السبت، 6 مايو 2023

ج7وج8.تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري

ج7وج8.

ج7. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري

المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)

(صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)

وَقَالَ رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: إِنَّ اللَّهَ قد هَدَاكُمْ لِلإِسْلامِ، وَجَمَعَكُمْ بِهِ، وَأَرَاكُمُ الزِّيَادَةَ، وَفِي الصَّبْرِ الرَّاحَةُ، فَعَوِّدُوا أَنْفُسَكُمُ الصَّبْرَ تَعْتَادُوهُ، وَلا تُعَوِّدُوهَا الْجَزَعَ فَتَعْتَادُوهُ.

وَقَامَ كُلُّهُمْ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْكَلامِ، وَتَوَاثَقَ النَّاسُ، وَتَعَاهَدُوا، وَاهْتَاجُوا لِكُلِّ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ، وَفَعَلَ أَهْلُ فَارِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَعَاهَدُوا وَتَوَاصَوْا، وَاقْتَرَنُوا بِالسَّلاسِلِ، وَكَانَ الْمُقْتَرِنُونَ ثَلاثِينَ أَلْفًا كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي:

إن أهل فارس كانوا عشرين ومائة ألف، معهم ثلاثون فيلا، مع كل فيل أربعة آلاف.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ حلامٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ خِرَاشٍ، قَالَ: كَانَ صَفُّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَفِيرِ الْعَتِيقِ، وَكَانَ صَفُّ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حَائِطِ قُدَيْسَ، الْخَنْدَقُ مِنْ وَرَائِهِمْ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ وَمَعَهُمْ ثَلاثُونَ أَلْفَ مُسَلْسَلٍ، وَثَلاثُونَ فِيلا تُقَاتِلُ، وَفِيَلَةٌ عَلَيْهَا الْمُلُوكُ وُقُوفٌ لا تُقَاتِلُ وَأَمَرَ سَعْدٌ النَّاسَ أَنْ يَقْرَءُوا عَلَى النَّاسِ سُورَةَ الْجِهَادِ، وَكَانُوا يتعلمونها.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بإسنادهم، قالوا: قال سَعْدٌ: الْزَمُوا مَوَاقِفَكُمْ، لا تَحَرَّكُوا شَيْئًا حَتَّى تُصَلُّوا الظُّهْرَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الظُّهْرَ فَإِنِّي مُكَبِّرٌ تَكْبِيرَةٌ، فَكَبِّرُوا وَاسْتَعِدُّوا.

وَاعْلَمُوا أَنَّ التَّكْبِيرَ لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلَكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُعْطِيتُمُوهُ تَأْيِيدًا لَكُمْ ثُمَّ إِذَا سَمِعْتُمُ الثَّانِيَةَ فَكَبِّرُوا، ولتستتم عُدَّتُكُمْ، ثُمَّ إِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَكَبِرُّوا، وَلْيُنَشِّطْ فِرْسَانُكُمُ النَّاسَ لِيَبْرُزُوا وَلِيُطَارِدُوا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الرَّابِعَةَ فَازْحَفُوا جَمِيعًا حَتَّى تُخَالِطُوا عَدُوَّكُمْ، وَقُولُوا: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ! كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْنِ الرَّيَّانِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، مِثْلَهُ.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: أَرْسَلَ سَعْدٌ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فِي النَّاسِ: إِذَا سَمِعْتُمُ التكبير

(3/535)

فَشُدُّوا شُسُوعَ نِعَالِكُمْ، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّانِيَةَ فَتَهَيَّئُوا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَشُدُّوا النَّوَاجِذَ عَلَى الأَضْرَاسِ وَاحْمِلُوا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا صَلَّى سَعْدٌ الظُّهْرَ أَمَرَ الْغُلامَ الَّذِي كَانَ أَلْزَمَهُ عُمَرُ إِيَّاهُ- وَكَانَ من القراء- ان يقرا سُورَةَ الْجِهَادِ، فَقُرِئَتْ فِي كُلِّ كَتِيبَةٍ، فَهَشَّتْ قُلُوبَ النَّاسِ وَعُيُونَهُمْ وَعَرَفُوا السَّكِينَةَ مَعَ قِرَاءَتِهَا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ بِإِسْنَادِهِمْ، قَالُوا: لَمَّا فَرَغَ الْقُرَّاءُ كَبَّرَ سَعْدٌ، فَكَبَّرَ الَّذِينَ يَلُونَهُ تَكْبِيرَةً، وَكَبَّرَ بَعْضُ النَّاسِ بِتَكْبِيرِ بَعْضٍ، فَتَحَشْحَشَ النَّاسُ، ثُمَّ ثَنَّى فَاسْتَتَمَّ النَّاسُ، ثُمَّ ثَلَّثَ فَبَرَزَ أَهْلُ النَّجَدَاتِ فَأَنْشَبُوا الْقِتَالَ، وَخَرَجَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ أَمْثَالُهُمْ، فَاعْتَوَرُوا الطَّعْنَ وَالضَّرْبَ، وَخَرَجَ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:

قَدْ عَلِمَتْ وَارِدَةُ الْمَسَائِحِ ... ذَاتُ اللَّبَانِ وَالْبَنَانِ الْوَاضِحِ

أَنِّي سِمَامُ الْبَطَلِ الْمُشَايِحِ ... وَفَارِجُ الأَمْرِ الْمُهِمِّ الْفَادِحِ

فَخَرَجَ إِلَيْهِ هُرْمُزُ- وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْبَابِ، وَكَانَ مُتَوَّجًا- فَأَسَرَهُ غَالِبٌ أَسْرًا، فجاء سَعْدًا، فَأُدْخِلَ، وَانْصَرَفَ غَالِبٌ إِلَى الْمُطَارَدَةِ، وَخَرَجَ عاصم ابن عَمْرٍو وَهُوَ يَقُولُ:

قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ صَفْرَاءُ اللَّبَبِ ... مِثْلَ اللُّجَيْنِ إِذْ تَغْشَاهُ الذَّهَبُ

أَنِّي امْرُؤٌ لا مَنْ تَعِيبُهُ السَّبَبُ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ يُغْرِيهِ الْعَتَبُ

(3/536)

فَطَارَدَ رَجُلا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَاتَّبَعَهُ، حَتَّى إِذَا خَالَطَ صَفَّهُمُ الْتَقَى بِفَارِسٍ مَعَهُ بَغْلُهُ، فَتَرَكَ الْفَارِسُ الْبَغْلَ، وَاعْتَصَمَ بِأَصْحَابِهِ فَحَمُوهُ، وَاسْتَاقَ عَاصِمٌ الْبَغْلَ وَالرَّحْلَ، حَتَّى أَفْضَى بِهِ إِلَى الصَّفِّ، فَإِذَا هُوَ خَبَّازُ الْمَلِكِ وَإِذَا الَّذِي مَعَهُ لُطْفُ الْمَلِكِ الأَخْبِصَةُ وَالْعَسَلُ الْمَعْقُودُ، فَأَتَى بِهِ سَعْدًا، وَرَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِ سَعْدٌ، قَالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى أَهْلِ مَوْقِفِهِ، وَقَالَ:

إِنَّ الأَمِيرَ قَدْ نَفَلَكُمْ هَذَا فَكُلُوهُ، فَنَفَلَهُمْ إِيَّاهُ قَالُوا: وَبَيْنَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ، إِذْ قَامَ صَاحِبُ رَجَّالَةِ بَنِي نَهْدٍ قَيْسُ بْنُ حُذَيْمِ بْنِ جُرْثُومَةَ، فَقَالَ: يَا بَنِي نَهْدٍ انْهَدُوا، إِنَّمَا سُمِّيتُمْ نَهْدًا لِتَفْعَلُوا فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ عَرْفَطَةَ: وَاللَّهِ لَتَكُفَّنَّ أَوْ لأُوَلِّيَنَّ عَمَلَكَ غَيْرَكَ فَكَفَّ.

وَلَمَّا تَطَارَدَتِ الْخَيْلُ وَالْفِرْسَانُ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ يُنَادِي: مرد ومرد، فَانْتَدَبَ لَهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ وَهُوَ بِحِيَالِهِ، فَبَارَزَهُ فَاعْتَنَقَهُ، ثُمَّ جَلَدَ بِهِ الأَرْضَ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ الْفَارِسِيَّ إِذَا فَقَدَ قَوْسَهُ فَإِنَّمَا هُوَ تَيْسٌ ثُمَّ تَكَتَّبَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْن أبي حازم، قال: مر بنا عمرو بْن معديكرب وهو يحضض الناس بين الصفين، وهو يقول: إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى مزراقه، فإنما هو تيس، فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم، فوقف بين الصفين فرمى بنشابة، فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها، فالتفت إليه فحمل عليه، فاعتنقه، ثم أخذ بمنطقته، فاحتمله فوضعه بين يديه، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه، ثم ألقاه ثم قال: هكذا فاصنعوا بهم! فقلنا:

يا أبا ثور، من يستطيع أن يصنع كما تصنع! وقال بعضهم غير إسماعيل: وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج عَلَيْهِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،

(3/537)

عن قيس بْن أبي حازم، أن الأعاجم وجهت إلى الوجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: كانت- يعني وقعة القادسية- في المحرم سنة أربع عشرة في أوله وكان قد خرج من الناس إليهم، فقال له أهل فارس: أحلنا، فأحالهم على بجيلة، فصرفوا إليهم ستة عشر فيلا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لَمَّا تَكَتَّبَتِ الْكَتَائِبُ بَعْدَ الطِّرَادِ حَمَلَ أَصْحَابُ الْفِيَلَةِ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّقَتْ بَيْنَ الْكَتَائِبِ، فَابْذَعَرَّتِ الْخَيْلُ، فَكَادَتْ بَجِيلَةَ أَنْ تُؤْكَلَ، فَرَّتْ عَنْهَا خَيْلُهَا نِفَارًا، وَعَمَّنْ كَانَ مَعَهُمْ فِي مَوَاقِفِهِمْ، وَبَقِيَتِ الرَّجَّالَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِفِ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى بَنِي أَسَدٍ: ذَبِّبُوا عَنْ بَجِيلَةَ وَمَنْ لافَّهَا مِنَ النَّاسِ، فَخَرَجَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ وَحَمَّالُ بْنُ مَالِكٍ وَغَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالرَّبِيلُ بْنُ عَمْرٍو فِي كَتَائِبِهِمْ، فَبَاشَرُوا الْفِيَلَةَ حَتَّى عَدَلَهَا رُكْبَانُهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ فِيلٍ عِشْرِينَ رَجُلا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد بن قيس، عن موسى بْن طريف، أن طليحة قام في قومه حين استصرخهم سعد، فقال: يا عشيرتاه، إن المنوه باسمه، الموثوق به، وإن هذا لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدءوهم الشدة، وأقدموا عليهم

(3/538)

إقدام الليوث الحربة، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعله، شدوا ولا تصدوا، وكروا ولا تفروا، لله در ربيعة! أي فري يفرون! وأي قرن يغنون! هل يوصل إلى مواقفهم! فأغنوا عن مواقفكم أعانكم اللَّه! شدوا عليهم باسم اللَّه! فقال المعرور بْن سويد وشقيق: فشدوا والله عليهم فما زالوا يطعنونهم ويضربونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم، فأخرت، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه، فما لبثه طليحة أن قتله.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَقَامَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ، لِلَّهِ دَرُّ بَنِي أَسَدٍ! أَيُّ فِرًى يَفْرُونَ! وَأَيُّ هَذٍّ يَهُذُّونَ عَنْ مَوْقِفِهِمْ مُنْذُ الْيَوْمَ! أَغْنَى كُلُّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ، وَأَنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ مَنْ يَكْفِيكُمُ الْبَأْسَ! أَشْهَدُ مَا أَحْسَنْتُمْ أُسْوَةَ قَوْمِكُمُ الْعَرَبِ مُنْذُ الْيَوْمَ، وَإِنَّهُمْ لَيُقْتَلُونَ وَيُقَاتِلُونَ، وَأَنْتُمْ جُثَاةٌ عَلَى الرُّكَبِ تَنْظُرُونَ! فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَدَدٌ مِنْهُمْ عشرة، فَقَالُوا: عَثَّرَ اللَّهُ جَدَّكَ! إِنَّكَ لتُؤبِّسُنا جَاهِدًا، وَنَحْنُ أَحْسَنُ النَّاسِ مَوْقِفًا! فَمِنْ أَيْنَ خَذَلْنَا قَوْمَنَا الْعَرَبَ وَأَسَأْنَا أُسْوَتَهُمْ! فَهَا نَحْنُ مَعَكَ فَنَهَدَ وَنَهَدُوا، فَأَزَالُوا الَّذِينَ بِإِزَائِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ فَارِسَ مَا تَلْقَى الْفِيَلَةُ مِنْ كَتِيبَةِ أَسَدٍ رَمَوْهُمْ بِحَدِّهِمْ وَبَدَرَ الْمُسْلِمِينَ الشِّدَّةُ عَلَيْهِمْ ذُو الْحَاجِبِ وَالْجَالِنُوسُ، وَالْمُسْلِمُونَ يَنْتَظِرُونَ التَّكْبِيرَةَ الرَّابِعَةَ مِنْ سَعْدٍ، فَاجْتَمَعَتْ حَلَبَةُ فَارِسَ عَلَى أَسَدٍ وَمَعَهُمْ تِلْكَ الْفِيَلَةُ، وَقَدْ ثَبَتُوا لَهُمْ، وَقَدْ كَبَّرَ سَعْدٌ الرَّابِعَةَ، فَزَحَفَ اليهم

(3/539)

الْمُسْلِمُونَ وَرَحَى الْحَرْبِ تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَحَمَلَتِ الْفُيُولُ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ عَلَى الْخُيُولِ، فَكَانَتِ الْخُيُولُ تُحْجِمُ عَنْهَا وَتَحِيدُ، وَتَلِحُّ فِرْسَانُهُمْ عَلَى الرَّجْلِ يَشْمِسُونَ بِالْخَيْلِ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ بَنِي تَمِيمٍ، أَلَسْتُمْ أَصْحَابُ الإِبِلِ وَالْخَيْلِ! أَمَا عِنْدَكُمْ لِهَذِهِ الْفِيَلَةِ مِنْ حِيلَةٍ! قَالُوا:

بَلَى وَاللَّهِ، ثُمَّ نَادَى فِي رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ رُمَاةٍ وَآخَرِينَ لَهُمْ ثَقَافَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ:

يَا مَعْشَرَ الرُّمَاةِ ذُبُّوا رُكْبَانَ الْفِيَلَةِ عَنْهُمْ بِالنَّبْلِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الثَّقَافَةِ اسْتَدْبِرُوا الْفِيَلَةَ فَقَطِّعُوا وضنها، وَخَرَجَ يَحْمِيهِمْ وَالرَّحَى تَدُورُ عَلَى أَسَدٍ، وَقَدْ جَالَتِ الْمَيْمَنَةُ وَالْمَيْسَرَةُ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَأَقْبَلَ أَصْحَابُ عَاصِمٍ عَلَى الْفِيَلَةِ، فَأَخَذُوا بِأَذْنَابِهَا وَذَبَاذِبِ تَوَابِيتِهَا، فَقَطَّعُوا وُضُنَهَا، وَارْتَفَعَ عَوَاؤُهُمْ، فَمَا بَقِيَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِيلٌ إِلا أُعْرِيَ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهَا، وَتَقَابَلَ النَّاسُ وَنُفِّسَ عَنْ أَسَدٍ، وَرَدُّوا فَارِسَ عَنْهُمْ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ حَتَّى ذَهَبَتْ هَدْأَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ رَجَعَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، وَأُصِيبَ مِنْ أَسَدٍ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ خمسمائة، وَكَانُوا رِدْءًا لِلنَّاسِ، وَكَانَ عَاصِمٌ عَادِيَةَ النَّاسِ وَحَامِيَتَهُمْ، وَهَذَا يَوْمُهَا الأَوَّلُ وَهُوَ يَوْمُ أَرْمَاثَ.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن، عن الْقَاسِم، عن رجل من بني كنانة، قَالَ: جالت المجنبات ودارت على أسد يوم أرماث فقتل تلك العشية منهم خمسمائة رجل، فقال عمرو بْن شأس الأسدي:

جلبنا الخيل من أكناف نيق ... إلى كسرى فوافقها رعالا

تركن لهم على الأقسام شجوا ... وبالحقوين أياما طوالا

وداعية بفارس قد تركنا ... تبكي كلما رأت الهلالا

قتلنا رستما وبنيه قسرا ... تثير الخيل فوقهم الهيالا

تركنا منهم حيث التقينا ... فئاما ما يريدون ارتحالا

(3/540)

وفر البيرزان ولم يحامي ... وكان على كتيبته وبالا

ونجى الهرمزان حذار نفس ... وركض الخيل موصله عجالا

(3/541)

يوم أغواث

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا:

وكان سَعْدٌ قَدْ تَزَوَّجَ سَلْمَى بِنْتَ خَصَفَةَ، امْرَأَةَ الْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ قبله بِشَرَافَ، فَنَزَلَ بِهَا الْقَادِسِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أَرْمَاثَ، وَجَالَ النَّاسُ، وَكَانَ لا يُطِيقُ جِلْسَةً إِلا مُسْتَوْفِزًا أَوْ عَلَى بَطْنِهِ، جَعَلَ سَعْدٌ يَتَمَلْمَلُ وَيَحُولُ جَزَعًا فَوْقَ الْقَصْرِ، فَلَمَّا رَأَتْ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ فارس، قالت: وا مثنياه وَلا مُثَنَّى لِلْخَيْلِ الْيَوْمَ! - وَهِيَ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَضْجَرَهُ مَا يَرَى مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِي نَفْسِهِ- فَلَطَمَ وَجْهَهَا، وَقَالَ: أَيْنَ الْمُثَنَّى مِنْ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الرَّحَى! - يَعْنِي أَسَدًا وعَاصِمًا وَخَيْلَهُ- فَقَالَتْ: أَغَيْرَةً وَجُبْنًا! قَالَ: وَاللَّهِ لا يَعْذِرُنِي الْيَوْمَ أَحَدٌ إِذَا أَنْتِ لَمْ تَعْذِرِينِي وَأَنْتِ تَرَيْنَ مَا بِي، وَالنَّاسُ أَحَقُّ أَلا يَعْذِرُونِي! فَتَعَلَّقَهَا النَّاسُ، فَلَمَّا ظَهَرَ النَّاسُ لَمْ يَبْقَ شَاعِرٌ إِلا اعْتَدَّ بِهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ غَيْرَ جَبَانٍ وَلا مَلُومٍ وَلَمَّا اصبح القوم من الغد أصبحوا على تعبئة، وَقَدْ وَكَّلَ سَعْدٌ رِجَالا بِنَقْلِ الشُّهَدَاءِ إِلَى الْعُذَيْبِ وَنَقْلِ الرَّثِيثِ، فَأَمَّا الرَّثِيثُ فَأُسْلِمَ إِلَى النِّسَاءِ يَقُمْنَ عَلَيْهِمْ إِلَى قَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَدَفَنُوهُمْ هُنَالِكَ عَلَى مُشَرِّقٍ- وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ الْعُذَيْبِ وَبَيْنَ عَيْنِ الشَّمْسِ فِي عَدْوَتَيْهِ جَمِيعًا، الدُّنْيَا مِنْهُمَا إِلَى الْعُذَيْبِ وَالْقُصْوَى مِنْهُمَا مِنَ الْعُذَيْبِ- وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ بِالْقِتَالِ حَمْلَ الرَّثِيثِ وَالأَمْوَاتِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِمُ الإِبِلُ وَتَوَجَّهَتْ بِهِمْ نَحْوَ الْعُذَيْبِ طَلَعَتْ نَوَاصِي الْخَيْلِ مِنَ الشَّامِ- وَكَانَ فَتْحُ دِمَشْقَ قَبْلَ الْقَادِسِيَّةِ بِشَهْرٍ- فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كِتَابُ عُمَرَ بِصَرْفِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَصْحَابِ خَالِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خَالِدًا

(3/542)

ضَنَّ بِخَالِدٍ فَحَبَسَهُ وَسَرَّحَ الْجَيْشَ، وَهُمْ سِتَّةُ آلافٍ، خَمْسَةُ آلافٍ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَأَلْفٌ مِنْ أَفْنَاءِ الْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، فَجَعَلَهُ أَمَامَهُ، وَجَعَلَ عَلَى إِحْدَى مُجَنِّبَتَيْهِ قَيْسَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمُرَادِيَّ- وَلَمْ يَكُنْ شَهِدَ الأَيَّامَ، أَتَاهُمْ وَهُمْ بِالْيَرْمُوكِ حِينَ صُرِفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَصُرِفَ مَعَهُمْ- وَعَلَى الْمُجَنِّبَةِ الأُخْرَى الْهَزْهَازَ بْنَ عَمْرٍو الْعِجْلِيَّ، وَعَلى السَّاقَةِ أَنَسَ بْنَ عَبَّاسٍ.

فَانْجَذَبَ الْقَعْقَاعُ وَطَوَى وَتَعَجَّلَ، فَقَدِمَ عَلَى النَّاسِ صَبِيحَةَ يَوْمِ أَغْوَاثَ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَقَطَّعُوا أَعْشَارًا، وَهُمْ أَلْفٌ، فَكُلَّمَا بَلَغَ عَشَرَةً مَدَى الْبَصَرِ سَرَّحُوا فِي آثَارِهِمْ عَشَرَةً، فَقَدَّمَ الْقَعْقَاعُ أَصْحَابَهُ فِي عَشَرَةٍ، فَأَتَى الناس فسلم عليهم، وبشرهم بالجنود، فقال: يا ايها النَّاسُ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ فِي قَوْمٍ، وَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا بِمَكَانِكُمْ، ثُمَّ أَحَسُّوكُمْ حَسَدُوكُمْ حَظْوَتَهَا، وَحَاوَلُوا أَنْ يَطَّيَّرُوا بِهَا دُونَكُمْ، فَاصْنَعُوا كَمَا أَصْنَعُ، فَتَقَدَّمَ ثُمَّ نَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟

فَقَالُوا فِيهِ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: لا يُهْزَمُ جَيْشٌ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا، وَسَكَنُوا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ ذُو الْحَاجِبِ، فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا بهمنُ جَاذُوَيْهِ، فَنَادَى: يَا لِثَارَاتِ أَبِي عُبَيْدٍ وَسُلَيْطٍ وَأَصْحَابِ يَوْمِ الْجِسْرِ! فَاجْتَلَدَا، فَقَتَلَهُ الْقَعْقَاعُ، وَجَعَلَتْ خَيْلُهُ تَرِدُ قِطَعًا، وَمَا زَالَتْ تَرِدُ إِلَى اللَّيْلِ وَتَنْشَطُ النَّاسُ، وَكَأَنَّ لَمْ يَكُنْ بِالأَمْسِ مُصِيبَةٌ، وَكَأَنَّمَا اسْتَقْبَلُوا قِتَالَهُمْ بِقَتْلِ الْحَاجِبِيِّ وَللحاق القطع، وَانْكَسَرَتِ الأَعَاجِمُ لِذَلِكَ وَنَادَى الْقَعْقَاعُ أَيْضًا:

مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلانِ: أَحَدُهُمَا البيرزَانُ وَالآخَرُ الْبندوَانُ، فَانْضَمَّ إِلَى الْقَعْقَاعِ الْحَارِثُ بْنُ ظَبْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي تَيْمِ اللاتِ، فَبَارَزَ الْقَعْقَاعُ الْبيرزَانَ، فَضَرَبَهُ فَأَذْرَى رَأْسَهُ، وَبَارَزَ ابْنُ ظَبْيَانَ الْبندوَانَ، فَضَرَبَهُ فَأَذْرَى رَأْسَهُ، وَتَوَرَّدَهُمْ فِرْسَانُ الْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ الْقَعْقَاعُ يَقُولُ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، بَاشِرُوهُمْ بِالسُّيُوفِ، فَإِنَّمَا يُحْصَدُ النَّاسُ بِهَا! فَتَوَاصَى النَّاسُ،

(3/543)

وَتَشَايَعُوا إِلَيْهِمْ، فَاجْتَلَدُوا بِهَا حَتَّى الْمَسَاءِ فَلَمْ يَرَ أَهْلُ فَارِسَ فِي هَذَا الْيَوْمِ شَيْئًا مِمَّا يُعْجِبُهُمْ، وَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى فيل، كَانَتْ توابيتها تَكَسَّرَتْ بِالأَمْسِ، فَاسْتَأْنَفُوا عِلاجَهَا حِينَ أَصْبَحُوا فَلَمْ تَرْتَفِعْ حَتَّى كَانَ الْغَدُ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية، فقالت لبنيها:

إنكم اسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثوبوا، ولم تنب بكم البلاد، ولم تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي اهل فارس، والله إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره فأقبلوا يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء، وهي تقول: اللهم ادفع عن بني! فرجعوا إليها، وقد أحسنوا القتال، ما كُلِمَ منهم رجل كَلْمًا، فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء، ثم يأتون أمهم، فيلقونه في حجرها، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم ويرضيهم.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فازر القعقاع يومئذ ثلاثة نفر من بني يربوع رياحيين، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون، ويحمل ويحملون، واليربوعيون: نعيم بْن عمرو بْن عتاب، وعتاب بْن نعيم بْن عتاب بْن الحارث ابن عمرو بْن همام، وعمرو بْن شبيب بْن زنباع بْن الحارث بْن ربيعة، أحد بني زيد وقدم ذلك اليوم رسول لعمر بأربعة أسياف وأربعة أفراس يقسمها فيمن انتهى إليه البلاء، إن كنت لقيت حربا فدعا حمال بْن مالك والربيل بْن عمرو بْن ربيعة الوالبيين وطليحة بْن خويلد الفقعسي- وكلهم من بني أسد- وعاصم بْن عمرو التميمي، فأعطاهم الأسياف، ودعا القعقاع ابن عمرو واليربوعيين فحملهم على الأفراس، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع

(3/544)

ثلاثة أرباعها، وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف، فقال في ذلك الربيل بْن عمرو:

لقد علم الأقوام أنا أحقهم ... إذا حصلوا بالمرهفات البواتر

وما فتئت خيلي عشية أرمثوا ... يذودون رهوا عن جموع العشائر

لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم ... وقد أفلحت أخرى الليالي الغوابر

وقال القعقاع في شأن الخيل:

لم تعرف الخيل العراب سواءنا ... عشية أغواث بجنب القوادس

عشية رحنا بالرماح كأنها ... على القوم ألوان الطيور الرسارس

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن القاسم بْن سليم بْن عبد الرحمن السعدي، عن أبيه، قال: كان يكون أول القتال في كل أيامها المطاردة، فلما قدم القعقاع قال: يا أيها الناس، اصنعوا كما اصنع، ونادى:

من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله، ثم البيرزان فقتله، ثم خرج الناس من كل ناحية، وبدأ الحرب والطعان، وحمل بنو عم القعقاع يومئذ عشرة عشرة من الرجالة، على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة، وأطافت بهم خيولهم، تحميهم، وأمرهم أن يحملوا على خيلهم بين الصفين يتشبهون بالفيلة، ففعلوا بهم يوم أغواث كما فعلت فارس يوم أرماث، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم، وركبتهم خيول المسلمين فلما رأى ذلك الناس استنوا بهم، فلقي فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث.

وحمل رجل من بني تميم ممن كان يحمي العشيرة يقال له سواد، وجعل يتعرض للشهادة، فقتل بعد ما حمل، وأبطأت عليه الشهادة، حتى تعرض لرستم يريده، فأصيب دونه

(3/545)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء ابن زياد، والقاسم بْن سليم، عن أبيه، قالا: خرج رجل من أهل فارس، ينادي: من يبارز؟ فبرز له علباء بْن جحش العجلي، فنفحه علباء، فأسحره، ونفحه الآخر فأمعاه، وخرا، فأما الفارسي فمات من ساعته، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه، فلم يستطع القيام، فعالج إدخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين، فقال: يا هذا، أعني على بطني، فأدخله له، فأخذ بصفاقيه، ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه، إلى صف فارس، وقال:

أرجو بها من ربنا ثوابا ... قد كنت ممن أحسن الضرابا

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: وخرج رجل من أهل فارس فنادى: من يبارز؟

فبرز له الأعرف بْن الأعلم العقيلي فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وأحاطت به فوارس منهم فصرعوه، وندر سلاحه عنه فاخذوه، فغبر في وجوههم بالتراب حتى رجع إلى أصحابه، وقال في ذلك:

وإن يأخذوا بزي فإني مجرب ... خروج من الغماء محتضر النصر

وإني لحام من وراء عشيرتي ... ركوب لآثار الهوى محفل الأمر

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن عن العلاء، والقاسم عن أبيه، قالا: فحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وجعل يرتجز ويقول:

أزعجهم عمدا بها إزعاجا أطعن طعنا صائبا ثجاجا أرجو به من جنة أفواجا

(3/546)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة، كلما حمل حمله قتل فيها، فكان آخرهم بزرجمهر الهمذاني، وقال في ذلك القعقاع:

حبوته جيلشه بالنفس ... هدارة مثل شعاع الشمس

في يوم أغواث فليل الفرس ... أنخس بالقوم أشد النخس

حتى تفيض معشري ونفسي.

وبارز الأعور بْن قطبة شهر براز سجستان، فقتل كل واحد منهما صاحبه، فقال أخوه في ذلك:

لم أر يوما كان أحلى وأمر ... من يوم أغواث إذ افتر الثغر

من غير ضحك كان أسوا وأبر.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، وشاركهم ابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف النهار، فلما عدل النهار تزاحف الناس، فاقتتلوا بها صتيتا حتى انتصف الليل، فكانت ليلة أرماث تدعى الهدأة، وليلة أغواث تدعى السواد، والنصف الأول يدعى السواد ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث في القادسية الظفر، وقتلوا فيه عامة أعلامهم، وجالت فيه خيل القلب، وثبت رجلهم، فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا، فلما ذهب السواد بات الناس على مثل ما بات عليه القوم ليلة أرماث، ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا حتى تفايئوا فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني، فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظني، فإنهم على السواء

(3/547)

فان سمعتهم ينتمون فايقظنى، فان انتماءهم عن السوء.

فقالوا: ولما اشتد القتال بالسواد، وكان أبو محجن قد حبس وقيد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره ورده، فنزل، فأتى سلمى بنت خصفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني اللَّه أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فقالت:

وما انا وذاك! فرجع يرسف في قيوده، ويقول:

كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدا لا اخاليا

ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا

فقالت سلمى: إني استخرت اللَّه ورضيت بعهدك، فأطلقته وقالت:

أما الفرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها، ثم دب عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم: عريا، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا

(3/548)

وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار، فقال بعضهم:

أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء! وقال بعض الناس: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء الخضر، وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: ملك يثبتنا، ولا يذكره الناس ولا يأبهون له، لأنه بات في محبسه، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، ووضع عن نفسه وعن دابته، وأعاد رجليه في قيديه، وقال:

لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا

وأكثرهم دروعا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا

وأنا وفدهم في كل يوم ... فإن عميوا فسل بهم عريفا

وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا

فإن أحبس فذلكم بلائي ... وإن أترك أذيقهم الحتوفا

فقالت له سلمى: يا أبا محجن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟

قال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحيانا، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني، قلت:

إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها

وتروي بخمر الحص لحدي فإنني ... أسير لها من بعد ما قد أسوقها

(3/549)

ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث، وليلة الهدأة، وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا

. يوم عماس

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ بن يحيى، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد بإسنادهم، وابن مخراق عن رجل من طيئ، قالوا: فأصبحوا من اليوم الثالث، وهم على مواقفهم، وأصبحت الأعاجم على مواقفهم، وأصبح ما بين الناس كالرجلة الحمراء- يعني الحرة- ميل في عرض ما بين الصفين، وقد قتل من المسلمين ألفان من رثيث وميت، ومن المشركين عشرة آلاف من رثيث وميت وقال سعد: من شاء غسل الشهداء، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم، وأقبل المسلمون على قتلاهم فأحرزوهم، فجعلوهم من وراء ظهورهم، وأقبل الذين يجمعون القتلى يحملونهم إلى المقابر، ويبلغون الرثيث إلى النساء، وحاجب بْن زيد على الشهداء، وكان النساء والصبيان يحفرون القبور في اليومين: يوم أغواث، ويوم أرماث، بعدوتي مشرق، فدفن الفان وخمسمائة من أهل القادسية وأهل الأيام، فمر حاجب وبعض أهل الشهادة وولاة الشهداء في أصل نخلة بين القادسية والعذيب، وليس بينهما يومئذ نخله غيرها، فكان الرثيث إذا حملوا فانتهي بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها، ورجل من الجرحى يدعى بجيرا، يقول وهو مستظل بظلها:

ألا يا اسلمي يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل

(3/550)

ورجل من بني ضبة، أو من بني ثور يدعى غيلان، يقول:

ألا يا اسلمي يا نخلة بين جرعة ... يجاورك الجمان دونك والرغل

ورجل من بني تيم اللَّه، يقال له: ربعي يقول:

أيا نخلة الجرعاء يا جرعة العدى ... سقتك الغوادي والغيوث الهواطل

وقال الأعور بْن قطبة:

أيا نخلة الركبان لا زلت فانضري ... ولا زال في أكناف جرعائك النخل

وقال عوف بْن مالك التميمي- ويقال التيمي تيم الرباب:

أيا نخلة دون العذيب بتلعة ... سقيت الغوادي المدجنات من النخل

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه من الأمس، ثم قال: إذا طلعت لكم الشمس، فأقبلوا مائة مائة، كلما توارى عنكم مائة فليتبعها مائة، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا، ففعلوا، ولا يشعر بذلك أحد، وأصبح الناس على مواقفهم قد أحرزوا قتلاهم، وخلوا بينهم وبين حاجب بْن زيد وقتلى المشركين بين الصفين قد أضيعوا، وكانوا لا يعرضون لأمواتهم، وكان مكانهم مما صنع اللَّه للمسلمين مكيدة فتحها ليشد بها أعضاد المسلمين، فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل، وطلعت نواصيها كبر وكبر الناس، وقالوا: جاء المدد، وقد كان عاصم بْن عمرو أمر أن يصنع مثلها، فجاءوا من قبل خفان، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب، فاختلفوا الضرب والطعن، ومددهم متتابع، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم، وقد طلعوا في سبعمائة، فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يوميه، فعبى

(3/551)

أصحابه سبعين سبعين، فلما جاء آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه، فيهم قيس بْن هبيرة بْن عبد يغوث- ولم يكن من أهل الأيام، إنما أتى من اليمن اليرموك- فانتدب مع هاشم، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب، كبر وكبر المسلمون، وقد أخذوا مصافهم، وقال هاشم: أول القتال المطاردة ثم المراماة، فأخذ قوسه، فوضع سهما على كبدها، ثم نزع فيها، فرفعت فرسه راسها، فخل اذنها، فضحك وقال: وا سوأتاه من رمية رجل! كل من رأى ينتظره! أين ترون سهمي كان بالغا؟ فقيل:

العتيق، فنزقها وقد نزع السهم، ثم ضربها حتى بلغت العتيق، ثم ضربها فأقبلت به تخرقهم، حتى عاد إلى موقفه، وما زالت مقانبه تطلع إلى الأولى، وقد بات المشركون في علاج توابيتهم، حتى أعادوها، وأصبحوا على مواقفهم، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها، ومع الرجالة فرسان يحمونهم، إذا أرادوا كتيبة دلفوا لها بفيل وأتباعه، لينفروا بهم خيلهم فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس، لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش، وإذا أطافوا به كان آنس، فكان القتال كذلك، حتى عدل النهار، وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا، العرب والعجم فيه على السواء، ولا يكون بينهم نقطة إلا تعاورها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد، فيبعث إليهم أهل النجدات ممن بقي عنده، فيقوون بهم، وأصبحت عنده للذي لقي بالأمس الأمداد على البرد، فلولا الذي صنع اللَّه للمسلمين بالذي ألهم القعقاع في اليومين وأتاح لهم بهاشم، كسر ذلك المسلمين.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مجالد، عن الشعبي، قال:

قدم هاشم بْن عتبة من قبل الشام، معه قيس بن المكشوح المرادى في سبعمائة بعد فتح اليرموك ودمشق، فتعجل في سبعين، فيهم سعيد بْن نمران

(3/552)

الهمداني قال مجالد: وكان قيس بْن أبي حازم مع القعقاع في مقدمة هاشم.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن جخدب بْن جرعب، عن عصمة الوابلي- وكان قد شهد القادسية- قال: قدم هاشم في أهل العراق من الشام، فتعجل أناس ليس معه أحد من غيرهم إلا نفير، منهم ابن المكشوح، فلما دنا تعجل في ثلاثمائة، فوافق الناس وهم على مواقفهم، فدخلوا مع الناس في صفوفهم.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: كان اليوم الثالث يوم عماس، ولم يكن في أيام القادسية مثله، خرج الناس منه على السواء، كلهم على ما أصابه كان صابرا، وكلما بلغ منهم المسلمون بلغ الكافرون من المسلمين مثله، وكلما بلغ الكافرون من المسلمين بلغ المسلمون من الكافرين مثله.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن الريان، عن إسماعيل بْن مُحَمَّد بْن سعد، قال: قدم هاشم بْن عتبة القادسية يوم عماس، فكان لا يقاتل إلا على فرس أنثى، لا يقاتل على ذكر، فلما وقف في الناس رمى بسهم، فأصاب اذن فرسه، فقال: وا سوأتاه من هذه! أين ترون سهمي كان بالغا لو لم يصب أذن الفرس! قالوا: كذا وكذا، فأجال فنزل وترك فرسه، ثم خرج يضربهم حتى بلغ حيث قالوا.

كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وكان في الميمنة.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن الريان، عن إسماعيل بْن مُحَمَّد، قال: كنا نرى أنه كان على الميمنة، وما كان عامة جنن الناس إلا البراذع، براذع الرحال، قد أعرضوا فيها الجريد، وعصب من لم يكن له وقاية رءوسهم بالأنساع

(3/553)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابى كبران الحسن ابن عقبة، أن قيس بْن المكشوح، قال مقدمه من الشام مع هاشم، وقام فيمن يليه، فقال لهم: يا معشر العرب، إن اللَّه قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد ص، فأصبحتم بنعمة اللَّه إخوانا.

دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب، فانصروا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وتنجزوا من اللَّه فتح فارس، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز اللَّه لهم فتح الشام، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن المقدام الحارثي، عن الشعبي، قال: قال عمرو بْن معديكرب: إني حامل على الفيل ومن حوله- لفيل بإزائهم- فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور، فإني لكم مثل أبي ثور! فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم، وستره الغبار، فقال أصحابه:

ما تنتظرون! ما أنتم بخلقاء أن تدركوه، وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم، فحملوا حملة، فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه، وإن سيفه لفي يده يضاربهم، وقد طعن فرسه، فلما رأى أصحابه، وانفرج عنه أهل فارس أخذ برجل فرس رجل من أهل فارس، فحركه الفارسي، فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسي إلى عمرو، فهم به وأبصره المسلمون، فغشوه، فنزل عنه الفارسي، وحاضر إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه، فأمكنوه منه فركبه.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد اللَّه بْن المغيرة العبدي، عن الأسود بْن قيس، عن أشياخ لهم شهدوا القادسية، قالوا:

لما كان يوم عماس خرج رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى: من يبارز؟ فخرج رجل منا يقال له شبر بْن علقمة- وكان قصيرا قليلا دميما- فقال: يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل، فلم يجبه أحد، ولم يخرج إليه أحد، فقال: أما والله لولا أن تزدروني لخرجت

(3/554)

إليه فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وحجفته، وتقدم فلما رآه الفارسي هدر، ثم نزل إليه فاحتمله، فجلس على صدره، ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود بمنطقته، فلما استل السيف حاص الفرس حيصة فجذبه المقود، فقلبه عنه، فأقبل عليه وهو يسحب، فافترشه، فجعل أصحابه يصيحون به، فقال: صيحوا ما بدا لكم، فو الله لا أفارقه حتى أقتله وأسلبه فذبحه وسلبه، ثم أتى به سعدا، فقال: إذا كان حين الظهر فأتني، فوافاه بالسلب، فحمد اللَّه سعد وأثنى عليه، ثم قال: إني قد رأيت أن أنحله إياه، وكل من سلب سلبا فهو له، فباعه باثني عشر ألفا.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ الْفِيَلَةَ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَتَائِبِ وَعَادَتْ لِفِعْلِهَا يَوْمَ أَرْمَاثَ، أَرْسَلَ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسِلَمَةِ: ضَخْمٍ، وَمُسْلِمٍ، وَرَافِعٍ، وَعَشَنَّقٍ، وَأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ الْفِيَلَةِ: هَلْ لَهَا مَقَاتِلٌ؟ فَقَالُوا: نَعَمِ، الْمَشَافِرُ وَالْعُيُونُ لا يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَهَا فَأَرْسَلَ إِلَى الْقَعْقَاعِ وَعَاصِمِ ابْنَيْ عَمْرٍو: اكْفِيَانِي الأَبْيَضَ- وَكَانَتْ كُلُّهَا آلِفَةً لَهُ، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا- وَأَرْسَلَ إِلَى حَمَّالٍ وَالرَّبِيلِ: اكْفِيَانِي الْفِيلَ الأَجْرَبَ، وَكَانَتْ آلِفَةً لَهُ كُلُّهَا، وَكَانَ بِإِزَائِهِمَا، فَأَخَذَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ رُمْحَيْنِ أَصَمَّيْنِ لَيِّنَيْنِ وَدَبَّا فِي خَيْلٍ وَرَجُلٍ فَقَالا: اكْتَنِفُوهُ لِتُخِيرُوهُ، وَهُمَا مَعَ الْقَوْمِ، فَفَعَلَ حَمَّالٌ وَالرَّبِيلُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَالَطُوهُمَا اكْتَنَفُوهُمَا، فَنَظَرَ كُلٌّ واحد مِنْهُمَا يُمْنَةً وَيُسْرَةً، وَهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَتَخَبَّطَا، فَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ وَعَاصِمٌ، وَالْفِيلُ مُتَشَاغِلٌ بِمَنْ حَوْلَهُ، فَوَضَعَا رُمْحَيْهِمَا مَعًا فِي عَيْنَيِ الْفِيلِ الأَبْيَضِ، وَقَبَعَ وَنَفَضَ رَأْسَهُ، فَطَرَحَ سَائِسَهُ وَدَلَّى مِشْفَرَهُ، فَنَفَحَهُ الْقَعْقَاعُ، فَرَمَى بِهِ وَوَقَعَ لِجَنْبِهِ، فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ عَلَيْهِ، وَحَمَلَ حَمَّالٌ، وَقَالَ لِلرَّبِيلِ: اخْتَرْ، إِمَّا أَنْ تَضْرِبَ الْمِشْفَرَ وَأَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ، أَوْ تَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ وَأَضْرَبُ مِشْفَرَهُ، فَاخْتَارَ الضَّرْبَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمَّالٌ وَهُوَ

(3/555)

مُتَشَاغِلٌ بِمُلاحَظَةِ مَنِ اكْتَنَفَهُ، لا يَخَافُ سَائِسُهُ إِلا عَلَى بِطَانِهِ، فَانْفَرَدَ بِهِ أُولَئِكَ، فَطَعَنَهُ فِي عَيْنِهِ، فَأَقْعَى، ثُمَّ اسْتَوَى وَنَفَحَهُ الرَّبِيلُ، فَأَبَانَ مِشْفَرَهُ وَبَصُرَ بِهِ سَائِسُهُ، فَبَقَرَ أَنْفَهُ وَجَبِينَهُ بِفَأْسِهِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قال رجلان من بني أسد، يقال لهما الربيل وحمال: يا معشر المسلمين أي الموت أشد؟ قالوا: أن يشد على هذا الفيل، فنزقا فرسيهما حتى إذا قاما على السنابك ضرباهما على الفيل الذي بإزائهما، فطعن أحدهما في عين الفيل، فوطئ الفيل من خلفه، وضرب الآخر مشفره، فضربه سائس الفيل ضربة شائنة بالطبرزين في وجهه، فأفلت بها هو والربيل، وحمل القعقاع وأخوه على الفيل الذي بازائهما، ففقأ عينيه، وقطعا مشفره، فبقي متلددا بين الصفين، كلما أتى صف المسلمين وخزوه، وإذا أتى صف المشركين نخسوه.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان في الفيلة فيلان يعلمان الفيلة، فلما كان يوم القادسية حملوهما على القلب، فأمر بهما سعد القعقاع وعاصما التميميين وحمالا والربيل الأسديين، فذكر مثل الأول إلا أن فيه: وعاش بعد، وصاح الفيلان صياح الخنزير، ثم ولى الأجرب الذي عور، فوثب في العتيق، فاتبعته الفيلة، فخرقت صف الأعاجم فعبرت العتيق في أثره، فأتت المدائن في توابيتها، وهلك من فيها.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: فلما ذهبت الفيلة، وخلص المسلمون بأهل فارس، ومال الظل تزاحف المسلمون، وحماهم فرسانهم الذين قاتلوا أول النهار، فاجتلدوا بها حتى أمسوا

(3/556)

على حرد، وهم في ذلك على السواء، لأن المسلمين حين فعلوا بالفيول ما فعلوا، تكتبت كتائب الإبل المجففة، فعرقبوا فيها، وكفكفوا عنها.

وقال في ذلك القعقاع بْن عمرو:

حضض قومي مضرحي بْن يعمر ... فلله قومي حين هزوا العواليا

وما خام عنها يوم سارت جموعنا ... لأهل قديس يمنعون المواليا

فإن كنت قاتلت العدو فللته ... فإني لألقى في الحروب الدواهيا

فيولا أراها كالبيوت مغيرة ... أسمل أعيانا لها ومآقيا

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: لما أمسى الناس من يومهم ذلك، وطعنوا في الليل، اشتد القتال وصبر الفريقان، فخرجا على السواء إلا الغماغم من هؤلاء وهؤلاء، فسميت ليلة الهرير، لم يكن قتال بليل بعدها بالقادسية.

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو ابن مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَيْشٍ، أَنَّ سَعْدًا بَعَثَ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ طُلَيْحَةَ وَعَمْرًا إِلَى مَخَاضَةٍ أَسْفَلَ مِنَ الْعَسْكَرِ لِيَقُومَا عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْقَوْمُ مِنْهَا، وَقَالَ لَهُمَا: إِنْ وَجَدْتُمَا الْقَوْمَ قَدْ سَبَقُوكُمَا إِلَيْهَا فَانْزِلا بِحِيَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَجِدَاهُمْ عَلِمُوا بِهَا، فَأَقِيمَا حَتَّى يَأْتِيَكُمَا أَمْرِي- وَكَانَ عُمَرُ قَدْ عَهِدَ إِلَى سَعْدٍ أَلا يُوَلِّيَ رُؤَسَاءَ أَهْلِ الرِّدَّةِ عَلَى مِائَةٍ- فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الْمَخَاضَةِ فَلَمْ يَرَيَا فِيهَا أَحَدًا، قَالَ طُلَيْحَةُ: لَوْ خُضْنَا فَأَتَيْنَا الأَعَاجِمَ مِنْ خَلْفِهِمْ! فَقَالَ عَمْرٌو: لا، بَلْ نَعْبُرُ أَسْفَلَ، فَقَالَ طُلَيْحَةُ: إِنَّ الَّذِي أَقُولُهُ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّكَ تَدْعُونِي إِلَى مَا لا أُطِيقُ، فَافْتَرَقَا، فَأَخَذَ طُلَيْحَةُ نَحْوَ الْعَسْكَرِ مِنْ وَرَاءِ الْعَتِيقِ وَحْدَهُ، وَسَفَلَ عَمْرٌو بِأَصْحَابِهِمَا جَمِيعًا، فَأَغَارُوا،

(3/557)

وَثَارَتْ بِهِمُ الأَعَاجِمُ، وَخَشِيَ سَعْدٌ مِنْهُمَا الَّذِي كَانَ، فَبَعَثَ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ فِي آثَارِهِمَا فِي سَبْعِينَ رَجُلا، وَكَانَ مِنْ أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ نُهِيَ عَنْهُمْ أَنْ يُوَلِّيَهُمُ الْمِائَةَ، وَقَالَ: إِنْ لَحِقْتَهُمْ فَأَنْتَ عَلَيْهِمْ فَخَرَجَ نَحْوَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَخَاضَةِ وَجَدَ الْقَوْمَ يَكْرُدُونَ عَمْرًا وَأَصْحَابَهُ، فَنَهْنَهَ النَّاسَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ قَيْسٌ عَلَى عَمْرٍو يَلُومُهُ، فَتَلاحَيَا، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّهُ قَدْ أُمِّرَ عَلَيْكَ، فَسَكَتَ، وَقَالَ: يَتَأَمَّرُ عَلَيَّ رَجُلٌ قَدْ قَاتَلْتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُمْرَ رَجُلٍ! فَرَجَعَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَأَقْبَلَ طُلَيْحَةُ حَتَّى إِذَا كَانَ بحيال السكر، كَبَّرَ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَطَلَبَهُ الْقَوْمُ فَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ سَلَكَ! وَسَفَلَ حَتَّى خَاضَ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْعَسْكَرِ، فَأَتَى سَعْدًا فَأَخْبَرَهُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ وَمَا يَدْرُونَ مَا هُوَ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن قدامة الكاهلي، عمن حدثه، أن عشرة إخوة من بني كاهل بْن أسد، يقال لهم بنو حرب، جعل أحدهم يرتجز ليلتئذ، ويقول:

أنا ابن حرب ومعى مخراقى اضربهم بصارم رقراق اذكره الموت أبو إسحاق وجاشت النفس على التراقي صبرا عفاق إنه الفراق.

وكان عفاق أحد العشرة، فأصيب فخذ صاحب هذا الشعر يومئذ، فأنشأ يقول:

صبرا عفاق إنها الأساوره صبرا ولا تغررك رجل نادره فمات من ضربته يومئذ.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أَبِيهِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي شَجَّارٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدٌ طُلَيْحَةَ فِي حَاجَةٍ فَتَرَكَهَا، وَعَبَرَ الْعَتِيقَ، فَدَارَ إِلَى عَسْكَرِ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا وَقَفَ عَلَى رَدْمِ النَّهْرِ كَبَّرَ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، فَرَاعَ أَهْلَ فَارِسَ، وَتَعَجَّبَ الْمُسْلِمُونَ،

(3/558)

فَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لِلنَّظَرِ فِي ذَلِكَ، فَأَرْسَلَتِ الأَعَاجِمُ فِي ذَلِكَ، وَسَأَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ ذلك ثم انهم عادوا وجددوا تعبئة، وَأَخَذُوا فِي أَمْرٍ لَمْ يَكُونُوا عَلَيْهِ فِي الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى تَعْبِيَتِهِمْ، وَجَعَلَ طُلَيْحَةُ يَقُولُ:

لا تَعْدَمُوا امْرَأً ضَعْضَعَكُمْ وَخَرَجَ مَسْعُودُ بْنُ مَالِكٍ الأَسَدِيُّ وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ وَابْنُ ذِي الْبُرْدَيْنِ الْهِلالِيُّ وَابْنُ ذِي السَّهْمَيْنِ وَقَيْسُ بْنُ هُبَيْرَةَ الأَسَدِيُّ، وَأَشْبَاهُهُمْ، فَطَارَدُوا الْقَوْمَ، وَانْبَعَثُوا لِلْقِتَالِ، فَإِذَا الْقَوْمُ لمة لا يَشُدُّونَ، وَلا يُرِيدُونَ غَيْرَ الزَّحْفِ، فَقَدَّمُوا صَفًّا لَهُ أذنانِ، وَأَتْبَعُوا آخَرَ مِثْلَهُ، وَآخَرَ وَآخَرَ، حَتَّى تَمَّتْ صُفُوفُهُمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ صَفًّا فِي الْقَلْبِ وَالْمُجَنِّبَتَيْنِ كَذَلِكَ، فَلَمَّا أَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فِرْسَانُ الْعَسْكَرِ رَامُوهُمْ فَلَمْ يَعْطِفْهُمْ ذَلِكَ عَنْ رُكُوبِهِمْ، ثُمَّ لَحِقَتْ بِالْفِرْسَانِ الْكَتَائِبُ، فَأُصِيبَ لَيْلَتَئِذٍ خَالِدُ بْنُ يَعْمُرَ التَّمِيمِيُّ، ثُمَّ الْعمرِيُّ، فَحَمَلَ الْقَعْقَاعُ عَلَى نَاحِيَتِهِ الَّتِي رَمَى بِهَا مُزْدَلِفًا، فَقَامُوا عَلَى سَاقٍ، فَقَالَ الْقَعْقَاعُ:

سَقَى اللَّهُ يَا خَوْصَاءُ قَبْرَ ابْنِ يَعْمُرٍ إِذَا ارْتَحَلَ السُّفَارُ لَمْ يَتَرَحَّلِ سَقَى اللَّهُ أَرْضًا حَلَّهَا قَبْرُ خَالِدٍ ذَهَابَ غَوَادٍ مُدْجِنَاتٍ تُجَلْجِلِ فَأَقْسَمْتُ لا يَنْفَكُّ سَيْفِي يَحُسُّهُمْ فَإِنْ زَحَلَ الأَقْوَامُ لَمْ أَتَزَحَّلِ فَزَاحَفَهُمْ وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ اغْفِرْهَا لَهُ، وَانْصُرْهُ قَدْ أَذِنْتُ لَهُ إِذْ لَمْ يَسْتَأْذِنِّي، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى مَوَاقِفِهِمْ، إِلا مَنْ تَكَتَّبَ أَوْ طَارَدَهُمْ وَهُمْ ثَلاثَةُ صُفُوفٍ، فَصَفٌّ فِيهِ الرَّجَّالَةُ أَصْحَابُ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَصَفٌّ فِيهِ المراميةُ، وَصَفٌّ فِيهِ الْخُيُولُ، وَهُمْ أَمَامَ الرَّجَّالَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَيْمَنَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَيْسَرَةُ وَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّ الأَمْرَ الَّذِي صَنَعَ الْقَعْقَاعُ، فَإِذَا كَبَّرْتُ ثَلاثًا فَازْحَفُوا، فَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً فَتَهَيَّئُوا، وَرَأَى النَّاسُ كُلُّهُمْ مِثْلَ الَّذِي

(3/559)

رَأَى، وَالرَّحَى تَدُورُ عَلَى الْقَعْقَاعِ وَمَنْ مَعَهُ كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد اللَّه بْن عبد الأعلى، عن عمرو بْن مرة، قال: وقام قيس بْن هبيرة المرادي فيمن يليه، ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة، فقال: إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة، والرأي رأي أميركم، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجالة، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم، فتيسروا للحملة فتيسروا وانتظروا التكبيرة وموافقة حمل الناس، وإن نشاب الأعاجم لتجوز صف المسلمين.

كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بْن يزيد، عمن حدثه، قال: وقال دريد بْن كعب النخعي، وكان معه لواء النخع:

ان المسلمين تهيئوا للمزاحفة، فاسبقوا المسلمين الليلة إلى اللَّه والجهاد، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشهادة، وطيبوا بالموت نفسا، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن الأجلح، قال:

قال الأشعث بْن قيس: يا معشر العرب، إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت، ولا أسخى أنفسا عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل، فإنه أماني الكرام، ومنايا الشهداء، وترجل.

كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن مُحَمَّد، قال:

قال حنظلة بْن الربيع وأمراء الأعشار: ترجلوا أيها الناس، وافعلوا كما نفعل، ولا تجزعوا مما لا بد منه، فالصبر أنجى من الفزع وفعل طليحة وغالب وحمال وأهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك

(3/560)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والنضر بْن السري، قالا: ونزل ضرار بْن الخطاب القرشي، وتتابع على التسرع إليهم الناس كلهم فيها بين تكبيرات سعد حين استبطئوه فلما كبر الثانية، حمل عاصم بْن عمرو حتى انضم إلى القعقاع، وحملت النخع، وعصى الناس كلهم سعدا، فلم ينتظر الثالثة إلا الرؤساء، فلما كبر الثالثة زحفوا فلحقوا بأصحابهم، وخالطوا القوم، فاستقبلوا الليل استقبالا بعد ما صلوا العشاء.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله بْن أبي طيبة، عن أبيه، قال: حمل الناس ليلة الهرير عامة، ولم ينتظروا بالحملة سعدا، وكان أول من حمل القعقاع، فقال: اللهم اغفرها له وانصره.

وقال: وا تميماه سائر الليلة! ثم قال: أرى الأمر ما فيه هذا، فإذا كبرت ثلاثا فاحملوا فكبر واحدة فلحقتهم أسد، فقيل: قد حملت أسد، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، وا أسداه سائر الليلة! ثم قيل: حملت النخع، فقال: اللهم اغفرها لهم وانصرهم، وا نخعاه سائر الليلة! ثم قيل: حملت بجيلة، فقال: اللهم اغفرها لهم، وانصرهم، وا بجيلتاه! ثم حملت الكنود، فقيل: حملت كندة، فقال: وا كندتاه! ثم زحف الرؤساء بمن انتظر التكبيرة، فقامت حربهم على ساق حتى الصباح، فذلك ليلة الهرير.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن نويرة، عن عمه أنس بْن الحليس، قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغا، وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء، حتى

(3/561)

إذا كان وجه الصبح، انتهى الناس فاستدل بذلك على أنهم الأعلون، وأن الغلبة لهم.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الأعور بْن بنان المنقري، قال: أول شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح في نصف الليل الباقي صوت القعقاع بْن عمرو وهو يقول:

نحن قتلنا معشرا وزئدا اربعه وخمسه وواحدا يحسب فوق اللبد الأساودا حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا اللَّه ربي، واحترزت عامدا.

كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الأعور ومحمد، عن عمه، والنضر عن ابن الرفيل، قالوا: اجتلدوا تلك الليلة من أولها حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسميت ليلة الهرير.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن عمرو بن الريان، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدٌ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِجَادًا وَهُوَ غُلامٌ إِلَى الصَّفِّ، إِذْ لَمْ يَجِدْ رَسُولا، فَقَالَ: انْظُرْ مَا تَرَى مِنْ حَالِهِمْ، فَرَجَعَ فَقَالَ:

مَا رَأَيْتَ أَيْ بُنَيَّ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمْ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ: أَوْ يَجِدُّونَ! كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن جرير العبدي، عن عابس الجعفي، عن أبيه، قال: كانت بإزاء جعفي يوم عماس كتيبة من كتائب العجم، عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم، فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل في الحديد فارتدعوا، فقال حميضة: ما لكم؟ قالوا: لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا فحمل على رجل منهم، فدق ظهره بالرمح، ثم التفت

(3/562)

إلى أصحابه، فقال: ما أراهم إلا يموتون دونكم فحملوا عليهم فأزالوهم إلى صفهم.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: لا والله ما شهدها من كنده خاصه الا سبعمائة، وكان بإزائهم ترك الطبري، فقال الأشعث: يا قوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة، فأزالهم وقتل تركا، فقال راجزهم:

نحن تركنا تركهم في المصطره مختضبا من بهران الأبهره

ليلة القادسية

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد، قالوا: وأصبحوا ليلة القادسية، وهي صبحة ليلة الهرير، وهي تسمى ليلة القادسية، من بين تلك الأيام والناس حسرى، لم يغمضوا ليلتهم كلها، فسار القعقاع في الناس، فقال: إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر فآثروا الصبر على الجزع، فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، وصمدوا لرستم، حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح، ولما رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بْن عبد يغوث والأشعث ابن قيس وعمرو بْن معديكرب وابن ذي السهمين الخثعمي وابن ذي البردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر اللَّه منكم، ولا يكونن هؤلاء- لأهل فارس- أجرأ على الموت منكم، ولا أسخى أنفسا عن الدنيا، تنافسوها فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين بإزائهم، وقام في ربيعة رجال، فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم بالجرأة! فكان أول من زال حين قام قائم الظهيرة الهرمزان والبيرزان، فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج

(3/563)

القلب حين قام قائم الظهيرة، وركد عليهم النقع، وهبت ريح عاصف، فقلعت طيارة رستم عن سريره، فهوت في العتيق، وهي دبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال يومئذ فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بْن علفة الحمل الذي رستم تحته، فقطع حباله، ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به، فأزال من ظهره فقارا، ويضربه ضربة فنفحت مسكا، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه، فتناوله وقد عام، وهلال قائم، فأخذ برجله، ثم خرج به إلى الجد، فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم جاء به حتى رمى به بين أرجل البغال، وصعد السرير، ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إلي، فأطافوا به وما يحسون السرير ولا يرونه، وكبروا وتنادوا، وانبت قلب المشركين عندها وانهزموا، وقام الجالنوس على الردم، ونادى أهل فارس إلى العبور، وانسفر الغبار، فأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفا، وأخذ ضرار بْن الخطاب درفش كابيان، فعوض منها ثلاثين ألفا، وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف، وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن عمرو بْن سلمة، قال: قتل هلال بْن علفة رستم يوم القادسية.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن مخراق، عن ابى كعب الطائي، عن أبيه، قال: أصيب من الناس قبل ليله الهرير الفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف من المسلمين، فدفنوا في الخندق بحيال مشرق

(3/564)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَزِيَادٍ، قَالُوا: لَمَّا انْكَشَفَ أَهْلُ فَارِسَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَالْعَتِيقِ أَحَدٌ، وَطَبَّقَتِ الْقَتْلَى مَا بَيْنَ قُدَيْسَ وَالْعَتِيقِ أَمَرَ سَعْدٌ زَهْرَةَ بِاتِّبَاعِهِمْ، فَنَادَى زَهْرَةُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَأَمَرَ الْقَعْقَاعَ بِمَنْ سَفُلَ، وَشُرَحْبِيلَ بِمَنْ عَلا، وَأَمَر خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ بِسَلْبِ الْقَتْلَى وَبِدَفْنِ الشُّهَدَاءَ، فَدَفَنَ الشُّهَدَاءَ، شُهَدَاءَ لَيْلَةَ الهرير ويوم القادسية، حول قديس الفان وخمسمائة وَرَاءَ الْعَتِيقِ بِحِيَالِ مُشَرِّقٍ، وَدُفِنَ شُهَدَاءُ مَا كَانَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْهَرِيرِ عَلَى مُشَرِّقٍ، وَجُمِعَتِ الأَسْلابُ وَالأَمْوَالُ فَجُمِعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يُجْمَعْ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى هلال، فدعا لَهُ، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ قَالَ: رَمَيْتُ بِهِ تحت ابغل، قال: اذهب فجيء بِهِ، فَذَهَبَ فَجَاءَ بِهِ، فَقَالَ: جَرِّدْهُ إِلا مَا شِئْتَ، فَأَخَذَ سَلَبَهُ فَلَمْ يَدَعْ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَمَّا رَجَعَ الْقَعْقَاعُ وَشُرَحْبِيلُ قَالَ لِهَذَا:

اغْدِ فِيمَا طَلَبَ هَذَا، وَقَالَ لِهَذَا: اغْدِ فِيمَا طَلَبَ هَذَا، فَعَلا هَذَا، وَسَفَلَ هَذَا، حَتَّى بَلَغَا مِقْدَارَ الْخَرَّارَةِ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ، وَخَرَجَ زَهْرَةُ بْنُ الحوية فِي آثَارِهِمْ، وَانْتَهَى إِلَى الرَّدْمِ وَقَدْ بَثَقُوهُ لِيَمْنَعُوهُمْ بِهِ مِنَ الطَّلَبِ، فَقَالَ زَهْرَةُ:

يَا بُكَيْرُ، أَقْدِمْ، فَضَرَبَ فَرَسَهُ، وَكَانَ يُقَاتِلُ عَلَى الإِنَاثِ، فَقَالَ: ثِبِي أَطْلالُ، فَتَجَمَّعَتْ وَقَالَتْ: وَثْبًا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ! وَوَثَبَ زَهْرَةُ- وَكَانَ عَنْ حِصَانٍ- وَسَائِرِ الْخَيْلِ فَاقْتَحَمَتْهُ، وَتَتَابَعَ على ذلك ثلاثمائة فَارِسٍ، وَنَادَى زَهْرَةُ حَيْثُ كَاعَتِ الْخَيْلُ: خُذُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ، وَعَارِضُونَا، فَمَضَى وَمَضَى النَّاسُ إِلَى الْقَنْطَرَةِ يَتْبَعُونَهُ، فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ وَالْجَالِنُوسُ فِي آخِرِهِمْ يَحْمِيهِمْ، فَشَاوَلَهُ زَهْرَةُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَقَتَلَهُ زَهْرَةُ، وَأَخَذَ سَلَبَهُ، وَقَتَلُوا

(3/565)

مَا بَيْنَ الْخَرَّارَةِ إِلَى السَّيْلَحِينِ، إِلَى النَّجَفِ، وَأَمْسَوْا فَرَجَعُوا فَبَاتُوا بِالْقَادِسِيَّةِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: اقْتَحَمْنَا الْقَادِسِيَّةِ صَدْرَ النَّهَارِ، فَتَرَاجَعْنَا وَقَدْ أَتَى الصَّلاةَ، وَقَدْ أُصِيبَ الْمُؤَذِّنُ، فَتَشَاحَّ النَّاسُ فِي الأَذَانِ حَتَّى كَادُوا أَنْ يَجْتَلِدُوا بِالسُّيُوفِ، فَأَقْرَعَ سَعْدٌ بَيْنَهُمْ، فَخَرَجَ سَهْمُ رَجُلٍ فَأَذَّنَ.

ثُمَّ رَجَعَ الْحَدِيثُ وَتَرَاجَعُ الطَّلَبُ الَّذِينَ طَلَبُوا مَنْ عَلا عَلَى القادسية ومن سفل عنها، وقد انى الصَّلاةَ وَقَدْ قُتِلَ الْمُؤَذِّنُ فَتَشَاحُّوا عَلَى الأَذَانِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ، وَأَقَامُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ وَلَيْلَتِهِمْ حَتَّى رَجَعَ زَهْرَةُ، وَأَصْبَحُوا وَهُمْ جَمِيعٌ لا يَنْتَظِرُونَ أَحَدًا مِنْ جُنْدِهِمْ، وَكَتَبَ سَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلُوا وَمَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى لِعُمَرَ مَنْ يَعْرِفُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَعَانِي سَعْدٌ، فَأَرْسَلَنِي أَنْظُرُ لَهُ فِي الْقَتْلَى، وَأُسَمِّي لَهُ رُءُوسَهُمْ، فَأَتَيْتُهُ فَأَعْلَمْتُهُ، وَلَمْ أَرَ رُسْتُمَ فِي مَكَانِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ التَّيْمِ يُدْعَى هِلالا، فَقَالَ: أَلَمْ تُبْلِغْنِي أَنَّكَ قَتَلْتَ رُسْتُمَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا صَنَعْتَ بِهِ؟ قَالَ: أَلْقَيْتُهُ تَحْتَ قَوَائِمِ الأَبْغَلِ، قَالَ: فَكَيْفَ قَتَلْتَهُ؟ فَأَخْبَرَهُ، حَتَّى قَالَ: ضَرَبْتُ جَبِينَهُ وَأَنْفَهُ قَالَ: فَجِئْنَا بِهِ، فَأَعْطَاهُ سَلَبَهُ، وَكَانَ قَدْ تَخَفَّفَ حِينَ وَقَعَ إِلَى الْمَاءِ، فَبَاعَ الَّذِي عَلَيْهِ بِسَبْعِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ قِيمَةُ قَلَنْسُوَتِهِ مِائَةَ أَلْفٍ لَوْ ظَفَرَ بِهَا وَجَاءَ نَفَرٌ مِنَ الْعُبَّادِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى سَعْدٍ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الأَمِيرُ، رَأَيْنَا جَسَدَ رُسْتُمَ عَلَى بَابِ قَصْرِكَ وَعَلَيْهِ رَأْسُ غَيْرِهِ، وَكَانَ الضَّرْبُ قَدْ شَوَّهَهُ، فَضَحِكَ.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد وطلحة وزياد، قالوا: وقال الديلم ورؤساء أهل المسالح الذين استجابوا للمسلمين، وقاتلوا معهم على غير الإسلام: إخواننا الذين دخلوا في هذا الأمر من أول الشأن أصوب منا وخير، ولا والله لا يفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل في

(3/566)

هذا الأمر منهم، فأسلموا، وخرج صبيان العسكر في القتلى، ومعهم الأداوى يسقون من به رمق من المسلمين، ويقتلون من به رمق من المشركين، وانحدروا من العذيب مع العشاء قال: وخرج زهرة في طلب الجالنوس، وخرج القعقاع وأخوه وشرحبيل في طلب من ارتفع وسفل، فقتلوهم في كل قرية وأجمة وشاطئ نهر، ورجعوا فوافوا صلاة الظهر، وهنأ الناس أميرهم، وأثنى على كل حي خيرا، وذكره منهم.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، قَالَ: خَرَجَ زَهْرَةُ حَتَّى أَدْرَكَ الْجَالِنُوسَ، مَلِكًا مِنْ مُلُوكِهِمْ، بَيْنَ الْخَرَّارَةِ وَالسَّيْلَحِينِ، وَعَلَيْهِ يَارَقَانِ وَقَلبانِ وَقِرْطَانِ عَلَى بِرْذَوْنٍ لَهُ قَدْ خَضَدَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ، فَقَتَلَهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ زَهْرَةَ يَوْمَئِذٍ لَعَلَى فَرَسٍ لَهُ مَا عَنَانُهَا إِلا مِنْ حَبْلٍ مَضْفُورٍ كَالْمِقْوَدِ، وَكَذَلِكَ حِزَامُهَا شَعْرٌ مَنْسُوجٌ، فَجَاءَ بِسَلْبِهِ إِلَى سَعْدٍ، فَعَرَفَ الأُسَارَى الَّذِينَ عِنْدَ سَعْدٍ سَلْبَهُ، فَقَالُوا: هَذَا سَلَبُ الْجَالِنُوسُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: هَلْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:

مَنْ؟ قَالَ: اللَّهُ، فَنَفَلَهُ سَلْبَهُ.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ اسْتَكْثَرَ لَهُ سَلَبَهُ، فَكَتَبَ فِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي قَدْ نَفَّلْتُ مَنْ قَتَلَ رَجُلا سَلَبَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا.

وعَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْبَرْمَكَانِ، وَالْمُجَالِدِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَحِقَ بِهِ زَهْرَةُ، فَرَفَعَ لَهُ الْكَرَّةَ فَمَا يُخْطِئُهَا بِنُشَّابَةٍ، فَالْتَقَيَا فَضَرَبَهُ زَهْرَةُ فجد له- وَلِزَهْرَةَ يَوْمَئِذٍ ذُؤَابَةٌ وَقَدْ سَودَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحَسُنَ بَلاؤُهُ فِي الإِسْلامِ وَلَهُ سَابِقَةٌ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ شَابٌّ- فَتَدَرَّعَ زَهْرَةُ مَا كَانَ عَلَى الْجَالِنُوسِ، فَبَلَغَ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ

(3/567)

أَلْفًا فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى سَعْدٍ نَزَعَ سَلَبَهُ، وَقَالَ: أَلا انْتَظَرْتَ إِذْنِي! وَتَكَاتَبَا، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: تَعْمَدُ إِلَى مِثْلِ زَهْرَةَ- وَقَدْ صَلِيَ بِمِثْلِ مَا صَلِيَ بِهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ حَرْبِكَ مَا بَقِيَ- تَكْسِرُ قَرْنَهُ، وَتُفْسِدُ قَلْبَهُ! أَمْضِ لَهُ سَلَبَهُ، وَفَضِّلْهُ عَلَى اصحابه عند العطاء بخمسمائة.

وعَنْ سَيْفٍ، عَنْ عُبَيْدٍ، عَنْ عِصْمَةَ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِزَهْرَةَ مِنْكَ، وَإِنَّ زَهْرَةَ لَمْ يَكُنْ لِيُغَيِّبَ مِنْ سَلَبٍ سَلَبَهُ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي سَعَى بِهِ إِلَيْكَ كَاذِبًا فَلَقَاهُ اللَّهُ مِثْل زَهْرَةَ، في عضديه يا رقان، وَإِنِّي قَدْ نَفَّلْتُ كُلَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلا سَلَبَهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا.

وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن إبراهيم وعامر، أن أهل البلاء يوم القادسية فضلوا عند العطاء بخمسمائة خمسمائة في أعطياتهم، خمسة وعشرين رجلا، منهم زهرة، وعصمة الضبي، والكلج وأما أهل الأيام، فإنه فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية.

وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن يزيد الضخم، قال: فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية! فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم وقيل له في أهل القادسية: لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه! قال:

وكيف أفضلهم عليهم على بعد دارهم، وهم شجن العدو، وما سويت بينهم حتى استطبتهم، فهلا فعل المهاجرون بالأنصار إذ قاتلوا بفنائهم مثل هذا! وعَنْ سَيْفٍ، عن المجالد، عن الشعبي، وسعيد بْن المرزبان عن رجل من بني عبس، قال: لما زال رستم عن مكانه ركب بغلا، فلما دنا منه هلال نزع له نشابة، فأصاب قدمه فشكها في الركاب، وقال: بپايه، فأقبل عليه هلال فنزل، فدخل تحت البغل، فلما لم يصل إليه قطع عليه المال، ثم نزل إليه ففلق هامته.

وعَنْ سَيْفٍ، عن عبيدة، عن شقيق، قال: حملنا على الأعاجم يوم القادسية حملة رجل واحد، فهزمهم اللَّه، فلقد رأيتني أشرت إلى أسوار منهم

(3/568)

فجاء إلي وعليه السلاح التام، فضربت عنقه، ثم أخذت ما كان عليه.

وعَنْ سَيْفٍ، عن سعيد بْن المرزبان، عن رجل من بني عبس، قال:

أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم، قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه، فيضرب عنقه، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به، وحتى إنه ليأمر الرجلين أحدهما بصاحبه، وكذلك في العدة.

وعَنْ سَيْفٍ، عن يونس بْن أبي إسحاق، عن أبيه، عمن شهدها، قال: أبصر سلمان بْن ربيعة الباهلي أناسا من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها، وجلسوا تحتها، وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم فقتل من كان تحتها وسلبهم وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية، وكان أحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت، والآخر عبد الرحمن ابن ربيعة ذو النور، ومال على آخرين قد تكتبوا، ونصبوا للمسلمين فطحنهم بخيله.

وعَنْ سَيْفٍ، عن الغصن، عن القاسم، عن البهي، أن الشعبي قال: كان يقال: لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور.

فكان موضع المحبس اليوم دار عبد الرحمن بْن ربيعة، والتي بينها وبين دار المختار دار سلمان، وإن الأشعث بْن قيس استقطع فناء كان قدامها، هو اليوم في دار المختار، فأقطعه فقال له: ما جرأك علي يا أشعث؟ والله لئن حزتها لأضربنك بالجنثي- يعني سيفه- فانظر ما يبقى منك بعد، فصدف عنها ولم يتعرض لها.

وعَنْ سَيْفٍ، عن المهلب ومحمد وطلحة وأصحابه، قالوا: وثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة، استقتلوا واستحيوا من الفرار، فأبادهم اللَّه، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين، ولم يتبعوا فالة القوم، فصمد سلمان بْن ربيعة لكتيبة وعبد الرحمن بْن ربيعة ذو النور لأخرى، وصمد لكل كتيبة منها رأس من رؤساء

المسلمين

وكان قتال أهل هذه الكتائب،

(3/569)

من أهل فارس على وجهين، فمنهم من كذب فهرب، ومنهم من ثبت حتى قتل، فكان ممن هرب من أمراء تلك الكتائب الهرمزان وكان بإزاء عطارد، وأهود وكان بإزاء حنظلة بْن الربيع، وهو كاتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزاذ بْن بهيش وكان بإزاء عاصم بْن عمرو، وقارن وكان بإزاء القعقاع بْن عمرو، وكان ممن استقتل شهريار بْن كنار وكان بإزاء سلمان.

وابن الهربذ وكان بإزاء عبد الرحمن، والفرخان الأهوازي وكان بإزاء بسر بن ابى رهم الجهنى، وخسرو شنوم الهمذاني وكان بحيال ابن الهذيل الكاهلي.

ثم إن سعدا أتبع بعد ذلك القعقاع وشرحبيل من صوب في هزيمته أو صعد عن العسكر وأتبع زهرة بْن الحوية الجالنوس ذكر حديث ابن إسحاق:

قال أبو جعفر الطبري رحمه اللَّه: رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق.

قال: ومات المثنى بْن حارثة، وتزوج سعد بْن أبي وقاص امرأته سلمى ابنة خصفة وذلك في سنة أربع عشرة وأقام تلك الحجة للناس عمر بْن الخطاب ودخل أبو عبيدة بْن الجراح تلك السنة دمشق، فشتا بها، فلما أصافت الروم سار هرقل في الروم حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلي وعاملة، وتلك القبائل من قضاعه، غسان بشر كثير، ومعه من أهل أرمينية مثل ذلك، فلما نزلها أقام بها، وبعث الصقلار، خصيا له، فسار بمائة ألف مقاتل، معه من أهل أرمينية اثنا عشر ألفا، عليهم جرجة، ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفا عليهم جبلة بْن الأيهم الغساني، وسائرهم من الروم، وعلى جماعة الناس الصقلار خصي هرقل، وسار اليهم المسلمون

(3/570)

وهم أربعة وعشرون ألفا عليهم أبو عبيدة بْن الجراح، فالتقوا باليرموك في رجب سنة خمس عشرة، فاقتتل الناس قتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من نساء قريش بالسيوف حين دخل العسكر- منهن أم حكيم بنت الحارث بْن هشام- حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا المسلمين.

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بْن عروة بْن الزبير، عن أبيه، قال: قال قائل من المسلمين حين رأى من لخم وجذام ما رأى:

القوم لخم وجذام في الهرب ... ونحن والروم بمرج نضطرب

فإن يعودوا بعدها لا نصطحب.

حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب ابن كَيْسَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ عَامَ الْيَرْمُوكِ، فَلَمَّا تَعَبَّى الْمُسْلِمُونَ لِلْقِتَالِ، لَبِسَ الزُّبَيْرُ لأْمَتَهُ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ، ثُمَّ قَالَ لِمَوْلَيَيْنِ لَهُ: احْبِسَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مَعَكُمَا فِي الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ غُلامٌ صَغِيرٌ.

قَالَ: ثُمَّ تَوَجَّهَ فَدَخَلَ فِي النَّاسِ، فَلَمَّا اقْتَتَلَ النَّاسُ وَالرَّومُ نَظَرْتُ إِلَى نَاسٍ وُقُوفٍ عَلَى تَلٍّ لا يُقَاتِلُونَ مَعَ النَّاسِ قَالَ: فَأَخَذْتُ فَرَسًا لِلزُّبَيْرِ كَانَ خَلَّفَهُ فِي الرَّحْلِ فَرَكِبْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى أُولَئِكَ النَّاسِ فَوَقَفْتُ مَعَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي مَشْيَخَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ وُقُوفًا لا يُقَاتِلُونَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي رَأَوْا غُلامًا حَدَثًا، فَلَمْ يَتَّقُونِي.

قَالَ: فَجَعَلُوا وَاللَّهِ إِذَا مَالَ الْمُسْلِمُونَ وَرَكِبَتْهُمُ الْحَرْبُ، لِلرُّومِ يَقُولُونَ: ايه ايه بلا صفر! فَإِذَا مَالَتِ الرُّومُ وَرَكِبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، قَالَوا: يَا ويح بلا صفر! فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الرُّومَ وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ، جَعَلْتُ أُحَدِّثُهُ

(3/571)

خَبَرَهُمْ قَالَ: فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَبَوْا إِلا ضَغَنًا! وَمَاذَا لَهُمْ إِنْ يَظْهَرْ عَلَيْنَا الرُّومُ! لَنَحْنُ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُمْ.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ نَصْرَهُ، فَهُزِمَتِ الرُّومُ وَجُمُوعُ هِرَقْلَ الَّتِي جَمَعَ، فَأُصِيبَ مِنَ الرُّومِ أَهْلُ أَرْمِينِيَةَ وَالْمُسْتَعْرِبَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقَتَلَ اللَّهُ الصّقلارَ وَبَاهَانَ، وَقَدْ كَانَ هِرَقْلُ قَدَّمَهُ مَعَ الصّقلارِ حِينَ لَحِقَ بِهِ، فَلَمَّا هُزِمَتِ الرُّومُ بَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ فِي طَلَبِهِمْ، فَسَلَكَ الأَعْمَاقَ حَتَّى بَلَغَ مَلَطْيَةَ، فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَلَمَّا سَمِعَ هِرَقْلُ بِذَلِكَ بَعَثَ إِلَى مُقَاتِلَتِهَا وَمَنْ فِيهَا، فَسَاقَهُمْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِمَلَطْيَةَ فَحُرِقَتْ وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ.

قَالَ: وَفِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، قَتَلَ اللَّهُ رُسْتُمَ بِالْعِرَاقِ، وَشَهِدَ أَهْلُ الْيَرْمُوكِ حِينَ فَرَغُوا مِنْهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا حِينَ حُسِرَ عَنْهُ الشِّتَاءُ، سَارَ مِنْ شَرَافَ يُرِيدُ الْقَادِسِيَّةَ، فَسَمِعَ بِهِ رُسْتُمُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سَعْدٌ وَقَفَ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْتَمِدَّهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ الثَّقَفِيَّ فِي أربعمائة رجل مددا من المدينة، وامده بقيس ابن مكشوح المرادى في سبعمائة، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْيَرْمُوكِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنْ أَمِدَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرَ الْعِرَاقِ بِأَلْفِ رَجُلٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَفَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ الْفِهْرِيَّ، وَأَقَامَ تِلْكَ الْحُجَّةَ لِلنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.

وَقَدْ كَانَ لِكِسْرَى مُرَابِطَةٌ فِي قَصْرِ بَنِي مُقَاتِلٍ، عَلَيْهَا النُّعْمَانُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَهُوَ ابْنُ حَيَّةَ الطَّائِيِّ ابْنُ عَمِّ قَبِيصَةَ بْنَ إِيَاسِ بْنِ حَيَّةَ الطَّائِيِّ صَاحِبِ الْحِيرَةِ، فَكَانَ فِي مَنْظَرَةٍ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَأَلَ عَنْهُ عبد الله بن سنان ابن جَرِيرٍ الأَسَدِيَّ، ثُمَّ الصَّيْدَاوِيَّ، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ من قريش، فقال:

(3/572)

اما إذ كَانَ قُرَشِيًّا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَاللَّهِ لأُجَاهِدَنَّهُ الْقِتَالَ، إِنَّمَا قُرَيْشٌ عَبِيدُ مَنْ غَلَبَ، وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُونَ خَفِيرًا، وَلا يَخْرُجُونَ مِنْ بِلادِهِمْ إِلا بِخَفِيرٍ، فَغَضِبَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِنَانٍ الأَسَدِيُّ، فَأَمْهَلَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ، فَوَضَعَ الرُّمْحَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِسَعْدٍ فَأَسْلَمَ وَقَالَ فِي قَتْلِهِ النُّعْمَانَ بْنَ قَبِيصَةَ:

لَقَدْ غَادَرَ الأَقْوَامُ لَيْلَةَ أدْلجُوا ... بِقَصْرِ الْعَبَادِي ذَا الْفِعَالِ مُجَدَّلا

دَلَفْتُ لَهُ تَحْتَ الْعُجَاجِ بِطَعْنَةٍ ... فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي النَّجِيعِ مُرَمَّلا

أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ فِي نُغْضِ كَتْفِهِ ... أَبَا عَامِرٍ عَنْكَ الْيَمِينَ تَحَلَّلا

سَقَيْتُ بِهَا النُّعْمَانَ كَأْسًا رَوِيَّةً ... وَعَاطَيْتُهُ بِالرُّمْحِ سُمًّا مُثَمَّلا

تَرَكْتُ سِبَاعَ الْجَوِّ يَعْرِفْنَ حَوْلَهُ ... وَقَدْ كَانَ عَنْهَا لابْنِ حَيَّةَ مَعْزِلا

كَفَيْتُ قُرَيْشًا إِذْ تَغَيَّبَ جَمْعُهَا ... وَهَدَّمْتُ لِلنُّعْمَانِ عِزًّا مُؤَثَّلا

وَلَمَّا لَحِقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ وَقَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ فِيمَنْ مَعَهُمَا، سَارَ إِلَى رُسْتُمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ حَتَّى نَزَلَ قَادِسَ- قَرْيَةً إِلَى جَانِبِ الْعُذَيْبِ- فَنَزَلَ النَّاسُ بِهَا، وَنَزَلَ سَعْدٌ فِي قَصْرِ الْعُذَيْبِ، وَأَقْبَلَ رُسْتُمُ فِي جُمُوعِ فَارِسَ سِتِّينَ أَلْفًا مِمَّا أُحْصِيَ لَنَا فِي دِيوَانِهِ، سِوَى التُّبَّاعِ وَالرَّقِيقِ، حَتَّى نَزَلَ الْقَادِسِيَّةَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس جسر القادسية، وسعد في منزله وَجِعٌ، قَدْ خَرَجَ بِهِ قَرْحٌ شَدِيدٌ، وَمَعَهُ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبٍ الثَّقَفِيُّ مَحْبُوسٌ فِي الْقَصْرِ، حَبَسَهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا أَنْ نَزَلَ بِهِمْ رُسْتُمُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ رَجُلا مِنْكُمْ جَلِيدًا أُكَلِّمَهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ المغيره بن شعبه، فجاءه وفد فَرَقَ رَأْسَهُ أَرْبَعَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى قَفَاهُ، وَفِرْقَةٌ إِلَى أُذُنَيْهِ، ثُمَّ عَقَصَ شَعْرَهُ، وَلَبِسَ بُرْدًا لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رُسْتُمَ، وَرُسْتُمُ مِنْ وَرَاءِ الْجِسْرِ الْعَتِيقِ مِمَّا يَلِي

(3/573)

الْعِرَاقَ، وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ نَاحِيَتِهِ الأُخْرَى مِمَّا يَلِي الْحِجَازَ فِيمَا بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ، فَكَلَّمَهُ رُسْتُمُ، فَقَالَ: إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ أَهْلَ شَقَاءٍ وَجَهْدٍ، وَكُنْتُمْ تَأْتُونَنَا مِنْ بَيْنَ تَاجِرٍ وَأَجِيرٍ وَوَافِدٍ، فَأَكَلْتُمْ مِنْ طَعَامِنَا، وَشَرِبْتُمْ مِنْ شَرَابِنَا، وَاسْتَظْلَلْتُمْ مِنْ ظِلالِنَا، فَذَهَبْتُمْ فَدَعَوْتُمْ أَصْحَابَكُمْ، ثُمَّ أَتَيْتُمُونَا بِهِمْ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ مَثَلُ رَجُلٍ كَانَ لَهُ حَائِطٌ مِنْ عِنَبٍ، فَرَأَى فِيهِ ثَعْلَبًا وَاحِدًا، فَقَالَ: مَا ثَعْلَبٌ وَاحِدٌ! فَانْطَلَقَ الثَّعْلَبُ، فَدَعَا الثَّعَالِبَ إِلَى الْحَائِطِ، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَ فِيهِ جَاءَ الرَّجُلُ فَسَدَّ الْجُحْرَ الَّذِي دَخَلْنَ مِنْهُ، ثُمَّ قَتَلَهُنَّ جَمِيعًا.

وَقَدْ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ الْجَهْدُ الَّذِي قَدْ أَصَابَكُمْ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَامَكُمْ هَذَا، فَإِنَّكُمْ قَدْ شَغَلْتُمُونَا عَنْ عِمَارَةِ بِلادِنَا، وَعَنْ عَدُوِّنَا، وَنَحْنُ نُوقِرُ لَكُمْ رَكَائِبَكُمْ قَمْحًا وَتَمْرًا، وَنَأْمُرُ لَكُمْ بِكِسْوَةٍ، فَارْجِعُوا عَنَّا عَافَاكُمُ اللَّهُ! فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: لا تَذْكُرْ لَنَا جَهْدًا إِلا وَقَدْ كُنَّا فِي مِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ، أَفْضَلُنَا فِي أَنْفُسِنَا عَيْشًا الَّذِي يَقْتُلُ ابْنَ عَمِّهِ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ فَيَأْكُلُهُ، نَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالْعِظَامَ، فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فِينَا نَبِيًّا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مَا بَعَثَهُ بِهِ، فَصَدَّقَهُ مِنَّا مُصَدِّقٌ، وَكَذَّبَهُ مِنَّا آخَرُ، فَقَاتَلَ مَنْ صَدَّقَهُ مَنْ كَذَّبَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا فِي دِينِهِ، مِنْ بَيْنَ مُوقِنٍ بِهِ، وَبَيْنَ مَقْهُورٍ، حَتَّى اسْتَبَانَ لَنَا أَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

فَأَمَرَنَا أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ خَالَفَنَا، وَأَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ قُتِلَ مِنَّا عَلَى دِينِهِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ عَاشَ مَلِكٌ وَظَهَرَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، فَنَحْنُ نَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَدْخُلَ فِي دِينِنَا، فَإِنْ فَعَلْتَ كَانَتْ لَكَ بِلادُكَ، لا يَدْخُلُ عَلَيْكَ فِيهَا إِلا مَنْ أَحْبَبْتَ، وَعَلَيْكَ الزَّكَاةُ وَالْخُمُسُ، وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ فَالْجِزْيَةُ، وَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ قَاتَلْنَاكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ.

قَالَ لَهُ رُسْتُمُ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَعِيشُ حَتَّى أَسْمَعَ مِنْكُمْ هَذَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ.

لا أُمْسِي غَدًا حَتَّى أَفْرَغَ مِنْكُمْ وَأَقْتُلَكُمْ كُلَّكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِالْعَتِيقِ أَنْ يسكر، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ يسكر بِالْبَرَاذِعِ وَالتّرَابِ وَالْقَصَبِ حَتَّى أَصْبَحَ، وَقَدْ تَرَكَهُ طَرِيقًا مُهِيعًا، وَتَعَبَّى لَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلَ سَعْدٌ عَلَى جَمَاعَةِ النَّاسِ خَالِدَ بْنَ

(3/574)

عُرْفُطَةَ حَلِيفَ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وجعل على ميمنه الناس جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ قَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ الْمُرَادِيَّ.

ثُمَّ زَحَفَ إِلَيْهِمْ رُسْتُمُ، وَزَحَفَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَمَا عَامة جننهم- فِيمَا حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ- غير بَرَاذِعِ الرِّحَالِ، قَدْ عَرَضُوا فِيهَا الْجَرِيدَ، يَتْرُسُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَا عَامَّةُ مَا وَضَعُوهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ إِلا أَنْسَاعُ الرِّحَالِ، يَطْوِي الرَّجُلُ نِسْعَ رَحْلِهِ عَلَى رَأْسِهِ يَتَّقِي بِهِ، وَالْفُرْسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْحَدِيدِ وَالْيَلامِقِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا، وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ يَنْظُرُ، مَعَهُ سَلْمَى بِنْتُ خَصَفَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ الْمُثَنَّى بْنِ حَارِثَةَ، فَجَالَتِ الْخَيْلُ، فَرُعِبَتْ سلمى حين رات الخيل جالت، فقالت: وا مثنياه وَلا مُثَنَّى لِي الْيَوْمَ! فَغَارَ سَعْدٌ فَلَطَمَ وَجْهَهَا، فَقَالَتْ:

أَغَيْرَةً وَجُبْنًا! فَلَمَّا رَأَى أَبُو مِحْجَنٍ مَا تَصْنَعُ الْخَيْلُ حِينَ جَالَتْ، وَهُوَ يَنْظُرُ مِنْ قَصْرِ الْعُذَيْبِ وَكَانَ مَعَ سَعْدٍ فِيهِ، قَالَ:

كَفَى حُزْنًا أَنْ تُرْدِيَ الْخَيْلُ بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد واغلقت ... مصاريع دوني لا نجيب المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركونى واحدا لا اخاليا

فَكَلَّمَ زَبْرَاءَ أُمَّ وَلَدِ سَعْدٍ- وَكَانَ عِنْدَهَا مَحْبُوسًا، وَسَعْدٌ فِي رَأْسِ الْحِصْنِ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ- فَقَالَ: يَا زَبْرَاءُ، أَطْلِقِينِي وَلَكِ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، لَئِنْ لَمْ أُقْتَلْ لأَرْجِعَنَّ إِلَيْكِ حَتَّى تَجْعَلِي الْحَدِيدَ فِي رِجْلِي، فَأَطْلَقَتْهُ وَحَمَلَتْهُ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ بَلْقَاءَ وَخَلَّتْ سَبِيلَهُ، فَجَعَلَ يَشُدُّ عَلَى الْعَدُوِّ وَسَعْدٌ يَنْظُرُ فَجَعَلَ سَعْدٌ يَعْرِفُ فَرَسَهُ وَيَنْكِرُهَا، فَلَمَّا أَنْ فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ، وَهَزَمَ اللَّهُ جُمُوعَ فَارِسَ، رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ إِلَى زَبْرَاءَ، فَأَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي قَيْدِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ رَأَى فَرَسَهُ تَعْرَقُ، فَعَرَفَ أَنَّهَا قَدْ رُكِبَتْ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ زَبْرَاءَ، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ أَبِي مِحْجَنٍ فَخَلَّى سَبِيلَهُ

(3/575)

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إسحاق، قال: وقد كان عمرو بْن معديكرب شهد القادسية مع الْمُسْلِمِينَ.

وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بْن الأسود النخعي، عن أبيه، قال: شهدت القادسية، فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار.

فقلت: لقد أذل اللَّه أبناء الأحرار! حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، مَوْلَى بَجِيلَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ الْبَجَلِيِّ- وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ- قَالَ: كَانَ مَعَنَا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَلَحِقَ بِالْفُرْسِ مُرْتَدًّا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ بَأْسَ النَّاسِ فِي الْجَانِبِ الَّذِي بِهِ بَجِيلَةُ قَالَ: وَكُنَّا رُبْعَ النَّاسِ، فَوَجَّهُوا إِلَيْنَا سِتَّةَ عَشَرَ فِيلا وَإِلَى سَائِرِ النَّاسِ فِيلَيْنِ، وَجَعَلُوا يُلْقُونَ تَحْتَ أَرْجُلِ خُيُولِنَا حَسَكَ الْحَدِيدِ، وَيَرْشُقُونَنَا بِالنُّشَّابِ، فَكَأَنَّهُ الْمَطَرُ عَلَيْنَا، وَقَرَنُوا خَيْلَهُمْ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ لِئَلا يَفِرُّوا قَالَ: وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ يَمُرُّ بِنَا فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، كُونُوا أُسُودًا، فَإِنَّمَا الأَسَدُ مَنْ أَغْنَى شَأْنَهُ، فَإِنَّمَا الفارسي تيمن إِذَا أَلْقَى نَيْزَكَهُ.

قَالَ: وَكَانَ إِسْوَارٌ مِنْهُمْ لا يَكَادُ تَسْقُطُ لَهُ نُشَّابَةٌ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا ثَوْرٍ، اتَّقِ ذَلِكَ الْفَارِسِيَّ فَإِنَّهُ لا تَقَعُ لَهُ نُشَّابَةً، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَرَمَاهُ الْفَارِسِيُّ بِنُشَّابَةٍ فَأَصَابَ قَوْسَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو فَاعْتَنَقَهُ فَذَبَحَهُ، وَاسْتَلَبَهُ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَمِنْطَقَةً مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْمَقًا مِنْ دِيبَاجٍ، وَقَتَلَ اللَّهُ رُسْتُمَ، وَأَفَاءَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَسْكَرَهُ وَمَا فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُسْلِمُونَ سِتَّةُ آلافٍ أَوْ سَبْعَةُ آلافٍ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ رُسْتُمَ هِلالُ بْنُ عُلَّفَةَ التَّيْمِيُّ رَآهُ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ، فَرَمَاهُ رُسْتُمُ بِنُشَّابَةٍ فَأَصَابَ قَدَمَهُ وَهُوَ يَتْبَعُهُ، فَشَكَّهَا إِلَى رِكَابِ سرجه، ورستم يقول بالفارسيه:

(3/576)

بپايه، أَيْ كَمَا أَنْتَ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ هِلالُ بْنُ عُلَّفَةَ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ فَعَلَّقَهُ، وَوَلَّتِ الْفُرْسُ فَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَتِ الْفُرْسُ الْخَرَّارَةَ نَزَلُوا فَشَرِبُوا مِنَ الْخَمْرِ، وَطَعِمُوا مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ خَرَجُوا يَتَعَجَّبُونَ مِنْ رَمْيِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي الْعَرَبِ وَخَرَجَ جَالِنُوسُ فَرَفَعُوا لَهُ كُرَةً فَهُوَ يَرْمِيهَا وَيَشُكُّهَا بِالنُّشَّابِ، وَلَحِقَ بِهِمْ فِرْسَانٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ هُنَالِكَ، فَشَدَّ عَلَى جَالِنُوسَ زَهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيُّ فَقَتَلَهُ، وَانْهَزَمَتِ الْفُرْسُ، فَلَحِقُوا بِدَيْرِ قُرَّةَ وَمَا وَرَاءَهُ، وَنَهَضَ سَعْدٌ بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى نَزَلَ بِدَيْرِ قُرَّةَ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْفُرْسِ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِدَيْرِ قُرَّةَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ فِي مَدَدِهِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَهُمْ الف رجل، فأسهم له سعد ولأصحابه مع الْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَصَابُوا بِالْقَادِسِيَّةِ، وَسَعْدٌ وَجِعٌ مِنْ قرحته تلك، وقال جرير ابن عَبْدِ اللَّهِ:

أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمْرِو ... قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ

وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا:

نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ

فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ

قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا سَعْدًا، خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَأَرَاهُمْ مَا بِهِ مِنَ الْقَرْحِ فِي فَخِذَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ، فَعَذَرَهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ سَعْدٌ لَعَمْرِي يَجْبُنُ، فَقَالَ سَعْدٌ يُجِيبُ جَرِيرًا فِيمَا قَالَ:

وَمَا أَرْجُو بَجِيلَةَ غَيْرَ أَنِّي ... أُؤَمَّلُ أَجْرَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ

فَقَدْ لَقِيَتْ خُيُولُهُمْ خُيُولا ... وَقَدْ وَقَعَ الْفَوَارِسُ فِي ضِرَابِ

وَقَدْ دَلَفَتْ بِعَرْصَتِهِمْ فُيُولٌ ... كَأَنَّ زُهَاءَهَا إِبِلٌ جِرَابِ

(3/577)

ثُمَّ إِنَّ الْفُرْسَ هَرَبَتْ مِنْ دَيْرِ قُرَّةَ إِلَى الْمَدَائِنِ يُرِيدُونَ نَهَاوَنْدَ، وَاحْتَمَلُوا مَعَهُمُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَالدِّيبَاجَ وَالْفِرْنَدَ وَالْحَرِيرَ وَالسِّلاحَ وَثِيَابَ كِسْرَى وَبَنَاتَهُ، وَخَلَّوْا مَا سِوَى ذَلِكَ، وَأَتْبَعَهُمْ سَعْدٌ الطَّلَبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ حَلِيفَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَوَجَّهَ مَعَهُ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَةِ النَّاسِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِمْ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ زَهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَتَخَلَّفَ سَعْدٌ لِمَا بِهِ مِنَ الْوَجَعِ، فَلَمَّا أَفَاقَ سَعْدٌ مِنْ وَجَعِهِ ذَلِكَ اتَّبَعَ النَّاسَ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَدْرَكَهُمْ دُونَ دِجْلَةَ عَلَى بَهُرَسِيرَ، فَلَمَّا وَضَعُوا عَلَى دِجْلَةَ الْعَسْكَرَ وَالأَثْقَالَ طَلَبُوا الْمَخَاضَةَ، فَلَمْ يَهْتَدُوا لَهَا، حَتَّى أَتَى سَعْدًا عِلْجٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ، فَقَالَ: أَدُلُّكُمْ عَلَى طَرِيقٍ تُدْرِكُونَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُمْعِنُوا فِي السَّيْرِ! فَخَرَجَ بِهِمْ عَلَى مَخَاضَةٍ بِقُطْرَبُّلَ، فكان أول من خاض المخاضة هاشم ابن عُتْبَةَ فِي رَجْلِهِ، فَلَمَّا جَازَ اتَّبَعَتْهُ خَيْلُهُ، ثُمَّ أَجَازَ خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ بِخَيْلِهِ، ثُمَّ أَجَازَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ بِخَيْلِهِ، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فَخَاضُوا حَتَّى أَجَازُوا، فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُهْتَدَ لِتِلْكَ الْمَخَاضَةِ بَعْدُ ثُمَّ سَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مُظْلِمِ سَابَاطَ، فَأَشْفَقَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ بِهِ كَمِينٌ لِلْعَدُوِّ، فَتَرَدَّدَ النَّاسُ، وَجَبُنُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَهُ بِجَيْشِهِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، فَلَمَّا أَجَازَ أَلاحَ لِلنَّاسِ بِسَيْفِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ أَنْ لَيْسَ بِهِ شَيْءٌ يَخَافُونَهُ، فَأَجَازَ بِهِمْ خَالِدُ بْنُ عُرْفُطَةَ، ثُمَّ لَحِقَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى جَلُولاءَ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسِ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ جَلُولاءَ بِهَا، فَهَزَمَ اللَّهُ الْفُرْسَ، وَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا مِنَ الْفَيْءِ أَفْضَلَ مِمَّا أَصَابُوا بِالْقَادِسِيَّةِ، وَأُصِيبَتِ ابْنَةٌ لِكِسْرَى، يُقَالُ لَهَا مِنْجَانَةَ، وَيُقَالُ: بَلِ ابْنَةُ ابْنِهِ وَقَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:

يَا رُبَّ مُهْرٍ حَسَنٍ مُطَهَّمْ ... يَحْمِلُ أَثْقَالَ الْغُلامِ الْمُسْلِمْ

يَنْجُو إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ جَهَنَّمْ ... يَوْمَ جَلُولاءَ ويوم رستم

ويوم زحف الكوفة المقدم ... ويوم لاقَى ضِيقَةً مُهْزَمْ

وَخَرَّ دِينُ الْكَافِرِينَ لِلْفَمْ

(3/578)

ثُمَّ كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ قِفْ وَلا تَطْلُبُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سعد أيضا: انما هي سربه أَدْرَكْنَاهَا وَالأَرْضُ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَنْ قِفْ مَكَانَكَ وَلا تَتْبَعْهُمْ، وَاتَّخِذْ لِلْمُسْلِمِينَ دَارَ هِجْرَةٍ وَمَنْزِلَ جِهَادٍ، وَلا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَحْرًا فَنَزَلَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ الأَنْبَارَ، فَاجْتَوَوْهَا وَأَصَابَتْهُمْ بِهَا الْحُمَّى، فَلَمْ تُوَافِقْهُمْ، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ أَنَّهُ لا تَصْلُحُ الْعَرَبُ إِلا حَيْثُ يَصْلُحُ الْبَعِيرُ وَالشَّاةُ فِي مَنَابِتِ الْعُشْبِ، فَانْظُرْ فَلاةً فِي جَنْبِ الْبَحْرِ فَارْتَدْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا مَنْزِلا.

قَالَ: فَسَارَ سَعْدٌ حَتَّى نَزَلَ كُوَيْفَةَ عَمْرِو بْنِ سَعْدٍ، فَلَمْ تُوَافِقِ النَّاسَ مَعَ الذُّبَابِ وَالْحُمَّى فَبَعَثَ سَعْدٌ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ سَلَمَةَ- وَيُقَالُ: بَلْ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ- فَارْتَادَ لَهُمْ مَوْضِعَ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ، فَنَزَلَهَا سَعْدٌ بِالنَّاسِ، وَخَطَّ مَسْجِدَهَا، وَخَطَّ فِيهَا الْخُطَطَ لِلنَّاسِ.

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ خَرَجَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى الشَّامِ فَنَزَلَ الْجَابِيَةَ، وَفُتِحَتْ عَلَيْهِ إِيلِياءُ، مَدِينَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعَثَ فِيهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ حَنْظَلَةَ بْنَ الطُّفَيْلِ السُّلَمِيَّ إِلَى حِمْصَ، فَفَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْمَدَائِنِ رَجُلا مِنْ كِنْدَةَ، يُقَالُ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ:

الا ليتنى والمرء سعد بن مالك ... وربراء وَابْنُ السِّمْطِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ

ذكر أحوال أهل السواد

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَّا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مَعَ الْفَتْحِ:

(3/579)

نُقَاتِلُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ

فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ

فَبَعَثَ بِهَا فِي النَّاسِ، فَبَلَغَتْ سَعْدًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا، أَوْ قَالَ الَّذِي قَالَ رِيَاءً وَسُمْعَةً وَكَذِبًا، فَاقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ وَيَدَهُ.

وَقَالَ قبيصة: فو الله إِنَّهُ لَوَاقِفٌ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ يَوْمَئِذٍ، إِذْ أَقْبَلَتْ نُشَّابَةٌ لِدَعْوَةِ سَعْدٍ، حَتَّى وَقَعَتْ فِي لِسَانِهِ فَيَبُسَ شِقُّهُ، فَمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ الْحَارِثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ جَرِيرٌ يَوْمَئِذٍ:

أَنَا جَرِيرٌ كُنْيَتِي أَبُو عَمْرِو ... قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَسَعْدٌ فِي الْقَصْرِ

فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَقَالَ:

وَمَا أَرْجُو بَجِيلَةَ غَيْرَ أَنِّي ... أُؤَمَّلُ أَجْرَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ

وَقَدْ لَقِيَتْ خُيُولُهُمْ خُيُولا ... وَقَدْ وَقَعَ الْفَوَارِسُ فِي الضِّرَابِ

فَلَوْلا جَمْعُ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو ... وَحَمَّالٍ لَلَجُّوا فِي الْكِذَابِ

هُمُ مَنَعُوا جُمُوعَكُمُ بِطَعْنٍ ... وَضَرْبٍ مِثْلَ تَشْقِيقِ الإِهَابِ

وَلَوْلا ذَاكَ أَلْفَيْتُمْ رِعَاعًا ... تُشَلُّ جُمُوعُكُمْ مِثْلَ الذُّبَابِ

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بْن سليم بْن عبد الرحمن السعدي، عن عثمان بْن رجاء السعدي، قال: كان سعد بْن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصرا غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس، ولو أعراه الصف فواق ناقه أخذ برمته، فو الله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه

(3/580)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بْن بشير، عن أم كثير، امرأة همام بْن الحارث النخعي، قالت: شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوى، ثم أتينا القتلى، فما كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، وما كان من المشركين أجهزنا عليه، وتبعنا الصبيان نوليهم ذلك، ونصرفهم به.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن عطية- وهو ابن الحارث- عمن أدرك ذلك، قال: لم يكن من قبائل العرب أحد أكثر امرأة يوم القادسية من بجيلة والنخع، وكان في النخع سبعمائة امرأة فارغة، وفي بجيلة ألف، فصاهر هؤلاء الف من احياء العرب، وهؤلاء سبعمائة، وكانت النخع تسمى أصهار المهاجرين، وبجيلة، وإنما جرأهم على الانتقال بأثقالهم توطئة خالد، والمثنى بعد خالد، وأبي عبيد بعد المثنى، وأهل الأيام، فلاقوا بأسا بعد ذلك شديدا.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة، قالوا: وكان بكير بْن عبد اللَّه الليثي وعتبة بْن فرقد السلمي وسماك بْن خرشة الأنصاري- وليس بأبي دجانة- قد خطبوا امرأة يوم القادسية، وكان مع الناس نساؤهم، وكانت مع النخع سبعمائة امرأة فارغة، وكانوا يسمون أختان المهاجرين حتى كان قريبا، فتزوجهن المهاجرون قبل الفتح وبعد الفتح، حتى استوعبوهن، فصار اليهن سبعمائة رجل من الأفناء، فلما فرغ الناس خطب هؤلاء النفر هذه المرأة- وهي أروى ابنة عامر الهلالية- هلال النخع، وكانت أختها هنيدة تحت القعقاع بْن عمرو التميمي، فقالت لأختها: استشيري زوجك أيهم يراه لنا! ففعلت، وذلك بعد الوقعة وهم بالقادسية، فقال القعقاع: سأصفهم في الشعر فانظري لأختك، وقال:

إن كنت حاولت الدراهم فانكحي ... سماكا أخا الأنصار أو ابن فرقد

وإن كنت حاولت الطعان فيممي ... بكيرا إذا ما الخيل جالت عن الردي

وكلهم في ذروة المجد نازل ... فشأنكم إن البيان عن الغد

(3/581)

وقالوا: وكانت العرب توقع وقعة العرب وأهل فارس في القادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين، وفيما بين الأبلة وأيلة، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها، وكانت في كل بلد مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها، حتى إن كان الرجل ليريد الأمر فيقول: لا أنظر فيه حتى أنظر ما يكون من أمر القادسية فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن، فأتت بها ناسا من الإنس، فسبقت أخبار الإنس إليهم، قالوا: فبدرت امرأة ليلا على جبل بصنعاء، لا يدرى من هي؟ وهي تقول:

حييت عنا عكرم ابنة خالد ... وما خير زاد بالقليل المصرد

وحيتك عني الشمس عند طلوعها ... وحياك عني كل ناج مفرد

وحيتك عني عصبة نخعية ... حسان الوجوه آمنوا بمحمد

أقاموا لكسرى يضربون جنوده ... بكل رقيق الشفرتين مهند

إذا ثوب الداعي أناخوا بكلكل ... من الموت تسود الغياطل مجرد

وسمع أهل اليمامة مجتازا يغني بهذه الأبيات:

وجدنا الأكثرين بني تميم ... غداة الروع أصبرهم رجالا

هم ساروا بأرعن مكفهر ... إلى لجب فزرتهم رعالا

بحور للأكاسر من رجال ... كأسد الغاب تحسبهم جبالا

تركن لهم بقادس عز فخر ... وبالخيفين أياما طوالا

مقطعة أكفهم وسوق ... بمردى حيث قابلت الرجالا

(3/582)

قال: وسمع بنحو ذلك في عامة بلاد العرب.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَطَلْحَةَ، قَالُوا: وَكَتَبَ سَعْدٌ بِالْفَتْحِ وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلُوا وَبِعِدَّةِ مَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَسَمَّى لِعُمَرَ مَنْ يَعْرِفُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَارِيِّ، وَشَارَكَهُمُ النَّضْرُ بْنُ السَّرِيِّ عَنِ ابْنِ الرُّفَيْلِ بْنِ مَيْسُورٍ، وَكَانَ كِتَابُهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَنَا عَلَى أَهْلِ فَارِسَ، وَمَنَحَهُمْ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ وَزِلْزَالٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِعِدَّةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَ زُهَائِهَا فَلَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، بَلْ سَلَبَهُمُوهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الأَنْهَارِ وَعَلَى طُفُوفِ الآجَامِ وَفِي الْفِجَاجِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْقَارِئُ، وَفُلانٌ، وَفُلانٌ، وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لا نَعْلَمُهُمْ، اللَّهُ بِهِمْ عَالِمٌ، كَانُوا يَدْوُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ دَوِيَّ النَّحْلِ، وَهُمْ آسَادُ النَّاسِ، لا يَشْبِهُهُمُ الأُسُودُ، وَلَمْ يَفْضُلْ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ إِلا بِفَضْلِ الشِّهَادَةِ إِذْ لَمْ تُكْتَبْ لَهُمْ.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا أَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نُزُولُ رُسْتُمَ الْقَادِسِيَّةَ، كَانَ يَسْتَخْبِرُ الرُّكْبَانَ عَنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ مِنْ حِينَ يُصْبِحُ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ وَمَنْزِلِهِ قَالَ: فَلَمَّا لَقِيَ الْبَشِيرَ سَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ؟ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ حَدِّثْنِي، قَالَ: هَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، وَعُمَرُ يَخُبُّ مَعَهُ وَيَسْتَخْبِرُهُ وَالآخَرُ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ وَلا يَعْرِفُهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ بامره المؤمنين، فقال: فَهَلا أَخْبَرْتَنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! وَجَعَلَ عُمَرُ يَقُولُ: لا عَلَيْكَ يَا أَخِي! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ

(3/583)

وَزِيَادٍ، قَالُوا: وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِ الْبَشِيرِ وَأَمَرِ عُمَرَ، يَقَوِّمُونَ أَقْبَاضَهُمْ، وَيَحْزُرُونَ جُنْدَهُمْ، وَيَرُمُّونَ أَمُورَهُمْ قَالُوا: وَتَتَابَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ الأَيَّامِ الَّذِينَ شَهِدُوا الْيَرْمُوكَ وَدِمَشْقَ، وَرَجِعُوا مِمِدِّينَ لأَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، فَتَوَافَوْا بِالْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْغَدِ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ، وَجَاءَ أَوَّلُهُمْ يَوْمَ أَغْوَاثَ، وَآخِرُهُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، وَقَدِمَتْ أَمْدَادٌ فِيهَا مُرَادُ وَهَمْدَانُ، وَمِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ، فَكَتَبُوا فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُونَهُ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُسَارَ بِهِ فِيهِمْ- وَهَذَا الْكِتَابُ الثَّانِي بَعْدَ الْفَتْحِ- مَعَ نَذِيرِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمَّا أَتَى عُمَرَ الْفَتْحُ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْفَتْحَ، وَقَالَ: إِنِّي حَرِيصٌ عَلى أَلا أَدَعَ حَاجَةً إِلا سَدَدْتُهَا مَا اتَّسَعَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، فَإِذَا عَجَزَ ذَلِكَ عَنَّا تَآسَيْنَا فِي عَيْشِنَا حَتَّى نَسْتَوِيَ فِي الْكَفَافِ، وَلَوَدِدْتُ انكم علمتم من نفس مِثْلَ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا لَكُمْ، وَلَسْتُ مُعَلِّمَكُمْ إِلا بِالْعَمَلِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بِمَلِكٍ فَأَسْتَعْبِدَكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُرِضَ عَلَيَّ الأَمَانَةُ، فَإِنْ أَبَيْتُهَا وَرَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ حَتَّى تَشْبَعُوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَتُرْوَوْا سَعِدْتُ، وَإِنْ أَنَا حملتها واستتبعتها إِلَى بَيْتِي شَقِيتُ، فَفَرِحْتُ قَلِيلا، وَحَزِنْتُ طَوِيلا، وَبَقِيتُ لا أُقَالُ وَلا أُرَدُّ فَأُسْتَعْتَبُ قَالُوا: وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ مَعَ أَنَسِ بْنِ الْحُلَيْسِ: إِنَّ أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ ادَّعَوْا عُهُودًا، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى عَهْدِ أَهْلِ الأَيَّامِ لَنَا، وَلَمْ يَفِ بِهِ أَحَدٌ عَلِمْنَاهُ إِلا أَهْلُ بَانِقْيَا وَبسمَا وَأَهْلُ أُلَّيْسَ الآخِرَةُ وَادَّعَى أَهْلُ السَّوَادِ أَنَّ فَارِسَ أَكْرَهُوهُمْ وَحَشَرُوهُمْ، فَلَمْ يُخَالِفُوا إِلَيْنَا، وَلَمْ يَذْهَبُوا فِي الأَرْضِ.

وَكَتَبَ مَعَ أَبِي الْهياجِ الأَسَدِيِّ- يَعْنِي ابْنَ مَالِكٍ- إِنَّ أَهْلَ السَّوَادِ جلوا، فَجَاءَنَا مَنْ أَمْسَكَ بِعَهْدِهِ وَلَمْ يجلبْ عَلَيْنَا، فَتَمَّمْنَا لَهُمْ مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ قَدْ لَحِقُوا بِالْمَدَائِنِ، فَأَحْدَثَ إِلَيْنَا فِيمَنْ تَمَّ وَفِيمَنْ جَلا وَفِيمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ

(3/584)

اسْتُكْرِهَ وَحُشِرَ فَهَرَبَ وَلَمْ يُقَاتِلْ، أَوِ اسْتَسْلَمَ، فَإِنَّا بِأَرْضٍ رغيبة، وَالأَرْضُ خَلاءٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَعَدَدُنَا قَلِيلٌ، وَقَدْ كَثُرَ أَهْلُ صلحنَا، وَإِنْ أَعْمَرَ لَنَا وَأَوْهَنَ لِعدونا تألفهم فَقَامَ عُمَرُ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ بِالْهَوَى وَالْمَعْصِيَةِ يَسْقُطْ حَظُّهُ وَلا يَضُرَّ إِلا نَفْسَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ السُّنَّةَ وَيَنْتَهِ إِلَى الشَّرَائِعِ، وَيَلْزَمِ السَّبِيلَ النَّهجَ ابْتِغَاءَ مَا عِنْدِ اللَّهِ لأَهْلِ الطَّاعَةِ، أَصَابَ أَمْرَهُ، وَظَفَرَ بِحَظِّهِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: «وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» ، وَقَدْ ظَفَرَ أَهْلُ الأَيَّامِ وَالْقَوَادِسِ بِمَا يَلِيهِمْ، وَجَلا أَهْلُهُ، وَأَتَاهُمْ مَنْ أَقَامَ عَلَى عَهْدِهِمْ، فَمَا رَأْيُكُمْ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْتُكْرِهَ وَحُشِرَ، وَفِيمَنْ لَمْ يَدع ذَلِكَ وَلَمْ يَقُمْ وَجِلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئا، ولم يجل، وفيمن استسلم فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف لم يزده غلبه إلا خيرا، وأن من ادعى فصدق أو وفي فبمنزلتهم، وإن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم، فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يخيروا من أقام واستسلم: الجزاء، أو الجلاء، وكذلك الفلاح.

وكتب جواب كتاب أنس بْن الحليس: أما بعد، فإن اللَّه جل وعلا أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر، فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرض منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل- وان رئى لينا- فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وان رئى شديدا فهو انكش للكفر، فمن تم على عهده من أهل السواد، ولم يعن عليكم بشيء، فلهم الذمة، وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض، فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاءوا، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وابلغوهم مأمنهم

(3/585)

وأجابهم في كتاب أبي الهياج أما من أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل العهد بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة، وكذلك الفلاحون إذا فعلوا ذلك، وكل من ادعى ذلك فصدق فلهم الذمة، وإن كذبوا نبذ إليهم، وأما من أعان وجلا، فذلك أمر جعله اللَّه لكم، فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقيموا لكم في أرضهم، ولهم الذمة، وعليهم الجزية، وإن كرهوا ذلك، فاقسموا ما أفاء اللَّه عليكم منهم.

فلما قدمت كتب عمر على سعد بْن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى عن السواد أن يتراجعوا، ولهم الذمة وعليهم الجزية، فتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده، إلا أن خراجهم أثقل، فأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم، وأنزلوا من أقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحين، ولم يدخلوا في الصلح ما كان لآل كسرى، ولا ما كان لمن خرج معهم، ولم يجبهم إلى واحدة من اثنتين: الإسلام، أو الجزاء، فصارت فيئا لمن أفاء اللَّه عليه، فهي والصوافي الأولى ملك لمن أفاء اللَّه عليه، وسائر السواد ذمة وأخذوهم بخراج كسرى، وكان خراج كسرى على رءوس الرجال على ما في أيديهم من الحصة والأموال، وكان مما أفاء اللَّه عليهم ما كان لآل كسرى، ومن صوب معهم وعيال من قاتل معهم وماله، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه، وما كان للسكك، وما كان لآل كسرى، فلم يتأت قسم ذلك الفيء الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم، لأنه كان متفرقا في كل السواد، فكان يليه لأهل الفيء من وثقوا به، وتراضوا عليه، فهو الذي يتداعاه أهل الفيء لأعظم السواد، وكانت الولاة عند تنازعهم فيها تهاون بقسمه بينهم، فذلك الذي شبه على الجهلة أمر السواد، ولو أن الحلماء جامعوا السفهاء الذين سألوا الولاة قسمه لقسموه بينهم، ولكن الحلماء أبوا، فتابع الولاة الحلماء، وترك قول السفهاء.

كذلك صنع علي رحمه اللَّه، وكل من طلب إليه قسم ذلك فإنما تابع

(3/586)

الحلماء، وترك قول السفهاء، وقالوا: لئلا يضرب بعضهم وجوه بعض.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن عامر الشعبي، قال: قلت له: السواد ما حاله؟ قال أخذ عنوة، وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها، فدعوا إلى الصلح والذمة، فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة، وعليهم الجزاء، ولهم المنعة، وذلك هو السنة، كذلك صنع رسول الله ص بدومة، وبقي ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم فيئا لمن أفاءه اللَّه عَلَيْهِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن طلحة وسفيان، عن ماهان، قالوا: فتح اللَّه السواد عنوة- وكذلك كل أرض بينها وبين نهر بلخ- إلا حصنا، ودعوا إلى الصلح، فصاروا ذمه، وصارت لهم أرضوهم ولم يدخلوا في ذلك أموال آل كسرى ومن اتبعهم، فصارت فيئا لمن أفاءه اللَّه عليه، ولا يكون شيء من الفتوح فيئا حتى يقسم، وهو قوله: «ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ» ، مما اقتسمتم.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن بْن أبي الحسن، قال: عامة ما أخذ المسلمون عنوة فدعوهم إلى الرجوع والذمة، وعرضوا عليهم الجزاء فقبلوه ومنعوهم.

وعَنْ سَيْفٍ، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن الشعبي، قال: قلت له: إن أناسا يزعمون أن أهل السواد عبيد، فقال: فعلام يؤخذ الجزاء من العبيد؟

أخذ السواد عنوة، وكل أرض علمتها إلا حصنا في جبل أو نحوه.

فدعوا إلى الرجوع فرجعوا، وقبل منهم الجزاء، وصاروا ذمة، وإنما يقسم من الغنائم ما تغنم، فأما ما لم يغنم وأجاب أهله إلى الجزاء من قبل أن يتغنم، فلهم جرت السنة بذلك.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي ضمرة، عن عبد اللَّه بْن المستورد، عن مُحَمَّد بْن سيرين، قال: البلدان كلها أخذت عنوة إلا حصون قليلة، عاهدوا قبل أن ينزلوا ثم دعوا- يعني الذين أخذوا عنوة- إلى الرجوع والجزاء، فصاروا ذمة أهل السواد والجبل كله

(3/587)

أمر لم يزل يصنع في أهل الفيء، وإنما عمل عمر والمسلمون في هذا الجزاء والذمة على اجريا ما عمل به رسول الله ص في ذلك، وقد كان بعث خالد بْن الوليد من تبوك إلى دومة الجندل، فأخذها عنوة، وأخذ ملكها أكيدر بْن عبد الملك أسيرا، فدعاه إلى الذمة والجزاء، وقد أخذت بلاده عنوة، وأخذ أسيرا، وكذلك فعل بابني عريض، وقد أخذا فادعيا أنهما أوداؤه، فعقد لهما على الجزاء والذمة، وكذلك كان أمر يحنه ابن رؤبة صاحب أيلة وليس المعمول به من الأشياء كرواية الخاصة، من روى غير ما عمل به الأئمة العدول المسلمون، فقد كذب وطعن عليهم.

وعَنْ سَيْفٍ، عن حجاج الصواف، عن مسلم مولى حذيفة، قال:

تزوج المهاجرون والأنصار في أهل السواد- يعني في أهل الكتابين منهم، ولو كانوا عبيدا لم يستحلوا ذلك، ولم يحل لهم أن ينكحوا إماء أهل الكتاب، لأن اللَّه تعالى يقول: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا

» الآية، ولم يقل:

فتياتهم من أهل الكتابين.

وعَنْ سَيْفٍ، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عن سعيد بْن جبير، قال:

بعث عمر بْن الخطاب إلى حذيفة بعد ما ولاه المدائن وكثر المسلمات: إنه بلغني أنك تزوجت امرأة من أهل المدائن من أهل الكتاب فطلقها فكتب إليه: لا أفعل حتى تخبرني: أحلال أم حرام، وما أردت بذلك! فكتب إليه: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم فقال: الآن، فطلقها.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ، فَتَزَوَّجْنَا نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَحْنُ لا نَجِدُ كَثِيرَ مُسْلِمَاتٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، فَمِنَّا مَنْ طَلَّقَ، وَمِنَّا مَنْ أَمْسَكَ.

وعَنْ سَيْفٍ، عن عَبْد الْمَلِكِ بْن أبي سُلَيْمَان، عن سعيد بْن جبير، قال:

(3/588)

أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع والجزاء، فأجابوا إليه، فصاروا ذمة، إلا ما كان لآل كسرى، وأتباعهم، فصار فيئا لأهله، وهو الذي يتحجى أهل الكوفة إلى أن جهل ذلك، فحسبوه السواد كله، وأما سوادهم، فذلك.

وعَنْ سَيْفٍ، عن المستنير بْن يزيد، عن إبراهيم بْن يزيد النخعي، قال: أخذ السواد عنوة، فدعوا إلى الرجوع، فمن أجاب فعليه الجزية وله الذمة، ومن أبى صار ماله فيئا، فلا يحل بيع شيء من ذلك الفيء فيما بين الجبل إلى العذيب من أرض السواد ولا في الجبل.

وعَنْ سَيْفٍ، عن مُحَمَّد بْن قيس، عن الشعبي، بمثله: لا يحل بيع شيء من ذلك الفيء فيما بين الجبل والعذيب.

وعَنْ سَيْفٍ، عن عمرو بْن مُحَمَّد، عن عامر، قال: أقطع الزبير وخباب وابن مسعود وابن ياسر وابن هبار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الْخَطَأَ أَخْطَأُ، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا وأقطع عمر طلحة وجرير بْن عبد اللَّه والربيل بْن عمرو، وأقطع أبا مفزر دار الفيل في عدد ممن أخذنا عنهم، وإنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء اللَّه.

وكتب عمر إلى عثمان بْن حنيف مع جرير: أما بعد، فاقطع جرير ابن عبد اللَّه قدر ما يقوته لا وكس ولا شطط فكتب عثمان إلى عمر:

إن جريرا قدم علي بكتاب منك تقطعه ما يقوته، فكرهت أن أمضي ذلك حتى أراجعك فيه فكتب إليه عمر: أن قد صدق جرير، فأنفذ ذلك، وقد أحسنت في مؤامرتي وأقطع أبا موسى وأقطع علي رحمه اللَّه كردوس بْن هانئ الكردوسية، وأقطع سويد بْن غفلة الجعفي.

وعَنْ سَيْفٍ، عن ثابت بْن هريم، عن سويد بْن غفلة، قال:

استقطعت عليا رحمه اللَّه، فقال: اكتب: هذا ما أقطع علي سويدا أرضا لداذويه، ما بين كذا إلى كذا وما شاء اللَّه.

وعَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: إِذَا

(3/589)

عَاهَدْتُمْ قَوْمًا فَأَبْرِءُوا إِلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُيُوشِ فَكَانُوا يَكْتُبُونَ فِي الصُّلْحِ لِمَنْ عَاهَدُوا: وَنَبْرَأُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجُيُوشِ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ وَافْتِتَاحُهَا سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.

قَالَ: وَالثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرِي الرِّوَايَةَ عَنْهُ بِذَلِكَ

ذكر بناء البصرة

قال أبو جعفر: وفي سنة أربع عشرة أمر عمر بْن الخطاب رحمه اللَّه- فيما زعم الواقدي- الناس بالقيام في المساجد في شهر رمضان بالمدينة، وكتب إلى الأمصار يأمر المسلمين بذلك.

وفي هذه السنة- أعني سنة أربع عشرة- وجه عمر بن الخطاب عتبة ابن غزوان إلى البصرة، وأمره بنزولها بمن معه، وقطع مادة أهل فارس عن الذين بالمدائن ونواحيها منهم في قول المدائني وروايته.

وزعم سيف أن البصرة مصرت في ربيع سنة ست عشرة، وأن عتبة بْن غزوان إنما خرج إلى البصرة من المدائن بعد فراغ سعد من جلولاء وتكريت والحصنين، وجهه إليها سعد بأمر عمر.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْهُ فَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ:

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:

قُتِلَ مِهْرَانُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي صَفَر، فَقَالَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ- يَعْنِي ابْنَ غَزْوَانَ-:

قَدْ فَتَحَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَى إِخْوَانِكُمُ الْحِيرَةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَقُتِلَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَائِهَا

(3/590)

وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يَمُدَّهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوَجِّهَكَ إِلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، لِتَمْنَعَ أَهْلَ تِلْكَ الْجِيزَةِ مِنْ إِمْدَادِ إِخْوَانِهِمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَتُقَاتِلَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَيْكُمْ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَاتَّقِ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتَ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ، وَصَلِّ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ اللَّهِ فَأَقْبَلَ عُتْبَةُ فِي ثلاثمائة وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، وَضَوى إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الاعراب واهل البوادى، فقدم البصره في خمسمائة، يَزِيدُونَ قَلِيلا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلا، فَنَزَلَهَا فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ- أَوِ الآخِرِ- سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَالْبَصْرَةُ يَوْمَئِذٍ تُدْعَى أَرْضَ الْهِنْدِ فِيهَا حِجَارَةٌ بِيضٌ خَشِنٌ، فَنَزَلَ الْخُرَيْبَةَ، وَلَيْسَ بِهَا إِلا سَبْعُ دَسَاكِرَ، بِالزَّابُوقَةِ وَالْخُرَيْبَةِ وَمَوْضِعِ بَنِي تَمِيمٍ وَالأَزْدِ: ثِنْتَانِ بِالْخُرَيْبَةِ، وَثِنْتَانِ بِالأَزْدِ، وَثِنْتَانِ فِي مَوْضِعِ بَنِي تَمِيمٍ وَوَاحِدَةٌ بِالزَّابُوقَةِ فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، وَوَصَفَ لَهُ مَنْزِلَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: اجْمَعْ لِلنَّاسِ مَوْضِعًا وَاحِدًا، وَلا تُفَرِّقْهُمْ، فَأَقَامَ عُتْبَةُ أَشْهُرًا لا يَغْزُو وَلا يَلْقَى أَحَدًا.

وأما مُحَمَّد بْن بشار، فإنه حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى الزُّهْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَبِو نَعَامَةَ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عُمَيْرٍ وَشُوَيْسًا أَبَا الرُّقَادِ، قَالا: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: انْطَلِقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ، حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأَدْنَى أَرْضِ الْعَجَمِ، فَأَقِيمُوا فَأَقْبَلُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمِرْبَدِ وَجَدُوا هَذَا الْكذان قَالُوا: مَا هَذِهِ الْبَصْرَةِ؟ فَسَارُوا حَتَّى بَلَغُوا حِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ، فَإِذَا فِيهِ حُلَفَاءٌ وَقصب نابتة، فَقَالُوا: هَاهُنَا أُمِرْتُمْ، فَنَزَلُوا دُونَ صَاحِبِ الْفُرَاتِ، فاتوه فقالوا: ان هاهنا قَوْمًا مَعَهُمْ رَايَةٌ، وَهُمْ يُرِيدُونَكَ، فَأَقْبَلَ فِي أَرْبَعَةِ آلافِ إِسْوَارٍ، فَقَالَ: مَا هُمْ إِلا مَا أَرَى، اجْعَلُوا فِي أَعْنَاقِهِمُ الْحِبَالَ، وَأْتُونِي بِهِمْ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَزْجِلُ، وَقَالَ: إِنِّي شَهِدْتُ الحرب مع النبي ص، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: احْمِلُوا، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا صَاحِبُ الْفُرَاتِ، أَخَذُوهُ

(3/591)

أَسِيرًا، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ: ابْغُوا لَنَا مَنْزِلا هُوَ أَنْزَهَ مِنْ هَذَا- وَكَانَ يَوْمَ عِكَاكٍ وَوَمَدٍ- فَرَفَعُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَقَامَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا صَبَابَةٌ كَصَبَابَةِ الإِنَاءِ أَلا وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ وَقَدْ ذُكِرَ لِي:

لَوْ أَنَّ صَخْرَةً أُلْقِيَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ هَوَتْ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَلَتَمْلأَنَّهُ، أَوَعَجِبْتُمْ! وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وهو كظيظ بزحام، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا سَابِعُ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ ص، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقُ السمرِ، حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ، فَمَا مِنَّا مِنْ أُولَئِكَ السَّبْعَةِ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَسَيُجَرِّبُونَ النَّاسَ بَعْدَنَا.

وعَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو، قَالُوا: لَمَّا تَوَجَّهَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ الْمَازِنِيُّ مِنْ بَنِي مَازِنَ بْنِ مَنْصُورٍ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى فرج الْهِنْدِ، نَزَلَ عَلَى الشَّاطِئِ بِحِيَالِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَقَامَ قَلِيلا ثُمَّ أَرَزَ، ثُمَّ شَكَوْا ذَلِكَ حَتَّى أَمَرَهُ عُمَرُ بِأَنْ يُنْزِلَ الْحَجَرَ بَعْدَ ثَلاثَةِ أَوْطَانٍ إِذَا اجْتَوَوُا الطِّينَ، فَنَزَلُوا فِي الرَّابِعَةِ الْبَصْرَةَ- وَالْبَصْرَةُ كُلُّ أَرْضٍ حِجَارَتُهَا جِصٌّ- وَأَمَرَ لَهُمْ بِنَهْرٍ يُجْرَى مِنْ دِجْلَةَ، فَسَاقُوا إِلَيْهَا نَهْرًا لِلشَّفَةِ، وَكَانَ إِيطَانُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْبَصْرَةَ الْيَوْمَ وَإِيطَانُ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْكُوفَةَ الْيَوْمَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَكَانَ مَقَامُهُمْ قَبْلَ نُزُولِهَا الْمَدَائِنَ إِلَى أَنْ وَطَنُوهَا، وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَكَانَ مَقَامُهُمْ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ ثُمَّ أَرَزُوا مَرَّاتٍ حَتَّى اسْتَقَرُّوا وَبَدَءُوا، فَخَنَسُوا فَرْسَخًا وَجَرُّوا مَعَهُمْ نَهْرًا، ثُمَّ فَرْسَخًا ثُمَّ جَرُّوهُ ثُمَّ فَرْسَخًا، ثُمَّ جَرُّوهُ ثُمَّ أَتَوُا

(3/592)

الْحَجَرَ، ثُمَّ جَرُّوهُ، وَاخْتَطَّتْ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خِطَطِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَلَى أَنْزَالِ الْبَصْرَةِ أَبُو الْجَرْبَاءِ عَاصِمُ بْنُ الدُّلَفِ، أَحَدُ بَنِي غَيْلانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ.

وَقَدْ كَانَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ- فِيمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ إِسْحَاقَ السُّلَمِيِّ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ قَتَادَةَ السَّدُوسِيِّ- يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ الْخُرَيْبَةِ مِنَ الْبَصْرَةِ، كَمَا كَانَ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ يُغِيرُ بِنَاحِيَةِ الْحِيرَةِ.

فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يُعْلِمُهُ مَكَانَهُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ عَدَدٌ يَسِيرٌ ظَفَرَ بِمَنْ قَبْلِهِ مِنَ الْعُجْمِ، فَنَفَاهُمْ مِنْ بِلادِهِمْ وَكَانَتِ الأَعَاجِمُ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ قَدْ هَابُوهُ بَعْدَ وَقْعَةِ خَالِدٍ بِنَهْرِ الْمَرْأَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّهُ أَتَانِي كِتَابُكَ أَنَّكَ تُغِيرُ عَلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الأَعَاجِمِ، وَقَدْ أَصَبْتَ وَوُفِّقْتَ، أَقِمْ مَكَانَكَ، وَاحْذَرْ عَلَى مَنْ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فَوَجَّهَ عُمَرُ شُرَيْحَ بْنَ عَامِرٍ، أَحَدَ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: كُنْ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْجِيزَةِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَتَرَكَ بِهَا قُطْبَةَ، وَمَضَى إِلَى الأَهْوَازِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِسَ، وَفِيهَا مَسْلَحَةٌ لِلأَعَاجِمِ، فَقَتَلُوهُ، وَبَعَثَ عُمَرُ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ.

حَدَّثَنَا عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: إِنَّ عُمَرَ قَالَ لِعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ إِذْ وَجَّهَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا عُتْبَةُ، إِنِّي قَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، وَهِيَ حَوْمَةٌ مِنْ حَوْمَةِ الْعَدُوِّ، وَأَرْجُو أَنْ يُكْفِيَكَ اللَّهُ مَا حَوْلَهَا، وَأَنْ يُعِينَكَ عَلَيْهَا وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَنْ يَمُدَّكَ بِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ، وَهُوَ ذُو مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَايَدَتِهِ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فَاسْتَشِرْهُ وَقَرِّبْهُ، وَادْعُ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَجَابَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ أَبَى فَالْجِزْيَةَ عَنْ صَغَارٍ وَذِلَّةٍ، وَإِلا فَالسَّيْفَ فِي غَيْرِ هَوَادَةٍ وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وُلِّيتَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُنَازِعَكَ نَفْسُكَ إِلَى كِبْرٍ يُفْسِدُ عَلَيْكَ اخوتك، وقد صحبت رسول الله ص فَعُزِّزْتَ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَقُوِّيتَ بِهِ بَعْدَ الضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أَمِيرًا مُسَلَّطًا وَمَلِكًا مُطَاعًا، تَقُولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وَتَأْمُرُ فَيُطَاعُ أَمْرُكَ، فَيَا لَهَا نِعْمَةٌ، إِنْ لَمْ تَرْفَعْكَ فَوْقَ قَدْرِكَ وَتُبْطِرْكَ عَلَى مَنْ دُونَكَ! احْتَفِظْ مِنَ النِّعْمَةِ احْتِفَاظَكَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهِيَ أَخْوَفُهُمَا عِنْدِي عَلَيْكَ

(3/593)

أَنْ تَسْتَدْرِجْكَ وَتَخْدَعَكَ، فَتَسْقُطَ سَقْطَةً تَصِيرُ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ، أُعِيذُكَ بِاللَّهِ وَنَفْسِي مِنْ ذَلِكَ إِنَّ النَّاسَ أَسْرَعُوا إِلَى اللَّهِ حِينَ رُفِعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَأَرَادُوهَا، فَأَرِدِ اللَّهَ وَلا تُرِدِ الدُّنْيَا، وَاتَّقِ مَصَارِعَ الظَّالِمِينَ.

حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَمْدَانِيُّ وَأَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عُتْبَةُ بْنُ غزوان البصره في ثلاثمائة، فَلَمَّا رَأَى مَنْبَتَ الْقَصَبِ، وَسَمِعَ نَقِيقَ الضَّفَادِعِ قَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْزِلَ أَقْصَى الْبَرِّ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأَدْنَى أَرْضِ الرِّيفِ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمِ، فَهَذَا حَيْثُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا فِيهِ طَاعَةُ إِمَامِنَا فَنَزَلَ الْخُرَيْبَةَ وَبِالأُبُلَّةِ خمسمائة مِنَ الأَسَاوِرَةِ يَحْمُونَهَا وَكَانَتْ مِرْفَأَ السُّفُنِ مِنَ الصِّينِ وَمَا دُونَهَا، فَسَارَ عُتْبَةُ فَنَزَلَ دُونَ الإِجَانَةِ، فَأَقَامَ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الأُبُلَّةِ فَنَاهَضَهُمْ عُتْبَةُ، وَجَعَلَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ السَّدُوسِيُّ وَقَسَامَةُ بْنُ زُهَيْرٍ الْمَازِنِيُّ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ، وَقَالَ لَهُمَا: كُونَا فِي ظَهْرِنَا، فَتَرُدَّا الْمُنْهَزِمَ، وَتَمْنَعَا مَنْ أَرَادَنَا مِنْ وَرَائِنَا ثُمَّ الْتَقَوْا فَمَا اقْتَتَلُوا مِقْدَارَ جَزْرِ جَزُورٍ وَقَسْمِهَا، حَتَّى مَنَحَهُمُ اللَّهُ أَكْتَافَهُمْ، وَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، حَتَّى دَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَرَجَعَ عُتْبَةُ إِلَى عَسْكَرِهِ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَخَرَجُوا عَنِ الْمَدِينَةِ، وَحَمَلُوا مَا خَفَّ لَهُمْ، وَعَبَرُوا إِلَى الْفُرَاتِ، وَخَلُّوا الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فَأَصَابُوا مَتَاعًا وَسِلاحًا وَسَبْيًا وَعينًا، فَاقْتَسَمُوا العين، فأصاب كل رجل منهم درهمان، وَوَلَّى عُتْبَةُ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ أَقْبَاضَ الأُبُلَّةِ، فَأَخْرَجَ خُمُسَهُ، ثُمَّ قَسَّمَ الْبَاقِي بَيْنَ مَنْ أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ مَعَ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ.

وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَتَلَ نَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ الأُبُلَّةِ تسعه، وابو بكر سِتَّةً.

وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: أصاب المسلمون بالابله من الدراهم ستمائه دِرْهَمٍ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ دِرْهَمَيْنِ، فَفَرَضَ عُمَرُ لأَصْحَابِ الدِّرْهَمَيْنِ مِمَّنْ أَخَذَهُمَا مِنْ فَتْحِ الأُبُلَّةِ في الفين من العطاء، وكانوا ثلاثمائة رَجُلٍ، وَكَانَ فَتْحُ الأُبُلَّةِ فِي رَجَبٍ، أَوْ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ

(3/594)

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: شَهِدَ فَتْحَ الأُبُلَّةُ مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَرْيَمَ الْبَلَوِيُّ، وَرَبِيعَةُ بْنُ كِلْدَةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ، وَالْحَجَّاجُ.

وَعَنْ عَبَايَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرٍو، قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ الأُبُلَّةِ مَعَ عُتْبَةَ، فَبَعَثَ نَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْفَتْحِ، وَجَمَعَ لَنَا اهل دست ملسان، فَقَالَ عُتْبَةُ: أَرَى أَنْ نَسِيرَ إِلَيْهِمْ، فَسِرْنَا فلقينا مرزبان دست ميسان، فَقَاتَلْنَاهُ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ وَأُخِذَ أَسِيرًا، فَأُخِذَ قِبَاؤُهُ ومنطقته، فبعث به عتبة مع انس ابن حُجَيَّةَ الْيَشْكُرِيِّ.

وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ، قَالَ: بَعَثَ عُتْبَةُ أَنَسَ بْنَ حُجَيَّةَ إِلَى عُمَرَ بمنطقه مرزبان دست ميسان، فقال له: كَيْفَ الْمُسْلِمُونَ؟ قَالَ: انْثَالَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، فَهُمْ يُهِيلُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَرَغِبَ النَّاسُ فِي الْبَصْرَةِ، فَأَتَوْهَا.

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنَ الأُبُلَّةِ، جَمَعَ لَهُ مَرْزُبَانُ دست ميسان، فَسَارَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ مِنَ الأُبُلَّةِ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ سَرَّحَ مُجَاشِعَ بْنَ مَسْعُودٍ إِلَى الْفُرَاتِ وَبِهَا مَدِينَةٌ وَوَفَدَ عُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ، وَأَمَرَ الْمُغِيرَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ حَتَّى يَقْدَمَ مُجَاشِعُ مِنَ الْفُرَاتِ، فَإِذَا قَدِمَ فَهُوَ الأَمِيرُ فَظَفَرَ مُجَاشِعٌ بِأَهْلِ الْفُرَاتِ، وَرَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَجَمَعَ الْفيلكَانُ، عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ أَبَزْقُبَاذَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَلَقِيَهُ بِالْمَرْغَابِ، فَظَفَرَ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ عُمَرُ لِعُتْبَةَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ؟ قَالَ: مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ:

تَسْتَعْمِلُ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْوَبَرِ عَلَى أَهْلِ الْمَدَرِ؟ تَدْرِي مَا حَدَثَ! قَالَ: لا، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَمَلِهِ، فَمَاتَ عُتْبَةُ في

(3/595)

الطَّرِيقِ، وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ.

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ، قَالَ: شَخَصَ عُتْبَةُ بعد ما قتل مرزبان دست ميسان، وَوَجَّهَ مُجَاشِعًا إِلَى الْفُرَاتِ، وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وامر المغيره ابن شُعْبَةَ بِالصَّلاةِ حَتَّى يَرْجِعَ مُجَاشِعُ مِنَ الْفُرَاتِ، وَجَمَعَ أَهْلُ مِيسَانَ، فَلَقِيَهُمُ الْمُغِيرَةُ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ قُدُومِ مُجَاشِعٍ مِنَ الْفُرَاتِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ إِلَى عُمَرَ.

الطبري، بإسناده عن قتادة، قال: جمع أهل ميسان للمسلمين، فسار إليهم المغيرة، وخلف المغيرة الأثقال، فلقي العدو دون دجلة، فقالت أردة بنت الحارث بْن كلدة: لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم! فاعتقدت لواء من خمارها، واتخذ النساء من خمرهن رايات، وخرجن يردن المسلمين، فانتهين إليهم، والمشركون يقاتلونهم، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة، ظنوا أن مددا أتى المسلمين فانكشفوا، وأتبعهم المسلمون فقتلوا منهم عدة وعن حارثة بْن مضرب، قال: فتحت الأبلة عنوة، فقسم بينهم عتبة- ككة- يعني خبزا أبيض وعن مُحَمَّد بْن سيرين مثله.

قال الطبرى، وَكَانَ مِمَّنْ سُبِيَ مِنْ مِيسَانَ يَسَارٌ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَرْطُبَانُ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنِ بْنِ أَرْطُبَانَ.

وَعَنِ الْمُثَنَّى بْنِ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:

شَهِدْتُ فَتْحَ الأُبُلَّةِ، فَوَقَعَ لِي فِي سَهْمِي قِدْرُ نَحَاسٍ، فَلَمَّا نَظَرْتُ إِذَا هِيَ ذَهَبٌ فِيهَا ثَمَانُونَ أَلْفَ مِثْقَالٍ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ أَنْ يُصْبَرَ يَمِينُ سَلَمَةَ بِاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَهَا وَهِيَ عِنْدَهُ نَحَاسٌ، فَإِنْ حَلَفَ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ، وَإِلا قُسِّمَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ: فَحَلَفْتُ، فَسُلِّمَتْ لِي قَالَ الْمُثَنَّى: فَأُصُولُ أَمْوَالِنَا الْيَوْمَ مِنْهَا

(3/596)

وَعَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ قَيْسٍ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ النَّاسُ لِقِتَالِ أَهْلِ الأُبُلَّةِ خَرَجَ زَوْجِي وَابْنِي مَعَهُمْ، فَأَخَذُوا الدِّرْهَمَيْنِ وَمَكُّوكِ زَبِيبٍ، وَإِنَّهُمْ مَضَوْا حَتَّى إِذَا كَانُوا حِيَالَ الأُبُلَّةِ، قَالُوا لِلْعَدُوِّ، نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ أَوْ تَعْبُرُونَ إِلَيْنَا؟ قَالَ: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا، فَأَخَذُوا خَشَبَ الْعُشَرِ فَأَوْثَقُوهُ، وَعَبَرُوا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لا تَأْخُذُوا أَوَّلَهُمْ حَتَّى يَعْبُرَ آخِرُهُمْ فَلَمَّا صَارُوا عَلَى الأَرْضِ كَبَّرُوا تَكْبِيرَةً، ثُمَّ كَبَّرُوا الثَّانِيَةَ، فَقَامَتْ دَوَابُّهُمْ عَلَى أَرْجُلِهَا، ثُمَّ كَبَّرُوا الثَّالِثَةَ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تَضْرِبُ بِصَاحِبِهَا الأَرْضَ، وَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى رُءُوسٍ تُنْدَرُ، مَا نَرَى مَنْ يَضْرِبُهَا، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ.

الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ عُتْبَةَ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ، وَكَانَتْ أُخْتُهَا أَردَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ عِنْدَ شِبْلِ بْنِ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَلِيَ عُتْبَةُ الْبَصْرَةَ انْحَدَرَ مَعَهُ أَصْهَارُهُ: أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعٌ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَانْحَدَرَ مَعَهُمْ زِيَادٌ، فَلَمَّا فَتَحُوا الأُبُلَّةَ لَمْ يَجِدُوا قَاسِمًا يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ زِيَادٌ قَاسِمَهُمْ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لَهُ ذُؤَابَةٌ، فَأَجْرَوْا عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ.

وَقِيلَ: إِنَّ إِمَارَةَ عُتْبَةَ الْبَصْرَةَ كَانَتْ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ، فَكَانَتْ إِمَارَتُهُ عَلَيْهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ.

وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَبَقِيَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ رُمِيَ بِمَا رُمِيَ، وَاسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى، وَقِيلَ اسْتَعْمَلَ بَعْدَ عُتْبَةَ أَبَا مُوسَى، وَبَعْدَهُ الْمُغِيرَةَ.

وَفِيهَا- أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ- ضَرَبَ عُمَرُ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ فِي شَرَابٍ شَرِبُوهُ وَأَبَا مِحْجَنٍ.

وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ في قول، وعلى اليمن يعلى بن مُنَيَّةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ- وَقِيلَ:

الْعَلاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ- وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ

(3/597)

ثم دخلت

سنة خمس عشرة

قال ابن جرير: قال بعضهم: فيها مصر سعد بْن أبي وقاص الكوفة، دلهم عليها ابن بقيلة، قال لسعد: أدلك على أرض ارتفعت عن البق، وانحدرت عن الفلاة! فدلهم على موضع الكوفة اليوم.

ذكر الوقعة بمرج الروم

وفي هذه السنة كانت الوقعة بمرج الروم، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بْن الوليد من فحل إلى حمص، وانصرف بمن أضيف إليهم من اليرموك، فنزلوا جميعا على ذي الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله يوم نزل عليه شنس الرومي، في مثل خيل توذرا، إمدادا لتوذرا وردءا لأهل حمص، فنزل في عسكر على حدة، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من توذرا بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر أن توذرا قد رحل إلى دمشق، فأجمع رأيه ورأي أبي عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه خالد من ليلته في جريدة، وقد بلغ يزيد بْن أبي سفيان الذي فعل، فاستقبله فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من خلفهم، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، فأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب، وقسم

(3/598)

ذلك يزيد بْن أبي سفيان على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبي عبيدة، وقد قتل خالد توذرا، وقال خالد:

نحن قتلنا توذرا وشوذرا وقبله ما قد قتلنا حيدرا نحن أزرنا الغيضة الأكيدرا.

وقد ناهد أبو عبيدة بعد خروج خالد في أثر توذرا شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم مقتلة عظيمة، وقتل أبو عبيدة شنس، وامتلأ المرج من قتلاهم، فأنتنت منهم الأرض، وهرب من هرب منهم، فلم يفلتهم، وركبوا أكساءهم إلى حمص

. ذكر فتح حمص

حكى الطبري عَنْ سَيْفٍ، في كتابه، عن أبي عثمان، قال: ولما بلغ هرقل الخبر بمقتل أهل المرج، أمر أمير حمص بالسير والمضي إلى حمص، وقال: إنه بلغني أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء فلا تقاتلوهم إلا في كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد، هذا جل طعامه وشرابه وارتحل من عسكره ذلك، فأتى الرهاء، وأخذ عامله بحمص، وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها، فكانوا يغادون المسلمين ويراوحونهم في كل يوم بارد، ولقي المسلمون بها بردا شديدا، والروم حصارا طويلا، فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ اللَّه عليهم الصبر، وأعقبهم النصر، حتى اضطرب الشتاء، وإنما تمسك القوم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء.

وعن أبي الزهراء القشيري، عن رجل من قومه، قال: كان أهل حمص

(3/599)

يتواصون فيما بينهم، ويقولون: تمسكوا فإنهم حفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون، فكانت الروم تراجع، وقد سقطت أقدام بعضهم في خفافهم، وإن المسلمين في النعال ما أصيب أصبع أحد منهم، حتى إذا انخنس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين قالوا: كيف والملك في سلطانه وعزه، ليس بيننا وبينهم شيء! فتركهم، وقام فيهم آخر فقال: ذهب الشتاء، وانقطع الرجاء، فما تنتظرون؟

فقالوا: البرسام، فإنما يسكن في الشتاء ويظهر في الصيف، فقال: إن هؤلاء قوم يعانون، ولأن تأتوهم بعهد وميثاق، خير من أن تؤخذوا عنوة، أجيبوني محمودين قبل أن تجيبوني مذمومين! فقالوا: شيخ خرف، ولا علم له بالحرب.

وعن أشياخ من غسان وبلقين، قالوا: أثاب اللَّه المسلمين على صبرهم أيام حمص أن زلزل بأهل حمص، وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم في المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوي رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب اللَّه! فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم، فأشرفوا فنادوا: الصلح الصلح! ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال الروم وبنيانهم، لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام، على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا وصالح بعضهم على قدر طاقته، إن زاد ماله زيد عليه، وإن نقص نقص، وكذلك كان صلح دمشق والأردن، بعضهم على شيء إن أيسروا وإن أعسروا، وبعضهم على قدر طاقته، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.

وبعث أبو عبيدة السمط بْن الأسود في بني معاوية، والأشعث بْن مئناس في السكون، معه ابن عابس، والمقداد في بلى، وبلالا وخالدا في الجيش، والصباح

(3/600)

ابن شتير وذهيل بْن عطية وذا شمستان، فكانوا في قصبتها وأقام في عسكره، وكتب إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع عبد اللَّه بْن مسعود، وقد وفده.

وأخبر خبر هرقل، وأنه عبر الماء إلى الجزيرة، فهو بالرهاء ينغمس أحيانا، ويطلع أحيانا فقدم ابن مسعود على عمر، فرده، ثم بعثه بعد ذلك إلى سعد بالكوفة، ثم كتب إلى أبي عبيدة: أن أقم في مدينتك وادع أهل القوة والجلد من عرب الشام، فإني غير تارك البعثة إليك بمن يكانفك، إن شاء اللَّه

. حديث قنسرين

وعن أبي عثمان وجارية، قالا: وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد ابن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليهم الروم، وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلة لم يقتلوا مثلها، فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربه، فقبل منهم وتركهم ولما بلغ عمر ذلك قال: أمر خالد نفسه، يرحم اللَّه أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني، وقد كان عزله والمثنى مع قيامه، وقال: إني لم أعزلهما عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما فلما كان من أمره وأمر قنسرين ما كان، رجع عن رأيه، وسار خالد حتى نزل قنسرين، فتحصنوا منه، فقال:

إنكم لو كنتم في السحاب لحملنا اللَّه إليكم أو لأنزلكم اللَّه إلينا قال: فنظروا في أمرهم، وذكروا ما لقي أهل حمص، فصالحوه على صلح حمص، فأبى إلا على إخراب المدينة فأخربها، واتطأت حمص وقنسرين، فعند ذلك خنس هرقل، وإنما كان سبب خنوسه أن خالدا حين قتل ميناس ومات الروم على دمه، وعقد لأهل الحاضر وترك قنسرين، طلع من قبل الكوفه عمر

(3/601)

ابن مالك من قبل قرقيسيا، وعبد اللَّه بْن المعتم من قبل الموصل، والوليد ابن عقبة من بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة، وطووا مدائن الجزيرة من نحو هرقل، وأهل الجزيرة في حران والرقة ونصيبين وذواتها لم يغرضوا غرضهم، حتى يرجعوا إليهم، إلا أنهم خلفوا في الجزيرة الوليد لئلا يؤتوا من خلفهم، فأدرب خالد وعياض مما يلي الشام، وأدرب عمر وعبد اللَّه مما يلي الجزيرة، ولم يكونوا أدربوا قبله، ثم رجعوا، فهي أول مدربة كانت في الإسلام سنة ست عشرة فرجع خالد إلى قنسرين فنزلها، وأتته امرأته، فلما عزله قال: إن عمر ولاني الشام حتى إذا صارت بثنية وعسلا عزلني.

قال أبو جعفر الطبري: ثم خرج هرقل نحو القسطنطينية، فاختلف في حين شخوصه إليها وتركه بلاد الشام، فقال ابن إسحاق: كان ذلك سنة خمس عشرة، وقال سيف: كان سنة ست عشرة

ذكر خبر ارتحال هرقل إلى القسطنطينية

ذكر سيف عن أبي الزهراء القشيري، عن رجل من بني قشير، قالوا:

لما خرج هرقل من الرهاء واستتبع أهلها، قالوا: نحن هاهنا خير منا معك، وأبوا أن يتبعوه، وتفرقوا عنه وعن المسلمين، وكان أول من أنبح كلابها، وأنفر دجاجها زياد بْن حنظلة، وكان من الصحابه، وكان مع عمر ابن مالك مسانده، وكان حليفا لبني عبد بْن قصي، وقبل ذلك ما قد خرج هرقل حتى شمشاط، فلما نزل القوم الرهاء أدرب فنفذ نحو القسطنطينية، ولحقه رجل من الروم كان أسيرا في أيدي المسلمين، فأفلت، فقال له: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم، فرسان بالنهار ورهبان بالليل، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على

(3/602)

من حاربهم حتى يأتوا عليه، فقال: لئن كنت صدقتني ليرثن ما تحت قدمي هاتين.

وعن عبادة وخالد، أن هرقل كان كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن في أرض الروم التفت فقال: عليك السلام يا سورية تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد فلما توجه المسلمون نحو حمص عبر الماء، فنزل الرهاء، فلم يزل بها حتى طلع أهل الكوفة وفتحت قنسرين وقتل ميناس، فخنس عند ذلك إلى شمشاط، حتى إذا فصل منها نحو الروم علا على شرف، فالتفت ونظر نحو سورية، وقال: عليك السلام يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد! ما أحلى فعله، وأمر عاقبته على الروم! وعن أبي الزهراء وعمرو بْن ميمون، قالا: لما فصل هرقل من شمشاط داخلا الروم التفت إلى سورية، فقال: قد كنت سلمت عليك تسليم المسافر، فأما اليوم فعليك السلام يا سورية تسليم المفارق، ولا يعود إليك رومي أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، وليته لم يولد! ومضى حتى نزل القسطنطينية.

وأخذ أهل الحصون التي بين إسكندرية وطرسوس معه، لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وبلاد الروم، وشعث الحصون، فكان المسلمون لا يجدون بها أحدا، وربما كمن عندها الروم، فأصابوا غرة المتخلفين، فاحتاط المسلمون لذلك

. ذكر فتح قيسارية وحصر غزة

ذَكَرَ سَيْفٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، عَنْ خَالِدٍ وَعُبَادَةَ، قَالا: لَمَّا انْصَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَالِدٌ إِلَى حِمْصَ مِنْ فحل، نَزَلَ عَمْرٌو وَشُرَحْبِيلٌ عَلَى بَيْسَانَ فَافْتَتَحَاهَا، وَصَالَحَتْهُ الأردن، واجتمع عسكر الروم بالجنادين

(3/603)

وَبِيسَانَ وَغَزَّةَ، وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِتَفَرُّقِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ بِأَنْ يُدَفِّئَ ظُهُورَهُمْ بِالرِّجَالِ، وَأَنْ يُسَرِّحَ مُعَاوِيَةَ إِلَى قَيْسَارِيَةَ وَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو يَأْمُرُهُ بِصَدْمِ الأَرْطَبُونِ، وَإِلَى عَلْقَمَةَ بِصَدْمِ الْفَيْقَارِ.

وَكَانَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ قَيْسَارِيَةَ، فَسِرْ إِلَيْهَا وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ، اللَّهُ رَبُّنَا وَثِقَتُنَا وَرَجَاؤُنَا وَمَوْلانَا، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فَانْتَهَى الرَّجُلانِ إِلَى مَا أَمَرَا بِهِ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ فِي جُنْدِهِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أَهْلِ قَيْسَارِيَةَ وَعَلَيْهِمْ أبنى، فَهَزَمَهُ وَحَصَرَهُ فِي قَيْسَارِيَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا يُزَاحِفُونَهُ، وَجَعَلُوا لا يُزَاحِفُونَهُ مِنْ مَرَّةٍ إِلا هَزَمَهُمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ ثُمَّ زَاحَفُوهُ آخِرَ ذَلِكَ، وَخَرَجُوا مِنْ صَيَاصِيهِمْ، فَاقْتَتَلُوا فِي حَفِيظَةٍ وَاسْتِمَاتَةٍ، فَبَلَغَتْ قَتْلاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَكَمَّلَهَا فِي هَزِيمَتِهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، ثُمَّ خَافَ مِنْهُمَا الضَّعْفَ، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلْقَمَةَ الْفِرَاسِيَّ وَزُهَيْرَ بْنَ الْحَلابِ الْخَثْعَمِيَّ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَتْبَعَاهُمَا وَيَسْبِقَاهُمَا، فَلَحِقَاهُمَا، فَطَوَيَاهُمَا وَهُمَا نَائِمَانِ.

وَابْنُ عَلْقَمَةَ يَتَمَثَّلُ وَهِيَ هِجِّيرَاهُ:

أَرَّقَ عَيْنِي أَخَوَا جُذَامِ ... كَيْفَ أَنَامُ وَهُمَا أَمَامِي!

إِذْ يَرْحَلانِ وَالْهَجِيرُ طَامِي ... أَخُو حَشِيمٍ وَأَخُو حَرَامِ

وَانْطَلَقَ عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزٍ، فَحَصَرَ الْفَيْقَارَ بِغَزَّةَ، وَجَعَلَ يُرَاسِلُهُ، فَلَمْ يَشْفِهِ مِمَّا يُرِيدُ أَحَدٌ، فَأَتَاهُ كَأَنَّهُ رَسُولُ عَلْقَمَةَ، فَأَمَرَ الْفَيْقَارُ رَجُلا أَنْ يَقْعُدَ لَهُ بِالطَّرِيقِ، فَإِذَا مَرَّ قَتَلَهُ، فَفَطِنَ عَلْقَمَةُ، فَقَالَ: إِنَّ مَعِي نَفَرًا شُرَكَائِي فِي الرَّأْيِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِيكَ بِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ: لا تَعْرِضْ لَهُ.

فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَعُدْ، وَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ عَمْرٌو بِالأَرْطَبُونِ، وَانْتَهَى بَرِيدُ مُعَاوِيَةَ إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ، فَجَمَعَ النَّاسَ وَأَبَاتَهُمْ عَلَى الْفَرَحِ لَيْلا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: لِتَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى فَتْحِ قَيْسَارِيَةَ، وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ يَحْبِسُ الأَسْرَى عِنْدَهُ، وَيَقُولُ: مَا صَنَعَ مِيخَائِيلُ بِأَسْرَانَا صَنَعْنَا بِأَسْرَاهُمْ مِثْلَهُ، فَفَطَمَهُ عَنِ الْعَبَثِ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى افْتَتَحَهَا

(3/604)

ذكر فتح بيسان ووقعة أجنادين

ولما توجه علقمة إلى غزة وتوجه معاوية إلى قيسارية، صمد عمرو بْن العاص إلى الأرطبون، ومر بإزائه، وخرج معه شرحبيل بْن حسنة على مقدمته، واستخلف على عمل الأردن أبا الأعور، وولى عمرو بْن العاص مجنبتيه عبد اللَّه بْن عمرو وجنادة بْن تميم المالكي، مالك بْن كنانة، فخرج حتى ينزل على الروم بأجنادين، والروم في حصونهم وخنادقهم وعليهم الأرطبون.

وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدها غورا، وأنكاها فعلا، وقد كان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا عظيما، وكتب عمرو إلى عمر بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو، قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تتفرج! وجعل عمر رحمه اللَّه من لدن وجه أمراء الشام يمد كل أمير جند ويرميه بالأمداد، حتى إذا أتاه كتاب عمرو بتفريق الروم، كتب إلى يزيد أن يبعث معاوية في خيله إلى قيسارية، وكتب إلى معاوية بإمرته على قتال أهل قيسارية، وليشغلهم عن عمرو، وكان عمرو قد استعمل علقمة ابن حكيم الفراسي ومسروق بْن فلان العكي على قتال أهل إيلياء، فصاروا بإزاء أهل إيلياء، فشغلوهم عن عمرو، وبعث أبا أيوب المالكي إلى الرملة، وعليها التذارق، وكان بإزائهما، ولما تتابعت الأمداد على عمرو، بعث مُحَمَّد بْن عمرو مددا لعلقمة ومسروق، وبعث عمارة بْن عمرو بْن أمية الضمري مددا لأبي أيوب، وأقام عمرو على أجنادين لا يقدر من الأرطبون على سقطة، ولا تشفيه الرسل، فوليه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه، وتأمل حصونه حتى عرف ما أراد وقال أرطبون في نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله ثم دعا حرسيا فساره بقتله، فقال: اخرج فقم مكان كذا وكذا، فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال: قد سمعت مني وسمعت منك، فأما ما قلته فقد وقع مني

(3/605)

موقعا، وأنا واحد من عشرة، بعثنا عمر بْن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك فقال: نعم، ودعا رجلا فساره، وقال: اذهب إلى فلان فرده إلي، فرجع إليه الرجل وقال لعمرو: انطلق فجيء بأصحابك، فخرج عمرو ورأى ألا يعود لمثلها، وعلم الرومي بأنه قد خدعه، فقال:

خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق فبلغت عمر، فقال: غلبه عمرو، لله عمرو! وناهده عمرو، وقد عرف مأخذه وعاقبته، والتقوا ولم يجد من ذلك بدا فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم.

ثم إن أرطبون انهزم في الناس فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين.

ولما أتى أرطبون إيلياء أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، فانضم علقمة ومسروق ومحمد بْن عمرو وأبو أيوب إلى عمرو بأجنادين، وكتب أرطبون إلى عمرو بأنك صديقي ونظيري، أنت في قومك مثلي في قومي، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع ولا تغر فتلقى ما لقي الذين قبلك من الهزيمة فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يغرب ويتنكر، وقال: استمع ما يقول حتى تخبرني به إذا رجعت إن شاء اللَّه.

وكتب إليه: جاءني كتابك وأنت نظيري ومثلي في قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت فضيلتي، وقد علمت أني صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدي عليك فلانا وفلانا وفلانا- لوزرائه- فأقرئهم كتابي، ولينظروا فيما بيني وبينك فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون فدفع إليه الكتاب بمشهد من النفر، فاقترأه فضحكوا وتعجبوا، وأقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه عمر ثلاثة أحرف، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر

(3/606)

وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إني أعالج حربا كئودا ضدوما وبلادا ادخرت لك، فرأيك ولما كتب عمرو إلى عمر بذلك، عرف أن عمرا لم يقل إلا بعلم، فنادى في الناس، ثم خرج فيهم حتى نزل بالجابية وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات، فأما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر عنها أن الطاعون مستعر، وأما الرابعة فدخلها على حمار فاستخلف عليها، وخرج وقد كتب مخرجه أول مرة إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بالجابية- ليوم سماه لهم في المجردة- وأن يستخلفوا على أعمالهم.

فلقوه حيث رفعت لهم الجابية، فكان أول من لقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول، عليهم الديباج والحرير، فنزل وأخذ الحجارة، فرماهم بها، وقال: سرع ما لفتم عن رأيكم! إياي تستقبلون في هذا الزي، وإنما شبعتم منذ سنتين! سرع ما ندت بكم البطنة! وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذا وركب حتى دخل الجابية وعمرو وشرحبيل بأجنادين لم يتحركا من مكانهما.

ذكر فتح بيت المقدس

وعن سالم بْن عبد اللَّه، قال: لما قدم عمر رحمه اللَّه الجابية، قال له رجل من يهود: يا أمير المؤمنين، لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح اللَّه عليك إيلياء، فبينا عمر بْن الخطاب بها، إذ نظر إلى كردوس من خيل مقبل، فلما دنوا منه سلوا السيوف، فقال عمر: هؤلاء قوم يستأمنون، فأمنوهم، فأقبلوا فإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوها له، فلما فتحت عليه دعا ذلك اليهودي، فقيل له: إن عنده لعلما قال: فسأله عن الدجال- وكان كثير المسألة عنه- فقال له اليهودي: وما مسألتك عنه يا أمير المؤمنين! فأنتم والله معشر العرب تقتلونه دون باب لد ببضع عشرة ذراعا

(3/607)

وعن سالم، قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال:

السلام عليك يا فاروق! أنت صاحب إيلياء لا والله لا ترجع حتى يفتح اللَّه إيلياء، وكانوا قد أشجوا عمرا وأشجاهم، ولم يقدر عليها ولا على الرملة، فبينا عمر معسكرا بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟

فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف! فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف، فقال عمر: مستأمنة، ولا تراعوا وأمنوهم، فأمنوهم، وإذا هم أهل إيلياء، فأعطوه واكتتبوا منه على إيلياء وحيزها، والرملة وحيزها، فصارت فلسطين نصفين: نصف مع أهل إيلياء، ونصف مع أهل الرملة، وهم عشر كور، وفلسطين تعدل الشام كله، وشهد ذلك اليهودي الصلح، فسأله عمر عن الدجال، فقال: هو من بني بنيامين، وأنتم والله يا معشر العرب تقتلونه على بضع عشرة ذراعا من باب لد وعن خالد وعبادة، قالا: كان الذي صالح فلسطين العوام من أهل إيلياء والرملة، وذلك أن أرطبون والتذارق لحقا بمصر، مقدم عمر الجابية، وأصيبا بعد في بعض الصوائف.

وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام، أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بْن الخطاب، فكتب إليه بذلك، فسار عن المدينة وعن عدي بْن سهل، قال: لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين، استخلف عليا، وخرج ممدا لهم، فقال علي: أين تخرج بنفسك! إنك تريد عدوا كلبا، فقال: إني أبادر بجهاد العدو موت العباس، إنكم لو قد فقدتم العباس لانتقض بكم الشر كما ينتقض أول الحبل.

قال: وانضم عمرو وشرحبيل إلى عمر بالجابية حين جرى الصلح فيما بينهم، فشهد الكتاب.

وعن خالد وعبادة، قالا: صالح عمر أهل إيلياء بالجابية، وكتب لهم

(3/608)

فيها الصلح لكل كورة كتابا واحدا، ما خلا أهل إيلياء.

بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية شهد على ذلك خالد بْن الوليد، وعمرو بْن العاص، وعبد الرحمن بْن عوف، ومعاوية بْن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة.

فأما سائر كتبهم فعلى كتاب لد بسم اللَّه الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا مللها، ولا من صلبهم ولا من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، وعلى أهل لد ومن دخل معهم من أهل فلسطين أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل مدائن الشام، وعليهم إن خرجوا مثل

(3/609)

ذلك الشرط إلى آخره ثم سرح إليهم، وفرق فلسطين على رجلين، فجعل علقمة بْن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة بْن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء، فنزل كل واحد منهما في عمله في الجنود التي معه.

وعن سالم، قال: استعمل علقمة بْن مجزز على إيلياء وعلقمة بْن حكيم على الرملة في الجنود التي كانت مع عمرو وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إلى الجابية، وافقا عمر رحمه اللَّه راكبا، فقبلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما محتضنهما.

وعن عبادة وخالد، قالا: ولما بعث عمر بأمان أهل إيلياء وسكنها الجند، شخص إلى بيت المقدس من الجابية، فرأى فرسه يتوجى، فنزل عنه، وأتي ببرذون فركبه، فهزه فنزل، فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح اللَّه من علمك هذا! ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه فركبه، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس.

وعن أبي صفية، شيخ من بني شيبان، قال: لما أتى عمر الشام أتي ببرذون فركبه، فلما سار جعل يتخلج به، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علم اللَّه من علمك! هذا من الخيلاء، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده وفتحت إيلياء وأرضها كلها على يديه، ما خلا اجنادين فإنها فتحت على يدي عمرو، وقيسارية على يدي معاوية.

وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: افتتحت إيلياء وأرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة ست عشرة.

وعن أبي مريم مولى سلامة، قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رحمه اللَّه، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود، ونحن معه،

(3/610)

فدخله ثم قرأ سجدة داود، فسجد وسجدنا معه.

وعن رجاء بْن حيوة، عمن شهد، قال: لما شخص عمر من الجابية إلى إيلياء، فدنا من باب المسجد، قال: ارقبوا لي كعبا، فلما انفرق به الباب، قال: لبيك، اللهم لبيك، بما هو أحب إليك! ثم قصد المحراب، محراب داود ع، وذلك ليلا، فصلى فيه، ولم يلبث أن طلع الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فتقدم فصلى بالناس، وقرأ بهم ص، وسجد فيها، ثم قام، وقرأ بهم في الثانية صدر بني إسرائيل، ثم ركع ثم انصرف، فقال:

علي بكعب، فأتي به، فقال: أين ترى أن نجعل المصلى؟ فقال: إلى الصخرة، فقال: ضاهيت والله اليهودية يا كعب، وقد رأيتك وخلعك نعليك، فقال: أحببت أن أباشره بقدمي، فقال: قد رأيتك، بل نجعل قبلته صدره، كما جعل رسول الله ص قبله مساجدنا صدورها، اذهب إليك، فإنا لم نؤمر بالصخرة، ولكنا أمرنا بالكعبة، فجعل قبلته صدره، ثم قام من مصلاه إلى كناسة قد كانت الروم قد دفنت بها بيت المقدس في زمان بني إسرائيل، فلما صار إليهم أبرزوا بعضها، وتركوا سائرها، وقال:

يا أيها الناس، اصنعوا كما أصنع، وجثا في أصلها، وجثا في فرج من فروج قبائه، وسمع التكبير من خلفه، وكان يكره سوء الرعة في كل شيء، فقال: ما هذا؟ فقالوا: كبر كعب وكبر الناس بتكبيره فقال: علي به فأتي به، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قد تنبأ على ما صنعت اليوم نبي منذ خمسمائة سنة، فقال: وكيف؟ فقال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم، فدفنوه، ثم أديلوا فلم يفرغوا له حتى أغارت عليهم فارس فبغوا على بني إسرائيل، ثم أديلت الروم عليهم إلى أن وليت، فبعث اللَّه نبيا على الكناسة، فقال: أبشري أورى شلم! عليك الفاروق ينقيك مما فيك وبعث إلى القسطنطينية نبي، فقام على تلها، فقال: يا قسطنطينية، ما فعل أهلك ببيتي! أخربوه وشبهوك كعرشي، وتأولوا علي، فقد قضيت عليك أن أجعلك جلحاء يوما ما، لا يأوي إليك أحد، ولا يستظل فيك

(3/611)

علي أيدي بني القاذر سبأ وودان، فما أمسوا حتى ما بقي منه شيء.

وعن ربيعة الشامي بمثله، وزاد: أتاك الفاروق في جندي المطيع، ويدركون لأهلك بثأرك في الروم وقال في قسطنطينية: أدعك جلحاء بارزة للشمس، لا يأوي إليك أحد، ولا تظلينه.

وعن أنس بْن مالك، قال: شهدت إيلياء مع عمر، فبينا هو يطعم الناس يوما بها أتاه راهبها وهو لا يشعر أن الخمر محرمة، فقال: هل لك في شراب نجده في كتبنا حلالا إذا حرمت الخمر! فدعاه به فقال: من أي شيء هذا؟ فأخبره أنه طبخه عصيرا، حتى صار إلى ثلثه، فغرف بإصبعه، ثم حركه في الإناء فشطره، فقال: هذا طلاء، فشبهه بالقطران، وشرب منه، وأمر أمراء الأجناد بالشام به، وكتب في الأمصار: إني أتيت بشراب مما قد طبخ من العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه كالطلاء، فاطبخوه وارزقوه المسلمين.

وعن أبي عثمان وأبي حارثة، قالا: ولحق أرطبون بمصر مقدم عمر الجابية، ولحق به من أحب ممن أبى الصلح، ثم لحق عند صلح أهل مصر، وغلبهم بالروم في البحر، وبقي بعد ذلك، فكان يكون على صوائف الروم، والتقى هو وصاحب صائفة المسلمين فيختلف هو ورجل من قيس يقال له ضريس، فقطع يد القيسي، وقتله القيسي، فقال:

فإن يكن أرطبون الروم أفسدها ... فإن فيها بحمد اللَّه منتفعا

بنانتان وجرموز أقيم به ... صدر القناة إذا ما آنسوا فزعا

وإن يكن أرطبون الروم قطعها ... فقد تركت بها أوصاله قطعا

وقال زياد بْن حنظلة:

تذكرت حرب الروم لما تطاولت ... وإذ نحن في عام كثير نزائله

وإذ نحن في أرض الحجاز وبيننا ... مسيرة شهر بينهن بلابله

وإذ أرطبون الروم يحمي بلاده ... يحاوله قرم هناك يساجله

(3/612)

فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ... سما بجنود اللَّه كيما يصاوله

فلما أحسوه وخافوا صواله ... أتوه وقالوا أنت ممن نواصله

وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها ... وعيشا خصيبا ما تعد مآكله

أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله

وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ... تحمل عبئا حين شالت شوائله

وقال أيضا:

سما عمر لما أتته رسائل ... كأصيد يحمي صرمة الحي أغيدا

وقد عضلت بالشام أرض بأهلها ... تريد من الأقوام من كان أنجدا

فلما أتاه ما أتاه أجابهم ... بجيش ترى منه الشبائك سجدا

وأقبلت الشام العريضة بالذي ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا

فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنا وأحمدا

ذكر فرض العطاء وعمل الديوان

وفي هذه السنة فرض عمر للمسلمين الفروض، ودون الدواوين، وأعطى العطايا على السابقة، وأعطى صفوان بْن أمية والحارث بْن هشام وسهيل بْن عمرو في أهل الفتح أقل ما أخذ من قبلهم، فامتنعوا من أخذه وقالوا:

لا نعترف أن يكون أحد أكرم منا، فقال: إني إنما أعطيتكم على السابقة في الإسلام لا على الأحساب، قالوا: فنعم إذا، وأخذوا، وخرج الحارث وسهيل بأهليهما نحو الشام، فلم يزالا مجاهدين حتى أصيبا في بعض تلك الدروب، وقيل: ماتا في طاعون عمواس

(3/613)

ولما أراد عمر وضع الديوان، قال له علي وعبد الرحمن بْن عوف: ابدأ بنفسك، قال: لا، بل أبدأ بعم رسول اللَّه ص، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض للعباس وبدأ به، ثم فرض لأهل بدر خمسة آلاف خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بدر إلى الحديبية أربعة آلاف أربعة آلاف ثم فرض لمن بعد الحديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن اهل الرده ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، في ذلك من شهد الفتح وقاتل عن أبي بكر، ومن ولى الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء البارع منهم الفين وخمسمائة، الفين وخمسمائة، فقيل له: لو ألحقت أهل القادسية بأهل الأيام! فقال: لم أكن لألحقهم بدرجة من لم يدركوا، وقيل له: قد سويت من بعدت داره بمن قربت داره وقاتلهم عن فنائه، فقال: من قربت داره أحق بالزيادة، لأنهم كانوا ردءا للحوق وشجى للعدو، فهلا قال المهاجرون مثل قولكم حين سوينا بين السابقين منهم والأنصار! فقد كانت نصرة الأنصار بفنائهم، وهاجر إليهم المهاجرون من بعد، وفرض لمن بعد القادسية واليرموك ألفا ألفا، ثم فرض للروادف: المثنى خمسمائة خمسمائة، ثم للروادف الثليث بعدهم، ثلاثمائة ثلاثمائة، سوى كل طبقة في العطاء، قويهم وضعيفهم، عربهم وعجمهم، وفرض للروادف الربيع على مائتين وخمسين، وفرض لمن بعدهم وهم أهل هجر والعباد على مائتين، وألحق بأهل بدر أربعة من غير أهلها: الحسن والحسين وأبا ذر وسلمان، وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفا- وقيل اثني عشر ألفا- وأعطى نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرة آلاف عشرة آلاف، إلا من جرى عليها الملك، فقال نسوه رسول الله ص: ما كان رسول الله ص يفضلنا عليهن في القسمة، فسو بيننا، ففعل وفضل عائشة بألفين لمحبه رسول الله ص إياها فلم تأخذ، وجعل نساء أهل بدر في

(3/614)

خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعدهم الى الحديبية على أربعمائة أربعمائة، ونساء من بعد ذلك الى الأيام ثلاثمائة ثلاثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبيان سواء على مائة مائة، ثم جمع ستين مسكينا، وأطعمهم الخبز، فأحصوا ما أكلوا، فوجدوه يخرج من جريبتين، ففرض لكل إنسان منهم ولعياله جريبتين في الشهر.

وقال عمر قبل موته: لقد هممت أن أجعل العطاء أربعة آلاف أربعة آلاف، وألفا يجعلها الرجل في اهله، وألفا يزدوها معه، وألفا يتجهز بها، ألفا يترفق بها، فمات قبل ان يفعل قال ابو جعفر الطبرى: كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَزِيَادٍ وَالْمُجَالِدِ وَعَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ عَنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي ضَمْرَةَ عن عبد الله بن المستورد عن محمد بن سيرين، ويحيى ابن سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْمُسْتَنِيرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَزَهْرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالُوا: فَرَضَ عُمَرُ الْعَطَاءَ حِينَ فَرَضَ لأَهْلِ الْفَيْءِ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْمَدَائِنِ، فَصَارُوا بَعْدُ إِلَى الْكُوفَةِ، انْتَقَلُوا عَنِ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَدِمَشْقَ وَحِمْصَ وَالأُرْدُنِ وَفِلَسْطِينَ وَمِصْرَ، وَقَالَ: الْفَيْءُ لأَهْلِ هَؤُلاءِ الأَمْصَارِ وَلِمَنْ لَحِقَ بِهِمْ وَأَعَانَهُمْ، وَأَقَامَ مَعَهُمْ وَلَمْ يَفْرِضْ لِغَيْرِهِمْ، أَلا فَبِهِمْ سُكِنَتِ الْمَدَائِنُ وَالْقُرَى، وَعَلَيْهِمْ جَرَى الصُّلْحُ، وَإِلَيْهِمْ أُدِّيَ الْجَزَاءُ، وَبِهِمْ سُدَّتِ الْفُرُوجُ وَدُوِّخَ الْعَدُوُّ ثُمَّ كَتَبَ فِي إِعْطَاءِ أَهْلِ الْعَطَاءِ أَعْطِيَاتَهُمْ إِعْطَاءً وَاحِدًا سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ.

وَقَالَ قَائِلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ تَرَكْتَ فِي بُيُوتِ الأَمْوَالِ عُدَّةً لِكَوْنٍ إِنْ كَانَ! فَقَالَ: كَلِمَةٌ أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى فِيكَ وَقَانِي اللَّهُ شَرَّهَا، وَهِيَ فِتْنَةٌ لِمَنْ بَعْدِي، بَلْ أعد لَهُمْ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهُمَا عُدَّتُنَا الَّتِي بِهَا أَفْضَيْنَا إِلَى مَا تَرَوْنَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَالُ ثَمَنَ دِينِ أَحَدِكُمْ هَلَكْتُمْ

(3/615)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف عن مُحَمَّد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقُتِلَ رُسْتُمُ، وَقَدِمَتْ عَلَى عُمَرَ الْفُتُوحُ مِنَ الشَّامِ جَمَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لِلْوَالِي مِنْ هَذَا الْمَالِ؟ فَقَالُوا جَمِيعًا: أَمَّا لِخَاصَّتِهِ فَقُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ، لا وَكْسٌ وَلا شَطَطٌ، وَكِسْوَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُ لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَدَابَّتَانِ إِلَى جِهَادِهِ وَحَوَائِجِهِ وَحِمْلانِهِ الى حجه وَعُمْرَتِهِ، وَالْقَسْمُ بِالسَّوِيَّةِ، أَنْ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ عَلَى قَدْرِ بَلائِهِمْ، وَيَرُمُّ أُمُورَ النَّاسِ بَعْدُ، وَيَتَعَاهَدَهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالنَّوَازِلِ حَتَّى تُكْشَفَ، وَيَبْدَأُ بِأَهْلِ الْفَيْءِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قَالَ: جَمَعَ النَّاسَ عُمَرُ بِالْمَدِينَةِ حِينَ انْتَهَى إِلَيْهِ فَتْحُ الْقَادِسِيَّةِ وَدِمَشْقَ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا، يُغْنِي اللَّهُ عِيَالِي بِتِجَارَتِي وَقَدْ شَغَلْتُمُونِي بِأَمْرِكُمْ، فَمَاذَا تَرَوْنَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِي من هذا المال؟ فاكثر القوم وعلى ع سَاكِتٌ، فَقَالَ: [مَا تَقُولُ يَا عَلِيُّ؟ فَقَالَ: مَا أَصْلَحَكَ وَأَصْلَحَ عِيَالَكَ بِالْمَعْرُوفِ، لَيْسَ لَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ غَيْرُهُ،] فَقَالَ الْقَوْمُ: الْقَوْلُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَسْلَمَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: مَا يَحِلُّ لَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ؟ فَقَالَ: مَا أَصْلَحَنِي وَأَصْلَحَ عِيَالِي بِالْمَعْرُوفِ، وَحُلَّةُ الشِّتَاءِ وَحُلَّةُ الصَّيْفِ، وَرَاحِلَةُ عُمَرَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَدَابَّةٌ فِي حَوَائِجِهِ وَجِهَادِهِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَعَدَ عَلَى رِزْقِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَانُوا فَرَضُوا لَهُ، فَكَانَ بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّتْ حَاجَتُهُ، فَاجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: لَوْ قُلْنَا لِعُمَرَ فِي زِيَادَةٍ نَزِيدُهَا إِيَّاهُ فِي رِزْقِهِ! فَقَالَ عَلِيٌّ: وَدِدْنَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَانْطَلِقُوا بِنَا، فقال

(3/616)

عُثْمَانُ: إِنَّهُ عُمَرُ! فَهَلُمُّوا فَلْنَسْتَبْرِئُ مَا عِنْدَهُ مِنْ وَرَاء، نَأْتِي حَفْصَةَ فَنَسْأَلُهَا وَنَسْتَكْتِمُهَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهَا وَأَمَرُوهَا أَنْ تُخْبِرَ بِالْخَبَرِ عَنْ نَفَرٍ، وَلا تُسَمِّي لَهُ أَحَدًا، إِلا أَنْ يَقْبَلَ، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهَا، فَلَقِيَتْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَعَرَفَتِ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَتْ: لا سَبِيلَ إِلَى عِلْمِهِمْ حَتَّى أَعْلَمَ رَأْيَكَ، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ مَنْ هُمْ لَسُؤْتُ وُجُوهَهُمْ، أَنْتِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ! أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ، مَا افضل ما اقتنى رسول الله ص فِي بَيْتِكِ مِنَ الْمَلْبَسِ؟ قَالَتْ: ثَوْبَيْنِ مُمَشَّقَيْنِ كَانَ يَلْبَسُهُمَا لِلْوَفْدِ، وَيَخْطُبُ فِيهِمَا لِلْجُمَعِ، قَالَ: فَأَيُّ الطَّعَامِ نَالَهُ عِنْدَكِ أَرْفَعُ؟ قَالَتْ: خَبَزْنَا خُبْزَةَ شَعِيرٍ، فَصَبَبْنَا عَلَيْهَا وَهِيَ حَارَّةٌ أَسْفَلَ عُكَّةٍ لَنَا، فَجَعَلْنَاهَا هَشَّةً دَسِمَةً، فَأَكَلَ مِنْهَا وَتَطَعَّمَ مِنْهَا اسْتِطَابَةً لَهَا قَالَ: فَأَيُّ مَبْسَطٍ كَانَ يَبْسُطُهُ عِنْدَكِ كَانَ أَوْطَأَ؟ قَالَتْ: كِسَاءٌ لَنَا ثَخِينٌ كُنَّا نُرْبِعُهُ فِي الصَّيْفِ، فَنَجْعَلُهُ تَحْتَنَا، فَإِذَا كَانَ الشِّتَاءُ بَسَطْنَا نِصْفَهُ وَتَدَثَّرْنَا بِنِصْفِهِ، قَالَ: يَا حَفْصَةُ، فَأَبْلِغِيهِمْ عَنِّي أَنَّ رسول الله ص قدر فوضع الفضول مواضعها، وتبلغ بالتزجيه، وانى قدرت فو الله لاضعن الفضول مواضعها، ولا تبلغن بالتزجيه، وَإِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ صَاحِبَيَّ كِثَلاثَةٍ سَلَكُوا طَرِيقًا، فَمَضَى الأَوَّلُ وَقَدْ تَزَوَّدَ زَادًا فَبَلَغَ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الآخَرُ فَسَلَكَ طَرِيقَهُ، فَأَفْضَى إِلَيْهِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ الثَّالِثُ، فَإِنْ لَزِمَ طَرِيقَهُمَا وَرَضِيَ بِزَادِهِمَا لَحِقَ بِهِمَا وَكَانَ مَعَهُمَا، وَإِنْ سَلَكَ غَيْرَ طَرِيقِهِمَا لَمْ يُجَامِعْهُمَا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَصْحَابِهِ.

وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا افْتُتِحَتِ الْقَادِسِيَّةُ وَصَالَحَ مَنْ صَالَحَ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ وَافْتُتِحَتْ دِمَشْقُ، وَصَالَحَ أَهْلُ دِمَشْقَ، قَالَ عُمَرُ لِلنَّاسِ:

اجْتَمِعُوا فَأَحْضِرُونِي عِلْمَكُمْ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ وَأَهْلِ الشَّامِ فَاجْتَمَعَ

(3/617)

رَأْيُ عُمَرَ وَعَلِيٌّ عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَنْ قِبَلِ الْقُرْآنِ، فَقَالُوا: «مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» - يعنى من الخمس- «فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» ، إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ، مِنَ اللَّهِ الأَمْرُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْقَسْمُ «وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ» الآية، ثُمَّ فَسَّرُوا ذَلِكَ بِالآيَةِ الَّتِي تَلِيهَا: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ» الآية، فَأَخَذُوا الأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ عَلَى مَا قُسِّمَ عليه الخمس فيمن بدئ به وثنى وثلاث، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمَغْنَمَ ثُمَّ اسْتُشْهِدُوا عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» ، فَقَسَّمَ الأَخْمَاسَ عَلَى ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَعَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ، فَبَدَأَ بِالْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ بِالأَنْصَارِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ الَّذِينَ شَهِدُوا مَعَهُمْ وَأَعَانُوهُمْ، ثُمَّ فَوَّضَ الأَعْطِيَةَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ صَالَحَ أَوْ دُعِيَ إِلَى الصُّلْحِ مِنْ جَزَائِهِ، مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ فِي الْجَزَاءِ أَخْمَاسٌ، وَالْجَزَاءُ لِمَنْ مَنَعَ الذِّمَّةَ وَوَفِيَ لَهُمْ مِمَّنْ وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلِمَنْ لَحِقَ بِهِمْ فَأَعَانَهُمْ، إِلا أَنْ يُؤَاسُوا بِفَضْلَةٍ مِنْ طِيبِ أَنْفُسٍ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَنَلْ مِثْلَ الذى نالوا.

قال الطبرى: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ- كَانَتْ وَقَعَاتٍ فِي قَوْلِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ.

نَذْكُرُ الآنَ الأَخْبَارَ الَّتِي وَرَدَتْ بِمَا كَانَ بَيْنَ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْحُرُوبِ إِلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ الَّتِي ذَكَرْتُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ:

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: عَهِدَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ حِينَ أَمَرَهُ بِالسَّيْرِ إِلَى الْمَدَائِنِ أَنْ يُخَلِّفَ النِّسَاءَ وَالْعِيَالَ بِالْعَتِيقِ، وَيَجْعَلَ مَعَهُمْ كَثْفًا مِنَ الْجُنْدِ، ففعل

(3/618)

وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يُشْرِكَهُمْ فِي كُلِّ مَغْنَمٍ مَا دَامُوا يَخْلُفُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي عِيَالاتِهِمْ.

قَالُوا: وَكَانَ مَقَامُ سَعْدٍ بِالْقَادِسِيَّةِ بَعْدَ الْفَتْحِ شَهْرَيْنِ فِي مُكَاتَبَةِ عُمَرَ فِي الْعَمَلِ بِمَا يَنْبَغِي، فَقَدِمَ زَهْرَةُ نَحْوَ اللِّسَانِ- وَاللِّسَانُ لِسَانُ الْبَرِّ الَّذِي أَدْلَعَهُ فِي الرِّيفِ، وَعَلَيْهِ الْكُوفَةُ الْيَوْمَ، وَالْحِيرَةُ قَبْلَ الْيَوْمِ- وَالنّخيرجَانُ مُعَسْكِرٌ بِهِ، فَارْفَضَّ وَلَمْ يَثْبُتْ حِينَ سَمِعَ بِمَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَحِقَ بِأَصْحَابِهِ قَالُوا: فَكَانَ مِمَّا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ فِي الْعَسْكَرِ وَتُلْقِيهِ النِّسَاءُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ عَلَى شَاطِئِ الْعَتِيقِ، أَمْرٌ كَانَ النِّسَاءُ يَلْعَبْنَ بِهِ فِي زَرُودَ وَذِي قَارٍ، وَتِلْكَ الأَمْوَاهُ حِينَ أُمِرُوا بِالسَّيْرِ فِي جُمَادَى إِلَى الْقَادِسِيَّةِ، وَكَانَ كَلامًا أَبَدْنَ فِيهِ كَالأَوَابِدِ مِنَ الشِّعْرِ، لأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ جُمَادَى وَرَجَبٍ شَيْءٌ:

الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبْ ... بَيْنَ جُمَادَى وَرَجَبْ

أَمْرٌ قَضَاهُ قَدْ وَجَبْ ... يُخْبِرُهُ مَنْ قَدْ شَجَبْ

تَحَتَ غُبَارٍ وَلَجَبْ

. خبر يوم برس

قال: ثم إن سعدا ارتحل بعد الفراغ من أمر القادسية كله، وبعد تقديم زهرة بْن الحوية في المقدمات إلى اللسان، ثم أتبعه عبد اللَّه بْن المعتم، ثم أتبع عبد اللَّه شرحبيل بْن السمط، ثم أتبعهم هاشم بْن عتبة، وقد ولاه خلافته، عمل خالد بْن عرفطة، وجعل خالدا على الساقة، ثم أتبعهم وكل المسلمين فارس مؤد قد نقل اللَّه إليهم ما كان في عسكر فارس من سلاح وكراع ومال، لأيام بقين من شوال، فسار زهرة حتى ينزل الكوفة- والكوفة كل حصباء حمراء وسهلة حمراء مختلطتين- ثم نزل عليه عبد اللَّه وشرحبيل، وارتحل زهرة حين نزلا عليه نحو المدائن، فلما انتهى إلى برس لقيه بها بصبهرى في جمع فناوشوه فهزمهم، فهرب بصبهرى ومن

(3/619)

معه إلى بابل وبها فالة القادسية وبقايا رؤسائهم: النخيرجان ومهران الرازي والهرمزان وأشباههم، فأقاموا واستعملوا عليهم الفيرزان، وقدم عليهم بصبهرى وقد نجا بطعنة، فمات منها.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: طعن زهرة بصبهرى في يوم برس، فوقع في النهر فمات من طعنته بعد ما لحق ببابل، ولما هزم بصبهرى أقبل بسطام دهقان برس، فاعتقد من زهرة وعقد له الجسور، وأتاه بخبر الذين اجتمعوا ببابل

. يوم بابل

قالوا: ولما أتى بسطام زهرة بالخبر عن الذين اجتمعوا ببابل من فلال القادسية، أقام وكتب إلى سعد بالخبر ولما نزل سعد على من بالكوفة مع هاشم بْن عتبة، وأتاه الخبر عن زهرة باجتماع الفرس ببابل على الفيرزان، قدم عبد اللَّه، وأتبعه شرحبيل وهاشما، ثم ارتحل بالناس، فلما نزل عليهم برس، قدم زهرة فأتبعه عبد اللَّه وشرحبيل وهاشما، واتبعهم فنزلوا على الفيرزان ببابل، وقد قالوا: نقاتلهم دستا قبل أن نفترق، فاقتتلوا ببابل، فهزموهم في أسرع من لفت الرداء، فانطلقوا على وجوههم، ولم يكن لهم همة إلا الافتراق، فخرج الهرمزان متوجها نحو الاهواز، فأخذها فأكلها ومهرجانقذق، وخرج الفيرزان معه حتى طلع على نهاوند، وبها كنوز كسرى، فأخذها وأكل الماهين، وصمد النخيرجان ومهران الرازي للمدائن، حتى عبرا بهرسير إلى جانب دجلة الآخر، ثم قطعا الجسر، وأقام سعد ببابل أياما، وبلغه أن النخيرجان قد

(3/620)

خلف شهريار، دهقانا من دهاقين الباب بكوثى في جمع، فقدم زهرة ثم أتبعه الجنود، فخرج زهرة حتى ينزل على شهريار بكوثى بعد قتل فيومان والفرخان فيما بين سورا والدير.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ سَعْدٌ قَدِمَ زَهْرَةَ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَمَضَى مُتَشَعِّبًا فِي حَرْبِهِ وجنده، ثم لم يلق جمعا فهزمهم الا قدم، فَأَتْبَعَهُمْ لا يَمُرُّونَ بِأَحَدٍ إِلا قَتَلُوهُ مِمَّنْ لَحِقُوا بِهِ مِنْهُمْ أَوْ أَقَامَ لَهُمْ، حَتَّى إِذَا قَدِمَهُ مِنْ بَابِلَ قَدِمَ زَهْرَةَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيُّ وَكَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ السَّعْدِيُّ أَخَا الْغَلاقِ حِينَ عَبَرَ الصَّرَاةَ، فَيَلْحَقُونَ بِأُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ وَفِيهِمْ فيومَانُ وَالْفرخَانُ، هَذَا مِيسَانِيٌّ وَهَذَا أَهْوَازِيٌّ، فَقَتَلَ بُكَيْرٌ الْفرخَانَ، وَقَتَلَ كَثِيرٌ فيومَانَ بِسُورَا ثُمَّ مَضَى زَهْرَةُ حَتَّى جَاوَزَ سُورَا، ثُمَّ نَزَلَ، وَأَقْبَلَ هَاشِمٌ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ سَعْدٌ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَدِمَ زَهْرَةُ، فَسَارَ تِلْقَاءَ الْقَوْمِ، وَقَدْ أَقَامُوا لَهُ فِيمَا بَيْنَ الدَّيْرِ وَكُوثَى، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ النخيرجَانُ وَمِهْرَانُ عَلَى جُنُودِهِمَا شَهْرَيَارَ، دِهْقَانَ الْبَابِ ومضيا الى المدائن، واقام شهريار هُنَالِكَ، فَلَمَّا الْتَقَوْا بِأَكْنَافِ كُوثَى، جَيْشُ شَهْرَيَارِ وَأَوَائِلُ الْخَيْلِ، خَرَجَ فَنَادَى:

أَلا رَجُلٌ، أَلا فَارِسٌ مِنْكُمْ شَدِيدٌ عَظِيمٌ يَخْرُجُ إِلَيَّ حَتَّى أَنْكُلَ بِهِ! فَقَالَ زَهْرَةُ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ أُبَارِزَكَ، فَأَمَّا إِذْ سَمِعْتُ قَوْلَكَ، فَإِنِّي لا أُخْرِجُ إِلَيْكَ إِلا عَبْدًا، فَإِنْ أَقَمْتَ لَهُ قَتَلَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِبَغْيِكَ، وَإِنْ فَرَرْتَ مِنْهُ فَإِنَّمَا فَرَرْتَ مِنْ عَبْدٍ، وَكَايَدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَبَا نُبَاتَةَ نَائِلَ بْنَ جُعْشُمٍ الأَعْرَجِيَّ- وَكَانَ مِنْ شُجْعَانِ بَنِي تَمِيمٍ- فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّمْحُ، وَكِلاهُمَا وَثِيقُ الْخلقِ، إِلا أَنَّ الشَّهْرَيَارَ مِثْلُ الْجَمَلِ، فَلَمَّا رَأَى نَائِلا أَلْقَى الرُّمْحَ لِيَعْتَنِقَهُ، وَأَلْقَى نَائِلٌ رُمْحَهُ لِيَعْتَنِقَهُ، وَانْتَضَيَا سَيْفَيْهِمَا فَاجْتَلَدَا، ثُمَّ اعْتَنَقَا فَخَرَّا عَنْ دَابَّتَيْهِمَا، فَوَقَعَ عَلَى نَائِلٍ كَأَنَّهُ بَيْتٌ، فَضَغَطَهُ بِفَخْذِهِ، وَأَخَذَ الْخِنْجَرَ وَأَرَاغَ حَلَّ ازرار درعه، فوقعت ابهامه في فم نائل، فحطم عظمهما، وَرَأَى مِنْهُ فُتُورًا، فَثَاوَرَهُ فَجَلَدَ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَخَذَ خِنْجَرَهُ، فَكَشَفَ درعه عن بطنه، فطعنه فِي بَطْنِهِ وَجَنْبِهِ حَتَّى مَاتَ،

(3/621)

فَأَخَذَ فَرَسَهُ وَسِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ، فَذَهَبُوا فِي الْبِلادِ، وَأَقَامَ زَهْرَةُ بِكُوثَى حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَأَتَى بِهِ سَعْدًا، فَقَالَ سَعْدٌ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ يَا نَائِلُ بْنَ جُعْشُمٍ لَمَا لَبِسْتَ سِوَارَيْهِ وَقِبَاءَهُ وَدِرْعَهُ، وَلَتَرْكَبَنَّ بِرْذَوْنَهُ! وَغَنَّمَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَانْطَلَقَ، فَتَدَرَّعَ سَلْبَهُ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي سِلاحِهِ عَلَى دَابَّتِهِ، فَقَالَ: اخْلَعْ سِوَارَيْكَ إِلا أَنْ تَرَى حَرْبًا فَتَلْبَسْهُمَا، فَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُوِّرَ بِالْعِرَاقِ.

كَتَبَ إِلَيَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: فَأَقَامَ سَعْدٌ بِكُوثَى أَيَّامًا، وَأَتَى الْمَكَانَ الَّذِي جَلَسَ فِيهِ ابراهيم ع بِكُوثَى، فَنَزَلَ جَانِبَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَانُوا يُبَشِّرُونَ إِبْرَاهِيمَ، وَأَتَى الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ ع مَحْبُوسًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَرَأَ:

«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ»

. حديث بهرسير في ذي الحجة سنة خمس عشره في قول سيف

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ وَالنَّضْرِ، عَنِ ابْنِ الرُّفَيْلِ، قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ سَعْدًا قَدِمَ زَهْرَةَ إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَمَضَى زَهْرَةُ مِنْ كُوثَى فِي الْمُقَدِّمَاتِ حَتَّى ينزل بهرسير، وقد تلقاه شيرزاد بِسَابَاطَ بِالصُّلْحِ وَتَأْدِيَةِ الْجَزَاءِ، فَأَمْضَاهُ إِلَى سَعْدٍ، فَأَقْبَلَ مَعَهُ وَتَبِعَتْهِ الْمُجَنِّبَاتُ، وَخَرَجَ هَاشِمٌ، وَخَرَجَ سَعْدٌ فِي أَثَرِهِ، وَقَدْ فَلَّ زَهْرَةُ كَتِيبَةَ كِسْرَى بُورَانَ حَوْلَ الْمُظْلِمِ، وَانْتَهَى هَاشِمٌ إِلَى مُظْلِمِ سَابَاطَ، وَوَقَفَ لِسَعْدٍ حَتَّى لَحِقَ بِهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ رُجُوعَ الْمُقَرَّطِ أَسَدٍ كَانَ لِكِسْرَى قَدْ أَلِفَهُ وَتَخَيَّرَهُ مِنْ أُسُودِ الْمُظْلِمِ، وَكَانَتْ بِهِ كَتَائِبُ كِسْرَى الَّتِي تُدْعَى بُورَانَ، وَكَانُوا يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كُلَّ يَوْمٍ: لا يَزُولُ مُلْكُ فَارِسَ مَا عِشْنَا-، فَبَادَرَ

(3/622)

الْمُقَرَّطُ النَّاسَ حِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمْ سَعْدٌ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ هَاشِمٌ فَقَتَلَهُ، وَسَمَّيَ سَيْفَهُ الْمَتْنَ، فَقَبَّلَ سَعْدٌ رَأْسَ هَاشِمٍ، وَقَبَّلَ هَاشِمٌ قَدَمَ سَعْدٍ، فَقَدَّمَهُ سَعْدٌ إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَنَزَلَ إِلَى الْمُظْلِمِ وَقَرَأَ: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ» ، فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ هَدْأَةٌ ارْتَحَلَ، فَنَزَلَ عَلَى النَّاسِ بِبَهُرَسِيرَ، وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّمَا قَدِمَتْ خَيْلٌ عَلَى بَهُرَسِيرَ وَقَفُوا ثُمَّ كَبَّرُوا، فَكَذَلِكَ حَتَّى نَجَزَ آخِرُ مَنْ مَعَ سَعْدٍ، فَكَانَ مَقَامُهُ بِالنَّاسِ عَلَى بَهُرَسِيرَ شَهْرَيْنِ، وَعَبَرُوا فِي الثَّالِثِ.

وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَامِلَهُ فِيهَا عَلَى مَكَّةَ عتاب بن اسيد، وعلى الطائف يعلى بن منيه، وعلى اليمامه والبحرين عثمان ابن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى كور الشام ابو عبيده ابن الْجَرَّاحِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها المغيره بن شعبه

(3/623)

الجزء الرابع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سنة ست عشرة

قال أبو جعفر: ففيها دخل المسلمون مدينة بهرسير، وافتتحوا المدائن، وهرب منها يزدجرد بْن شهريار.

ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهرسير

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وَالْمُهَلَّبِ، قَالُوا: لَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ عَلَى بَهُرَسِيرَ بَثَّ الْخُيُولَ، فَأَغَارَتْ عَلَى مَا بَيْنَ دِجْلَةَ إِلَى مَنْ لَهُ عَهْدٌ مِنْ أَهْلِ الْفُرَاتِ، فَأَصَابُوا مِائَةَ أَلْفِ فَلاحٍ، فَحَسَبُوا، فَأَصَابَ كُلٌّ مِنْهُمْ فَلاحًا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّهُمْ فَارِسٌ بِبَهُرَسِيرَ فخندق لهم، فقال له شيرزاد دِهْقَانُ سَابَاطَ: إِنَّكَ لا تَصْنَعُ بِهَؤُلاءِ شَيْئًا، إِنَّمَا هَؤُلاءِ عُلُوجٌ لأَهْلِ فَارِسَ لَمْ يجروا إِلَيْكَ، فَدَعْهُمْ إِلَيَّ حَتَّى يفرق لَكُمُ الرَّأْيُ.

فَكَتَبَ عَلَيْهِ بِأَسْمَائِهِمْ، وَدَفَعَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ شِيرَزَاذُ: انْصَرِفُوا إِلَى قُرَاكُمْ.

وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ: إِنَّا وَرَدْنَا بَهُرَسِيرَ بَعْدَ الَّذِي لَقِينَا فِيمَا بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَبَهُرَسِيرَ، فَلَمْ يَأْتِنَا أَحَدٌ لِقِتَالٍ، فَبَثَثْتُ الْخُيُولَ، فَجَمَعْتُ الْفَلاحِينَ مِنَ الْقُرَى وَالآجَامِ، فَرِ رَأْيَكَ.

فَأَجَابَهُ: إِنَّ مَنْ أَتَاكُمْ مِنَ الْفَلاحِينَ إِذَا كَانُوا مُقِيمِينَ لَمْ يُعِينُوا عَلَيْكُمْ فَهُوَ أَمَانُهُمْ، وَمَنْ هَرَبَ فَأَدْرَكْتُمُوهُ فَشَأْنُكُمْ بِهِ.

فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ خَلَّى عَنْهُمْ وَرَاسَلَهُ الدَّهَّاقِينُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَالرُّجُوعِ، أَوِ الْجَزَاءِ وَلَهُمُ الذِّمَّةُ وَالْمَنْعَةُ، فَتَرَاجَعُوا عَلَى الْجَزَاءِ وَالْمَنْعَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ لآلِ كِسْرَى، وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِي غَرْبِي دِجْلَةَ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ سَوَادِيٌّ إِلا آمَنَ وَاغْتَبَطَ بِمَلِكِ الإِسْلامِ وَاسْتَقْبَلُوا الْخَرَاجَ، وَأَقَامُوا عَلَى بَهُرَسِيرَ شَهْرَيْنِ يَرْمُونَهَا بِالْمَجَانِيقِ وَيَدُبُّونَ إِلَيْهِمْ

(4/5)

بِالدَّبَّابَاتِ، وَيُقَاتِلُونَهُمْ بِكُلِّ عُدَّةٍ.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ الْحَارِثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَهُرَسِيرَ، وَعَلَيْهَا خَنَادِقُهَا وَحَرَسُهَا وَعُدَّةُ الْحَرْبِ، فرموهم بالمجانيق والعرادات، فاستصنع سعد شيرزاد الْمَجَانِيقَ، فَنَصَبَ عَلَى أَهْلِ بَهُرَسِيرَ عِشْرِينَ مِنْجَنِيقًا، فَشَغَلُوهُمْ بِهَا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابْنِ الرُّفَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ سَعْدٌ عَلَى بَهُرَسِيرَ، كَانَتِ الْعَرَبُ مُطِيفَةٌ بِهَا، وَالْعَجَمُ مُتَحَصِّنَةٌ فِيهَا، وَرُبَّمَا خَرَجَ الأَعَاجِمُ يَمْشُونَ عَلَى الْمَسْنِيَّاتِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى دِجْلَةَ فِي جَمَاعَتِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلا يَقُومُونَ لَهُمْ، فَكَانَ آخِرُ مَا خَرَجُوا فِي رَجَّالَةٍ وَنَاشِبَةٍ، وَتَجَرَّدُوا لِلْحَرْبِ، وَتَبَايَعُوا عَلَى الصَّبْرِ، فَقَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَثْبُتُوا لَهُمْ، فَكَذَّبُوا وَتَوَلَوْا، وَكَانَتْ عَلَى زَهْرَةَ بن الجويه دِرْعٌ مَفْصُومَةٌ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَمَرْتَ بِهَذَا الْفَصْمِ فَسُرِدَ! فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نَخَافُ عَلَيْكَ مِنْهُ، قَالَ: إِنِّي لَكَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، أَنْ تَرَكَ سَهْمَ فَارِسَ الْجُنْدُ كُلُّهُ ثُمَّ أَتَانِي مِنْ هَذَا الْفَصْمِ، حَتَّى يَثْبُتَ فِيَّ! فَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ بِنُشَّابَةٍ، فثبت فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: انْزَعُوهَا عَنْهُ، فَقَالَ: دَعُونِي، فَإِنَّ نَفْسِي مَعِي مَا دَامَتْ فِيَّ، لَعَلِّي أَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ بِطَعْنَةٍ أَوْ ضَرْبَةٍ أَوْ خُطْوَةٍ، فَمَضَى نَحْوَ الْعَدُوِّ، فَضَرَبَ بِسَيْفِهِ شَهْرَبرَازَ مِنْ أَهْلِ إِصْطَخْرَ، فَقَتَلَهُ، وَأُحِيطَ بِهِ فَقُتِلَ وَانْكَشَفُوا.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثَابِتٍ، عَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقُتِلَ رُسْتُمُ وَأَصْحَابُهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَفُضَّتْ جُمُوعُهُمْ،

(4/6)

اتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى نَزَلُوا الْمَدَائِنَ، وَقَدِ ارْفَضَّتْ جُمُوعُ فَارِسَ، وَلَحِقُوا بِجِبَالِهِمْ، وَتَفَرَّقَتْ جَمَاعَتُهُمْ وَفِرْسَانُهُمْ، إِلا أَنَّ الْمَلِكَ مُقِيمٌ فِي مَدِينَتِهِمْ، مَعَهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ عَلَى أَمْرِهِ.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سماك بْن فلان الهجيمي، عن أبيه ومحمد بْن عبد اللَّه، عن أنس بْن الحليس، قال:

بينا نحن محاصرو بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إن الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع اللَّه بطونكم! فبدر الناس أبو مفزر الأسود بْن قطبة، وقد أنطقه اللَّه بما لا يدري ما هو ولا نحن، فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا:

يا أبا مفزر، ما قلت له؟ فقال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما أدري ما هو، إلا أن علي سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير، وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد، فجاءنا فقال: يا أبا مفزر، ما قلت؟ فو الله إنهم لهراب، فحدثه بمثل حديثه إيانا، فنادى في الناس، ثم نهد بهم، وإن مجانيقنا لتخطر عليهم، فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج إلينا إلا رجل نادى بالأمان فأمناه، فقال: إن بقي فيها أحد فما يمنعكم! فتسورها الرجال، وافتتحناها، فما وجدنا فيها شيئا ولا أحدا، إلا أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شيء هربوا؟

فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترج كوثى، فقال الملك:

وا ويله! ألا إن الملائكة تكلم على ألسنتهم، ترد علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك، ما هذا إلا شيء ألقي علي في هذا الرجل لننتهي، فأرزوا إلى المدينة القصوى.

كتب الى السرى عَنْ سَيْفٍ، عن سعيد بْن المرزبان، عن مسلم بمثل حديث سماك

(4/7)

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا: لَمَّا دَخَلَ سَعْدٌ وَالْمُسْلِمُونَ بَهُرَسِيرَ أَنْزَلَ سَعْدٌ النَّاسَ فِيهَا، وَتَحَوَّلَ الْعَسْكَرُ إِلَيْهَا، وَحَاوَلَ الْعُبُورَ فَوَجَدُوهُمْ قَدْ ضَمُّوا السُّفُنَ فِيمَا بَيْنَ الْبَطَائِحِ وَتِكْرِيتَ وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بَهُرَسِيرَ- وَذَلِكَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ- لاحَ لَهُمُ الأَبْيَضُ، فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ: اللَّهُ أَكْبَرُ! أَبْيَضُ كِسْرَى، هَذَا مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَابَعُوا التَّكْبِيرَ حَتَّى أَصْبَحُوا فَقَالَ مُحَمَّدٌ وَطَلْحَةُ: وَذَلِكَ لَيْلَةَ نَزَلُوا عَلَى بَهُرَسِيرَ كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: دفعنا إلى المدائن- يعني بهرسير- وهي المدينة الدنيا، فحصرنا ملكهم وأصحابه، حتى أكلوا الكلاب والسنانير.

قال: ثم لم يدخلوا حتى ناداهم مناد: والله ما فيها أحد، فدخلوها وما فيها أحد

. حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى

قال سيف: وذلك في صفر سنة ست عشرة، قالوا: ولما نزل سعد بهرسير، وهي المدينة الدنيا، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر

(4/8)

على شيء، ووجدهم قد ضموا السفن، فأقاموا ببهرسير أياما من صفر يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، حتى أتاه أعلاج فدلوه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وتردد عن ذلك، وفجئهم المد، فرأى رؤيا، إن خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت من المد بأمر عظيم، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وفي سنة جود صيفها متتابع فجمع سعد الناس، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، فقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم فقالوا جميعا: عزم اللَّه لنا ولك على الرشد، فافعل.

فندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو الباس، وانتدب بعده ستمائه من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتى وقف على شاطئ دجلة، وقال: من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون، منهم أصم بني ولاد وشرحبيل، في أمثالهم، فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكوره، ليكون أساسا لعوم الخيل ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقية الستمائة على أثرهم، فكان أول من فصل من الستين أصم التيم، والكلج، وأبو مفزر، وشرحبيل، وجحل العجلي، ومالك بْن كعب الهمداني، وغلام من بني الحارث بْن كعب، فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أعدوا للخيل التي تقدمت سعدا مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فأعاموها إليهم، فلقوا عاصما في السرعان، وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرماح الرماح! أشرعوها وتوخوا العيون، فالتقوا فاطعنوا، وتوخى المسلمون عيونهم، فولوا نحو الجد، والمسلمون يشمصون بهم خيلهم، ما يملك رجالها منع

(4/9)

ذلك منها شيئا فلحقوا بهم في الجد، فقتلوا عامتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم خيولهم، حتى انتقضت عن الفراض، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا اللَّه ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتلاحق عظم الجند، فركبوا اللجة، وإن دجلة لترمي بالزبد، وإنها لمسودة، وإن الناس ليتحدثون في عومهم وقد اقتربوا ما يكترثون، كما يتحدثون في مسيرهم على الأرض، ففجئوا أهل فارس بأمر لم يكن في حسابهم، فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم، ودخلها المسلمون في صفر سنة ست عشرة، واستولوا على ذلك كله مما بقي في بيوت كسرى من الثلاثة آلاف ألف ألف، ومما جمع شيري ومن بعده وفي ذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود:

وأرسلنا على المدائن خيلا ... بحرها مثل برهن أريضا

فانتثلنا خزائن المرء كسرى ... يوم ولوا وحاص منا جريضا

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أَبِي طَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا أَقَامَ سَعْدٌ عَلَى دِجْلَةَ أَتَاهُ عِلْجٌ، فَقَالَ: مَا يُقِيمُكَ! لا يَأْتِي عَلَيْكَ ثَالِثَةٌ حَتَّى يَذْهَبَ يَزْدَجَرْدُ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي الْمَدَائِنِ، فَذَلِكَ مِمَّا هَيَّجَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْعُبُورِ.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ فِي قِيَامِ سَعْدٍ فِي النَّاسِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى الْعُبُورِ بِمِثْلِهِ، وَقَالَ: طَبَّقْنَا دِجْلَةَ خَيْلا وَرَجُلا وَدَوَابَّ حَتَّى مَا يَرَى الْمَاءَ مِنَ الشَّاطِئِ أَحَدٌ، فخرجت

(4/10)

بِنَا خَيْلُنَا إِلَيْهِمْ تَنْفُضُ أَعْرَافَهَا، لَهَا صَهِيلٌ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ ذَلِكَ انْطَلَقُوا لا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَصْرِ الأَبْيَضِ، وَفِيهِ قوم قد تحصنوا، فأشرف بعضهم فكلمنا، فَدَعَوْنَاهُمْ وَعَرَضْنَا عَلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: ثَلاثٌ تَخْتَارُونَ مِنْهُنَّ ايتهن شئتم، قالوا: ما هُنَّ؟ قُلْنَا: الإِسْلامُ فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَمُنَاجَزَتُكُمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَجَابَنَا مُجِيبُهُمْ: لا حَاجَةَ لَنَا فِي الاولى ولا في الآخرة، ولكن الوسطى.

كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ عَطِيَّةَ بِمِثْلِهِ قَالَ:

وَالسَّفِيرُ سَلْمَانُ.

كَتَبَ إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بْن السري، عن ابن الرفيل، قال: لما هزموهم في الماء وأخرجوهم إلى الفراض، ثم كشفوهم عن الفراض أجلوهم عن الأموال، إلا ما كانوا تقدموا فيه- وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف- فبعثوا مع رستم بنصف ذلك، وأقروا نصفه في بيوت الأموال.

كَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ وَاقِفٌ قَبْلَ أَنْ يُقْحِمَ الْجُمْهُورَ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى حُمَاةِ النَّاسِ وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْفِرَاضِ: