السبت، 6 مايو 2023

ج19وج20.تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)



ج19وج20.تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)

(صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)

فوجد القاسم بن عبيد الله مساغا للقول فيه، وقال للمكتفى: يا امير المؤمنين، قد عرضنا عليه ان نقلده اى النواحي شاء ان يمضى إليها، فأبى الا المجيء الى بابك، وخوفه غائلته، وحرض المكتفي على لقائه ومحاربته، واتصل الخبر ببدر انه قد وكل بداره، وحبس غلمانه وأسبابه، فأيقن بالشر، ووجه من يحتال في تخليص ابنه هلال واحداره اليه، فوقف القاسم بن عبيد الله على ذلك، فامر بالحفظ به، ودعا أبا خازم القاضى على الشرقيه وامره بالمضي الى بدر ولقائه وتطييب نفسه واعطائه الامان من امير المؤمنين، على نفسه وماله وولده، فذكر ان أبا خازم قال له: احتاج الى سماع ذلك من امير المؤمنين حتى اؤديه اليه عنه، فقال له: انصرف حتى استاذن لك في ذلك امير المؤمنين.

ثم دعا بابى عمر محمد بن يوسف، فأمره بمثل الذى امر به أبا خازم، فسارع الى اجابته الى ما امره به، ودفع القاسم بن عبيد الله الى ابى عمر كتاب أمان عن المكتفي، فمضى به نحو بدر، فلما فصل بدر عن واسط ارفض عنه اصحابه واكثر غلمانه، مثل عيسى النوشرى وختنه يانس المستأمن واحمد بن سمعان ونحرير الصغير، وصاروا الى مضرب المكتفي في الامان فلما كان بعد مضى ليلتين من شهر رمضان من هذه السنه، خرج المكتفي من بغداد الى مضربه بنهر ديالى، وخرج معه جميع جيشه، فعسكر هنالك، وخلع على من صار الى مضربه من الجماعه الذين سميت، وعلى جماعه من القواد والجند ووكل بجماعه منهم، ثم قيد تسعه منهم، وامر بحملهم مقيدين الى السجن الجديد، ولقى- فيما ذكر- ابو عمر محمد بن يوسف بدرا بالقرب من واسط، ودفع اليه الامان وخبره عن المكتفي بما قال له القاسم بن عبيد الله، فصاعد معه في حراقه بدر، وكان قد سيره في الجانب الشرقى وغلمانه الذين بقوا معه في جماعه من الجند وخلق كثير من الأكراد واهل الجبل يسيرون معه بمسيره على شط دجلة، فاستقر الأمر بين بدر وابى عمر على ان يدخل بدر بغداد سامعا مطيعا،

(10/91)

وعبر بدر دجلة، فصار الى النعمانية، وامر غلمانه واصحابه الذين يقوا معه ان ينزعوا سلاحهم، والا يحاربوا أحدا، واعلمهم ما ورد به عليه ابو عمر من الامان، فبينا هو يسير إذ وافاه محمد بن إسحاق بن كنداج في شذا، ومعه جماعه من الغلمان، فتحول الى الحراقة، وساله بدر عن الخبر، فطيب نفسه، وقال له قولا جميلا، وهم في كل ذلك يؤمرونه، وكان القاسم بن عبيد الله وجهه، وقال له: إذا اجتمعت مع بدر، وصرت معه في موضع واحد، فأعلمني فوجه الى القاسم، واعلمه، فدعا القاسم بن عبيد الله لؤلؤا احد غلمان السلطان، فقال له: قد ندبتك لامر، فقال: سمعا وطاعه، فقال له: امض وتسلم بدرا من ابن كنداجيق، وجئني برأسه فمضى في طيار حتى استقبل بدرا ومن معه بين سيب بنى كوما وبين اضطربد، فتحول من الطيار الى الحراقة، وقال لبدر: قم، فقال: وما الخبر؟ قال: لا باس عليك، فحوله الى طيارة، ومضى به حتى صار به الى جزيرة بالصافية، فاخرجه الى الجزيرة، وخرج معه، ودعا بسيف كان معه فاستله، فلما ايقن بدر بالقتل ساله ان يمهله حتى يصلى ركعتين، فأمهله، فصلاهما، ثم قدمه فضرب عنقه، وذلك في يوم الجمعه قبل الزوال لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ راسه ورجع الى طيارة، واقبل راجعا الى معسكر المكتفي بنهر ديالى وراس بدر معه، وتركت جثته مكانها، فبقيت هنالك ثم وجه عياله من أخذ جثته سرا، فجعلها في تابوت، واخفوها عندهم، فلما كان ايام الموسم حملوها الى مكة، فدفنوها بها- فيما قيل- وكان اوصى بذلك، واعتق قبل ان يقتل مماليكه كلهم، وتسلم السلطان ضياع بدر ومستغلاته ودوره وجميع ماله بعد قتله وورد الخبر على المكتفي بما كان من قتل بدر، لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنه، فرحل منصرفا الى مدينه السلام، ورحل معه من كان معه من الجند، وجيء برأس بدر اليه، فوصل اليه قبل ارتحاله من موضع معسكره، فامر به فنظف، ورفع في الخزانه، ورجع ابو عمر القاضى

(10/92)

الى داره يوم الاثنين كئيبا حزينا، لما كان منه في ذلك، وتكلم الناس فيه، وقالوا: هو كان السبب في قتل بدر، وقالوا فيه اشعارا، فمما قيل فيه منها:

قل لقاضى مدينه المنصور ... بم احللت أخذ راس الأمير!

بعد اعطائه المواثيق والعهد ... وعقد الايمان في منشور

اين ايمانك التي شهد الله ... على انها يمين فجور

ان كفيك لا تفارق كفيه ... الى ان ترى مليك السرير

يا قليل الحياء يا اكذب ... الا مه يا شاهدا شهاده زور

ليس هذا فعل القضاه ولا يحسن ... امثاله ولاه الجسور

اى امر ركبت في الجمعه الزهراء ... من شهر خير خير الشهور

قد مضى من قتلت في رمضان ... صائما بعد سجده التعفير

يا بنى يوسف بن يعقوب اضحى ... اهل بغداد منكم في غرور

بدد الله شملكم وأراني ... ذلكم في حياه هذا الوزير

فأعد الجواب للحكم العادل ... من بعد منكر ونكير

أنتم كلكم فدا لأبي خازم ... المستقيم كل الأمور

ولسبع خلون من شهر رمضان، حمل زيدان السعيدي الذى كان قدم رسولا من قبل بدر الى المكتفي مع التسعه الأنفس الذين قيدوا من قواد بدر، وسبعه انفس اخر من اصحاب بدر قبض عليهم بعدهم في سفينه مطبقة عليهم، واحدروا مقيدين الى البصره، فحبسوا في سجنها.

وذكر ان لؤلؤا الذى ولى قتل بدر كان غلاما من غلمان محمد بن هارون الذى قتل محمد بن زيد بطبرستان واكرتمش بالري، قدم مع جماعه من غلمان محمد بن هارون على السلطان في الامان.

وفي ليله الاثنين لاربع عشره بقيت من شهر رمضان منها قتل عبد الواحد بن ابى احمد الموفق- فيما ذكر- وكانت والدته- فيما قيل- وجهت معه الى دار مؤنس لما قبض عليه دايه له، ففرق بينه وبين الداية

(10/93)

فمكثت يومين او ثلاثة، ثم صرفت الى منزل مولاتها، فكانت والده عبد الواحد إذا سالت عن خبره قيل لها: انه في دار المكتفي، وهو في عافيه.

وكانت طامعه في حياته، فلما مات المكتفي ايست منه واقامت عليه مأتما

. ذكر باقى الكائن من الأمور الجليله في سنه تسع وثمانين ومائتين

فمما كان من ذلك فيها لتسع بقين من شعبان منها، ورد كتاب من اسماعيل بن احمد صاحب خراسان على السلطان بخبر وقعه كانت بين اصحابه وبين ابن جستان الديلمى بطبرستان، وان اصحابه هزموه، وقرئ بذلك كتابه بمسجدى الجامع ببغداد وفيها لحق رجل يقال له إسحاق الفرغاني من اصحاب بدر لما قتل بدر الى ناحيه البادية في جماعه من اصحابه على الخلاف على السلطان، فكانت بينه هنالك وبين ابى الأغر وقعه، هزم فيها ابو الأغر، وقتل من اصحابه ومن قواده عده، ثم اشخص مؤنس الخازن في جمع كثيف الى الكوفه لحرب إسحاق الفرغاني ولسلخ ذي القعده خلع على خاقان المفلحى، وولى معونه الري، وضم اليه خمسه آلاف رجل وفيها ظهر بالشام رجل جمع جموعا كثيره من الاعراب وغيرهم فاتى بهم دمشق، وبها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن احمد بن طولون على المعونة، وذلك في آخر هذه السنه، فكانت بين طغج، وبينه وقعات كثيره قتل فيها- فيما ذكر- خلق كثير

. ذكر خبر هذا الرجل الذى ظهر بالشام وما كان من سبب ظهوره بها

ذكر ان زكرويه بن مهرويه الذى ذكرنا انه كان داعيه قرمط لما تتابع من المعتضد توجيه الجيوش الى من بسواد الكوفه من القرامطة، والح في طلبهم، واثخن فيهم القتلى، وراى انه لا مدفع عن انفسهم عند اهل السواد

(10/94)

ولا غناء، سعى في استغواء من قرب من الكوفه من اعراب اسد وطيّئ وتميم وغيرهم من قبائل الاعراب، ودعاهم الى رايه، وزعم لهم ان من بالسواد من القرامطة يطابقونهم على امره ان استجابوا له فلم يستجيبوا له، وكانت جماعه من كلب تخفر الطريق على البر بالسماوة فيما بين الكوفه ودمشق على طريق تدمر وغيرها، وتحمل الرسل وامتعه التجار على ابلها، فأرسل زكرويه اولاده اليهم، فبايعوهم وخالطوهم، وانتموا الى على بن ابى طالب والى محمد بن اسماعيل بن جعفر، وذكروا انهم خائفون من السلطان، وانهم ملجئون اليهم، فقبلوهم على ذلك، ثم دبوا فيهم بالدعاء الى راى القرمطة، فلم يقبل ذلك احد منهم- اعنى من الكلبيين- الا الفخذ المعروفه ببني العليص ابن ضمضم بن عدى بن جناب ومواليهم خاصه، فبايعوا في آخر سنه تسع وثمانين ومائتين بناحيه السماوه ابن زكرويه المسمى بيحيى والمكنى أبا القاسم، ولقبوه الشيخ، على امر احتال فيهم، ولقب به نفسه، وزعم لهم انه ابو عبد الله ابن محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد وقد قيل: انه زعم انه محمد بن عبد الله بن يحيى وقيل انه زعم انه محمد ابن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ابن ابى طالب وقيل انه لم يكن لمحمد بن اسماعيل ابن يسمى عبد الله، وزعم لهم ان أباه المعروف بابى محمود داعيه له، وان له بالسواد والمشرق والمغرب مائه الف تابع، وان ناقته التي يركبها مأمورة، وانهم إذا اتبعوها في مسيرها ظفروا وتكهن لهم، واظهر عضدا له ناقصه، وذكر انها آيه، وانحازت اليه جماعه من بنى الأصبغ، وأخلصوا له وتسموا بالفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم سبك الديلمى مولى المعتضد بالله بناحيه الرصافه في غربي الفرات من ديار مضر، فاغتروه وقتلوه، وحرقوا مسجد الرصافه، واعترضوا كل قريه اجتازوا بها حتى اصعدوا الى اعمال الشام التي كان هارون بن خمارويه قوطع عليها، واسند امرها هارون الى طغج بن جف، فأناخ عليها، وهزم كل عسكر لقيه لطغج حتى حصره في مدينه دمشق، فانفذ المصريون اليه بدرا الكبير غلام ابن طولون، فاجتمع مع طغج على محاربته، فواقعهم قريبا من دمشق، فقتل الله عدو الله يحيى بن زكرويه

(10/95)

وكان سبب قتله- فيما ذكر- ان بعض البرابره زرقه بمزراق واتبعه نفاط، فزرقه بالنار فأحرقه، وذلك في كبد الحرب وشدتها، ثم دارت على المصريين الحرب، فانحازوا، فاجتمعت موالي بنى العليص ومن معهم من الاصبغيين وغيرهم على نصب الحسين بن زكرويه أخي الملقب بالشيخ فنصبوا أخاه، وزعم لهم انه أحمد بْن عبد الله بْن محمد بْن اسماعيل بن جعفر ابن محمد، وهو ابن نيف وعشرين سنه، وقد كان الملقب بالشيخ حمل موالي بنى العليص على صريحهم، فقتلوا جماعه منهم، واستذلوهم، فبايعوا الحسين ابن زكرويه المسمى باحمد بن عبد الله بن محمد بن اسماعيل بن جعفر بعد أخيه، فأظهر شامه في وجهه ذكر انها آيته، وطرا اليه ابن عمه عيسى بن مهرويه المسمى عبد الله، وزعم انه عبد الله بن احمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فلقبه المدثر، وعهد اليه، وذكر انه المعنى في السورة التي يذكر فيها المدثر، ولقب غلاما من اهله المطوق، وقلده قتل اسرى المسلمين، وظهر على المصريين، وعلى جند حمص وغيرها من اهل الشام، وتسمى بامره المؤمنين على منابرها، وكان ذلك كله في سنه تسع وثمانين، وفي سنه تسعين.

وفي اليوم التاسع من ذي الحجه من هذه السنه صلى الناس العصر في قمص الصيف ببغداد، فهبت ريح الشمال عند العصر، فبرد الهواء حتى احتاج الناس بها من شده البرد الى الوقود والاصطلاء بالنار، ولبس المحشو والجباب، وجعل البرد يزداد حتى جمد الماء وفيها كانت وقعه بين اسماعيل بن احمد بالري ومحمد بن هارون وابن هارون- فيما قيل- حينئذ في نحو من ثمانية آلاف، فانهزم محمد بن هارون وتقدم اصحابه، وتبعه من اصحابه نحو من الف، ومضوا نحو الديلم، فدخلها مستجيرا بها، ودخل اسماعيل بن احمد الري، وصار زهاء الف رجل- فيما ذكر- ممن انهزم من اصحابه الى باب السلطان وفي جمادى الآخرة منها لاربع خلون منها ولى القاسم بن سيما غزو الصائفه بالثغور الجزرية، واطلق له من المال اثنا وثلاثون الف دينار.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

(10/96)

ثم دخلت

سنه تسعين ومائتين

(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فمما كان فيها من ذلك توجيه المكتفي رسولا الى اسماعيل بن احمد لليلتين خلتا من المحرم منها بخلع، وعقد ولايه له على الري، وبهدايا مع عبد الله ابن الفتح ولخمس بقين من المحرم منها ورد- فيما ذكر- كتاب على بن عيسى من الرقة، يذكر فيه ان القرمطى بن زكرويه المعروف بالشيخ، وافى الرقة في جمع كثير، فخرج اليه جماعه من اصحاب السلطان ورئيسهم سبك غلام المكتفي، فواقعوه، فقتل سبك، وانهزم اصحاب السلطان ولست خلون من شهر ربيع الآخر ورد الخبر بان طغج بن جف اخرج من دمشق جيشا الى القرمطى، عليهم غلام له يقال له بشير، فواقعهم القرمطى، فهزم الجيش وقتل بشيرا ولثلاث عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على ابى الأغر ووجه به لحرب القرمطى بناحيه الشام، فمضى الى حلب في عشره آلاف رجل.

ولإحدى عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على ابى العشائر احمد بن نصر وولى طرسوس، وعزل عنها مظفر بن حاج لشكايه اهل الثغور اياه.

وللنصف من جمادى الاولى من هذه السنه، وردت كتب التجار الى بغداد من دمشق مؤرخه لسبع بقين من ربيع الآخر يخبرون فيها ان القرمطى الملقب بالشيخ قد هزم طغج غير مره، وقتل اصحابه الا القليل، وانه قد بقي في قله، وامتنع من الخروج، وانما تجتمع العامه، ثم تخرج للقتال، وانهم قد

(10/97)

أشرفوا على الهلكة، فاجتمعت جماعه من تجار بغداد في هذا اليوم، فمضوا الى يوسف بن يعقوب، فاقرءوه كتبهم، وسألوه المضى الى الوزير ليخبره خبر اهل دمشق، فوعدهم ذلك.

ولسبع بقين من جمادى الاولى احضر دار السلطان ابو خازم ويوسف وابنه محمد، واحضر صاحب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث، فقوطع على مال فارس، ثم عقد المكتفي لطاهر على اعمال فارس، وخلع على صاحبه، وحملت اليه خلع مع العقد.

وفي جمادى الاولى هرب من مدينه السلام القائد المستأمن المعروف بابى سعيد الخوارزمي، وأخذ نحو طريق الموصل، فكتب الى عبد الله المعروف بغلام نون، وكان يتقلد المعاون بتكريت والاعمال المتصلة بها الى حد سامرا والى الموصل في معارضته واخذه، فزعموا ان عبد الله عارضه، فاختدعه ابو سعيد حتى اجتمعا جميعا على غير حرب، ففتك به ابو سعيد فقتله، ومضى ابو سعيد نحو شهرزور، فاجتمع هو وابن ابى الربيع الكردى، وصاهره، واجتمعا على عصيان السلطان ثم ان أبا سعيد قتل بعد ذلك، وتفرق من كان اجتمع اليه.

ولعشر خلون من جمادى الآخرة، شخص ابو العشائر الى عمله بطرسوس، وخرج معه جماعه من المطوعة للغزو، ومعه هدايا من المكتفي الى ملك الروم.

ولعشر بقين من جمادى الآخرة خرج المكتفي بعد العصر عامدا سامرا، مريدا البناء بها للانتقال إليها، فدخلها يوم الخميس لخمس بقين من جمادى الآخرة، ثم انصرف الى مضارب قد ضربت له بالجوسق، فدعا القاسم بن عبيد الله والقوام بالبناء، فقدروا له البناء وما يحتاج اليه من المال للنفقة عليه، فكثروا عليه في ذلك، وطولوا مده الفراغ مما اراد بناءه، وجعل القاسم يصرفه عن رايه في ذلك، ويعظم امر النفقة في ذلك وقدر مبلغ المال،

(10/98)

فثناه عن عزمه، ودعا بالغداء، فتغدى ثم نام، فلما هب من نومه ركب الى الشط، وقعد في الطيار، وامر القاسم بن عبيد الله بالانحدار.

ورجع اكثر الناس من الطريق قبل ان يصلوا الى سامرا حين تلقاهم الناس راجعين.

ولسبع خلون من رجب خلع على ابنى القاسم بن عبيد الله، فولى الاكبر منهما ضياع الولد والحرم والنفقات، والاصغر منهما كتبه ابى احمد بن المكتفي، وكانت هذه الاعمال الى الحسين بن عمرو النصراني، فعزل بهما، وكان القاسم بن عبيد الله اتهم الحسين بن عمرو انه قد سعى به الى المكتفي.

ثم ان الحسين بن عمرو كاشف القاسم بن عبيد الله بحضره المكتفي، فلم يزل القاسم يدبر عليه، ويغلظ قلب المكتفي عليه، حتى وصل الى ما اراد من امره.

وفي يوم الجمعه لاربع عشره بقيت من شعبان قرئ كتابان في الجامعين بمدينه السلام بقتل يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، قتله المصريون على باب دمشق، وقد كانت الحرب اتصلت بينه وبين من حاربه من اهل دمشق وجندها ومددهم من اهل مصر، وكسر لهم جيوشا، وقتل منهم خلقا كثيرا، وكان يحيى بن زكرويه هذا يركب جملا برحاله، ويلبس ثيابا واسعه ويعتم عمه اعرابيه، ويتلثم، ولم يركب دابه من لدن ظهر الى ان قتل، وامر اصحابه الا يحاربوا أحدا، وان اتى عليهم حتى يبتعث الجمل من قبل نفسه، وقال لهم:

إذا فعلتم ذلك لم تهزموا.

وذكر انه كان إذا اشار بيده الى ناحيه من النواحي التي فيها محاربوه، انهزم اهل تلك الناحية، فاستغوى بذلك الاعراب ولما كان في اليوم الذى قتل فيه يحيى بن زكرويه الملقب بالشيخ، وانحازوا الى أخيه الحسين بن زكرويه، فطلب أخاه الشيخ في القتلى، فوجده، فواراه وعقد الحسين بن زكرويه لنفسه، وتسمى باحمد بن عبد الله، وتكنى بابى العباس

(10/99)

وعلم اصحاب بدر بعد ذلك بقتل الشيخ، فطلبوه في القتلى فلم يجدوه، ودعا الحسين بن زكرويه الى مثل ما دعا اليه اخوه، فأجابه اكثر اهل البوادى وغيرهم من سائر الناس، واشتدت شوكته وظهر وصار الى دمشق، فذكر ان أهلها صالحوه على خراج دفعوه اليه، ثم انصرف عنهم، ثم سار الى اطراف حمص، فتغلب، عليها، وخطب له على منابرها، وتسمى بالمهدى، ثم سار الى مدينه حمص، فاطاعه أهلها، وفتحوا له بابها خوفا منه على انفسهم فدخلها، ثم سار منها الى حماه ومعره النعمان وغيرهما، فقتل أهلها، وقتل النساء والأطفال ثم سار الى بعلبك فقتل عامه أهلها حتى لم يبق منهم- فيما قيل- الا اليسير، ثم سار الى سلميه فحاربه أهلها ومنعوه الدخول، ثم وادعهم واعطاهم الامان، ففتحوا له بابها، فدخلها، فبدا بمن فيها من بنى هاشم، وكان بها منهم جماعه فقتلهم، ثم ثنى باهل سلميه فقتلهم اجمعين.

ثم قتل البهائم، ثم قتل صبيان الكتاتيب، ثم خرج منها، وليس بها عين تطرف- فيما قيل- وسار فيما حوالى ذلك من القرى يقتل ويسبى ويحرق ويخيف السبيل.

فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسن انه قال: جاءتني امراه بعد ما ادخل القرمطى صاحب الشامة واصحابه بغداد، فقالت لي: انى اريد ان تعالج شيئا في كتفي، قلت: وما هو؟ قالت: جرح، قلت:

انا كحال، وهاهنا امراه تعالج النساء، وتعالج الجراحات، فانتظرى مجيئها.

فقعدت، ورايتها مكروبه كئيبه باكيه، فسألتها عن حالها، وقلت:

ما سبب جراحتك؟ فقالت: قصتي تطول، فقلت: حدثيني بها وصادقينى، وقد خلا من كان عندي، فقالت: كان لي ابن غاب عنى، وطالت غيبته، وخلف على اخوات له، فضقت واحتجت واشتقت اليه، وكان شخص الى ناحيه الرقة، فخرجت الى الموصل والى بلد والى الرقة، كل ذلك اطلبه، واسال عنه، فلم ادل عليه، فخرجت عن الرقة في طلبه، فوقعت في عسكر القرمطى، فجعلت اطوف واطلبه، فبينا انا كذلك إذ رايته فتعلقت به، فقلت: ابنى! فقال: أمي! فقلت: نعم، قال:

(10/100)

ما فعل أخواتي؟ قلت: بخير، وشكوت ما نالنا بعده من الضيق، فمضى بي الى منزله، وجلس بين يدي، وجعل يسائلني عن أخبارنا، فخبرته، ثم قال:

دعينى من هذا وأخبريني ما دينك؟ فقلت: يا بنى اما تعرفنى! فقال:

وكيف لا اعرفك! فقلت: ولم تسألني من ديني وأنت تعرفنى وتعرف ديني! فقال: كل ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه الان، فاعظمت ذلك وعجبت منه، فلما رآنى كذلك خرج وتركني ثم وجه الى بخبز ولحم وما يصلحني، وقال: اطبخيه، فتركته ولم امسه، ثم عاد فطبخه، واصلح امر منزله، فدق الباب داق، فخرج اليه فإذا رجل يسأله، ويقول له:

هذه القادمة عليك تحسن ان تصلح من امر النساء شيئا؟ فسألني فقلت:

نعم، فقال: امضى معى، فمضيت فأدخلني دارا، وإذا امراه تطلق، فقعدت بين يديها، وجعلت اكلمها، فلا تكلمني، فقال لي الرجل الذى جاء بي إليها:

ما عليك من كلامها، اصلحى امر هذه، ودعى كلامها، فاقمت حتى ولدت غلاما، واصلحت من شانه، وجعلت اكلمها واتلطف بها واقول لها: يا هذه، لا تحتشمينى، فقد وجب حقي عليك، أخبريني خبرك وقصتك ومن والد هذا الصبى، فقالت: تساليننى عن ابيه لتطالبيه بشيء يهبه لك! فقلت: لا، ولكن أحب ان اعلم خبرك، فقالت لي: انى امراه هاشمية- ورفعت راسها، فرايت احسن الناس وجها- وان هؤلاء القوم أتونا، فذبحوا ابى وأمي واخوتى واهلى جميعا، ثم أخذني رئيسهم، فاقمت عنده خمسه ايام، ثم أخرجني، فدفعنى الى اصحابه، فقال: طهروها فأرادوا قتلى، فبكيت وكان بين يديه رجل من قواده، فقال: هبها لي، فقال:

خذها، فأخذني، وكان بحضرته ثلاثة انفس قيام من اصحابه، فسلوا سيوفهم، وقالوا: لا نسلمها إليك، اما ان تدفعها إلينا، والا قتلناها، وأرادوا قتلى، وضجوا، فدعاهم رئيسهم القرمطى، وسألهم عن خبرهم فخبروه، فقال: تكون لكم اربعتكم، فأخذوني، فانا مقيمه معهم اربعتهم، والله ما ادرى ممن هو هذا الولد منهم!

(10/101)

قالت: فجاء بعد المساء رجل فقالت لي: هنيه فهناته بالمولود، فأعطاني سبيكة فضه، وجاء آخر وآخر، أهنئ كل واحد منهم فيعطيني سبيكة فضه، فلما كان في السحر جاء جماعه مع رجل وبين يديه شمع، وعليه ثياب خز تفوح منه رائحه المسك، فقالت لي: هنيه، فقمت اليه، فقلت: بيض الله وجهك، والحمد لله الذى رزقك هذا الابن، ودعوت له، فأعطاني سبيكة فيها الف درهم، وبات الرجل في بيت، وبت مع المرأة في بيت، فلما اصبحت قلت للمرأة: يا هذه، قد وجب عليك حقي، فالله الله في، خلصينى! قالت: مم أخلصك؟ فخبرتها خبر ابنى، وقلت لها: انى جئت راغبه اليه، وانه قال لي كيت وكيت، وليس في يدي منه شيء، ولي بنات ضعاف خلفتهن باسوا حال، فخلصينى من هاهنا لاصل الى بناتي، فقالت: عليك بالرجل الذى جاء آخر القوم، فسليه ذلك، فانه يخلصك فاقمت يومى الى ان أمسيت، فلما جاء تقدمت اليه، وقبلت يده ورجله، وقلت:

يا سيدي قد وجب حقي عليك، وقد أغناني الله على يديك بما أعطيتني، ولي بنات ضعاف فقراء، فان أذنت لي ان امضى فاجيئك ببناتى حتى يخدمنك ويكن بين يديك! فقال: وتفعلين؟ قلت: نعم، فدعا قوما من غلمانه، فقال: امضوا معها حتى تبلغوا بها موضع كذا وكذا، ثم اتركوها وارجعوا.

فحملوني على دابه، ومضوا بي قالت: فبينما نحن نسير، وإذا انا بابني يركض، وقد كنا سرنا عشره فراسخ- فيما خبرني به القوم الذين معى- فلحقني وقال: يا فاعله، زعمت انك تمضين وتجيئين ببناتك! وسل سيفه ليضربني، فمنعه القوم، فلحقني طرف السيف، فوقع في كتفي، وسل القوم سيوفهم، فارادوه، فتنحى عنى وساروا بي حتى بلغوا بي الموضع الذى سماه لهم صاحبهم، فتركوني ومضوا، فتقدمت الى هاهنا وقد طفت لعلاج جرحى، فوصف لي هذا الموضع، فجئت الى هاهنا قالت: ولما قدم امير المؤمنين بالقرمطى وبالأسارى من اصحابه خرجت لانظر اليهم، فرايت ابنى فيهم على جمل،

(10/102)

عليه برنس وهو يبكى وهو فتى شاب، فقلت له: لا خفف الله عنك ولا خلصك! قال المتطبب: فقمت معها الى المتطببة لما جاءت، واوصيتها بها، فعالجت جرحها وأعطتها مرهما، فسالت المتطببة عنها بعد منصرفها، فقالت: قد وضعت يدي على الجرح، وقلت: انفحى، فنفحت فخرجت الريح من الجرح من تحت يدي، وما أراها تبرا منه، ومضت فلم تعد إلينا.

ولإحدى عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، قبض القاسم بن عبيد الله على الحسين بن عمرو النصراني، وحبسه، وذلك انه لم يزل يسعى في امره الى المكتفي، ويقدح فيه عنده، حتى امره بالقبض عليه، وهرب كاتب الحسين ابن عمرو حين قبض على الحسين المعروف بالشيرازى، فطلب وكبست منازل جيرانه، ونودى: من وجده فله كذا وكذا، فلم يوجد ولسبع بقين منه صرف الحسين بن عمرو الى منزله، على ان يخرج من بغداد.

وفي الجمعه التي بعدها خرج الحسين بن عمرو وحدر الى ناحيه واسط على وجه النفى، ووجد الشيرازى كاتبه لثلاث خلون من ذي القعده.

ولليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة امر المكتفي بإعطاء الجند أرزاقهم والتأهب للشخوص لحرب القرمطى بناحيه الشام، فاطلق للجند في دفعه واحده مائه الف دينار، وذلك ان اهل مصر كتبوا الى المكتفي يشكون ما لقوا من ابن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، وانه قد اخرب البلاد، وقتل الناس، وما لقوا من أخيه قبله وقتلهما رجالهم، وانه لم يبق منهم الا العدد اليسير.

ولخمس خلون من شهر رمضان اخرجت مضارب المكتفي، فضربت بباب الشماسيه.

ولسبع خلون منه خرج المكتفي في السحر الى مضربه بباب الشماسيه، ومعه قواده وغلمانه وجيوشه.

ولاثنتى عشره ليله من شهر رمضان، رحل المكتفي من مضربه بباب الشماسيه في السحر، وسلك طريق الموصل

(10/103)

وللنصف من شهر رمضان منها مضى ابو الأغر الى حلب، فنزل وادي بطنان قريبا من حلب، ونزل معه جميع اصحابه، فنزع- فيما ذكر- جماعه من اصحابه ثيابهم، ودخلوا الوادى يتبردون بمائه، وكان يوما شديد الحر، فبينا هم كذلك إذ وافى جيش القرمطى المعروف بصاحب الشامة، وقد بدرهم المعروف بالمطوق، فكبسهم على تلك الحال، فقتل منهم خلقا كثيرا وانتهب العسكر، وافلت ابو الأغر في جماعه من اصحابه، فدخل حلب، وافلت معه مقدار الف رجل، وكان في عشره آلاف بين فارس وراجل، وكان قد ضم اليه جماعه ممن كان على باب السلطان من قواد الفراغنه ورجالهم، فلم يفلت منهم الا اليسير ثم صار اصحاب القرمطى الى باب حلب، فحاربهم ابو الأغر ومن بقي معه من اصحابه واهل البلد، فانصرفوا عنه بما أخذوا من عسكره من الكراع والسلاح والأموال والأمتعة بعد حرب كانت بينهم، ومضى المكتفي بمن معه من الجيش حتى انتهى الى الرقة، فنزلها، وسرح الجيوش الى القرمطى جيشا بعد جيش.

ولليلتين خلتا من شوال ورد مدينه السلام كتاب من القاسم بن عبيد الله، يخبر فيه ان كتابا ورد عليه من دمشق من بدر الحمامي صاحب ابن طولون، يخبر فيه انه واقع القرمطى صاحب الشامة، فهزمه ووضع في اصحابه السيف، ومضى من افلت منهم نحو البادية، وان امير المؤمنين وجه في اثره الحسين بن حمدان بن حمدون وغيره من القواد.

وورد أيضا في هذه الأيام- فيما ذكر- كتاب من البحرين من أميرها ابن بانوا، يذكر فيه انه كبس حصنا للقرامطه، فظفر بمن فيه.

ولثلاث عشره خلت من ذي القعده منها- فيما ذكر- ورد كتاب آخر من ابن بانوا من البحرين، يذكر فيه انه واقع قرابه لأبي سعيد الجنابى، وولى عهده من بعده على اهل طاعته، فهزمه وكان مقام هذا المهزوم بالقطيف فوجد بعد ما انهزم اصحابه قتيلا بين القتلى، فاحتز راسه، وانه دخل القطيف فافتتحها

(10/104)

ومن كتب صاحب الشامة الى بعض عماله:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه احمد بن عبد الله المهدى المنصور بالله الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله، الداعي الى كتاب الله، الذاب عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله امير المؤمنين وامام المسلمين، ومذل المنافقين خليفه الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المبصرين، وضياء المستضيئين، ومشتت المخالفين، والقيم بسنه سيد المرسلين، وولد خير الوصيين، صلى الله عليه وعلى اهل بيته الطيبين، وسلم كثيرا، الى جعفر بن حميد الكردى:

سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا اله الا هو، واساله ان يصلى على جدي محمد رسول الله ص اما بعد، فقد انهى إلينا ما حدث قبلك من اخبار أعداء الله الكفره، وما فعلوه بناحيتك، واظهروه من الظلم والعيث والفساد في الارض، فاعظمنا ذلك، ورأينا ان ننفذ الى ما هناك من جيوشنا من ينقم الله به من اعدائه الظالمين، الذين يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً* وأنفذنا عطيرا داعيتنا وجماعه من المؤمنين الى مدينه حمص، وامددناهم بالعساكر، ونحن في أثرهم، وقد اوعزنا اليهم في المصير الى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا، ونحن نرجو ان يجرينا الله فيهم على احسن عوائده عندنا في أمثالهم، فينبغي ان تشد قلبك وقلوب من معك من أوليائنا، وتثق بالله وبنصره الذى لم يزل يعودناه في كل من مرق عن الطاعة وانحرف عن الايمان، وتبادر إلينا باخبار الناحية، وما يتجدد فيها، ولا تخف عنى شيئا من امرها ان شاء الله سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وصلى الله على جدي محمد رسول الله.

وعلى اهل بيته وسلم كثيرا.

نسخه كتاب عامل له إِلَيْهِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لعبد اللَّه احمد الامام المهدى المنصور بالله، ثم الصدر كله على مثال نسخه صدر كتابه الى عامله الذى حكينا في الكتاب الذى قبل هذا

(10/105)

الكتاب، الى ولد خير الوصيين صلى الله عليه وعلى اهل بيته الطيبين وسلم كثيرا.

ثم بعد ذلك من عامر بن عيسى العنقائى.

سلام على أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ورحمة اللَّه وبركاته، أَمَّا بَعْدُ اطال الله بقاء امير المؤمنين، وادام الله عزه وتاييده، ونصره وسلامته، وكرامته ونعمته وسعادته، واسبغ نعمه عليه، وزاد في إحسانه اليه، وفضله لديه فقد كان وصل كتاب سيدي امير المؤمنين اطال الله بقاءه، يعلمه فيه ما كان من نفوذ بعض الجيوش المنصوره مع قائد من قواده الى ناحيتنا لمجاهده أعداء الله بنى الفصيص والخائن ابن دحيم، وطلبهم حيث كانوا، والإيقاع بهم وباسبابهم وضياعهم، ويأمرني ادام الله عزه عند نظري في كتابه بالنهوض في كل من قدرت عليه من اصحابى وعشائرى للقائهم ومكانفه الجيش ومعاضدتهم والمسير بسيرهم، والعمد كل ما يومون اليه ويأمرون به، وفهمته، ولم يصل الى هذا الكتاب أعز الله امير المؤمنين حتى وافت الجيوش المنصوره، فنالت طرفا من ناحيه ابن دحيم، وانصرفوا بالكتاب الوارد عليهم من مسرور بن احمد الداعيه ليلقوه بمدينه افاميه ثم ورد على كتاب مسرور بن احمد في درجه الكتاب الذى اقتصصت ما فيه في صدر كتابي هذا، يأمرني فيه بجمع من تهيأ من اصحابى وعشيرتي والنهوض الى ما قبله، ويحذرني التخلف عنه وكان ورود كتابه على وقت صح عندنا نزول المارق سبك عبد مفلح مدينه عرقه في زهاء الف رجل، ما بين فارس وراجل وقد شارف بلدنا، واطل على ناحيتنا، وقد وجه احمد بن الوليد عبد امير المؤمنين اطال الله بقاءه الى جميع اصحابه، ووجهت الى جميع اصحابى، فجمعناهم إلينا، ووجهنا العيون الى ناحيه عرقه لنعرف اخبار هذا الخائن، واين يريد، فيكون قصدنا ذلك الوجه، ونرجو ان يظفر الله به، ويمكن منه بمنه وقدرته.

ولولا هذا الحادث، ونزول هذا المارق في هذه الناحية، واشرافه على بلدنا لما تاخرت في جماعه اصحابى عن النهوض الى مدينه افاميه، لتكون يدي مع أيدي القواد المقيمين بها لمجاهده من بتلك الناحية حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين واعلمت سيدي امير المؤمنين اطال الله بقاءه السبب في تخلفى عن

(10/106)

مسرور بن احمد، ليكون على علم منه ثم ان أمرني ادام الله عزه بالنفوذ الى افاميه كان نفوذى برايه، وامتثلت ما يأمرني به ان شاء الله اتم الله على امير المؤمنين نعمه وادام عزه وسلامته، وهناه كرامته، والبسه عفوه وعافيته.

والسلام على امير المؤمنين ورحمه الله وبركاته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وعلى اهل بيته الطاهرين الاختيار.

وفيها وجه القاسم بن عبيد الله الجيوش الى صاحب الشامة، وولى حربه محمد بن سليمان الكاتب الذى كان اليه ديوان الجيش، وضم جميع القواد اليه، وامرهم بالسمع له والطاعة، فنفذ من الرقة في جيش كثيف، وكتب الى من تقدمه من القواد بالسمع له والطاعة وفيها ورد رسولا صاحب الروم، أحدهما خادم، والآخر فحل، يسأله الفداء بمن في يده من المسلمين اسير، ومعهما هدايا من صاحب الروم وأسارى من المسلمين بعث بهم اليه، فأجبنا الى ما سالا، وخلع عليهما.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس ابن محمد.

(10/107)

ثم دخلت

سنه احدى وتسعين ومائتين

(ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليله)

ذكر خبر الوقعه بين اصحاب السلطان وصاحب الشامة

فمن ذلك ما كان من امر الوقعه بين اصحاب السلطان وصاحب الشامة.

ذكر الخبر عن هذه الوقعه:

قال ابو جعفر: قد مضى ذكرى شخوص المكتفي من مدينه السلام نحو صاحب الشامة لحربه ومصيره الى الرقة، وبثه جيوشه فيما بين حلب وحمص، وتوليته حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب وتصييره امر جيشه وقواده اليه، فلما دخلت هذه السنه كتب وزيره القاسم بن عبيد الله الى محمد ابن سليمان وقواد السلطان يأمره وإياهم بمناهضه ذي الشامة واصحابه، فساروا اليه حتى صاروا الى موضع بينهم وبين حماه- فيما قيل- اثنا عشر ميلا، فلقوا به اصحاب القرمطى في يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم، وكان القرمطى قدم اصحابه وتخلف هو في جماعه من اصحابه، ومعه مال قد كان جمعه، وجعل السواد وراءه، فالتحمت الحرب بين اصحاب السلطان واصحاب القرمطى، واشتدت، فهزم اصحاب القرمطى، وقتلوا، واسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادى، وتبعهم اصحاب السلطان ليله الأربعاء لسبع خلون من المحرم فلما راى القرمطى ما نزل باصحابه من الفلول والهزيمة حمل- فيما قيل- أخا له يكنى أبا الفضل مالا، وتقدم اليه ان يلحق بالبوادي الى ان يظهر في موضع، فيصير اليه، وركب هو وابن عمه المسمى المدثر والمطوق صاحبه وغلام له رومي، وأخذ دليلا، وسار يريد الكوفه عرضا في البريه، حتى انتهى الى موضع يعرف بالدالية من اعمال طريق الفرات،

(10/108)

فنفد ما كان معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض من كان معه ليأخذ له ما يحتاجون اليه، فدخل الدالية المعروفه بداليه ابن طوق لشراء حاجه، فأنكروا زيه، وسئل عن امره فمجمج، فاعلم المتولى مسلحه هذه الناحية بخبره، وهو رجل يعرف بابى خبزه خليفه احمد بن محمد بن كشمرد عامل امير المؤمنين المكتفي على المعاون بالرحبة وطريق الفرات فركب في جماعه، وسال هذا الرجل عن خبره، فاخبره ان الشامة خلف رابيه هنالك في ثلاثة نفر.

فمضى اليهم، فاخذهم وصار بهم الى صاحبه، فتوجه بهم ابن كشمرد وابو خبزه الى المكتفي بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد ان قتلوا وأسروا جميع من قدروا عليه من أولياء القرمطى واشياعه، وكتب محمد بن سليمان الى الوزير بالفتح:

بسم الله الرحمن الرحيم قد تقدمت كتبي الى الوزير اعزه الله في خبر القرمطى اللعين واشياعه، بما أرجو ان يكون قد وصل ان شاء الله ولما كان في يوم الثلاثاء لست ليال خلون من المحرم رحلت من الموضع المعروف بالقروانه، نحو موضع يعرف بالعليانه، في جميع العسكر من الأولياء، وزحفنا بهم على مراتبهم في القلب والميمنه والميسره وغير ذلك، فلم ابعد ان وافانى الخبر بان الكافر القرمطى انفذ النعمان ابن أخي اسماعيل بن النعمان احد دعاته في ثلاثة آلاف فارس، وخلق من الرجاله، وانه نزل بموضع يعرف بتمنع، بينه وبين حماه اثنا عشر ميلا، فاجتمع اليه جميع من كان بمعره النعمان وبناحيه الفصيصى وسائر النواحي من الفرسان والرجاله، فاسررت ذلك عن القواد والناس جميعا ولم اظهره، وسالت الدليل الذى كان معى عن هذا الموضع، وكم بيننا وبينه، فذكر انه سته اميال، فتوكلت على الله عز وجل، وتقدمت اليه في المسير نحوه، فمال بالناس جميعا، وسرنا حتى وافيت الكفره، فوجدتهم على تعبئه، ورأينا طلائعهم فلما نظروا إلينا مقبلين زحفوا نحونا، وسرنا اليهم، فافترقوا سته كراديس، وجعلوا على ميسرتهم- على ما أخبرني من ظفرت به من رؤسائهم- مسرورا العليصى وأبا الحمل وغلام هارون العليصى، وأبا

(10/109)

العذاب ورجاء وصافى وأبا يعلى العلوي، في الف وخمسمائة فارس، وكمنوا كمينا في أربعمائة فارس خلف ميسرتهم بإزاء ميمنتنا، وجعلوا في القلب النعمان العليصى والمعروف بابى الحطى، والحمارى وجماعه من بطلانهم في الف وأربعمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وفي ميمنتهم كليبا العليصى والمعروف بالسديد العليصى والحسين بن العليصى وأبا الجراح العليصى وحميد العليصى، وجماعه من نظرائهم في الف وأربعمائة فارس، وكمنوا مائتي فارس، فلم يزالوا زفا إلينا ونحن نسير نحوهم غير متفرقين، متوكلين على الله عز وجل وقد استحثثت الأولياء والغلمان وسائر الناس غيرهم، ووعدتهم فلما راى بعضنا بعضا حمل الكردوس الذى كان في ميسرتهم، ضربا بالسياط، فقصد الحسين بن حمدان، وهو في جناح الميمنه، فاستقبلهم الحسين- بارك الله عليه واحسن جزاءه- بوجهه وبموضعه من سائر اصحابه برماحهم، فكسروها في صدورهم، فانفلوا عنهم، وعاود القرامطة الحمل عليهم، فأخذوا السيوف، واعترضوا ضربا للوجوه، فصرع من الكفار الفجره ستمائه فرس في أول وقعه، وأخذ اصحاب الحسين خمسمائة فرس وأربعمائة طوق فضه، وولوا مدبرين مفلولين، واتبعهم الحسين، فرجعوا عليه، فلم يزالوا حمله وحمله، وفي خلال ذلك يصرع منهم الجماعه بعد الجماعه، حتى افناهم الله عز وجل، فلم يفلت منهم الا اقل من مائتي رجل.

وحمل الكردوس الذى كان في ميمنتهم على القاسم بن سيما ويمن الخادم ومن كان معهما من بنى شيبان وبنى تميم، فاستقبلوهم بالرماح حتى كسروها فيهم، واعتنق بعضهم بعضا، فقتل من الفجره جماعه كثيره وحمل عليهم في وقت حملتهم خليفه بن المبارك ولؤلؤ، وكنت قد جعلته جناحا لخليفه في ثلاثمائة فارس، وجميع اصحاب خليفه، وهم يعاركون بنى شيبان وتميم، فقتل من الكفره مقتله عظيمه، واتبعوهم، فاخذ بنو شيبان منهم ثلاثمائة فرس ومائه طوق، وأخذ اصحاب خليفه مثل ذلك، وزحف النعمان ومن معه في القلب إلينا، فحملت ومن معى، وكنت بين القلب والميمنه، وحمل خاقان

(10/110)

ونصر القشورى ومحمد بن كمشجور ومن كان معهم في الميمنه، ووصيف موشكير ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وابنا كيغلغ والمبارك القمي وربيعه بن محمد ومهاجر بن طليق والمظفر بن حاج وعبد الله بن حمدان وحي الكبير ووصيف البكتمرى وبشر البكتمرى ومحمد بن قراطغان.

وكان في جناح الميمنه جميع من حمل على من في القلب ومن انقطع ممن كان حمل على الحسين بن حمدان، فلم يزالوا يقتلون الكفار فرسانهم ورجالتهم حتى قتلوا اكثر من خمسه اميال ولما ان تجاوزت المصاف بنصف ميل خفت ان يكون من الكفار مكيده في الاحتيال على الرجاله والسواد، فوقفت الى ان لحقوني وجمعتهم وجمعت الناس، الى وبين يدي المطرد المبارك، مطرد امير المؤمنين، وقد حملت في الوقت الاول، وحمل الناس ولم يزل عيسى النوشرى ضابطا للسواد من مصاف خلفهم مع فرسانه ورجالته على ما رسمته له، لم يزل من موضعه الى ان رجع الناس جميعا الى من كل موضع، وضربت مضربى في الموضع الذى وقفت فيه، حتى نزل الناس جميعا، ولم أزل واقفا الى ان صليت المغرب، حتى استقر العسكر باهله، ووجهت في الطلائع ثم نزلت، واكثرت حمد الله على ما هنانا به من النصر، ولم يبق احد من قواد امير المؤمنين وغلمانه ولا العجم وغيرهم غاية في نصر هذه الدولة المباركه في المناصحة لها الا بلغوها، بارك الله عليهم جميعا! ولما استراح الناس خرجت والقواد جميعا لنقيم خارج العسكر الى ان يصبح الناس خوفا من حيله تقع، واسال الله تمام النعمه وايزاع الشكر، وانا- أعز الله سيدنا الوزير- راحل الى حماه، ثم اشخص الى سلميه بمن الله تعالى وعونه، فمن بقي من هؤلاء الكفار مع الكافر فهم بسلميه، فانه قد صار إليها منذ ثلاثة ايام، واحتاج الى ان يتقدم الوزير بالكتاب الى جميع القواد وسائر بطون العرب من بنى شيبان وتغلب وبنى تميم، يجزيهم جميعا الخير على ما كان في هذه الوقعه، فما بقي احد منهم- صغير ولا كبير- غاية، والحمد لله على ما تفضل به، واياه اسال تمام النعمه

(10/111)

ولما تقدمت في جمع الرءوس، وجد راس ابى الحمل وراس ابى العذاب وابى البغل وقيل ان النعمان قد قتل، وقد تقدمت في طلبه، وأخذ راسه وحمله مع الرءوس الى حضره امير المؤمنين ان شاء الله.

وفي يوم لاثنين الأربع بقين من المحرم، ادخل صاحب الشامة الى الرقة ظاهرا للناس على فالج، عليه برنس حرير ودراعه ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين.

ثم ان المكتفي خلف عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص في خاصته وغلمانه وخدمه، وشخص معه القاسم بن عبيد الله من الرقة الى بغداد، وحمل معه القرمطى والمدثر والمطوق وجماعه من أسارى الوقعه، وذلك في أول صفر من هذه السنه.

فلما صار الى بغداد عزم- فيما ذكر- على ان يدخل القرمطى مدينه السلام مصلوبا على دقل، والدقل على ظهر فيل، فامر بهدم طاقات الأبواب التي يجتاز بها الفيل، ان كانت اقصر من الدقل، وذلك مثل باب الطاق وباب الرصافه وغيرهما.

ثم استسمج المكتفي- فيما ذكر- فعل ما كان عزم عليه من ذاك، فعمل له دميانه- غلام يا زمان- كرسيا، وركب الكرسي على ظهر الفيل، وكان ارتفاعه عن ظهر الفيل ذراعين ونصف ذراع- فيما قيل- ودخل المكتفي مدينه السلام بغداد صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول، وقدم الأسرى بين يديه على جمال مقيدين، عليهم دراريع حرير وبرانس حرير، والمطوق في وسطهم، غلام ما خرجت لحيته، قد جعل في فيه خشبة مخروطه، وشدت الى قفاه كهيئة اللجام، وذلك انه لما ادخل الرقة كان يشتم الناس إذا دعوا عليه، ويبزق عليهم، ففعل ذلك به لئلا يشتم إنسانا.

ثم امر المكتفي ببناء دكه في المصلى العتيق من الجانب الشرقى، تكسيرها عشرون ذراعا في عشرين ذراعا، وارتفاعها نحو من عشره اذرع، وبنى

(10/112)

لها درج يصعد منها إليها وكان المكتفي خلف مع محمد بن سليمان عساكره بالرقة عند منصرفه الى مدينه السلام، فتلقط محمد بن سليمان من كان في تلك الناحية من قواد القرمطى وقضاته واصحاب شرطه، فاخذهم وقيدهم، وانحدر والقواد الذين تخلفوا معه الى مدينه السلام على طريق الفرات، فوافى باب الأنبار ليله الخميس لاثنتى عشره خلت من شهر ربيع الاول، ومعه جماعه من القواد، منهم خاقان المفلحى ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وغيرهما.

فامر القواد الذين ببغداد بتلقى محمد بن سليمان والدخول معه، فدخل بغداد وبين يديه نيف وسبعون أسيرا، حتى صار الى الثريا، فخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب وسور بسوارين من ذهب، وخلع على جميع القواد القادمين معه، وطوقوا وسوروا وصرفوا الى منازلهم، وامر بالأسرى الى السجن.

وذكر عن صاحب الشامة انه أخذ وهو في حبس المكتفي سكرجة من المائدة التي تدخل اليه فكسرها، وأخذ شظية منها فقطع بها بعض عروق نفسه، فخرج منه دم كثير، ثم شد يده فلما وقف المولى خدمته على ذلك ساله: لم فعل ذلك؟ فقال: هاج بي الدم فاخرجته فترك حتى صلح، ورجعت اليه قوته.

ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الاول امر المكتفي القواد والغلمان بحضور الدكة التي امر ببنائها، وخرج من الناس خلق كثير لحضورها، فحضروها، وحضر احمد بن محمد الواثقى وهو يومئذ يلى الشرطه بمدينه السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش الدكة، فقعدا عليها، وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفي معه من الرقة والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة الذين جمعوا من الكوفه، وقوم من اهل بغداد كانوا على راى القرامطة، وقوم من الرفوغ من سائر البلدان من غير القرامطة- وكانوا قليلا- فجيء بهم على جمال، واحضروا الدكة، ووقفوا على جمالهم، ووكل بكل رجل منهم عونان، فقيل: انهم كانوا ثلاثمائة ونيفا وعشرين، وقيل ثلاثمائة وستين، وجيء بالقرمطى الحسين بن زكرويه المعروف

(10/113)

بصاحب الشامة، ومعه ابن عمه المعروف بالمدثر على بغل في عمارية، وقد اسبل عليهما الغشاء، ومعهما جماعه من الفرسان والرجاله، فصعد بهما الى الدكة واقعدا، وقدم اربعه وثلاثون إنسانا من هؤلاء الأسارى، فقطعت ايديهم وارجلهم، وضربت أعناقهم واحدا بعد واحد، كان يؤخذ الرجل فيبطح على وجهه فيقطع يمنى يديه، ويحلق بها الى اسفل ليراها الناس، ثم تقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى بما قطع منه الى اسفل، ثم يقعد فيمد راسه، فيضرب عنقه، ويرمى برأسه وجثته الى اسفل وكانت جماعه من هؤلاء الأسرى قليله يضجون ويستغيثون، ويحلفون انهم ليسوا من القرامطة.

فلما فرغ من قتل هؤلاء الأربعة والثلاثين النفس- وكانوا من وجوه اصحاب القرمطى- فيما ذكر- وكبرائهم قدم المدثر، فقطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه، ثم قدم القرمطى فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوى فغشى عليه، ثم أخذ خشب فأضرمت فيه النار، ووضع في خواصره وبطنه فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما، فلما خافوا ان يموت ضربت عنقه، ورفع راسه على خشبة، وكبر من على الدكة وكبر سائر الناس فلما قتل انصرف القواد ومن كان حضر ذلك الموضع للنظر الى ما يفعل بالقرمطى.

واقام الواثقى في جماعه من اصحابه في ذلك الموضع الى وقت العشاء الآخرة، حتى ضرب اعناق باقى الأسرى الذين احضروا الدكة، ثم انصرف.

فلما كان من غد هذا اليوم حملت رءوس القتلى من المصلى الى الجسر، وصلب بدن القرمطى في طرف الجسر الأعلى ببغداد، وحفرت لأجساد القتلى في يوم الأربعاء آبار الى جانب الدكة، وطرحت فيها وطمت، ثم امر بعد ايام بهدم الدكة ففعل.

ولاربع عشره خلت من شهر ربيع الآخر وافى بغداد القاسم بن سيما منصرفا عن عمله بطريق الفرات، ومعه رجل من بنى العليص من اصحاب القرمطى صاحب الشامة، دخل اليه بأمان، وكان احد دعاه القرمطى،

(10/114)

يكنى أبا محمد وكان سبب دخوله في الامان ان السلطان راسله، ووعده الاحسان ان هو دخل في الامان، وذلك انه لم يكن بقي من رؤساء القرامطة بنواحي الشام غيره، وكان من موالي بنى العليص، فر وقت الوقعه الى بعض النواحي الغامضه، فافلت ثم رغب في الدخول في الامان والطاعة خوفا على نفسه، فوافى هو ومن معه مدينه السلام، وهم نيف وستون رجلا، فاومنوا واحسن اليهم، ووصلوا بمال حمل اليهم، واخرج هو ومن معه الى رحبه مالك بن طوق مع القاسم بن سيما، واجريت لهم الأرزاق، فلما وصل القاسم بن سيما الى عمله وهم معه، أقاموا معه مده، ثم اجمعوا على الغدر بالقاسم بن سيما، وائتمروا به، ووقف على ذلك من عزمهم، فبادرهم ووضع السيف فيهم فابارهم، واسر جماعه منهم، فارتدع من بقي من بنى العليص ومواليهم، وذلوا، ولزموا ارض السماوه وناحيتها مده حتى راسلهم الخبيث زكرويه، واعلمهم ان مما اوحى اليه، ان المعروف بالشيخ وأخاه يقتلان، وان امامه الذى يوحى اليه يظهر بعدهما ويظفر.

[أخبار متفرقة]

وفي يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى زوج المكتفي ابنه محمدا ويكنى أبا احمد بابنه ابى الحسين القاسم بن عبيد الله على صداق مائه الف دينار وفي آخر جمادى الاولى من هذه السنه ورد- فيما ذكر- كتاب من ناحيه جبى، يذكر فيه ان جبى وما يليها جاءها سيل في واد من الجبل، فغرق نحوا من ثلاثين فرسخا، غرق في ذلك خلق كثير، وغرقت المواشى والغلات، وخرجت المنازل والقرى، واخرج من الغرقى الف ومائتا نفس، سوى من لم يلحق منهم وفي يوم الأحد غره رجب خلع المكتفي على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى جماعه من وجوه القواد، منهم محمد بن إسحاق بن كنداجيق، وخليفه بن المبارك المعروف بابى الأغر وابنا كيغلغ، وبندقة بن كمشجور وغيرهم من القواد، وامرهم بالسمع والطاعة لمحمد بن سلمان، وخرج محمد بن

(10/115)

سليمان والخلع عليه حتى نزل مضربه بباب الشماسيه، وعسكر هنالك، وعسكر معه جماعه القواد الذين اخرجوا وبرزوا، وكان خروجهم ذلك قاصدين لدمشق ومصر لقبض الاعمال من هارون بن خمارويه، لما تبين للسلطان من ضعفه وضعف من معه وذهاب رجاله بقتل من قتل منهم القرمطى.

ثم رحل لست خلون من رجب محمد بن سليمان من باب الشماسيه ومن ضم اليه من الرجال، وهم زهاء عشره آلاف رجل، وامر بالجد في المسير.

ولثلاث بقين من رجب قرئ في الجامعين بمدينه السلام كتاب ورد من اسماعيل بن احمد من خراسان، يذكر فيه ان الترك قصدوا المسلمين في جيش عظيم وخلق كثير، وانه كان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية، ولا يكون ذلك الا للرؤساء منهم، فوجه اليه برجل من قواده في جيش ضمه اليه، ونودى في الناس بالنفير، فخرج من المطوعة ناس كثير، ومضى صاحب العسكر نحو الترك بمن معه، فوافاهم المسلمون وهم غارون، فكبسوهم مع الصبح، فقتل منهم خلق كثير، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم، وانصرف المسلمون الى موضعهم سالمين غانمين.

وفي شعبان منها ورد الخبر ان صاحب الروم وجه عشره صلبان معها مائه الف رجل الى الثغور، وان جماعه منهم قصدت نحو الحدث، فأغاروا وسبوا من قدروا عليه من المسلمين، واحرقوا.

وفي شهر رمضان منها ورد كتاب من القاسم بن سيما من الرحبه على السلطان.

يذكر فيه ان الاعراب الذين استأمنوا الى السلطان واليه من بنى العليص ومواليهم ممن كان مع القرمطى نكثوا وغدروا، وانهم عزموا على ان يكبسوا الرحبه في يوم الفطر، عند اشتغال الناس بصلاة العيد، فيقتلوا من يلحقون، وان يحرقوا وينهبوا، وانى اوقعت عليهم الحيله حتى قتلت منهم واسرت خمسين ومائه نفس، سوى من غرق منهم في الفرات، وانى قادم بالأسرى وفيهم جماعه من رؤسائهم وبرءوس من قتل منهم.

وفي آخر شهر رمضان من هذه السنه ورد كتاب من ابى معدان من الرقة- فيما

(10/116)

قيل- باتصال الاخبار به من طرسوس ان الله اظهر المعروف بغلام زرافه في غزاه غزاها الروم في هذا الوقت بمدينه تدعى انطاليه، وزعموا انها تعادل قسطنطينيه، وهذه المدينة على ساحل البحر، وان غلام زرافه فتحها بالسيف عنوه، وقتل- فيما قيل- خمسه آلاف رجل، واسر شبيها بعدتهم، واستنقذ من الأسارى اربعه آلاف انسان وانه أخذ للروم ستين مركبا، فحملها ما غنم من الفضه والذهب والمتاع والرقيق، وانه قدر نصيب كل رجل حضر هذه الغزاة، فكان الف دينار فاستبشر المسلمون بذلك وبادرت بكتابي هذا ليقف الوزير على ذلك.

وكتب يوم الخميس لعشر خلون من شهر رمضان واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس ابن محمد.

(10/117)

ثم دخلت

سنه اثنتين وتسعين ومائتين

(ذكر ما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليلة) فمن ذَلِكَ ما كان من توجيه نزار بن محمد من البصره الى السلطان ببغداد رجلا ذكر انه اراد الخروج على السلطان، وصار الى واسط، وان نزارا وجه في طلبه من قبض عليه بواسط، واحدره الى البصره، وانه أخذ بالبصرة قوما، ذكر انهم بايعوه فوجه نزار جميعهم في سفينه الى بغداد، فوقفوا في فرضه البصريين، ووجه جماعه من القواد الى فرضه البصريين، فحمل هذا الرجل على الفالج، وبين يديه ابن له صبى على جمل، ومعه تسعه وثلاثون إنسانا على جمال، وعلى جماعتهم برانس الحرير ودراريع الحرير، واكثرهم يستغيث ويبكى، ويحلف انه بريء، وانه لا يعرف مما ادعى عليه شيئا، وجازوا بهم في التمارين وباب الكرخ والخلد حتى وصلوا الى دار المكتفي، فامر بردهم، وحبسهم في السجن المعروف بالجديد.

وفي المحرم منها اغار اندرونقس الرومي على مرعش ونواحيها، فنفر اهل المصيصة واهل طرسوس، فاصيب ابو الرجال بن ابى بكار في جماعه من المسلمين.

وفي المحرم منها صار محمد بن سليمان الى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه، ووجه المكتفي دميانه غلام يا زمان من بغداد، وامره بركوب البحر والمضى الى مصر ودخول النيل، وقطع المواد عمن بمصر من الجند، فمضى ودخل النيل حتى وصل الى الجسر، فأقام به، وضيق عليهم وزحف اليهم محمد بن سليمان في الجيوش على الظهر حتى دنا من الفسطاط، وكاتب القواد الذين بها، فكان أول من خرج اليه بدر الحمامي- وكان رئيس القوم- فكسرهم ذلك، ثم تتابع من يستامن اليه من قواد المصريين وغيرهم، فلما راى ذلك هارون وبقية من معه، زحفوا الى محمد بن سليمان، فكانت بينهم

(10/118)

وقعات- فيما ذكر- ثم وقع بين اصحاب هارون في بعض الأيام عصبية فاقتتلوا، فخرج هارون ليسكتهم، فرماه بعض المغاربه بزانه فقتله.

وبلغ محمد بن سليمان الخبر، فدخل هو ومن معه الفسطاط، واحتوى على دور آل طولون وأسبابهم، واخذهم جميعا وهم بضعه عشر رجلا، فقيدهم وحبسهم، واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح، وكانت الوقعه في صفر من هذه السنه.

وكتب الى محمد بن سليمان في اشخاص جميع آل طولون وأسبابهم من القواد، والا يترك أحدا منهم بمصر ولا بالشام، وان يبعث بهم الى بغداد.

ففعل ذلك.

ولثلاث خلون من شهر ربيع الاول منها سقط الحائط الذى على راس الجسر الاول من الجانب الشرقى من الدار التي كانت لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر على الحسين بن زكرويه القرمطى، وهو مصلوب بقرب ذلك الحائط، فطحنه، فلم يوجد بعد منه شيء.

4 وفي شهر رمضان منها ورد الخبر على السلطان بان قائدا من قواد المصريين يعرف بالخليجى، يسمى ابراهيم، تخلف عن محمد بن سليمان في آخر حدود مصر مع جماعه استمالهم من الجند وغيرهم، ومضى الى مصر مخالفا للسلطان، وصار معه في طريقه جماعه تحب الفتنة، حتى كثر جمعه فلما صار الى مصر اراد عيسى النوشرى محاربته وكان عيسى النوشرى العامل على المعونة بها يومئذ، فعجز عن ذلك لكثرة من مع الخليجي، فانحاز عنه الى الإسكندرية واخلى مصر فدخلها الخليجي وفيها ندب السلطان لمحاربه الخليجي واصلاح امر المغرب فاتكا مولى المعتضد، وضم اليه بدرا الحمامي، وجعله مشيرا عليه فيما يعمل به، وضم اليه جماعه من القواد وجندا كثيرا.

ولسبع خلون من شوال منها خلع على فاتك وبدر الحمامي لما ندبا اليه من

(10/119)

الخروج الى مصر، وامرا بسرعة الخروج ثم شخص فاتك وبدر الحمامي لاثنتى عشره خلت من شوال.

وللنصف من شوال منها دخل مدينه طرسوس رستم بن بردوا واليا عليها وعلى الثغور الشامية.

وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم، وأول يوم من ذلك كان لست بقين من ذي القعده منها، فكان جمله من فودى به من المسلمين- فيما قيل- ألفا ونحوا من مائتي نفس ثم غدر الروم، فانصرفوا، ورجع المسلمون بمن بقي معهم من أسارى الروم، فكان عهد الفداء والهدنة من ابى العشائر والقاضى ابن مكرم، فلما كان من امر اندرونقس ما كان من غارته على اهل مرعش وقتله أبا الرجال وغيره، عزل ابو العشائر وولى رستم، فكان الفداء على يديه، وكان المتولى امر الفداء من قبل الروم رجل يدعى اسطانه.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس ابن محمد.

(10/120)

ثم دخلت

سنه ثلاث وتسعين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث

فمن ذلك ما كان من ورود الخبر لخمس بقين من صفر، بان الخليجي المتغلب على مصر، واقع احمد بن كيغلغ وجماعه من القواد بالقرب من العريش، فهزمهم اقبح هزيمه، فندب للخروج اليه جماعه من القواد المقيمين بمدينه السلام، فيهم ابراهيم بن كيغلغ، فخرجوا.

ولسبع خلون من شهر ربيع الاول منها، وافى مدينه السلام قائد من قواد طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الصفار مستأمنا، يعرف بابى قابوس، مفارقا عسكر السجزيه، وذلك ان طاهر بن محمد- فيما ذكر- تشاغل باللهو والصيد، ومضى الى سجستان للصيد والنزهه، فغلب على الأمر بفارس الليث ابن على بن الليث وسبكرى مولى عمرو بن الليث، ودبر الأمر في عمل طاهر والاسم له، فوقع بينهم وبين ابى قابوس تباعد، ففارقهم وصار الى باب السلطان، فقبله السلطان، وخلع عليه وعلى جماعه معه وحباه واكرمه، فكتب طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الى السلطان، يسأله رد ابى قابوس اليه، ويذكر انه استكفاه بعض اعمال فارس، وانه جبى المال، وخرج به معه، ويسال ان لم يرد اليه ان يحسب له ما ذهب به من مال فارس مما صودر عليه، فلم يجبه السلطان الى شيء من ذلك

. ذكرا الخبر عن ظهور أخي الحسين بن زكرويه

وفي هذا الشهر من هذه السنه ورد الخبر ان أخا للحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة ظهر بالدالية من طريق الفرات في نفر، وانه اجتمع اليه نفر من الاعراب والمتلصصة، فسار بهم نحو دمشق على طريق البر، وعاث بتلك الناحية، وحارب أهلها، فندب للخروج اليه الحسين بن حمدان بن

(10/121)

حمدون، فخرج في جماعه كثيره من الجند، وكان مصير هذا القرمطى الى دمشق في جمادى الاولى من هذه السنه ثم ورد الخبر ان هذا القرمطى صار الى طبرية فامتنعوا من ادخاله، فحاربهم حتى دخلها، فقتل عامه من بها من الرجال والنساء، ونهبها، وانصرف الى ناحيه البادية.

وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر بان الداعيه الذى بنواحي اليمن صار الى مدينه صنعاء، فحاربه أهلها، فظفر بهم، فقتل أهلها، فلم ينفلت منهم الا القليل، وتغلب على سائر مدن اليمن.

عاد الخبر الى ما كان من امر أخي ابن زكرويه

فذكر عن محمد بن داود بن الجراح انه قال: انفذ زكرويه بن مهرويه بعد ما قتل ابنه صاحب الشامة رجلا كان يعلم الصبيان بقرية تدعى الزابوقه من عمل الفلوجة، يسمى عبد الله بن سعيد، ويكنى أبا غانم، فتسمى نصرا ليعمى امره، فدار على احياء كلب يدعوهم الى رايه، فلم يقبله منهم احد سوى رجل من بنى زياد، يسمى مقدام بن الكيال، فانه استغوى له طوائف من الاصبغيين المنتمين الى الفواطم وسواقط من العليصيين وصعاليك من سائر بطون كلب، وقصد ناحيه الشام، وعامل السلطان على دمشق والأردن احمد بن كيغلغ، وهو مقيم بمصر على حرب ابن خليج، الذى كان خالف محمد بن سليمان، ورجع الى مصر، فغلب عليها، فاغتنم ذلك عبد الله بن سعيد هذا، وسار الى مدينتي بصرى واذرعات من كورتى حوران والبثنية، فحارب أهلها ثم آمنهم، فلما استسلموا قتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، واستصفى أموالهم، ثم سار يؤم دمشق، فخرج اليه جماعه ممن كان مرسوما بتشحينها من المصريين كان خلفهم احمد بن كيغلغ مع صالح بن الفضل، فظهروا عليهم، واثخنوا فيهم ثم اغتروهم ببذل الامان لهم، فقتلوا صالحا، وفضوا عسكره، ولم يطمعوا في مدينه دمشق، وكانوا قد صاروا إليها، فدافعهم أهلها عنها، فقصدوا نحو طبرية مدينه جند الأردن، ولحق بهم جماعه افتتنت من

(10/122)

الجند بدمشق، فواقعهم يوسف بن ابراهيم بن بغامردى عامل احمد بن كيغلغ على الأردن، فكسروه وبذلوا الامان له، ثم غدروا به، فقتلوه ونهبوا مدينه الأردن، وسبوا النساء، وقتلوا طائفه من أهلها، فانفذ السلطان الحسين بن حمدان لطلبهم ووجوها من القواد، فورد دمشق وقد دخل أعداء الله طبرية، فلما اتصل خبره بهم عطفوا نحو السماوه، وتبعهم الحسين يطلبهم في بريه السماوه، وهم ينتقلون من ماء الى ماء، ويعورونه حتى لجئوا الى الماءين المعروفين بالدمعانه والحاله، وانقطع الحسين من اتباعهم لعدمه الماء، فعاد الى الرحبه واسرى القرامطة مع غاويهم المسمى نصرا الى قريه هيت، فصبحوها وأهلها غارون لتسع بقين من شعبان مع طلوع الشمس، فنهب ربضها، وقتل من قدر عليه من أهلها، واحرق المنازل، وانتهب السفن التي في الفرات في غرضتها، وقتل من اهل البلد- فيما قيل- زهاء مائتي نفس ما بين رجل وامراه وصبى، وأخذ ما قدر عليه من الأموال والمتاع، واوقر- فيما قيل- ثلاثة آلاف راحله، كانت معه زهاء مائتي كر حنطه بالمعدل ومن البر والعطر والسقط جميع ما احتاج اليه، واقام بها بقية اليوم الذى دخلها والذى بعده، ثم رحل عنها بعد المغرب الى البريه وانما أصاب ذلك من ربضها، وتحصن منه اهل المدينة بسورها، فشخص محمد بن إسحاق بن كنداجيق الى هيت في جماعه من القواد في جيش كثيف بسبب هذا القرمطى، ثم تبعه بعد ايام مؤنس الخازن.

وذكر عن محمد بن داود، انه قال: ان القرامطة صبحوا هيت وأهلها غارون، فحماهم الله منه بسورها، ثم عجل السلطان محمد بن إسحاق بن كنداجيق نحوهم، فلم يقيموا بها الا ثلاثا، حتى قرب محمد بن إسحاق منهم، فهربوا منه نحو الماءين، فنهض محمد نحوهم، فوجدهم قد عوروا المياه بينه وبينهم، فانفذت اليه من الحضره الإبل والروايا والزاد وكتب الى الحسين ابن حمدان بالنفوذ من جهة الرحبه اليهم ليجتمع هو ومحمد بن إسحاق على الإيقاع بهم، فلما احس الكلبيون باشراف الجند عليهم، ائتمروا بعدو الله

(10/123)

المسمى نصرا، فوثبوا عليه، وفتكوا به، وتفرد بقتله رجل منهم يقال له الذئب ابن القائم، وشخص الى الباب متقربا بما كان منه، ومستأمنا لبقيتهم، فأسنيت له الجائزة، وعرف له ما أتاه، وكف عن طلب قومه، فمكث أياما ثم هرب، وظفرت بطلائع محمد بن إسحاق برأس المسمى بنصر، فاحتزوه وادخلوه مدينه السلام، واقتتلت القرامطة بعده، حتى وقعت بينهما الدماء، فصار مقدام بن الكيال الى ناحيه طيّئ مفلتا بما احتوى عليه من الحطام، وصارت فرقه منهم كرهت أمورهم الى بنى اسد المقيمين بنواحي عين التمر، فجاوروهم وأرسلوا الى السلطان وفدا يعتذرون مما كان منهم، ويسألون اقرارهم في جوار بنى اسد، فأجيبوا الى ذلك، وحصلت على الماءين بقية الفسقه المستبصره في دين القرامطة.

وكتب السلطان الى حسين بن حمدان في معاودتهم باجتثاث اصولهم، فانفذ زكرويه اليهم داعيه له من اكره اهل السواد يسمى القاسم بن احمد بن على، ويعرف بابى محمد، من رستاق نهر تلحانا، فاعلمهم ان فعل الذئب بن القائم قد اتقره عنهم، وثقل قلبه عليهم، وانهم قد ارتدوا عن الدين، وان وقت ظهورهم قد حضر وقد بايع له بالكوفه اربعون الف رجل، وفي سوادها أربعمائة الف رجل، وان يوم موعدهم الذى ذكره الله في كتابه في شان موسى كليمه ص، وعدوه فرعون إذ يقول: «مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» وان زكرويه يأمرهم ان يخفوا امرهم، ويظهروا الانقلاع نحو الشام، ويسيروا نحو الكوفه حتى يصبحوها في غداه يوم النحر، وهو يوم الخميس لعشر تخلو من ذي الحجه سنه ثلاث وتسعين ومائتين، فإنهم لا يمنعون منها.

وانه يظهر لهم، وينجز لهم وعده الذى كانت رسله تأتيهم به، وان يحملوا القاسم بن احمد معهم فامتثلوا امره، ووافوا باب الكوفه، وقد انصرف الناس عن مصلاهم مع إسحاق بن عمران عامل السلطان بها، وكان الذين وافوا باب الكوفه في هذا اليوم- فيما ذكر- ثمانمائه فارس او نحوها، راسهم الذبلانى ابن مهروبه من اهل الصوعر وقيل انه من اهل جنبلاء، عليهم الدروع والجواشن والإله الحسنه، ومعهم جماعه من الرجاله على الرواحل، فاوقعوا

(10/124)

بمن لحقوه من العوام، وسلبوا جماعه، وقتلوا نحوا من عشرين نفسا، وبادر الناس الى الكوفه فدخلوها، وتنادوا السلاح فنهض إسحاق بن عمران في اصحابه، ودخل مدينه الكوفه من القرامطة زهاء مائه فارس من الباب المعروف بباب كنده، فاجتمعت العوام وجماعه من اصحاب السلطان، فرموهم بالحجارة وحاربوهم، والقوا عليهم الستر، فقتل منهم زهاء عشرين نفسا، وأخرجوهم من المدينة، وخرج إسحاق بن عمران ومن معه من الجند، فصافوا القرامطة الحرب وامر إسحاق بن عمران اهل الكوفه بالتحارس لئلا يجد القرامطة غره منهم، فيدخلوا المدينة، فلم يزل الحرب بينهم الى وقت العصر يوم النحر، ثم انهزمت القرامطة نحو القادسية، واصلح اهل الكوفه سورهم وخندقهم، وقاموا مع اصحاب السلطان يحرسون مدينتهم ليلا ونهارا.

وكتب إسحاق بن عمران الى السلطان يستمده، فندب للخروج اليه جماعه من قواده، منهم طاهر بن على بن وزير ووصيف بن صوارتكين التركى والفضل بن موسى بن بغا، وبشر الخادم الافشينى وجنى الصفواني ورائق الخزري.

وضم اليه جماعه من غلمان الحجر وغيرهم فشخص اولهم يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجه، ولم يراس واحد منهم، كل واحد منهم رئيس على اصحابه.

وامر القاسم بن سيما وغيره من رؤساء الاعراب بجمع الاعراب من البوادى بديار مضر وطريق الفرات ودقوقاء وخانيجار وغيرها من النواحي، لينهضوا الى هؤلاء القرامطة إذ كان اصحاب السلطان متفرقين في نواحي الشام ومصر، فمضت الرسائل بذلك اليهم، فحضروا ثم ورد الخبر فيها بان الذين شخصوا مددا لإسحاق بن عمران خرجوا الى زكرويه في رجالهم، وخلفوا إسحاق بن عمران بالكوفه مع من معه من رجاله ليضبطها، وصاروا الى موضع بينه وبين القادسية اربعه اميال، يعرف بالصور وهي في البريه في العرض، فلقيهم زكرويه هنالك فصافوه يوم الاثنين لتسع بقين من ذي الحجه.

وقد قيل كانت الوقعه يوم الأحد لعشر بقين منه، وجعل اصحاب السلطان بينهم وبين سوادهم نحوا من ميل، ولم يخلفوا أحدا من المقاتله عنده، واشتدت

(10/125)

الحرب بينهم وكانت الدبره أول هذا اليوم على القرمطى واصحابه حتى كادوا ان يظفروا بهم، وكان زكرويه قد كمن عليهم كمينا من خلفهم، ولم يشعروا به فلما انتصف النهار خرج الكمين على السواد فانتهبه، وراى اصحاب السلطان السيف من ورائهم، فانهزموا اقبح هزيمه، ووضع القرمطى واصحابه السيف في اصحاب السلطان، فقتلوهم كيف شاءوا، وصبر جماعه من غلمان الحجر من الخزر وغيرهم، وهم زهاء مائه غلام، وقاتلوا حتى قتلوا جميعا بعد نكاية شديده نكوها في القرامطة، واحتوت القرامطة على سواد اصحاب السلطان فحازوه، ولم يفلت من اصحاب السلطان الا من كان في دابته فضل فنجا به، او من اثخن بالجراح، فطرح نفسه في القتلى، فتحامل بعد انقضاء الوقعه حتى دخل الكوفه وأخذ للسلطان في هذا السواد، مما كان وجه به مع رجاله من الجمازات، عليها السلاح والإله زهاء ثلاثمائة جمازه، ومن البغال خمسمائة بغل.

وذكر ان مبلغ من قتل من اصحاب السلطان في هذه الوقعه سوى غلمانهم والحمالين ومن كان في السواد الف وخمسمائة رجل، فقوى القرمطى واصحابه بما أخذوا في هذه الوقعه، وتطرف بيادر كانت الى جانبه، فاخذ منها طعاما وشعيرا، وحمله على بغال السلطان الى عسكره، وارتحل من موضع الوقعه نحوا من خمسه اميال في العرض الى موضع يقرب من الموضع المعروف بنهر المثنية، وذلك ان روائح القتلى آذتهم.

وذكر عن محمد بن داود بن الجراح انه قال: وافى باب الكوفه الاعراب الذين كان زكرويه راسلهم، وقد انصرف المسلمون عن مصلاهم مع إسحاق بن عمران، فتفرقوا من جهتين، ودخلوا ابيات الكوفه، وقد ضربوا على القاسم بن احمد داعيه زكرويه قبة، وقالوا: هذا ابن رسول الله ص، ودعوا: يا لثارات الحسين! يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب بباب جسر مدينه السلام، وشعارهم: يا احمد يا محمد- يعنون ابنى زكرويه المقتولين.

وأظهروا الاعلام البيض، وقدروا ان يستغووا رعاع الكوفيين بذلك القول، فاسرع إسحاق بن عمران ومن معه المبادره نحوهم، ودفعهم وقتل من ثبت له منهم،

(10/126)

وحضر جماعه من آل ابى طالب، فحاربوا مع إسحاق بن عمران، وحضر جماعه من العامه، فحاربوا فانصرف القرامطة خاسئين، وصاروا الى قريه تدعى العشيره من آخر عمل طسوج السالحين ونهر يوسف مما يلى البر من يومهم، وانفذوا الى عدو الله زكرويه بن مهرويه من استخرجه من نقير في الارض، كان متطمرا فيه سنين كثيره بقرية الدرية واهل قريه الصوعر يتلفونه على ايديهم، ويسمونه ولى الله فسجدوا له لما راوه، وحضر معه جماعه من دعاته وخاصته، واعلمهم ان القاسم بن احمد اعظم الناس عليهم منه، وانه ردهم الى الدين بعد خروجهم منه، وانهم إذا امتثلوا امره انجز مواعيدهم، وبلغهم آمالهم.

ورمز لهم رموزا، وذكر فيها آيات من القرآن، نقلها عن الوجه الذى انزلت فيه، واعترف لزكرويه جميع من رسخ حب الكفر في قلبه، من عربي ومولى ونبطي وغيرهم انه رئيسهم المقدم، وكهفهم وملاذهم، وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل وسار بهم وهو محجوب عنهم يدعونه السيد، ولا يبرزونه لمن في عسكرهم، والقاسم يتولى الأمور دونه، ويمضيها على رايه الى مؤاخر سقى الفرات من عمل الكوفه واعلمهم ان اهل السواد قاطبه خارجون اليه، فأقام هنالك نيفا وعشرين يوما، يبث رسله في السواديين مستلحقين، فلم يلحق بهم من السواديين الا من لحقته الشقوة، وهم زهاء خمسمائة رجل بنسائهم وأولادهم، وسرب اليه السلطان الجنود، وكتب الى كل من كان نفذ نحو الأنبار وهيت لضبطها خوفا من معاوده المقيمين، كانوا بالمائين إليها بالانصراف نحو الكوفه، فعجل اليهم جماعه من القواد منهم، بشر الافشينى وجنى الصفواني ونحرير العمرى، ورائق فتى امير المؤمنين والغلمان الصغار المعروفين بالحجريه، فاوقعوا بأعداء الله بقرب قريه الصوعر، فقتلوا رجالتهم وجماعه من فرسانهم، وأسلموا بيوتهم في ايديهم، فدخلوها، وتشاغلوا بها، فعطفت القرامطة عليهم فهزموهم وذكر عن بعض من ذكر انه حضر مجلس محمد بن داود بن الجراح، وقد ادخل اليه قوم من القرامطة، منهم سلف زكرويه، فكان مما حدثه ان قال: كان زكرويه مختفيا في منزلي في سرداب في دارى عليه باب حديد،

(10/127)

وكان لنا تنور ننقله، فإذا جاءنا الطلب وضعنا التنور على باب السرداب، وقامت امراه تسجره، فمكث كذلك اربع سنين، وذلك في ايام المعتضد وكان يقول: لا اخرج والمعتضد في الأحياء ثم انتقل من منزلي الى دار قد جعل فيها بيت وراء باب الدار، إذا فتح باب الدار انطبق على باب البيت، فيدخل الداخل فلا يرى باب البيت الذى هو فيه، فلم يزل هذه حاله حتى مات المعتضد، فحينئذ انفذ الدعاه، وعمل في الخروج.

ولما ورد خبر الوقعه التي كانت بين القرمطى واصحاب السلطان بالصوعر على السلطان والناس، اعظموه، وندب للخروج الى الكوفه من ذكرت من القواد، وجعلت الرئاسة لمحمد بن إسحاق بن كنداج، وضم اليه جماعه من اعراب بنى شيبان والنمر زهاء الفى رجل، وأعطوا الأرزاق.

[أخبار متفرقة]

ولاثنتى عشره بقيت من جمادى الاولى قدم بغداد من مكة جماعه نحو العشرة، فصاروا الى باب السلطان، وسألوه توجيه جيش الى بلدهم، لانهم على خوف من الخارج بناحيه اليمن ان يطأ بلدهم، إذ كان قد قرب منها بزعمهم.

وفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، قرئ على المنبر ببغداد كتاب ورد على السلطان، ان اهل صنعاء وغيرهم من مدن اليمن اجتمعوا على الخارجي الذى كان تغلب عليها، فحاربوه وهزموه، وفلوا جموعه، فانحاز الى موضع من نواحي اليمن، ثم خلع السلطان لثلاث خلون من شوال على مظفر ابن حاج، وعقد له على اليمن، فخرج ابن حاج لخمس خلون من ذي القعده، ومضى الى عمله باليمن، فأقام بها حتى مات.

ولسبع بقين من رجب من هذه السنه، اخرج مضرب المكتفي، فضرب بباب الشماسيه على ان يخرج الى الشام بسبب ابن الخليج، فوردت خريطة لست بقين منه من مصر من قبل فاتك، يذكر انه والقواد زحفوا الى الخليجي، وكانت بينهم حروب كثيره، وان آخر حرب جرت بينهم وبينه قتل فيها اكثر اصحابه،

(10/128)

ثم انهزم الباقون، فظفروا بهم، واحتووا على معسكرهم، فهرب الخليجي حتى دخل الفسطاط، فاستتر بها عند رجل من اهل البلد، ودخل الأولياء الفسطاط.

فلما استقروا بها دل على الخليجي، وعلى من كان استتر معه ممن شايعه، فقبض عليهم وحبسهم قبله، فكتب الى فاتك في حمل الخليجي ومن أخذ معه الى مدينه السلام، فردت مضارب المكتفي التي اخرجت الى باب الشماسه، ووجه في رد خزائنه، فردت وقد كانت جاوزت تكريت.

ثم وجه فاتك بالخليجى من مصر وجماعه ممن اسر معه مع بشر مولى محمد بن ابى الساج الى مدينه السلام.

فلما كان في يوم الخميس للنصف من شهر رمضان من هذه السنه ادخل مدينه السلام من باب الشماسيه، وقدم بين يديه احدى وعشرون رجلا على جمال، وعليهم برانس ودراريع حرير، منهم ابنا بينك- فيما قيل- وابن اشكال الذى كان صار الى السلطان من عسكر عمرو الصفار في الامان، وصندل المزاحمى الخادم الأسود.

فلما وصل الخليجي الى المكتفي، فنظر اليه امر بحبسه في الدار، وامر بحبس الآخرين في الحديد، فوجه بهم الى ابن عمرويه، وكانت اليه الشرطه ببغداد، ثم خلع المكتفي على وزيره العباس بن الحسن خلعا، لحسن تدبيره في هذا الفتح، وخلع على بشر الافشينى.

ولخمس خلون من شوال ادخل بغداد راس القرمطى المسمى نصرا الذى كان انتهب هيت منصوبا على قناه ولسبع خلون من شوال ورد الخبر مدينه السلام ان الروم أغاروا على قورس، فقاتلهم أهلها، فهزموهم، وقتلوا اكثرهم، وقتلوا رؤساء بنى تميم، ودخلوا المدينة، واحرقوا مسجدها، واستاقوا من بقي من أهلها.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

(10/129)

ثم دخلت

سنه اربع وتسعين ومائتين

ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث الجليله

فمما كان فيها من ذلك دخول ابن كيغلغ طرسوس غازيا في أول المحرم، وخرج معه رستم، وهي غزاه رستم الثانيه، فبلغوا سلندو، ففتح الله عليهم، وصاروا الى آلس، فحصل في ايديهم نحو من خمسه آلاف راس، وقتلوا من الروم مقتله عظيمه، وانصرفوا سالمين

. خبر زكرويه بن مهرويه القرمطى

ولاثنتى عشره خلت من المحرم ورد الخبر مدينه السلام ان زكرويه بن مهرويه القرمطى ارتحل من الموضع المعروف بنهر المثنية، يريد الحاج، وانه وافى موضعا بينه وبين واقصه اربعه اميال.

وذكر عن محمد بن داود انهم مضوا في البر من جهة المشرق، حتى صاروا بالماء المسمى سلمان وصار ما بينهم وبين السواد مفازة، فأقام بموضعه يريد الحاج ينتظر القافلة الاولى، ووافت القافلة واقصه لست- او سبع- خلون من المحرم، فانذرهم اهل المنزل، واخبروهم ان بينهم وبينهم اربعه اميال.

فارتحلوا ولم يقيموا، فنجوا وكان في هذه القافلة الحسن بن موسى الربعي وسيما الابراهيمى، فلما امعنت القافلة في السير صار القرمطى الى واقصه، فسألهم عن القافلة فاخبروه انها لم تقم بواقصه، فاتهمهم بإنذارهم إياهم، فقتل من العلافين بها جماعه، واحرق العلف، وتحصن أهلها في حصنهم، فأقام بها أياما، ثم ارتحل عنها نحو زبالة.

وذكر عن محمد بن داود انه قال: ان العساكر سارت في طلب زكرويه نحو عيون الطف، ثم انصرفت عنه لما علمت بمكانه بسلمان، ونفذ علان بن كشمرد مع قطعه من فرسان الجيش متجرده على طريق جاده مكة نحو زكرويه، حتى نزلوا السبال، فمضى نحو واقصه حتى نزلها بعد ان جازت القافلة

(10/130)

الاولى، ومر زكرويه في طريقه بطوائف من بنى اسد، فأخذها من بيوتها معه، وقصد الحاج المنصرفين عن مكة، وقصد الجادة نحوهم.

ووافى خبر الطير من الحوفه لاربع عشر بقيت من المحرم من هذه السنه بان زكرويه اعترض قافلة الخراسانيه يوم الأحد لإحدى عشره خلت من المحرم بالعقبه من طريق مكة، فحاربوه حربا شديدا، فساءلهم: وقال: افيكم السلطان؟ قالوا: ليس معنا سلطان، ونحن الحاج، فقال لهم: فامضوا فلست أريدكم فلما سارت القافلة تبعها فاوقع بها، وجعل اصحابه ينخسون الجمال بالرماح، ويبعجونها بالسيوف، فنفرت، واختلطت القافلة، وأكب اصحاب الخبيث على الحاج يقتلونهم كيف شاءوا، فقتلوا الرجال والنساء، وسبوا من النساء من أرادوا، واحتووا على ما كان في القافلة، وقد كان لقى بعض من افلت من هذه القافلة علان بن كشمرد، فسأله عن الخبر، فاعلمه ما نزل بالقافلة الخراسانيه، وقال له: ما بينك وبين القوم الا قليل، والليلة او في غد توافى القافلة الثانيه، فان رأوا علما للسلطان قويت انفسهم والله الله فيهم! فرجع علان من ساعته، وامر من معه بالرجوع، وقال: لا اعرض اصحاب السلطان للقتل، ثم اصعد زكرويه، ووافته القافلة الثانيه.

وقد كان السلطان كتب الى رؤساء القافلتين الثانيه والثالثه ومن كان فيهما من القواد والكتاب مع جماعه من الرسل الذين تنكبوا طريق الجادة بخبر الفاسق وفعله بالحاج، ويأمرهم بالتحرز منه، والعدول عن الجادة نحو واسط والبصره، او الرجوع الى فيد او الى المدينة، الى ان يلحق بهم الجيوش.

ووصلت الكتب اليهم فلم يسمعوا ولم يقيموا، ولم يلبثوا وتقدم اهل القافلة الثانيه وفيها المبارك القمي واحمد بن نصر العقيلي واحمد بن على بن الحسين الهمذاني، فوافوا الفجره، وقد رحلوا عن واقصه، وعوروا مياهها، وملئوا بركها وبئارها بجيف الإبل والدواب التي كانت معهم، مشققه بطونها، ووردوا منزل العقبه في يوم الاثنين لاثنتى عشره خلت من المحرم، فحاربهم اصحاب القافلة الثانيه وكان ابو العشائر مع اصحابه في أول القافلة ومبارك القمي فيمن معه في ساقتها، فجرت بينهم حرب شديده حتى كشفوهم، وأشرفوا على الظفر بهم، فوجد الفجره من ساقتهم غره، فركبوهم من جهتها، ووضعوا رماحهم في جنوب ابلهم

(10/131)

وبطونها، فطحنتهم الإبل وتمكنوا منهم، فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم، الا من استعبدوه ثم انفذوا الى ما دون العقبه باميال فوارس لحقوا المفلته من السيف، فأعطوهم الامان، فرجعوا فقتلوهم اجمعين، وسبوا من النساء ما أحبوا، واكتسحوا الأموال والأمتعة وقتل المبارك القمي والمظفر ابنه، واسر ابو العشائر، وجمع القتلى، فوضع بعضهم على بعض، حتى صاروا كالتل العظيم ثم قطعت يدا ابى العشائر ورجلاه، وضربت عنقه، واطلق من النساء من لم يرغبوا فيه، وافلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا، فمنهم من مات، ومنهم من نجا وهم قليل وكان نساء القرامطة يطفن مع صبيانهم في القتلى يعرضون عليهم الماء، فمن كلمهم أجازوا عليه.

وقيل انه كان في القافلة من الحاج زهاء عشرين الف رجل، قتل جميعهم غير نفر يسير ممن قوى على العدو، فنجا بغير زاد ومن وقع في القتل وهو مجروح، وافلت بعد، او من استعبدوه لخدمتهم.

وذكر ان الذى أخذوا من المال والأمتعة الفاخره في هذه القافلة قيمه الفى الف دينار.

وذكر عن بعض الضرابين انه قال: وردت علينا كتب الضرابين بمصر انكم في هذه السنه تستغنون، قد وجه آل ابن طولون والقواد المصريون الذين أشخصوا الى مدينه السلام، ومن كان في مثل حالهم في حمل ما لهم بمصر الى مدينه السلام، وقد سبكوا آنيه الذهب والفضه والحلى نقارا، وحمل الى مكة ليوافوا به مدينه السلام مع الحاج، فحمل في القوافل الشاخصه الى مدينه السلام، فذهب ذلك كله.

وذكر ان القرامطة بينا هم يقتلون وينهبون هذه القافلة يوم الاثنين، إذ اقبلت قافلة الخراسانيه، فخرج اليهم جماعه من القرامطة، فواقعوهم، فكان سبيلهم سبيل هذه فلما فرغ زكرويه من اهل القافلة الثانيه من الحاج.

وأخذ أموالهم، واستباح حريمهم، رحل من وقته من العقبه بعد ان ملا البرك والابار بها بالجيف من الناس والدواب وكان ورد خبر قطعه على القافلة

(10/132)

الثانيه من قوافل السلطان مدينه السلام في عشيه يوم الجمعه لاربع عشره بقيت من المحرم، فعظم ذلك على الناس جميعا وعلى السلطان، وندب الوزير العباس بن الحسن بن أيوب محمد بن داود بن الجراح الكاتب المتولى دواوين الخراج والضياع بالمشرق وديوان الجيش للخروج الى الكوفه، والمقام بها لانفاذ الجيوش الى القرمطى فخرج من بغداد لإحدى عشره بقيت من المحرم، وحمل معه اموالا كثيره لاعطاء الجند.

ثم سار زكرويه الى زبالة فنزلها، وبث الطلائع امامه ووراءه خوفا من اصحاب السلطان المقيمين بالقادسية ان يلحقوه، ومتوقعا ورود القافلة الثالثه التي فيها الأموال والتجار ثم سار الى الثعلبية، ثم الى الشقوق، واقام بها بين الشقوق والبطان في طرف الرمل في موضع يعرف بالطليح، ينتظر القافلة الثالثه، وفيها من القواد نفيس المولدى وصالح الأسود، ومعه الشمسه والخزانه وكانت الشمسه جعل فيها المعتضد جوهرا نفيسا.

وفي هذه القافلة، كان ابراهيم ابن ابى الاشعث- واليه كان قضاء مكة والمدينة وامر طريق مكة والنفقة فيه لمصالحه- وميمون بن ابراهيم الكاتب- وكان اليه امر ديوان زمام الخراج والضياع- واحمد بن محمد بن احمد المعروف بابن الهزلج، والفرات بن احمد بن محمد بن الفرات، والحسن بن اسماعيل قرابه العباس بن الحسن- وكان يتولى بريد الحرمين- وعلى بن العباس النهيكى.

فلما صار اهل هذه القافلة الى فيد بلغهم خبر الخبيث زكرويه واصحابه، وأقاموا بفيد أياما ينتظرون تقويه لهم من قبل السلطان، وقد كان ابن كشمرد رجع من الطريق الى القادسية في الجيوش التي أنفذها السلطان معه وقبله وبعد.

ثم سار زكرويه الى فيد، وبها عامل السلطان، يقال له حامد بن فيروز، فالتجا منه حامد الى احد حصنيها في نحو من مائه رجل كانوا معه في المسجد، وشحن الحصن الآخر بالرجال، فجعل زكرويه يراسل اهل فيد، ويسألهم ان يسلموا اليه عاملهم ومن فيها من الجند، وانهم ان فعلوا ذلك آمنهم فلم

(10/133)

يجيبوه الى ما سال ولما لم يجيبوه حاربهم، فلم يظفر منهم بشيء.

قال: فلما راى انه لا طاقه له بأهلها، تنحى فصار الى النباج، ثم الى حفير ابى موسى الأشعري.

وفي أول شهر ربيع الاول انهض المكتفي وصيف بن صوارتكين- ومعه من القواد جماعه- فنفذوا من القادسية على طريق خفان، فلقيه وصيف يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الاول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز بينهم الليل، فباتوا يتحارسون، ثم عاودهم الحرب، فقتل جيش السلطان منهم مقتله عظيمه، وخلصوا الى عدو الله زكرويه، فضربه بعض الجند بالسيف على قفاه وهو مول ضربه اتصلت بدماغه فاخذ أسيرا وخليفته وجماعه من خاصته واقربائه، فيهم ابنه وكاتبه وزوجته، واحتوى الجند على ما في عسكره.

وعاش زكرويه خمسه ايام ثم مات، فشق بطنه، ثم حمل بهيئته، وانصرف بمن كان بقي حيا في يديه من اسرى الحاج.

[أخبار متفرقة]

وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من العدو اربعه آلاف راس سبى ودواب ومواشى كثيره ومتاعا ودخل بطريق من البطارقه اليه في الامان، واسلم وكان شخوصه من طرسوس لهذه الغزاة في أول المحرم من هذه السنه.

وفيها كاتب اندرونقس البطريق السلطان يطلب الامان، وكان على حرب اهل الثغور من قبل صاحب الروم، فاعطى ذلك، فخرج، واخرج نحوا من مائتي نفس من المسلمين كانوا اسرى في حصنه، وكان صاحب الروم قد وجه اليه من يقبض عليه، فاعطى المسلمين الذين كانوا في حصنه اسرى السلاح، واخرج معهم بعض بنيه، فكبسوا البطريق الموجه اليه للقبض عليه ليلا، فقتلوا ممن معه خلقا كثيرا، وغنموا ما في عسكره وكان رستم قد خرج في اهل الثغور في جمادى الاولى قاصدا اندرونقس ليتخلصه، فوافى رستم قونيه بعقب الوقعه وعلم البطارقه بمسير المسلمين اليهم فانصرفوا، ووجه اندرونقس ابنه الى رستم، ووجه رستم كاتبه وجماعه من البحريين،

(10/134)

فباتوا في الحصن، فلما أصبحوا خرج اندرونقس وجميع من معه من أسارى المسلمين، ومن صار اليهم منهم، ومن وافقه على رايه من النصارى، واخرج ماله ومتاعه الى معسكر المسلمين، وخرب المسلمون قونيه، ثم قفلوا الى طرسوس واندرونقس وأسارى المسلمين ومن كان مع اندرونقس من النصارى.

وفي جمادى الآخرة منها كانت بين اصحاب حسين بن حمدان بن حمدون وجماعه من اصحاب زكرويه كانوا هربوا من الوقعه التي اصابه فيها ما اصابه، وأخذوا طريق الفرات يريدون الشام، فاوقع بهم وقعه، فقتل جماعه منهم، اسر جماعه من نسائهم وصبيانهم.

وفيها وافى رسل ملك الروم احدهم خال ولده اليون وبسيل الخادم، ومعهم جماعه باب الشماسيه بكتاب منه الى المكتفي يسأله الفداء بمن في بلاده من المسلمين، من في بلاد الاسلام من الروم، وان يوجه المكتفي رسولا الى بلاد الروم ليجمع الأسرى من المسلمين الذين في بلاده، وليجتمع هو معه على امر يتفقان عليه، ويتخلف بسيل الخادم بطرسوس ليجتمع اليه الأسرى من الروم في الثغور ليصيرهم مع صاحب السلطان الى موضع الفداء فأقاموا بباب الشماسيه أياما، ثم ادخلوا بغداد ومعهم هديه من صاحب الروم عشره من أسارى المسلمين، فقبلت منهم واجيب صاحب الروم الى ما سال.

وفيها أخذ رجل بالشام- زعم انه السفياني- فحمل هو وجماعه معه من الشام الى باب السلطان، فقيل انه موسوس.

وفيها أخذ الاعراب بطريق مكة رجلين يعرف أحدهما بالحداد والآخر بالمنتقم، وذكر ان المعروف بالمنتقم منهما أخو امراه زكرويه، فدفعوهما الى نزار بالكوفه، فوجههما نزار الى السلطان، فذكر عن الاعراب انهما كانا صارا إليهما يدعوانهم الى الخروج على السلطان.

وفيها وجه الحسين بن حمدان من طريق الشام رجلا يعرف بالكيال مع

(10/135)

ستين رجلا من اصحابه الى السلطان كانوا استأمنوا اليه من اصحاب زكرويه.

وفيها وصل الى بغداد اندرونقس البطريق وفيها كانت وقعه بين الحسين بن حمدان واعراب كليب والنمر واسد وغيرهم، اجتمعوا عليه في شهر رمضان منها، فهزموه حتى بلغوا به باب حلب وفيها حاصر اعراب طيّئ وصيف بن صوارتكين بفيد، وكان وجه أميرا على الموسم، فحوصر ثلاثة ايام، ثم خرج اليهم، فواقعهم فقتل منهم قتلى، ثم انهزمت الاعراب ورحل وصيف من فيد بمن معه من الحاج.

وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(10/136)

ثم دخلت

سنه خمس وتسعين ومائتين

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن ابراهيم المسمعي عن مدينه أصبهان الى قريه من قراها على فراسخ منها وانضمام نحو من عشره آلاف من الأكراد وغيرهم- فيما ذكر- اليه مظهرا الخلاف على السلطان فامر بدر الحمامي بالشخوص اليه، وضم اليه جماعه من القواد ونحو من خمسه آلاف من الجند وفيها كانت وقعه للحسين بن موسى على اعراب طيّئ الذين كانوا حاربوا وصيف بن صوارتكين على غره منهم، فقتل من رجالهم- فيما قيل- سبعين، واسر من فرسانهم جماعه.

وفيها توفى ابو ابراهيم اسماعيل بن احمد عامل خراسان وما وراء النهر في صفر منها، لاربع عشره خلت منه، وقام ابنه احمد بن اسماعيل بن احمد في عمل ابيه مقامه، وولى اعمال ابيه وذكر ان المكتفي لاربع ليال خلون من شهر ربيع الآخر قعد، فعقد بيده لواء ودفعه الى طاهر بن على بن وزير، وخلع عليه وامره بالخروج باللواء الى احمد بن اسماعيل.

وفيها وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب الى عبد الله بن ابراهيم المسمعي، وكتب اليه يخوفه عاقبه الخلاف اليه، فتوجه اليه، فلما صار اليه ناظره، فرجع الى طاعه السلطان، وشخص في نفر من غلمانه، واستخلف على عمله بأصبهان خليفه، ومعه منصور بن عبد الله، حتى صار الى باب السلطان، فرضى عنه المكتفي، ووصله وخلع عليه وعلى ابنه.

وفيها اوقع الحسين بن موسى بالكردى المتغلب كان على نواحي الموصل، فظفر باصحابه، واستباح عسكره وأمواله، وافلت الكردى فتعلق بالجبال فلم يدرك

(10/137)

وفيها فتح المظفر بن حاج بعض ما كان غلب عليه بعض الخوارج باليمن، وأخذ رئيسا من رؤسائهم يعرف بالحكيمى وفيها لثلاث عشره ليله بقيت من جمادى الآخرة امر خاقان المفلحى بالشخوص الى اذربيجان لحرب يوسف بن ابى الساج، وضم اليه نحو اربعه آلاف رجل من الجند ولثلاث عشره بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول ابى مضر زياده الله بن الاغلف، ومعه فتح الأعجمي، ومعه هدايا وجه بها الى المكتفي.

وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعده، وكانت عده من فودى به من الرجال والنساء ثلاثمائه آلاف نفس.

وفي ذي القعده لاثنتى عشره ليله خلت منها توفى المكتفي بالله، وكانت خلافته ست سنين وسته اشهر وتسعه عشر يوما، وكان يوم توفى ابن اثنتين وثلاثين سنه يومئذ، وكان ولد سنه اربع وستين ومائتين، ويكنى أبا محمد، وأمه أم ولد تركية تسمى جيجك وكان ربعه جميلا، رقيق اللون، حسن الشعر، وافر الحمه، وافر اللحية.

(10/138)

خلافه المقتدر بالله

ثم بويع جعفر بن المعتضد بالله، ولما بويع جعفر بن المعتضد لقب المقتدر بالله وهو يومئذ ابن ثلاث عشره سنه وشهر واحد واحد وعشرين يوما وكان مولده ليله الجمعه لثمان بقين من شهر رمضان من سنه اثنتين وثمانين ومائتين، وكنيته ابو الفضل، وأمه أم ولد يقال لها شغب، فذكر كان في بيت المال يوم بويع خمسه عشر الف الف دينار ولما بويع المقتدر غسل المكتفي وصلى عليه، ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر.

وفيها كانت بين عج بن حاج والجند وقعه في اليوم الثانى من ايام منى، قتل فيها جماعه، وجرح منهم، بسبب طلبهم جائزه بيعه المقتدر، وهرب الناس الذين كانوا بمنى الى بستان ابن عامر، وانتهب الجند مضرب ابى عدنان ربيعه بن محمد بمنى.

وكان احد أمراء القوافل، وأصاب المنصرفين من مكة في منصرفهم في الطريق من القطع والعطش امر غليظ، مات من العطش- فيما قيل- منهم جماعه وسمعت بعض من يحكى ان الرجل كان يبول في كفه، ثم يشربه.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(10/139)

ثم دخلت

سنه ست وتسعين ومائتين

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعه من القواد والكتاب والقضاه على خلع المقتدر، وتناظرهم فيمن يجعل في موضعه، فاجتمع رأيهم على عبد الله بن المعتز وناظروه في ذلك، فأجابهم الى ذلك على الا يكون في سفك ذلك دم ولا حرب، فاخبروه ان الأمر يسلم اليه عفوا، وان جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به فبايعهم على ذلك، وكان الراس في ذلك محمد بن داود ابن الجراح وابو المثنى احمد بن يعقوب القاضى، وواطا محمد بن داود بن الجراح جماعه من القواد على الفتك بالمقتدر والبيعه لعبد الله بن المعتز، وكان العباس بن الحسن على مثل رأيهم فلما راى العباس امره مستوثقا له مع المقتدر، بدا له فيما كان عزم عليه من ذلك، فحينئذ وثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذى تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الاول.

ولما كان من غد هذا اليوم- وذلك يوم الأحد- خلع المقتدر القواد والكتاب وقضاه بغداد، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه الراضي بالله.

وكان الذى أخذ له البيعه على القواد وتولى استحلافهم والدعاء باسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش.

وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديده من غدوه الى انتصاف النهار.

وفيه انفضت الجموع التي كان محمد بن داود جمعها لبيعه ابن المعتز عنه، وذلك ان الخادم الذى يدعى مؤنسا حمل غلمانا من غلمان الدار في شذوات،

(10/140)

فصاعد بها وهم فيها في دجلة، فلما حاذوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحوا بهم، ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا، وهرب من في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا بانه منع من المصير اليه، واختفى بعضهم فأخذوا وقتلوا وانتهب العامه دور ابن داود والعباس بن الحسن، وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ.

وفي يوم السبت لاربع بقين من شهر ربيع الاول منها سقط الثلج ببغداد من غدوه الى قدر صلاه العصر، حتى صار في الدور والسطوح منه نحو من اربعه أصابع، وذكر انه لم ير ببغداد مثل ذلك قط.

وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر ربيع الاول منها، سلم محمد بن يوسف القاضى ومحمد بن عمرويه وابو المثنى وابن الجصاص والأزرق كاتب الجيش في جماعه غيرهم الى مؤنس الخازن، فترك أبا المثنى في دار السلطان، ونقل الآخرين الى منزله، فافتدى بعضهم نفسه، وقتل بعضهم، وشفع في بعض فاطلق.

وفيها كانت وقعه بين طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث وسبكرى غلام عمرو بن الليث، فاسر سبكرى طاهرا، ووجهه مع أخيه يعقوب بن محمد الى السلطان وفيها وجه القاسم بن سيما مع جماعه من القواد والجند في طلب حسين بن حمدان بن حمدون، فشخص لذلك حتى صار الى قرقيسيا والرحبه والدالية، وكتب الى أخي الحسين عبد الله بن حمدان بن حمدون بطلب أخيه، فالتقى هو واخوه بموضع يعرف بالأعمى بين تكريت والسودقانيه بالجانب الغربي من دجلة، فانهزم عبد الله، وبعث الحسين يطلب الامان، فاعطى ذلك ولسبع بقين من جمادى الآخرة منها وافى الحسين بن حمدان بغداد، فنزل باب حرب، ثم صار الى دار السلطان من غد ذلك اليوم، فخلع عليه وعقد له على قم وقاشان.

ولست بقين من جمادى الآخرة، خلع على ابن دليل النصراني كاتب يوسف

(10/141)

ابن ابى الساج ورسوله، وعقد ليوسف بن ابى الساج على المراغه واذربيجان، وحملت اليه الخلع، وامر بالشخوص الى عمله.

وللنصف من شعبان منها خلع على مؤنس الخادم، وامر بالشخوص الى طرسوس لغزو الصائفه، فنفذ لذلك وخرج في عسكر كثيف وجماعه من القواد وغلمان الحجر.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(10/142)

ثم دخلت

سنه سبع وتسعين ومائتين

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزو مؤنس الخادم الصائفه بلاد الروم من ثغر ملطيه في جيش كثيف، ومعه ابو الأغر السلمى وظفر بالروم، واسر اعلاجا في آخر سنه ست وتسعين ومائتين، وورد الخبر بذلك على السلطان لست خلون من المحرم.

وفيها صار الليث بن على بن الليث الصفار الى فارس في جيش، فتغلب عليها، وطرد عنها سبكرى، وذلك بعد ما ولى السلطان سبكرى بعد ما بعث سبكرى طاهر بن محمد الى السلطان أسيرا، فامر المقتدر مؤنسا الخادم بالشخوص الى فارس لحرب الليث بن على، فشخص إليها في شهر رمضان منها.

وفيها وجه أيضا المقتدر القاسم بن سيما لغزوه الصائفه ببلاد الروم في جمع كثير من الجند في شوال منها.

وفيها كانت بين مؤنس الخادم والليث بن على بن الليث وقعه هزم فيها الليث، ثم اسر وقتل من اصحابه جماعه كثيره، واستامن منهم الى مؤنس جماعه كثيره، ودخل اصحاب السلطان النوبندجان، وكان الليث قد تغلب عليها.

واقام الحج فيها للناس الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبيد الله ابن العباس بن محمد.

(10/143)

ثم دخلت

سنه ثمان وتسعين ومائتين

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان فيها من غزو القاسم بن سيما ارض الروم الصائفه.

وفيها وجه المقتدر وصيف كامه الديلمى في جيش وجماعه من القواد لحرب سبكرى غلام عمرو بن الليث وفيها كانت بين سبكرى ووصيف كامه وقعه هزمه فيها وصيف، واخرجه من عمل فارس، ودخل وصيف كامه ومن معه فارس، واستامن اليه من اصحاب سبكرى جماعه كثيره، فاسر رئيس عسكره المعروف بالقتال، ومضى سبكرى هاربا الى احمد بن اسماعيل بن احمد بما معه من الأموال والذخائر فاخذ ما معه اسماعيل بن احمد، وقبض عليه فحبسه.

وفيها كانت بين احمد بن اسماعيل بن احمد ومحمد بن على بن الليث وقعه بناحيه بست والرخج، اسره فيها احمد بن اسماعيل.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

(10/144)

ثم دخلت

سنه تسع وتسعين ومائتين

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من غزو رستم بن برود الصائفه من ناحيه طرسوس.

وهو والى الثغور من قبل بنى نفيس، ومعه دميانه فحاصر حصن مليح الأرمني، ثم رحل عنه، واحرق ارباض ذي الكلاع وفيها ورد رسول احمد بن اسماعيل بن احمد بكتاب منه الى السلطان يخبر فيه انه فتح سجستان، وان اصحابه دخلوها، واخرجوا من كان بها من اصحاب الصفار، وان المعدل بن على بن الليث صار اليه بمن معه من اصحابه في الامان، وكان المعدل يومئذ مقيما بزرنج، فصار الى احمد بن اسماعيل وهو مقيم ببست والرخج، فوجه به ابن اسماعيل وبعياله ومن معه الى هراة، وبين سجستان وبست الرخج ستون فرسخا، فوردت الخريطة بذلك على السلطان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر.

وفيها وافى بغداد العطير صاحب زكرويه ومعه الأغر- وهو أيضا احد قواد زكرويه- مستأمنا.

وفي ذي الحجه منها غضب على على بن محمد بن الفرات لاربع خلون منه، وحبس ووكل بدوره ودور اهله وأخذ كل ما وجد له ولهم، وانتهت دوره ودور بنى اخوته وأهلهم، واستوزر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

(10/145)

ثم دخلت

سنه ثلاثمائة

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من ورود بغداد رسول من العامل على برقه، وهي من عمل مصر، الى ما خلفها باربع فراسخ، ثم ما بعد ذلك من عمل المغرب بخبر خارجى خرج عليه، وانه ظفر بعسكره، وقتل خلقا من اصحابه، ومعه آذان وانوف من قتله في خيوط واعلام من اعلام الخارجي وفي هذه السنه كثرت الامراض والعلل ببغداد في الناس، وذكر ان الكلاب والذئاب كلبت فيها بالبادية، فكانت تطلب الناس والدواب والبهائم، فإذا عضت إنسانا اهلكته.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(10/146)

ثم دخلت

سنه احدى وثلاثمائة

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك عزل المقتدر محمد بن عبيد الله عن الوزارة وحبسه اياه مع ابنيه عبد الله وعبد الواحد وتصييره على بن عيسى بن داود بن الجراح له وزيرا وفيها كثر أيضا الوباء ببغداد، فكان بها منه نوع سموه حنينا، ومنه نوع سموه الماسرا، فاما الحنين فكانت سليمه، واما الماسرا فكانت طاعونا قتاله وفيها احضر دار الوزير على بن عيسى رجل- ذكر انه يعرف بالحلاج ويكنى أبا محمد- مشعوذ، ومعه صاحب له، سمعت جماعه من الناس يزعمون انه يدعى الربوبيه فصلب هو وصاحبه ثلاثة ايام، كل يوم من ذلك من اوله الى انتصافه، ثم ينزل بهما، فيؤمر بهما الى الحبس، فحبس مده طويله، فافتتن به جماعه منهم نصر القشورى وغيره، الى ان ضج الناس، ودعوا على من يعيبه، وفحش امره، واخرج من الحبس، فقطعت يداه ورجلاه، ثم ضربت عنقه، ثم احرق بالنار.

وفيها غزا الصائفه الحسين بن حمدان بن حمدون، فورد كتاب من طرسوس يذكر فيه انه فتح حصونا كثيره، وقتل من الروم خلقا كثيرا.

وفيها قتل احمد بن اسماعيل بن احمد صاحب خراسان وما وراء النهر، قتله غلام له تركي- اخص غلمانه به- ذبحا، هو وغلامان معه، دخلوا عليه في قبته، ثم هربوا فلم يدركوا.

وفيها وقع الاختلاف بين نصر بن احمد بن اسماعيل بن احمد وعم ابيه إسحاق بن احمد، فكان مع نصر بن احمد غلمان ابيه وكتابه وجماعه من قواده والأموال والكراع والسلاح، وانحاز بعد قتل ابيه الى بخارى وإسحاق بن احمد بسمرقند وهو عليل من نقرس به، فدعا الناس

(10/147)

بسمرقند الى مبايعته على الرئاسة عليهم، وبعث كل واحد منهما الى السلطان كتبه خاطبا على نفسه، عمل اسماعيل بن احمد، وانفذ إسحاق كتبه- فيما ذكر- الى عمران المرزبانى لإيصالها الى السلطان، ففعل ذلك، وانفذ نصر بن احمد ابن اسماعيل كتبه الى حماد ابن احمد، ليتولى إيصالها الى السلطان، ففعل.

وفيها كانت وقعه بين نصر بن احمد بن اسماعيل واصحابه من اهل بخارى وإسحاق بن احمد عم ابيه واصحابه من اهل سمرقند، لاربع عشره بقيت من شعبان منها، هزم فيها نصر واصحابه إسحاق واهل سمرقند ومن كان قد انضم اليه من اهل تلك النواحي، وتفرقوا عنه هاربين، وكانت هذه الوقعه بينهم على باب بخارى وفيها زحف اهل بخارى الى اهل سمرقند بعد ما هزموا إسحاق بن احمد ومن معه، فكانت بينهم وقعه اخرى ظفر فيها أيضا اهل بخارى باهل سمرقند، فهزموهم، وقتلوا منهم مقتله عظيمه، ودخلوا سمرقند قسرا، وأخذوا إسحاق بن احمد أسيرا، وولوا ما كان اليه من عمل ابنا لعمرو بن نصر بن احمد.

وفيها دخل اصحاب ابن البصرى من اهل المغرب برقه، وطرد عنها عامل السلطان.

وولى ابو بكر محمد بن على بن احمد بن ابى زنبور الماذرائى اعمال مصر وخراجها.

وفيها قتل ابو سعيد الجنابى الخارج كان بناحيه لبحرين وهجر، قتله- فيما قيل- خادم له وفيها كثرت الامراض والعلل ببغداد، وفشا الموت في أهلها، وكان اكثر ذلك- فيما قيل- في الحربية واهل الارباض وفيها وافى قائد من قواد ابن البصرى في البرابره والمغاربه الإسكندرية وفيها ورد كتاب تكين عامل السلطان من مصر يسأله.

المدد.

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

(10/148)

ثم دخلت

سنه اثنتين وثلاثمائة

(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من اشخاص الوزير على بن عيسى بن عبد الباقى في الفى فارس فيها لغزو الصائفه، معونه لبشر خادم ابن ابى الساج وهو والى طرسوس من قبل السلطان الى طرسوس، فلم يتيسر لهم غزو الصائفه، فغزوها شاتيه في برد شديد وثلج.

وفيها تنحى الحسن بن على العلوي الاطروش بعد غلبته على طبرستان عن آمل، وصار الى سالوس فأقام بها ووجه صعلوك صاحب الري اليه جيشا، فلم يكن لجيشه بها ثبات، وعاد الحسن بن على إليها، ولم ير الناس مثل عدل الاطروش وحسن سيرته واقامته الحق.

وفيها دخل حباسه صاحب ابن البصرى الإسكندرية، وغلب عليها، وذكر انه وردها في مائتي مركب في البحر.

وفيها وافى حباسه صاحب ابن البصرى موضعا من فسطاط مصر على مرحلة، يقال لها سفط، ثم رجع منه الى وراء ذلك، فنزل منزلا بين الفسطاط والإسكندرية.

وفيها شخص مؤنس الخادم الى مصر لحرب حباسه، وقوى بالرجال والسلاح والمال.

وفيها لسبع بقين من جمادى الاولى قبض على الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص وعلى ابنيه، واستصفى كل شيء له، ثم حبس وقيد.

وفيها كانت وقعه بمصر بين اصحاب السلطان وحباسه واصحابه لست بقين من جمادى الاولى منها، فقتل من الفريقين جماعه، وجرحت منهم

(10/149)

جماعه ثم اخرى بعد ذلك بيوم نحو التي كانت في هذه، ثم ثالثه بعد ذلك في جمادى الآخرة منها ولاربع عشره بقيت من جمادى الآخرة منها.

ورد كتاب بوقعه كانت بينهم، هزم اصحاب السلطان فيها المغاربه وفيها ورد كتاب من بشر عامل السلطان على طرسوس على السلطان، يذكر فيه غزوه ارض الروم، وما فتح فيها من الحصون، وما غنم وسبى، وانه اسر من البطارقه مائه وخمسين، وان مبلغ السبى نحو من الفى راس ولإحدى عشره بقيت من رجب ورد الخبر من مصر ان اصحاب السلطان لقوا حباسه واهل المغرب يقاتلونهم، فكانت الهزيمة على المغاربه، فقتلوا منهم وأسروا سبعه آلاف رجل، وهرب الباقون مفلولين، وكانت الوقعه يوم الخميس بسلخ جمادى الآخرة.

وفيها انصرف حباسه ومن معه من المغاربه عن الإسكندرية راجعين الى المغرب بعد ما ناظر- فيما ذكر- حباسه عامل السلطان بمصر على الدخول اليه بالأمان، وجرت بينهما في ذلك كتب وكان انصرافه- فيما ذكر- لاختلاف حدث بين اصحابه في الموضع الذى شخص منه.

وفيها اوقع يانس الخادم بناحيه وادي الذئاب، وما قرب من ذلك الموضع بمن هنالك من الاعراب، فقتل منهم مقتله عظيمه، ذكر انه قتل منهم سبعه آلاف رجل، ونهب بيوتهم، وأصاب في بيوتهم من اموال التجار وامتعتهم التي كانوا أخذوها بقطع الطريق عليهم ما لا يحصى كثرته.

ولست خلون من ذي الحجه هلكت بدعه مولاه المأمون وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك.

وفي اليوم الثانى والعشرين من ذي الحجه منها خرج اعراب من الحاجر على ثلاثة فراسخ مما يلى البر على المنصرفين من مكة، فقطعوا عليهم الطريق،

(10/150)

وأخذوا ما معهم من العين واستاقوا من جمالهم ما أرادوا، وأخذوا- فيما قيل- مائتين وثمانين امراه حرائر سوى من أخذوا من المماليك والإماء.

تم الكتاب، وهو آخر تاريخ ابن جرير الطبرى رحمه الله، وقد ضمنا هذا الكتاب أبوابا من اوله الى آخره، حيث انتهينا اليه من يومنا هذا، فما كان متأخرا ذكرناه بروايه سماع ان اخر الله في الأجل

(10/151)

الجزء الحادي عشر

[صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثم دخلت

سنة احدى وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) (ذكر اخبار القرامطة وقتل صاحب الشامة) فيها كتب الوزير القاسم بن عبيد الله الى محمد بن سليمان الكاتب- وكان المكتفي قد ولاه حرب القرمطى صاحب الشامة، وصير اليه امر القواد والجيوش- فأمره بمناهضه صاحب الشامة والجد في امره وجمع القواد والرجال على محاربته.

فسار اليه محمد بن سليمان بجميع من كان معه واهل النواحي التي تليه من الاعراب وغيرهم حتى قربوا من حماه، وصار بينهم وبينها نحو اثنى عشر ميلا، فلقوا اصحاب القرمطى هنالك يوم الثلاثاء لست خلون من المحرم.

وكان القرمطى قد قدم بعض اصحابه في ثلاثة آلاف فارس وكثير من الرجاله في مقدمته، وتخلف هو في جماعه منهم، ردءا لهم، وجعل السواد وراءه، وكان معه مال جمعه، فالتقى رجال السلطان بمن تقدم من القرامطة لحربهم، والتحم القتال بينهم، وصبر الفريقان.

ثم انهزم اصحاب القرمطى، واسر من رجالهم بشر كثير، وقتل منهم عدد عظيم، وتفرق الباقون في البوادى، وتبعهم اصحاب السلطان ليله الأربعاء يقتلونهم ويأسرونهم.

فلما راى القرمطى ما نزل باصحابه من الانهزام والتفرق والقتل والاسر حمل أخا له يقال له ابو الفضل مالا، وتقدم اليه ان يلحق بالبوادي ويستتر بها، الى ان يظهر القرمطى بموضع، فيصير اليه اخوه بالمال، وركب هو وابن عمه المسمى بالمدثر، وصاحبه المعروف بالمطوق، وغلام له رومي وأخذ دليلا وسار يريد الكوفه عرضا في

(11/11)

البريه حتى انتهى الى موضع يعرف بالدالية من اعمال طريق الفرات، فنفد ما كان معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض من كان معه ليأخذ لهم ما احتاجوا اليه فدخل الدالية لشراء حاجته، فأنكر زيه، وسئل عن امره فاستراب وارتاب، واعلم المتولى لمسلحه تلك الناحية بخبره، وكان على المعاون رجل يعرف بابى خليفه بن كشمرد فركب في جماعه، وسال هذا الرجل عن خبره، فاعلمه ان صاحب الشامة بالقرب منه، في ثلاثة نفر، وعرفه بمكانه.

فمضى صاحب المعاون اليهم واخذهم ووجه بهم الى المكتفي وهو بالرقة، ورجعت الجيوش من طلب القرامطة، بعد ان أفنوا اكثرهم قتلا واسرا وكتب محمد بن سليمان الكاتب الى الوزير القاسم بن عبيد الله بمحاربته للقرامطه، وما فتح الله له عليهم، وقتله واسره لاكثرهم، وانه تقدم في جمع الرءوس وهو باعث منها بعدد عظيم.

وفي يوم الاثنين لاربع بقين من المحرم ادخل صاحب الشامة الى الرقة ظاهرا للناس على فالج، وعليه برنس جرير، ودراعه ديباج، وبين يديه المدثر والمطوق على جملين ثم ان المكتفي خلف عساكره مع محمد بن سليمان، وشخص هو في خاصته وغلمانه وخدمه، وشخص معه القاسم بن عبيد الله الوزير من الرقة الى بغداد، وحمل معه القرمطى والمدثر والمطوق وجماعه ممن اسر في الوقعه وذلك في أول صفر، فلما صار الى بغداد عزم على ان يدخل القرمطى مدينه السلام مصلوبا على دقل والدقل على ظهر فيل، فامر بهدم طاقات الأبواب التي يجتاز بها الفيل بالدقل ثم استسمج ذلك، فعمل له دميانه، غلام يا زمان كرسيا، وركبه على ظهر الفيل، في ارتفاع ذراعين ونصف، واقعد فيه القرمطى صاحب الشامة، ودخل المكتفي مدينه السلام، صبيحة يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول وقد قدم بين يديه الأسرى مقيدين على جمال عليهم دراريع الحرير وبرانس الحرير، والمطوق وسطهم، وهو غلام ما نبتت لحيته بعد، قد جعل في فيه خشبة مخروطه والجم بها في فمه كهيئة اللجام ثم شدت

(11/12)

الى قفاه، وذلك انه لما دخل الرقة كان يشتم الناس إذا دعوا عليه، ويبزق في وجوههم، فجعل له هذا لئلا يتكلم ولا يشتم.

ثم امر المكتفي ببناء دكه في المصلى العتيق بالجانب الشرقى في ارتفاعها عشره اذرع لقتل القرامطة، وكان خلف المكتفي وراءه محمد بن سليمان الكاتب بجمله من قواد القرامطة وقضاتهم ووجوههم فقيد جميعهم، ودخلوا بغداد بين يديه يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، وقد امر القواد بتلقيه والدخول معه فدخل في اتم ترتيب حتى إذا صار بالثريا نزل بها وخلع عليه، وطوق بطوق من ذهب، وسور بسوارين من ذهب، وخلع على جميع القواد القادمين معه وطوقوا وسوروا.

ثم صرفوا الى منازلهم وامر بالأسرى الى السجن.

وذكر عن صاحب الشامة انه أخذ وهو في حبس المكتفي سكرجة من المائدة التي كانت تدخل عليه وكسرها وأخذ شظية منها، فقطع بها بعض عروقه وخرج منه دم كثير، حتى شدت يده، وقطع دمه، وترك أياما حتى رجعت اليه قوته.

ولما كان يوم الاثنين لسبع بقين من ربيع الاول، امر المكتفي القواد والغلمان بحضور الدكة في المصلى العتيق، وخرج من الناس خلق كثير، وحضر الواثقى وهو يلى الشرطه بمدينه السلام ومحمد بن سليمان كاتب الجيش، فقعدوا على الدكة في موضع هيئ لهم، وحمل الأسرى الذين جاء بهم المكتفي، والذين جاء بهم محمد بن سليمان ومن كان في السجن من القرامطة، وقوم من اهل بغداد ذكر انهم على مذاهبهم، وقوم من سائر البلدان من غير القرامطة حبسوا لجنايات مختلفه فاحضر جميعهم الدكة ووكل بكل رجل منهم عونان، وقيل انهم كانوا في نحو ثلاثمائة وستين.

ثم احضر صاحب الشامة والمدثر والمطوق، واقعدوا في الدكة وقدم اربعه وثلاثون رجلا من القرامطة فقطعت ايديهم وارجلهم، وضربت أعناقهم واحدا بعد واحد.

وكانت ترمى رءوسهم وجثثهم وايديهم وارجلهم كل ما قطع منها الى اسفل الدكة.

فلما فرغ من قتل هؤلاء قدم المدثر فقطعت يداه ورجلاه، وضربت عنقه، ثم المطوق.

ثم قدم صاحب الشامة فقطعت يداه ورجلاه وأضرمت نار عظيمه، وادخل فيها خشب صليب، وكانت توضع الخشبة الموقده في خواصره وبطنه، وهو يفتح

(11/13)

عينيه ويغمضهما، حتى خشي عليه ان يموت، فضربت عنقه ورفع راسه في خشبة وكبر من كان على الدكة وكبر سائر الناس في أسفلها، ثم ضربت اعناق باقى الأسرى وانصرف القواد ومن حضر ذلك الموضع وقت العشاء فلما كان بالغد حملت الرءوس الى الجسر، وصلب بدن القرمطى في الجسر الأعلى ببغداد، وحفرت لأبدان القتلى آبار الى جانب الدكة، فطرحوا فيها ثم امر بعد ذلك بايام بهدم الدكة ففعل ذلك.

واستامن على يدي القاسم بن سيما رجل من القرامطة، يسمى اسماعيل ابن النعمان، ويكنى أبا محمد، لم يكن بقي منهم بنواحي الشام غيره وغير من انضوى اليه، وكان هذا الرجل من موالي بنى العليص، فرغب في الدخول في الطاعة، خوفا على نفسه، فأومن هو ومن معه، وهم نيف وستون رجلا، ووصلوا الى بغداد.

واجريت لهم الأرزاق، واحسن اليهم ثم صرفوا مع القاسم بن سيما الى عمله، وأقاموا معه مده فهموا بالغدر به فوضع السيف فيهم، واباد جميعهم.

وفي آخر جمادى الاولى من هذه السنه ورد كتاب من ناحيه جبى بان سيلا أتاها من الجبل، غرق فيه نحو من ثلاثين فرسخا وذهب فيه خلق كثير، وخربت به المنازل والقرى، وهلكت المواشى والغلات، واخرج من الغرقى الف ومائتان سوى من لم يوجد منهم.

وفي يوم الأحد غره رجب، خلع المكتفي على محمد بن سليمان كاتب الجيش وعلى وجوه القواد، وامرهم بالسمع والطاعة لمحمد بن سليمان، وبرز محمد الى مضربه بباب الشماسيه وعسكر هنالك، ثم خرج بالجيوش الى جانب دمشق، لقبض الاعمال من هارون بن خمارويه إذ تبين ضعفه، وذهب رجاله في حرب القرامطة، ورحل محمد بن سليمان في زهاء عشره آلاف، وذلك لست خلون من رجب، وامر بالجد في المسير.

ولثلاث بقين من رجب قرئ على الناس كتاب لإسماعيل بن احمد بان الترك قصدوا المسلمين في جيش عظيم، وان في عسكرهم سبعمائة قبة تركية لرؤساء منهم خاصه فنودي في الناس بالنفير وخرج مع صاحب العسكر خلق كثير فوافى

(11/14)

الترك غارين، فكبسوهم ليلا، وقتل منهم خلق كثير، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم وانصرف المسلمون سالمين غانمين.

وورد أيضا الخبر من الثغور، بان صاحب الروم وجه إليها عسكرا فيه عشره صلبان ومائه الف رجل، فأغاروا وكبسوا واحرقوا ثم ورد كتاب ابى معد بان الاخبار اتصلت من طرسوس بان غلام زرافه خرج الى مدينه انطاليه على ساحل البحر.

فافتتحها عنوه، وقتل بها خمسه آلاف رجل من الروم، واسر نحو هذه العده منهم، واستنقذ من أسارى المسلمين اربعه آلاف انسان، ووجد للروم ستين مركبا فغرقها وأخذ ما كان فيها من الذهب والفضه والمتاع والانيه وان كل رجل حضر هذه الغزاة أصاب في فيئه الف دينار، فاستبشر المسلمون بذلك.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس بْن محمد

(11/15)

ثم دخلت

سنه اثنتين وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها وجه صاحب البصره الى السلطان رجلا ذكر انه اراد الخروج عليه، وصار الى واسط مخالفا بها، فاقصد اليه من يقبض عليه وعلى قوم ذكروا انهم بايعوه، ووجه بهم الى بغداد، فحمل هذا الرجل على فالج، وبين يديه ابن له صبى على جمل، ومعه سبعه وثلاثون رجلا، على جمال عليهم برانس الحرير، واكثرهم يستغيث ويبكى، ويحلف انه بريء فامر المكتفي بحبسهم وفي هذه السنه اغارت الروم على مرعش ونواحيها، فنفر اهل المصيصة وطرسوس، وأصيبت جماعه من المسلمين فيهم ابو الرجال بن ابى بكار.

وفيها انتهى محمد بن سليمان الكاتب الى احواز مصر لحرب هارون، ووجه اليه المكتفي في البحر دميانه، وامره بدخول النيل، وقطع المواد عمن بمصر من الجند، فمضى وقطع عن اهل مصر الميرة، وزحف اليهم محمد بن سليمان على الظهر، حتى دنا من الفسطاط، وكاتب القواد الذين بها، فخرج اليه بدر الحمامي، وكان رئيس القوم، ثم تتابع قواد مصر بالخروج اليه، والاستئمان له، فلما راى ذلك هارون ومن بقي معه خرجوا محاربين لمحمد بن سليمان، وكانت بينهم وقعات.

ثم انها وقعت بين اصحاب هارون في بعض الأيام عصبية اقتتلوا فيها، فخرج اليهم هارون ليسكنهم، فرماه بعض المغاربه بسهم فقتله وبلغ محمد بن سليمان الخبر، فدخل هو ومن معه الفسطاط، واحتووا على دور آل طولون وأموالهم، وتقبض على جميعهم، وهم بضعه عشر رجلا، فقيدهم وحبسهم، واستصفى أموالهم، وكتب بالفتح الى المكتفي، وكانت هذه الوقيعه في صفر، وكتب الى محمد بن سليمان في

(11/16)

اشخاص آل طولون الى بغداد، والا يبقى منهم أحدا بمصر ولا الشام، ففعل ذلك.

ولثلاث خلون من ربيع الاول، سقط الحائط من الجسر الاول على جثه القرمطى وهو مصلوب، فطحنه ولم يبق منه شيء.

4 وفي شهر رمضان ورد الخبر على السلطان بان قائدا من القواد المصريين يعرف بالخليجى، ويسمى بابراهيم تخلف عن محمد بن سليمان في آخر حدود مصر، مع جماعه استمالهم من الجند وغيرهم، ومضى الى مصر مخالفا للسلطان، وكان معه في طريقه جماعه أحبوا الفتنة حتى كثر جمعه، فلما صار الى مصر اراد عيسى النوشرى محاربته، فعجز عن ذلك لكثرة من كان مع ابن الخليجي، فانحاز عنه الى الإسكندرية، واخلى مصر، فدخلها الخليجي.

وفيها ندب السلطان لمحاربه الخليجي واصلاح امر المغرب فاتكا مولى المعتضد، وضم اليه بدرا الحمامي، وجعله مشيرا عليه فيما يعمل به، وندب معه جماعه من القواد وجندا كثيرا، وخلع على فاتك وعلى بدر الحمامي لسبع خلون من شوال،.

وامرا بسرعة الخروج وتعجيل السير فخرجا لاثنتى عشره ليله خلت من شوال.

وللنصف من شوال دخل رستم مدينه طرسوس واليا عليها وعلى الثغور الشامية.

وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم لست بقين من ذي القعده، ففودى من المسلمين الف ومائتا نفس، ثم غدر الروم، وانصرفوا، ورجع المسلمون بمن في ايديهم من أسارى الروم.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ العباس بْن محمد

(11/17)

ثم دخلت

سنه ثلاث وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها ورد الخبر بان الخليجي المتغلب على مصر واقع احمد بن كيغلغ وجماعه من القواد بالقرب من العريش، فهزمهم الخليجي، اقبح هزيمه، فندب السلطان للخروج اليه جماعه من القواد المقيمين بمدينه السلام فيهم ابراهيم بن كيغلغ وغيره وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة ورد الخبر بان أخا للحسين بن زكرويه، ظهر بالدالية من طريق الفرات في نفر من اصحابه، ثم اجتمع اليه جماعه من الاعراب والمتلصصة فسار بهم نحو دمشق، في جمادى الاولى وحارب أهلها، فندب السلطان للخروج اليه الحسين بن حمدان بن حمدون، في جمع كثير من الجند ثم ورد الخبر بان هذا القرمطى سار الى طبرية، فامتنع أهلها من ادخاله، فحاربهم حتى دخلها فقتل عامه من بها من الرجال والنساء، ونهبها وانصرف الى ناحيه البادية.

وذكر من حضر مجلس محمد بن داود بن الجراح، وقد ادخل اليه قوم من القرامطة بعد قتل الحسين بن زكرويه المصلوب بجسر بغداد فقال الرجل: كان زكرويه ابو حسين المقتول مختفيا عندي في منزلي، وقد اعد له سرداب تحت الارض، عليه باب حديد، وكان لنا تنور، فإذا جاءنا الطلب، وضعنا التنور على باب السرداب، وقامت امراه تسخنه فمكث زكرويه كذلك اربع سنين، في ايام المعتضد، ثم انتقل من منزلي الى دار قد جعل فيها بيت وراء باب الدار، فإذا فتح الباب انطبق على باب البيت، فيدخل الداخل، فلا يرى باب البيت الذى هو فيه، فلم تزل هذه حاله حتى مات المعتضد، فحينئذ انفذ الدعاه، واستهوى طوائف من اهل البادية، وصار اهل قريه صوعر يتفلونه على ايديهم، ويسجدون له واعترف لزكرويه جميع من رسخ حب الكفر في قلبه من عربي ومولى ونبطي وغيرهم، بانه رئيسهم وكهفهم وملاذهم، وسموه السيد والمولى، وساروا به وهو محجوب عن اهل عسكره، والقاسم يتولى الأمور دونه، يمضيها على رايه

(11/18)

وذكر محمد بن داود ان زكرويه بن مهرويه هذا اقام رجلا كان يعلم الصبيان بقرية تدعى زابوقه، من عمل الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد، ويكنى أبا غانم، فتسمى بنصر ليعمى امره، ويخفى خبره، فاستهوى طوائف من الاصبغيين والعليصيين وصعاليك من بطون كلب، وقصد بهم ناحيه الشام، وكان عامل السلطان على دمشق والأردن احمد بن كيغلغ، وكان مقيما بمصر على حرب الخليجي، فاغتنم ذلك عبد الله ابن سعيد المتسمى بنصر وسار الى مدينه بصرى، فحارب أهلها، ثم آمنهم فلما استسلموا له قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، واستاق أموالهم، ثم نهض الى دمشق، فخرج اليه من كان بقي بها مع صالح بن الفضل خليفه احمد بن كيغلغ فقتل صالحا، وفض عسكره ولم يطمع في مدينه دمشق إذ دافعهم أهلها عنها ثم قصد القرمطى ومن معه مدينه طبرية، فقتلوا طائفه من أهلها، وسبوا النساء والذرية بها، فحينئذ انفذ السلطان لمحاربتهم الحسين بن حمدان في جماعه من القواد والرجال، فوردوا دمشق، وقد دخل القرامطة طبرية فلما اتصل بهم خروج القواد اليهم، عطفوا نحو السماوه، وتبعهم الحسين بن حمدان وهم ينتقلون من ماء الى ماء ويعورون ما وراءهم من المياه.

فانقطع الحسين عن اتباعهم لما عدم الماء، وعاد الى الرحبه، وقصدت القرامطة الى هيت، فصبحوها ولم يصلوا الى المدينة لحصانه سورها لسبع بقين من شعبان، مع طلوع الشمس، فنهبوا ربضها، وقتلوا من قدروا عليه من أهلها، واحرقت المنازل وانهبت السفن التي في الفرات، وقتل من اهل البلد نحو مائتي نفس، وأوقروا ثلاثة آلاف بعير بالأمتعة والحنطة ثم رحلوا الى البادية.

ثم شخص باثرهم محمد بن كنداج اليهم، فلما كان بقربه منهم، هربوا منه وعوروا المياه بينهم وبينه، فانفذت اليه الإبل والروايا والزاد، وكتب الى الحسين بن حمدان بالنفوذ اليهم من جهة الرحبه، والاجتماع مع محمد بن كنداج على الإيقاع بهم.

فلما احسن الكلبيون الذين كانوا مع عبد الله بن سعيد القرمطى المتسمى بنصر، وثبوا عليه، وقتلوه، وتقربوا برأسه الى محمد بن كنداج، واقتتلت القرامطة حتى وقعت بينهما الدماء.

ثم انفذ زكرويه داعيه له يسمى القاسم بن احمد، الى اكره السواد، فاستهواهم

(11/19)

ووعدهم بان ظهوره قد حضر، وانه قد بايع له بالكوفه نحو اربعين الف رجل وفي سوادها أربعمائة الف رجل، وان يوم موعدهم الذى ذكره الله يوم الزينة وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وامرهم بالمسير الى الكوفه ليفتتحوها في غداه يوم النحر، وهو يوم الخميس فإنهم لا يمنعون منها فتوجه القاسم بن احمد باهل السواد ومن يجتمع اليه من الصعاليك، حتى وافوا باب الكوفه في ثمانمائه فارس، عليهم الدروع والجواشن والإله الحسنه، ومعهم جماعه من الرجاله على الرواحل، وقد انصرف الناس عن مصلاهم، فاوقعوا بمن لحقوه من العوام، وقتلوا منهم زهاء عشرين نفسا.

وخرج اليهم إسحاق بن عمران عامل الكوفه ومن كان معه من الجند فصافوا القرامطة الحرب الى وقت العصر، وكان شعار القرامطة: يا احمد يا محمد، وهم يدعون: يا لثارات الحسين! يعنون المصلوب بجسر بغداد، وأظهروا الاعلام البيض، وضربوا على القاسم بن احمد قبة، وقالوا: هذا ابن رسول الله، فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزمت القرامطة نحو القادسية، واصلح اهل الكوفه سورهم وخندقهم، وحرسوا مدينتهم وكتب إسحاق بن عمران الى السلطان يستمده، فندب اليه جماعه فيهم طاهر بن على بن وزير ووصيف بن صوارتكين والفضل بن موسى بن بغا وبشر الخادم وجنى الصفواني ورائق الخزري، وضم اليهم جماعه من غلمان الحجر، وامر القاسم بن سيما ومن ضم اليه من رؤساء البوادى بديار ربيعه وطريق الفرات وغيرهم بالنهوض الى القرامطة، إذ كان اصحاب السلطان متفرقين في نواحي الشام ومصر، فنفذت الكتب بذلك اليهم.

وفي يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب، قرئ على المنبر ببغداد كتاب بان اهل صنعاء وسائر اهل اليمن اجتمعوا على الخارجي وحاربوه وفلوا جموعه، فانحاز الى بعض النواحي باليمن، فخلع السلطان على مظفر بن حاج، وعقد له على اليمن وخرج إليها لخمس خلون من ذي القعده، فأقام بها حتى مات ولتسع بقين من رجب اخرجت مضارب المكتفي الى باب الشماسيه، فضربت هنالك ليخرج الى الشام، ويحاصر ابن الخليجي، فورد كتاب من قبل فاتك القائد واصحابه، يذكرون

(11/20)

محاربتهم له وظفرهم به، وانهم موجهون له الى مدينه السلام، فردت مضارب المكتفي، وصرفت خزائنه، وقد كانت جاوزت تكريت، ثم ادخل مدينه السلام للنصف من شهر رمضان ابن الخليجي واحد وعشرون رجلا معه على جمال، وعليهم برانس ودراريع حرير، فحبسوا ثم خلع المكتفي على وزيره العباس بن الحسن خلعا لحسن تدبيره في امر هذا الفتح ثم لخمس خلون من شوال، ادخل بغداد راس القرمطى المتسمى بنصر الذى انتهب مدينه هيت منصوبا في قناه ولسبع خلون من شوال ورد الخبر مدينه السلام، بان الروم أغاروا على قورس وقتلوا مقاتلتهم، ودخلوا المدينة، واخربوا مسجدها، وسبوا من بقي فيها، وقتلوا رؤساء بنى تميم المنضوين إليها وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

(11/21)

ثم دخلت

سنه اربع وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها دخل ابن كيغلغ طرسوس غازيا في أول المحرم، وخرج معه رستم، وهي غزاه رستم الثانيه، فبلغوا حصن سلندو، وافتتحوه وقتلوا من الروم مقتله عظيمه، وأسروا وسبوا نحوا من خمسه آلاف راس، وانصرفوا سالمين.

ولإحدى عشره ليله خلت من المحرم، ورد الخبر بان زكرويه القرمطى، ارتحل من نهر المثنية يريد الحاج وانه وافى موضعا بينه وبين بعض مراحلهم اربعه اميال.

وذكر محمد بن داود انهم مضوا في جهة المشرق، حتى صاروا بماء سليم، وصار ما بينهم وبين السواد مفازة، فأقام بموضعه ينتظر قافلة الحاج حتى وافته لسبع خلون من المحرم، فانذرهم اهل المنزل بارتصاد القرامطة لهم، وان بينهم وبين موضعهم اربعه اميال فارتحلوا ولم يقيموا، وكان في هذه القافلة ابن موسى وسيما الابراهيمى فلما امعنت القافلة في السير، صار القرمطى الى الموضع الذى انتقلت عنه القافلة.

وسال اهل القيروان عنها فاخبروه انها تنقلت ولم تقم، فاتهمهم بانذار القافلة وقتل من العلافين بها جماعه، واحرق العلف ثم ارتصد أيضا زكرويه قافلة خراسان، فاوقع بأهلها وجعل اصحابه ينخسون الجمال بالرماح، ويبعجونها بالسيوف، فنفرت واختلطت القافلة، وأكب اصحاب زكرويه على الحاج، فقتلوهم كيف شاءوا، وسبوا النساء، واحتووا على ما في القافلة.

ثم وافى عليهم اهل القافلة الثانيه، وفيها المبارك القمي واحمد بن نصر العقيلي واحمد ابن على بن الحسين الهمذاني، وقد كان رحل القرامطة عن محلتهم، وعوروا مياهها وملأوا بركها بجيف الإبل والدواب التي كانت معهم، وانتقلوا الى منزل العقبه فوافاهم بها اهل القافلة الثانيه، ودارت بينهم حرب شديده، حتى اشرف اهل القافلة على الظفر بالقرامطة، وكشفوهم ثم ان الفجره تمكنوا في ساقتهم من غره، فركبوها ووضعوا

(11/22)

رماحهم في جنوب ابلهم وبطونها، فطرحتهم الإبل وتمكنوا منهم، فقتلوهم عن آخرهم الا من استفدوه، وسبوا النساء واكتسحوا الأموال والأمتعة، وقتل المبارك القمي والمظفر ابنه، وقتل ابو العشائر، ثم قطعت يداه ورجلاه ثم ضربت عنقه، وافلت من الجرحى قوم وقعوا بين القتلى، فتحاملوا في الليل ومضوا فمنهم من مات في الطريق، ومنهم من نجا، وهم قليل وكان نساء القرامطة وصبيانهم يطرفون بين القتلى ويعرضون عليهم الماء، فمن كان فيه رمق، او طلب الماء اجهزوا عليه وقيل انه كان في القافلة من الحاج نحو عشرين الف رجل فقتل جميعهم غير نفر يسير وذكر ان الذى أخذوا من المال والأمتعة في هذه القافلة قيمه الفى الف دينار، وورد الخبر على السلطان بمدينه السلام، عشيه يوم الجمعه لاربع عشر ليله بقيت من المحرم بما كان من فعل القرامطة بالحاج، فعظم ذلك عليه، وعلى الناس، وندب السلطان محمد ابن داود بن الجراح الوزير للخروج الى الكوفه، والمقام بها، وانفاذ الجيوش الى القرمطى، فخرج من بغداد لإحدى عشره ليله بقيت من المحرم، وحمل معه اموالا كثيره لاعطاء الجند ثم صار زكرويه الى زبالة فهولها وبث الطلائع امامه ووراءه خوفا من اصحاب السلطان وارتصادا لورود القافلة الاخرى التي كانت فيها الاثقال واموال التجار وجوهر نفيس للسلطان، وبها من القواد نفيس المولدى وصالح الأسود، ومعه الشمسه والخزانه، وكان المعتضد قد جعل في الشمسه جوهرا نفيسا، ومعهم أيضا ابراهيم بن ابى الاشعث، قاضى مكة والمدينة، وميمون بن ابراهيم الكاتب والفرات بن احمد بن الفرات والحسن بن اسماعيل وعلى بن العباس النهيكى.

فلما صارت هذه القافلة بفيد، بلغهم خبر القرامطة فأقاموا أياما ينتظرون القوه من قبل السلطان، واقبل القرامطة الى موضع يعرف بالخليج، فلقوا القافلة، وحاربوا أهلها ثلاثة ايام ثم عطش اهل القافلة وكانوا على غير ماء، فلم يتمكنوا منها، فاستسلموا، فوضع القرامطة فيهم السيف، ولم يفلت منهم الا اليسير، وأخذ القرامطة جميع ما في القافلة، وسبوا النساء، واكتسحوا الأموال ثم توجه زكرويه بمن معه الى فيد، وبها عامل السلطان فتحصن منه، وجعل زكرويه يراسل اهل فيد بان يسلموا اليه عاملهم فلم يجيبوه الى ذلك ثم تنقل الى النباج ثم الى حفير ابى موسى الأشعري

(11/23)

وفي أول شهر ربيع الاول انهض المكتفي وصيف بن سوارتكين ومعه جماعه من القواد الى القرامطة فنفذوا من القادسية على طريق خفان، والتقى وصيف بالقرامطة، يوم السبت لثمان بقين من ربيع الاول، فاقتتلوا يومهم ذلك، حتى حجز بينهم المساء، ثم عاودهم الحرب في اليوم الثانى، فظفر جيش السلطان بالقرامطة، وقتلوا منهم مقتله عظيمه، وخلصوا الى زكرويه، فضربه بعض الجند ضربه بالسيف، اتصلت بدماغه، وأخذ أسيرا، وأخذ معه ابنه وزوجته وكاتبه وجماعه من خاصته وقرابته واحتوى الجند على جميع ما في عسكره، وعاش زكرويه خمسه ايام ثم مات فشق بطنه، وحمل كذلك وانطلق من كان بقي في يديه من اسرى الحاج وفيها غزا ابن كيغلغ من طرسوس، فأصاب من العدو اربعه آلاف راس سبى، ودواب ومواشى كثيره ومتاعا، واسلم على يده بطريق من البطارقه.

وفيها كتب أندرونقس البطريق، وكان على حرب اهل الثغور من قبل صاحب الروم الى السلطان يطلب الامان، فأجيب الى ذلك، وخرج بنحو مائتي نفس من المسلمين كانوا عنده اسرى، واخرج ماله ومتاعه الى طرسوس وفي جمادى الآخرة ظفر الحسين بن حمدان بجماعه من اصحاب زكرويه كانوا هربوا من الوقعه، فقتل اكثرهم واسر نساءهم وصبيانهم.

وفيها وافى رسل ملك الروم باب الشماسيه بكتاب الى المكتفي يسأله الفداء بمن معهم من المسلمين لمن في أيدي الاسلام من الروم، فدخلوا بغداد ومعهم هديه كبيره وعشره من أسارى المسلمين.

وفيها أخذ قوم من اصحاب زكرويه أيضا ووجهوا الى باب السلطان.

وفيها كانت وقعه بين الحسين بن حمدان واعراب كلب والنمر واسد وغيرهم كانوا خرجوا عليه فهزموه حتى بلغوا به باب حلب.

وفيها هزم وصيف بن سوارتكين الاعراب بفيد ثم رحل سالما بمن معه من الحاج.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

(11/24)

ثم دخلت

سنه خمس وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)

[أخبار متفرقة]

فمن ذلك ما كان من خروج عبد الله بن ابراهيم المسعى عن مدينه أصبهان الى قريه من قراها على فراسخ منها، وانضمام نحو من عشره آلاف كردى اليه، مظهرا الخلاف على السلطان، فامر المكتفي بدرا الحمامي بالشخوص اليه، وضم اليه جماعه من القواد في نحو من خمسه آلاف من الجند.

وفيها كانت وقعه للحر بن موسى على اعراب طيّئ، فواقعهم على غره منهم، فقتل من رجالهم سبعين، واسر من فرسانهم جماعه وفيها توفى اسماعيل بن احمد في صفر، لاربع عشره ليله خلت منه، وقام ابنه احمد ابن اسماعيل في عمل ابيه مقامه وذكر ان المكتفي قعد له وعقد بيده لواءه، ودفعه الى طاهر بن على، وخلع عليه، وامره بالخروج اليه باللواء.

وفيها وجه منصور بن عبد الله بن منصور الكاتب الى عبد الله بن ابراهيم المسمعي وكتب اليه يخوفه عاقبه الخلاف، فتوجه اليه فلما صار اليه ناظره، فرجع الى طاعه السلطان، وشخص في نفر من غلمانه، واستخلف بأصبهان خليفه له ومعه منصور بن عبد الله حتى صار الى باب السلطان، فرضى عنه المكتفي ووصله وخلع عليه وعلى ابنه.

وفيها اوقع الحر بن موسى بالكردى المتغلب على تلك الناحية، فتعلق بالجبال فلم يدرك.

وفيها فتح المظفر بن حاج ما كان تغلب عليه بعض الخوارج باليمن، وأخذ رئيسا من رؤسائهم يعرف بالحكيمى.

وفيها لثلاث عشره ليله بقيت من جمادى الآخرة امر خاقان المفلحى بالخروج الى اذربيجان لحرب يوسف بن ابى الساج، وضم اليه نحو اربعه آلاف رجل من الجند.

ولثلاث عشره ليله بقيت من شهر رمضان دخل بغداد رسول ابى مضر بن الاغلب، ومعه فتح الانجحى وهدايا وجه بها معه الى المكتفي

(11/25)

وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعده ففدى ممن كان عندهم من الرجال ثلاثة آلاف نفس.

ذكر عله المكتفي بالله وما كان من امره الى وقت وفاته

وكان المكتفي على بن احمد يشكو عله في جوفه، وفسادا في احشائه، فاشتدت العله به في شعبان من هذا العام، واخذه ذرب شديد افرط عليه، وأزال عقله، حتى أخذ صافى الحرمي خاتمه من يده، وانفذه الى وزيره العباس بن الحسن وهو لا يعقل شيئا من ذلك، وكان العباس يكره ان يلى الأمر عبد الله بن المعتز، ويخافه خوفا شديدا، فعمل في تصيير الخلافه الى ابى عبد الله محمد بن المعتمد على الله، فاحضره داره ليلا، واحضر القاضى محمد بن يوسف وحده، وكلمه بحضرته، وقال له:

ما لي عندك ان سقت هذا الأمر إليك؟ فقال له محمد بن المعتمد: لك عندي ما تستحقه من الجزاء والايثار وقرب المنزله، فقال له العباس: اريد ان تحلف لي الا تخليني من احدى حالتين، اما ان تريد خدمتي فانصح لك وابلغ جهدي في طاعتك وجمع المال لك، كما فعلته بغيرك، واما ان تؤثر غيرى فتوقرنى وتحفظني، ولا تبسط على يدا في نفسي ومالي، ولا على احد بسببي، فقال له محمد بن المعتمد- وكان حسن العقل، جميل المذهب: لو لم تسق هذا الى ما كان لي معدل عنك في كفايتك وحسن اثرك فكيف إذا كنت السبب له، والسبيل اليه! فقال له العباس:

اريد ان تحلف لي على ذلك فقال: ان لم اوف لك بغير يمين لم اوف لك بيمين، فقال القاضى محمد بن يوسف للعباس: ارض منه بهذا، فانه اصلح من اليمين.

قال العباس: قد قنعت ورضيت ثم قال له العباس: مد يدك حتى ابايعك.

فقال له محمد: وما فعل المكتفي؟ قال: هو في آخر امره، واظنه، قد تلف فقال محمد: ما كان الله ليراني أمد يدي لبيعه وروح المكتفي في جسده، ولكن ان مات فعلت ذلك فقال محمد بن يوسف: الصواب ما قال، وانصرفوا على هذه الحال

(11/26)

ثم ان المكتفي افاق وعقل امره، فقال له صافى الحرمي: لو راى امير المؤمنين ان يوجه الى عبد الله بن المعتز ومحمد بن المعتمد، فيوكل بهما في داره ويحبسهما فيها، فان الناس ذكروهما لهذا الأمر، وارجفوا بهما، فقال له المكتفي: هل بلغك ان أحدهما احدث بيعه علينا؟ فقال له صافى: لا، قال له: فما ارى لهما في ارجاف الناس ذنبا فلا تعرض لهما، ووقع الكلام بنفسه، وخاف ان يزول الأمر عن ولد ابيه، فكان إذا عرض له بشيء من هذا الأمر استجر فيه الحديث وتابع المعنى واهتبل به جدا.

وعرض لمحمد بن المعتمد في شهر رمضان فالج في مجلس العباس بن الحسن الوزير من غيظ اصابه في مناظره كانت بينه وبين ابن عمرويه صاحب الشرطه، فامر العباس ان يحمل في قبة من قبابه على افره بغاله، فحمل الى منزله في تلك الصورة، وانصرفت نفسه الى تأميل غيره.

ثم اشتدت العله بالمكتفى في أول ذي القعده، فسال عن أخيه ابى الفضل جعفر فصح عنده انه بالغ، فاحضر القضاه واشهدهم بانه قد جعل العهد اليه من بعده.

ذكر وفاه المكتفي

ومات المكتفي بالله على بن احمد ليله الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعده سنه خمس وتسعين ومائتين، ودفن يوم الاثنين في دار محمد بن عبد الله بن طاهر.

وكانت خلافته ست سنين وتسعه عشر يوما، وكان يوم توفى ابن اثنتين وثلاثين سنه.

وكان ولد سنه اربع وستين ومائتين وكنيته ابو محمد، وأمه أم ولد تركية، وكان جميلا رقيق اللون حسن الشعر، وافر اللحية.

وولد أبا القاسم عبد الله المستكفى، ومحمدا أبا احمد، والعباس، وعبد الملك، وعيسى، وعبد الصمد، والفضل، وجعفرا، وموسى، وأم محمد، وأم الفضل، وأم سلمه، وأم العباس، وأم العزيز، وأسماء، وساره وأمه الواحد.

قال: وكان جعفر بن المعتضد بدار ابن طاهر التي هي مستقر اولاد الخلفاء فتوجه فيه صافى الحرمي لساعتين بقيتا من ليله الأحد واحضره القصر وقد كان العباس

(11/27)

ابن الحسن فارق صافيا على ان يجيء بالمقتدر الى داره التي كان يسكنها على دجلة، لينحدر به معه الى القصر، فعرج به صافى عن دار العباس إذ خاف حيله تستعمل عليه، وعد ذلك من حزم صافى وعقله.

ذكر خلافه المقتدر

وفيها بويع جعفر بن احمد المقتدر يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعده سنه خمس وتسعين ومائتين وهو يومئذ ابن ثلاث عشره سنه واحد وعشرين يوما، وكان مولده يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان من سنه اثنتين وثمانين ومائتين، وكنيته ابو الفضل وأمه أم ولد يقال لها شغب وكانت البيعه للمقتدر في القصر المعروف بالحسنى، فلما دخله وراى السرير منصوبا امر بحصير صلاه فبسط له، وصلى اربع ركعات وما زال يرفع صوته بالاستخارة ثم جلس على السرير، وبايعه الناس ودارت البيعه على يدي صافى الحرمي وفاتك المعتضدي، وحضر العباس بن الحسن الوزير وابنه احمد حتى تمت البيعه ثم غسل المكتفي، ودفن في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر.

وذكر الطبرى انه كان في بيت المال يوم بويع المقتدر خمسه عشر الف الف دينار، وذكر ذلك الصولي، وحكى انه كان في بيت مال العامه ستمائه الف دينار، وخلع المقتدر يوم الاثنين الثانى من بيعته على الوزير ابى احمد العباس بن الحسن خلعا مشهوره الحسن، وقلده كتابته وامر بتكنيته، وان تجرى الأمور مجراها على يده.

وقلد ابنه احمد بن العباس العرض عليه، وكتابه السيده أمه وكتابه هارون ومحمد اخويه، وكتب العباس الى الكور والاطراف بالبيعه كتابا على نسخه واحده واعطى الجند مال البيعه، للفرسان ثلاثة اشهر، وللرجاله سته اشهر، وامر اصحاب الدواوين على ما كانوا عليه، وخلع المقتدر على سوسن مولى المكتفي الذى كان حاجبه، واقره على حجابته، وخلع على فاتك المعتضدي، ومؤنس الخازن ويمن غلام المكتفي، وابن عمرويه، صاحب الشرطه ببغداد، وعلى احمد بن كيغلغ، وكان قد قدم

(11/28)

مبايعه المقتدر بقوم حاولوا فتق سجن دمشق، واقامه فتنه بها، فحملوا على جمال، وطوفوا، وخلع على كثير من الخدم، فمن كان اليه منهم عمل جعلت الخلعه عليه لإقراره على عمله، ومن لم يكن اليه عمل كانت الخلعه تشريفا له، ورد المقتدر رسوم الخلافه الى ما كانت عليه من التوسع في الطعام والشراب، واجراء الوظائف، وفرق في بنى هاشم خمسه عشر الف دينار وزادهم في الأرزاق، واعاد الرسوم، في تفريق الاضاحى على القواد والعمال واصحاب الدواوين والقضاه والجلساء، ففرق عليهم يوم الترويه ويوم عرفه من البقر والغنم ثلاثون الف راس، ومن الإبل الف راس، وامر باطلاق من كان في السجون ممن لا خصم له ولا حق لله عز وجل عليه، وبعد ان امتحن محمد بن يوسف القاضى أمورهم.

ورفع اليه ان الحوانيت والمستغلات التي بناها المكتفي في رحبه باب الطاق اضرت بالضعفاء، إذ كانوا يقعدون فيها لتجاراتهم بلا اجره لأنها افنيه واسعه، فسال عن غلتها فقيل: له تغل الف دينار في كل شهر، فقال: وما مقدار هذا في صلاح المسلمين واستجلاب حسن دعائهم! فامر بهدمها وإعادتها الى ما كانت عليه.

ولم يل الخلافه من بنى العباس اصغر سنا من المقتدر، فاستقل بالأمور، ونهض بها، واستصلح الى الخاصة والعامه وتحبب إليها، ولولا التحكم عليه في كثير من الأمور لكان الناس معه في عيش رغد، ولكن أمه وغيرها من حاشيته كانوا يفسدون كثيرا من امره.

وفي هذه السنه، كانت وقعه عج بن حاج مع الجند بمنى في اليوم الثانى من ايام منى، وقتل بينهم جماعه، وهرب الناس الذين كانوا بمنى الى بستان ابن عامر، وانتهب الجند مضرب ابى عدنان، وأصاب المنصرفين من الحاج في منصرفهم ببعض الطريق عطش، حتى مات منهم جماعه قال الطبرى: سمعت بعض من يحكى ان الرجل كان يبول في كفه ثم يشربه.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

(11/29)

ثم دخلت

سنه ست وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)

[أخبار متفرقة]

فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعه من القواد والكتاب والقضاه على خلع جعفر المقتدر، وكانوا قد تناظروا وتأمروا عند موت المكتفي على من يقدمونه للخلافة، واجمع رأيهم على عبد الله بن المعتز، فاحضروه وناظروه في تقلدها، فأجابهم الى تولى الأمر، على الا يكون في ذلك سفك دماء ولا حرب، فاخبروه ان الأمر يسلم اليه عفوا، وان من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به، فبايعهم على ذلك سرا، وكان الراس في هذا الأمر العباس بن الحسن الوزير، ومحمد بن داود ابن الجراح، وابو المثنى احمد بن يعقوب القاضى وغيرهم، فخالفهم على ذلك العباس، ونقض ما كان عقده معهم في امر ابن المعتز، وأحب ان يختبر امر المقتدر، وان كان فيه محمل للقيام بالخلافة مع حداثة سنه، وكيف يكون حاله معه، وعلم ان تحكمه عليه سيكون فوق تحكمه على غيره، فصدهم عن ابن المعتز، وانفذ عقد البيعه للمقتدر على ما تقدم ذكره.

ثم ان المقتدر اجرى الأمور مجراها في حياه المكتفي، وقلد العباس جميعها، وزاده في المنزله والحظوة وصير اليه الأمر والنهى، فتغير العباس على القواد، واستخف بهم واشتد كبره على الناس واحتجابه عنهم واستخفافه بكل صنف منهم، وكان قبل ذلك صافى النيه لعامه القواد والخدم منصفا لهم في اذنه لهم ولقائه ثم تجبر عليهم، وكانوا يمشون بين يديه فلا يأمرهم بالركوب، وترك الوقوف على المتظلمين، والسماع منهم، فاستثقله الخاصة والعامه، وكثر الطعن عليه، والانكار لفعله والهجاء له، فقال بعض شعراء بغداد فيه:

يا أبا احمد لا تحسن بأيامك ظنا ... واحذر الدهر فكم اهلك املاكا وافنى

كم رأينا من وزير صار في الأجداث رهنا

(11/30)

اين من كنت تراهم درجوا قرنا فقرنا ... فتجنب مركب الكبر وقل للناس حسنا

ربما امسى بعزل من باصباح يهنأ ... وقبيح بمطاع الأمر الا يتأنى

اترك الناس وأيامك فيهم تتمنى

وكان مما يشنع به الحسين بن حمدان على العباس، انه شرب يوما عنده، فلما سكر الحسين، استخرج العباس خاتمه من اصبعه، وانفذه الى جاريته مع فتى له، وقال لها: يقول لك مولاك: اشتهى الوزير سماع غنائك، فاحضرى الساعة ولا تتاخرى، فهذا خاتمي علامه إليك قال الحسين: وقد كنت خفت منه شيئا من هذا لبلاغات بلغتني عنه، وكتب رايت له إليها بخطه، فحفظت الجاريه وحذرتها، فلم تصغ الى قول الفتى ولا اجابته.

وكان الحسين يحلف مجتهدا انه سمعه يكفر ويستخف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وانه قال في بعض ما جرى من القول: قد كان أجيرا لخديجة، ثم جاء منه ما رايت قال: فاعتقدت قتله من ذلك الوقت، واعتقد غيره من القواد فيه مثل ذلك، واجتمعت القلوب على بغضته، فحينئذ وثب به القوم فقتلوه، وكان الذى تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن سوارتكين وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الاول من العام المؤرخ.

ذكر البيعه لابن المعتز

وفي غد هذا اليوم خلع المقتدر، خلعه القواد والكتاب وقضاه بغداد، ثم وجهوا في عبد الله بن المعتز، وادخل دار ابراهيم بن احمد الماذرائى التي على دجلة والصراة ثم حمل منها الى دار المكتفي بظهر المخرم، واحضر القضاه، وبايعوا عبد الله بن المعتز فحضرهم ولقبوه المنتصف بالله، وهو لقب اختاره لنفسه.

واستوزر محمد بن داود بن الجراح، واستحلفه على الجيش، وكان الناس

(11/31)

يحلفون بحضره القضاه، وكان الذى يأخذ البيعه على الناس وعلى القواد ويتولى استحلافهم والدعاء باسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش، واحضر عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى وطولب بالبيعه لابن المعتز فلجلج، وقال:

ما فعل جعفر المقتدر! فدفع في صدره وقتل ابو المثنى لما توقف عن البيعه، ولم يشك الناس ان الأمر تام له إذ اجتمع اهل الدولة عليه، وكان اجل من تخلف عن سوسن الحاجب، فانه بقي بدار المقتدر مثبتا لأمره وحاميا له.

وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار التي كان بها المقتدر حرب شديده من غدوه الى انتصاف النهار، وثبت سوسن الحاجب به وحامى عنه، واحضر الغلمان ووعدهم الزيادة، وقوى نفس صافى ونفس مؤنس الخادم ومؤنس الخازن، فكلهم حماه ودافع عنه، حتى انفضت الجموع التي كان محمد بن داود جمعها لبيعه ابن المعتز، وذلك ان مؤنسا الخادم حمل غلمانا من غلمان الدار الى الشذوات، فصاعد بها في دجلة فلما جازوا الدار التي كان فيها ابن المعتز ومحمد ابن داود صاحوا بهم، ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز ومن كان معه، ولحق بعض الذين كانوا بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا اليه بأنهم منعوا من المصير نحوه، واختفى بعضهم، فأخذوا وقتلوا وانتهبت العامه دور محمد بن داود والعباس بن الحسن، وأخذ ابن المعتز فقتل وقتل معه جماعه، منهم احمد بن يعقوب القاضى، ذبح ذبحا، وقالوا له:

تبايع للمقتدر! فقال: هو صبى ولا يجوز المبايعة له.

وقال الطبرى، ولم ير الناس اعجب من امر ابن المعتز والمقتدر، فان الخاصة والعامه اجتمعت على الرضا بابن المعتز وتقديمه، وخلع المقتدر لصغر سنه، فكان امر الله قدرا مقدورا، ولقد تحير الناس في امر دوله المقتدر وطول أيامها على وهي أصلها وضعف ابتنائها ثم لم ير الناس ولم يسمعوا بمثل سيرته وايامه وطول خلافته.

وقال محمد بن يحيى الصولي: وفي يوم الاثنين لتسع ليال بقين من ربيع الاول خلع المقتدر على على بن محمد بن الفرات للوزارة، وركب الناس معه الى داره بسوق العطش، وتكلم في اطلاق جماعه ممن كان بايع ابن المعتز، فاذن له المقتدر في ذلك،

(11/32)

فخلى سبيل طاهر بن على ونزار بن محمد وابراهيم بن احمد الماذرائى والحسين بن عبد الله الجوهري المعروف بابن الجصاص، ووضع العطاء للغلمان والأولياء الذين بقوا مع المقتدر صله ثانيه للفرسان ثلاثة اشهر وللرجاله ست نوائب، وولى مؤنسا الخادم شرطه جانبي بغداد وما يليها، وتقدم اليه بالنداء على محمد بن داود ويمن ومحمد الرقاص، وان يبذل لمن جاء بمحمد بن داود عشره آلاف دينار، وخلع على عبد الله بن على بن محمد بن ابى الشوارب لقضاء جانبي بغداد، وقلد الوزير على بن محمد أخاه جعفر بن محمد ديوان المشرق والمغرب، واشاع انه يخلفه عليهم وقلد نزارا الكوفه وطساسيجها، وعزل عنها المسمعي، ثم عزل نزارا وولى الكوفه نجحا الطولونى، وخلع على ابى الأغر خليفه بن المبارك السلمى لغزاه الصائفه وعظم امر سوسن الحاجب وتجبر وطغى، فاتهمه المقتدر ولم يأمنه، وادار الرأي في امره مع ابن الفرات، فاوصى اليه المقتدر: خذ من الرجال من شئت ومن المال والسلاح ما شئت، وتول من الاعمال ما احببت، وخل عن الدار أولها من اريد فأبى عليه، وقال:

امر أخذته بالسيف لا اتركه الا بالسيف فاحكم المقتدر الرأي مع ابن الفرات في قتله فلما دخل معه الميدان في بعض الأيام اظهر صافى الحرمي العله، وجلس في بعض طرق الميدان متعاللا فنزل سوسن ليعوده، فوثب اليه جماعه فيهم تكين الخاصة وغيره من القواد، فأخذوا سيفه، وادخلوه بيتا، فلما سمع من كان معه بذلك من غلمانه واصحابه تفرقوا، ومات سوسن بعد ايام في الحبس.

وقلد الحجابه نصرا الحاجب المعروف بالقشورى، وكان موصوفا بعقل وفضل.

وكان النصارى في آخر ايام العباس بن الحسن قد علا امرهم، وغلب عليهم الكتاب منهم، فرفع في امرهم الى المقتدر، فعهد فيهم بنحو ما كان عهد به المتوكل من رفضهم واطراحهم واسقاطهم عن الخدمه، ثم لم يدم ذلك فيهم.

وفي يوم السبت لاربع بقين من ربيع الاول سقط ببغداد الثلج من غدوه الى العصر، حتى صار في السطوح والدور منه نحو من اربعه أصابع، وذلك امر لم ير مثله ببغداد.

وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الاول سلم محمد بن يوسف القاضى ومحمد

(11/33)

ابن عمرويه وابن الجصاص والأزرق كاتب الجيش في جماعه غيرهم الى مؤنس الخازن، فقتل بعضهم، وشفع في بعض فاطلق.

وفيها وجه القاسم بن سما في جماعه من القواد والجند في طلب الحسين بن حمدان، فشخص لذلك حتى صار الى قرقيسيا والرحبه، وكتب الى ابى الهيجاء عبد الله بن حمدان بان يطلب أخاه ويتبعه، فخرج في اثره، والتقى بأخيه بين تكريت والسودقانيه، بموضع يعرف بالأعمى، فانهزم عبد الله عن أخيه الحسين ثم بعث الحسين الى السلطان يطلب الامان لنفسه فاعطى ذلك.

ولسبع بقين من جمادى الآخرة خلع على ابن دليل النصراني كاتب ابن ابى الساج ورسوله، وعقد ليوسف على اذربيجان والمراغه وحملت اليه الخلع، وامر بالشخوص الى عمله وللنصف من شعبان خلع على مؤنس الخادم، وامر بالشخوص الى طرسوس لغزو الروم، فخرج في عسكر كثيف وجماعه من القواد وكان مؤنس قد ثقل على صافى الحرمي، وأحب الا يجاوره ببغداد، فيسعى مع الوزير ابن الفرات في ابعاده، فاغزى في الصائفه، وضم اليه ابو الأغر خليفه بن المبارك فلم يرضه مؤنس، وكتب الى المقتدر يذمه، فكتب اليه في الانصراف فانصرف، وحبس واجتمع قول الناس بلا اختلاف بينهم، انه لم يكن في زمن ابى الأغر فارس للعرب ولا للعجم اشجع منه ولا اعظم ايدا وجلدا.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

(11/34)

ثم دخلت

سنه سبع وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) في المحرم من هذا العام، ولد للمقتدر ابن فامر ان يكتب اسمه على الاعلام والتراس والدنانير والدراهم والسمات ولم يعش ذلك المولود.

وفيها ورد كتاب مؤنس الخادم على السلطان لست خلون من المحرم بانه ظهر على الروم في غزاته اليهم التي تقدم ذكرها في سنه ست وتسعين، وهزمهم وقتل منهم مقتله عظيمه واسر لهم اعلاجا كثيره، وقرئ كتابه بذلك على العامه ببغداد، ثم قفل مؤنس منصرفا.

وفي صفر من هذه السنه اخر طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الصفار ايراد ما كان يلزمه من المال الموظف عليه من اموال فارس، ودافع به، فكتب سبكرى، غلام عمرو بن الليث، يتضمن حمل المال وايراده، واستاذن في توجيه طاهر واخويه اسرى الى باب السلطان، فأجيب الى ذلك، فاجتمع سبكرى ومن والاه عليهم، ودارت بينهم حرب شديده، حتى استولى سبكرى على فارس وكرمان، وبعث بطاهر واخويه الى السلطان فادخلوا في عماريات مكشوفة، وخلع على رسول سبكرى.

ثم ان الليث بن على بن الليث لما بلغه فعل سبكرى بطاهر ويعقوب ابنى محمد، غضب لذلك، وسار يريد فارس، فتلقاه سبكرى، واقتتلا قتالا شديدا، فانهزم سبكرى، وقدم على السلطان يستمده، فندب مؤنس الخادم الى فارس، وضم اليه زهاء خمسه آلاف من الأولياء والغلمان، وكتب الى اصحاب المعاون بأصبهان والاهواز والجبل في معاونه مؤنس على محاربه الليث بن على، واشخص معه الوزير ابن الفرات محمد بن جعفر العبرتاى، وولاه الخراج والضياع بفارس، فاحتاج الجند الى أرزاقهم، فوعدهم بها محمد بن جعفر فلم يرضوا وعده، ووثبوا عليه ونهبوا عسكره، واصابته ضربه، وزعم بعض اصحاب مؤنس انه أخذ له مائه الف دينار

(11/35)

وفي ليله الأربعاء لخمس خلون من شهر ربيع الآخر سنه سبع وتسعين ولد للمقتدر ابو العباس محمد الراضي بالله بدير حنيناء قبل طلوع الفجر.

وفي ذي الحجه من هذا العام كانت بين مؤنس الخادم وبين الليث بن على حرب بناحيه النوبندجان، فهزم الليث واصحابه، واسر مؤنس الليث وأخاه اسماعيل وعلى بن حسين بن درهم والفضل بن عنبر، وصاروا في قبضته، فحملهم بين يديه الى بغداد، وادخل الليث على فيل، ومن كان معه على جمال مشهورين، قد البسوا البرانس ثم حبسوا.

وفيها وجه المقتدر القاسم بن سيما غازيا في الصائفه الى الروم في جمع كثيف من الجند في شوال فغنم وسبى.

وفيها ولى ورقاء بن محمد الشيبانى امر السواد بطريق مكة فرفع المؤن عن الناس، وحسم عنها ضر الاعراب وما كانوا يفعلونه في الطريق من السلب والقتل، وحسن اثر ورقاء هنالك، ولم يزل مقيما بتلك الناحية الى ان رجع الحاج مسلمين شاكرين لفعله فيهم.

ولجمادى الاولى من هذا العام ورد الخبر بان اركان البيت الأربعة غرقت في سيول كانت بمكة وغرق الطواف وفاضت بئر زمزم، وانه كان سيلا لم ير مثله في قديم الأيام وحديثها.

وفي شوال منها توفى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر المعروف بالصناديقى، ودفن في مقابر قريش، وصلى عليه القاضى احمد بن إسحاق بن البهلول.

وفي شهر رمضان منها توفى يوسف بن يعقوب القاضى ومحمد بن داود الاصبهانى الفقيه.

وورد الخبر بوفاه عيسى النوشرى عامل مصر، فولى السلطان مكانه تكين الخاصة، وتوجه من بغداد الى مصر.

وفي شوال من هذه السنه توفى جعفر بن محمد بن الفرات أخو الوزير، وكان يلى ديوان المشرق والمغرب، فولى الوزير ابنه المحسن ديوان المغرب وولى ابنه الفضل ديوان المشرق.

وفي هذا العام توفى القاسم بن زرزور المغنى، وكان من الحذاق المجيدين، واسن حتى قارب تسعين سنه.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك الهاشمى.

(11/36)

ثم دخلت

سنه ثمان وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها قدم القاسم بن سيما من غزاه الصائفه الى الروم، ومعه خلق كثير من الأسرى، وخمسون علجا قد حملوا على الجمال مشهورين، بأيدي جماعه منهم اعلام الروم، عليها صلبان الذهب والفضه، وذلك يوم الخميس لاربع عشر ليله بقيت من شهر ربيع الاول.

وفيها خالف سبكرى والتوى بما عليه، فندب لمحاربته وصيف كامه غلام الموفق، وشخص معه وجوه القواد، وفيهم الحسين بن حمدان وبدر غلام النوشرى وبدر الكبير المعروف بالحمامى، فواقعوا سبكرى في باب شيراز وهزموه، وأسروا القتال صاحبه وهرب بعض قواده عنه وفتق عسكره بماله واثقاله الى ناحيه كرمان، وورد الخبر بان سبكرى اسر، وكان الذى اسره سيمجور غلام احمد بن اسماعيل، ثم قدم وصيف كامه بالقتال صاحب سبكرى، فادخل على فيل وعليه برنس طويل، وبين يديه ثلاثة عشر أسيرا على الجمال، وعليهم دراريع وبرانس من ديباج، فخلع على وصيف وسور وطوق بطوق ذهب منظوم بجوهر، ثم دخل سبكرى وحضر دخوله الوزير ابن الفرات وسائر القواد يوم الاثنين لإحدى عشر ليله بقيت من شوال، وكان قد حمل على فيل وشهر ببرنس طويل، وبين يديه الكرك ومن يضرب بالصنوج، وخلفه الليث بن على على فيل آخر، فخلع على ابن الفرات وحمل وكان يوما مشهودا.

وحدث محمد بن يحيى الصولي انه شهد هذا اليوم قال: فتذكرت فيه حديثا كان حدثناه صافى الحرمي يوم بويع فيه المقتدر بالله، قال صافى: رايت الخليفة المقتدر بالله وهو صبى في حجر المعتضد، والمعتضد ينظر في دفتر كان كثيرا ما ينظر فيه، وهو يضرب على كتف المقتدر، ويقول له: كأني بملوك فارس قد ادخلوا إليك على الفيله والجمال، عليهم البرانس، وكان صافى يوم بيعه المقتدر يحدث بهذا، ويدعو الى الله ان يحقق هذا القول

(11/37)

وفيها وردت على المقتدر هدايا من خراسان أنفذها اليه احمد بن اسماعيل بن احمد، فيها غلمان على دوابهم وخيولهم وثياب ومسك كثير وبزاه وسمور وطرائف، لم يعهد بمثلها فيما اهدى من قبل.

وفيها جلس ابن الفرات الوزير لكتاب العطاء، فحاسبهم واشرف لهم على خيانة نحو مائه الف دينار، فورى عن الأمر قليلا إذ كان كتابه منهم، واستخرج ما وجد من المال في رفق وستر.

وفي جمادى الآخرة من هذا العام فلج عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى، فامر المقتدر ابنه محمد بن عبد الله بتولى امور الناس خليفه لأبيه، حتى يظهر حاله وما يكون من علته فنظر كما كان ينظر أبوه، وانفذ الأمور مثل تنفيذه

(11/38)

ثم دخلت

سنه تسع وتسعين ومائتين

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)

[أخبار متفرقة]

فمن ذلك غزوه رستم الصائفه من ناحيه طرسوس، وهو والى الثغور، فحاصر حصن مليح الأرميني، ثم دخل عليه واحرق ارباض ذي الكلاع.

وفيها ورد رسول احمد بن اسماعيل بكتاب منه الى السلطان بانه فتح سجستان، وان اصحابه دخلوها واخرجوا من كان فيها من اصحاب الصفار، وان المعدل بن على ابن الليث صار اليه بمن معه من اصحابه في الامان، وكان المعدل يومئذ مقيما معهم بزرنج، وصار الى احمد بن اسماعيل وهو مقيم ببست والرخج، فوجه به احمد وبعياله ومن معه الى هراة، ووردت الخريطة بذلك على السلطان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر.

وفيها وافى بغداد العطير صاحب زكرويه ومعه الأغر، وهو احد قواد زكرويه مستأمنا

. ذكر القبض على ابن الفرات

وفي ذي الحجه غضب المقتدر على وزيره على بن محمد بن الفرات لاربع خلون منه، وحبس ووكل بدوره، وأخذ كل ما وجد له ولأهله، وانتهبت دوره اقبح نهب، وفجر الشرط بنسائه ونساء اهله، وكان ادعى عليه انه كتب الى الاعراب بان يكبسوا بغداد في خبر طويل.

واستوزر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان فكانت وزارة ابن الفرات ثلاث سنين وثمانية اشهر واثنى عشر يوما، وطولب ابن الفرات بأمواله وذخائره، فاجتمع منها مع ودائع كانت له سبعه آلاف الف دينار- فيما حكى عن الصولي- وكان مشاهدا ومشرفا على اخبارهم

(11/39)

قال: وما سمعنا بوزير جلس في الوزارة وهو يملك من العين والورق والضياع والأثاث ما يحيط بعشره آلاف الف غير ابن الفرات.

قال: وكانت له اياد جليله وفضائل كثيره قد ذكرتها في كتاب الوزراء قال ولم ير وزير اودع وجوه الناس من الأموال ما اودع ابن الفرات من قبل ولايته الوزارة، وكانت غلته تبلغ الف الف دينار ولم يمسك الناس ببغداد عن انتقاص ابن الفرات وهجوه مع حسن آثاره، واحضر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان دار المقتدر في الوقت الذى ضم فيه على ابن الفرات، فقلد الوزارة، وانصرف الى منزله بباب الشماسيه في طيار، وركب يوم الخميس بعده، فخلع عليه وحمل وقلد سيفا.

وقيل ان السبب في ولايته كان بعناية أم ولد المعتضد بامره على ان ضمن لها مائه الف دينار، وقوى امره عندها رياء كان يظهره وكان الخدم من الدار يأتونه بالكتب، فلا يكلم الواحد منهم الا بعد مائه ركعة يصليها، فكانوا ينصرفون بوصفه وما رأوا منه، وخلع على ابنه عبد الله بن محمد لخلافه ابيه، واستبدل بالعمال، وعزل كل من كان خطوطه الى على بن الفرات وآله.

وفي هذه السنه مات وصيف موشجير يوم الخميس لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان.

وفيها مات الخرقى المحدث.

وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.

(11/40)

ثم دخلت

سنه ثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها امر جعفر المقتدر برفع مطالبه المواريث عن الناس، وان يورث ذوو الارحام، ولا يعرض لأحد في ميراث الا لمن صح انه غير وارث وكان الناس من قبل ذلك في بلاء وتعلل متصل من المستخرجين والعاملين.

وفيها اخرج محمد بن إسحاق بن كنداجيق بعض اصحابه لمحاربه قوم من القرامطة جاءوا الى سوق البصره، فعاثوا بها، وبسطوا ايديهم وأسيافهم على الناس فيها، فلما واقفهم اصحاب ابن كنداجيق، صدمهم القرامطة صدمه شديده حتى هزموهم، وقتل من اصحاب ابن كنداجيق جماعه، وكان محمد بن إسحاق قد خرج كالممد لهم، فلما بلغه امرهم وشده شوكتهم انصرف مبادرا الى المدينة، فانهض السلطان محمد بن عبد الله الفارقى في رجل كثير معونه لابن كنداجيق ومددا له فأقاما بالبصرة ولم يتعرضا لمحاربه.

وفي شعبان من هذه السنه قبض على ابراهيم بن احمد الماذرائى، وعلى ابن أخيه محمد بن على بن احمد، فطالبهم ابو الهيثم بن ثوابه بخمسمائة الف، فجملوا منها خمسين ألفا الى بيت المال، وصانعوا الوزير ابن خاقان وابنه وابن ثوابه بمال كثير، وصادر ابن ثوابه جماعه على مائه الف دينار، فحمل منها ابن الجصاص عشرين ألفا، وفرضت البقية على جماعه، منهم ابن ابى الشوارب القاضى وغيره.

وظهر في هذا العام ضعف امر محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزير، وتغلب ابنه عبد الله عليه وتحكمه في الأمور دونه، وكثر التخليط من محمد في رايه وجميع امره، فكان يولى العمل الواحد جماعه في اسبوع من الأيام، وتقدم بالمصانعات حتى قلد عماله بادوريا في احد عشر شهرا احد عشر عاملا، وكان يدخل الرجل الذى قد عرفه دهرا طويلا فيسلم عليه فلا يعرفه، حتى يقول له: انا فلان ابن فلان، ثم يلقاه بعد ساعه فلا يعرفه

(11/41)

وفيها ورد الخبر بانخساف جبل بالدينور، يعرف بالتل وخروج ماء كثير من تحته غرقت فيه عده من القرى، وورد الخبر أيضا بانخساف قطعه عظيمه من جبل لبنان وسقوطها الى البحر، وكان ذلك حدثا لم ير مثله.

وفيها ورد كتاب صاحب البريد بالدينور، يذكر ان بغله هناك وضعت فلوه ونسخه كتابه:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الموقظ بعبره قلوب الغافلين، والمرشد بآياته الباب العارفين، الخالق ما يشاء بلا مثال، ذلك الله البارئ المصور في الارحام ما يشاء وان الموكل بخبر التطواف بقرماسين رفع يذكر ان بغله لرجل يعرف بابى برده من اصحاب احمد بن على المري وضعت فلوه، ويصف اجتماع الناس لذلك، وتعجبهم لما عاينوا منه، فوجهت من أحضرني البغله والفلوه فوجدت البغله كمتاء خلوقيه والفلوه سويه الخلق تامه الأعضاء منسدله الذنب سبحان الملك القدوس لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.

وكان المقتدر لما راى عجز محمد بن عبيد الله الوزير وتبلده قد انفذ احمد بن العباس أخا أم موسى الهاشمية الى الاهواز، ليقدم باحمد بن يحيى المعروف بابن ابى البغل ليوليه الوزارة، فخرج اليه، واقبل به حتى صار بواسط، فلما قرب من دار السلطان سلم احمد بن العباس على احمد بن محمد بالوزارة، وحمل اليه ثلاثة آلاف دينار، فاتصل الخبر بمحمد بن عبيد الله الوزير من قبل حاشيته وعيونه، فركب الى الدار، وصانع جماعه من الخدم والحرم، وضمن لام ولد المعتضد التي كانت عنيت بولايته في أول امره خمسين الف دينار، فنقضت امر ابن ابى البغل، ورد واليا على فارس.

وفي شوال من هذا العام توفى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكان اكثر الناس أدبا وجلاله وفهما ومروءة، وهو ابن احدى وثمانين سنه، وصلى عليه احمد بن عبد الصمد الهاشمى، ودفن في مقابر قريش وفيها مات ابو الفضل عبد الواحد بن الفضل بن عبد الوارث يوم السبت لسبع بقين من ذي الحجه.

واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك بن عبد الله الهاشمى.

(11/42)

ثم دخلت

سنه احدى وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) ففيها وافى بغداد على بن عيسى بن داود بن الجراح مقدمه من مكة، وذلك يوم الاثنين لعشر خلون من المحرم، فمضى به من فوره الى دار المقتدر، فقلد الوزارة وخلع عليه لولايتها، وقلد سيفا، وقبض على محمد بن عبيد الله وابنيه عبد الله وعبد الواحد فحبسوا وكانوا قد ركبوا في ذلك النهار الى الدار، ووعدوا بان يخلع عليهم ويسلم على بن عيسى اليهم، فسلموا اليه، ووقع الأمر بضد ما ظنوه، وقعد على ابن عيسى لمحمد بن عبيد الله وناظره فقال له: اخربت الملك، وضيعت الأموال، ووليت بالعناية، وصانعت على الولايات بالرشوة، وزدت على السلطان اكثر من الف الف دينار في السنه، فقال: ما كنت افعل الا ما أراه صوابا وكان محمد بن عبيد الله فيما ذكر من تسناه يأخذ المصانعات على يدي ابى الهيثم بن ثوابه، ولا يفى بعهد لكل من صانعه برشوه، حتى قيلت فيه اشعار كثيره منها:

وزير ما يفيق من الرقاعه ... يولى ثم يعزل بعد ساعه

إذا اهل الرشا صاروا اليه ... فاحظى القوم أوفرهم بضاعة

وليس بمنكر ذا الفعل منه ... لان الشيخ افلت من مجاعه

وكان محمد بن عبيد الله قبل ان يستحيل به الحال فيما ذكر اهل الخبر.

وحسن الرأي فيه ذا دهاء وعقل، وكان ابنه عبد الله كاتبا بليغا حسن الكلام مليح اللفظ حسن الخط، جوادا يعطى العطايا الجزيله، ويقدم الأيادي الجليله، وصل عبد الله بن حمدون من ماله في مده ولايته بتسعين الف دينار الى ما وصل به غيره، واعطاه كثيرا ممن كان امله.

وفي هذه السنه رضى عن القاضى محمد بن يوسف، وقلد الشرقيه، وعسكر المهدى وخلع عليه دراعه وطيلسان وعمامة سوداء، وركب من دار الخليفة الى مسجد الرصافه، فصلى ركعتين، ثم قرئ عليه عهده بالولاية

(11/43)

وفيها ورد الخبر بوثوب ابى الهيجاء عبد الله بن حمدان بالموصل ومعه جماعه من الأكراد، وكانوا أخواله لان أمه كرديه، واغاث الجند اهل الموصل، فقتلت بينهم مقتله عظيمه، وصار ابو الهيجاء الى الأكراد، وتامر عليهم كالخالع للطاعة.

وتظلم اهل البصره من عاملهم محمد بن إسحاق بن كنداج، وشكوا به الى على ابن عيسى الوزير، فعزله عنهم بعد ان استامر فيه المقتدر لئلا يستبد بالرأي دونه، وولى البصره نجحا الطولونى، ثم ولى محمد بن إسحاق بن كنداج الدينور، وولى سليمان بن مخلد ديوان الدار، وكتابه غريب خال المقتدر، وولى على بن عيسى ابراهيم أخاه ديوان الجيش، واستخلف عليه سعيد بن عثمان والحسين بن على.

وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنه دخل مؤنس الخادم مدينه السلام، ومعه ابو الهيجاء قد اعطاه أمانا فخلع على مؤنس وعليه.

وقلد نصر القشورى مع الحجابه التي كان يتولاها ولايه السوس وجندى سابور ومناذر الكبرى ومناذر الصغرى، فاستخلف على جميع ذلك يمنا الهلالي الخادم.

وفي هذه السنه اغارت الاتراك على المسلمين بخراسان، فسبت منهم نحو عشرين ألفا، الى ما ذهبت به من الأموال وقتلت من الرجال، فخرج اليهم احمد بن اسماعيل، وكان واليها في جيوش كثيره، واتبعهم فقتل منهم خلقا كثيرا واستنقذ بعض الأسرى، واوفد الى السلطان رجلا شيخا يعرف بالحمادى يستحمد اليه بفعله بالاتراك، ويخطب اليه شرطه مدينه السلام واعمال فارس وكرمان فأجيب الى كرمان وحدها وكتب له بها كتاب عهد.

وفي جمادى الآخرة من هذه السنه اطلق محمد بن عبيد الله الذى كان وزيرا وابنه عبد الله وامرا بلزوم منازلهما.

وفيها خلع على القاسم بن الحر وولى سيراف، وخلع على على بن خالد الكردى، وولى حلوان.

وفي هذه السنه ركب ابو العباس محمد بن المقتدر من القصر المعروف بالحسنى، وبين يديه لواء عقده له أبوه المقتدر على المغرب، ومعه القواد كلهم، والغلمان الحجريه وجماعه الخدم حول ركابه، وعلى بن عيسى عن يمينه ومؤنس الخادم عن يساره ونصر الحاجب بين يديه، فسار في الشارع الأعظم، ورجع في الماء والناس معه،

(11/44)

فاعترضه رجل بمربعه الحرشي، فنثر عليه دراهم مسيفه، وقال له: بحق امير المؤمنين الا أذنت لي في طلى الفرس بالغالية، فوقف له وجعل الرجل يطلى وجه الفرس، فنفر منه، وقيل له: دع وجهه، واطل سائر بدنه، فاقبل يطلى عرف الفرس وقوائمه بالغالية، فقال محمد بن المقتدر لمن حوله: اعرفوا لنا هذا الرجل.

وفي هذه السنه قلد ابو بكر محمد بن على الماذرائى اعمال مصر والاشراف على اعمال الشام وتدبير الجيوش، وخلع عليه، وذلك يوم الخميس للنصف من شهر رمضان وخلع في هذا النهار أيضا على القاسم بن سيما، وعقد له على الإسكندرية واعمال برقه.

وفي هذه السنه في جمادى الآخرة، ورد الخبر بوفاه على بن احمد الراسبى، وكان يتقلد جندى سابور والسوس وماذرايا الى آخر حدودها، وكان يورد من ذلك الف الف دينار وأربعمائة الف دينار في كل سنه، ولم يكن معه احد يشركه في هذه الاعمال من اصحاب السلطان لأنه تضمن الحرب والخراج والضياع والشحنه وسائر ما في عمله، فتخلف- فيما وردت به الاخبار- من العين الف الف دينار ومن آنيه الذهب والفضه قيمه مائه الف دينار ومن الخيل والبغال والجمال الف راس، ومن الخز الرفيع الطاقي ازيد من الف ثوب، وكان مع ذلك واسع الضيعه كثير الغلة وكان له ثمانون طرازا ينسج له فيها الثياب من الخز وغيره فلما ورد الخبر بوفاه الراسبى، انفذ المقتدر عبد الواحد بن الفضل بن وارث في جماعه من الفرسان والرجاله لحفظ ماله الى ان يوجه من ينظر فيه، ثم وجه مؤنس الخادم للنظر في ذلك، فيقال: انه صار اليه منه مال جليل، وخلع على ابراهيم بن عبد الله المسمعي، وولى النظر في دور الراسبى.

وتوفى مؤنس الخازن يوم الأحد لثمان بقين من شهر رمضان، ولم يتخلف احد عن جنازته من الرؤساء، وصلى عليه القاضى محمد بن يوسف، ودفن بطرف الرصافه، وكان جليل القدر عند السلطان، فلما مات قلد ابنه الحسن ما كان يتولاه من عرض الجيوش، فجلس ونظر، وعاقب واطلق، وفرق سائر الاعمال التي كانت الى مؤنس

(11/45)

على جماعه من القواد الذين كانوا في رسمه، وضم اصحابه الى ملازمه ابى العباس بن المقتدر، ولم يخلع على الحسن بن مؤنس للولاية مكان ابيه، فعلم ان ولايته لا تتم وعزل بعد شهرين، وعزل محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان خليفته على الجانب الشرقى، وقدم مكانه بدر الشرابي، وعزل خزرى بن موسى خليفه مؤنس على الجانب الغربي وولى مكانه إسحاق الاشروسنى، وولى شفيع اللؤلؤى البريد وسمى شفيعا الاكبر.

وورد الخبر في شعبان بان احمد بن اسماعيل بن احمد صاحب خراسان قتله غلمانه غيله على فراشه، وكان قد اخاف بعضهم فتواطئوا على قتله ثم اجتمع سائر غلمانه فضبطوا الأمر وبايعوا لابنه نصر بن احمد وورد كتابه على المقتدر يسأله تجديد العهد له، ووردت كتب عمومته وبنى عمه يسال كل واحد منهم ناحيه من نواحي خراسان، فافرد الخليفة بالولاية ابنه وتم له الأمر.

قال الصولي: شهدت في هذا العام بين يدي محمد بن عبيد الله الوزير مناظره كانت بين ابن الجصاص وابراهيم بن احمد الماذرائى، فقال ابراهيم بن احمد الماذرائى في بعض كلامه: لابن الجصاص مائه الف دينار من مالي صدقه، لقد ابطلت في الذى حكيته وكذبت! فقال له ابن الجصاص: قفيز دنانير من مالي صدقه، لقد صدقت انا وابطلت أنت، فقال له ابن الماذرائى: من جهلك انك لا تعلم ان مائه الف دينار اكثر من قفيز دنانير، فعجب الناس من كلامهما قال الصولي: وانصرفت الى ابى بكر بن حامد فخبرته الخبر، فقال: نعتبر هذا بمحنه، فاحضر كيلجه وملاها دنانير ثم وزنها فوجد فيها اربعه آلاف دينار، فنظرنا فإذا القفيز سته وتسعون الف دينار كما قال الماذرائى.

وفي هذه السنه مات ابو بكر جعفر بن محمد المعروف بالفاريابى المحدث، لاربع بقين من المحرم وصلى عليه ابنه ودفن في مقابر الشونيزيه وفيها توفى عبد الله بن محمد بن ناجيه المحدث وكان مولده سنه عشر ومائتين.

وفيها مات الحسن بن الحسن بن رجاء، وكان يتقلد اعمال الخراج والضياع بحلب، مات فجاءه، وحمل تابوته الى مدينه السلام، ووصل يوم السبت لخمس

(11/46)

بقين من شهر ربيع الاول.

وفيها مات محمد بن عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى المعروف بالأحنف، وكان خليفه ابيه على قضاء عسكر المهدى والشرقيه والنهروانات والزوابي والتل وقصر ابن هبيرة والبصره وكور دجلة وواسط والاهواز، ودفن يوم الأحد لتسع ليال خلون من جمادى الاولى في حجره بمقام باب الشام وله ثمان وثلاثون سنه وفي هذه السنه بعد قتل احمد بن اسماعيل ورد الخبر بان رجلا طالبيا حسينيا خرج بطبرستان يدعو الى نفسه يعرف بالأطروش.

وفي آخر هذه السنه توفى احمد بن عبد الصمد بن طومار الهاشمى، وكان من قبل نقيب بنى هاشم العباسيين والطالبيين، فقلد ما كان يتقلده أخو أم موسى، فضج الهاشميون من ذلك، وسألوا رد ما كان يتولاه ابن طومار الى ابنه محمد بن احمد، فأجيبوا الى ذلك، وكان لأحمد بن عبد الصمد يوم توفى اثنتان وثمانون سنه.

واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(11/47)

ثم دخلت

سنه اثنتين وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ركب شفيع الخادم المعروف بالمقتدرى في جماعه من الجند والفرسان والرجال الى دار الحسين بن احمد المعروف بابن الجصاص، التي في سوق يحيى، ولحقه صاحب الشرطه بدر الشرابي، فوكل شفيع بالأبواب وقبض على جميع ما تحويه داره من مال وجوهر وفرش واثاث ورقيق ودواب، وحمل في وقته ذلك صناديق مختومه، ذكر ان فيها جوهر وآنيه ذهب، ووجد في داره فرشا سلطانيا من فرش أرمينية وطبرستان جليلا لا يعرف قدره، ووجد فيها من مرتفع ثياب مصر خمسمائة سفط وحفرت داره فوجدت له في بستانه اموال جليله مدفونة في جرار خضر وقماقم مرصصه الرءوس، فحملت كهيئتها الى دار المقتدر، وأخذ هو فقيد بخمسين رطلا من حديد وغل، وتسمع الناس ما جرى عليه، فصودر على مائه الف دينار بعد هذا كله، واطلق الى منزله.

وقال ابو الحسن بن عبد الحميد كاتب السيده: ان الذى صح مما قبض من مال الحسين بن احمد بن الجصاص الجوهري من العين والورق والانيه والثياب والفرش والكراع والخدم- لا ثمن ضيعه في ذلك ولا ثمن بستان- ما قيمته سته آلاف الف دينار.

وفي هذه السنه في رجب ورد كتاب محمد بن على الماذرائى الى السلطان من مصر يزعم ان وقعه كانت بين اصحاب السلطان وبين جيش القيروان فقتل من اصحاب الشيعى سبعه آلاف واسر نحوهم، وانهزم من بقي منهم، ومضوا على وجوههم، فمات اكثرهم قبل وصولهم الى برقه، ووردت كتب التجار بدخول الشيعة برقه، وعظم ما أحدثوا في تلك الناحية، وان الغلبه انما كانت لهم

(11/48)

قال الصولي: وفيها جلس على بن عيسى للمظالم في كل يوم ثلاثاء، فحضرته يوما، وقد جيء برجل يزعم انه نبى، فناظره فقال: انا احمد النبي، وعلامتي ان خاتم النبوه في ظهري، ثم كشف عن ظهره فإذا سلعه صغيره، فقال له: هذه سلعه الحماقة، وليست بخاتم النبوه، ثم امر بصفعه وتقييده وحبسه في المطبق.

وفي شهر رمضان من هذه السنه وافى باب الشماسيه قائد من قواد صاحب القيروان يقال له ابو جده، ومعه من اصحابه مائتا فارس، نازعين الى الخليفة فاحضر القائد دار السلطان، وخلع عليه، واخرج هو واصحابه الى البصره ليكونوا مع محمد بن إسحاق بن كنداج.

وفيها اطلق المقتدر من سجنه الصفاري المعروف بالقتال، خلع عليه، واقطعه دارا ينزلها واجرى عليه الرزق، وامره بحضور الدار في يومى الموكب مع الأولياء، واطلق أيضا محمد بن الليث الكردى وخلع عليه، وهو ممن ادخل مع الليث، وطوف على جمل.

وفيها جاء رجل حسن البزة طيب الرائحة الى باب غريب خال المقتدر، وعليه دراعه وخف احمر وسيف جديد بحمائل، وهو راكب فرسا ومعه غلام، فاستأذن للدخول، فمنعه البواب، فانتهره واغلظ عليه، ونزل فدخل، ثم قعد الى جانب الخال، وسلم عليه بغير الإمرة، فقال له غريب وقد استبشع امره: ما تقول اعزك الله؟ قال: انا رجل من ولد على بن ابى طالب، وعندي نصيحه للخليفة لا يسعني ان يسمعها غيره، وهي من المهم الذى ان تأخر وصولي اليه حدث امر عظيم.

فدخل الخال الى المقتدر والى السيده، واعلمهما بامره، فبعث في الوزير على بن عيسى واحضر الخال الرجل، فاجتهد الوزير والحاجب نصر والخال ان يعلمهم النصيحه ما هي، فأبى حتى ادخل الى الخليفة، وأخذ سيفه، وادنى منه، وتنحى الغلمان والخدم، فاخبر المقتدر بشيء لم يقف عليه احد، ثم امره بالانصراف الى منزل اقيم له وخلع عليه ما يلبسه، ووكل به خدم يخدمونه، وامر المقتدر ان يحضر ابن طومار نقيب الطالبيين ومشايخ آل ابى طالب، فيسمعون منه ويفهمون امره، فدخلوا عليه وهو

(11/49)

على برذعه طبرية مرتفعه، فما قام الى واحد منهم، فسأله ابن طومار عن نسبته فزعم انه محمد بن الحسن بن على بن موسى بن جعفر الرضا وانه قدم من البادية، فقال له ابن طومار: لم يعقب الحسن- وكان قوم يقولون انه اعقب، وقوم قالوا لم يعقب- فبقى الناس في حيره من امره، حتى قال ابن طومار: هذا يزعم انه قدم من البادية وسيفه جديد الحلية والصنعه، فابعثوا بالسيف الى دار الطاق، وسلوا عن صانعه وعن نصله، فبعث به الى اصحاب السيوف بباب الطاق، فعرفوه واحضروا رجلا ابتاعه من صيقل هناك، فقيل له: لمن ابتعت هذا السيف؟ فقال:

لرجل يعرف بابن الضبعى، كان أبوه من اصحاب ابن الفرات، وتقلد له المظالم بحلب، فاحضر الضبعى الشيخ، وجمع بينه وبين هذا المدعى الى بنى ابى طالب فاقر بانه ابنه، فاضطرب الدعي وتلجج في قوله، فبكى الشيخ بين يدي الوزير حتى رحمه ووعده بان يستوهب عقوبته ويحبسه او ينفيه، فضج بنو هاشم، وقالوا: يجب ان يشهر هذا بين الناس، ويعاقب أشد عقوبة، ثم حبس الدعي، وحمل بعد ذلك على جمل، وشهر في الجانبين يوم الترويه ويوم عرفه، ثم حبس في حبس المصريين بالجانب الغربي.

وفي هذه السنه اضطرب امر خراسان لما قتل احمد بن اسماعيل، واشتغل نصر بن احمد والده بمحاربه عمه، ودارت بينهما فتوق، فكتب احمد بن على المعروف بصعلوك، وكان يلى الري من قبل احمد بن اسماعيل ايام حياته الى المقتدر، ووجه اليه رسولا يخطب اليه اعمال الري وقزوين وجرجان وطبرستان، وما يستضيف الى هذه الاعمال، ويضمن في ذلك مالا كثيرا، وعنى به نصر الحاجب، حتى انفذ اليه الكتب بالولاية، ووصله المقتدر من المال الذى ضمن بمائه الف درهم، وامر بمائده تقام له في كل شهر من شهور الأهلة بخمسه آلاف درهم، واقطعه من ضياع السلطان بالري ما يقوم في كل سنه بمائه الف درهم.

وفي هذه السنه ركب المقتدر الى الميدان، وركب باثره على بن عيسى الوزير ليلحقه، فنفرت دابته وسقط سقطه مؤلمه، وامر الخليفة اصحاب الركاب باقامته،

(11/50)

وحمله على دابته، فانهضوه وحملوه، وقيلت فيه اشعار منها:

سقوطك يا على لكسف بال ... وخزى عاجل وسقوط حال

فما قلنا لعا لك بل سررنا ... وكان لما رجونا خير فال

أضعت المال في شرق وغرب ... فلم يحظ الامام بجمع مال

قال: وكان على بن عيسى بخيلا، فابغضه الناس لذلك.

ووردت الاخبار بدخول صاحب إفريقية الإسكندرية وتغلبه على برقه وغيرها، وكتب تكين الخاصة والى مصر يطلب المدد، ويستصرخ السلطان، فعظم ذلك على المقتدر ورجاله وكانوا من قبل مستخفين بأمر عبيد الله الشيعى وبابى عبد الله القائم بدعوته، وكانوا قد فحصوا عن نسبه ومكانه، وباطن امره.

قال محمد بن يحيى الصولي: حدثنا ابو الحسن على بن سراج المصرى، وكان حافظا لاخبار الشيعة ان عبيد الله هذا القائم بإفريقية هو عبيد الله بن عبد الله بن سالم من اهل عسكر مكرم بن سندان الباهلى صاحب شرطه زياد، ومن مواليه وسالم جده، قتله المهدى على الزندقة.

قال: وأخبرني غير ابن سراج ان جده كان ينزل بنى سهم من باهله بالبصرة، وكان يدعى انه يعرف مكان الامام القائم وله دعاه في النواحي، يجمعون له المال بسببه، فوجه الى ناحيه المغرب رجلا يعرف بابى عبد الله الصوفى المحتسب، فأرى الناس نسكا، ودعاهم سرا الى طاعه الامام، فافسد على زياده الله بن الاغلب القيروان، وكان عبيد الله هذا مقيما بسلميه مده، ثم خرج الى مصر فطلب بها، وظفر به محمد ابن سليمان، فاخذ منه مالا، واطلقه، ثم ثار المحتسب على ابن الاغلب وطرده عن القيروان، وقدم عليه عبيد الله، فقال المحتسب للناس: الى هذا كنت ادعو، وكان عبيد الله يعرف أول دخوله القيروان بابن البصرى، فأظهر شرب الخمر والغناء، فقال المحتسب: ما على هذا خرجنا، وانكر فعله، فدس عليه عبيد الله رجلا من المغاربه يعرف بابن خنزير، فقتله، وملك عبيد الله البلاد، وحاصر اهل طرابلس حتى فتحها، وأخذ اموالا عظيمه ثم ملك برقه واقبل جيشه يريد مصر، وقدم ولد

(11/51)

عبيد الله الإسكندرية، وخطب فيها خطبا كثيره محفوظه، لولا كفر فيها لاجتلبت بعضها.

ولما وردت الاخبار باستطاله صاحب القيروان بجهة مصر، انهض المقتدر مؤنسا الخادم وندب معه العساكر، وكتب الى عمال اجناد الشام بالمصير الى مصر.

وكتب الى ابنى كيغلغ وذكا الأعور، وابى قابوس الخراسانى باللحاق بتكين لمحاربته.

وخلع على مؤنس في شهر ربيع الاول سنه ثنتين وثلاثمائة وخرج متوجها الى مصر، وتقدم على بن عيسى الوزير بترتيب الجمازات من مصر الى بغداد ليروح عليه الاخبار في كل يوم، فورد الخبر بان جيش عبيد الله الخارج مع ابنه، ومع قائده حباسه انهزموا وبشر على بن عيسى بذلك المقتدر، فتصدق في يومه بمائه الف درهم، ووصل على ابن عيسى بمال عظيم، فلم يقبله ثم رجع على وقد باع له ابن ما شاء الله ضيعه باربعه آلاف دينار، وفرقها كلها شكرا لله عز وجل، ودخل مؤنس الخادم بالجيوش مصر في جمادى الآخرة، وقد انصرف كثير من اهل المغرب عن الإسكندرية ونواحيها، وانصرف ولد عبيد الله قافلا الى القيروان وكتب محمد بن على الماذرائى يذكر ضيق الحال بمصر وكثره الجيوش بها وما يحتاج اليه من الأموال لها، فانفذ اليه المقتدر مائتي بدره دراهم على مائتي جمازه مع جابر بن اسلم صاحب شرطه الجانب الشرقى ببغداد.

وورد الخبر من مصر في ذي القعده بان الاخبار تواترت عليهم بموت عبيد الله الشيعى فانصرف مؤنس يريد بغداد، وعزل المقتدر تكين عن مصر، وولاه دمشق ونقل ذكا الأعور من حلب الى مصر.

وفي هذه السنه صرف ابو ابراهيم بن بشر بن زيد أبا بكر الكريزى العامل عن اعمال قصر ابن هبيرة ونواحيه، فطالبه وضربه بالمقارع حتى مات، وحمل الى مدينه السلام في تابوت.

وفيها مات القاسم بن الحسن بن الاشيب، ويكنى أبا محمد، وكان قد حدث وحمل عنه الناس توفى لليلتين بقيتا من جمادى الاولى، ولم يتخلف عن جنازته قاض ولا فقيه ولا عدل.

وفيها ماتت بدعه جاريه عريب مولاه المأمون لست خلون من ذي الحجه

(11/52)

وصلى عليها ابو بكر بن المهتدى، وخلفت مالا كثيرا وجوهرا وضياعا وعقارات، فامر المقتدر بالله بقبض ذلك كله، وتوفيت ولها ستون سنه ما ملكها رجل قط.

وقطع في هذه السنه بطريق مكة على حاتم الخراسانى وعلى خلق عظيم معه، خرج عليهم رجل من الحسينية مع بنى صالح بن مدرك الطائي، فأخذوا الأموال واستباحوا الحرم ومات من سلم عطشا، وسلمت القوافل غير قافلة حاتم.

واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(11/53)

ثم دخلت

سنه ثلاث وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ورد الخبر بان رجلا من الطالبيين ثار بجهة واسط وانضم اليه جماعه من الاعراب والسواد، وكان للأعراب رئيس يقال له محرز بن رباح، وذلك انه بلغهم بان صاحب فارس والاهواز والبصره بعث الى حضره السلطان من المال المجتمع قبله ثلاثمائة الف دينار، حملت في ثلاث شذوات، فطمعوا في انتهابها وأخذها، وكمنوا للرسل في بعض الطريق، ففطن بهم اهل الشذوات، فافلتت منها واحده، وصاعدت، ورجعت الاثنتان الى البصره، ولم يظفر الخارجون بشيء فصاروا الى عقر واسط، وأوقعوا بأهلها، واحرقوا مسجدها، واستباحوا الحرم وبلغ حامد بن العباس خبرهم، وكان يتقلد اعمال الخراج والضياع بكسكر وكور دجلة وما اتصل بذلك، فوجه من قبله محمد بن يوسف المعروف بخزرى، وكان يتقلد له معونه واسط، وضم اليه غلمانه وقوما فرض لهم فرضا، وكتب الى السلطان بالخبر، فامده بلؤلؤ الطولونى، فلم يبلغ اليه لؤلؤ حتى قتل الطالبي ومحرز بن رباح واكثر الاعراب الخارجين معهما، واسر منهم نحو مائه اعرابى، وكتب حامد بالفتح الى المقتدر، وبعث بالأسرى، فادخلوا مدينه السلام في جمادى الاولى وقد البسوا البرانس، وحملوا على الجمال، فضجوا وعجوا وزعم قوم منهم انهم براء، فامر المقتدر بردهم الى حامد ليطلق البريء، ويقتل النطف، فقتلهم اجمعين على جسر واسط، وصلبهم.

وفي هذه السنه في جمادى الاولى ورد الخبر بان الروم حشدوا وخرجوا على المسلمين، فظفروا بقوم غزاه من اهل طرسوس، وظفرت طائفه منهم اخرى بخلق كثير من اهل مرعش وشمشاط، فسبوا من المسلمين نحوا من خمسين ألفا، وعظم الأمر في ذلك، وعم حتى وجه السلطان بمال ورجال الى ذلك الثغر، فدارت على الروم بعد ذلك وقعات كثيره

(11/54)

وفيها كانت لهارون بن غريب الخال جناية وهو سكران بمدينه السلام، على رجل من الخزر يعرف بجوامرد، ولقيه ليلا فضرب راسه بطبرزين كان في يده، فقتله بلا سبب، فشغب رفقاؤه الذين كان في جملتهم، وطلبوا هارون ليقتلوه، فمنع منهم وكانوا نحو المائه، فشكوا امره، وترددوا طالبين لاخذ الحق منه، فلم ينظر لهم فلما أعوزهم ذلك، خرجوا باجمعهم الى عسكر ابن ابى الساج، وكان قد تحرك على السلطان، وانفذ اليه المقتدر رشيقا الحرمي ختن نصر الحاجب رسولا ليصرفه عن مذهبه، فحبسه ابن ابى الساج عند نفسه، ومنعه ان يكتب كتابا الى المقتدر ثم انه اطلقه بعد ذلك، وبعث بهدايا ومال فرضى عنه.

وفيها عظم امر الحسين بن حمدان بنواحي الموصل، فانفذ اليه السلطان أبا مسلم رائقا الكبير، وكان اسن الغلمان المعتضديه واعلاهم رتبه، وكان فيه تصاون وتدين وحسن عقل، فشخص ومعه وجوه القواد والغلمان، فحارب الحسين بن حمدان، وهو في نحو خمسه عشر ألفا، فقتل رائق من قواد ابن حمدان جماعه منهم الحسن بن محمد ابن أبا التركى، وكان فارسا شجاعا مقداما وابو شيخ ختن ابن ابى مسعر الأرميني ووجه الحسين بن حمدان الى رائق جماعه يسأله ان يأخذ له الامان، وانما اراد ان يشغله بهذا عن محاربته، ومضى الحسين مصعدا ومعه الأكراد والاعراب وعشر عماريات، فيها حرمه وكان مؤنس الخادم قد انصرف من الغزاة وصار الى آمد، فوجه القواد والغلمان في اثر الحسين، فلحقوه وقد عبر باصحابه واثقاله واديا، وهو واقف يريد العبور في خمسين فارسا، ومعه العماريات، فكابرهم حتى اخذوه أسيرا، وسلم عياله وأخذ ابنه ابو الصقر أسيرا فلما راى الأكراد هذا عطفوا على العسكر فنهبوه وهرب ابنه حمزه وابن أخيه ابو الغطريف، ومعهما مال، ففطن بهما عامل آمد، وكان العامل سيما غلام نصر الحاجب، فاخذ ما معهما من المال وحبسهما.

ثم ذكر ان أبا الغطريف مات في الحبس، فاخذ راسه، وكان الظفر بحسين بن حمدان يوم الخميس للنصف من شعبان، ورحل مؤنس يريد بغداد، ومعه الحسين ابن حمدان واخوته على مثل سبيله، واكثر اهله، فصير الحسين على جمل مصلوبا على

(11/55)

نقنق، وتحته كرسي، ويدير النقنق رجل، فيدور الحسين من موقفه يمينا وشمالا، وعليه دراعه ديباج سابغه قد غطت الرجل الذى يدير النقنق، ما يراه احد، وابنه الذى كان هرب من مدينه السلام ابو الصقر قد حمل بين يديه على جمل، وعليه قباء ديباج وبرنس، وكان قد امتنع من وضع البرنس على راسه، فقال له الحسين: البسه يا بنى فان اباك البس البرانس اكثر هؤلاء الذين تراهم- وأومأ الى القتال وجماعه من الصفاريه- ونصبت القباب بباب الطاق، وركب ابو العباس محمد بن المقتدر بالله وبين يديه نصر الحاجب، ومعه الحربه وخلفه مؤنس وعلى بن عيسى واخوه الحسين خلف جمله عظيمه، عليهم السواد في جمله الجيش.

ولما صار الحسين بسوق يحيى قال له رجل من الهاشميين: الحمد لله الذى امكن منك، فقال له الحسين: والله لقد امتلأت صناديقى من الخلع والالويه، وافنيت أعداء الدولة، وانما اصارنى الى هذا الخوف على نفسي، وما الذى نزل بي الا دون ما سينزل بالسلطان إذا فقد من اوليائه مثلي وبلغ الدار ووقف بين يدي المقتدر بالله، ثم سلم الى نذير الحرمي فحبسه في حجره من الدار، وشغب الغلمان والرجاله يطلبون الزيادة، ومنعوا من الدخول على مؤنس او على احد من القواد، ومضوا الى دار على بن عيسى الوزير، فاحرقوا بابه، وذبحوا في اصطبله دوابه وعسكروا بالمصلى ثم سفر بالأمر بينهم، فدخلوا واعترفوا بخطئهم وكان الغلمان سبعمائة، وكان الرجاله خلقا كثيرا، فوعدهم مؤنس الزيادة، فزيدوا شيئا يسيرا، فرضوا.

وفي آخر شهر رمضان ادخل خمسه نفر أسارى من اصحاب الحسين، فيهم حمزه ابنه ورجل يقال له على بن الناجى لثلاث بقين من هذا الشهر، ثم قبض على عبيد الله وابراهيم ابنى حمدان، وحبسا في دار غريب الخال ثم أطلقا.

وفي هذه السنه في صفر قلد ورقاء بن محمد الشيبانى معونه الكوفه وطريق مكة، وعزل عن الكوفه إسحاق بن عمران، وكان عقده على طريق مكة وقصبه الكوفه واربعه من طساسيجها: طسوج السيلحين، وطسوج فرات بادقلا، وطسوج بابل وخطرنيه والخرب، وطسوج سورا، وخلع عليه وعقد له لواء

(11/56)

وفي هذه السنه اغلظ على بن عيسى لأحمد بن العباس أخي أم موسى، وقال له:

قد افنيت مال السلطان ترتزق في كل شهر من شهور الأهلة سبعه آلاف دينار، وكتب رقعه بتفصيلها، فلم تزل أم موسى ترفق لعلى بن عيسى الى ان امسك عنه.

وفي هذه السنه نظر على بن عيسى بعين رايه الى امر القرامطة فخافهم على الحاج وغيرهم، فشغلهم بالمكاتبة والمراسله والدخول في الطاعة، وهاداهم واطلق لهم التسوق بسيراف، فردهم بذلك وكفهم، فخطاه الناس فلما عاينوا بعد ذلك ما فعله القرامطة حين احرجوا، علموا ان الذى فعله على صواب كله وشنع على على بن عيسى بهذا السبب انه قرمطى، ووجد حساده السبيل الى مطالبته بذلك، وكان الرجل ارجح عقلا، واحسن مذهبا من الدخول فيما نسب اليه.

وفي هذه السنه مات ابو الهيثم بن ثوابه الاكبر بالكوفه في الحبس بعد ان أخذ منه إسحاق بن عمران مالا جليلا للسلطان ولنفسه وقيل انه احتال في قتله خوف ان يقر عليه يوما بما أخذ منه لنفسه.

وفيها مات الفضل بن يحيى بن فرخان شاه الديراني النصراني من ديرقنا فقبض السلطان على جميع املاكه، وكانت له عند رجل مائه وخمسون الف دينار، فأخذت من الرجل، ووجه شفيع المقتدرى ومعه غلمان وخدم الى قنا فاحصوا تركته وضياعه.

وفيها مات ادريس بن ادريس العدل في القادسية وهو حاج الى مكة، وكان امره قد علا في التجارة والمكانه عند السلطان، وكان يحج في كل سنه، ويحمل معه مالا ينفقه على من احتاج الى النفقة قال محمد بن يحيى الصولي: انا سمعته يوما يقول: يلزمني كل سنه في الحج نفقه غير ما اصرفه في أبواب البر خمسه آلاف دينار.

وفيها مات ابو الأغر السلمى فجاءه لسبع خلون من ذي الحجه قال نصف النهار بعد ان تغدى ثم حرك للصلاة فوجد ميتا.

واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(11/57)

ثم دخلت

سنه اربع وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)

[مخالفة خالد ابن محمد الشعراني المعروف بابى يزيد على السلطان]

وفي المحرم من هذه السنه ورد كتاب صاحب البريد بكرمان يذكر ان خالد ابن محمد الشعراني المعروف بابى يزيد- وكان على بن عيسى الوزير ولاه الخراج بكرمان وسجستان- خالف على السلطان، ودعى أميرا، وجمع الناس الى نفسه، وضمن لهم الأموال على ان ينهضوا معه لمحاربه بدر الحمامي صاحب فارس، وضمن القواد كانوا معه مالا عظيما، وعجل لهم منه بعضه حتى اجتمع له نحو عشره آلاف فارس وراجل، وكان ضعيف الرأي ناقص القريحه، فكتب المقتدر الى بدر الحمامي في انفاذ جيش اليه ومعاجلته، فوجه اليه بدر قائدا من قواده يعرف بدرك وضم اليه من جنده ورجال فارس عسكرا كثيرا، وكتب بدر قبل انفاذ الجيش الى ابى يزيد الشعراني يرغبه في الطاعة، ويتضمن له العافيه، مع الانهاض في المنزله، وخوفه وبال المعصية، فجاوبه ابو يزيد: والله ما اخافك لانى فتحت المصحف فبدر الى منه قول الله عز وجل: لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى ومع ذلك ففي طالعى كوكب بيبانى لا بد ان يبلغني غاية ما اريد، فانفذ بدر الجيش اليه، وحوصر حتى أخذ أسيرا فقيلت فيه اشعار منها:

يا با يزيد قائل البهتان ... لا تغترر بالكوكب البيبانى

واعلم بان القتل غاية جاهل ... باع الهدى بالغى والعصيان

قد كنت بالسلطان عالى رتبه ... من ذا الذى أغراك بالسلطان

ثم اتى الخبر بان أبا يزيد هذا مات في طريقه، فحمل راسه الى مدينه السلام ونصب على سور السجن الجديد، وعزل يمن الطولونى عن اماره البصره، ووليها الحسن بن خليل بن ريمال، على يدي شفيع المقتدرى، إذ كانت امارتها اليه.

(11/58)

ذكر التقبض على على بن عيسى الوزير وولايه على بن الفرات ثانيه

وقبض في هذه السنه على الوزير على بن عيسى يوم الاثنين، لثمان ليال خلون من ذي الحجه، ونهبت منازل اخوته ومنازل حاشيته وذويه، وحبس في دار المقتدر، وقلد الوزارة في هذا اليوم على بن محمد بن موسى بن الفرات، وخلع عليه سبع خلع، وحمل على دابه بسرجه ولجامه، فجلس في داره بالمخرم المعروفه بدار سليمان بن وهب، وردت عليه اكثر ضياعه التي كانت قبضت منه عند التسخط عليه، وظهر من كان استتر بسببه من صنائعه ومواليه.

وذكر عنه انه لما ولى ابن الفرات الوزارة وخلع عليه بالغداة، زاد ثمن الشمع في كل من منه قيراط ذهب، لكثرة ما كان ينفقه منه في وقيده، وينفق بسببه وزاد في ثمن القراطيس لكثرة استعماله إياها فعد الناس ذلك من فضائله، وكان اليوم الذى خلع عليه فيه يوما شديد الحر.

فحدثني ابن الفضل بن وارث انه سقى في داره في ذلك اليوم، وتلك الليلة اربعون الف رطل من الثلج، وركب على بن محمد الى المسجد الجامع ومعه موسى بن خلف صاحبه فصيح به الهاشميون: قد أسلمنا، وضجوا في امر أرزاقهم، فامر ابن الفرات من كان معه الا يكلمهم في شيء، فافرطوا في القول، فأنكر ذلك المقتدر وامر بان يحجب اصحاب المراتب عن الدار، فصار مشايخهم الى ابن الفرات واعتذروا اليه، وقالوا له: هذا فعل جهالنا، فكلم الخليفة فيهم حتى رضى عنهم، وضم الى ابن الفرات جماعه من الغلمان الحجريه، ليركبوا بركوبه ويكونوا معه في كل موضع يكون فيه.

وفيها ورد الكتاب من خراسان يذكر فيه انه وجد بالقندهار في ابراج سورها برج متصل بها فيه خمسه آلاف راس، في سلال من حشيش، ومن هذه الرءوس تسعه وعشرون راسا، في اذن كل راس منها رقعه مشدودة بخيط ابريسم، باسم كل رجل منهم

(11/59)

والأسماء: شريح بن حيان، خباب بن الزبير، الخليل بن موسى التميمى، الحارث ابن عبد الله، طلق بن معاذ السلمى، حاتم بن حسنه، هانئ بن عروه، عمر بن علان، جرير بن عباد المدني، جابر بن خبيب بن الزبير، فرقد بن الزبير السعدي، عبد الله ابن سليمان بن عماره، سليمان بن عماره، مالك بن طرخان صاحب لواء عقيل ابن السهيل بن عمرو، عمرو بن حيان، سعيد بن عتاب الكندى، حبيب بن انس، هارون بن عروه، غيلان بن العلاء، جبريل بن عباده، عبد الله البجلي، مطرف ابن صبح ختن عثمان بن عفان رضى الله عنه، وجدوا على حالهم الا انهم قد جفت جلودهم والشعر عليها بحالته لم يتغير، وفي الرقاع من سنه سبعين من الهجره

. [أخبار متفرقة]

وفي هذه السنه عزل يمن الطولونى عن شرطه بغداد، ووليها نزار بن محمد الضبي.

وفي المحرم من هذه السنه توفى عبد العزيز بن طاهر بن عبد الله بن طاهر أخو محمد بن طاهر، وكان عبدا صالحا حسن المذهب، كثير الخير، ودفن في مقابر قريش، وصلى عليه مطهر بن طاهر.

وفيها مات محدث عدل يعرف بابى نصر الخراسانى في جمادى الاولى.

وفيها مات ابو الحسن احمد بن العباس بن الحسن الوزير في شعبان، وكان قد عنى بالأدب ورشح نفسه للوزارة، واهله قوم لها.

وفيها مات لؤلؤ غلام ابن طولون.

وفيها مات ابو سليمان داود بن عيسى بن داود بن الجراح قبل القبض على أخيه على بن عيسى بشهرين، فلم يتخلف احد عن جنازته من الاجلاء.

وفي هذه السنه قدم طرخان بن محمد بن إسحاق بن كنداجيق من الدينور حاجا في شهر رمضان، فركب الى الوزير على بن عيسى يوم الاثنين لإحدى عشره ليله بقيت من شوال، وليس عنده خبر، فعزاه الوزير عن ابيه، فجزع عليه جزعا شديدا وخلع عليه في يوم الخميس بعد ثلاثة ايام وعقد له لواء على اعمال ابيه، فكتب

(11/60)

الى أخيه يستخلفه على العمل، ونوظر عن الاعمال التي كانت الى ابيه، فقطع الأمر معه على ستين الف دينار، حملها عنه حمد كاتبه، وجيء بتابوت محمد بن إسحاق لاربع بقين من شوال، ودفن في داره بالجانب الغربي.

واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.

(11/61)

ثم دخلت

سنه خمس وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها دخل مدينه السلام رسل ملك الروم ورئيساهم: شيخ وحدث، ومعهما عشرون علجا، فانزلوا الدار التي كانت لصاعد، ووسع عليهم في الأنزال والوظائف، ثم ادخلوا بعد ايام الى دار الخليفة من باب العامه، وجيء بهم في الشارع الأعظم، وقد عبى لهم المصاف من باب المخرم الى الدار، فانزل الرئيسان عن دابتهما عند باب العامه، وادخلا الدار وقد زينت المقاصير بأنواع الفرش، ثم أقيما من الخليفة على نحو مائه ذراع، والوزير على بن محمد بين يديه قائم، والترجمان واقف يخاطب الوزير، والوزير يخاطب الخليفة، وقد اعد من آلات الذهب والفضه والجوهر والفرش ما لم ير مثله، وطيف بهما عليه ثم صير بهما الى دجلة، وقد اعدت على الشطوط الفيله والزرافات والسباع والفهود، وخلع عليهما، وكان في الخلع طيالسه ديباج مثقلة، وامر لكل واحد من الاثنين بعشرين الف درهم، وحمل في الشذا مع الذين جاءوا معهما، وعبر بهما الى الجانب الغربي وقد مد المصاف على سائر شراع دجلة الى ان مر بهما تحت الجسر الى دار صاعد، وذلك يوم الخميس لست بقين من المحرم.

وقدم ابراهيم بن احمد الماذرائى من مكة، فقبض عليه ابن الفرات واغلظ له وصادره على مال عجل بعضه، ونجم الباقى عليه، وكتب ابن الفرات الى على بن احمد ابن بسطام المتقلد لاعمال الشام في المصير الى مصر، والقبض على الحسين بن احمد المعروف بابى زنبور، وعلى ابن أخيه ابى بكر محمد بن على، وحملهما الى مدينه السلام على جمازات، ونفذ اليه بهما من بغداد بعد مصادرتهما والاستقصاء عليهما، وحمل مال المصادره الى مدينه السلام، وقد كانا قبل ذلك ظفرا بابن بسطام، فأحسنا اليه فجازاهما ابن بسطام أيضا، بان رفق بهما وحسن أمورهما، وعنى بهما بعض حاشيه السلطان ببغداد وقيل للخليفة: ان الوزير انما وجه في قتلهما، فانفذ

(11/62)

خادما من ثقات خدمه على الجمازات في طريق البريه الى دمشق، ومنها الى مصر وامر ابن بسطام الا يناظرهما الا بحضره الخادم الموجه اليه، والا يعنف عليهما وكان ذلك مما يحبه ابن بسطام، لأنه كان أساء بهما غاية الإساءة، وأخذ منهما مالا جليلا يقال انه احتجنه، وتقلد ابو الطيب اخوه مناظره ابن بسطام، رفقا به أيضا ولم يشتدا عليه في شيء مما كان اليه واحسنا اليه، وسلماه الى تكين صاحب مصر ليناظر بحضرته، فنسب ابو الطيب بفعله ذلك الى العجز وقال فيه بعض الشعراء بمصر شعرا ذكرته لما فيه من مذهبهم في شنعه التعذيب والاستقصاء:

يا أبا الطيب الذى اظهر الله ... به العدل ليس فيك انتصار

قد تانيت وانتظرت فهل بعد ... تانيك وقفه وانتظار

جد بالخائن البخيل فكشفه ... ففي كشفه عليه دمار

اين ضرب المقارع الارزنيات ... واين الترهيب والانتهار

اين صفع القفا واين التهاويل ... إذا علقت عليه الثفار

اين ضيق القيود والالسن الفظه ... اين القيام والاخطار

اين عرك الاذان واللطم للهام ... وعصر الخصا واين الزيار

اين نتف اللحا وشد الحيازيم ... واين الحبوس والمضمار

ليس يرضى بغير ذا منك سلطانك ... فاشدد فان رفقك عار

فبهذا يجيك مالك فاسمع ... وإليك الخيار والاختيار

وقبض ببغداد على ابن اخت ابراهيم بن احمد الماذرائى، وهو ابو الحسين محمد بن احمد، وكان يكتب لبدر الحمامي، ويخلف أبا زنبور وأبا بكر محمد بن على وطالبه ابن الفرات باموال، فاغرمه وأخذ جميع ما وجد له في داره.

وفي هذه السنه ورد الخبر بان الحسن بن خليل بن ريمال امير البصره من قبل شفيع المقتدرى أساء السيرة في البصره، ومديده الى امور قبيحه، ووظف على الاسواق وظائف، فوثبوا به، فركب واحرق السوق التي حول الجامع، وركضت خيله في المسجد، وقتلوا جماعه من العامه ممن كان في المسجد، ولم تصل الجمعه في ذلك اليوم ثم كثر اهل البصره فحاصروه في داره بموضع يعرف ببني نمير، واجتمع اصحابه اليه الى ان تقدم المقتدر الى شفيع المقتدرى بعزله، فعزله وولى رجلا من اصحابه يعرف بابن ابى دلف

(11/63)

الخزاعي، فانحدر وافرج اهل البصره للحسن بن خليل حين خرج، وقد كان اهل البصره أطلقوا المحبوسين ومنعوا من صلاه الجمعه شهرا متواليا.

وفي هذه السنه ورد رجل من عسكر ابن ابى الساج يعرف بكلب الصحراء في الامان فذكر انه علوي، وان ابن ابى الساج كان يعتقله وانه هرب منه، فأجرى له ثلاثمائة دينار في المجتازين، وكتب الى ابن ابى الساج بذلك، فدس اليه من يناظره عن نسبه، وكان قد تزوج بامرأة ابن ابى ناظره، وهي ابنه الحسن بن محمد بن ابى عون، فاحضر ابن طومار النقيب، فناظره، وكان دعيا فسلم الى نزار بن محمد صاحب الشرطه ببغداد فوضعه في الحبس.

وفي شوال من هذه السنه دخل مؤنس الخادم الى الري لمحاربه ابن ابى الساج، بعد ان هزم ابن ابى الساج خاقان المفلحى، فما ترك أحدا من اصحابه يتبعه، ولا يأخذ من اصحابه شيئا ودخل ابن الفرات الى المقتدر بالله، فاعلمه ان على ابن عيسى كتب الى ابن ابى الساج يأمره ان يصير الى الري، حيله على الخليفة وتدبيرا عليه، فسمع المقتدر بالله هذا الكلام من ابن الفرات، فلما خرج سال على ابن عيسى عنه، وكان محبوسا عنده في داره، فقال له على: الناحية التي انهضت إليها ابن ابى الساج منغلقه بأخي صعلوك، فكتبت اليه بمحاربته، ولا أبالي من قتل منهما، وقد استأذنت امير المؤمنين في فعلى هذا، فاذن فيه، وسألته التوقيع به فوقع، وتوقيعه عندي، فاحضر التوقيع، فحسن موقع ذلك له من المقتدر ووسع على على بن عيسى في محبسه ولم يضيق عليه.

وفيها ورد الخبر بقتل عثمان العنزي القائد والى طريق خراسان، وادخل بغداد في تابوت، ثم ظفر بقاتله، وكان رجلا كرديا من غلمان علان الكردى، فضرب وثقل بالحديد حتى مات.

وفيها وردت هدايا احمد بن هلال صاحب عمان على المقتدر بالله، وفيها الوان الطيب ورماح وطرائف من طرائف البحر، فيها طير صينى اسود يتكلم افصح من الببغاء بالهندية والفارسيه، وفيها ظباء سود.

وفيها قدم القاسم بن سيما الفرغاني من مصر بعد ان عظم بلاؤه، وحسن اثره في حرب حباسه قائد الشيعة بمصر، وكان اهل مصر قد هزموا ودار سيف اهل المغرب بهم

(11/64)

حتى لحقهم القاسم، فنجاهم كلهم وهزم حباسه واصحابه، فركبوا الليل، ووردت كتب اهل مصر وصاحب البريد بها يذكرون جليل فعله، وحسن مقامه وهو لا يشك في ان السلطان يجزل له العطاء ويقطعه الاقطاع الخطيره، ويوليه الاعمال العاليه فلما وصل الى باب الشماسيه أقاموه بها، ومنعوه الدخول الى ان مل وضجر ثم أذنوا له في الوصول، فاعتدوا بذلك نعمه عليه وكان القاسم رجل صدق، كثير الفتوح، حسن النيه، فلم يزل منذ دخل بغداد كمدا عليلا الى ان توفى في آخر هذه السنه يوم الجمعه لسبع ليال بقين من ذي الحجه.

وفيها ماتت بنت للمقتدر، فدفنت بالرصافة، وحضرها آل السلطان، وطبقات الناس.

وفيها مات القاسم بن زكرياء المطرز المحدث في صفر.

وفي شهر ربيع الآخر مات القاسم بن غريب الخال، ولم يتخلف عن جنازته احد من القواد والاجلاء، وركب ابن الفرات الوزير الى غريب معزيا في عشى ذلك اليوم الذى دفن ابنه في غداته.

وفي هذا الشهر ورد الخبر بموت العباس بن عمرو الغنوي، وكان عامل ديار مضر، ومقيما بالرقة، فحمل ما تخلف من المال والأثاث والسلاح والكراع الى المقتدر، واضطرب بعد موته امر ديار مضر، فقلدها وصيف البكتمرى، فلم يظهر منه فيها اثر يرضى، فعزل، وقلدها جنى الصفواني فضبطها.

وفيها مات عبد الله بن ابراهيم المسمعي يوم السبت لتسع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، ودفن في داره التي أقطعها بباب خراسان، وكان عبد الله بن ابراهيم المسمعي عاقلا عالما، قد كتب الحديث، وسمع عن الرياشي سماعا كثيرا، وكان حسن الحفظ، وكان ابنه عالما الا انه كان دونه.

وفيها مات سبكرى غلام عمرو بن الليث الصفار ببغداد.

وفيها مات غريب خال المقتدر يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه احمد بن العباس الهاشمى أخو أم موسى، ودفن بقصر عيسى وحضر جنازته الوزير على بن محمد وجميع حاشيته والقواد والقضاه، وكان نصر الحاجب قد احس من المقتدر سوء راى في الوزير ابن الفرات واستثقالا لمكانه، وعملا في الإيقاع به،

(11/65)

فوجه نصر الى المقتدر يشعره بان ابن الفرات قد حضر الجنازة في جميع اهله وحاشيته، وقال له: ان كنت عازما على انفاذ امرك فيهم، فاليوم امكنك إذ لا تقدر على جمعهم هكذا، فوجه المقتدر: اخر هذا فليس وقته، وخلع بعد جمعه من ذلك اليوم على هارون ابن غريب، وقلد ما كان يتقلد أبوه من الاعمال، وعقد له لواؤه بعد ذلك.

وفي هذه السنه مات مصعب بن إسحاق بن ابراهيم يوم الأحد سلخ شعبان، وقد بلغ سنا عاليه، وصلى عليه الفضل بن عبد الملك امام مكة، وكان آخر من بقي من ولد إسحاق بن ابراهيم، وانتهت اليه وصيته، وكان أعيا الناس لسانا واكثرهم في القول خطلا، وكان طويل اللحية مغفلا الا انه كان صالحا وكتب الحديث ورواه، وله اخبار وكتب مصحفه منها ما كتب به الى اهله من القادسية لما حج والفى هذا الكتاب بخطه، فحكيته على ألفاظه.

بسم الله الرحمن الرحيم كتابي إليكم من القادسية وكنت قد اغفلت امر الاضاحى فقولوا لابن ابى الورد- يعنى وكيلا له- يشترى لكم ثلاث بقرات يحضيها على احد وعشرين أمهات الأولاد اثنى عشر وابى وأمي تمام العشرين، وانا آخرهم الحادي والعشرين، فرأيكم في ذلك تعجيله ان شاء الله.

وقال فيه بعض جيرانه من الشعراء:

وصى إسحاق يا بنى صدقه ... عما قليل سياخذ الصدقه

ضد لإسحاق في براعته ... يظهر من غير منطق حمقه

وان اتى بالكلام بدله ... فقال في حلقه لنا لحقه

وورد الخبر من فارس بموت إسحاق الاشروسنى، وكان قد تقلد شرطه الجانب الشرقى من بغداد.

واقام الحج في هذه السنه ابن الفضل بن عبد الملك وأبوه حاضر معه.

(11/66)

ثم دخلت

سنه ست وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها ورد الخبر بوقعه كانت بين مؤنس الخادم وبين يوسف بن ابى الساج، وذلك يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من صفر، فكانت الهزيمة على مؤنس واصحابه.

ولحق نصر السبكى مؤنسا وهو منهزم، وبين يديه مال، فاراد اسره وأخذ المال الذى كان بيده فوجه اليه يوسف: لا تعرض له ولا لشيء مما معه، واسر في هذه الوقيعه جماعه من القواد، فاكرمهم يوسف، وخلع عليهم وحملهم، ثم اطلقهم فود من كان في عسكر مؤنس انهم أسروا.

وفي هذه السنه امرت السيده أم المقتدر قهرمانه لها، تعرف بثمل ان تجلس بالرصافة للمظالم، وتنظر في كتب الناس يوما في كل جمعه، فأنكر الناس ذلك، واستبشعوه، وكثر عيبهم له والطعن فيه وجلست أول يوم، فلم يكن لها فيه طائل، ثم جلست في اليوم الثانى، واحضرت القاضى أبا الحسن، فحسن امرها واصلح عليها، وخرجت التوقيعات على سداد، فانتفع بذلك المظلومون، وسكن الناس الى ما كانوا نافروه من قعودها ونظرها.

وفيها امر المقتدر يمنا الطولونى- وكانت اليه الشرطه ببغداد- بان يجلس في كل ربع من الارباع فقيها يسمع من الناس ظلاماتهم، ويفتى في مسائلهم حتى لا يجرى على احد ظلم، وامره الا يكلف الناس ثمن الكاغذ الذى تكتب فيه القصص، وان يقوم به، والا يأخذ الأعوان الذين يشخصون مع الناس اكثر من دانقين في اجعالهم.

وفي هذه السنه استطاب المقتدر الزبيديه فسكنها، واقام بها مده، ونقل إليها بعض الحرم، ورتب القواد في مضاربهم حوالى الزبيديه، وجلس في يوم سبت لاطعامهم ووصل جماعه منهم وشرب مع الحرم، وفرق عليهن مالا كثيرا.

قال محمد بن يحيى الصولي: ووافق هذا اليوم قصدى الى نصر الحاجب مسلما عليه، فأمرني بعمل شعر اصف فيه حسن النهار، وان اوصله الى المقتدر، ففعلت

(11/67)

وما برحت من عنده حتى جاء خادم لام موسى، ومعه خمسه آلاف درهم فقال:

هذه للصولي، وقد استحسن امير المؤمنين الشعر، وكان أولها:

لها كل يوم من تعتبه عتب ... تحملني ذنبا وما كان لي ذنب

وفيها:

كواكب سعد قابلتها منيره ... فلا شخصها يخفى ولا نورها يخبو

واطلع أفق الغرب شمس خلافه ... وما خلت ان الشمس يطلعها الغرب

تلبس حسنا بالخليفه جعفر ... واشرق من اشراقه البعد والقرب

بمقتدر بالله عال على الهوى ... له من رسول الله منتسب رحب

ولما هزم ابن ابى الساج مؤنسا الخادم ارجف الناس بالوزير ابن الفرات، وأكثروا الطعن عليه، ونسبوا كل ما حدث الى تضييعه، وانكفى عليه اعداؤه ومن كان يحسده، واغرى الخليفة به، فكتبت رقعه واخرجت من دار السلطان الى على ابن عيسى وهو محبوس، وسمى له فيها جماعه ليقول فيهم بمعرفته، وليستوزر من يشير به منهم، وكان في جمله التسميه ابراهيم بن عيسى، فوقع تحته شره لا يصلح، ووقع تحت اسم ابن بسطام كاتب سفاك للدماء، ووقع تحت اسم ابن ابى البغل ظالم لا دين له، ووقع تحت اسم حامد بن العباس عامل موسر عفيف قد كبر، ووقع تحت اسم الحسين بن احمد الماذرائى لا علم لي به، وقد كفى ما في ناحيته، ووقع تحت اسم احمد بن عبيد الله بن خاقان احمق متهور ووقع تحت اسم سليمان بن الحسن بن مخلد كاتب حدث ووقع تحت اسم ابن ابى الحوارى لا اله الا الله فاجمع راى المقتدر ومن كان يشاوره على تقليد حامد بن العباس الوزارة واعان على ذلك نصر الحاجب ورآه صوابا، فانفذ المقتدر حاجبه المعروف بابن بويح للإقبال بحامد، وقبض على على بن محمد بن الفرات يوم الخميس بعد العصر لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر، وعلى من ظفر به من آله وحاشيته، فكانت وزارته في هذه المده سنه وخمسه اشهر وتسعه عشر يوما.

وفر ابنه المحسن من ديوان المغرب وكان يليه، فدخل الى منزل الحسين بن ابى العلاء فلم يستتر امره، وأخذ فجيء به الى دار السلطان ودخل حامد بن العباس بغداد يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى عشيا، فبات في دار نصر الحاجب التي

(11/68)

في دار السلطان، ووصل يوم الثلاثاء من غدوه الى المقتدر، وخلع عليه بعد ان تلقاه الناس من نهر سابس الى بغداد، ولم يتخلف عنه احد، وراى السلطان ومن حوله ضعف حامد وكبره، فعلموا انه لا بد له من معين، فاخرج على بن عيسى من محبسه، وانفذ الى الوزير حامد ومعه كتاب من الخليفة يعلمه فيه انه لم يصرف عليا عن الوزارة لخيانه ولا لشيء انكره، ولكنه واصل الاستعفاء، فعوفي، قال: وقد انفذته إليك لتوليه الدواوين وتستخلفه وتستعين به فان ذلك اجمع لامورك، وأعون على جميل نيتك فسلم الكتاب الى الوزير شفيع المقتدرى، فتطاول لعلى بن عيسى حين دخل اليه واجلسه الى جانبه فأبى عليه وجلس منزويا قليلا، وقرأ الرقعة، وأجاب فيها بالشكر والقبول وركب الوزير حامد وعلى بن عيسى الى الجمعه، وكثر دعاء الناس لهما وولى ابن حماد الموصلى مناظره ابن الفرات بحضره شفيع اللؤلؤى، واحضر حامد بن العباس المحسن بن على بن محمد بن الفرات وموسى بن خلف فطالبهما بالمال، واسرف في صفعهما وضربهما وشتمهما، فقال له موسى بن خلف: أعز الله الوزير! لا تسن هذا على اولاد الوزراء فان لك أولادا، فغاظه ذلك، فزاد في عقوبته، فحمل من بين يديه، وتلف واوقع بالمحسن، فامر المقتدر بالله باطلاق المحسن، فاطلق.

ولما بلغ ابن الفرات الخبر، اظهر انه راى أخاه في النوم، كأنه يقول له:

أعطهم مالك، فإنك تسلم، فاستدعى ابن الفرات ان يسمع الخليفة منه، فاحضره فاقر له فان قبل يوسف بن بنخاس وهارون بن عمران الجهبذين اليهوديين سبعمائة الف دينار، فاحضرهما حامد، فاقرا بالمال، فأخذه منهما، واقر بمائه الف دينار له عند بعض أسبابه، فأخذت، وأخذوا قبل ذلك منه نحو مائتي الف دينار، فكانت الجمله التي أخذت منه ومن أسبابه الف الف دينار وكان السلطان انفذ جمازات الى الحسين بن احمد الماذرائى، يأمره بالقدوم، فارجف الناس ان ذلك للوزارة وقيل أيضا: ليحاسب عن اعماله، فقدم الى بغداد للنصف من شهر رمضان سنه ست واهدى الى الخليفة هدايا جليله، والى السيده، وحمل مالا، واهدى الى على بن عيسى مالا وهدايا، فردها وامره ان يحملها الى السلطان، واخرج ابن الفرات، واجتمعت الجماعه لمناظرته، فاقر للحسين بن احمد انه حمل اليه عند تقلده الوزارة في الدفعه

(11/69)

الثانيه ستمائه الف دينار، فاقر بوصول المال اليه، وذكر وجوها يترفه فيها، فقبل بعض ذلك، والزم الباقى، ورد الحسين بن احمد على مصر وأعمالها، واخوه على الشام، وشخص إليها لست بقين من ذي القعده، وخرج توقيع الخليفة باسقاط جميع ما صودر عليه الحسين بن احمد وابن أخيه محمد بن على بن احمد والاقتصار بهما من جميع ذلك على مائتي الف دينار.

وورد الخبر يوم الترويه سنه ست وثلاثمائة بان احمد بن قدام، ابن اخت سبكرى- وكان احد قواد كثير بن احمد امير سجستان- وثب على كثير، فقتله وملك البلد، وكاتب السلطان بمقاطعته على البلد، وكان كثير هذا يحجب أبا يزيد خالد بن محمد المقتول الذى ذكرنا امره قبل هذا 4.

وفيها وثب جماعه من الهاشميين على على بن عيسى حين تاخرت أرزاقهم، وقد خرج من عند حامد بن العباس وشتموه وزنوه، وخرقوا دراعته وارجلوه، فخلصه القواد منهم، فحاربوهم وضربوا ضربا شديدا، واتصل ذلك بالمقتدر بالله، فامر فيهم بامور عظام، وان ينفوا الى البصره مقيدين، فحملوا في سفينه مطبقة بعد ان ضرب بعضهم بالدرة، وامر بان يحبسوا في المحبس، فلما وصلوا اجلسهم سبك الطولونى امير البصره على حمير مقيدين، وادخلهم الى دار في جانب المحبس، وكلمهم بجميل، ووعدهم، وفرق فيهم اموالا الا انه اسر ذلك، ثم نفذ الكتاب باطلاقهم، فاحسن اليهم سبك الطولونى، واحضرهم وزادهم، وصنع لهم طعاما ثم وصلهم، واكريت لهم سميريات، فكان مقامهم بالبصرة عشره ايام، ووصلهم حامد وأم موسى وأخوها وعلى بن عيسى.

وفي هذه السنه أخذ من القاضى محمد بن يوسف مائه الف دينار وديعة، كانت لابن الفرات، وزفت ابنه القاسم بن عبيد الله الى ابى احمد بن المكتفي بالله، فعملت لهما وليمة انفق فيها مال جليل يزيد على عشرين الف دينار.

وفيها عزل نزار بن محمد عن شرطه بغداد ووليها محمد بن عبد الصمد ختن تكين من قواد نصر الحاجب.

وفيها مات إسحاق بن عمران يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر.

وفيها مات محمد بن خلف، وكان اليه قضاء الاهواز وولى ابن البهلول قاضى الشرقيه مكانه

(11/70)

وفيها ورد الخبر في أول جمادى الاولى بوفاه عج بن حاج، امير الحجاز، فكتب السلطان الى أخيه ان يلى مكانه.

وفيها مات القاضى احمد بن عمر بن سريج وكان اعلم من بقي بمذهب الشافعى واقومهم به، ودفن يوم الثلاثاء لخمس بقين من ربيع الآخر.

وفي هذه السنه مات الحسين بن حمدان في الحبس، وقد قيل قتل، وقد كان على بن محمد بن الفرات تضمن عنه قبل القبض عليه ان يغرم السلطان مالا عظيما يقيم به الكفلاء، فعورض في ذلك وقيل له: انما يريد الحيله على الخليفة، فامسك.

وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر احمد بن العباس أخو أم موسى.

(11/71)

ثم دخلت

سنه سبع وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها اشخص عبد الله بن حمدان الى مؤنس الخادم لمعاونته على حرب يوسف ابن ابى الساج، فواقعه باردبيل، وانهزم ابن ابى الساج، فاسر وادخل مدينه السلام مشهرا، عليه الدراعه الديباج التي ألبسها عمرو بن الليث الصفار، والبس برنسا طويلا بشفاشج وجلاجل، وحمل على الفالج، وادخل من باب خراسان، فساء الناس ما فعل به إذ لم تكن له فعله ذميمه في كل من اسره او ظفر به، وحمل مؤنس وكسى وخلع على وجوه اصحابه، ووكل المقتدر بابن ابى الساج، وحبس في الدار، وامر بالتوسع عليه في مطعمه ومشربه، وهرب سبك غلام ابن ابى الساج عند الوقيعه، وكان صاحب امره كله ومدبر جيشه، وهرب معه اكثر رجال ابن ابى الساج، فقال مؤنس ليوسف: اكتب الى سبك في الاقبال إليك، فان ذلك مما يرفق الخليفة عليك.

ففعل ابن ابى الساج، وكتب الى سبك، فجاوبه: انى لا افعل حتى اعلم صنعهم فيك، وإحسانهم إليك، فحينئذ آتى طائعا.

وكانت لابن ابى الساج اشعار وهو محبوس منها:

اقول كما قال ابن حجر أخو الحجى ... وكان امرا راض الأمور ودوسا:

فلو انها نفس تموت سويه ... ولكنها نفس تساقط أنفسا

ولست بهياب المنيه لو أتت ... ولم ابق رهنا للتأسف والاسى

اجازى على الاحسان فيما فعلته ... وقدمته ذخرا جزاء الذى اسا

وانى لأرجو ان أءوب مسلما ... كما سلم الرحمن في اليم يونسا

فاجزى امام الناس حق صنيعه ... وامنح شكرى ذا العنايه مؤنسا

وفيها ركبت أم موسى القهرمانه بهديه امرت أم المقتدر بتهيئتها واهدائها عن بنات غريب الخال لأزواجهن بنى بدر الحمامي، فسارت أم موسى في موكب عظيم

(11/72)

فيه الفرسان والرجاله، وقيد بين يديها اثنا عشر فرسا بسروجها ولجمها، منها سته بحليه ذهب، وسته بحليه فضه، مع كل فرس خادم بجنبه عليه منطقه ذهب وسيوف بمناطق ذهب، واربعون طختا من فاخر الثياب ومائه الف دينار مسيفه، كل ذلك هديه من قبل النساء الى ازواجهن.

وفيها قدم ابو القاسم بن بسطام من مصر الى بغداد، بعد ان كتب اليه في القدوم لإدارة أدارها على بن عيسى عليه، ومطالبه ذهب الى اخذه بها فلما قدم وجه الى الخليفة والى السيده بهديه فخمه، واموال جزيله، فقطعا عنه مطالبه على بن عيسى، وانقطع بنفسه الى الوزير حامد، فاعتنى به وكان ذلك سببا لفساد ما بين الوزير حامد وبين على بن عيسى، ووقعت بينهما ملاحاة، خرجا معها الى التهاتر والتساب، وبعث ذلك حامد الوزير الى ان يضمن للخليفة فيما كان يتقلده على واحمد ابنا عيسى اموالا عظيمه، فأجيب الى ذلك واستعمل حامد عليها عبيد الله بن الحسن بن يوسف، فبلغته عنه بعد ذلك خيانة أقلقته، فاستأذن الخليفة وشخص من بغداد الى واسط، واقام بها أياما وانحدر منها الى الاهواز واحكم ما اراد، واوفى ما عليه من الأموال مقسطا في كل شهر سوى ما وهب وانفق فزعم انه وهب مائه الف دينار، وانفق مائه الف دينار.

وقدم الى بغداد في غره ذي القعده وخلع عليه وحمل قال الصولي: رايته يوما وقد شكا اليه شفيع المقتدرى فناء شعيره، فجذب الدواة الى نفسه وكتب له بمائه كر، وكتب لام موسى بمائه كر، وكتب لمؤنس الخادم بمائه كر.

وفي هذه السنه تتابعت الاخبار من مصر باقبال صاحب المغرب إليها وموافاته الإسكندرية.

ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بوقعه كانت بين اصحاب السلطان وبينهم في جمادى الاولى، وانه قتل من البرابر نحو من اربعه آلاف، ومن اصحاب السلطان مثلهم، فندب المقتدر مؤنسا الخادم للخروج الى مصر مره ثانيه، فخرج في شهر رمضان سنه سبع، وشيعه الى مضربه ابو العباس محمد بن امير المؤمنين المقتدر واجلاء الناس، وسار في آخر شهر رمضان فكان في الطريق باقى سنه سبع

(11/73)

وفيها مات ابو احمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لايام مضت من صفر.

وفي آخر صفر لست بقين منه توفى محمد بن عبد الحميد، كاتب السيده، وكان ممن عرضت عليه الوزارة فاباها، وكان موسرا بخيلا، وكان من مشايخ الكتاب الذين يعول عليهم في الأمور وفي احكام الدواوين، وأخذت السيده أم المقتدر بالله من مخلفيه من العين مائه الف دينار، واستكتبت السيده احمد بن عبيد الله بن احمد ابن الخصيب بعده وكان يكتب لثمل قهرمانتها، فضبط الأمر ضبطا شديدا وحمد اثره فيه.

واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس الهاشمى.

(11/74)

ثم دخلت

سنه ثمان وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) وفيها ورد مؤنس الخادم مصر يوم الخميس لاربع خلون من المحرم، وكان المقتدر قد وجهه إليها لمحاربه الشيعة بها على ما تقدم ذكره في العام قبله، فالفى مؤنس أبا القاسم الشيعى مضطربا بالفيوم، فخرج القضاه والقواد ووجوه اهل مصر الى مؤنس، ونزل خارج المدينة، واجتبى ابو القاسم خراج الفيوم، وضياع مصر، ودفع مؤنس ارزاق الجند من اموال اهل مصر، وباع بعض ضياعها فيما اعطاهم، وضم مؤنس الجيوش اليه، وقويت بذلك نفوس اهل مصر، وجرت بين ابى القاسم الشيعى وبين اهل مصر مكاتبات واشعار بعث بها مؤنس الى الخليفة، وفيها توبيخ لهم وتحامل عليهم، وسب كثير تركنا ذكره لما فيه وقد اجتلبنا بعضها ما لم يكن فيه كبير رفث، وكذلك ما فعلنا في الجواب، وأول شعر الشيعى:

أيا اهل شرق الله زالت حلومكم ... أم اختدعت من قله الفهم والأدب

صلاتكم مع من؟ وحجكم بمن؟ ... وغزوكم فيمن؟ أجيبوا بلا كذب

صلاتكم والحج والغزو ويلكم ... بشراب خمر عاكفين على الريب

الا ان حد السيف اشفى لذى الوصب ... واحرى بنيل الحق يوما إذا طلب

الم ترني بعت الرفاهة بالسرى ... وقمت بأمر الله حقا كما وجب

صبرت وفي الصبر النجاح وربما ... تعجل ذو راى فأخطأ ولم يصب

الى ان اراد الله اعزاز دينه ... فقمت بأمر الله قومه محتسب

وناديت اهل الغرب دعوه واثق ... برب كريم من تولاه لم يخب

فجاءوا سراعا نحو اصيد ماجد ... يبادونه بالطوع من جمله العرب

وسرت بخيل الله تلقاء أرضكم ... وقد لاح وجه الموت من خلل الحجب

واردفتها خيلا عتاقا يقودها ... رجال كأمثال الليوث لها جنب

(11/75)

شعارهم جدي ودعوتهم ابى ... وقولهم قولي على الناى والقرب

فكان بحمد الله ما قد عرفتم ... وفزت بسهم الفلج والنصر والغلب

وذلك دابى ما بقيت ودابكم ... فدونكم حربا تضرم كاللهب

فذكر الصولي انه امر بالجواب، فقال قصيده له طويله، كتبنا منها أبياتا وحذفنا منها مثل الذى حذفناه مما قبله:

عجبت وما يخلو الزمان من العجب ... لذى خطل في القول اهدى لنا الكذب

وجاء بملحون من الشعر ساقط ... فأخطأ فيما قال فيه ولم يصب

تباعد عن قصد الصواب طريقه ... فما عرفت تاويل اعرابه العرب

ولو كان ذا لب وراى موفق ... لقصر عن ذكر القصائد والخطب

فمن أنت يا مهدى السفاهه والخنا ... ابن لي فقد حقت على وجهك الريب

فلو كنت من اولاد احمد لم يغب ... عن الناس ما تسمو اليه من النسب

ولو كنت منهم ما انتهكت محارما ... يذبون عنها بالاسنه كالشهب

ولم تقتل الأطفال في كل بلده ... فتركب من أماتهم شر مرتكب

ابحت فروج المحصنات وبعت من ... اصبت من الاسلام بيعك للجلب

وكم مصحف خرقته فرماده ... مثاره مسفى الريح من حيث ما تهب

كفرت بما فيه وبدلت آيه ... وقضبت حبل الدين كفرا فما انقضب

وقد رويت أسيافنا من دمائكم ... فلم ينجكم منا سوى الجد في الهرب

تضيء بأيدينا وتظلم فيكم ... فكانت لنا نارا وكنتم لها حطب

فقل لي اى الناس أنتم وما الذى ... دعاكم الى ذكر الجحاجحة النجب

أولئك قوم خيم الملك فيهم ... فشدت أواخيه ومدت له الطنب

بهم غزونا اما سالت وحجنا ... فشق لما اسمعت جيبك وانتحب

أيا اهل غرب الله اظلم امركم ... عليكم فأنتم في نكوب وفي حرب

ولو كانت الدنيا مطيه راكب ... لكان لكم منها بما حزتم الذنب

قال محمد بن يحيى الصولي: فلما صنعت هذا الشعر عن عهد الخليفة الى أوصلني الى نفسه، فانشدته جميعه، فلما فرغت من الإنشاد قال على بن عيسى للخليفة: يا سيدي، هذا عبدك الصولي- وكان جده محمد الصولي حادي عشر

(11/76)

النقباء، وهو الذى أخذ البيعه للسفاح مع ابى حميد- قال: فنظر الى كالإذن لي في الكلام فتكلمت ودعوت قال: فامر لي بعشره آلاف درهم.

وكتب ابو القاسم الى اهل مكة يدعوهم الى الدخول في طاعته، ويعدهم بحسن السيرة فيهم، فأجابوه: ان لهذا البيت ربا يدفع عنه، ولن نؤثر على سلطاننا غيره.

وبقي ابو القاسم الشيعى بالفيوم ومؤنس بمصر، وكل واحد منهما محجم عن لقاء صاحبه، وساءت احوال من بينهما ومعهما.

وفي هذه السنه غلت الأسعار ببغداد، فظنت العامه ان ذلك من فعل حامد بن العباس، بسبب ضمانه للمقتدر، ما كان ضمنه، وانه هو منع من حمل الاطعمه الى بغداد، فشغبوا عليه وسبوه، وفتحوا السجون وكبسوا دار صاحب الشرطه محمد بن عبد الصمد، وكان ينزل في الجانب الشرقى في الدار المعروفه لعلى بن الجهشيار، وانتهبوا بعض دوابه وآلته حتى تحول الى باب خراسان الى الجانب الغربي، ووثب الناس به في الجانب الغربي أيضا، حتى ركب اليهم محمد بن عبد الصمد في جيش كثيف في السلاح، فارتدعوا، وقتل قوم من العامه بباب الطاق وسعر السلطان على الدقاقين، فكان ذلك أشد على الناس واعظم، واشار نصر الحاجب ان يترك الناس، ولا يسعر عليهم، فكان ذلك صوابا، وصلح امر السعر.

واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس أخو أم موسى.

(11/77)

ثم دخلت

سنه تسع وثلاثمائة

(ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس) فيها زاد شغب الناس ببغداد على حامد بن العباس الوزير، بسبب غلاء الأسعار حتى صاروا الى حد الخلعان، وحاربهم السلطان عند باب الطاق، وركب هارون ابن غريب الخال ونازوك وياقوت وغيرهم، بعد ان فتحت العامه السجون، ووثبوا على ابن درهم خليفه صاحب المعونة، وأرادوا قتله حتى حماه بعضهم، فلما راى ذلك حامد بن العباس دخل الى المقتدر فقال له: لعبدك حوائج، ان رايت قضاءها له، اكدت بذلك إنعامك عليه، قال: افعل، فما هي؟ قال: أولها فسخ ضماني فقد جاء من العامه ما ترى، وظنوا ان هذا الغلاء من جهتي فأجاب المقتدر الى ذلك، وساله ان يأذن له في الشخوص الى واسط، لينفذ عماله بما فيها من الاطعمه الى بغداد، فأجابه الى ذلك، وساله ان يعفيه من الوزارة فلم يجبه الى ذلك، فشخص حامد الى واسط ولم يبق غاية في حمل الاطعمه، حتى صلح امر الأسعار ببغداد ثم قدم في غره شهر ربيع الآخر، فتلقاه الناس، وشكروا فعله، وقد كان المقتدر عرض على على بن عيسى الوزارة فاباها، فكساه ووصله، واعطاه سوادا يدخل به عليه، كما يفعل الوزير، فاستعفى من ذلك ولم يفارق الدراعه.

وفي هذه السنه زحف ثمل الفتى الى الإسكندرية، فاخرج عنها قائد الشيعة ورجال كتامه، والفى لهم بها سلاحا كثيرا وأثاثا ومتاعا واطعمه، فاحتوى على الجميع واطلق كل من كان في سجنهم ثم اقبل ممدا لمؤنس واجتمعا بفسطاط مصر، وزحفا الى الفيوم لملاقاه ابى القاسم الشيعى ومناجزته، ومعهما جنى الصفواني وغيره من القواد، فجعل مؤنس يقصر المحلات، فعوتب على ذلك، فقال لهم: انكم انما تمشون في طرق المنايا، فلعل الله يصرفهم عنا، ويكفينا امرهم كما فعل قبل هذا فلقى جنى الصفواني بعض قواد ابى القاسم، فهزمه وقتل كثيرا ممن كان معه، وانهزم الباقون الى ابى القاسم، فراعه امرهم، وقفل عن الفيوم منصرفا الى إفريقية لليلة بقيت من صفر، وحمل ما