلمه ابن حلبس الطائي، وابنة لعلي بن أبي طالب ع، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر.
وذكر المدائني، عن عوانة وغيره أن سلمة بن زيد بن وهب بن نباتة الفهمي دخل على عبد الملك فقال له: أي الزمان أدركت أفضل؟ وأي الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا ذاما وحامدا، وأما الزمان فيرفع أقواما ويضع أقواما، وكلهم يذم زمانه لأنه يبلي جديدهم، ويهرم صغيرهم، وكل ما فيه منقطع غير الأمل، قال: فأخبرني عن فهم، قال: هم كما قال من قال:
درج الليل النهار على فهم ... بن عمرو فأصبحوا كالرميم
وخلت دارهم فأضحت يبابا ... بعد عز وثروة ونعيم
كذاك الزمان يذهب بالناس ... وتبقى ديارهم كالرسوم
(6/420)
قال: فمن يقول منكم:
رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا ... يحبون الغني من الرجال
وإن كان الغني قليل خير ... بخيلا بالقليل من النوال
فما أدري علام وفيم هذا ... وماذا يرتجون من البخال!
أللدنيا؟ فليس هناك دنيا ... ولا يرجى لحادثة الليالي
قال: أنا.
قال علي: قال أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لعبد الملك بن مروان:
نبئت أن ابن القلمس عابني ... ومن ذا من الناس الصحيح المسلم
فأبصر سبل الرشد سيد قومه ... وقد يبصر الرشد الرئيس المعمم
فمن أنتمُ؟ ها خبرونا منَ انتمُ؟ ... وقد جعلت أشياء تبدو وتكتم
فقال عبد الملك: ما كنت أرى أن مثلنا يقال له: من أنتم! أما والله لولا ما تعلم لقلت قولا ألحقكم بأصلكم الخبيث، ولضربتك حتى تموت.
وقال عبد الله بن الحجاج الثعلبي لعبد الملك:
يا بن أبي العاص ويا خير فتى ... أنت سداد الدين إن دين وهى
أنت الذي لا يجعل الأمر سدى ... جيبت قريش عنكم جوب الرحى
إن أبا العاصي وفي ذاك اعتصى ... أوصى بنيه فوعوا عنه الوصى
إن يسعروا الحرب ويأبوا ما أبى ... الطاعنين في النحور والكلى
شزرا ووصلا للسيوف بالخطا ... إلى القتال فحووا ما قد حوى
(6/421)
وقال أعشى بني شيبان:
عرفت قريش كلها ... لبني أبي العاص الإماره
لأبرها وأحقها ... عند المشورة بالإشاره
المانعين لما ولوا ... والنافعين ذوي الضراره
وهمُ أحقهمُ بها ... عند الحلاوة والمراره
وقال عبد الملك: ما أعلم مكان أحد أقوى على هذا الأمر مني، وإن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسا.
(6/422)
خلافة الوليد بن عبد الملك
وفي هذه السنة بويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة، فذكر أنه لما دفن أباه وانصرف عن قبره، دخل المسجد فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فخطب فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة قوموا فبايعوا.
فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولي، فإنه قام وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
فبايعه، ثم تتابع الناس على البيعة وأما الواقدي فإنه ذكر أن الوليد لما رجع من دفن أبيه، ودفن خارج باب الجابية، لم يدخل منزله حتى صعد على منبر دمشق، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثم قال:
أيها الناس، إنه لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت وقد صار إلى منازل الأبرار ولى هذه الامه الذى يحق عليه لله من الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه، من حج هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشن هذه الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزا ولا مفرطا أيها الناس، عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد أيها الناس، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه.
ثم نزل، فنظر إلى ما كان من دواب الخلافه فحازه، وكان جبارا عنيدا
(6/423)
ولايه قتيبة بن مسلم على خراسان من قبل الحجاج
وفي هذه السنة قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليا عليها من قبل الحجاج، فذكر علي بن مُحَمَّد أن كليب بن خلف، اخبره عن طفيل ابن مرداس العمي والحسن بن رشيد، عن سُلَيْمَان بن كثير العمي، قال: أخبرني عمي قال: رأيت قتيبة بن مسلم حين قدم خراسان في سنة ست وثمانين، فقدم والمفضل يعرض الجند، وهو يريد أن يغزو أخرون وشومان، فخطب الناس قتيبة، وحثهم على الجهاد، وقال:
إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضه، والعدو وقما، ووعد نبيه ص النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فَقَالَ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
*» ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده فقال:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، إلى قوله: «أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ» ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق، فقال: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى اثر وامضى الم، وإياي والهوينى
. ذكر ما كان من أمر قتيبة بخراسان في هذه السنة
ثم عرض قتيبة الجند في السلاح والكراع، وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي، فلما كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وبعض عظمائهم فساروا معه، فلما قطع النهر تلقاه تيش الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من
(6/424)
ذهب، فدعاه إلى بلاده، فأتاه وأتى ملك كفتان بهدايا وأموال، ودعاه إلى بلاده، فمضى مع بيش إلى الصغانيان، فسلم إليه بلاده، وكان ملك أخرون وشومان قد أساء جوار تيش وغزاه وضيق عليه، فسار قتيبة إلى أخرون وشومان- وهما من طخارستان، فجاءه غشتاسبان فصالحه على فدية أداها إليه، فقبلها قتيبة ورضي، ثم انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، وتقدم جنده فسبقهم إلى مرو، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسارا، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذ، فوهب له قرية تدعى تنجانة، ثم قدم صالح على قتيبة فاستعمله على الترمذ.
قال: وأما الباهليون فيقولون: قدم قتيبة خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند، فكان جميع ما احصوا من الدروع في جند خراسان ثلاثمائه وخمسين درعا، فغزا أخرون وشومان، ثم قفل فركب السفن فانحدر إلى آمل، وخلف الجند، فأخذوا طريق بلخ إلى مرو، وبلغ الحجاج، فكتب إليه يلومه ويعجز رأيه في تخليفه الجند، وكتب إليه:
إذا غزوت فكن في مقدم الناس، وإذا قفلت فكن في أخرياتهم وساقتهم.
وقد قيل: إن قتيبة أقام قبل أن يقطع النهر في هذه السنة على بلخ، لأن بعضها كان منتقضا عليه، وقد ناصب المسلمين، فحارب أهلها، فكان ممن سبى امرأة برمك، أبي خالد بن برمك- وكان برمك على النوبهار- فصارت لعبد الله بن مسلم الذي يقال له الفقير، أخي قتيبة بن مسلم، فوقع عليها، وكان به شيء من الجذام ثم إن أهل بلخ صالحوا من غد اليوم الذي حاربهم قتيبة فأمر قتيبة يرد السبي، فقالت امرأة برمك لعبد الله بن مسلم: يا تازي، إني قد علقت منك وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة، فأوصى أن يلحق به ما في بطنها، وردت إلى برمك، فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاءوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد، فادعوه، فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن
(6/425)
استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه، فتركوه وأعرضوا عن دعواهم.
وكان برمك طبيبا، فداوى بعد ذلك مسلمه من عله كانت به.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم.
وفيها حبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان، وعبد الملك بن المهلب عن شرطته.
وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر.
وكذلك قَالَ الواقدي.
وكان الأمير على العراق كله والمشرق كله الحجاج بن يوسف وعلى الصلاة بالكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل وعلى الحرب بها من قبل الحجاج زياد بن جرير بن عبد الله وعلى البصرة أيوب بن الحكم وعلى خراسان قتيبة بن مسلم
(6/426)
ثم دخلت
سنة سبع وثمانين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن المدينة، وورد عزله عنها- فيما ذكر- ليلة الأحد لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وكانت إمرته عليها أربع سنين غير شهر او نحوه.
خبر اماره عمر بن عبد العزيز على المدينة
وفي هذه السنة ولى الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة قال الواقدي:
قدمها واليا في شهر ربيع الأول، وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولد سنة اثنتين وستين.
قال: وقدم على ثلاثين بعيرا، فنزل دار مروان قال: فحدثني عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ عبد العزيز المدينة ونزل دار مروان دخل عليه الناس فسلموا، فلما صلى الظهر دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا بكر بن سُلَيْمَان بن ابى حثمه، وسليمان بن يسار، وو القاسم بْن محمد، وسالم بْن عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ، وعبد اللَّه بن عبد الله ابن عمرو، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه فجلسوا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثم قال:
إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا
(6/427)
يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني.
فخرجوا يجزونه خيرا، وافترقوا.
قال: وكتب الوليد إلى عمر يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان فيه سيئ الرأي.
قال الواقدي: فحدثني داود بن جبير، قال: أخبرتني أم ولد سعيد بن المسيب أن سعيدا دعا ابنه ومواليه فقال: إن هذا الرجل يوقف للناس- أو قد وقف- فلا يتعرض له أحد ولا يؤذه بكلمة، فإنا سنترك ذلك لله وللرحم، فإن كان ما علمت لسيئ النظر لنفسه، فأما كلامه فلا أكلمه أبدا.
قال: وحدثني مُحَمَّد بْن عبد الله بْن مُحَمَّد بْن عمر، عن أبيه، قال:
كان هشام بن إسماعيل يسيء جوارنا ويؤذينا، ولقي منه علي بن الحسين أذى شديدا، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، فقال:
ما أخاف إلا من على بن الحسن فمر به علي وقد وقف عند دار مروان، وكان علي قد تقدم إلى خاصته الا يعرض له أحد منهم بكلمة، فلما مر ناداه هشام بن إسماعيل: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته.
. خبر صلح قتيبة ونيزك
وفي هذه السنة قدم نيزك على قتيبة، وصالح قتيبة اهل باذغيس على الا يدخلها قتيبة.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ: ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد أن أبا الحسن الجشمي أخبره عن أشياخ من أهل خراسان، وجبلة بن فروخ عن مُحَمَّد بن المثنى، أن نيزك طرخان كان في يديه أسراء من المسلمين، وكتب إليه قتيبة حين صالح ملك شومان فيمن في يديه من أسرى المسلمين أن يطلقهم، ويهدده في كتابه،
(6/428)
فخافه نيزك، فأطلق الأسرى، وبعث بهم إلى قتيبة، فوجه إليه قتيبة سليما الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه كتابا يحلف فيه بالله: لئن لم يقدم عليه ليغزونه، ثم ليطلبنه حيث كان، لا يقلع عنه حتى يظفر به أو يموت قبل ذلك فقدم سليم على نيزك بكتاب قتيبة- وكان يستنصحه- فقال له: يا سليم، ما أظن عند صاحبك خيرا، كتب إلي كتابا لا يكتب إلى مثلي! قال له سليم: يا أبا الهياج، إن هذا رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فما أحسن حالك عنده وعند جميع مضر! فقدم نيزك مع سليم على قتيبة، فصالحه أهل باذغيس في سنة سبع وثمانين على الا يدخل باذغيس.
خبر غزو مسلمه بن عبد الملك ارض الروم
وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة.
قال الواقدي: فيها لاقى مسلمة ميمونا الجرجمانى ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة، فقتل منهم بشرا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا.
وقيل: إن الذي غزا الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك، ففتح الله على يديه حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل من المستعربة نحوا من ألف مقاتل، وسبى ذراريهم ونساءهم
. خبر غزو قتيبة بيكند
وفي هذه السنة غزا قتيبة بيكند.
ذكر الخبر عن غزوته هذه:
(6/429)
ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس، عن أبيه، عن حسين بن مجاهد الرازي وهارون بن عيسى، عن يونس ابن أبي إسحاق وغيرهم، أن قتيبة لما صالح نيزك أقام إلى وقت الغزو، ثم غزا في تلك السنة- سنة سبع وثمانين- بيكند، فسار من مرو واتى مرو الروذ، ثم أتى آمل! ثم مضى إلى زم فقطع النهر، وسار إلى بيكند- وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر، يقال لها مدينة التجار على رأس المفازة من بخارى- فلما نزل بعقوتهم استنصروا الصغد، واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطريق، فلم ينفذ لقتيبة رسول، ولم يصل إليه رسول، ولم يجر له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأشفق الحجاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار وهم يقتتلون في كل يوم.
قال: وكان لقتيبة عين يقال له تنذر من العجم، فأعطاه أهل بخارى الأعلى مالا على أن يفثأ عنهم قتيبة، فأتاه، فقال: أخلني، فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبي، فقال تنذر:
هذا عامل يقدم عليك، وقد عزل الحجاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو! فدعا قتيبة سياه مولاه، فقال: اضرب عنق تنذر، فقتله، ثم قال لضرار: لم يبق أحد يعلم هذا الخبر غيري وغيرك، وإني أعطي الله عهدا إن ظهر هذا الحديث من أحد حتى تنقضي حربنا هذه لألحقنك به، فاملك لسانك، فإن انتشار هذا الحديث يفت في أعضاد الناس.
ثم أذن للناس.
قال: فدخلوا، فراعهم قتل تنذر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة:
ما يروعكم من قتل عبد أحانه الله! قالوا: إنا كنا نظنه ناصحا للمسلمين، قال: بل كان غاشا فأحانه الله بذنبه، فقد مضى لسبيله، فاغدوا على
(6/430)
قتال عدوكم، والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به فغدا الناس متأهبين، وأخذوا مصافهم، ومشى قتيبة فحض أهل الرايات، فكانت بين الناس مشاولة، ثم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مأخذها، وأنزل الله على المسلمين الصبر، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزموا يريدون المدينة، وأتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا كيف شاءوا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة، وهم قليل، فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من بني قتيبة.
وارتحل عنهم يريد الرجوع، فلما سار مرحلة أو ثنتين، وكان منهم على خمسة فراسخ نقضوا وكفروا، فقتلوا العامل وأصحابه، وجدعوا آنُفَهم وآذانهم، وبلغ قتيبة فرجع إليهم، وقد تحصنوا، فقاتلهم شهرا، ثم وضع الفعلة في أصل المدينة فعلقوها بالخشب، وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فتنهدم، فسقط الحائط وهم يعلقونه، فقتل أربعين من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى وقاتلهم، فظفر بهم عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا أفدي نفسي، فقال له سليم الناصح: ما تبذل؟ قال: خمسة آلاف حريرة صينية قيمتها ألف ألف، فقال قتيبة: ما ترون؟ قالوا: نرى ان فداءه زيادة في غنائم المسلمين، وما عسى أن يبلغ من كيد هذا! قال: لا والله لا تروع بك مسلمة أبدا، وأمر به فقتل.
قال علي: قال أبو الذيال، عن المهلب بن اياس، عن ابيه، والحسن ابن رشيد، عن طفيل بن مرداس، إن قتيبة لما فتح بيكند أصابوا فيها من آنية الذهب والفضة ما لا يحصى، فولى الغنائم والقسم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني ملكان- وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين- وإياس بن
(6/431)
بيهس الباهلي، فأذابا الآنية والأصنام فرفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفا، فأعلماه فرجع فيه وأمرهما أن يذيباه فأذاباه، فخرج منه خمسون ومائة ألف مثقال- أو خمسون ألف مثقال- وأصابوا في بيكند شيئا كثيرا، وصار في أيدي المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان ورجع قتيبة إلى مرو، وقوي المسلمون، فاشتروا السلاح والخيل، وجلبت إليهم الدواب، وتنافسوا في حسن الهيئة والعدة، وغالوا بالسلاح حتى بلغ الرمح سبعين، وقال الكميت:
ويوم بيكند لا تحصى عجائبه ... وما بخاراء مما أخطأ العدد
وكان في الخزائن سلاح وآلة من آلة الحرب كثيرة، فكتب قتيبة إلى الحجاج يستأذنه في دفع ذلك السلاح إلى الجند، فأذن له، فأخرجوا ما كان في الخزائن من عدة الحرب وآلة السفر، فقسمه في الناس، فاستعدوا، فلما كان أيام الربيع ندب الناس وقال: إني أغزيكم قبل أن تحتاجوا إلى حمل الزاد، وأنتقلكم قبل أن تحتاجوا إلى الأدفاء، فسار في عدة حسنة من الدواب والسلاح، فأتى آمل، ثم عبر من زم إلى بخارى، فأتى نومشكث- وهي من بخارى- فصالحوه.
قال علي: حدثنا أبو الذيال، عن أشياخ من بني عدي، ان مسلما الباهلى قال لو الان: إن عندي مالا أحب أن أستودعكه، قال: أتريد أن يكون مكتوما أو لا تكره ان يعلمه الناس؟ قال: أحب أن تكتمه، قال: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا، ومره إذا رأى رجلا في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف، قال: نعم، فجعل مسلم المال في خرج، ثم حمله على بغل وقال لمولى له: انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا وكذا، فإذا رأيت رجلا جالسا فخل عن البغل وانصرف فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده،
(6/432)
فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظن أنه قد بدا له، فانصرف، وجاء رجل من بني تغلب فجلس في ذلك الموضع، وجاء مولى مسلم فرأى الرجل جالسا، فخلى عن البغل ورجع، فقام التغلبي إلى البغل، فلما رأى المال ولم ير مع البغل أحدا قاد البغل إلى منزله، فأخذ البغل وأخذ المال، فظن مسلم أن المال قد صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال: ما قبضت شيئا، ولا لك عندي مال.
قال: فكان مسلم يشكوه ويتنقصه قال: فأتى يوما مجلس بني ضبيعة فشكاه والتغلبي جالس، فقام إليه فخلا به وسأله عن المال، فأخبره، فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: والخاتم؟ قال: نعم، قال: اقبض مالك، وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل التي كان يشكو إليهم وألان فيعذره ويخبرهم الخبر، وفي والان يقول الشاعر:
لست كوألان الذي ساد بالتقى ... ولست كعمران ولا كالمهلب
وعمران: ابن الفصيل البرجمي.
وحج بالناس في هذه السنة- فيما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر- عمر بن عبد العزيز، وهو أمير على المدينة.
وكان على قضاء المدينة في هذه السنة أبو بكر بن عمرو بن حزم من قبل عمر بن عبد العزيز.
وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وخليفته على البصرة في هذه السنة- فيما قيل- الجراح بن عبد الله الحكمي وعلى قضائها عبد الله ابن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم
(6/433)
ثم دخلت
سنة ثمان وثمانين
(ذكر ما كان فيها من الاحداث)
خبر فتح حصن طوانه من بلاد الروم
فمن ذلك ما كان من فتح الله على المسلمين حصنا من حصون الروم يدعى طوانة في جمادى الآخرة، وشتوا بها، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد بن عبد الملك.
فذكر مُحَمَّد بن عمر الواقدي أن ثور بن يزيد حدثه عن أصحابه قال:
كان فتح طوانة على يدي مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد، وهزم المسلمون العدو يومئذ هزيمة صاروا إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس حتى ظنوا ألا يجتبروها أبدا، وبقي العباس معه نفير، منهم ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك، فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعا، فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة.
وكان الوليد بن عبد الملك ضرب البعث على أهل المدينة في هذه السنة فذكر مُحَمَّد بن عمر، عن أبيه، أن مخرمة بن سليمان الوالبي قال:
ضرب عليهم بعث ألفين وأنهم تجاعلوا فخرج الف وخمسمائة، وتخلف خمسمائة، فغزوا الصائفة مع مسلمة والعباس، وهما على الجيش وأنهم شتوا بطوانة وافتتحوها.
وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
(6/434)
ذكر عماره مسجد النبي ص
وفيها أمر الوليد بن عبد الملك بهدم مسجد رسول الله ص وهدم بيوت ازواج رسول الله ص وإدخالها في المسجد، فذكر مُحَمَّد بن عمر، أن مُحَمَّد بن جعفر بن وردان البناء قال: رأيت الرسول الذي بعثه الوليد بن عبد الملك قدم في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين، قدم معتجرا، فقال الناس: ما قدم به الرسول! فدخل على عمر بن عبد العزيز بكتاب الوليد يأمره بإدخال حجر ازواج رسول الله ص في مسجد رسول الله، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فمر أهل المصر فليقوموا له قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع إليهم الأثمان، فإن لك في ذلك سلف صدق، عمر وعثمان فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده، فأجاب القوم إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذ في هدم بيوت أزواج النبي ص وبناء المسجد، فلم يمكث إلا يسيرا حتى قدم الفعلة، بعث بهم الوليد.
قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمه، قال:
رأيت عمر بن عبد العزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس: القاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، يرونه أعلاما في المسجد ويقدرونه، فأسسوا أساسه.
قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني يحيى بن النعمان الغفاري، عن صالح بن كيسان، قال: لما جاء كتاب الوليد من دمشق وسار خمس عشرة بهدم المسجد، تجرد عمر بن عبد العزيز قال صالح: فاستعملني على هدمه وبنائه، فهدمناه بعمال المدينة، فبدانا بهدم بيوت ازواج النبي ص حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد
(6/435)
قال مُحَمَّد: وحدثني موسى بن أبي بكر، عن صالح بن كيسان، قال: ابتدأنا بهدم مسجد رسول الله ص في صفر من سنة ثمان وثمانين، وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله ص، وأن يعينه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، وبعث إليه بمائة عامل، وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين حملا، وأمر أن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت، فبعث بها إلى الوليد، فبعث بذلك الوليد إلى عمر بن عبد العزيز.
وفي هذه السنة ابتدأ عمر بن عبد العزيز في بناء المسجد.
وفيها غزا أيضا مسلمة الروم، ففتح على يديه حصون ثلاثة:
حصن قسطنطينه، وغزالة، وحصن الأخرم وقتل من المستعربة نحو من ألف مع سبي الذرية وأخذ الأموال
. ذكر غزو قتيبة نومشكث وراميثنه
وفي هذه السنة غزا قتيبة نومشكث وراميثنة.
ذكر الخبر عما كان من خبر غزوته هذه:
ذكر علي بن مُحَمَّد، أن المفضل بن مُحَمَّد، أخبره عن أبيه ومصعب بن حيان، عن مولى لهم أدرك ذلك، أن قتيبة غزا نومشكث في سنة ثمان وثمانين، واستخلف على مرو بشار بن مسلم، فتلقاه أهلها، فصالحهم، ثم صار إلى راميثنة فصالحه أهلها، فانصرف عنهم وزحف إليه الترك، معهم السغد وأهل فرغانة، فاعترضوا المسلمين في طريقهم، فلحقوا عبد الرحمن ابن مسلم الباهلي وهو على الساقة، بينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل رسولا إلى قتيبة بخبره، وغشيه الترك فقاتلوه، وأتى الرسول قتيبة فرجع بالناس، فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتلهم، وقد كاد
(6/436)
الترك يستعملونهم، فلما رأى الناس قتيبة طابت أنفسهم فصبروا، وقاتلوهم إلى الظهر، وأبلى يومئذ نيزك وهو مع قتيبة، فهزم الله الترك، وفض جمعهم، ورجع قتيبة يريد مرو، وقطع النهر من الترمذ يريد بلخ، ثم أتى مرو وقال الباهليون: لقى الترك المسلمين عليهم كور مغانون التركي ابن أخت ملك الصين في مائتي الف، فأظهر الله المسلمين عليهم
. ذكر ما عمل الوليد من المعروف
وفي هذه السنة كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في البلدان.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي ابن أبي سبرة، قال: حدثني صالح بن كيسان، قال: كتب الوليد إلى عمر في تسهيل الثنايا وحفر الآبار بالمدينة، وخرجت كتبه إلى البلدان بذلك، وكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله بذلك قال: وحبس المجذمين عن أن يخرجوا على الناس، وأجرى عليهم أرزاقا، وكانت تجري عليهم.
وقال ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: كتب الوليد إلى عمر ابن عبد العزيز أن يعمل الفوارة التي عند دار يزيد بن عبد الملك اليوم، فعملها عمر وأجرى ماءها، فلما حج الوليد وقف عليها، فنظر إلى بيت الماء والفوارة، فأعجبته، وأمر لها بقوام يقومون عليها، وأن يسقى أهل المسجد منها، ففعل ذلك.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز في رواية مُحَمَّد بن عمر.
ذكر أن مُحَمَّد بن عبد الله بن جبير- مولى لبني العباس- حدثه عن صالح بن كيسان، قال: خرج عمر بن عبد العزيز تلك السنة- يعني سنة ثمان وثمانين- بعدة من قريش، أرسل إليهم بصلات وظهر للحمولة، وأحرموا معه من ذي الحليفة، وساق معه بدنا، فلما كان بالتنعيم لقيهم نفر
(6/437)
من قريش، منهم ابن أبي مليكة وغيره، فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش، وذلك أن المطر قل، فقال عمر: فالمطلب هاهنا بين، تعالوا ندع الله قال: فرأيتهم دعوا ودعا معهم، فألحوا في الدعاء قال صالح: فلا والله إن وصلنا إلى البيت ذلك اليوم إلا مع المطر حتى كان مع الليل، وسكبت السماء، وجاء سيل الوادي، فجاء أمر خافه أهل مكة، ومطرت عرفة ومنى وجمع، فما كانت إلا عبرا، قال: ونبتت مكة تلك السنة للخصب.
وأما أبو معشر فإنه قال: حج بالناس سنة ثمان وثمانين عمر بن الوليد ابن عبد الملك، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى عنه.
وكانت العمال على الأمصار في هذه السنة العمال الذين ذكرنا أنهم كانوا عمالها في سنة سبع وثمانين.
(6/438)
ثم دخلت
سنة تسع وثمانين
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)
خبر غزو مسلمه ارض الروم
فمن ذلك افتتاح المسلمين في هذه السنة حصن سورية، وعلى الجيش مسلمة بن عبد الملك، زعم الواقدي أن مسلمة غزا في هذه السنة أرض الروم، ومعه العباس بن الوليد ودخلاها جميعا ثم تفرقا، فافتتح مسلمة حصن سوريه، وافتتح العباس اذروليه، ووافق من الروم جمعا فهزمهم.
وأما غير الواقدي فإنه قال: قصد مسلمة عمورية فوافق بها للروم جمعا كثيرا، فهزمهم الله، وافتتح هرقلة وقمودية وغزا العباس الصائفة من ناحية البدندون.
خبر غزو قتيبة بخارى
وفي هذه السنة غزا قتيبة بخارى، ففتح راميثنة ذكر علي بن مُحَمَّد عن الباهليين أنهم قالوا ذلك، وأن قتيبة رجع بعد ما فتحها في طريق بلخ، فلما كان بالفارياب أتاه كتاب الحجاج: أن رد وردان خذاه.
فرجع قتيبة سنة تسع وثمانين، فأتى زم، فقطع النهر، فلقيه السغد وأهل كس ونسف في طريق المفازة، فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السفلى عن يمين وردان، فلقوه بجمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين، ثم أعطاه الله الظفر عليهم، فقال نهار بن توسعة:
وباتت لهم منا بخرقان ليلة ... وليلتنا كانت بخرقان أطولا
قال علي: أخبرنا أبو الذيال، عن المهلب بن إياس وأبو العلاء، عن
(6/439)
إدريس بن حنظلة، أن قتيبة غزا وردان حذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين فلم يطقه، ولم يظفر من البلد بشيء، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج: أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج: أن ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله مما كان منك، وأتها من مكان كذا.
وكذا وقيل: كتب إليه الحجاج ان كس بكس وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعني من بنيات الطريق.
خبر ولايه خالد القسرى على مكة
وفي هذه السنة ولي خالد بن عبد الله القسري مكة فيما زعم الواقدي، وذكر أن عمر بن صالح حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول على منبر مكة وهو يخطب:
أيها الناس، أيهما أعظم؟ أخليفة الرجل على أهله، أم رسوله إليهم؟
والله لو لم تعلموا فضل الخليفة، ألا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه ملحا أجاجا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا، بئرا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين- ثنية طوى وثنية الحجون- فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم.
قال: ثم غارت البئر فذهبت فلا يدرى أين هي اليوم
(6/440)
وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هنالك.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، حدثني بذلك احمد ابن ثَابِت، عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن ابى معشر.
وكال العمال في هذه السنة على الأمصار العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.
(6/441)
ثم دخلت
سنة تسعين
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) ففي هذه السنة غزا مسلمة أرض الروم- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر- من ناحية سورية، ففتح الحصون الخمسة التي بسورية وغزا فيها العباس بن الوليد، قال بعضهم: حتى بلغ الأرزن، وقال بعضهم: حتى بلغ سورية وقال مُحَمَّد بن عمر: قول من قال: حتى بلغ سورية أصح.
وفيها قتل مُحَمَّد بن القاسم الثقفى داهر بن صصة ملك السند، وهو على جيش من قبل الحجاج بن يوسف.
وفيها استعمل الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك.
وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك.
خبر فتح بخارى
وفيها فتح قتيبة بخارى، وهزم جموع العدو بها.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس، وأبو العلاء، عن إدريس بن حنظلة، أن كتاب الحجاج لما ورد على قتيبة يأمره بالتوبة مما كان، من انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى قبل الظفر به والمصير إليه، ويعرفه الموضع الذي ينبغي له أن يأتي بلده منه، خرج قتيبة إلى بخارى في سنة تسعين غازيا، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم
(6/442)
يستنصرونهم، فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة فحصرهم، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم ليقاتلوهم، فقالت الأزد: اجعلونا على حدة، وخلوا بيننا وبين قتالهم فقال قتيبة: تقدموا، فتقدموا يقاتلونهم وقتيبة جالس، عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا مليا، ثم جال المسلمون، وركبهم المشركون فحطموهم حتى دخلوا في عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، وانطوت مجنبتا المسلمين على الترك، فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم لنا عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد، والأحياء كلها وقوف.
فمشى قتيبة إلى بني تميم، فقال: يا بني تميم، إنكم أنتم بمنزلة الحطمية، فيوم كأيامكم، أبي لكم الفداء! قال: فأخذ وكيع اللواء بيده، وقال:
يا بني تميم، أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف- وهريم بن أبي طحمة المجاشعي على خيل بني تميم ووكيع رأسهم، والناس وقوف- فأحجموا جميعا، فقال وكيع: يا هريم، قدم، ودفع إليه الراية، وقال:
قدم خيلك فتقدم هريم، ودب وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدو فوقف، فقال له وكيع: اقحم يا هريم، قال: فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصئول وقال: أنا أقحم خيلي هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها! والله انك لاحمق، قال: يا بن اللخناء، ألا أراك ترد أمري! وحذفه بعمود كان معه، فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال:
ما بعد هذا أشد من هذا، وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب، فقنطر النهر وقال لأصحابه: من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه، فما عبر معه إلا ثمانمائه
(6/443)
راجل، فدب فيهم حتى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا حتى دنا من العدو، فجعل الخيل مجنبتين، وقال لهريم: إني مطاعن القوم، فاشغلهم عنا بالخيل، وقال للناس: شدوا، فحملوا فما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم خيله عليهم فطاعنوهم بالرماح، فما كفوا عنهم حتى حدروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة: أما ترون العدو منهزمين! فما عبر أحد ذلك النهر حتى ولى العدو منهزمين، فأتبعهم الناس، ونادى قتيبة: من جاء برأس فله مائة.
قال: فزعم موسى بن المتوكل القريعي، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بني قريع، كل رجل يجيء برأس، فيقال له: من أنت؟
يقول: قريعي قال: فجاء رجل من الأزد برأس فألقاه، فقالوا له: من أنت؟ قال: قريعي، قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال: كذب والله أصلحك الله! إنه لابن عمي، فقال له قتيبة: ويحك! ما دعاك إلى هذا؟
قال: رايت كل من جاء قريعي: فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس أن يقول: قريعي قال: فضحك قتيبة.
قال: وجرح يومئذ خاقان وابنه، ورجع قتيبة إلى مرو، وكتب إلى الحجاج: أني بعثت عبد الرحمن بن مسلم، ففتح الله على يديه.
قال: وقد كان شهد الفتح مولى للحجاج، فقدم فأخبره الخبر، فغضب الحجاج على قتيبة، فاغتم لذلك، فقال له الناس ابعث وفدا من بني تميم وأعطهم وأرضهم يخبروا الأمير أن الأمر على ما كتبت، فبعث رجالا فيهم عرام بن شتير الضبي، فلما قدموا على الحجاج صاح بهم وعاتبهم ودعا بالحجام بيده مقراض فقال: لأقطعن ألسنتكم أو لتصدقنني، قالوا:
الأمير قتيبة، وبعث عليهم عبد الرحمن، فالفتح للأمير والرأس الذي يكون على الناس، وكلمه بهذا عرام بن شتير، فسكن الحجاج
(6/444)
خبر صلح قتيبة مع السغد
وفي هذه السنة جدد قتيبة الصلح بينه وبين طرخون ملك السغد.
ذكر الخبر عن ذلك:
قال علي: ذكر أبو السري عن الجهم الباهلي، قال: لما أوقع قتيبة بأهل بخارى ففض جمعهم هابه أهل السغد، فرجع طرخون ملك السغد ومعه فارسان حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة، وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلمه، فأمر قتيبة رجلا فدنا منه.
وأما الباهليون فيقولون: نادى طرخون حيان النبطي فأتاه، فسألهم الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، وأخذ منه رهنا حتى يبعث إليه بما صالحه عليه، وانصرف طرخون الى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك.
غدر نيزك
وفي هذه السنة غدر نيزك، فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين وامتنع بقلعته، وعاد حربا، فغزاه قتيبة.
ذكر الخبر عن سبب غدره وسبب الظفر به:
قال علي: ذكر أبو الذيال، عن المهلب بن إياس والمفضل الضبي، عن أبيه، وعلي بن مجاهد وكليب بن خلف العمي، كل قد ذكر شيئا فألفته، وذكر الباهليون شيئا فألحقته في خبر هؤلاء وألفته، أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعره ما قد رأى من الفتوح، وخاف قتيبة، فقال: لأصحابه وخاصته: متهم أنا مع هذا، ولست آمنه، وذلك أن العربي بمنزلة الكلب، إذا ضربته نبح، وإذا أطعمته بصبص واتبعك، وإذا غزوته ثم أعطيته شيئا رضي، ونسي ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلما أعطاه فدية قبلها ورضي، وهو شديد السطوة فاجر
(6/445)
فلو استأذنت ورجعت كان الرأي، قالوا: استأذنه فلما كان قتيبة بآمل استأذنه في الرجوع الى تخارستان، فأذن له، فلما فارق عسكره متوجها إلى بلخ قال لأصحابه: أغذوا السير، فساروا سيرا شديدا حتى أتوا النوبهار، فنزل يصلي فيه وتبرك به وقال لأصحابه: إني لا أشك أن قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي، فأقيموا ربيئة تنظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنه لا يبلغ البروقان حتى نبلغ تخارستان، فيبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتى ندخل شعب خلم، ففعلوا.
قال: وأقبل رسول من قبل قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك فلما مر الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان- ومدينة بلخ يومئذ خراب- ركب نيزك وأصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة فركب بنفسه في طلبه، فوجده قد دخل شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذام ملك مروروذ، وإلى سهرب ملك الطالقان، وإلى ترسل ملك الفارياب، وإلى الجوزجاني ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة.
وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله.
وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه ويؤمنه في بلاده، فأجابه إلى ذلك وضم ثقله قال: وكان جبغويه ملك تخارستان ضعيفا، واسمه الشذ، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب مخافه ان يشغب عليه- وجبغويه ملك تخارستان ونيزك من عبيده- فلما استوثق منه وضع عليه الرقباء، وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه، وكان العامل مُحَمَّد بن سليم الناصح، وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء، وقد تفرق الجند فلم يبق مع قتيبة إلا أهل مرو، فبعث عبد الرحمن أخاه إلى بلخ في اثني عشر ألفا إلى البروقان، وقال: أقم بها،
(6/446)
ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو تخارستان، واعلم أني قريب منك، فسار عبد الرحمن فنزل البروقان، وأمهل قتيبة حتى إذا كان في آخر الشتاء كتب إلى أبرشهر وبيورد وسرخس واهل هراة ليقدموا قبل أوانهم الذي كانوا يقدمون عليه فيه.
خبر فتح الطالقان
وفي هذه السنة، أوقع قتيبة بأهل الطالقان بخراسان- فيما قال بعض أهل الأخبار- فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد.
ذكر الخبر عن سبب ذلك:
وكان السبب في ذلك- فيما ذكر- أن نيزك طرخان لما غدر وخلع قتيبة وعزم على حربه، طابقه على حربه ملك الطالقان، وواعده المصير اليه من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة، فلما هرب نيزك من قتيبة ودخل شعب خلم الذي يأخذ إلى طخارستان علم أنه لا طاقة له بقتيبة، فهرب، وسار قتيبة إلى الطالقان فأوقع بأهلها، ففعل ما ذكرت فيما قبل.
وقد خولف قائل هذا القول فيما قال من ذلك، وأنا ذاكره في أحداث سنة إحدى وتسعين.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، كذلك حدثنى احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ محمد بْن عمر.
وكان عمر بن عبد العزيز في هذه السنة عامل الوليد بن عبد الملك على مكة والمدينة والطائف وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله بن وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى.
وعلى خراسان قتيبة بن مسلم وعلى مصر قره بن قره بن شريك.
(6/447)
هرب يزيد بن المهلب واخوته من سجن الحجاج
وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه في السجن مع آخرين غيرهم، فلحقوا بسُلَيْمَان بن عبد الملك مستجيرين به من الحجاج ابن يوسف، والوليد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن سبب تخلصهم من سجن الحجاج ومسيرهم إلى سُلَيْمَان:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن ابى المخارق الراسبى، قال:
الحجاج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباذ، فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبا من حجرته، وجعل عليهم حرسا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرا حسنا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رمي بنشابة فثبت نصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه، فلما فعل ذلك به صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت، فطلقها ثم إنه كف عنهم، وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهم يعملون في التخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل، ويري الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع، ويغلي بها لئلا تشترى فتكون لنا عدة إن نحن قدرنا على ان ننجو مما هاهنا ففعل ذلك مروان، وحبيب بالبصرة يعذب أيضا، وأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعام كثير فأكلوا، وأمر بشراب فسقوا، فكانوا متشاغلين به، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحيه
(6/448)
بيضاء، وخرج فرآه بعض الحرس فقال: كأن هذه مشية يزيد! فجاء حتى استعرض وجهه ليلا، فرأى بياض اللحية، فانصرف عنه، فقال: هذا شيخ وخرج المفضل على أثره، ولم يفطن له، فجاءوا إلى سفنهم وقد هيئوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخا، فلما انتهوا إلى السفن أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فإنه لاحق، فقال المفضل- وعبد الملك أخوه لأمه- وهي بهلة، هندية:
لا والله، لا أبرح حتى يجيء ولو رجعت إلى السجن فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا عند ذلك السفن، فساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، وقال الفرزدق في خروجهم:
فلم أر كالرهط الذين تتابعوا ... على الجذع والحراس غير نيام
مضوا وهم مستيقنون بأنهم ... إلى قدر آجالهم وحمام
وإن منهمُ إلا يسكّن جأشه ... بعضب صقيل صارم وحسام
فلما التقوا لم يلتقوا بمنفه ... كبير ولا رخص العظام غلام
بمثل أبيهم حين تمت لداتهم ... لخمسين قل في جرأة وتمام
ففزع له الحجاج، وذهب وهمه أنهم ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدوهم، ويستعدوا لهم، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان ولم يزل الحجاج يظن بيزيد ما صنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث.
ولما دنا يزيد من البطائح، من موقوع استقبلته الخيل قد هيئت له ولإخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل لهم من كلب يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن الربعة، فأخذ بهم على السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين، فقيل
(6/449)
له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم موجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه ذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي- وكان كريما على سُلَيْمَان- وأنزل بعض ثقله وأهله على سفيان بن سُلَيْمَان الأزدي، وجاء وهيب بن عبد الرحمن حتى دخل على سُلَيْمَان، فقال: هذا يزيد بن المهلب، وإخوته في منزلي، وقد أتوك هرابا من الحجاج متعوذين بك، قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبدا وأنا حي فجاء بهم حتى أدخلهم عليه، فكانوا في مكان آمن، وقال الكلبي دليلهم في مسيرهم:
ألا جعل الله الأخلاء كلهم ... فداء على ما كان لابن المهلب
لنعم الفتى يا معشر الأزد أسعفت ... ركابكمُ بالوهب شرقي منقب
عدلن يمينا عنهمُ رمل عالج ... وذات يمين القوم أعلام غرب
فإلا تصبح بعد خمس ركابنا ... سُلَيْمَان من أهل اللوى تتأوب
تقر قرار الشمس مما وراءنا ... وتذهب في داج من الليل غيهب
بقوم همُ كانوا الملوك هديتهم ... بظلماء لم يبصر بها ضوء كوكب
ولا قمر إلا ضئيلا كأنه ... سوار حناه صائغ السور مذهب
قال هشام: فأخبرني الحسن بن ابان العليمي، قال: بينا عبد الجبار ابن يزيد بن الربعة يسري بهم فسقطت عمامة يزيد، ففقدها فقال:
يا عبد الجبار، ارجع فاطلبها لنا، قال: إن مثلي لا يؤمر بهذا، فأعاد، فأبى، فتناوله بالسوط، فانتسب له، فاستحيا منه، فذلك قوله:
ألا جعل الله الأخلاء كلهم ... فداء على ما كان لابن المهلب
(6/450)
وكتب الحجاج: أن آل المهلب خانوا مال الله وهربوا مني ولحقوا بسُلَيْمَان، وكان آل المهلب قدموا على سُلَيْمَان، وقد أمر الناس أن يحصلوا ليسرحوا إلى خراسان، لا يرون إلا أن يزيد توجه إلى خراسان ليفتن من بها فلما بلغ الوليد مكانه عند سُلَيْمَان هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضبا للمال الذي ذهب به وكتب سُلَيْمَان إلى الوليد: أن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف، فهي علي فكتب إليه: لا والله لا اؤمنه حتى تبعث به إلي فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله ان تفضحني ولا ان تخفرني فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أومنه فقال يزيد: ابعثني اليه، فو الله ما أحب أوقع بينك وبينه عداوة وحربا، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، ابعث إليه بي، وأرسل معي ابنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه فأرسل ابنه أيوب معه وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعث به إليه، وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة ثم ادخلا جميعا على الوليد، ففعل ذلك به حين انتهيا إلى الوليد، فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة، قال: والله لقد بلغنا من سُلَيْمَان! ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك! لا تخفر ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك وقرأ الكتاب:
لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سُلَيْمَان بن عبد الملك اما بعد يا امير المؤمنين، فو الله إن كنت لأظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته وأجرته أنك لا تذل جارى، ولا تخفر جواري، بله لم أجر إلا سامعا مطيعا حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تغزو قطيعتي والإخفار لذمتي، والإبلاغ في مساءتي، فقد
(6/451)
قدرت إن أنت فعلت وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي، وانتهاك حرمتي وترك بري وصلتي، فو الله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك! فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره الا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل، ولحقي مؤد، وعن مساءتي نازع، فليفعل.
والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله فيها بأسر مني برضاك وسرورك وإن رضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يوما من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي.
فلما قرأ كتابه، قال: لقد شققنا على سُلَيْمَان! ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه وتكلم يزيد فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى عَلَى نبيه ص ثم قال:
يا أمير المؤمنين، إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينس ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيها عظيمة.
فقال له: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سُلَيْمَان وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج:
أني لم أصل إلى يزيد وأهل بيته مع سُلَيْمَان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب إلي فيهم.
فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف درهم، فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب.
ورجع يزيد إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك فأقام عنده يعلمه الهيئة، ويصنع له طيب الأطعمة، ويهدي له الهدايا العظام وكان من أحسن الناس عنده منزلة، وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سُلَيْمَان، ولا تأتي سُلَيْمَان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب،
(6/452)
وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد إلا خطيئة الجارية فبلغ ذلك الوليد بن عبد الملك، فدعا الحارث بن مالك بن ربيعة الأشعري، فقال:
انطلق إلى سُلَيْمَان فقل له: يا خالفة أهل بيته، إن أمير المؤمنين قد بلغه أنه لا تأتيك هدية ولا فائدة إلا بعثت إلى يزيد بنصفها، وأنك تأتي الجارية من جواريك فلا ينقضي طهرها حتى تبعث بها إلى يزيد، وقبح ذلك عليه، وعيره به، أتراك مبلغا ما أمرتك به؟ قال: طاعتك طاعة، وإنما أنا رسول، قال: فأته فقل له ذلك، وأقم عنده، فإني باعث إليه بهدية فادفعها إليه، وخذ منه البراءة بما تدفع إليه ثم أقبل فمضى حتى قدم عليه وبين يديه المصحف، وهو يقرأ، فدخل عليه فسلم، فلم يرد ع حتى فرغ من قراءته، ثم رفع رأسه إليه فكلمه بكل شيء أمره به الوليد، فتمعر وجهه، ثم قال: أما والله لئن قدرت عليك يوما من الدهر لأقطعن منك طابقا! فقال له: إنما كانت علي الطاعة ثم خرج من عنده فلما أتى بذلك الذي بعث به الوليد إلى سُلَيْمَان دخل عليه الحارث بن ربيعة الأشعري وقال له: أعطني البراءة بهذا الذي دفعت إليك، فقال: كيف قلت لي؟ قال: لا اعيده عالما أبدا، إنما كان علي فيه الطاعة فسكن، وعلم أن قد صدقه الرجل، ثم خرج وخرجوا معه، فقال: خذوا نصف هذه الأعدال وهذه الأسفاط وابعثوا بها إلى يزيد قال: فعلم الرجل أنه لا يطيع في يزيد أحدا، ومكث يزيد بن المهلب عند سُلَيْمَان تسعة أشهر وتوفي الحجاج سنة خمس وتسعين في رمضان لتسع بقين منه في يوم الجمعه.
(6/453)
ثم دخلت
سنة إحدى وتسعين
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها غزا- فيما ذكر مُحَمَّد بن عمر وغيره- الصائفة عبد العزيز بن الوليد، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك وفيها غزا أيضا مسلمة الترك، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح على يديه مدائن وحصون وفيها غزا موسى بن نصير الاندلس، ففتح على يديه أيضا مدائن وحصون وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم نيزك طرخان.
تتمه خبر قتيبة مع نيزك
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد وقصة نيزك وظفر قتيبة به حتى قتله ولما قدم من كان قتيبة كتب إليه.
يأمره بالقدوم عليه من أهل أبرشهر وبيورد وسرخس وهراة على قتيبة، سار بالناس إلى مروروذ واستخلف على الحرب حماد بن مسلم، وعلى الخراج عبد الله بن الأهتم.
وبلغ مرزبان مروروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس وقدم قتيبة مروروذ فأخذ ابنين له فقتلهما وصلبهما، ثم سار إلى الطالقان فقام صاحبها ولم يحاربه، فكف عنه، وفيها لصوص، فقتلهم قتيبة وصلبهم، واستعمل على الطالقان عمرو بن مسلم، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملك الفارياب مذعنا مقرا بطاعته، فرضي عنه، ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا من باهلة وبلغ صاحب الجوزجان خبرهم، فترك أرضه وخرج إلى الجبال هاربا، وسار قتيبة إلى الجوزجان فلقيه أهلها سامعين مطيعين،
(6/454)
فقبل منهم، فلم يقتل فيها أحدا، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني، ثم أتى بلخ فلقيه الأصبهبذ في أهل بلخ، فدخلها فلم يقم بها إلا يوما واحدا.
ثم مضى يتبع عبد الرحمن حتى أتى شعب خلم، وقد مضى نيزك فعسكر ببغلان، وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه يمنعونه، ووضع مقاتلة في قلعة حصينة من وراء الشعب، فأقام قتيبة أياما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر منهم على شيء، ولا يقدر على دخوله، وهو مضيق، الوادي يجرى وسطه، ولا يعرف طريقا يفضي به إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتمل العساكر، فبقي متلددا يلتمس الحيل.
قال: فهو في ذلك إذ قدم عليه الرؤب خان ملك الرؤب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي وراء هذا الشعب، فآمنه قتيبة، وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة والناس الشعب، فأتى القلعة ثم مضى إلى سمنجان ونيزك ببغلان بعين تدعى فنج جاه، وبين سمنجان وبغلان مفازة ليست بالشديدة قال: فأقام قتيبة بسمنجان أياما، ثم سار نيزك، وقدم أخاه عبد الرحمن، وبلغ نيزك فارتحل من منزله حتى قطع وادي فرغانة، ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن بن مسلم يتبعه، فنزل عبد الرحمن وأخذ بمضايق الكرز، ونزل قتيبة أسكيمشت بينه وبين عبد الرحمن فرسخان فتحرز نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد، وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدري وجدر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح، فقال: انطلق إلى نيزك
(6/455)
واحتل لأن تأتيني به بغير أمان، فإن أعياك وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل لنفسك قال: فاكتب لي إلى عبد الرحمن لا يخالفني، قال: نعم، فكتب له إلى عبد الرحمن فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالا فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب قال: فبعث عبد الرحمن خيلا فكانوا حيث أمرهم سليم، ومضى سليم وقد حمل معه من الأطعمة التي تبقى أياما والأخبصة أوقارا، حتى أتى نيزك، فقال له نيزك: خذلتني يا سليم، قال: ما خذلتك، ولكنك عصيتني وأسأت بنفسك، خلعت وغدرت، قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تأتيه فقد أمحكته، وليس ببارح موضعه هذا، قد اعتزم على أن يشتو بمكانه، هلك أو سلم، قال: آتيه على غير أمان! قال: ما أظنه يؤمنك لما في قلبه عليك، فإنك قد ملأته غيظا، ولكنى ارى الا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فانى أرجو ان فعلت ذاك ان يستحيى ويعفو عنك، قال:
أترى ذلك؟ قال: نعم، قال: إن نفسي لتأبى هذا، وهو إن رآني قتلني، فقال له سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وأن تعود حالك عنده إلى ما كانت، فأما إذ أبيت فإني منصرف قال: فنغديك إذا، قال: إني لأظنكم في شغل عن تهيئة الطعام، ومعنا طعام كثير.
قال: ودعا سليم بالغداء فجاءوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغم ذلك نيزك، وقال سليم: يا أبا الهياج، أنا لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار وأقمت على حالك لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق وأت قتيبة، قال:
ما كنت لآمنه على نفسي، ولا آتيه على غير أمان، فإن ظني به أنه
(6/456)
قاتلي وإن آمنني، ولكن الأمان أعذر لي وأرجى، قال: فقد آمنك أفتتهمني! قال: لا، قال: فانطلق معي، قال له أصحابه: اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلا حقا، فدعا بدوابه وخرج مع سليم، فلما انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض قال: يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإني أعلم متى أموت، أموت إذا عاينت قتيبة، قال: كلا أيقتلك مع الأمان! فركب ومضى معه جبغويه- وقد برا من الجدري- صول وعثمان ابنا أخي نيزك- صول طرخان خليفه جبغويه، وخنس طرخان صاحب شرطه- قال: فلما خرج من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم: هذا أول الشر، قال: لا تفعل، تخلف هؤلاء عنك خير لك وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم، فأرسل رسولا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن أبي مهزم إلى عبد الرحمن:
أن أقدم بهم علي، فقدم بهم عبد الرحمن عليه، فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسام الليثي، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك، فجعل ابن بسام نيزك في قبته، وحفر حول القبة خندقا، ووضع عليه حرسا ووجه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكرز من متاع ومن كان فيه، وقدم به على قتيبة، فحبسهم ينتظر كتاب الحجاج فيما كتب إليه، فأتاه كتاب الحجاج بعد اربعين يوما يأمره بقتل نيزك قال: فدعا به فقال: هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمن أو عند سليم؟ قال: لي عند سليم، قال: كذبت، وقام فدخل ورد نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيام لا يظهر للناس قال: فقام المهلب ابن اياس العدوى، وتكلم في أمر نيزك، فقال بعضهم: ما يحل له أن يقتله، وقال بعضهم: ما يحل له تركه، وكثرت الاقاويل فيه
(6/457)
وخرج قتيبة اليوم الرابع فجلس وأذن للناس، فقال: ما ترون في قتل نيزك؟
فاختلفوا، فقال قائل: اقتله، وقال قائل: أعطيته عهدا فلا تقتله، وقال قائل: ما نأمنه على المسلمين ودخل ضرار بن حصين الضبي فقال:
ما تقول يا ضرار؟ قال: أقول: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهدا إن أمكنك منه أن تقتله، فإن لم تفعل لا ينصرنك الله عليه أبدا فأطرق قتيبة طويلا، ثم قال: والله لو لم يبق من أجلي إلا ثلاث كلمات لقلت:
اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه، وأرسل إلى نيزك فأمر بقتله وأصحابه فقتل مع سبعمائة.
وأما الباهليون فيقولون: لم يؤمنه ولم يؤمنه سليم، فلما أراد قتله دعا به ودعا بسيف حنفي فانتضاه وطول كميه ثم ضرب عنقه بيده، وأمر عبد الرحمن فضرب عنق صول، وأمر صالحا فقتل عثمان- ويقال:
شقران ابن أخي نيزك- وقال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة: هل بك قوة؟ قال: نعم، واريد- وكانت في بكر أعرابية- فقال: دونك هؤلاء الدهاقين قال: وكان إذا أتي برجل ضرب عنقه وقال: أوردوا ولا تصدروا، فكان من قتل يومئذ اثنا عشر ألفا في قول الباهليين، وصلب نيزك وابنى أخيه في أصل عين تدعى وخش خاشان في أسكيمشت، فقال المغيرة بن حبناء يذكر ذلك في كلمة له طويلة:
لعمري لنعمت غزوة الجند غزوة ... قضت نحبها من نيزك وتعلت
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا مُصْعَب بن حيان، عن أبيه، قال: بعث قتيبة برأس نيزك مع محفن بن جزء الكلابي، وسوار بن زهدم الجرمي، فقال الحجاج: إن كان قتيبة لحقيقا أن يبعث برأس نيزك مع ولد مسلم، فقال سوار:
(6/458)
أقول لمحفن وجرى سنيح ... وآخر بارح من عن يميني
وقد جعلت بوائق من أمور ... ترفع حوله وتكف دوني
نشدتك هل يسرك ان سرجى ... وسرجك فوق ابغل باذيين
قال: فقال محفن: نعم وبالصين.
قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم، وعلي بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة دعا يوما بنيزك وهو محبوس، فقال: ما رأيك في السبل والشذ؟ أتراهما يأتيان إن أرسلت إليهما؟ قال: لا، قال: فأرسل إليهما قتيبة فقدما عليه، ودعا نيزك وجبغويه فدخلا، فإذا السبل، والشذ بين يديه على كرسيين، فجلسا بإزائهما، فقال الشذ لقتيبة: إن جبغويه- وإن كان لي عدوا- فهو أسن مني، وهو الملك وأنا كعبده، فأذن لي أدن منه، فأذن له، فدنا منه، فقبل يده وسجد له، قال: ثم استأذنه في السبل، فأذن له فدنا منه فقبل يده، فقال نيزك لقتيبة: ائذن لي أدن من الشذ، فإني عبده، فأذن له، فدنا منه فقبل يده، ثم أذن قتيبة للسبل والشذ فانصرفا إلى بلادهما، وضم إلى الشذ الحجاج القيني، وكان من وجوه أهل خراسان وقتل قتيبة نيزك، فأخذ الزبير مولى عابس الباهلي خفا لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالا وعقارا، من ذلك الجوهر الذي أصابه في خفه فسوغه إياه قتيبة، فلم يزل موسرا حتى هلك بكابل في ولاية ابى داود.
قال: واطلق قتيبة جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد ورجع قتيبة إلى مرو، واستعمل أخاه عبد الرحمن على بلخ، فكان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال ثابت قطنة:
لا تحسبن الغدر حزما فربما ... ترقت به الأقدام يوما فزلت
وقال: وكان الحجاج يقول: بعثت قتيبة فتى غرا فما زدته ذراعا إلا
(6/459)
زادني باعا.
قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم، عن أشياخ من أهل خراسان، وعلي بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة بن مسلم لما رجع إلى مرو وقتل نيزك طلب ملك الجوزجان- وكان قد هرب عن بلاده- فأرسل يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه فيصالحه، فطلب رهنا يكونون في يديه ويعطي رهائن، فأعطى قتيبة حبيب بن عبد الله بن عمرو بن حصين الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، فخلف ملك الجوزجان حبيبا بالجوزجان في بعض حصونه، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان.
فقال أهل الجوزجان سموه، فقتلوا حبيبا، وقتل قتيبة الرهن الذين كانوا عنده، فقال نهار بن توسعة لقتيبة:
أراك الله في الأتراك حكما ... كحكم في قريظة والنضير
قضاء من قتيبة غير جور ... به يشفى الغليل من الصدور
فإن ير نيزك خزيا وذلا ... فكم في الحرب حمق من أمير!
وقال المغيرة بن حبناء يمدح قتيبة ويذكر قتل نيزك وصول ابن أخي نيزك وعثمان- أو شقران:
لمن الديار عفت بسفح سنام ... إلا بقية أيصر وثمام
عصف الرياح ذيولها فمحونها ... وجرين فوق عراصها بتمام
دار لجارية كأن رضا بها ... مسك يشاب مزاجه بمدام
أبلغ أبا حفص قتيبة مدحتي ... واقرأ عليه تحيتي وسلامي
يا سيف أبلغها فإن ثناءها ... حسن وإنك شاهد لمقامي
يسمو فتتضع الرجال إذا سما ... لقتيبة الحامي حمى الإسلام
(6/460)
لأغر منتجب لكل عظيمة ... نحر يباح به العدو لهام
يمضي إذا هاب الجبان وأحمشت ... حرب تسعر نارها بضرام
تروى القناة مع اللواء أمامه ... تحت اللوامع والنحور دوام
والهام تفريه السيوف كأنه ... بالقاع حين تراه قيض نعام
وترى الجياد مع الجياد ضوامرا ... بفنائه لحوادث الأيام
وبهن أنزل نيزكا من شاهق ... والكرز حيث يروم كل مرام
وأخاه شقرانا سقيت بكأسه ... وسقيت كأسهما أخا باذام
وتركت صولا حين صال مجدلا ... يركبنه بدوابر وحوام
خبر غزو قتيبة شومان وكس ونسف
وفي هذه السنة- أعني سنة إحدى وتسعين- غزا قتيبة شومان وكس ونسف غزوته الثانية وصالح طوخان.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
قَالَ علي: أَخْبَرَنَا بشر بن عيسى عن أبي صفوان، وأبو السري وجبلة بن فروخ عن سُلَيْمَان بن مجالد، والحسن بن رشيد عن طفيل بن مرداس العمي، وأبو السري المروزي عن عمه، وبشر بن عيسى وعلى ابن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة عن مرزبان قهستان، وعياش ابن عبد الله الغنوي، عن أشياخ من أهل خراسان، قال: وحدثني ظئري- كل قد ذكر شيئا، فألفته، وأدخلت من حديث بعضهم في حديث بعض- أن فيلسنشب باذق- وقال بعضهم: قيسبشتان ملك شومان- طرد عامل قتيبة ومنع الفدية التي صالح عليها قتيبة، فبعث إليه قتيبة عياشا الغنوي ومعه رجل من نساك أهل خراسان يدعوان ملك شومان إلى أن يؤدي الفدية
(6/461)
على ما صالح عليه قتيبة، فقد ما البلد، فخرجوا إليهما فرموهما، فانصرف الرجل وأقام عياش الغنوي فقال: اما هاهنا مسلم! فخرج إليه رجل من المدينة فقال: أنا مسلم، فما تريد؟ قال: تعينني على جهادهم، قال:
نعم، فقال له عياش: كن خلفي لتمنع لي ظهري، فقام خلفه- وكان اسم الرجل المهلب- فقاتلهم عياش، فحمل عليهم، فتفرقوا عنه، وحمل المهلب على عياش من خلفه فقتله، فوجدوا به ستين جراحة، فغمهم قتله، وقالوا: قتلنا رجلا شجاعا.
وبلغ قتيبة، فسار إليهم بنفسه، وأخذ طريق بلخ، فلما أتاها قدم أخاه عبد الرحمن، واستعمل على بلخ عمرو بن مسلم، وكان ملك شومان صديقا لصالح بن مسلم، فأرسل إليه صالح رجلا يأمره بالطاعة، ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح، فأبى وقال لرسول صالح:
ما تخوفني به من قتيبة، وأنا أمنع الملوك حصنا أرمي أعلاه، وأنا أشد الناس قوسا وأشد الناس رميا، فلا تبلغ نشابتي نصف حصني، فما أخاف من قتيبة! فمضى قتيبة من بلخ فعبر النهر، ثم أتى شومان وقد تحصن ملكها فوضع عليه المجانيق، ورمى حصنه فهشمه، فلما خاف أن يظهر عليه، ورأى ما نزل به جمع ما كان له من مال وجوهر فرمى به في عين في وسط القلعة لا يدرك قعرها.
قال: ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم فقتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوة، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، ثم رجع إلى باب الحديد فأجاز منه إلى كس ونسف، وكتب إليه الحجاج، أن كس بكس وانسف نسف، وإياك والتحويط ففتح كس ونسف، وامتنع عليه فرياب فحرقها فسميت المحترقة وسرح قتيبة من كس ونسف أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السغد، إلى طرخون، فسار حتى نزل بمرج قريبا منهم، وذلك في وقت
(6/462)
العصر، فانتبذ الناس وشربوا حتى عبثوا وعاثوا وأفسدوا، فأمر عبد الرحمن أبا مرضية- مولى لهم- أن يمنع الناس من شرب العصير، فكان يضربهم ويكسر آنيتهم ويصب نبيذهم، فسال في الوادي، فسمي مرج النبيذ، فقال بعض شعرائهم:
أما النبيذ فلست أشربه ... أخشى أبا مرضيه الكلب
متعسفا يسعى بشكته ... يتوثب الحيطان للشرب
فقبض عبد الرحمن من طرخون شيئا كان قد صالحه عليه قتيبة، ودفع إليه رهنا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير فلا حاجة لنا بك قال: فولوا من أحببتم قال: فولوا غوزك، وحبسوا طرخون، فقال طرخون: ليس بعد سلب الملك إلا القتل، فيكون ذلك بيدي أحب إلي من أن يليه مني غيري، فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره قال: وإنما صنعوا بطرخون هذا حين خرج قتيبة إلى سجستان وولوا غوزك.
وأما الباهليون فيقولون: حصر قتيبة ملك شومان، ووضع على قلعته المجانيق، ووضع منجنيقا كان يسميها الفحجاء، فرمى بأول حجر فأصاب الحائط، ورمى بآخر فوقع في المدينة، ثم تتابعت الحجارة في المدينة فوقع حجر منها في مجلس الملك، فأصاب رجلا فقتله، ففتح القلعة عنوة، ثم رجع إلى كس ونسف، ثم مضى إلى بخارى فنزل قرية فيها بيت نار وبيت آلهة، وكان فيها طواويس، فسموه منزل الطواويس، ثم سار إلى طرخون بالسغد ليقبض منه ما كان صالحه عليه، فلما أشرف على وادي السغد فرأى حسنه تمثل:
(6/463)
واد خصيب عشيب ظل يمنعه ... من الأنيس حذار اليوم ذي الرهج
وردته بعنانيج مسومة ... يردين بالشعث سفاكين للمهج
قال: فقبض من طرخون صلحه، ثم رجع إلى بخارى فملك بخارى خذاه غلاما حدثا، وقتل من خاف أن يضاده، ثم أخذ على آمل ثم أتى مرو.
قال: وذكر الباهليون عن بشار بن عمرو، عن رجل من باهلة، قال:
لم يفرغ الناس من ضرب أبنيتهم حتى افتتحت القلعة
. ولايه خالد بن عبد الله القسرى على مكة
وفي هذه السنة ولى الوليد بن عبد الملك مكة خالد بن عبد الله القسري فلم يزل واليا عليها إلى أن مات الوليد فذكر مُحَمَّد بن عمر الواقدي أن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول:
يايها الناس، إنكم بأعظم بلاد الله حرمة، وهي التي اختار الله من البلدان، فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه من استطاع إليه سبيلا أيها الناس، فعليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات، فإني والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا، ولا تقولوا كيت وكيت إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قوما من أهل الخلاف يقدمون عليكم، ويقيمون في بلادكم، فإياكم أن تنزلوا أحدا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة والطاعة، فإن الفرقة هي البلاء العظيم.
قال مُحَمَّد بن عمرو: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
(6/464)
عن أبي حبيبة، قال: اعتمرت فنزلت دور بني أسد في منازل الزبير، فلم أشعر الا به يدعوني، فدخلت عليه، فقال: من أنت؟ قلت: من أهل المدينة، قال: ما أنزلك في منازل المخالف للطاعة! قلت: إنما مقامي أن أقمت يوما أو بعضه، ثم أرجع إلى منزلي وليس عندي خلاف، أنا ممن يعظم أمر الخلافة، وأزعم أن من جحدها فقد هلك قال: فلا عليك ما أقمت، إنما يكره أن يقيم من كان زاريا على الخليفة، قلت:
معاذ الله! وسمعته يوما يقول: والله لو أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم إنه لا يسكن حرم الله وأمنه مخالف للجماعة، زار عليهم قلت: وفق الله الأمير.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عبد الملك، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج الوليد بن عبد الملك سنة إحدى وتسعين.
وكذلك قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أبي بكر، قال: حدثنا صالح بن كيسان، قال: لما حضر قدوم الوليد أمر عمر بن عبد العزيز عشرين رجلا من قريش يخرجون معه، فيتلقون الوليد بن عبد الملك، منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الحارث بن هشام، وأخوه مُحَمَّد بن عبد الرحمن، وعبد اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فخرجوا حتى بلغوا السويداء، وهم مع عمر بن عبد العزيز- وفي الناس يومئذ دواب وخيل- فلقوا الوليد وهو على ظهر، فقال لهم الحاجب: انزلوا لأمير المؤمنين، فنزلوا، ثم أمرهم فركبوا، فدعا بعمر بن عبد العزيز فسايره حتى نزل بذي خشب، ثم أحضروا، فدعاهم رجلا رجلا، فسلموا عليه، ودعا بالغداء، فتغدوا عنده، وراح من ذي خشب، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، فأخرج الناس منه، فما ترك
(6/465)
فيه أحد، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه إلا ريطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له:
لو قمت! قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه قيل:
فلو سلمت على أمير المؤمنين! قال: والله لا أقوم إليه قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت اعدل بالوليد في ناحيه المسجد رجاء الا يرى سعيدا حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة، فقال: من ذلك الجالس؟
أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين ومن حاله ومن حاله ولو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر.
قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه فنسلم عليه، فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد فقال: كيف أنت ايها الشيخ؟ فو الله ما تحرك سعيد ولا قام، فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟ قال الوليد: خير والحمد لله فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس، فقلت: أجل يا أمير المؤمنين.
قال: وقسم الوليد بالمدينة رقيقا كثيرا عجما بين الناس، وآنية من ذهب وفضة، وأموالا وخطب بالمدينة في الجمعة وصلى بهم.
قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني إسحاق بن يحيى، قال: رأيت الوليد يخطب على منبر رسول الله ص يوم الجمعة عام حج، قد صف له جنده صفين من المنبر إلى جدار مؤخر المسجد، في أيديهم الجرزة وعمد الحديد على العواتق، فرأيته طلع في دراعة وقلنسوة، ما عليه رداء، فصعد المنبر، فلما صعد سلم ثم جلس فأذن المؤذنون، ثم سكتوا، فخطب الخطبة الأولى وهو جالس، ثم قام فخطب الثانية قائما، قال إسحاق: فلقيت رجاء بن حيوة وهو معه، فقلت: هكذا يصنعون! قال: نعم، وهكذا صنع معاوية فهلم جرا، قلت: أفلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك بن مروان
(6/466)
فأبى أن يفعل، وقال: هكذا خطب عثمان، فقلت: والله ما خطب هكذا، ما خطب عثمان إلا قائما قال رجاء: روي لهم هذا فأخذوا به.
قال إسحاق: لم نر منهم أحدا أشد تجبرا منه.
قال مُحَمَّد بن عمر: وقدم بطيب مسجد رسول الله ص ومجمره وبكسوة الكعبة فنشرت وعلقت على حبال في المسجد من ديباج حسن لم ير مثله قط، فنشرها يوما وطوي ورفع.
قال: وأقام الحج الوليد بن عبد الملك.
وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة تسعين، غير مكة فإن عاملها كان في هذه السنة خالد بن عبد الله القسري في قول الواقدي.
وقال غيره: كانت ولاية مكة في هذه السنة أيضا إلى عمر بن عبد العزيز.
(6/467)
ثم دخلت
سنة اثنتين وتسعين
(ذكر الأحداث التي كانت فيها) فمن ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك وعمر بن الوليد أرض الروم، ففتح على يدي مسلمة حصون ثلاثة، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم
فتح الاندلس
وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفا، فلقي ملك الأندلس- زعم الواقدي أنه يقال له أدرينوق، وكان رجلا من أهل أصبهان، قال: وهم ملوك عجم الأندلس- فزحف له طارق بجميع من معه، فزحف الأدرينوق في سرير الملك، وعلى الأدرينوق تاجه وقفازه وجميع الحلية التي كان يلبسها الملوك، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى قتل الله الأدرينوق، وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين.
وفيها غزا- فيما زعم بعض أهل السير- قتيبة سجستان يريد رتبيل الأعظم والزابل، فلما نزل سجستان تلقته رسل رتبيل بالصلح، فقبل ذلك وانصرف، واستعمل عليهم عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر.
وكذلك قَالَ الواقدي وغيره.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها فِي السنة الَّتِي قبلها.
(6/468)
ثم دخلت
سنة ثلاث وتسعين
(ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، ففتح الله على يديه سمسطية.
وفيها كانت أيضا غزوة مروان بن الوليد الروم، فبلغ خنجرة وفيها كانت غزوة مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فافتتح ماسة وحصن الحديد وغزاله وبرجمه من ناحيه ملطيه.
صلح قتيبة ملك خوارزم شاه وفتح خام جرد
وفيها قتل قتيبة ملك خام جرد، وصالح ملك خوارزم صلحا مجددا.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه:
ذكر علي بن مُحَمَّد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس والحسن بن رشيد، عن طفيل بن مرداس العمي وعلي بن مجاهد، عن حنبل ابن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وكليب بن خلف والباهليين وغيرهم- وقد ذكر بعضهم ما لم يذكر بعض فألفته- أن ملك خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرزاذ على أمره- وخرزاذ أصغر منه- فكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو دابة أو متاعا فاخرا أرسل فأخذه، أو بلغه أن لأحد منهم بنتا أو أختا أو امرأة جميلة أرسل إليه فغصبه، وأخذ ما شاء، وحبس ما شاء، لا يمتنع عليه أحد، ولا يمنعه الملك، فإذا قيل له، قال: لا أقوى عليه، وقد ملأه مع هذا غيظا، فلما طال ذلك منه عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه يريد أن يسلمها إليه، وبعث إليه بمفاتيح مدائن خوارزم، ثلاثة مفاتيح من ذهب، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من كان يضاده، يحكم فيه بما يرى وبعث في ذلك رسلا، ولم يطلع أحدا من مرازبته ولا دهاقينه على ما كتب به
(6/469)
إلى قتيبة، فقدمت رسله على قتيبة في آخر الشتاء ووقت الغزو، وقد تهيأ للغزو، فأظهر قتيبة أنه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما يحب من قبل قتيبة، وسار واستخلف على مرو ثابتا الأعور مولى مسلم.
قال: فجمع ملوكه وأحباره ودهاقينه فقال: إن قتيبة يريد السغد، وليس بغازيكم، فهلم نتنعم في ربيعنا هذا فأقبلوا على الشرب، والتنعم، وأمنوا عند أنفسهم الغزو.
قال: فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار سب دون النهر، فقال خوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله، قال:
لكني لا أرى ذلك، قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة، ولكني أرى أن نصرفه بشيء نؤديه إليه، فنصرفه عامنا هذا، ونرى رأينا.
قالوا: ورأينا رأيك فأقبل خوارزم شاه فنزل في مدينة الفيل من وراء النهر.
قال: ومدائن خوارزم شاه ثلاث مدائن يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل احصهن، فنزلها خوارزم شاه- وقتيبة في هزار سب دون النهر لم يعبره بينه وبين خوارزم شاه نهر بلخ- فصالحه على عشرة آلاف راس، وعين ومتاع، وعلى أن يعينه على ملك خام جرد، وأن يفي له بما كتب إليه، فقبل ذلك منه قتيبة، ووفى له وبعث قتيبة أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادي خوارزم شاه، فقاتله، فقتله عبد الرحمن، وغلب على أرضه وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف اسير، فقتلهم، وامر قتيبة لما جاء بهم عبد الرحمن بسريره فأخرج وبرز للناس قال: وأمر بقتل الأسرى فقتل بين يديه ألف وعن يمينه ألف وعن يساره ألف وخلف ظهره ألف قال: قال المهلب بن إياس: أخذت يومئذ سيوف الأشراف فضرب بها الأعناق، فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح، فأخذوا سيفي فلم يضرب به شيء إلا أبانه، فحسدني بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب أن أصفح به، فصفح به قليلا، فوقع في ضرس المقتول فثلمه.
قال أبو الذيال: والسيف عندي قال: ودفع قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه
(6/470)
ومن كان يخالفه فقتلهم، واصطفى أموالهم فبعث بها إلى قتيبة، ودخل قتيبة مدينة فيل، فقبل من خوارزم شاه ما صالحه عليه، ثم رجع الى هزار سب وقال كعب الأشقري:
رمتك فيل بما فيها وما ظلمت ... ورامها قبلك الفجفاجة الصلف
لا يجزى الثغر خوار القناة ولا ... هش المكاسر والقلب الذي يجف
هل تذكرون ليالي الترك تقتلهم ... ما دون كازة والفجفاج ملتحف
لم يركبوا الخيل إلا بعد ما كبروا ... فهم ثقال على أكتافها عنف
أنتم شباس ومرداذان محتقر ... وبسخراء قبور حشوها القلف
إني رأيت أبا حفص تفضله ... أيامه ومساعي الناس تختلف
قيس صريح وبعض الناس يجمعهم ... قرى وريف فمنسوب ومقترف
لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ... سبعين ألفا وعز السغد مؤتنف
وفي سمرقند أخرى أنت قاسمها ... لئن تأخر عن حوبائك التلف
ما قدم الناس من خير سبقت به ... ولا يفوتك مما خلفوا شرف
قال: انشدنى على بن مجاهد:
رمتك فيل بما دون كاز.
قال: وكذلك قال الحسن بن رشيد الجوزجاني، وأما غيرهما فقال:
رمتك فيل بما فيها.
وقالوا: فيل مدينة سمرقند، قال: وأثبتها عندي قول علي بن مجاهد.
قال: وقال الباهليون: أصاب قتيبة من خوارزم مائة ألف رأس قال:
وكان خاصة قتيبة كلموه سنة ثلاث وتسعين وقالوا: الناس كانون قدموا
(6/471)
من سجستان فأجمهم عامهم هذا، فأبى قال: فلما صالح أهل خوارزم سار إلى السغد، فقال الأشقري:
لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ... سبعين ألفا وعز السغد مؤتنف
فتح سمرقند قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم منصرفه من خوارزم سمرقند، فافتتحها.
ذكر الخبر عن ذلك:
قد تقدم ذكري الإسناد عن القوم الذين ذكر علي بن مُحَمَّد أنه أخذ عنهم حين صالح قتيبة صاحب خوارزم، ثم ذكر مدرجا في ذلك أن قتيبة لما قبض صلح خوارزم قام اليه المجشر بن مزاحم السلمي فقال: إن لي حاجة، فأخلني، فأخلاه، فقال: إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن، فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام.
قال: أشار بهذا عليك أحد؟ قال: لا، قال: فأعلمته أحدا؟ قال:
لا، قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك فأقام يومه ذلك، فلما أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال: سر في الفرسان والمرامية، وقدم الأثقال إلى مرو، فوجهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأثقال يريد مرو، يومه كله، فلما أمسى كتب إليه: إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر في الفرسان والمرامية نحو السغد، وأكتم الأخبار، فإني بالأثر.
قال: فلما أتى عبد الرحمن الخبر أمر أصحاب الأثقال أن يمضوا إلى مرو، وسار حيث أمره، وخطب قتيبة الناس فقال:
إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن، وهذه السغد شاغرة برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، منعونا ما كنا
(6/472)
صالحنا عليه طرخون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» ، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة، وقال الله: «وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها.
» قال: فأتى السغد وقد سبقه إليها عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألفا، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم وبخارى بعد ثلاثة أو أربعة من نزول عبد الرحمن بهم، فقال: إنا إذا نزلنا بساحة قوم «فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ.
» فحصرهم شهرا، فقاتلوا في حصارهم مرارا من وجه واحد.
وكتب أهل السغد وخافوا طول الحصار إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة:
أن العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم.
فأجمعوا على أن يأتوهم، وأرسلوا إليهم: أرسلوا من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم.
قال: وانتخبوا فرسانا من أبناء المرازبة والأساورة والأشداء الأبطال فوجهوهم وأمروهم أن يبيتوا عسكرهم، وجاءت عيون المسلمين فأخبروهم.
فانتخب قتيبة ثلاثمائة او ستمائه من اهل النجده، واستعمل عليهم صالح ابن مسلم، فصيرهم في الطريق الذي يخاف أن يؤتى منه وبعث صالح عيونا يأتونه بخبر القوم، ونزل على فرسخين من عسكر القوم، فرجعت إليه عيونه فأخبروه أنهم يصلون إليه من ليلتهم، ففرق صالح خيله ثلاث فرق، فجعل كمينا في موضعين، وأقام على قارعة الطريق، وطرقهم المشركون ليلا، ولا يعلمون بمكان صالح، وهم آمنون في أنفسهم من أن يلقاهم أحد دون العسكر، فلم يعلموا بصالح حتى غشوه قال: فشدوا عليه حتى إذا اختلفت الرماح بينهم خرج الكمينان فاقتتلوا قال: وقال رجل من البراجم: حصرتهم فما رأيت قط قوما كانوا أشد قتالا من أبناء أولئك الملوك ولا أصبر، فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا نفر يسير وحوينا
(6/473)
سلاحهم، واحتززنا رءوسهم، وأسرنا منهم أسرى، فسألناهم عمن قتلنا، فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك، أو عظيما من العظماء، أو بطلا من الأبطال، ولقد قتلتم رجالا إن كان الرجل ليعدل بمائة رجل فكتبنا على آذانهم، ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا وما منا رجل إلا معلق رأسا معروفا باسمه، وسلبنا من جيد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودواب فرهة فنفلنا قتيبة ذلك كله وكسر ذلك أهل السغد، ووضع قتيبة عليهم المجانيق، فرماهم بها، وهو في ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، فقاتلوا قتالا شديدا، وبذلوا أنفسهم.
فأرسل إليه غوزك: إنما تقاتلني بإخوتي وأهل بيتي من العجم، فأخرج إلي العرب، فغضب قتيبة ودعا الجدلي فقال: اعرض الناس، وميز، أهل البأس فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء فجعل يدعو برجل رجل فيقول: ما عندك؟ فيقول العريف: شجاع، ويقول:
ما هذا؟ فيقول: مختصر، ويقول: ما هذا؟ فيقول: جبان، فسمى قتيبة الجبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم فأعطاه الشجعان والمختصرين، وترك لهم رث السلاح، ثم زحف بهم فقاتلهم بهم فرسانا ورجالا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدوها بغرائر الدخن، وجاء رجل حتى قام على الثلمة فشتم قتيبة، وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم قتيبة: اختاروا منكم رجلين، فاختاروا، فقال: أيكما يرمي هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف، وإن أخطأه قطعت يده؟ فتلكأ أحدهما وتقدم الآخر، فرماه فلم يخطئ عينه، فأمر له بعشرة آلاف قال: وأخبرنا الباهليون، عن يحيى بن خالد، عن أبيه خالد بن باب مولى مسلم بن عمرو، قال: كنت في رماة قتيبة، فلما افتتحنا المدينة صعدت السور فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه فوجدته ميتا على الحائط، ما أخطأت النشابة عينه حتى خرجت من قفاه، ثم أصبحوا من
(6/474)
غد فرموا المدينة، فثلموا فيها وقال قتيبة: ألحوا عليها حتى تعبروا الثلمة، فقاتلوهم حتى صاروا على ثلمة المدينة، ورماهم السغد بالنشاب، فوضعوا ترستهم فكان الرجل يضع ترسه على عينه، ثم يحمل حتى صاروا على الثلمة، فقالوا له: انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غدا فأما باهلة فيقولون: قال قتيبة: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة، ومجانيقنا تخطر على رءوسهم ومدينتهم قال: وأما غيرهم فيقولون: قال قتيبة: جزع العبيد، فانصرفوا على ظفركم، فانصرفوا، فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف في كل عام، على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، ليس فيهم صبي ولا شيخ ولا عيب، على أن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى له فيه مسجد فيدخل ويصلي، ويوضع له فيها منبر فيخطب، ويتغدى ويخرج قال: فلما تم الصلح بعث قتيبة عشرة، من كل خمس برجلين، فقبضوا ما صالحوهم عليه، فقال قتيبة: الآن ذلوا حين صار إخوانهم وأولادهم في أيديكم ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدا ووضعوا منبرا، ودخلها في أربعة آلاف.
انتخبهم، فلما دخلها أتى المسجد فصلى وخطب ثم تغدى، وأرسل إلى أهل السغد: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذه، فإني لست خارجا منها، وإنما صنعت هذا لكم، ولست آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه، غير أن الجند يقيمون فيها.
قال: أما الباهليون فيقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس، وبيوت النيران وحلية الأصنام، فقبض ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت، ثم وضعت بين يديه، فكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها، فقالت الأعاجم: إن فيها أصناما من حرقها هلك، فقال قتيبة أنا أحرقها بيدي، فجاء غوزك، فجثا بين يديه وقال:
(6/475)
أيها الأمير، إن شكرك علي واجب، لا تعرض لهذه الأصنام، فدعا قتيبة بالنار وأخذ شعلة بيده، وخرج فكبر، ثم أشعلها، وأشعل الناس فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال.
قال: وأخبرنا مخلد بن حمزة بن بيض، عن أبيه، قال: حدثني من شهد قتيبة وفتح سمرقند أو بعض كور خراسان فاستخرجوا منها قدورا عظاما من نحاس، فقال قتيبة لحضين: يا أبا ساسان، أترى رقاش كان لها مثل هذه القدور؟ قال: لا، لكن كان لعيلان قدر مثل هذه القدور، فضحك قتيبة وقال: أدركت بثأرك.
قال: وقال مُحَمَّد بن أبي عيينة لسلم بن قتيبة بين يدي سُلَيْمَان بن علي: إن العجم ليعيرون قتيبة الغدر إنه غدر بخوارزم وسمرقند.
قال: فأخبرنا شيخ من بني سدوس عن حمزة بن بيض قال: أصاب قتيبة بخراسان بالسغد جارية من ولد يزدجرد، فقال:
أترون ابن هذه يكون هجينا؟ فقالوا: نعم، يكون هجينا من قبل أبيه، فبعث بها إلى الحجاج، فبعث بها الحجاج إلى الوليد، فولدت له يزيد ابن الوليد.
قال: وأخبرنا بعض الباهليين، عن نهشل بن يزيد، عن عمه- وكان قد أدرك ذلك كله- قال: لما رأى غوزك إلحاح قتيبة عليهم كتب إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة وخاقان: إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب، فإن وصل إلينا كنتم أضعف وأذل، فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها، فنظروا في أمرهم فقالوا: إنما نؤتى من سفلتنا، وإنهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيون بهذا الأمر، فانتخبوا أبناء الملوك وأهل النجدة من فتيان ملوكهم، فليخرجوا حتى يأتوا عسكر قتيبة فليبيت، فإنه مشغول بحصار السغد، ففعلوا، ولوا عليهم ابنا لخاقان، وساروا وقد
(6/476)
أجمعوا أن يبيتوا العسكر، وبلغ قتيبة فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس، فكان شعبة بن ظهير وزهير بن حيان فيمن انتخب، فكانوا أربعمائة، فقال لهم: إن عدوكم قد رأوا بلاء الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم، كل ذلك يفلجكم الله عليهم، فأجمعوا على أن يحتالوا غرتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم، وقد فضلكم الله بدينه، فابلوا الله بلاء حسنا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم قال: ووضع قتيبة عيونا على العدو حتى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكره من الليل أدخل الذين انتخبهم، فكلمهم وحضهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم، فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصفوا لهم، ففرق صالح خيله، وأكمن كمينا عن يمينه، وكمينا عن يساره، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه، جاء العدو باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله، فلما رأوه شدوا عليه، حتى إذا اختلفت الرماح شد الكمينان عن يمين وعن شمال، فلم نسمع إلا الاعتزاء، فلم نر قوما كانوا أشد منهم.
قال: وقال رجل من البراجم: حدثني زهير أو شعبة قال: إنا لنختلف عليهم بالطعن والضرب إذ تبينت تحت الليل قتيبة، وقد ضربت ضربة أعجبتني وأنا أنظر إلى قتيبة، فقلت: كيف ترى بأبي أنت وأمي! قال: اسكت دق الله فاك! قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب ونحتز الرءوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى العسكر، فلم أر جماعة قط جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منا رجل إلا معلق رأسا معروفا باسمه، وأسير في وثاقه.
قال: وجئنا قتيبة بالرءوس، فقال: جزاكم الله عن الدين والأعراض خيرا وأكرمني قتيبة من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والاكرام حيان العدوى وحليسا الشيباني، فظننت أنه رأى منهما مثل الذي راى
(6/477)
مني، وكسر ذلك أهل السغد، فطلبوا الصلح، وعرضوا الفدية فأبى، وقال: أنا ثائر بدم طرخون، كان مولاي وكان من أهل ذمتي.
قالوا: حدث عمرو بن مسلم، عن أبيه، قال: أطال قتيبة المقام، وثلمت الثلمة في سمرقند قال: فنادى مناد فصيح بالعربية يشتم قتيبة، قال:
فقال عمرو بن أبي زهدم: ونحن حول قتيبة، فحين سمعنا الشتم خرجنا مسرعين، فمكثنا طويلا وهو ملح بالشتم، فجئت إلى رواق قتيبة فاطلعت، فإذا قتيبة محتب بشملة يقول كالمناجي لنفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان! أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية، فانصرفت إلى أصحابي، فقلت: كم من نفس أبية ستموت غدا منا ومنهم! وأخبرتهم الخبر.
قال: وأما باهلة فيقولون: سار قتيبة فجعل النهر يمينه حتى ورد بخارى، فاستنهضهم معه، وسار حتى إذا كان بمدينة أربنجن، وهي التي تجلب منها اللبود الأربنجنية، لقيهم غوزك صاحب السغد في جمع عظيم من الترك وأهل الشاش وفرغانة، فكانت بينهم وقائع من غير مزاحفة، كل ذلك يظهر المسلمون، ويتحاجزون حتى قربوا من مدينة سمرقند، فتزاحفوا يومئذ، فحمل السغد على المسلمين حملة حطموهم حتى جازوا عسكرهم، ثم كر المسلمون عليهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل الله من المشركين عددا كثيرا، ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم.
قال: وأخبرنا الباهليون عن حاتم بن أبي صغيرة، قال: رأيت خيلا يومئذ تطاعن خيل المسلمين، وقد أمر يومئذ قتيبة بسريره فأبرز، وقعد عليه، وطاعنوهم حتى جازوا قتيبة، وإنه لمحتب بسيفه ما حل حبوته، وانطوت مجنبتا المسلمين على الذين هزموا القلب، فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل من المشركين عدد كثير، ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم وصنع غوزك طعاما ودعا قتيبة، فأتاه في عدد من أصحابه، فلما تغدى استوهب منه سمرقند، فقال للملك: انتقل عنها، فانتقل عنها، وتلا قتيبة:
«وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى»
(6/478)
قال: وأخبرنا أبو الذيال، عن عمر بن عبد الله التميمي، قال: حدثني الذي سرحه قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند، قال: قدمت على الحجاج فوجهني إلى الشام، فقدمتها فدخلت مسجدها، فجلست قبل طلوع الشمس وإلى جنبي رجل ضرير، فسألته عن شيء من أمر الشام، فقال: إنك لغريب، قلت: أجل، قال: من أي بلد أنت؟ قلت: من خراسان قال: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: والذي بعث مُحَمَّدا بالحق ما افتتحتموها إلا غدرا، وإنكم يا أهل خراسان للذين تسلبون بني أمية ملكهم، وتنقضون دمشق حجرا حجرا قال: وأخبرنا العلاء بن جرير، قال: بلغني أن قتيبة لما فتح سمرقند وقف على جبلها فنظر إلى الناس متفرقين في مروج السغد، فتمثل قول طرفة:
وأرتع أقوام ولولا محلنا ... بمخشية ردوا الجمال فقوضوا
قال: وأخبرنا خالد بن الأصفح، قال: قال الكميت:
كانت سمرقند أحقابا يمانية ... فاليوم تنسبها قيسية مضر
قال: وقال أبو الحسن الجشمي: فدعا قتيبة نهار بن توسعة حين صالح أهل السغد، فقال: يا نهار، أين قولك:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقاما بمرو الروذ رهن ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب
أفغزو هذا يا نهار؟ قال: لا، هذا أحسن، وأنا الذي أقول:
وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا ... ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم
أعم لأهل الترك قتلا بسيفه ... وأكثر فينا مقسما بعد مقسم
(6/479)
قال: ثم ارتحل قتيبة راجعا إلى مرو، واستخلف على سمرقند عبد الله ابن مسلم، وخلف عنده جندا كثيفا، وآلة من آلة الحرب كثيرة، وقال:
لا تدعن مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلا مختوم اليد، وإن جفت الطينة قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة، سكينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها أحدا منهم فاقتله، فقال كعب الأشقري- ويقال رجل من جعفي:
كل يوم يحوي قتيبة نهبا ... ويزيد الأموال مالا جديدا
باهلي قد ألبس التاج حتى ... شاب منه مفارق كن سودا
دوخ السغد بالكتائب حتى ... ترك السغد بالعراء قعودا
فوليد يبكي لفقد أبيه ... وأب موجع يبكي الوليدا
كلما حل بلدة أو أتاها ... تركت خيله بها أخدودا
قال: وقال قتيبة: هذا العداء لا عداء عيرين، لأنه فتح خوارزم وسمرقند في عام واحد، وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل: عادى بين عيرين ثم انصرف عن سمرقند فأقام بمرو وكان عامله على خوارزم إياس بن عبد الله بن عمرو على حربها، وكان ضعيفا وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى بني مسلم.
قال: فاستضعف أهل خوارزم إياسا، وجمعوا له، فكتب عبيد الله إلى قتيبة، فبعث قتيبة عبد الله بن مسلم في الشتاء عاملا، وقال:
اضرب إياس بن عبد الله وحيان النبطي مائة مائة، واحلقهما، وضم إليك عبيد الله بن أبي عبيد الله، مولى بني مسلم، واسمع منه فإن له وفاء.
فمضى حتى إذا كان من خوارزم على سكة، فدس إلى إياس فأنذره فتنحى، وقدم فأخذ حيان فضربه مائة وحلقه.
قال: ثم وجه قتيبة بعد عبد الله المغيرة بن عبد الله في الجنود إلى خوارزم، فبلغهم ذلك، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم
(6/480)
خوارزم شاه، وقالوا: لا نعينك، فهرب إلى بلاد الترك وقدم المغيرة فسبى وقتل، وصالحه الباقون، فأخذ الجزية وقدم على قتيبة، فاستعمله على نيسابور.
فتح طليطلة
وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير طارق بن زياد عن الأندلس ووجهه إلى مدينة طليطلة.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر مُحَمَّد بن عمر أن موسى بن نصير غضب على طارق في سنة ثلاث وتسعين، فشخص إليه في رجب منها، ومعه حبيب بن عقبة بن نافع الفهري، واستخلف حين شخص على إفريقية ابنه عبد الله بن موسى بن نصير، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه، فترضاه فرضي عنه، وقبل منه عذره، ووجهه منها إلى مدينة طليطلة- وهي من عظام مدائن الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يوما- فأصاب فيها مائدة سُلَيْمَان بن داود، فيها من الذهب والجوهر ما الله أعلم به.
قال: وفيها أجدب أهل إفريقية جدبا شديدا، فخرج موسى بن نصير فاستسقى، ودعا يومئذ حتى انتصف النهار، وخطب الناس، فلما أراد أن ينزل قيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين! قال: ليس هذا يوم ذاك، فسقوا سقيا كفاهم حينا.
خبر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز
وفيها عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة.
ذكر سبب عزل الوليد إياه عنها:
وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل عمله بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق ولا جناية، وأن ذلك بلغ الحجاج، فاضطغنه على عمر، وكتب إلى الوليد: أن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن
(6/481)
العراق، ولجئوا إلى المدينة ومكة، وأن ذلك وهن.
فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله، فولى خالدا مكة وعثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز.
قال: مُحَمَّد بن عمر: خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة فأقام بالسويداء وهو يقول لمزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته طيبة! وفيها ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بأمر الوليد إياه، وصب على رأسه قربة من ماء بارد ذكر مُحَمَّد بن عمر، أن أبا المليح حدثه عمن حضر عمر بن عبد العزيز حين جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير خمسين سوطا، وصب على رأسه قربة من ماء في يوم شات، ووقفه على باب المسجد، فمكث يومه ثم مات.
وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلا ما كان من المدينة، فإن العامل عليها كان عثمان بن حيان المري، وليها- فيما قيل- في شعبان سنة ثلاث وتسعين.
وأما الواقدي فإنه قال: قدم عثمان المدينة لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين.
وقال بعضهم: شخص عمر بن عبد العزيز عن المدينة معزولا في شعبان من سنة ثلاث وتسعين وغزا فيها، واستخلف عليها حين شخص عنها أبا بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال
(6/482)
ثم دخلت
سنة أربع وتسعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح فيها أنطاكية وفيها غزا- فيما قيل- عبد العزيز بن الوليد أرض الروم حتى بلغ غزالة وبلغ الوليد بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية.
وفيها كانت الرجفة بالشام وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفى ارض الهند.
غزو الشاش وفرغانه
وفيها غزا قتيبة شاش وفرغانة حتى بلغ خجندة وكاشان، مدينتي فرغانة.
ذكر الخبر عن غزوة قتيبة هذه:
ذكر علي بن مُحَمَّد، أن أبا الفوارس التميمي، أخبره عن ماهان ويونس ابن أبي إسحاق، أن قتيبة غزا سنة أربع وتسعين فلما قطع النهر فرض على أهل بخارى وكس ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل قال: فساروا معه إلى السغد، فوجهوا إلى الشاش، وتوجه هو إلى فرغانة، وسار حتى أتى خجندة، فجمع له أهلها فلقوه فاقتتلوا مرارا، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين ففرغ الناس يوما فركبوا خيولهم، فأوفى رجل على نشز فقال: تالله ما رأيت كاليوم غرة، لو كان هيج اليوم ونحن على ما ارى
(6/483)
من الانتشار لكانت الفضيحة، فقال له رجل إلى جنبه: كلا، نحن كما قال عوف بن الخرع:
نؤم البلاد لحب اللقا ... ولا نتقي طائرا حيث طارا
سنيحا ولا جاريا بارحا ... على كل حال نلاقي اليسارا
وقال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة:
فسل الفوارس في خجندة ... تحت مرهفة العوالي
هل كنت أجمعهم إذا ... هزموا وأقدم في قتالي
أم كنت أضرب هامة ... العاتي وأصبر للعوالي
هذا وأنت قريع قيس ... كلها ضخم النوال
وفضلت قيسا في الندى ... وأبوك في الحجج الخوالي
ولقد تبين عدل حكمك ... فيهمُ في كل مال
تمت مروءتكم وناغي ... عزكم غلب الجبال
قال: ثم أتى قتيبة كاشان مدينة فرغانة، وأتاه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها وحرقوا أكثرها، وانصرف قتيبة إلى مرو وكتب الحجاج إلى مُحَمَّد بن القاسم الثقفي أن وجه من قبلك من أهل العراق إلى قتيبة، ووجه إليهم جهم بن زحر بن قيس، فإنه في أهل العراق خير منه في أهل الشام وكان مُحَمَّد وادا الجهم بن زحر، فبعث سُلَيْمَان بن صعصعة وجهم بن زحر، فلما ودعه جهم بكى وقال: يا جهم، إنه للفراق، قال: لا بد منه.
قال: وقدم على قتيبة سنة خمس وتسعين.
(6/484)
ولايه عثمان بن حيان المري على المدينة
وفي هذه السنة قدم عثمان بن حيان المري المدينة واليا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن ولايته:
قد ذكرنا قبل سبب عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة ومكة وتأميره على المدينة عثمان بن حيان، فزعم مُحَمَّد بن عمر أن عثمان قدم المدينة أميرا عليها لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين، فنزل بها دار مروان وهو يقول: محله والله مظعان، المغرور من غربك فاستقضى أبا بكر بن حزم.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله بن أبي حرة، عن عمه قال: رأيت عثمان بن حيان أخذ رياح بن عبيد الله ومنقذا العراقي فحبسهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف، ولم يترك بالمدينة أحدا من أهل العراق تاجرا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا من كل بلد، فرأيتهم في الجوامع، وأتبع أهل الأهواء، وأخذ هيصما فقطعه، ومنحورا- وكان من الخوارج- قال: وسمعته يخطب على المنبر يقول بعد حمد الله:
أيها الناس، إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه، وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق، هم والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه والله ما جربت عراقيا قط إلا وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداء لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم فإني والله لا أوتى بأحد آوى أحدا منهم، أو أكراه منزلا، ولا أنزله، إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته جعل يمر عليه من يريد الجهاد فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول:
الشام أحب إلي إني رأيت العراق داء عضالا، وبها فرخ الشيطان والله
(6/485)
لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولم؟ وسرعة وجيف في الفتنة، فإذا خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل لم يصلحوا على عثمان، فلقي منهم الأمرين، وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة، وأنغلوا البلدان والله إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجل الناس جلدا فبسط عليهم السيف، وأخافهم، فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم.
أيها الناس، إنا والله ما رأينا شعارا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسا قط شرا من الخوف فالزموا الطاعة، فان عندي يا اهل المدينة حبره من الخلاف والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم وعضوا على النواجذ، فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم أنكم في فضول كلام غيره ألزم لكم، فدعوا عيب الولاة، فإن الأمر إنما ينقض شيئا شيئا حتى تكون الفتنة وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد.
قال: يقول القاسم بن مُحَمَّد: صدق في كلامه هذا الأخير، إن الفتنة لهكذا قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثني خالد بن القاسم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، قال: رأيت منادي عثمان بن حيان ينادي عندنا: يا بني أمية بن زيد، برئت ذمه ممن آوى عراقيا- وكان عندنا رجل من أهل البصرة له فضل
(6/486)
يقال له أبو سوادة، من العباد- فقال: والله ما أحب أن أدخل عليكم مكروها، بلغوني مأمني، قلت: لا خير لك في الخروج إن الله يدفع عنا وعنك قال: فأدخلته بيتي، وبلغ عثمان بن حيان فبعث أحراسا فأخرجته إلى بيت أخي، فما قدروا على شيء وكان الذي سعى بي عدوا، فقلت للأمير: أصلح الله الأمير! يؤتى بالباطل فلا تعاقب عليه قال:
فضرب الذي سعى بي عشرين سوطا وأخرجنا العراقي، فكان يصلي معنا ما يغيب يوما واحدا، وحدب عليه أهل دارنا، فقالوا: نموت دونك! فما برح حتى عزل الخبيث.
قال مُحَمَّد بن عمر: وحدثنا عبد الحكيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ:
إنما بعث الوليد عثمان بن حيان إلى المدينة لإخراج من بها من العراقيين وتفريق أهل الأهواء ومن ظهر عليهم أو علا بأمرهم، فلم يبعثه واليا، فكان لا يصعد المنبر ولا يخطب عليه، فلما فعل في أهل العراق ما فعل، وفي منحور وغيره أثبته على المدينة، فكان يصعد على المنبر.
ذكر الخبر عن مقتل سعيد بن جبير
وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير.
ذكر الخبر عن مقتله:
وكان سبب قتل الحجاج إياه خروجه عليه مع من خرج عليه مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث، وكان الحجاج جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلعه معه، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد.
فحدثنا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عياش، قال: كتب الحجاج إلى فلان وكان على أصبهان- وكان سعيد، قال الطبري: أظنه أنه لما هرب
(6/487)
من الحجاج ذهب إلى أصبهان فكتب إليه-: أن سعيدا عندك فخذه فجاء الأمر إلى رجل تحرج، فأرسل إلى سعيد: تحول عني، فتنحى عنه، فأتى أذربيجان، فلم يزل بأذربيجان فطال عليه السنون، واعتمر فخرج إلى مكة فأقام بها، فكان أناس من ضربه يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم قال: فقال أبو حصين وهو يحدثنا هذا: فبلغنا أن فلانا قد أمر على مكة، فقلت له: يا سعيد، إن هذا الرجل لا يؤمن، وهو رجل سوء، وأنا أتقيه عليك، فاظعن واشخص، فقال: يا أبا حصين، قد والله فررت حتى استحييت من الله! سيجيئني ما كتب الله لي قلت:
أظنك والله سعيدا كما سمتك أمك قال: فقدم ذلك الرجل إلى مكة، فأرسل فأخذ فلان له وكلمه، فجعل يديره وذكر أبو عاصم عن عمر بن قيس، قال: كتب الحجاج إلى الوليد: أن أهل النفاق والشقاق قد لجئوا إلى مكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي فيهم! فكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري، فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وطلق بن حبيب وعمرو بن دينار، فأما عمرو بن دينار وعطاء فأرسلا لأنهما مكيان، وأما الآخرون فبعث بهم إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج.
وقتل سعيد بن جبير.
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قال: حدثنا الأشجعي، قال: لما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير نزل منزلا قريبا من الربذة، فانطلق أحد الحرسيين في حاجته وبقي الآخر، فاستيقظ الذي عنده، وقد رأى رؤيا، فقال: يا سعيد، إني أبرأ إلى الله من دمك! انى رايت في منامي، فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير اذهب حيث شئت لا أطلبك أبدا، فقال سعيد: أرجو العافية وأرجو وأبى حتى
(6/488)
جاء ذاك، فنزلا من الغد، فأري مثلها، فقيل: أبرأ من دم سعيد.
فقال: يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك، حتى جاء به.
فلما جاء به إلى داره التي كان فيها سعيد وهي دارهم هذه، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم قال: دخلت عليه في دار سعيد هذه، جيء به مقيدا فدخل عليه قراء أهل الكوفة قلت: يا أبا عبد الله، فحدثكم؟
قال: إي والله ويضحك، وهو يحدثنا، وبنية له في حجره، فنظرت نظرة فأبصرت القيد فبكت، فسمعته يقول: أي بنية لا تطيري، إياك- وشق والله عليه- فاتبعناه نشيعه، فانتهينا به إلى الجسر، فقال الحرسيان: لا نعبر به أبدا حتى يعطينا كفيلا، نخاف أن يغرق نفسه.
قال: قلنا: سعيد يغرق نفسه! فما عبروا حتى كفلنا به.
قال وهب بن جرير: حَدَّثَنَا أبي، قال: سمعت الفضل بن سويد قال: بعثني الحجاج في حاجة، فجيء بسعيد بن جبير، فرجعت فقلت: لأنظرن ما يصنع، فقمت على رأس الحجاج، فقال له الحجاج:
يا سعيد، ألم أشركك في أمانتي! ألم أستعملك! ألم أفعل! حتى ظننت أنه يخلي سبيله، قال: بلى، قال: فما حملك على خروجك علي؟
قال: عزم علي، قال: فطار غضبا وقال: هيه! رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك حقا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقا! اضربا عنقه، فضربت عنقه، فندر رأسه عليه كمة بيضاء لا طيه صغيرة.
وحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل سعيد بن جبير فندر رأسه لله، هلل ثلاثا:
مرة يفصح بها.
وفي الثنتين يقول مثل ذلك فلا يفصح بها وذكر أبو بكر الباهلي، قال: سمعت أنس بن أبي شيخ، يقول: لما
(6/489)
أتي الحجاج بسعيد بن جبير، قال: لعن الله ابن النصرانية- قال: يعني خالدا القسري، وهو الذي أرسل به من مكة- أما كنت أعرف مكانه! بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد، ما أخرجك علي؟ فقال: أصلح الله الأمير! إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة، قال: فطابت نفس الحجاج، وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره، قال: فعاوده في شيء، فقال له:
إنما كانت له بيعة في عنقي، قال: فغضب وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، فقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك! قال:
بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية! قال: بلى، قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك! اضربا عنقه، قال: فإياه عنى جرير بقوله:
يا رب ناكث بيعتين تركته ... وخضاب لحيته دم الأوداج
وذكر عتاب بن بشر، عن سالم الأفطس، قال: أتي الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب، وقد وضع إحدى رجليه في الغرز- أو الركاب- فقال: والله لا أركب حتى تبوء مقعدك من النار، اضربوا عنقه فضربت عنقه، فالتبس مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه قال: القيود التي على سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود.
قال مُحَمَّد بن حاتم: حدثنا عبد الملك بن عبد الله عن هلال بن خباب قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال: اكتبت الى مصعب ابن الزبير؟ قال: بل كتب إلي مصعب، قال: والله لأقتلنك، قال:
(6/490)
إني إذا لسعيد كما سمتني أمي! قال: فقتله، فلم يلبث بعده إلا نحوا من أربعين يوما، فكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه فيقول:
يا عدو الله، لم قتلتني؟ فيقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ما لي ولسعيد ابن جبير! قال أبو جعفر: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء، مات فيها عامة فقهاء أهل المدينة، مات في أولها علي بن الحسين ع، ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ.
واستقضى الوليد في هذه السنة بالشام سُلَيْمَان بن حبيب.
واختلف فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، فَقَالَ أَبُو معشر- فِيمَا حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى عنه- قال: حج بالناس مسلمة بن عبد الملك سنة أربع وتسعين.
وقال الواقدي: حج بالناس سنة أربع وتسعين عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك- قال: ويقال: مسلمة بن عبد الملك.
وكان العامل فيها على مكة خالد بن عبد الله القسري، وعلى المدينة عثمان بن حيان المري، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها ابو بكر ابن أبي موسى وعلى البصرة الجراح بن عبد الله وعلى قضائها عبد الرحمن ابن أذينة وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج
(6/491)
ثم دخلت
سنة خمس وتسعين
(ذكر الأحداث التي كانت فيها) ففيها كانت غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون فيما قيل، وهي: طولس، والمرزبانين، وهرقلة.
وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل.
وفيها بنيت واسط القصب في شهر رمضان وفيها انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس، وضحى بقصر الماء- فيما قيل- على ميل من القيروان.
بقية الخبر عن غزو الشاش
وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش.
ذكر الخبر عن غزوته هذه:
رجع الحديث إلى حديث علي بن مُحَمَّد، قال: وبعث الحجاج جيشا من العراق فقدموا على قتيبة سنة خمس وتسعين، فغزا، فلما كان بالشاش- أو بكشماهن- أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه ذلك، وقفل راجعا إلى مرو، وتمثل:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى اعلقته الحبائل
فان تحى لا أملل حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
قال: فرجع بالناس ففرقهم، فخلف في بخارى قوما، ووجه قوما إلى كس ونسف، ثم أتى مرو فأقام بها، وأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وامير المؤمنين
(6/492)
رافعك وصانع بك كالذي يجب لك، فالمم مغازيك وانتظر ثواب ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك: حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت به.
وفيها مات الحجاج بن يوسف في شوال- وهو يومئذ ابن اربع وخمسين سنه وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة- وقيل: كانت وفاته في هذه السنة لخمس ليال بقين من شهر رمضان.
وفيها استخلف الحجاج لما حضرته الوفاة على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج وكانت إمرة الحجاج على العراق فيما قال الواقدي عشرين سنة وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو من ألف رجل معه.
وفيها- فيما ذكر- ولد المنصور عبد الله بن مُحَمَّد بن علي وفيها ولي الوليد بن عبد الملك يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين: الكوفة والبصرة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم.
وقيل: إن الحجاج كان استخلف حين حضرته الوفاة على حرب البلدين والصلاة بأهلهما يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موت الحجاج على ما كان الحجاج استخلفهما عليه وكذلك فعل بعمال الحجاج كلهم، أقرهم بعده على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
وحج بالناس في هذه السنة بشر بن الوليد بن عبد الملك، حدثني
(6/493)
بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكذلك قال الواقدي.
وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الَّذِينَ كَانُوا فِي السنة الَّتِي قبلها، إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنهما ضمتا إلى من ذكرت بعد موت الحجاج.
(6/494)
ثم دخلت
سنة ست وتسعين
(ذكر الأحداث التي كانت فيها) ففيها كانت- فيما قال الواقدي- غزوة بشر بن الوليد الشاتية، فقفل وقد مات الوليد.
ذكر الخبر عن موت الوليد بن عبد الملك
وفيها كانت وفاة الوليد بن عبد الملك، يوم السبت فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وتسعين في قول جميع أهل السير.
واختلف في قدر مدة خلافته، فقال الزهري في ذلك- ما حدثت عن ابن وهب عن يونس عنه: ملك الوليد عشر سنين إلا شهرا.
وقال أبو معشر فيه، ما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه كانت: خلافة الوليد تسع سنين وسبعة أشهر.
وقال هشام بن مُحَمَّد: كانت ولاية الوليد ثمان سنين وستة أشهر.
وقال الواقدي: كانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين.
واختلف أيضا في مبلغ عمره، فقال مُحَمَّد بن عمر: توفي بدمشق وهو ابن ست وأربعين سنة وأشهر.
وقال هشام بن مُحَمَّد: توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة.
وقال علي بن مُحَمَّد: توفي وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر.
وقال علي: كانت وفاة الوليد بدير مران، ودفن خارج باب الصغير.
ويقال: في مقابر الفراديس.
ويقال: إنه توفي وهو ابن سبع وأربعين سنة.
وقيل: صلى عليه عمر بن عبد العزيز
(6/495)
وكان له- فيما قال علي- تسعة عشر ابنا: عبد العزيز، ومُحَمَّد، والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، وصدقه، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، وبشر، ويزيد، ويحيى، وأم عبد العزيز ومحمد وأم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى.
ذكر الخبر عن بعض سيره:
حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائد وفتح في ولايته فتوح عظام، فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر، وفتح مُحَمَّد بن القاسم الهند.
قال: وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها.
قال: وأتاه رجل من بني مخزوم يسأله في دينه، فقال: نعم، إن كنت مستحقا لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقا لذلك مع قرابتي! قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده، وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل: ضم هذا إليك، فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام اليه عثمان ابن يزيد بن خالد بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إن علي دينا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم، نقضي عنكم، ونصل أرحامكم على هذا
(6/496)
قال: ومرض الوليد فرهقته غشية، فمكث عامة يومه عندهم ميتا، فبكي عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج، فاسترجع، ثم أمر بحبل فشد في يديه، ثم أوثق إلى أسطوانة، وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له، فقد طالما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته! وجعل يدعو، فإنه لكذلك إذ قدم عليه بريد بإفاقته.
قال علي: ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أسر بعافية أمير المؤمنين من الحجاج، فقال عمر بن عبد العزيز: ما أعظم نعمة الله علينا بعافيتك، وكأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر فيه أنه لما بلغه برؤك خر الله ساجدا، وأعتق كل مملوك له، وبعث بقوارير من أنبج الهند.
فما لبث إلا أياما حتى جاء الكتاب بما قال.
قال: ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد:
إني لأوضئ الوليد يوما للغداء، فمد يده، فجعلت أصب عليه الماء، وهو ساه والماء يسيل ولا أستطيع أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي، وقال:
أناعس أنت! ورفع رأسه إلي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ قلت:
لا، قال: ويحك! مات الحجاج! فاسترجعت قال: اسكت ما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها.
قال علي: وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع فولي سُلَيْمَان، فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسال بعضهم بعضا عن التزويج والجوارى فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ ورثى جرير الوليد فقال:
يا عين جودي بدمع هاجه الذكر فما لدمعك بعد اليوم مدخر
(6/497)
إن الخليفة قد وارت شمائله غبراء ملحدة في جولها زور أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم مثل النجوم هوى من بينها القمر كانوا جميعا فلم يدفع منيته عبد العزيز ولا روح ولا عمر حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حج الوليد بن عبد الملك، وحج مُحَمَّد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد:
يا أمير المؤمنين، اجعل لي هدية مُحَمَّد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى مُحَمَّد فيها، فأبى وقال: ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه- وكانت هدايا كثيرة- فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا مُحَمَّد أن تصرف إلي، ولا حاجة لي بها، قال: ولم؟ قالت:
بلغني أنه غصبها الناس، وكلفهم عملها، وظلمهم وحمل مُحَمَّد المتاع إلى الوليد، فقال: بلغني أنك أصبتها غصبا، قال، معاذ الله! فأمر فاستحلف بين الركن والمقام خمسين يمينا بالله ما غصب شيئا منها، ولا ظلم أحدا، ولا أصابها إلا من طيب، فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات مُحَمَّد بن يوسف باليمن، أصابه داء تقطع منه.
وفي هذه السنة كان الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سُلَيْمَان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: كان الوليد وسليمان ولى عهد عبد الملك، فلما أفضى الأمر إلى الوليد، أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سُلَيْمَان، فأبى سُلَيْمَان، فأراده على أن يجعله له من بعده، فأبى، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز،
(6/498)
ودعا الناس إلى ذلك، فلم يجبه أحد إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس فقال عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سُلَيْمَان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لعبد العزيز من بعده، فإنه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه.
فكتب الوليد إلى سُلَيْمَان يأمره بالقدوم، فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب، وأمر بحجره فأخرجت، فمرض، ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك.
قال عمر: قال علي: وأخبرنا ابو عاصم الزيادى من الهلواث الكلبي، قال: كنا بالهند مع مُحَمَّد بن القاسم، فقتل الله داهرا، وجاءنا كتاب من الحجاج ان اخلعوا مع سُلَيْمَان، فلما ولي سُلَيْمَان جاءنا كتاب سُلَيْمَان، أن ازرعوا واحرثوا، فلا شام لكم، فلم نزل بتلك البلاد حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقفلنا.
قال عمر: قال علي: أراد الوليد أن يبني مسجد دمشق، وكانت فيه كنيسة، فقال الوليد لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل رجل منكم بلبنة، فجعل كل رجل يأتيه بلبنة، ورجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة! وهدموا الكنيسة وبناها مسجدا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا ذلك إليه، فقيل: إن كل ما كان خارجا من المدينة افتتح عنوة، فقال لهم عمر: نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما، فإنها فتحت عنوه، نبنيها مسجدا، فلما قال لهم ذلك قالوا: بل ندع لكم هذا الذي هدمه الوليد، ودعوا لنا كنيسه توما.
ففعل عمر ذلك.
(6/499)
فتح قتيبة كاشغر وغزو الصين
وفي هذه السنة افتتح قتيبة بن مسلم كاشغر، وغزا الصين.
ذكر الخبر عن ذلك:
رجع الحديث إلى حديث عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُ قَبْلُ.
قال: ثم غزا قتيبة في سنة ست وتسعين، وحمل مع الناس عيالهم وهو يريد أن يحرز عياله في سمرقند خوفا من سُلَيْمَان، فلما عبر النهر استعمل رجلا من مواليه يقال له الخوارزمي على مقطع النهر، وقال: لا يجوزن أحد إلا بجواز، ومضى إلى فرغانة، وأرسل إلى شعب عصام من يسهل له الطريق إلى كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين، فأتاه موت الوليد وهو بفرغانة.
قال: فأخبرنا أبو الذيال عن المهلب بن إياس، قال: قال إياس بن زهير:
لما عبر قتيبة النهر أتيته فقلت له: إنك خرجت ولم أعلم رأيك في العيال فنأخذ أهبة ذلك، وبني الأكابر معي، ولي عيال قد خلفتهم وأم عجوز، وليس عندهم من يقوم بأمرهم، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا مع بعض بني أوجهه فيقدم علي بأهلي! فكتب، فأعطاني الكتاب فانتهيت إلى النهر وصاحب النهر من الجانب الآخر، فألويت بيدي، فجاء قوم في سفينه فقالوا: من أنت؟ اين جوازك؟ فأخبرتهم، فقعد معي قوم ورد قوم السفينة إلى العامل، فأخبروه قال: ثم رجعوا إلي فحملوني، فانتهيت إليهم وهم يأكلون وأنا جائع، فرميت بنفسي، فسألني عن الأمر، وأنا آكل لا أجيبه، فقال: هذا أعرابي قد مات من الجوع، ثم ركبت فمضيت فأتيت مرو، فحملت أمي، ورجعت أريد العسكر، وجاءنا موت الوليد، فانصرفت إلى مرو.
وقال: وأخبرنا أبو مخنف، عن أبيه، قال: بعث قتيبة كثير بن فلان إلى كاشغر، فسبى منها سبيا، فختم أعناقهم مما أفاء الله على قتيبة، ثم رجع قتيبة وجاءهم موت الوليد.
قال: وأخبرنا يحيى بن زكرياء الهمداني عن أشياخ من أهل خراسان
(6/500)
والحكم بن عثمان، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان قال: وغل قتيبة حتى قرب من الصين قال: فكتب اليه ملك الصين ان ابعث إلينا رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشره رجلا- وقال بعضهم: عشرة- من أفناء القبائل، لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس، بعد ما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه فكلمهم قتيبة، وفاطنهم فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم، ودواب يركبونها قال: وكان هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوها بسيط اللسان، فقال: يا هبيرة، كيف أنت صانع؟ قال: أصلح الله الأمير! قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله وآخذ به، قال: سيروا على بركة الله، وبالله التوفيق لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت الا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم.
قال: فساروا، وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثم مسوا الغالية، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا، فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده.
قال: فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف، وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا، فقال لأصحابه: كيف
(6/501)
رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه الهيئة أشبه بهيئه الرجال من تلك الاولى، وهم أولئك، فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم، ثم أقبلوا نحوهم مشمرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: ارجعوا، لما دخل قلوبهم من خوفهم.
قال: فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا:
ما رأينا مثل هؤلاء قط، فلما أمسى أرسل إليهم الملك، أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم رجلا فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه: قد رأيتم عظيم ملكي، وإنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم.
قال: سل، قال: لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث؟
قال: أما زينا الأول فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا قال: ما أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه، قال: فما الذي يرضي صاحبك؟ قال: إنه قد حلف الا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث اليه
(6/502)
بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمة وردهم، ووطيء التراب، فقال سوادة بن عبد الله السلولي:
لا عيب في الوفد الذين بعثتهم ... للصين أن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على القذى خوف الردى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غير الختم في أعناقهم ... ورهائن دفعت بحمل سمرج
أدى رسالتك التي استرعيته ... وأتاك من حنث اليمين بمخرج
قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة، فقال:
لله قبر هبيرة بن مشمرج ... ماذا تضمن من ندى وجمال!
وبديهة يعيا بها أبناؤها ... عند احتفال مشاهد الأقوال
كان الربيع إذا السنون تتابعت ... والليث عند تكعكع الأبطال
فسقت بقربة حيث امسى قبره ... غر يرحن بمسبل هطال
بكيت الجياد الصافنات لفقده ... وبكاه كل مثقف عسال
وبكته شعث لم يجدن مواسيا ... في العام ذي السنوات والإمحال
قال: وقال الباهليون: كان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرسا من جياد الخيل، واثني عشر هجينا، لا يجاوز بالفرس أربعة آلاف، فيقام عليها إلى وقت الغزو، فإذا تاهب للغزو وعسكر قيدت وأضمرت، فلا يقطع نهرا بخيل حتى تخف لحومها، فيحمل عليها من يحمله في الطلائع وكان يبعث في الطلائع الفرسان من الأشراف، ويبعث معهم رجالا من العجم ممن يستنصح على تلك الهجن، وكان إذا بعث
(6/503)
بطليعة أمر بلوح فنقش، ثم يشقه شقتين فأعطاه شقة، واحتبس شقة، لئلا يمثل مثلها، ويأمره أن يدفنها في موضع يصفه له من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، أو خربة، ثم يبعث بعده من يستبريها ليعلم أصادق في طليعته أم لا وقال ثابت قطنة العتكي يذكر من قتل من ملوك الترك:
أقر العين مقتل كازرنك ... وكشبيز وما لا. ى يباد
وقال الكميت يذكر غزوه السغد وخوارزم:
وبعد في غزوة كانت مباركة ... تردي زراعة أقوام وتحتصد
نالت غمامتها فيلا بوابلها ... والسغد حين دنا شؤبوبها البرد
إذ لا يزال له نهب ينفله ... من المقاسم لا وخش ولا نكد
تلك الفتوح التي تدلى بحجتها ... على الخليفة إنا معشر حشد
لم تثن وجهك عن قوم غزوتهمُ ... حتى يقال لهم: بعدا وقد بعدوا
لم ترض من حصنهم إن كان ممتنعا ... حتى يكبر فيه الواحد الصمد.
(6/504)
خلافة سُلَيْمَان بن عبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع سُلَيْمَان بن عبد الملك بالخلافة، وذلك في اليوم الذي توفي فيه الوليد بن عبد الملك، وهو بالرملة.
وفيها عزل سُلَيْمَان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة، ذكر مُحَمَّد بن عمر، أنه نزعه عن المدينة لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وتسعين.
قال: وكان عمله على المدينة ثلاث سنين وقيل: كانت امرته عليها سنتين غير سبع ليال.
قال الواقدي: وكان أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم قد استأذن عثمان أن ينام في غد، ولا يجلس للناس ليقوم ليلة إحدى وعشرين، فأذن له وكان أيوب بن سلمة المخزومي عنده، وكان الذي بين أيوب بن سلمة وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم سيئا، فقال أيوب لعثمان: ألم تر إلى ما يقول هذا؟ انما هذا منه رياء، فقال عثمان: قد رأيت ذلك، ولست لأبي إن أرسلت إليه غدوة ولم أجده جالسا لأجلدنه مائة، ولأحلقن رأسه ولحيته.
قال أيوب: فجاءني أمر أحبه، فعجلت من السحر، فإذا شمعة في الدار، فقلت: عجل المري، فإذا رسول سُلَيْمَان قد قدم على أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده.
قال أيوب: فدخلت دار الإمارة، فإذا ابن حيان جالس، وإذا بأبي بكر على كرسي يقول للحداد: اضرب في رجل هذا الحديد، ونظر إلي عثمان فقال:
آبوا على أدبارهم كشفا ... والأمر يحدث بعده الأمر
(6/505)
وفي هذه السنة عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق، وأمر عليه يزيد بن المهلب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره أن يقتل آل أبي عقيل ويبسط عليهم العذاب فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قدم صالح العراق على الخراج، ويزيد على الحرب، فبعث يزيد زياد بن المهلب على عمان، وقال له:
كاتب صالحا، وإذا كتبت إليه فابدأ باسمه، وأخذ صالح آل أبي عقيل فكان يعذبهم، وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب.
خبر مقتل قتيبة بن مسلم
وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم بخراسان.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:
وكان سبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك اراد ان يجعل ابنه عبد العزيز ابن الوليد ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فقال جرير في ذلك:
إذا قيل أي الناس خير خليفة؟ ... أشارت إلى عبد العزيز الأصابع
رأوه أحق الناس كلهمُ بها ... وما ظلموا، فبايعوه وسارعوا
وقال أيضا جرير يحض الوليد على بيعة عبد العزيز:
الى عبد العزيز سمت عيون الرعية ... إذا تحيرت الرعاء
إليه دعت دواعيه إذا ما ... عماد الملك خرت والسماء
وقال أولو الحكومة من قريش ... علينا البيع إن بلغ الغلاء
(6/506)
رأوا عبد العزيز ولي عهد ... وما ظلموا بذاك ولا أساءوا
فماذا تنظرون بها وفيكم ... جسور بالعظائم واعتلاء!
فزحلفها بأزملها إليه ... أمير المؤمنين إذا تشاء
فإن الناس قد مدوا إليه ... أكفهمُ وقد برح الخفاء
ولو قد بايعوك ولى عهد ... لقام الوزن واعتدل البناء
فبايعه على خلع سُلَيْمَان الحجاج بن يوسف وقتيبة، ثم هلك الوليد وقام سُلَيْمَان بن عبد الملك، فخافه قتيبة.
قال علي بن مُحَمَّد: أخبرنا بشر بن عيسى والحسن بن رشيد وكليب ابن خلف، عن طفيل بن مرداس، وجبلة بن فروخ، عن مُحَمَّد بن عزيز الكندي، وجبلة بن ابى رواد ومسلمة بن محارب، عن السكن بن قتادة، أن قتيبة لما أتاه موت الوليد بن عبد الملك وقيام سُلَيْمَان، أشفق من سُلَيْمَان لأنه كان يسعى في بيعة عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج، وخاف أن يولي سُلَيْمَان يزيد بن المهلب خراسان، قال: فكتب إليه كتابا يهنئه بالخلافة، ويعزيه على الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وعظم صوته فيهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه.
وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا، فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين
(6/507)
قال: فقدم رسول قتيبة فدخل على سُلَيْمَان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه كتابا آخر فقرأه، ثم رمى به إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث، فقرأه فتمعر لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده.
وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى، فإنه قال- فيما حدثت عنه: كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب، وذكر غدره وكفره وقلة شكره، وكان في الثاني ثناء على يزيد، وفي الثالث: لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك خلع النعل، ولأملأنها عليك خيلا ورجالا وقال أيضا:
لما قرأ سُلَيْمَان الكتاب الثالث وضعه بين مثالين من المثل التي تحته ولم يحر في ذلك مرجوعا.
رجع الحديث إلى حديث علي بن مُحَمَّد قال: ثم أمر- يعني سُلَيْمَان- برسول قتيبة أن ينزل، فحول إلى دار الضيافة، فلما أمسى دعا به سُلَيْمَان، فأعطاه صرة فيها دنانير، فقال: هذه جائزتك، وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك بعهده قال: فخرج الباهلي، وبعث معه سُلَيْمَان رجلا من عبد القيس، ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة- أو مصعب- فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة، فرجع العبدي، ودفع العهد إلى رسول قتيبة، وقد خلع، واضطرب الأمر، فدفع إليه عهده، فاستشار إخوته، فقالوا: لا يثق بك سُلَيْمَان بعد هذا.
قال علي: وحدثني بعض العنبريين، عن أشياخ منهم، أن توبة ابن ابى أسيد العنبري، قال: قدم صالح العراق، فوجهني إلى قتيبة ليطلعني طلع ما في يده، فصحبني رجل من بني أسد، فسألني عما خرجت فيه، فكاتمته أمري، فإنا لنسير إذ سنح لنا سانح، فنظر إلي رفيقي
(6/508)
فقال: أراك في أمر جسيم وأنت تكتمني! فمضيت، فلما كنت بحلوان تلقاني الناس بقتل قتيبة.
قال علي: وذكر أبو الذيال وكليب بن خلف وأبو علي الجوزجاني عن طفيل بن مرداس، وأبو الحسن الجشمي ومصعب بن حيان عن أخيه مقاتل بن حيان، وأبو مخنف وغيرهم، أن قتيبة لما هم بالخلع استشار إخوته، فقال له عبد الرحمن: اقطع بعثا فوجه فيه كل من تخافه، ووجه قوما إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحب المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فلا يقيم معك إلا مناصح وقال له عبد الله: اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان فأخذ برأي عبد الله، فخلع سُلَيْمَان، ودعا الناس إلى خلعه، فقال للناس:
إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية فكتب الى امير المؤمنين ان خراج خراسان يقوم بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد فدوم بكم ثلاث سنين لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية! لم يجب فيئا، ولم ينكأ عدوا، ثم جاءكم بنوه بعده، يزيد، فحل تبارى إليه النساء، وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنقة القيسي.
قال: فلم يجبه أحد، فغضب فقال: لا أعز الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة- ولا أقول أهل العالية- يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ والكذب والبخل، باى
(6/509)
يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم، أو بيوم سلمكم! فو الله لأنا أعز منكم يا أصحاب مسيلمة، يا بني ذميم- ولا أقول تميم- يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان يا أصحاب سجاح، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النحل أعنة الخيل يا معشر الأزد، تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل الحصن، إن هذا لبدعة في الإسلام! والأعراب، وما الأعراب! لعنة الله على الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم ومنابت القلقل، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان، حتى إذا جمعتكم كما تجمع قزع الحريف قلتم كيت وكيت! أما والله إني لابن أبيه! وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة إن حول الصليان الزمزمة.
يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان كأني بأمير مزجاء، وحكم قد جاءكم فغلبكم على فيئكم واظلالكم ان هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات إن الشام أب مبرور، وإن العراق أب مكفور.
حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم! يا أهل خراسان، انسبوني تجدوني عراقي الأم، عراقي الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من الأمن والعافية قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز،
(6/510)
فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه الشكر والمزيد.
قال: ثم نزل فدخل منزله، فأتاه أهل بيته فقالوا: ما رأينا كاليوم قط، والله ما اقتصرت على أهل العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرا وهم أنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميما وهم إخوتك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت الأزد وهم بدك! فقال: لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت، فلم أدر ما قلت، إن أهل العالية كإبل الصدقة قد جمعت من كل أوب، وأما بكر فإنها أمة لا تمنع يد لامس، وأما تميم فجمل أجرب، وأما عبد القيس فما يضرب العير بذنبه، وأما الأزد فأعلاج، شرار من خلق الله، لو ملكت أمرهم لوسمتهم.
قال: فغضب الناس وكرهوا خلع سُلَيْمَان، وغضبت القبائل من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه وخلعه، وكان أول من تكلم في ذلك الأزد، فأتوا حضين بن المنذر فقالوا: إن هذا قد دعا إلى ما دعا إليه من خلع الخليفة، وفيه فساد الدين والدنيا، ثم لم يرض بذلك حتى قصر بنا وشتمنا، فما ترى يا أبا حفص؟ وكان يكتنى في الحرب بأبي ساسان، ويقال: كنيته أبو مُحَمَّد- فقال لهم: حضين: مضر بخراسان تعدل هذه الثلاثة الأخماس، وتميم أكثر الخمسين، وهم فرسان خراسان، ولا يرضون أن يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم من الأمر أعانوا قتيبة قالوا: إنه قد وتر بني تميم بقتل ابن الأهتم، قال: لا تنظروا إلى هذا فإنهم يتعصبون للمضرية، فانصرفوا رادين لرأي حضين، فأرادوا أن يولوا عبد الله بن حوذان الجهضمي، فأبى، وتدافعوها، فرجعوا إلى حضين، فقالوا: قد تدافعنا الرياسة، فنحن نوليك أمرنا، وربيعة لا تخالفك، قَالَ: لا ناقة لي فِي هَذَا وَلا جمل، قالوا: ما ترى؟ قال: إن جعلتم هذه الرياسة في تميم تم أمركم، قالوا: فمن ترى من تميم؟ قال: ما أرى أحدا غير وكيع، فقال حيان مولى بني شيبان: إن أحدا لا يتقلد هذا الأمر فيصلى بحره، ويبذل دمه، ويتعرض للقتل، فإن قدم امير
(6/511)
أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلا هذا الأعرابي وكيع، فإنه مقدام لا يبالي ما ركب، ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرا، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله- وكان حيان يلاطف حشم الولاة فلا يخفون عنه شيئا- قال: فدعا قتيبة رجلا فأمره بقتل حيان، وسمعه بعض الخدم، فأتى حيان فأخبره، فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض، وأتى الناس وكيعا فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال: نعم، وتمثل قول الأشهب بن رميلة:
سأجني ما جنيت وإن ركني ... لمعتمد إلى نضد ركين
قال: وبخراسان يومئذ من المقاتلة من أهل البصرة من أهل العالية تسعة آلاف، وبكر سبعة آلاف، رئيسهم الحضين بن المنذر، وتميم عشرة آلاف عليهم ضرار بن حصين الضبي، وعبد القيس أربعة آلاف عليهم عبد الله بن علوان عوذي، والأزد عشره آلاف راسهم عبد الله ابن حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف عليهم جهم بن زحر- أو عبيد الله بن علي- والموالي سبعة آلاف عليهم حيان- وحيان يقال إنه من الديلم، ويقال: إنه من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته- فأرسل حيان إلى وكيع: أرأيت إن كففت عنك وأعنتك تجعل لي جانب نهر بلخ وخراجه ما دمت حيا، وما دمت واليا؟ قال: نعم، فقال للعجم:
هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا، قالوا: نعم، فبايعوا وكيعا سرا، فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال: إن الناس يختلفون إلى وكيع، وهم يبايعونه- وكان وكيع يأتي منزل عبد الله بن مسلم الفقير فيشرب عنده- فقال عبد الله: هذا يحسد وكيعا، وهذا الأمر باطل، هذا وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه، وهذا يزعم أنهم يبايعونه قال: وجاء وكيع إلى قتيبة فقال: احذر ضرارا فانى
(6/512)
لا آمنه عليك، فأنزل قتيبة ذلك منهما على التحاسد وتمارض وكيع.
ثم إن قتيبة دس ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع فبايعه سرا، فتبين لقتيبة أن الناس يبايعونه، فقال لضرار: قد كنت صدقتني، قال: إني لم أخبرك إلا بعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد، وقد قضيت الذي كان علي، قال:
صدقت وأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه فوجده رسول قتيبة قد طلى على رجله مغرة، وعلى ساقه خرزا وودعا، وعنده رجلان من زهران يرقيان رجله، فقال له: أجب الأمير، قال: قد ترى ما برجلي.
فرجع الرسول إلى قتيبة فأعاده إليه، قال: يقول لك: ائتني محمولا على سرير، قال: لا أستطيع قال قتيبة لشريك بن الصامت الباهلي أحد بني وائل- وكان على شرطته- ورجل من غني انطلقا إلى وكيع فأتياني به.
فإن أبى فاضربا عنقه، ووجه معهما خيلا، ويقال: كان على شرطه بخراسان ورقاء بن نصر الباهلي.
قال علي: قال أبو الذيال: قال ثمامة بن ناجذ العدوي: أرسل قتيبة إلى وكيع من يأتيه به، فقلت: أنا آتيك به أصلحك الله! فقال: ائتني به، فأتيت وكيعا- وقد سبق إليه الخبر أن الخيل تأتيه- فلما رآني قال:
يا ثمامة، ناد في الناس، فناديت، فكان أول من أتاه هريم بن أبي طحمة في ثمانية.
قال: وقال الحسن بن رشيد الجوزجاني: أرسل قتيبة إلى وكيع.
فقال هريم: أنا آتيك به، قال: فانطلق قال هريم: فركبت برذوني مخافة أن يردني، فأتيت وكيعا وقد خرج.
قال: وقال كليب بن خلف: أرسل قتيبة إلى وكيع شعبة بن ظهير أحد بني صخر بن نهشل، فأتاه، فقال: يا بن ظهير:
لبث قليلا تلحق الكتائب
ثم دعا بسكين فقطع خرزا كان على رجليه، ثم لبس سلاحه، وتمثل:
شدوا علي سرتي لا تنقلف ... يوم لهمدان ويوم للصدف
(6/513)
وخرج وحده، ونظر إليه نسوة فقلن: أبو مطرف وحده، فجاء هريم بن أبي طحمة في ثمانية، فيهم عميرة البريد بن ربيعة العجيفي.
قال حمزة بن إبراهيم وغيره: إن وكيعا خرج فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد، قال: ما اسمك؟ قال: ضرغامة، قال:
ابن من؟ قال: ابن ليث، قال: دونك هذه الراية. قال المفضل بن مُحَمَّد الضبي: ودفع وكيع رايته إلى عقبة بن شهاب المازني، قال: ثم رجع إلى حديثهم، قالوا: فخرج وكيع وأمر غلمانه، فقال: اذهبوا بثقلي إلى بني العم، فقالوا: لا نعرف موضعهم، قال:
انظروا رمحين مجموعين أحدهما فوق الآخر، فوقهما مخلاة، فهم بنو العم قال: وكان في العسكر منهم خمسمائة، قال: فنادى وكيع في الناس، فأقبلوا أرسالا من كل وجه، فأقبل في الناس يقول:
قرم إذا حمل مكروهة ... شد الشراسيف لها والحزيم
وقال قوم: تمثل وكيع حين خرج:
انخن بلقمان بن عاد فجسنه ... أريني سلاحي لن يطيروا بأعزل
واجتمع إلى قتيبة أهل بيته، وخواص من أصحابه وثقاته، فيهم اياس ابن بيهس بن عمرو، ابن عم قتيبة دنيا، وعبد الله بن وألان العدوي، وناس من رهطة، بني وائل وأتاه حيان بن إياس العدوي في عشرة، فيهم عبد العزيز بن الحارث، قال: وأتاه ميسرة الجدلي- وكان شجاعا- فقال: إن شئت أتيتك برأس وكيع، فقال: قف مكانك وأمر قتيبة رجلا، فقال: ناد في الناس، أين بنو عامر؟ فنادى: أين بنو عامر؟ فقال محفن بن جزء الكلابي- وقد كان جفاهم: حيث وضعتهم، قال: ناد أذكركم الله والرحم! فنادى محفن: أنت قطعتها، قال: ناد لكم العتبى، فناداه محفن أو غيره: لا أقالنا الله إذا، فقال قتيبة:
يا نفس صبرا على ما كان من ألم ... إذ لم أجد لفضول القوم أقرانا
(6/514)
ودعا بعمامة كانت أمه بعثت بها إليه، فاعتم بها، كان يعتم بها في الشدائد، ودعا ببرذون له مدرب، كان يتطير إليه في الزحوف، فقرب إليه ليركبه، فجعل يقمص حتى أعياه، فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فقعد عليه وقال: دعوه، فإن هذا امر يراد وجاء حيان النبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله بن مسلم، فقال عبد الله لحيان: احمل على هذين الطرفين، قال: لم يأن لذلك، فغضب عبد الله، وقال: ناولني قوسي، قال حيان: ليس هذا يوم قوس، فأرسل وكيع إلى حيان: أين ما وعدتني؟ فقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي، ومضيت نحو عسكر وكيع، فمل بمن معك في العجم إلي.
فوقف ابن حيان مع العجم، فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبر أصحابه وبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة يقال له سُلَيْمَان الزنجيرج- وهو الخرنوب، ويقال:
بل رماه رجل من بلعم فأصاب هامته- فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل، فوضع في مصلاه، فتحول قتيبة فجلس عنده ساعة، ثم تحول إلى سريره.
قال: وقال أبو السري الأزدي: رمى صالحا رجل من بني ضبة فأثقله، وطعنه زياد بن عبد الرحمن الأزدي، من بني شريك بن مالك.
قال: وقال أبو مخنف: حمل رجل من غني على الناس فرأى رجلا مجففا فشبهه بجهم بن زحر بن قيس فطعنه، وقال:
إن غنيا أهل عز ومصدق ... إذا حاربوا والناس مفتتنونا
فإذا الذي طعن علج وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء، فقتلوه، وأحرق الناس موضعا كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه، ودنوا منه، فقاتل عنه رجل من باهلة من بني وائل، فقال له قتيبة: انج بنفسك، فقال له: بئس ما جزيتك إذا،
(6/515)
وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق! قال: فدعا قتيبة بدابة، فأتي ببرذون فلم يقر ليركبه، فقال: إن له لشأنا، فلم يركبه وجلس وجاء الناس حتى بلغوا الفسطاط، فخرج إياس بن بيهس وعبد الله بن وألان حين بلغ الناس الفسطاط وتركا قتيبة وخرج عبد العزيز بن الحارث يطلب ابنه عمرا- أو عمر- فلقيه الطائي فحذره، ووجد ابنه فأردفه قال: وفطن قتيبة للهيثم بن المنخل وكان ممن يعين عليه، فقال:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
قال: وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم، بنو مسلم، وقتل ابنه كثير بن قتيبة وناس من أهل بيته، ونجا أخوه ضرار، استنقذه أخواله، وأمه غراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة وقال قوم: قتل عبد الكريم بن مسلم بقزوين وقال أبو عبيدة:
قال أبو مالك: قتلوا قتيبة سنة ست وتسعين، وقتل من بني مسلم أحد عشر رجلا، فصلبهم وكيع، سبعة منهم لصلب مسلم وأربعة من بني أبنائهم: قتيبة، وعبد الرحمن، وعبد الله الفقير، وعبيد الله، وصالح، وبشار، ومُحَمَّد بنو مسلم وكثير بن قتيبة، ومغلس بن عبد الرحمن، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو- وكان عامل الجوزجان- وضرار، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زراره، فجاء أخواله فدفعوه حتى نحوه، ففي ذلك يقول الفرزدق:
عشية ما ود ابن غرة أنه ... له من سوانا إذ دعا أبوان
وضرب إياس بن عمرو- ابن أخي مسلم بن عمرو- على ترقوته فعاش قال: ولما غشي القوم الفسطاط قطعوا أطنابه قال زهير: فقال جهم ابن زحر لسعد: انزل، فحز رأسه، وقد أثخن جراحا، فقال: أخاف
(6/516)
أن تجول الخيل، قال: تخاف وأنا إلى جنبك! فنزل سعد فشق صوقعة الفسطاط، فاحتز رأسه، فقال حضين بن المنذر:
وإن ابن سعد وابن زحر تعاورا ... بسيفيهما رأس الهمام المتوج
عشية جئنا بابن زحر وجئتمُ ... بأدغم مرقوم الذراعين ديزج
أصم غداني كأن جبينه ... لطاخة نقس في أديم ممجمج
قال: فلما قتل مسلمة يزيد بن المهلب استعمل على خراسان سعيد بن خذينة بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، فحبس عمال يزيد، وحبس فيهم جهم بن زحر الجعفي، وعلى عذابه رجل من باهلة، فقيل له: هذا قاتل قتيبة، فقتله في العذاب، فلامه سعيد، فقال:
أمرتني أن أستخرج منه المال فعذبته فأتى علي أجله.
قال: وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزمية، فلما قتل خرجت، فأخذها بعد ذلك يزيد بن المهلب، فهي أم خليدة.
قال علي: قال حمزة بن إبراهيم وأبو اليقظان: لما قتل قتيبة صعد عمارة بن جنية الرياحي المنبر فتكلم فأكثر، فقال له وكيع: دعنا من قذرك وهذرك، ثم تكلم وكيع فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول:
من ينك العير ينك نياكا
أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتال.
قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شبت وشيبونى ... خلوا عناني وتنكبوني
أنا أبو مطرف.
قال: وأخبرنا أبو معاوية، عن طلحة بن إياس، قال: قال وكيع يوم قتل قتيبة:
(6/517)
أنا ابن خندف تنميني قبائلها ... للصالحات وعمي قيس عيلانا
ثم أخذ بلحيته ثم قال:
شيخ إذا حمل مكروهة ... شد الشراسيف لها والحزيم
والله لأقتلن، ثم لأقتلن، ولأصلبن، ثم لأصلبن، إني والغ دما، إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى عليكم أسعاركم، والله ليصيرن القفيز في السوق غدا بأربعة أو لأصلبنه، صلوا على نبيكم ثم نزل.
قال علي: وأخبرنا المفضل بن مُحَمَّد وشيخ من بني تميم، ومسلمة بن محارب، قالوا: طلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته، فخرج وكيع وهو يقول: ده درين، سعد القين:
في أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر
لا خير في أحزم جياد القرع ... في أي يوم لم أرع ولم أرع
والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتى أوتى بالرأس، أو يذهب برأسي مع رأس قتيبة وجاء بخشب فقال: إن هذه الخيل لا بد لها من فرسان- يتهدد بالصلب- فقال له حضين: يا أبا مطرف، تؤتى به فاسكن وأتي حضين الأزد فقال: أحمقى أنتم! بايعناه وأعطيناه المقادة، وعرض نفسه، ثم تأخذون الرأس! أخرجوه لعنه الله من رأس! فجاءوا بالرأس فقالوا: يا أبا مطرف، إن هذا هو احتزه، فاشكمه، قال: نعم، فأعطاه ثلاثة آلاف، وبعث بالرأس مع سليط بن عبد الكريم الحنفي ورجال من القبائل وعليهم سليط، ولم يبعث من بني تميم أحدا.
قال: قال أبو الذيال: كان فيمن ذهب بالرأس أنيف بن حسان أحد بني عدي.
قال أبو مخنف: وفى وكيع لحيان النبطي بما كان أعطاه قال:
قال خريم بن أبي يحيى، عن أشياخ من قيس، قالوا: قال سليمان للهذيل
(6/518)
ابن زفر حين وضع رأس قتيبة ورءوس أهل بيته بين يديه: هل ساءك هذا يا هذيل؟ قال: لو ساءني ساء قوما كثيرا، فكلمه خريم بن عمرو والقعقاع ابن خليد، فقال: ائذن في دفن رءوسهم، قال: نعم، وما أردت هذا كله.
قال علي: قال أبو عبد الله السلمي، عن يزيد بن سويد، قال:
قال رجل من عجم أهل خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان قتيبة منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة، إلا أنه قد غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه أن اختلهم واقتلهم في الله.
قال: وقال الحسن بن رشيد: قال الإصبهبذ لرجل: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب! قال: فأيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به في الأرض مكبلا بالحديد، ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد.
قال علي: قال المفضل بن مُحَمَّد الضبي جاء رجل إلى قتيبة يوم قتل وهو جالس، فقال: اليوم يقتل ملك العرب- وكان قتيبة عندهم ملك العرب- فقال له: اجلس.
قال: وقال كليب بن خلف: حدثني رجل ممن كان مع وكيع حين قتل قتيبة، قال: أمر وكيع رجلا فنادى: لا يسلبن قتيل، فمر ابن عبيد الهجري على ابى الحجر الباهلى فسلبه، فبلغ وكيعا فضرب عنقه.
قال أبو عبيدة: قال عبد الله بن عمر، من تيم اللات: ركب وكيع ذات يوم، فأتوه بسكران، فأمر به فقتل، فقيل له: ليس عليه القتل، إنما عليه الحد، قال: لا أعاقب بالسياط، ولكني أعاقب بالسيف، فقال نهار بن توسعة:
وكنا نبكي من الباهلي ... فهذا الغداني شر وشر
(6/519)
وقال أيضا:
ولما رأينا الباهلي ابن مسلم ... تجبر عممناه عضبا مهندا
وقال الفرزدق يذكر وقعة وكيع:
ومنا الذي سل السيوف وشامها ... عشية باب القصر من فرغان
عشية لم تمنع بنيها قبيلة ... بعز عراقي ولا بيمان
عشية ما ود ابن غراء أنه ... له من سوانا إذ دعا أبوان
عشية لم تستر هوازن عامر ... ولا غطفان عورة ابن دخان
عشية ود الناس أنهمُ لنا ... عبيد إذ الجمعان يضطربان
رأوا جبلا يعلو الجبال إذا التقت ... رءوس كبيريهن ينتطحان
رجال على الإسلام إذ ما تجالدوا ... على الدين حتى شاع كل مكان
وحتى دعا في سور كل مدينة ... مناد ينادي فوقها بأذان
فيجزى وكيع بالجماعة إذ دعا ... إليها بسيف صارم وبنان
جزاء بأعمال الرجال كما جرى ... ببدر وباليرموك فيء جنان
وقال الفرزدق في ذلك أيضا:
أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ... لآل تميم أقعدت كل قائم
وقال علي: أخبرنا خريم بن أبي يحيى، عن بعض عمومته قال: أخبرني شيوخ من غسان قالوا: إنا لبثنية العقاب إذ نحن برجل يشبه الفيوج معه عصا وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان، قلنا: فهل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل قتيبة بن مسلم أمس، فتعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا ذلك قال: أين ترونني الليلة من إفريقية؟ ومضى واتبعناه على خيولنا، فإذا شيء يسبق الطرف وقال الطرماح:
لولا فوارس مذحج ابنة مذحج ... والأزد زعزع واستبيح العسكر
(6/520)
وتقطعت بهمُ البلاد ولم يؤب ... منهم إلى أهل العراق مخبر
واستضلعت عقد الجماعة وازدرى ... أمر الخليفة واستحل المنكر
قوم همُ قتلوا قتيبة عنوة ... والخيل جانحة عليها العِثْيَر
بالمرج مرج الصين حيث تبينت ... مضر العراق من الأعز الأكبر!
إذ حالفت جزعا ربيعة كلها ... وتفرقت مضر ومن يتمضر
وتقدمت أزد العراق ومذحج ... للموت يجمعها أبوها الأكبر
قحطان تضرب رأس كل مدجج ... تحمي بصائرهن إذ لا تبصر
والأزد تعلم أن تحت لوائها ... ملكا قراسية وموت أحمر
فبعزنا نصر النبي مُحَمَّد ... وبنا تثبت في دمشق المنبر
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:
كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ... بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والقوم حوله ... وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه ... وراح إلى الجنات عفا مطهرا
فما رزى الإسلام بعد مُحَمَّد ... بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا
- يعني أم ولد له.
وقال الأصم بن الحجاج يرثي قتيبة:
ألم يأن للأحياء أن يعرفوا لنا ... بلى نحن أولى الناس بالمجد والفخر
نقود تميما والموالي ومذحجا ... وأزد وعبد القيس والحي من بكر
نقتل من شئنا بعزة ملكنا ... ونجبر من شئنا على الخسف والقسر
سُلَيْمَان كم من عسكر قد حوت لكم ... أسنتنا والمقربات بنا تجري
وكم من حصون قد أبحنا منيعة ... ومن بلد سهل ومن جبل وعر
ومن بلدة لم يغزها الناس قبلنا ... غزونا نقود الخيل شهرا الى شهر
(6/521)
مرنّ على الغزو الجرور ووقرت ... على النفر حتى ما تهال من النفر
وحتى لوَ ان النار شبت وأكرهت ... على النار خاضت في الوغى لهب الجمر
تلاعب أطراف الأسنة والقنا ... بلباتها والموت في لجج خضر
بهن أبحنا أهل كل مدينة ... من الشرك حتى جاوزت مطلع الفجر
ولو لم تعجلنا المنايا لجاوزت ... بنا ردم ذي القرنين ذا الصخر والقطر
ولكن آجالا قضين ومدة ... تناهى إليها الطيبون بنو عمرو
وفي هذه السنة عزل سُلَيْمَان بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن مكة، وولاها طلحة بن داود الحضرمي وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم الصائفة، ففتح حصنا يقال له حصن عوف.
وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي وهو أمير مصر في صفر في قول بعض أهل السير.
وقال بعضهم: كان هلاك قرة في حياة الوليد في سنة خمس وتسعين في الشهر الذي هلك فيه الحجاج.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الواقدي وغيره.
وكان الأمير على المدينة في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن.
وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود.
(6/522)
ثم دخلت
سنة سبع وتسعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِي هَذِهِ السنة من الأحداث) فمن ذلك ما كان من تجهيز سُلَيْمَان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعماله ابنه داود بن سُلَيْمَان على الصائفة، فافتتح حصن المرأة.
وفيها غزا- فيما ذكر الواقدي- مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الحصن الذي كان فتحه الوضاح صاحب الوضاحية وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم، فشتا بها.
وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأندلس، وقدم برأسه على سليمان حبيب بن ابى عبيد الفهري.
ولايه يزيد بن المهلب على خراسان
وفيها ولى سُلَيْمَان بن عبد الملك يزيد بن المهلب خراسان.
ذكر الخبر عن سبب ولايته خراسان:
وكان السبب في ذلك أن سُلَيْمَان بن عبد الملك لما أفضت الخلافة إليه ولى يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها.
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن يزيد نظر لما ولاه سُلَيْمَان ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إن العراق قد أخربها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سُلَيْمَان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني فأتى يزيد سُلَيْمَان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه، فتكون أنت تأخذه به؟ صالح بن عبد الرحمن، مولى بني تميم.
فقال له: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق
(6/523)
وحدثني عمر بن شبة، قال: قال علي: كان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد، فنزل واسطا قال علي: فقال عباد بن أيوب: لما قدم يزيد خرج الناس يتلقونه، فقيل لصالح: هذا يزيد، وقد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح، عليه دراعة ودبوسية صفراء صغيره، بين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقي يزيد فسايره، فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الدار- فأشار له إلى دار- فنزل يزيد، ومضى صالح إلى منزله قال: وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها علي، واشتري متاعا كثيرا، وصك صكاكا إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه، فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال:
هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك؟ الخراج لا يقوم لها، قد أنفذت لك منذ أيام صكا بمائة ألف، وعجلت لك أرزاقك، وسألت مالا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضى أمير المؤمنين به، وتؤخذ به! فقال له يزيد: يا أبا الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه قال: فإني أجيزها، فلا تكثرن علي، قال: لا قال علي بن مُحَمَّد: حدثنا مسلمة بن محارب وابو العلا.
التيمي والطفيل بن مرداس العمي وأبو حفص الأزدي عمن حدثه عن جهم ابن زحر بن قيس، والحسن بن رشيد عن سُلَيْمَان بن كثير، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، وعامر بن حفص وأبو مخنف عن عثمان ابن عمرو بن محصن الأزدي وزهير بن هنيد وغيرهم- وفي خبر بعضهم ما ليس في خبر بعض، فألفت ذلك- أن سُلَيْمَان بن عبد الملك ولى يزيد ابن المهلب العراق ولم يوله خراسان، فقال سُلَيْمَان بن عبد الملك لعبد الملك ابن المهلب وهو بالشام ويزيد بالعراق: كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان؟ قال: يجدني أمير المؤمنين حيث يحب، ثم أعرض سليمان عن
(6/524)
ذلك قال: وكتب عبد الملك بن المهلب إلى جرير بن يزيد الجهضمي وإلى رجال من خاصته: أن أمير المؤمنين عرض علي ولاية خراسان.
فبلغ الخبر يزيد بن المهلب، وقد ضجر بالعراق، وقد ضيق عليه صالح ابن عبد الرحمن، فليس يصل معه إلى شيء، فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال: إني أريدك لأمر قد أهمني، فأحب أن تكفينيه، قال: مرني بما أحببت، قال: أنا فيما ترى من الضيق، وقد أضجرني ذلك، وخراسان شاغرة برجلها، وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب، فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين، فإني أرجو أن آتيك بعهدك عليها، قال: فاكتم ما أخبرتك به وكتب إلى سُلَيْمَان كتابين: أحدهما يذكر له فيه أمر العراق، وأثنى فيه على ابن الأهتم وذكر له علمه بها، ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد، وأعطاه ثلاثين ألفا فسار سبعا، فقدم بكتاب يزيد على سُلَيْمَان، فدخل عليه وهو يتغدى، فجلس ناحية، فأتي بدجاجتين فأكلهما.
قال: فدخل ابن الأهتم فقال له سُلَيْمَان: لك مجلس غير هذا تعود إليه ثم دعا به بعد ثالثة، فقال له سُلَيْمَان: إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان، ويثني عليك، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها، بها ولدت، وبها نشأت، فلي بها وبأصلها خبر وعلم قال: ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها! فأشر علي برجل أوليه خراسان، قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي، فإن ذكر منهم أحدا أخبرته برأيي فيه، هل يصلح لها أم لا، قال:
فسمى سُلَيْمَان رجلا من قريش، قال: يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان، قال: فعبد الملك بن المهلب، قال: لا، حتى عدد رجالا، فكان في آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم بئيس مقدام، وليس بصاحبها مع هذا، إنه لم
(6/525)
يقد ثلاثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة قال: صدقت ويحك، فمن لها! قال: رجل أعلمه لم تسمه، قال: فمن هو؟ قال لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرني منه إن علم، قال:
نعم، سمه من هو؟ قال: يزيد بن المهلب، قال: ذاك بالعراق، والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان، قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه على ذلك، فيستخلف على العراق رجلا ويسير، قال: أصبت الرأي فكتب عهد يزيد على خراسان، وكتب إليه كتابا: أن ابن الأهتم كما ذكرت في عقله ودينه وفضله ورأيه ودفع الكتاب وعهد يزيد إلى ابن الأهتم، فسار سبعا، فقدم على يزيد فقال له: ما وراءك؟ قال:
فأعطاه الكتاب، فقال: ويحك! أعندك خير؟ فأعطاه العهد، فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته، ودعا ابنه مخلدا فقدمه إلى خراسان قال:
فسار من يومه، ثم سار يزيد واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على البصرة عبد الله بن هلال الكلابى، وصير مروان ابن المهلب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، ولمروان يقول أبو البهاء الإيادي:
رأيت أبا قبيصة كل يوم ... على العلات أكرمهم طباعا
إذا ما هم أبوا أن يستطيعوا ... جسيم الأمر يحمل ما استطاعا
وإن ضاقت صدورهمُ بأمر ... فضلتهمُ بذاك ندى وباعا
وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في ذلك: حدثني أبو مالك أن وكيع بن أبي سود بعث بطاعته وبرأس قتيبة إلى سُلَيْمَان، فوقع ذلك من سُلَيْمَان كل موقع، فجعل يزيد بن المهلب لعبد الله بن الأهتم مائة ألف على أن ينقر وكيعا عنده، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! والله ما أحد
(6/526)
أوجب شكرا، ولا أعظم عندي يدا من وكيع، لقد أدرك بثأري، وشفاني من عدوي، ولكن أمير المؤمنين أعظم وأوجب علي حقا، وأن النصيحة تلزمني لأمير المؤمنين، إن وكيعا لم يجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة، خامل في الجماعة، نابه في الفتنة، فقال: ما هو إذا ممن نستعين به- وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع- فاستعمل سليمان يزيد ابن المهلب على حرب العراق، وأمره إن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع فينزع يدا من طاعة، أن يقيد وكيعا به فغدر يزيد، فلم يعط عبد الله ابن الأهتم ما كان ضمن له، ووجه ابنه مخلد بن يزيد إلى وكيع.
رجع الحديث إلى حديث علي قال علي: أخبرنا أبو مخنف عن عثمان بن عمرو بن محصن، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، قال: وجه يزيد ابنه مخلدا إلى خراسان فقدم مخلد عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي، ثم الصنابحي، حين دنا من مرو، فلما قدمها أرسل إلى وكيع أن القني، فأبى، فأرسل إليه عمرو، يا أعرابي أحمق جلفا جافيا، انطلق إلى أميرك فتلقه وخرج وجوه من أهل مرو يتلقون مخلدا، وتثاقل وكيع عن الخروج، فأخرجه عمرو الأزدي، فلما بلغوا مخلدا نزل الناس كلهم غير وكيع ومُحَمَّد بن حمران السعدي وعباد بن لقيط أحد بني قيس بن ثعلبة، فأنزلوهم، فلما قدم مرو حبس وكيعا فعذبه، وأخذ أصحابه فعذبهم قبل قدوم أبيه.
قال علي عن كليب بن خلف، قال: أخبرنا إدريس بن حنظلة، قال:
لما قدم مخلد خراسان حبسني، فجاءني ابن الأهتم فقال لي: أتريد أن تنجو؟
قلت: نعم، قال: أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المري إلى قتيبة في خلع سليمان، فقلت له: يا بن الأهتم،
(6/527)
إياي تخدع عن ديني! قال: فدعا بطومار وقال: انك احمق فكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قيس إلى قتيبة أن، الوليد بن عبد الملك قد مات، وسُلَيْمَان باعث هذا المزوني على خراسان فاخلعه.
فقلت: يا بن الأهتم، تهلك والله نفسك! والله لئن دخلت عليه لأعلمنه أنك كتبتها.
وفي هذه السنة شخص يزيد بن المهلب إلى خراسان أميرا عليها، فذكر علي بن مُحَمَّد، عن أبي السري الأزدي، عن عمه، قال: ولي وكيع خراسان بعد قتل قتيبة تسعة أشهر أو عشرة وقدم يزيد بن المهلب سنة سبع وتسعين.
قال علي: فذكر المفضل بن مُحَمَّد عن أبيه، قال: أدنى يزيد أهل الشام وقوما من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة:
وما كنا نؤمل من أمير ... كما كنا نؤمل من يزيد
فأخطأ ظننا فيه وقدما ... زهدنا في معاشرة الزهيد
إذا لم يعطنا نصفا أمير ... مشينا نحوه مثل الأسود
فمهلا يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد
نجيء فلا نرى إلا صدودا ... على أنا نسلم من بعيد
ونرجع خائبين بلا نوال ... فما بال التجهم والصدود!
قال علي: أخبرنا زياد بن الربيع، عن غالب القطان، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز واقفا بعرفات في خلافة سُلَيْمَان، وقد حج سُلَيْمَان عامئذ وهو يقول لعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد: العجب لأمير المؤمنين، استعمل رجلا على أفضل ثغر للمسلمين! فقد بلغني عمن يقدم من التجار من ذلك الوجه أنه يعطي الجارية من جواريه مثل سهم ألف رجل أما والله
(6/528)
ما الله أراد بولايته- فعرفت أنه يعني يزيد والجهنية- فقلت: يشكر بلاءهم أيام الأزارقة.
قال: ووصل يزيد عبد الملك بن سلام السلولي فقال:
ما زال سيبك يا يزيد بحوبتي ... حتى ارتويت وجودكم لا ينكر
أنت الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وعاش المقتر
عمت سحابته جميع بلادكم ... فرووا وأغدقهم سحاب ممطر
فسقاك ربك حيث كنت مخيلة ... ريا سحائبها تروح وتبكر
وفي هذه السنة حج بالناس سُلَيْمَان بن عبد الملك، حدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وفيها عزل سُلَيْمَان طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، قال الواقدي:
حدثني إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي مليكه، قال: لما صدر سليمان ابن عبد الملك من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر، وولي عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن اسيد ابن أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ بن عبد مناف.
وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها إلا خراسان، فإن عاملها على الحرب والخراج والصلاة يزيد بن المهلب.
وكان خليفته على الكوفة- فيما قيل- حرملة بن عمير اللخمي أشهرا، ثم عزله وولاها بشير بن حسان النهدي.
(6/529)
ثم دخلت
سنة ثمان وتسعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
خبر محاصره مسلمه بن عبد الملك القسطنطينية
فمن ذلك ما كان من توجيه سُلَيْمَان بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها او يأتيه، فشتا بها وصاف فذكر مُحَمَّد بن عمر أن ثور بن يزيد حدثه عن سُلَيْمَان بن موسى، قال: لما دنا مسلمة من قسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مديين من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام فألقي في ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئا، أغيروا في ارضهم، وازدرعوا وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع، فأقام مسلمة بالقسطنطينية قاهرا لأهلها، معه وجوه أهل الشام: خالد بن معدان، وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي، ومجاهد بن جبر، حتى أتاه موت سليمان فقال القائل:
تحمل مدييها ومديى مسلمة.
حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن مُحَمَّد، قال: لما ولي سُلَيْمَان غزا الروم فنزل دابق، وقدم مسلمة فهابه الروم، فشخص إليون من أرمينية، فقال لمسلمة: ابعث إلي رجلا يكلمني، فبعث ابن هبيرة، فقال له ابن هبيرة: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل شيء يجده، فقال له ابن هبيرة: إنا أصحاب دين، ومن ديننا طاعة
(6/530)
أمرائنا، قال: صدقت، كنا وأنتم نقاتل على الدين ونغضب له، فأما اليوم فإنا نقاتل على الغلبة والملك، نعطيك عن كل رأس دينارا.
فرجع ابن هبيرة إلى الروم من غده، وقال: أبى أن يرضى، أتيته وقد تغدى وملأ بطنه ونام، فانتبه وقد غلب عليه البلغم، فلم يدر ما قلت.
وقالت البطارقة لإليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك فوثقوا له، فأتى مسلمة فقال: قد علم القوم أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، ولو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم، فأحرقه، فقوي العدو، وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، فكانوا على ذلك حتى مات سُلَيْمَان قال: وكان سُلَيْمَان بن عبد الملك لما نزل دابق اعطى الله عهدا الا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى الروم القسطنطينية.
قال: وهلك ملك الروم، فأتاه إليون فأخبره، وضمن له أن يدفع إليه أرض الروم، فوجه معه مسلمة حتى نزل بها، وجمع كل طعام حولها وحصر أهلها وأتاهم إليون فملكوه، فكتب إلى مسلمة يخبره بالذي كان، ويسأله أن يدخل من الطعام ما يعيش به القوم، ويصدقونه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من السباء والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة في حمل الطعام، وقد هيأ إليون السفن والرجال، فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر، حمل في ليلة، وأصبح إليون محاربا، وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وسُلَيْمَان مقيم بدابق، ونزل الشتاء فلم يقدر يمدهم حتى هلك سليمان.
مبايعه سليمان لابنه أيوب وليا للعهد
وفي هذه السنة بايع سُلَيْمَان بن عبد الملك لابنه أيوب بن سُلَيْمَان وجعله ولي عهده، فحدثني عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قال: كان عبد الملك أخذ على الوليد وسُلَيْمَان أن يبايعا لابن عاتكة ولمروان بن عبد الملك
(6/531)
من بعده، قال: فحدثني طارق بن المبارك، قال: مات مروان بن عبد الملك في خلافة سُلَيْمَان منصرفه من مكة، فبايع سُلَيْمَان حين مات مروان لأيوب، وأمسك عن يزيد وتربص به، ورجا أن يهلك، فهلك أيوب وهو ولي عهده.
وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة، قال مُحَمَّد بن عمر: أغارت برجان في سنة ثمان وتسعين على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس، فأمده سُلَيْمَان بن عبد الملك بمسعدة- أو عمرو بن قيس- في جمع فمكرت بهم الصقالبة، ثم هزمهم الله بعد أن قتلوا شراحيل بن عبد ابن عبدة.
وفي هذه السنة- فيما زعم الواقدي- غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناسا من ضواحي الروم وأسر منهم بشرا كثيرا.
غزو جرجان وطبرستان
وفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان، فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن يزيد بن المهلب لما قدم خراسان أقام ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم أقبل إلى دهستان وجرجان، وبعث ابنه مخلدا على خراسان، وجاء حتى نزل بدهستان، وكان أهلها طائفة من الترك، فأقام عليها، وحاصر أهلها، معه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ووجوه أهل خراسان والري، وهو في مائة ألف مقاتل سوى الموالي والمماليك والمتطوعين، فكانوا يخرجون فيقاتلون الناس، فلا يلبثهم الناس أن يهزموهم فيدخلون حصنهم، ثم يخرجون أحيانا فيقاتلون فيشتد قتالهم.
وكان جهم وجمال ابنا زحر من يزيد بمكان، وكان يكرمهما، وكان مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي له لسان وبأس، غير أنه كان يفسد نفسه بالشراب، وكان لا يكثر غشيان يزيد وأهل بيته، وكأنه
(6/532)
أيضا حجزه عن ذلك ما رأى من حسن أثرهم على ابني زحر جهم وجمال وكان إذا نادى المنادي: يا خيل الله اركبي وأبشري كان أول فارس من أهل العسكر يبدر إلى موقف البأس عند الروع مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة، فنودي ذات يوم في الناس، فبدر الناس ابن أبي سبرة، فإنه لواقف على تل إذ مر به عثمان بن المفضل، فقال له: يا بن أبي سبرة، ما قدرت على أن أسبقك إلى الموقف قط، فقال:
وما يغني ذلك عني، وأنتم ترشحون غلمان مذحج، وتجهلون حق ذوي الأسنان والتجارب والبلاء! فقال: أما إنك لو تريد ما قبلنا لم نعدل عنك ما أنت له أهل.
قال: وخرج الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فحمل مُحَمَّد بن أبي سبرة على تركي قد صد الناس عنه، فاختلفا ضربتين، فثبت سيف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل وسيفه في يده يقطر دما، وسيف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه من فارس، ونظر يزيد إلى ائتلاق السيفين والبيضة والسلاح فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أبي سبرة، فقال: لله أبوه! أي رجل هو لولا إسرافه على نفسه! وخرج يزيد بعد ذلك يوما وهو يرتاد مكانا يدخل منه على القوم، فلم يشعر بشيء حتى هجم عليه جماعة من الترك- وكان معه وجوه الناس وفرسانهم، وكان في نحو من أربعمائة، والعدو في نحو من أربعة آلاف- فقاتلهم ساعة، ثم قالوا ليزيد: أيها الأمير، انصرف ونحن نقاتل عنك، فأبى أن يفعل، وغشي القتال يومئذ بنفسه، وكان كأحدهم، وقاتل ابن أبي سبرة وابنا زحر والحجاج بن جارية الخثعمي وجل أصحابه، فأحسنوا القتال، حتى إذا أرادوا الانصراف جعل الحجاج بن جارية على
(6/533)
الساقة، فكان يقاتل من ورائه حتى انتهى إلى الماء، وقد كانوا عطشوا فشربوا، وانصرف عنهم العدو، ولم يظفروا منهم بشيء، فقال سفيان ابن صفوان الخثعمي:
لولا ابن جارية الأغر جبينه ... لسقيت كأسا مرة المتجرع
وحماك في فرسانه وخيوله ... حتى وردت الماء غير متعتع
ثم إنه ألح عليها وأنزل الجنود من كل جانب حولها، وقطع عنهم المواد، فلما جهدوا، وعجزوا عن قتال المسلمين، واشتد عليهم الحصار والبلاء، بعث صول دهقان دهستان إلى يزيد: إني أصالحك على أن تؤمنني على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها.
فصالحه، وقبل منه، ووفى له، ودخل المدينة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز ومن السبي شيئا لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا، وكتب بذلك إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك.
ثم خرج حتى أتى جرجان، وقد كانوا يصالحون أهل الكوفة على مائه الف، ومائتي الف أحيانا، وثلاثمائة ألف، وصالحوهم عليها، فلما أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح وهابوه وزادوه، واستخلف عليهم رجلا من الأزد يقال له: أسد بن عبد الله، ودخل يزيد إلى الإصبهبذ في طبرستان فكان معه الفعلة يقطعون الشجر، ويصلحون الطرق، حتى انتهوا إليه، فنزل به فحصره وغلب على أرضه، وأخذ الإصبهبذ يعرض على يزيد الصلح ويريده على ما كان يؤخذ منه، فيأبى رجاء افتتاحها فبعث ذات يوم أخاه أبا عيينة في أهل المصرين، فأصعد في الجبل إليهم، وقد بعث الإصبهبذ إلى الديلم، فاستجاش بهم، فاقتتلوا، فحازهم المسلمون ساعة وكشفوهم، وخرج رأس الديلم يسأل المبارزة، فخرج إليه ابن أبي سبرة فقتله، فكانت هزيمتهم حتى انتهى المسلمون إلى فم الشعب،
(6/534)
فذهبوا ليصعدوا فيه، وأشرف عليهم العدو يرشقونهم بالنشاب، ويرمونهم بالحجارة، فانهزم الناس من فم الشعب من غير كبير قتال ولا قوة من عدوهم على اتباعهم وطلبهم، وأقبلوا يركب بعضهم بعضا، حتى أخذوا يتساقطون في اللهوب، ويتدهدى الرجل من رأس الجبل حتى نزلوا إلى عسكر يزيد لا يعبئون بالشر شيئا.
وأقام يزيد بمكانه على حاله، وأقبل الإصبهبذ يكاتب أهل جرجان ويسألهم أن يثبوا بأصحاب يزيد، وأن يقطعوا عليه مادته والطرق فيما بينه وبين العرب، ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فوثبوا بمن كان يزيد خلف من المسلمين، فقتلوا منهم من قدروا عليه، واجتمع بقيتهم فتحصنوا في جانب، فلم يزالوا فيه حتى خرج إليهم يزيد وأقام يزيد على الإصبهبذ في ارضه حتى صالحه على سبعمائة الف درهم وأربعمائة الف نقدا ومائتي الف وأربعمائة حمار موقره زعفرانا، وأربعمائة رجل؟
على راس كل رجل برنس، على البرنس طيلسان ولجام من فضة وسرقة من حرير، وقد كانوا صالحوا قبل ذلك على مائتي ألف درهم.
ثم خرج منها يزيد وأصحابه كأنهم فل، ولولا ما صنع أهل جرجان لم يخرج من طبرستان حتى يفتحها.
وأما غير أبي مخنف، فإنه قال في أمر يزيد وأمر أهل جرجان ما حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن مُحَمَّد، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ صَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا، فَلَمْ يَأْتِ جُرْجَانَ بَعْدَ سَعِيدٍ أَحَدٌ، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته أحد إِلا عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ مِنْ أَهْلِ جُرْجَانَ، كان الطَّرِيقُ إِلَى خُرَاسَانَ مِنْ فَارِسٍ إِلَى كَرْمَانَ، فَأَوَّلُ مَنْ صَيَّرَ الطَّرِيقَ مِنْ قُومِسَ قُتَيْبَةُ بن مسلم حين ولي خراسان ثم غزا مصقلة خراسان أيام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب وجنده بالرويان، وهي متاخمة طبرستان
(6/535)
فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدو عليهم بمضايقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمى وادي مصقلة.
قال: وكان يضرب به المثل حتى يرجع مصقلة من طبرستان، قال عَلِيٌّ، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ طُفَيْلِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْعَمِّيِّ وَإِدْرِيسَ بْنِ حَنْظَلَةَ: إن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، فكانوا يجيئون أَحْيَانًا مِائَةَ أَلْفٍ، وَيَقُولُونَ: هَذَا صُلْحُنَا، وَأَحْيَانًا مائتي الف، وأحيانا ثلاثمائه أَلْفٍ، وَكَانُوا رُبَّمَا أَعْطَوْا ذَلِكَ، وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ، ثُمَّ امْتَنَعُوا وَكَفَرُوا فَلَمْ يُعْطُوا خَرَاجًا، حَتَّى أَتَاهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَلَمْ يُعَازِّهِ أَحَدٌ حين قدمها، فلما صالح صول وَفَتَحَ الْبَحِيرَةَ وَدِهِسُتَانَ صَالَحَ أَهْلَ جُرْجَانَ عَلَى صلح سعيد بن العاص.
حدثني أحمد، عن عَلِيٌّ عَنْ كُلَيْبِ بْنِ خَلَفٍ الْعَمِّيِّ عَنْ طفيل بن مرداس، وبشر بن عيسى بن ابى صفوان، قال علي:
وحدثني أبو حفص الأزدي عن سليمان بن كثير، وغيرهم، ان صولا التركي كان ينزل دهستان والبحيرة- جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم- فكان صول يغير على فيروز بن قول، مرزبان جرجان، وبينهم خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان، فوقع بين فيروز وبين ابن عم له يقال له المرزبان منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل البياسان، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلب بخراسان، وأخذ صول جرجان، فلما قدم على يزيد بن المهلب قال له: ما أقدمك؟
قال: خفت صولا، فهربت منه، قال له يزيد: هل من حيلة لقتاله؟
قال: نعم، شيء واحد، إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده، قال:
ما هو؟ قال: إن خرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، ثم أتيته ثَم فحاصرته بها ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال
(6/536)
لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل له على ذلك جعلا، ومنه، فإنه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه لأنه يعظمه، فيتحول عن جرجان، فينزل البحيرة.
فكتب يزيد بن المهلب إلى صاحب طبرستان: أني أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت إن بلغه أني أريد ذلك أن يتحول إلى البحيرة فينزلها، فإن تحول إليها لم أقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان فلم يأت البحيرة حملت إليك خمسين ألف مثقال، فاحتل له حيلة، تحبسه بجرجان، فإنه إن أقام بها ظفرت به فلما رأى الإصبهبذ الكتاب أراد أن يتقرب إلى صول، فبعث بالكتاب إليه، فلما أتاه الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة وحمل الأطعمة ليتحصن فيها وبلغ يزيد أنه قد سار من جرجان إلى البحيرة، فاعتزم على السير إلى الجرجان، فخرج في ثلاثين ألفا، ومعه فيروز ابن قول، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، واستخلف على سمرقند وكس ونسف وبخارى ابنه معاوية بن يزيد، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب، وأقبل حتى أتى جرجان- ولم تكن يومئذ مدينة إنما هي جبال محيطة بها، وأبواب ومخارم، يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد- فدخلها يزيد لم يعازه أحد، وأصاب أموالا، وهرب المرزبان، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، فأناخ على صول، وتمثل حين نزل بهم:
فخر السيف وارتعشت يداه وكان بنفسه وقيت نفوس قال: فحاصرهم، فكان يخرج إليه صول في الأيام فيقاتله ثم يرجع إلى حصنه، ومع يزيد أهل الكوفة وأهل البصرة ثم ذكر من قصه جهم ابن زحر وأخيه محمد نحوا مما ذكره هشام، غير أنه قال في ضربة التركي ابن أبي سبرة: فنشب سيف التركي في درقة ابن أبي سبرة
(6/537)
قال علي بن مُحَمَّد، عن علي بن مجاهد، عن عنبسة، قال: قاتل مُحَمَّد بن أبي سبرة الترك بجرجان فأحاطوا به واعتوروه بأسيافهم، فانقطع في يده ثلاثة أسياف.
ثم رجع إلى حديثهم، قال: فمكثوا بذلك- يعني الترك- محصورين يخرجون فيقاتلون، ثم يرجعون إلى حصنهم ستة أشهر، حتى شربوا ماء الأحساء، فأصابهم داء يسمى السؤاد، فوقع فيهم الموت، وأرسل صول في ذلك يطلب الصلح، فقال يزيد بن المهلب: لا، إلا أن ينزل على حكمي، فأبى فأرسل إليه: إني أصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائه من أهل بيتي وخاصتي، على أن تؤمنني فتنزل البحيرة فأجابه إلى ذاك يزيد، فخرج بماله وثلاثمائه ممن أحب، وصار مع يزيد، فقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفا صبرا، ومن على الآخرين فلم يقتل منهم أحدا وقال الجند ليزيد: أعطنا أرزاقنا، فدعا إدريس بن حنظله العمى، فقال: يا بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند، فدخلها إدريس، فلم يقدر على احصاء ما فيها، فقال ليزيد:
فيها مالا أستطيع إحصاءه، وهو في ظروف، فنحصي الجواليق ونعلم ما فيها، ونقول للجند: ادخلوا فخذوا، فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل قال: نعم ما رأيت، فأحصوا الجواليق عددا، وعلموا كل جوالق ما فيه، وقالوا للجند: خذوا، فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابا أو طعاما أو ما حمل من شيء فيكتب على كل رجل ما أخذ، فأخذوا شيئا كثيرا.
قال علي: قال أبو بكر الهذلي: كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها، فدعا يزيد الذي رفع عليه فشتمه، وقال لشهر: هي لك، قال:
لا حاجة لي فيها، فقال القطامي الكلبي- ويقال: سنان بن مكمل النميري:
(6/538)
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
أخذت به شيئا طفيفا وبعته ... من ابن جونبوذ ان هذا هو الغدر
وقال مرة النخعي لشهر:
يا بن المهلب ما أردت إلى امرئ ... لولاك كان كصالح القراء
قال علي: قال أبو مُحَمَّد الثقفي: أصاب يزيد بن المهلب تاجا بجرجان فيه جوهر، فقال: أترون أحدا يزهد في هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا مُحَمَّد بن واسع الأزدي، فقال: خذ هذا التاج فهو لك، قَالَ: لا حاجة لي فِيهِ، قال: عزمت عليك، فأخذه، وخرج فأمر يزيد رجلا ينظر ما يصنع به، فلقي سائلا فدفعه إليه، فأخذ الرجل السائل، فأتى به يزيد وأخبره الخبر، فأخذ يزيد التاج، وعوض السائل مالا كثيرا.
قال علي: وكان سُلَيْمَان بن عبد الملك كلما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلب: أما ترى ما يصنع الله على يدي قتيبة؟ فيقول ابن المهلب:
ما فعلت جرجان التي حالت بين الناس والطريق الأعظم، وأفسدت قومس وأبرشهر! ويقول: هذه الفتوح ليست بشيء، الشأن في جرجان.
فلما ولي يزيد بن المهلب لم يكن له همة غير جرجان قال: ويقال: كان يزيد بن المهلب في عشرين ومائة ألف، معه من أهل الشام ستون ألفا.
قال علي في حديثه، عمن ذكر خبر جرجان عنهم: وزاد فيه على ابن مجاهد، عن خالد بن صبيح أن يزيد بن المهلب لما صالح صولا طمع في طبرستان أن يفتحها، فاعتزم على أن يسير إليها، فاستعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على البياسان ودهستان، وخلف معه أربعة آلاف، ثم أقبل إلى أداني جرجان مما يلي طبرستان، واستعمل على أندرستان أسد ابن عمرو- أو ابن عبد الله بن الربعة- وهي مما يلي طبرستان، وخلفه، في أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ فأرسل إليه يسأله الصلح،
(6/539)
وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد، ورجا أن يفتحها، فوجه أخاه أبا عيينة من وجه، وخالد بن يزيد ابنه من وجه، وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة وقال يزيد لأبي عيينة: شاور هريما فإنه ناصح وأقام يزيد معسكرا.
قال: واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان وأهل الديلم، فأتوه فالتقوا في سند جبل، فانهزم المشركون، وأتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب فدخله المسلمون، فصعد المشركون في الجبل، وأتبعهم المسلمون، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف العدو عن أتباعهم، وخافهم الإصبهبذ، فكتب إلى المرزبان ابن عم فيروز بن قول وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان: إنا قد قتلنا يزيد وأصحابه فاقتل من في البياسان من العرب فخرج إلى أهل البياسان والمسلمون غارون في منازلهم، قد أجمعوا على قتلهم، فقتلوا جميعا في ليلة، فأصبح عبد الله بن المعمر مقتولا وأربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحد، وقتل من بني العم خمسون رجلا، قتل الحسين بن عبد الرحمن واسماعيل ابن إبراهيم بن شماس وكتب إلى الإصبهبذ يأخذ بالمضايق والطرق.
وبلغ يزيد قتل عبد الله بن المعمر وأصحابه، فأعظموا ذلك، وهالهم، ففزع يزيد إلى حيان النبطي وقال: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين، قد جاءنا عن جرجان ما جاءنا، وقد أخذ هذا بالطرق، فاعمل في الصلح، قال: نعم، فأتى حيان الإصبهبذ فقال: أنا رجل منكم، وإن كان الدين قد فرق بيني وبينكم، فانى لكم ناصح، وأنت أحب إلي من يزيد، وقد بعث يستمد، وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفا، ولست آمن ان يأتيك مالا تقوم له، فأرح نفسك منه، وصالحه
(6/540)
فإنك إن صالحته صير حده على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا، فصالحه على سبعمائة الف- وقال على بن مجاهد: على خمسمائة الف- وأربعمائة وقر زعفران او قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل برنس وطيلسان، ومع كل رجل جام فضة وسرقة خز وكسوة.
ثم رجع إلى يزيد بن المهلب فقال: ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه، قال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم وكان يزيد قد طابت نفسه على أن يعطيهم ما سألوا، ويرجع إلى جرجان فأرسل يزيد من يحمل ما صالحهم عليه حيان، وانصرف إلى جرجان، وكان يزيد قد غرم حيانا مائتي الف، فخاف الا يناصحه.
والسبب الذى له اغرم حيان فيه ما حدثني علي بن مجاهد، عن خالد بن صبيح، قال: كنت مؤدبا لولد حيان، فدعاني فقال لي: اكتب كتابا إلى مخلد بن يزيد- ومخلد يومئذ ببلخ، ويزيد بمرو- فتناولت القرطاس، فقال: اكتب: من حيان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد، فغمزني مقاتل ابن حيان الا تكتب، وأقبل على أبيه فقال: يا أبت تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك! قال: نعم يا بني، فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة ثم قال لي: اكتب، فكتبت، فبعث مخلد بكتابه إلى أبيه، فأغرم يزيد حيان مائتي الف درهم.
فتح جرجان
وفي هذه السنة فتح يزيد جرجان الفتح الآخر بعد غدرهم بجنده ونقضهم العهد، قال علي، عن الرهط الذين ذكر أنهم حدثوه بخبر جرجان وطبرستان: ثم إن يزيد لما صالح أهل طبرستان قصد لجرجان، فأعطى الله عهدا، لئن ظفر بهم الا يقلع عنهم، ولا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم، ويختبز من ذلك الطحين، ويأكل منه،
(6/541)
فلما بلغ المرزبان أنه قد صالح الإصبهبذ وتوجه إلى جرجان، جمع أصحابه وأتى وجاه، فتحصن فيها، وصاحبها لا يحتاج إلى عدة من طعام ولا شراب وأقبل يزيد حتى نزل عليها وهم متحصنون فيها، وحولها غياض فليس يعرف لها إلا طريق واحد، فأقام بذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لهم مأتى إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون في الأيام فيقاتلونه ويرجعون إلى حصنهم، فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان كان مع يزيد يتصيد ومعه شاكرية له.
وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف: فخرج رجل من عسكره من طيئ يتصيد، فأبصر وعلا يرقي في الجبل، فأتبعه، وقال لمن معه:
قفوا مكانكم، ووقل في الجبل يقتص الأثر، فما شعر بشيء حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد اصحابه، فخاف الا يهتدي، فجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، حتى وصل إلى أصحابه، ثم رجع إلى العسكر ويقال: إن الذي كان يتصيد الهياج بن عبد الرحمن الأزدي من أهل طوس، وكان منهوما بالصيد، فلما رجع إلى العسكر أتى عامر بن أينم الواشجي صاحب شرطة يزيد، فمنعوه من الدخول، فصاح:
إن عندي نصيحة.
وقال هشام عن أبي مخنف: جاء حتى رفع ذلك الى ابني زحر بن قيس، فانطلق به ابنا زحر حتى أدخلاه على يزيد فأعلمه، فضمن له بضمان الجهنية- أم ولد كانت ليزيد- على شيء قد سماه.
وقال علي بن مُحَمَّد في حديثه عن أصحابه: فدعا به يزيد فقال:
ما عندك؟ قال: أتريد أن تدخل وجاه بغير قتال؟ قال: نعم، قال:
جعالتي؟ قال: احتكم، قال: أربعة آلاف، قال: لك دية، قال:
عجلوا لي أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الإحسان فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال: الطريق لا يحمل هذه الجماعة لالتفاف الغياض، فاختار منهم ثلاثمائة، فوجههم، واستعمل عليهم جهم بن زحر
(6/542)
وقال بعضهم: استعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي منهزما، وضم إليه جهم بن زحر، وقال يزيد للرجل الذي ندب الناس معه: متى تصل إليهم؟ قال: غدا عند العصر فيما بين الصلاتين، قال: امضوا على بركة الله، فإني سأجهد على مناهضتهم غدا عند صلاة الظهر فساروا، فلما قارب انتصاف النهار من غد أمر يزيد الناس أن يشعلوا النار في حطب كان جمعه في حصاره إياهم، فصيره آكاما، فأضرموه نارا، فلم تزل الشمس حتى صار حول عسكره أمثال الجبال من النيران، ونظر العدو إلى النار، فهالهم ما رأوا من كثرتها، فخرجوا إليهم وأمر يزيد الناس حين زالت الشمس فصلوا، فجمعوا بين الصلاتين، ثم زحفوا إليهم فاقتتلوا، وسار الآخرون بقية يومهم والغد، فهجموا على عسكر الترك قبيل العصر، وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتل من هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقطعوا جميعا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم، وقتل مقاتلتهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفا إلى الأندرهز- وادي جرجان- وقال: من طلبهم بثأر فليقتل، فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة في الوادي، وأجرى الماء في الوادي على الدم، وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم، ولتبر يمينه، فطحن واختبز وأكل وبنى مدينة جرجان وقال بعضهم: قتل يزيد من أهل جرجان أربعين ألفا، ولم تكن قبل ذلك مدينة ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي.
وأما هشام بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن أبي مخنف أنه قال: دعا يزيد جهم ابن زحر فبعث معه أربعمائة رجل حتى أخذوا في المكان الذي دلوا عليه وقد أمرهم يزيد فقال: إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا، حتى إذا كان في السحر فكبروا، ثم انطلقوا نحو باب المدينة، فإنكم تجدوني وقد نهضت بجميع الناس إلى بابها، فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى إذا كانت
(6/543)
الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا إلا قتله وكبر، ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قط فيما مضى، فلم يرعهم إلا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبرون فدهشوا، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأقبلوا لا يدرون أين يتوجهون! غير أن عصابة منهم ليسوا بالكثير قد أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة، فدقت يد جهم، وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبثوهم أن قتلوهم إلا قليلا وسمع يزيد بن المهلب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدوهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع عنه كبير دفع، ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجذوع فرسخين عن يمين الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها، وأصاب ما كان فيها قال علي في حديثه، عن شيوخه، الذين قد ذكرت أسماءهم قبل، وكتب يزيد إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك:
أما بعد، فإن الله قد فتح لأمير المؤمنين فتحا عظيما، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه، أظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسرى بن قباذ وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان ومن بعدهما من خلفاء الله، حتى فتح الله ذلك لأمير المؤمنين، كرامة من الله له، وزيادة في نعمه عليه وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفيء والغنيمة ستة آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تكتب بتسمية مال، فإنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وإما سخت نفسه لك به فسوغكه فتكلفت الهدية، فلا يأتيه من قبلك شيء الا استقبله، فكأني بك قد استغرقت ما سميت
(6/544)
ولم يقع منه موقعا، ويبقى المال الذي سميت مخلدا عندهم عليك في دواوينهم، فإن ولي وال بعده أخذك به، وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالفتح، سله القدوم فتشافهه بما أحببت مشافهة، ولا تقصر، فإنك إن تقصر عما أحببت أحرى من ان تكثر فأبى يزيد وامضى وقال: بعضهم كان في الكتاب أربعة آلاف ألف قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي أيوب بن سُلَيْمَان بن عبد الملك، فحدثت عن علي بن مُحَمَّد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن شيخ من أهل الري أدرك يزيد، قال: أتى يزيد بن المهلب الري حين فرغ من جرجان، فبلغه وفاة أيوب بن سُلَيْمَان وهو يسير في باغ أبي صالح على باب الري، فارتجز راجز بين يديه فقال:
إن يك أيوب مضى لشأنه ... فإن داود لفي مكانه
يقيم ما قد زال من سلطانه.
وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة وفيها.
غزا داود بن سُلَيْمَان بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصن المرأة مما يلي ملطية.
وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن السيد وهو يومئذ أمير على مكة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر.
وكان عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة هم العمال الذين كانوا عليها سنة سبع، وقد ذكرناهم قبل، غير أن عامل يزيد بن المهلب على البصرة في هذه السنة كان- فيما قيل- سفيان بن عبد الله الكندي.
(6/545)
ثم دخلت
سنة تسع وتسعين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
وفاه سليمان بن عبد الملك
فمن ذلك وفاة سُلَيْمَان بن عبد الملك، توفي- فيما حدثت عن هشام، عن أبي مخنف- بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام.
وقد قيل: توفي لعشر ليال مضين من صفر وقيل: كانت خلافته سنتين وسبعة أشهر وقيل: سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام.
وقد حدث الحسن بن حماد، عن طلحة أبي مُحَمَّد، عن أشياخه، أنهم قالوا: استخلف سُلَيْمَان بن عبد الملك بعد الوليد ثلاث سنين وصلى عليه عمر بن عبد العزيز.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي سُلَيْمَان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر
. ذكر الخبر عن بعض سيره:
حدثت عن علي بن مُحَمَّد، قال: كان الناس يقولون: سُلَيْمَان مفتاح الخير، ذهب عنهم الحجاج، فولي سُلَيْمَان، فأطلق الأسارى، وخلى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز، فقال ابن بيض:
حاز الخلافة والداك كلاهما ... من بين سخطة ساخط أو طائع
أبواك ثم أخوك أصبح ثالثا ... وعلى جبينك نور ملك الرابع
وقال علي: قال المفضل بن المهلب: دخلت على سُلَيْمَان بدابق يوم
(6/546)
جمعة، فدعا بثياب فلبسها، فلم تعجبه، فدعا بغيرها بثياب خضر سوسية بعث بها يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم وقال: يا بن المهلب، أعجبتك؟ قلت: نعم، فحسر عن ذراعيه ثم قال: أنا الملك الفتى، فصلى الجمعة، ثم لم يجمع بعدها، وكتب وصيته ودعا ابن أبي نعيم صاحب الخاتم فختمه.
قال علي: قال بعض أهل العلم: إن سُلَيْمَان لبس يوما حلة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعا.
قال علي: وحدثنا سحيم بن حفص، قال: نظرت إلى سُلَيْمَان جارية له يوما، فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
أنت خير المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فان
فنفض عمامته.
قال علي: كان قاضى سليمان سُلَيْمَان بن حبيب المحاربي، وكان ابن أبي عيينة يقص عنده.
وحدثت عن أبي عبيدة، عن رؤبة بن العجاج، قال: حج سُلَيْمَان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، وحججت معهم، فلما كان بالمدينة راجعا تلقوه بنحو من أربعمائة أسير من الروم، فقعد سُلَيْمَان، وأقربهم منه مجلسا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ص، فقدم بطريقهم فقال: يا عبد الله، اضرب عنقه، فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفه فضربه فأبان الرأس، وأطن الساعد وبعض الغل، فقال سُلَيْمَان: أما والله ما من جودة السيف
(6/547)
جادت الضربة، ولكن لحسبه، وجعل يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفا في قراب أبيض، فضربه فأبان راسه، ودفع الى الفرزدق اسير فلم يجد سيفا، فدسوا له سيفا ددانا مثنيا لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئا، فضحك سُلَيْمَان والقوم، وشمت بالفرزدق بنو عبس أخوال سُلَيْمَان، فألقى السيف وأنشأ يقول، ويعتذر الى سليمان، وياتسى بن بو سيف ورقاء عن راس خالد:
ان يك سيف خان أو قدر أتى ... بتأخير نفس حتفها غير شاهد
فسيف بني عبس وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحيانا مناط القلائد
وورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر بن كلاب، وخالد مكب على أبيه زهير قد ضربه بالسيف وصرعه، فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدا، فلم يصنع شيئا، فقال ورقاء ابن زهير:
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فشلت يميني يوم أضرب خالدا ... ويحصنه مني الحديد المظاهر
وقال الفرزدق في مقامه ذلك:
أيعجب الناس أن أضحكت خيرهم ... خليفة الله يستسقي به المطر
فما نبا السيف عن جبن ودهش ... عند الإمام ولكن أخر القدر
(6/548)
ولو ضربت على عمرو مقلده ... لخر جثمانه ما فوقه شعر
وما يعجل نفسا قبل ميتتها ... جمع اليدين ولا الصمصامه الذكر
وقال جرير في ذلك:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت ... يداك، وقالوا محدث غير صارم
حدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي، أبي قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان قَالَ: حدثني عبد الله بْن مُحَمَّد بْن عيينة، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد العزيز بن الضحاك بن قيس، قال: شهد سُلَيْمَان بن عبد الملك جنازة بدابق، فدفنت في حقل، فجعل سُلَيْمَان يأخذ من تلك التربة فيقول:
ما أحسن هذه التربة! ما أطيبها! فما أتى عليه جمعة- أو كما قال- حتى دفن إلى جنب ذلك القبر
(6/549)
خلافة عمر بن عبد العزيز
وفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم.
ذكر الخبر عن سبب استخلاف سُلَيْمَان إياه:
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني الهيثم بن واقد، قال: استخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر مضين من صفر سنة تسع وتسعين.
قال مُحَمَّد بن عمر: حدثني داود بن خالد بن دينار، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة، يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سُلَيْمَان بن عبد الملك ثيابا خضرا من خز، ونظر في المرآة، فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة، فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام ولم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين! إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح فقال سُلَيْمَان: أنا أستخير الله وأنظر فيه ولم أعزم عليه، قال: فمكث يوما أو يومين، ثم خرقه، فدعاني، فقال: ما ترى في داود بن سُلَيْمَان؟ فقلت: هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أم ميت! فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك يا امير المؤمنين، وانا اريد أنظر من يذكر، قال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت:
أعلمه والله خيرا فاضلا مسلما، فقال: هو والله على ذلك، ثم قال: والله لئن وليته ولم أول أحدا سواه لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم، قال: فيزيد ابن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به، قلت:
رأيك قال: فكتب
(6/550)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ عبد الله سُلَيْمَان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم.
وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب شرطه فقال: مر أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل كعب إليهم أن يجتمعوا فاجتمعوا، ثم قال سُلَيْمَان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي، وأمرهم فليبايعوا من وليت فيه، ففعل رجاء، فلما قال رجاء ذلك لهم قالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فدخلوا فقال لهم سُلَيْمَان في هذا الكتاب- وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إليه في يد رجاء ابن حيوة- عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب.
فبايعوه رجلا رجلا، ثم خرج بالكتاب مختوما في يد رجاء بن حيوة.
قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئا من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة! قال رجاء: لا والله ما أنا بمخبرك حرفا، قال:
فذهب عمر غضبان.
قال رجاء: لقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة، وعندي شكر، فأعلمني هذا الأمر، فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، فأعلمني فلك الله على الا أذكر من ذلك شيئا أبدا قال رجاء: فأبيت فقلت: والله لا أخبرك حرفا واحدا مما أسر إلي.
قال: فانصرف هشام وهو قد يئس، ويضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال رجاء: ودخلت على سُلَيْمَان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من
(6/551)
سكرات الموت حرفته إلى القبلة، فجعل يقول حين يفيق: لم يأن لذلك بعد يا رجاء، ففعلت ذلك مرتين، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئا، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أن مُحَمَّدا عبده ورسوله.
قال: فحرفته ومات، فلما غمضته سجيته بقطيفة خضراء، وأغلقت الباب.
وأرسلت إلي زوجته تقول: كيف أصبح؟ فقلت: نائم، وقد تغطى، فنظر الرسول إليه مغطى بالقطيفة، فرجع فأخبرها فقبلت ذلك، وظنت أنه نائم، قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به، واوصيته الا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن حامد العبسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، فقالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا عهد أمير المؤمنين، فبايعوا على ما أمر به ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية، رجلا رجلا قال رجاء:
فلما بايعوا بعد موت سُلَيْمَان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، قالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وقرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبدا، قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه.
قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فاجلسته لما وقع فيه وهشام يسترجع على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! حين صارت الى لكراهته إياها، والآخر يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، حيث نحيت عني.
قال: وغسل سُلَيْمَان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، قال رجاء: فلما فرغ من دفنه أتي بمراكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس، فقال: ما هذا! قالوا: مركب الخلافة، قال: ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق