النُّكَت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر العسقلاني-المجلّد الأول
مكتبة مشكاة - من مُلتقى أهل الحديث
baljurashi.com.www
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الذي لا تنفد مع كثرة الإنفاق خزائنه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يؤازره ، ولا نظير له يعاونه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة ، فقد فاز متابعة ومعاونه ، وخسر مضاده ومباينه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحبه الين جمعت لهم غرر الدين القويم ومحاسنه .
أما بعد :
فإن الاشتغال بالعلوم الدينية النافعة أولى ما صرفت فيها فواضل الأوقات وأحرى بأن يهجر لها الملاذ والششهوات ، ولم آل جهداً منذ اشتغلت بطلب الحديث النبوي في تعرف صحيحه من معلوله ، ومنقطعه من موصوله ولم آلو عناناً عن الجري في ميدان نقلته والبحث عن أحوال حملته ، لأن ذلك هو المرقاة إلى معرفة سقيمة من صحيحه وتبيين راجحه من مرجوحه . ولكل مقام مقال . ولكل مجال رجال .
وكنت قد بحثت على شيخي العلامة حافظ الوقت أبي الفضل ابن الحسين الفوائد التي جمعها على مصنف الشيخ الإمام الأوحد الأستاذ أبي عمرو الن الصلاح ، وكنت في أثناء ذلك وبعده إذا وقعت النكتة الغربية ، والنادرة العجيبة والاعتراض القوي طوراً ، وتالضعيف مع الجواب عنه أخرةى ربما علقت بعض ذلك على هامش الأصل ، وربما أغفلته .
فرأيت الآن أن الصواب الاجتهاد في جمع ذلك ، وضم ما يليق به ويلتحق ب3 بهذا الغرض وهو تتمة التنكيت على كتاب ابن الصلاح ، فجمعت ما وقع لي من ذلك في هذه الأوراق .
ورقمت على أول كل مسألة إما (ص) وإما (ع) : الأولى : لابن الصلاح أو الأصل . والثانية للعراقي أو الفرع .
وغرضي بذلك جمع ما تفرق من الفوائد واقتناص ما لاح من الشوارد والأعمال بالنيات .
1- قوله (ص) في الخطبة : (( الواقي )) :
بالقاف وهو مشتق من وقال تعالى : ( فوقاه الله ) عملاً بأحد المذهبين في الأسماء الحسنى . والأصح عند المحققين أنها توقيفية .
وأما قوله سبحانه وتعالى : ( وما لهم من الله من واق ) فلا توقيف فيه على ذلك ، لكن اختار الغزالي أن التوقيف مختص بالأسماء دون الصفات . وهو اختيار الإمام فخر الدين أيضاً . وعلى ذلك يحمل عمل المصنف وغيره من الأئمة .
2- قوله : (ص) : (( حمداً بالغاً أمد التمام ومنتهاه )) :
اعترض عليه بأن هذه دعوى لا تصح وكيف يتخيل شخص أنه يمكنه أن يحمد الله حمداً يبلغ
منتهىالتمام .
والفرض أن الخلق كلهم لو اجتمع حمدهم لم يبلغ بعض ما يستحقه تعالى من الحمد فضلاً عن تمامه .
والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول : ((لا أحصي ثناء عليك )) . مع ما صح في حديث الشفاعة : ((أن الله يفتح عليه بمحامد لم يسبق إليه ))
والجواب : أن المصنف لم يدع أن الحمد الصادر منه بلغ ذلك ، وإنما أخبر أن الحمد الذي يجب لله هذه صفته وكأنه أراد أن الله مستحق لتمام الحمد . وهذا بين من سياق كلامه .
ومن هذا قول الشيخ محي الدين في خطبة المنهاج وغيره ـ أحمد أبلغ حمد وأكمله ، فمراده بذلك أنسب إلى ذاته المقدسة أبلغ المحامد . وليس مراده أن حمدي أبلغ الحمد ، وقد قال الأصحاب : (( إن أجل المحامد ـ أن يقول المرء ـ الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده )) . وهو راجع لما قلناه .
3- قوله (ص) : (( على نبينا )) :
اعترض عليه بأن النبي أعم مطلقاً من الرسول البشري ، والرسول البشري أخص ( فلم عدل ) عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة .
والجواب عنه : أنه اعتمد ذلك لتحصل المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه وهو قوله : والنبيين والتعبير بالصيغة الدالة على التعميم أولى .
وأيضاً فلو قال : على رسولنا لم يكن لائقاً ، لأن هذه الإضافة تصح على ما إذا كان المرسل هو القائل . وقد يدفع السؤال من أصله . بأن يقال : المقام مقان تعريف لا وصف . ومقام التعريف يحصل الاكتفاء فيه بأي صفة كانت .
4- قوله / (ص) : (( وآل كل )) :
إضافة إلى الظاهر خروجاً من الخلاف ، لأ، بعضهم لا يجيز إضافته إلى المضمر .
5- قوله (ص) : (( هذا وأن علم الحديث ... الخ )) :
هو فاصل عن الكلام السابق للدخول في غرض آخر . ومثاله في التخلص قوله سبحانه وتعالى : ( هذا وإن للطاغين لشر مآب ) .
فإن قلت : لم لم يأت بقوله : أما بعد مع أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كام يأتي بها في خطبه . قلت : لا حجر في ذلك بل هو من التفتن .
[ تعريف علم الحديث ]
وأولى التعاريف لعلم الحديث : معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى معرفة حال الراوي والمروي .
6- قوله (ص) : (( ولا يكرهه من الناس إلا رذالتهم )) :
وهو يضم الراء بعدها ذال معجمة ـ والرذالة ـ ما انتفى جيده فكأنه هنا وصف محذوف أي طائفة رذالة . والرذال بغير تاء : الدون الخسيس ، والردئ من كل شئ فيحتملأن تكون التاء في هذا للمبالغة . ولم أر رذل رذالة . وإنما ذكروا أرذال ورذول وأرذلون ورذال ـ والله أعلم .
7- قوله (ص) : (( وسفلتهم )) :
بفتح السين وكسر الفاء وفت اللام : وزن قرح جمع سفلة ـ بكسر السين وسكون الفاء ـ ويجوز أن يقرأ كذلك على إرادة الجنس .
8- قوله (ص) : (( وهو أكثر العلوم تولجاً ))
أي دخولاً في فنونها : والمراد بالعلوم هنا الشرعية وهي : التفسير ، والحديث ، والفقه . وإنما صار أكثر ، لاحتياج كل من العلوم الثلاثة إليه .
أما الحديث فظاهر . وأما التفسير ، فإن أولى ما فسر به كلام الله تعالى ـ ما ثبت عن نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( ويحتاج الناظر في ذلك إلى معرفة ما ثبت مما لم يثبت ) .
وأما الفق . فلا حتياج إلى الاستدلال بما ثبت من الحديث دون ما لم يثبت ، ولا يتبين ذلك إلا بعلم الحديث .
9- قوله / (ص) : (( وأفنان فنونه )) :
الأفنان : جمه فنن ـ بفتحتين ـ وهو الغصن . والفنون : جمع فن وهو الضرب من الشئ ، أي النوع وجيمع أيضاً على أفنان . لكن المراد هنا بالأفنان : جمع فنن كما تقدم .
10- قوله (ص) : (( غضة أي طرية )) :
وهي استعارة مناسبة للفنن وفيه الجناس بين أفنان وفنون .
11- قوله (ص) : ومغانية بأهله آهلة )) :
المغاني ـ بالغين المعجمة ـ جمع مغنى مقصور ، وهو المكان الذي كان مسكوناً ، ثم انتقل أهله عنه ، فكأنه أطلق عليه مغنى باعتبار ما آل إليه الأمر ، وكان قبل ذلك مسكوناً بأهله المستحقين له لا بغيرهم . وفيه جناس خطي في قوله : (( بأهله آهلة )) . بوزن فاعله .
12- قوله (ص) : (( شرذمة )) بالذال المعجمة :
وحكى ابن دحية جواز إهمالها ، وشذ بذلك .
13- قوله (ص) : (( من سماعه غفلاً )) بضم الغين المعجمة وسكون الفاء :
وهي استعارة يقال : أرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة فكأنه شبه الكتاب بالأرض ، والتقييد بالنقط والشكل والضبط بالعمران .
وقوله (ص) : (( عطلاً )) العاطل : ضد الحالي .
[ تقسيم أبي شامة علوم الحديث إلى ثلاثة : ]
وقد ذكر أبو شامة ـ في كتاب المبعث ـ شيئاً ينبغي تحريره فقال : يقال علوم الحديث الآن ثلاثة
1- أشرفها : حفظ متونها ومعرفة غريبها وفقهها .
2- والثاني : حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها وهذا كان مهماً ، وقد كفيه المشتغل بالعلم بما وصف وألف من هـ 3ب الكتب / فلا فائدة تدعو إلى تحصيل ما هو حاصل .
3- الثالث : جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه والرحلة إلى البلدان . والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من علومه النافعة ، فضلاً ، عن ي6 العمل الذي هو المطلوب الأول وهو العبادة .
إلا أنه لا بأس للبطالين ، لما فيه من بقاء سلسلة الإسناد المتصلة بأشرف البشر ... ( إلى آخر كلامه )
[ رد الحافظ على أبي شامة : ]
قلت : وفي كلامه مباحث من أوجه :
الأول : قوله : (( وهذا كفيه المشتغل بالعمل بما صنف فيه )) .
يقال عليه : إن كان التصنيف في الفن يوجب الاتكال على ذلك وعدم الاشتغال به ، فالقول كذلك في الفن الأول .
فإن فقه الحديث وغريبه لا يحصى كم صنف في ذلك ، بل لو ادعى مدع ( ) / أن التصانيف التي جمعت في ذلك أجمع من التصانيف التي جمعت ب7 في تمييز الرجال وكذا في تمييز الصحيح من السقيم لما أبعد بل ذلك هو الواقع .
فإن كان الاشتغال بالأول مهماً فالاشتغال بالثاني أهم ، لأنه المرقاة إلى الأول . فمن أخل به خلط الصحيح بالسقيم والمعدل بالمجروح وهو لا يشعر وكفى بذلك عيباً بالمحدث .
فالحق أن كلاً منهما في علم الحديث مهم لا رجحان لأحدهما على الآخر . نعم لو قال : الاشتغال بالفن الأول أهم كان مسلماً مع ما فيه .
دولا شك أن من جمعهما حاز القدح المعلى . ومن أخل بهما فلا حظ له في اسم المحدث .
( ومن حرر الأول ، وأخل يالثاني كان بعيداً من اسم المحدث عرفاً ) . هذا لا ارتياب فيه .
بقي الكلام في الفن الثالث : وهو السماع وما ذكر معه ولا شك أن من جمعه مع الفن كان أوفر وأحظ قسماً لكن وإن كان من اقتصر عليه كان أنحس حظاً وأبعد حفظاً .
فمن جمع الأمور الثلاثة كان فقيهاً محدثاً كاملاً ، ( ومن انفرد باثنين منهما كان دونه . وإن كان لا بد من الاقتصار على اثنين ) فليكن الأول والثاني . أما من أخل بالأول واقتصر على الثاني والثالث فهو محدث صرف لا نزاع في ذلك .
ومن انفرد بالأول ، فلا حظ له في اسم المحدث كما ذكرنا . هذا تحرير المقال في هذا الفصل ـ والله أعلم .
14- قوله / (ص) : (( فهرست أنواعه )) .
الصواب أنها بالتاء المثناة وقوفاً وإدماجاً ، وربما وقف عليها بعضهم بالهاء وهو خطأ . قال صاحب تثقيف اللسان :
فهرست بإسكان السين والتاء فيه أصلية ومعناها في اللغة : جملة العدد للكتب / لفظة فارسي ، قال : واستعمل الناس منها فهرس الكتب يفهرسها ب8 فهرسة مثل : دحرج وإنما الفهرست : اسم جملة العدد .
والفهرسة المصدر : كالفذلكة يقال : فذلكت الحساب إذا وقفت على جملته .
15- قوله (ص) : (( هذا آخر أنواعه وليس بآخر الممكن ، لأنه قابل للتنويع )) :
فيه أمور :
أحدها : أنه اعترض عليه بأن كثيراً من هذه الأنواع متداخل ، لصدق رجوع بعضها إلى بعض : كالمتصل بالنسبة إلى الصحيح وكالمنقطع والمعضل والمعنعن والمرسل والشاذ والمنكر والمضطرب وغيرها من أقسام الضعف .
والجواب عن هذا أن المصنف لما كان في مقام تعريف الجزئيات انتفى التداخل ، لاختلاف حقائقها في أنفسها بالنسبة إلى الاصطلاح وإن كانت قد ترجع إلى قدر مشترك .
وقد أشار هو إلى ذلك في آخر الكلام على نوع الضعيف كما سيأتي .
وثانيهما : أنه لم يرتب الجميع على نسق واحد في المناسبة فكان يذكر ما يتعلق بالإسناد وحده ، وما يتعلق بالمتن خاصة وحده ، وما يجمعهما وحده .
وما يختص بهيئة السماع والأداء وحده / ، وما يختص بصفات الرواة وأحوالهم وحده .
والجواب عن ذلك : أنه جمع متفرقات هذا الفن من كتب مطولة في هذا الحجم اللطيف ، ورأى أن تحصيله وإلقاءه إلى طالبيه أهم من صرف العناية إلى حسن ترتيبه فإنني رأيت بخط المحدث فخر الدين : عمر بن يحيى الكرجي ما يصرح بأن الشيخ كان إذا حرر نوعاً من هذه الأنواع واستوفى التعريف به وأورد أمثلته وما يتعلق به أملاه ، ثم انتقل إلى تحرير نوع آخر ، فلأجل هذا احتاج إلى سرد أنواعه في خطبة الكتاب ، لأنه ي8 صنفها بعد فراغه من إملاء الكتاب ، ليكون عنواناً للأنواع ولوكانت محررة الترتيب على الوجه المناسب ما كان في سرده للأنواع في الخطبة كثير فائدة .
ثالثها : أنه أهمل أنواعاً أخر .
قال الحازمي ـ في كتاب العجالة له :
(( اعلم أن علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تقرب من مائة نومع وكل نوع منها علم متسقل لو أنفق الطالب فيه عمره لما أدرك نهايته )) أهـ .
وقد فتح الله تعالى بتحرير أنواع زائدة على ما حرره المصنف تزيد على خمسة وثلاثين نوعاً . فإذا أضيفت إلى الأنواع التي ذكرها المصنف تمت مائة نوع كما أشار إليه الحازمي وزيادة .
وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني منها في محاسن الإصلاح له خمسة أنواع : وزاد عليه بعض تلامذته ـ ممن أدركناه ومات قديماً ـ ثمانية أنواع .
وفتح الله بباقي ذلك من تتبع مصنفات أئمة الفن كما سنسردها إن شاء الله تعالى عند فراغ هذه النكت وتتكلم على كل نوع منها بما لا يقصر إن شاء الله تعالى عن طريقة المصنف ـ والله المستعان
[ تعريف الحديث الصحيح : ]
16- قوله (ص) : (( أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده ... )) إلى آخره :
اعترض عليه بأنه لو قال : المسند المتصل لاستغنى عن تكرار لفظ الإسناد .
والجواب : عن ذلك أنه إنما أراد وصف الحديث المرفوع . لأنه الأصل الذي يتكلم عليه . والمختار في وصف المسند على ما سنذكره أنه الحديث الذي يرفعه الصحابي مع ظهور الاتصال ( في باقي الإسناد ) فعلى هذا لا بد من التعرض لاتصال الإسناد في شرط الصحيح ـ والله أعلم .
17- قوله (ص) في حد الصحيح : (( أن لا يكون شاذاً ولا معللاً )) :
اعترض عليه ، بأنه كان ينبغي أن يزيد فيه قيد القدح بأن يقول ولا معللاً بقادح .
وقد ذكره بعد هذا في قوله : وفي هذه / الأوصاف احتراز عن ما فيه علة ي9 قادحة فكان يتعين أن يذكره في نفس الحد لأن من مسمى العلل ما لا يقدح كما سيأتي .
ومن هنا اعترض الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد عليه بأن قال : وفي قوله : (( ولا شاذاً ولا معللاً )) نظر على مقتضى مذاهب الفقهاء ، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء ، انتهى .
فقوله : (( إن كثيراً )) يدل على أن من العلل ما يجري على أصول الفقهاء وهي العلل القادحة . وأما العلل التي يعلل بها كثير من المحدثين ولا تكون قادحة فكثيرة .
1- منها : أن يروي العدل الضابط عن تابعي مثلاً عن صحابي / ب11 حديثاً فيرويه عدل ضابط غير مساو له في عدالته وضبطه وغير ذلك من الصفات العلية عن ذلك التابعي بعينه عن صحابي آخر ، فإن مثل هذا يسمى على عندهم لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه ، ولكنها غير قادحة
لجواز أن يكون التابعي سمعه من الصحابيين معاً من هذا جملة كثيرة / ر5/ب
والجواب عن المصنف : أن لم يخل باحتراز ذلك ، بل قوله : (( ولا يكون / هـ5ـ ب معللاً إنما يظهر من تعريفه المعلل ( وقد عرف ) فيمع بعد أنه الحديث الذي اطلع في إسناده الذي ظاهره السلامة على علة خفية قادحة …
فلما اشترط انتفاء المعلل دل على أنه انتفاء ما فيه خفية قادحة . فلهذا قال : (( فيه احتراز عما فيه علة قادة )) .
ويحتمل إنه إنما لم يقيد العلة بالقدح في نفس الحد ليكون الحد جامعاً للحديث الصحيح المتفق على قبوله عند الجميع ، لأن بعض المحدثين يرد الحديث بكل علة سواء كانت قادحة أو يغر قادحة ، ومع ذلك فاختياره أن لا يرد إلا بقادح بدليل قوله : بع
كلامه (( وفيه احتراز عما فيه علة قادحة )) فوصفه للعلة بالقادح يخرج غير القادح . هكذا أجاب به شيخنا في شرح منظموته والأول أوضح ـ والله أعلم .
تنبيهات
الأول : مراده بالشاذ هنا ما يخالف الراوي فيه من هو أحفظ منه أو أكثر كما فسره الشافعي . لا مطلق تفرد الثقة كما فسره به الخليلي . فافهم ذلك . وللمخالفة شرط يأتي في نوع زيادة الثقة .
الثاني سنبينه في الكلام على الحسن على موضع يتبين منه أن هذا التعريف للصحيح غير مستوف لأقسامه عند من خرج الصحيح حتى ولا الشيخين .
وذلك عند قوله : (( إن الحسن إذا تعددت طرقه ارتقى إلى الصحة )) . ـ والله الموفق ـ .
الثالث : إنما لم يشترط نفي النكارة ، لأن المنكر على قسميه عند من يخرج الشاذ هو أشد ضعفاً من الشاذ . فنسبه الشاذ من المنكر نسبه الحسن من الصحيح فكما يلزم من انتفاء الحسن عن الإسناد انتفاء الصحة .
كذا يلزم من انتفاء الشذوذ عنه انتفاء النكارة . ولم يتفطن الشيخ تاج الدين التبريزي لهذا وزاد في حد الصحيح ، أن لا يكون شاذاً ولا منكراً . هـ
الرابع : زاد الحاكم في علوم الحديث في شرط الصحيح أن يكون راوية مشهوراً بالطلب ، وهذه الشهرة قدر زائد على مطلق الشهرة التي تخرجه من الجهالة . واستدل الحاكم على مشروطية الشهرة بالطلب بما أسنده عن عبد الله بن عون قال : (( لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له عندنا بالطلب )) . والظاهر من صاحبي الصحيح اعتبار ذلك .
إلا أنهما حيث يحصل للحديث طرق كثيرة يستغنون بذلك عن اعتبار ذلك ـ والله أعلم ـ
[ اشتراط العدد لقبول الحديث لم يصرح به أحد من المحدثين : ]
1- قوله ع : (( وكأن البيهقي رآه ي كلام أبي محمد الجويني فنبه على أنه لا يعرف عن أهل
الحديث )) .
يعني اشتراط العدد في الحديث المقبول بأن يرويه عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ انتهى .
وهذا إن كان الشيخ أراد بأنه لا يعرف التصريح به من أحد أهل الحديث فصحيح ، وإلا فذلك موجود في كلام الحاكم أبي عبد الله الحافظ في المدخل .
وقد نقله عنه الحازمي لما ذكر أن الحديث الصحيح ينقسم أقساماً وأعلاماً شرط البخاري ومسلم ، ، وهي الدرجة الأولى من الصحيح ، وهو أن يرويه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صحابي زائل عنه اسم الجهالة . بأن يروي عنه تابعيان عدلان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة ، وله روايان ثقتان ، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين ، حافظ متقن ، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة ، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته .
( وله رواة ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة ) .
وقال في كتاب علوم الحديث له (( وصفة الحديث الصحيح أن يرويه )) ثم ساق نحو ذلك كن لم يتعرض لعدد معين فيمن بعد التابعين .
وقد فهم الحافظ أبو بكر الحازمي من كلام الحاكم أن ادعى أن الشيخين لا يخرجان الحديث إذا انفرد به أحد الرواة فنقض عليه بغرائب الصحيحين .
والظاهر أن الحاكم لم يرد ذلك وإنما أراد كل راو في الكتابين من الصحابة فمن بعدهم يشترط أن يكون له راويان في الجملة ، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه عنه ، إلا أن قوله في آخر الكلام . ثم يتداوله أهل الحديث كالشهادة على الشهادة .
إن أراد به تشبيه الرواية بالشهادة من كل وجه فيقوى اعتراض الحازمي وإن أراد به تشبيهها بها في الاتصال والمشافهة ، فقد ينتقض عليه بالإجازة والحاكم قائل بصحتها .
وأظنه إنما أراد بهذا التشبيه أصل الاتصال ( والإجازة عند المحدثين لها حكم الاتصال ) والله أعلم .
ولا شك أن الاعتراض عليه في علوم الحديث أشد من الاعتراض عليه بما في المدخل ، لأنه جعل في المدخل هذا شرطاً لأحاديث الصحيحين .
وفي العلوم جعله شرطاً للصحيح في الجملة . وقد جزم أبو حفص الميانجي بزيادة على ما فهمه الحازمي من كلام الحاكم .
[ زعم الميانجي أن الشيخين يشترطان العدد في صحة الحديث في كتابيهما : ]
فقال في ( كتاب ما لا يسع المحدث جهله ) إن شرط الشيخين في صحيحهما ـ أن لا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما ، وذلك ما رواه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ اثنان فصاعداً وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر ، وأن يكون مستغن بحكايته عن الرد عليه فإنهما لم يشترطا ذلك ولا واحد منهما .
وكم في الصحيحين من حديث لم يروه إلا صحابي واحد ، وكم فيهما من حديث لم يروه إلا تابعي واحد .
وقد صرح مسلم في صحيحه ببعض ذلك . وإنما حكيت كلام الميانجي هنا ، لأتعقبه لئلا يغتر به .
[ اشتراط ابن علية وغيره العدد في صحة الحديث : ]
وأما اشتراط العدد في الحديث الصحيح ، فقد قال به قديماً إبراهيم بن إسماعيل بن علية وغيره .
وعقد الشافعي في (( الرسالة )) باباً محكماً لوجوب العمل بخبر الواحد ، وخبر الواحد عندهم هو : ما لم يبلغ درجة المشهور سواء رواه شخص واحد أو أكثر .
ورأيت في بعض تصانيف الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر لا يصح عندهم إلا إن رواه أربعة .
وعن أبي علي الجبائي أحد المعتزلة ـ أيضاً ـ فيما حكاه أبو الحسين البصري في المعتمد (( أن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا إذا انضم إليه خبر عدل آخر . أو عضده موافقة ظاهر الكتاب ، أو ظاهر خبر آخر . أو يكون منتشراً بين الصحابة ، أو عمل به بعضهم )) .
وأطلق الأستاذ أبو منصور التميمي عنه أنه اشترط الاثنين عن الاثنين والحق عنه التفصيل الذي حكيناه .
واحتج على ذلك :
1- بقصة ذي اليدين وكون النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ توقف في خبره حتى تابعه أبوبكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما .
2- وقصة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حين توقف في حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ في ميراث الجدة حتى تابعه محمد بن مسلمة .
3- وقصة عمر ـ رضي الله عنه ـ في توقفه في حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ في الاستئذان حتى تابعه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ وغير ذلك .
4- وقول على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ (( كنت إذا حدثني رجل استحلفته فإن حلف لي صدقته )) .
والجواب : عن ذلك كله واضح .
أما قصة ذي اليدين : فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إنما توقف فيه للريبة الظاهرة ، لأنه أخبر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن فعل نفسه وكان ثم جماعة من أكابر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولم يذكره أحد منهم سواء ، فكان موجب التوقف قوياً . وقد قبل خبر غيره على انفراده عند انتفاء الريبة في جملة من الوقائع .
وأما قصة المغيرة ـ رضي الله عنه ـ فإن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إنما توقف فيه ، لأنه أمر مشهور فأراد أن يثبت فيه ، وقد قبل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وحدها في القدر الذي كفن فهي رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى غير ذلك من الأخبار .
وأما عمر ـ رضي الله عنه ـ فإن أبا موسى ـ رضي الله عنه ـ أخبره بذلك الحديث عقب إنكاره عليه رجوعه ، فأراد عمر ـ رضي الله عنه ـ الاستثبات في خبره لهذه القرينة .
وقد قبل عمر ـ رضي الله عنه ـ حديث عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ وحده في أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أخذ الجزية من مجوس هجر .
وحديثه وحده ـ رضي الله عنه ـ في النهي عن الفرار من الطاعون وعن دخول البلد التي وقع بها .
وحديث الضحاك بن سفيان في توريث امرأة أشيم من دية زوجها . وعدة أخبار من أخبار الآحاد في عدة من الوقائع .
وأما صنيع علي ـ رضي الله عنه ـ في الاستحلاف فقد أنر البخاري صحته وعلى تقدير ثبوته ، فهو مذهب تفرد به والحامل له على ذلك المبالغة في الاحتياط ، والله أعلم .
18- قوله (ص) : (( ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق . على أن جماعة من أئمة الحديث خاضوا غمرة ذلك )) . (انتهى ) .
إما الإسناد فهو كما قال قد صرح جماعة من أئمة الحديث بإن إسناد كذا أًح الأسانيد .
وأما الحديث فلا يحفظ عن أحد من أئمة الحديث أنه قال : حديث كذا أصح الأحاديث على الإطلاق ، لأنه لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح ، لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني ووجودها في الأول .
أو كثرة المتابعات وتوافرها على الثاني دون الأول . فلأجل هذا ما خاض الأئمة إلا في الحكم على الإسناد خاصة . وليس الخوض فيه يمتنع ، لأن الرواة قد ضبطوا ، وعرفت أحوالهم وتفاريق مراتبهم ، فأمكن الاطلاع على الترجيح بينهم وسبب الاختلاف في ذلك إنما هو من جهة أن كل من رجح إسناداً كانت أقوالهم ، لاختلاف اجتهادهم .
وتوضيح هذا أن كثيراً ممن نقل عنه الكلام في ذلك إنما يرجح إسناد أهل بلده ، وذلك لشدة اعتنائه .
فروينا في الجامع للخطيب من طريق أحمد بن سعيد الدارمي قال : سمعت محمود بن غيلان
يقول قيل لوكيع ابن الجراح :
هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ . وأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ . وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ . أيهم أحب إليك ؟
قا ل: لا نعدل بأهل بلدنا أحداً .
قال أحمد بن سعيد الدارمي : (( فأما أنا أقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أحب إلى هكذا رأيت أصحابنا يقدمون )) .
ولكن يفيد مجموع ما نقل عنهم في ذلك ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأصحية . على ما لم يقع له حكم من أحد منهم .
وللناظر المتقن في ذلك ترجيح بعضها على بعض ولو من حيث رجحان ( حفظ ) الإمام الذي رجح ذلك الإسناد على غيره .
وقد ذكر المسصنف من ذلك خمسة تراجم . ومما لم يذكره قال حجاج بن الشاعر أو غيره . أصح الأسانيد ـ شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن شيوخه .
2- وقال يحيى بن معين : عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ، ليس إسناد أثبت من هذا .
3- وقال سليمان بن داود الشاذكوني : أصح الأسانيد : يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ .
4- وقال النسائي : أصح الأسانيد التى تروى أربعة منها ـ غير ما تقدم الزهري عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس عن عمر ـ رضي الله عنه ـ .
5- وقال ابن معين أيضاً : عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ترجمة مشبكة بالدر وفي رواية الذهب .
6- وقال أبو حاتم الرازي : يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كأنك تسمعها من في رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
7- وكذا رجح أحمد بن حنبل عبيد الله بن عمر عن نافع ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ على مالك وأيوب .
8- وقال ابن المبارك ووكيع ـ كما تقدم ـ والعجلي : (( أرجح الأسانيد وأحسنها : سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
9- قال : أيوب عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فإن كان من حديث حماد بن زيد عن أيوب فيالك .
قلت : فعلى هذا فقد اختلف اجتهاد أحمد بن حنبل في هذه الترجمة . وكذا رجحها النسائي .
10- نعم ، وأخرج الترمذي عن محمد بن أبان عن وكيع . قال : الأعمش أحفظ لإسناد إ[راهيم من منصور .
11- وقال علي بن المديني : (( من أصح الأسانيد حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه )) .
12- وقال البخاري ـ فيما ذكره الحاكم عنه أيضاً ـ أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه .
13- وروى ابن شاهين في الثقات عن أحمد بن صالح المصري قال : (( ومن أثبت أسانيد أهل المدينية إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان ـ يعني عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه )) .
14- وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : (( ليس بالكوفة أصح من هذا الإسناد يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن الحارث بن سويد عن علي ـ رضي الله عنه )) .
وروى عن يحيى بن معين نحوه .
15- وفي الترمذي في الدعوات (( عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال : في حديث الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي ـ رضي الله عنه ـ هذا مثل الزهري عن سالم عن أبيه ، ذكره عقب حديث الافتتاح قبل باب ما يقول في سجود القرآن .
وقال الحاكم أبو عبد الله ـ في معرفة علوم الحديث له : أصح الأسانيد أهل البيت : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي ـ رضي الله عنه ـ إذا كان الراوي عن جعفر ثقة .
وأصح أسانيد الصديق ـ رضي الله عنه : إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر ـ رضي الله عنه .
وأصح أسانيد عائشة ـ رضي الله عنها ـ الزهري عن عروة عنه . وأصح أسانيد أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ مالك عن الزهري عنه .
وأصح أسانيد اليمانيين : معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه . وأصح أسانيد المكيين ـ سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ـ رضي الله عنه .
وأثبت أسانيد المصريين ـ الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخبر عن عقبة بن عامر رضي الله عنه .
وأثبت أسانيد الشاميين ـ الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة ـ رضي الله عنهم .
وأثبت أسانيد الخراسانيين ـ الحسن بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ـ رضي الله عنه
قلت : وهذا الذي ذكره الحاكم قد ينازع في بعضه ، ولا سيما في أسانيد أنس ـ رضي الله تعالى عنه .
فإن قتادة وثابتاً البناني أقعد وأسعد بحديثه من الزهري ، ولهما من الرواة جماعة ، فأثبت أصحاب ثابت البناني حماد بن زيد ، وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل غيره .
وإنما جزمت بشعبة ، لأنه لا يأخذ عن أحد ممن وصف بالتدليس إلا ما صرح فيه ذلك المدلس بسماعه من شيخه .
وقد تقدم النقل عن أحمد بن سعيد الدارمي في ترجيح هشام بن عروة عن أبيه . وكذا قوله في أسانيد أهل الشام فيه نظر . فإن جماعة من أئمتهم رجحوا رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر ـ رضي الله عنه . فهذه بقية أقوال الأئمة في أصح الأسانيد .
وذكر البزار في مسنده أن رواية علي بن الحسين بن علي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أصح إسناد يروى عن سعد ـ رضي الله عنه .
وقال ابن حزم أصح طريق يروى في الدنيا عن عمر ـ رضي الله عنه ـ رواية الزهري عن السائب بن يزيد ـ ضي الله عنه .
فإذا أضيفت إلى ما ذكره المصنف أفادت ترجيح ما نص على أصحيته إذا عارضه ما لم ينص فيه على الأصحية وإن كان صحيحاً .
فإن عارضه من نص ـ أيضاً على أصحيته نظر إل المرجحين فإيمهما كان أرجح بقوله وإلا فيرجع إلى القرائن التي تحف أحد المحدثين فيقدم بها على غيره ـ والله أعلم .
تنبيه
الذي رجح رواية أيوب عن ابن سيرين هو سليمان بن حرب .
تذليل
قال البرديجي : أجمع أهل النقل على صحة حديث الزهري عن سالم عن أبيه ، وعن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ من رواية مالك وابن عيينة ومعمر والزبيدي ما لم ( يختلفوا ) . فإذا اختلفوا توقف فيه .
والذي رجح رواية ابن عون عن ابن سيرين ـ هو ابن المديني وعين الراوي عن أيوب فقال هو حماد بن زيد .
تنبيه
لم يذك المصنف أوهى الأسانيد ، وقد ذكره الحاكم وأظنه حذفه لقلة جدواه بالنسبة إلى مقابلة وسأشير إليه في الكلام على الحديث الموضوع إن شاء الله تعالى .
19- قوله (ص) : (( وبنى الإمام أبو منصور التميمي على ذلك أن أجل الأسانيد رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الشافعي ، انتهى .
وقد اعترض الشيخ علاء الدين مغلطاي على ذلك برواية أبي حنيفة عن مالك وبأن ابن وهب والقعني عند المحدثين أوثق وأتقن من جميع من روى عن مالك ، انتهى .
فأما اعتراضه بأبي حنيفة ، فلا يحسن ، لأن أبا حنيفة لم تثبت روايته عنة مالك وإنما أروده الدار قطني والخطيب في الرواة عنه ، لروايتين وقعت لهما عنه بإسنادين فيما مقال . وهما لم يلتزما في كتابيهما الصحة وعلى تقدير الثبوت فلا يحسن أيضاً ـ الإيراد . لأن من يروي عن رجل حديثاً أو حديثين على سبيل المذاكرة ، لا يفاضل في الرواية عنه بينه وبين من روى عنه ألوفاً .
وقد قال الإمام أحمد : أنه سمع الموطأ من الشافعي عن مالك ـ رضي الله عنه ـ بعد أن كان سمعه من عبد الرحمن بن مهدي .
ولا يشك أحد أ ابن مهدي أعلم بالحديث من ابن وهب والقعني فما أدري من أين له هذا النقل عن المحدثين أن ابن وهب والقعني أثبت أصحاب مالك .
نعم قال بعضهم : إن القعني أثبت الناس في الموطأ هكذا أطلقه على ابن المديني والنسائي وكلاهما محمول على أهل عصره فإنه عاش بعد الشافعي بضع عشرة سنة .
ويحتمل أن يكون تقديمه عند من قدمه باعتبار أنه سمع كثيراً من الموطأ من لفظ مالك بناء على السماع من لفظ الشيخ أتقن من القراءة عليه .
وأما ابن وهب فقد قال غير واحد أنه كان غير جيد التحمل فكيف ينقل هذا الرجل أنه أوثق أو أتقن أصحاب مالك على أنه لا يحسن الإيراد على كلام أبي منصور أصلاً ، لأنه عبر بأجل . ولا يشك أحد أن الشافعي أجل من هؤلاء . ما أجل ما اجتمع له من الصفات العلية الموجبة لتقديمه وهذا لا ينازع فيه إلا جاهل أو متغافل ـ والله الموفق .
وعلى تسليم ما ذكره أبو منصور التميمي فبنى العلامة صلاح الدين العلائي وغيره على ذلك أن أجل الأسانيد رواية أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما .
وقد جمع الحافظ أبو بكر الحازمي في ذكل جزءاً سماه (( سلسلة الذهب )) لكنه في مطلق رواية أحمد عن الشافعي وفيه عدة أحاديث رواها أحمد عن سليمان بن داود الهاشمي عن الشافعي وهو جزء كبير مسموع لنا .
وليس في مسند أحمد على كبره من روايته عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ سوى أربعة أحاديث ـ جمعها في موضع واحد وساقها سياق الحديث الواحد . وقد ساقها شيخنا في شرح منظومته .
وجمعتها مع ما يشبهها من رواية أحمد عن الشافعي عن مالك ومع عدم التقييد بنافع في جزء مفرد فما بغلت عشرة ـ والله الموفق .
[ تعذر التصحيح في هذه الأعصار بمجرد اعتبار الأسانيد في نظر ابن الصلاح : ]
20- قوله (ص) : (( لقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بنجرد اعتبار الأسانيد ، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عرباً عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والاتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ... إلى آخر كلامه )) .
[ رد الحافظ عل ابن الصلاح : ]
وفيه أمور :
الأمر الأول : قوله : (( عما يشترط في الصحيح من الحفظ )) فيه نظر ، لأن الحفظ لم يعده أحد من أئمة الحديث شرطاً للصحيح وإن كان حكى عن بعض المتقدمين من الفقهاء . كما روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت أشهب يقول : سئل مالك عن الرجل الغير فهم يخرج كتابه ويقول : هذا سمعته ؟ .
قال : لا يؤخذ إلا عمن يحفظ حديثه أو يعرف .
ورواها الحاكم في (( علوم الحديث )) من طريق ابن عبد الحكم عن أشهب بلفظ آخر ، قال : (( سئل مالك أيؤخذ العلم ممن لا يحفظ حديثه وهو ثقة صحيح )) ؟ . قال : (( لا )) .
قيل : فإن أتى بكتب فقال : سمعتها وهو ثقة .
قال : لا يؤخذ عنه أخاف أن يزاد في حديثه بالليل .
هذا وإن كان صريحاً في أنه لا يؤخذ عمن لا يحفظ ، فإن العمل في القديم والحديث على خلافه ، لا سيما منذ دونت الكتب وقد ذكر المؤلف في (( النوع السادس والعشرين )) أن ذلك من مذاهب أهل التشديد . هذا إن أراد المصنف بالحفظ حفظ ما يحدث به الراوي يعينه ، وإن أراد أن الراوي شرطه أن يعد حافظاً ، فللحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظاً
[ شروط التسمية بالحافظ : ]
1- وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف .
2- والعرفة بطلبات الرواة ومراتبهم .
3- والمعرفة بالتجريح والتعديل وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون .
فهذه شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظاً . ولم يجعله أحد من أئمة الحديث شرطاً للحديث الصحيح . نعم والمصنف لما ذكر حد الصحيح لم يتعرض للحفظ أصلاً فما باله يشعر هنا بمشروطيته
ومما يدل على أنه أراد حفظ ما يحديث به بعينه أنه قابل به من اعتمد على ما في كتابه فدل على أنه
يعيب من حدث من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه . والمعروف عن أئمة الحديث
كالإمام أحمد وغيره خلاف ذلك .
الأمر الثاني : أن من اعتمد في روايته على ما في كتابه لا يعاب بل هو وصف أكثر رواة اصليحح من بعد الصحابة وكبار التابعين لأن الرواة الذين للصحيح على قسمين :
(أ) قسم كانوا يعتمدون على حفظ حديثهم ، فكان الواحد منهم يتعاهد حديثه ويكرر عليه فلا يزال مبيناً له ، وسهل ذلك عليهم قرب الإسناد وقلة ما عند الواحد منهم من المتون حتى كان من يحفظ منهم ألف حديث يار إليه بالأصابع . ومن هنا دخل الوهم والغلط على بعضهم لما جبل عليه الإنسان من السهو والنسيان .
(ب) وقسم كانوا يكتبون ما يسمعونه ويحافظون عليه ولا يخرجونه من أيديهم ويحدثون منه . وكان الوهم والغلط في حديثهم أقل من أهل القسم الأول إلا من تساهل منهم .
كمن حدث من غير كتابه ، أو أخرج من يده إلى غيره فزاد فيه ونقص وخفى عليه . فتكلم الأئمة فيمن وقع له ذلك منهم .
وإذا تقرر هذا ، فمن كان عدلاً ، لكنه لا يحفظ حديثه عن ظهر قلب واعتمد على ما في كتابه فحدث منه ، فقد فعل اللازم له وحديثه على هذه الصورة صحيح بلا خلاف . فكيف يكون هذا سبباً لعدم الحكم بالصحة على ما يحدث به . هذا مردود ـ والله سبحانه وتعالى أعلم ـ .
الأمر الثالث : قوله : (( فآل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمد المشتهرة ... إلى آخره فيه نظر ، لأنه يشعر بالاقتصار على ما يوجد منصوصاً على صحته ورد ما جمع شروط الصة إذا لم يوجد النص على صحته من الأئمة المتقدمين .
فيلزم على الأول تصحيح ما ليس بصحيح ، لأن كثيراً من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحة ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن .
فمن في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن . وكذا في كتاب ابن حبان بل وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أن الترمذي ممن يفرق بين الصحيح والحسن ، لكنه قد يخفى على الحافظ بعض العلل في الحديث فيحكم ( عليه ) بالصحة بمقتضى ما ظهر له ويطلع عليها غيره فيرد بها الخبر .
وللحاذق الناقد بعدهما الترجيح بين كلاميهما بميزان العدل والعمل بما يقتضيه الانصاف ويعود الحال إلى النظر والتفتيش الذي يحاول المصنف سد بابا ، والله تعالى أعلم .
الأمر الرابع : كلامه يقتضي الحكم بصحة ما نقل عن الأئمة المتقدمين فيما حكموا بصحته في كتبهم المعتمدة المشتهرة .
والطريق التي وصل إلينا بها كلامهم على الحديث بالصحة وغيرها هي الطريق التي وصلت إلينا أحاديثهم .
فإن أفاد الإسناد صحة المقالة عنهم فليفد الصحة بأنهم حدثوا بذلك الحديث ويبقى النظر إنما هو في الرجال الذين فوقهم وأكثرهم رجال الصحيح كما سنقرره .
الأمر الخامس : ما استدل به على تعذر التصحيح في هذه الأعصار المتأخرة بما ذكره من كون الأسانيد ما منها إلا وفيه من لم يبلغ درجة الضبط والحفظ والاتقان ليس بدليل ينهض لصحة ما ادعاه من التعذر ، لأن الكتاب [ المشهور ] الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه : كسنن النسائي مثلاً لا يحتاج في صحة نسبته إلى النسائي إل اعتبار حال رجال الإسناد منا إلى مصنفه .
[ مذهب الحافظ جواز التصحيح وغيره في الأعصار المتأخرة : ]
فإذا روى حديثاً ولم يعلله وجمع إسناده شروط الصحة ولم يطلع المحدث المطلع فيه على علة ـ ما المانع من الحكم بصحته ولو لم ينص على صحته أحد من المتقدمين ، ولا سيما وأكث ما يوجد من هذا القبيل ما رواته رواة الصحيح . هذا لا ينازع فيه من له ذوق في هذا الفن . وكأن المصنف إنما اختاره من ذلك بطريق نظري وهو :
أن المستدرك للحاكم كتاب كبير جداً يصفو له منه صحيح كثير زائد على ما في الصحيحين على ما ذكر المصنف بعد وهو مع حرصه على جمع الصحيح الزائد على الصحيحين واسع الحفظ كثير الاطلاع غزير الرواية ، فيبعد كل البعد أن يوجد حديث بشرط الصحة لم يخرجه في مستدركه
وهذا في الظاهر مقبول ، إلا أنه لا يحسن التعبير عنه بالتعذر ثم الاستدلال على صحة دعوى التعذر بدخول الخلل في رجال الإسناد . فقد بينا أن الخلل ، إذا سلّم إنما هو فيما بيننا وبين المصنفين
أما المصنفين فصاعداً فلا ـ والله الموفق .وأما ما استدل به شيخنا على صحة ما ذهب إليه الشيخ محي الدين من جواز الحكم بالتصحيح لمن تمكن وقويت معرفته ـ بأن من عاصر ابن الصلاح قد خاله فيما ذهب إليه وحكم بالصحة لأحاديث لم يوجد من المتقدمين الحكم بتصحيحها .
( فليس بدليل ينهض ) على رد ما اختار ابن الصلاح ، لأنه مجتهد وهو مجتهدون فكيف ينقص بالاجتهاد . وما أوردناه في نقص دعواه أوضح فيما يظهر ـ والله أعلم ـ .
2- قوله (ع) : (( صحيح المنذري حديثاً في غفران ما تقدم وتأخر )) (( والدمياطي حديثاً في ماء زمزم لما شرب له )) .
فيه نظر : وذلك أن المنذري أورد في الجزء المذكور عدة أحاديث بين ضعفها .
وأورد في أثنائه حديثاً من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ .
وقال بعده : (( بحر بن نصر ثقة وابن وهب ومن فوقه محتج بهم في الصحيحين )) .
قلت : ولا يلزم في كون رجال الإسناد من رجال الصحيح أن يكون الحديث الوارد به صحيحاً ، لاحتمال أن يكون فيه شذوذ أو علة ، وقد وجد هذا الاحتمال هنا فإنها رواية شاذ وقد بينت بطرقه والكلام عليه في جزء مفرد ولخصته في كتاب بيان المدرج .
وأما الدمياطي فلفظة : هذا على رسم الصحيح لأن سويداً احتج به مسلم وعبد الرحمن بن أبي الموالي احتج به البخاري هذا لفظه .
وليس في حكم على الحديث بالصحة لما قدمناه من أنه لا يلزم من كون الإسناد محتجاً برواته في الصحيح أن يكون الحديث الذي يروى صحيحاً لما يطرأ عليه من العلل .
وقد صرح ابن الصلاح بهذا في مقدمة مسلم فقال : (( من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه : بأنه من شرط الصحيح عند مسلم فقد غفل وأخطأ بل ذلك يتوقف على النظر في أنه كيف روي عنه وعلى أي وجه روي عنه )) .
قلت : وذلك موجوداً هنا ، فإن سويد بن سعيد إنما احتج به مسلم فيما توبع عليه لا فيما تفرد به .
وقد اشتد إنكار أبي زرعة الرازي على مسلم في تخريجه لحديثه فاعتذر إليه من ذلك بما ذكرناه من أنه لم يخرج ما تفرد به وكان سويد بن سعيد مستقيم الأمر ، ثم طرأ عليه العمى فتغير وحدث في حال بمناكير كثيرة حتى قال يحيى بن معين : (( لو كان لي فرس ورمح لغزوته )) .
فليس ما ينفرد به على هذا صحيحاً فضلاً عن أن يخالف فيه غيره ، بل قد اختلف عليه هو في هذا الإسناد ، فروى عنه عن ابن المبارك عن عبد الله بن المؤمل على ما هو المشهور .
تنبيه
3- قول شيخنا : (( إن المعروف رواية عبد الله بن المؤمل عن محمد بن المنكدر كمارواه ابن ماجه )) :
وقع منه سبق قلم ، وإنما هو عند ابن ماجه وغيره من طريق ابن المؤمل عن أبي الزبير ـ والله المستعان
[ ... وأخرجه الطبراني في الأوسط عن علي بن سعيد الرازي عن إبراهيم البرانسي عن عبد الرحمن بن المغيرة عنه ] .
[ أول من صنف الصحيح : ]
21- قوله (ص) (( أول من صنف الصحيح البخاري )) انتهى .
اعترض عليه الشيخ علاء الدين مغلطاي فيما قرأت بخطه بأن مالكاً أول من صنف في الصحيح وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمي قال : (( وليس لقائل أن يقول لعله أراد الصحيح المجرد ، فلا يرد كتاب مالك ، لأن يه البلاغ والموقوف والمنقطع والفقه وغير ذلك ، لوجود مثل ذلك في كتاب البخاري )) انتهى .
[ رد العراقي على مغلطاي : ]
4- وقد أجاب شيخنا ـ رضي الله عنه ـ عما يتعلق بالموطأ بما نصه : (( أن مالكاً لم يفرد الصحيح بل أدخل في كتابه المرسل والمنقطع ... )) إلى آخر كلامه . وكأن شيخنا لم يستوف النظر في كلام مغلطاي .
وإلا قوله مقبول بالنسبة إلى ما ذكره في البخاري من الأحاديث المعلقة وبعضها ليس على شرطه . بل وفي بعضها ما لا يصح كما سيأتي التنبيه عليه عند ذكر تقسيم التعليق ، فقد مزج بما ليس منه كما فعل مالك .
[ رد الحافظ على مغلطاي : ]
وكأن مغلطاي خشي أن يجاب عن اعتراضه بما أجاب به شيخنا من التفرقة فبادر إلى الجواب عنه ، لكن الصواب في الجواب عن هذه المسألة أن يقال : ما الذي أراده المؤلف بقوله : أول من صنف الصحيح . هل أراد الصححي من حيث هو ؟ أو أراد الصحيح العهود الذي فرغ من تعريفه ؟
الظاهر أنه لم يرد إلا المعهود . وحينئذ فلا يرد عليه ما ذكره في الموطأ وغيره ، لأن الموطأ وإن كان عند من يرى الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وأقوال الصحابة صحيحاً .
فليس ذلك على شرط الصحة المعتبرة عند أهل الحديث والفرق بين ما فيه من المقطوع والمنقطع وبين ما في البخاري من ذلك واضح لأن الذي في الموطأ من ذلك ، هو مسموع لمالك كذلك في الغالب وهو حجة عنده وعند من تبعه .
والذي في البخاري من ذلك قد حذف البخاري أسانيدها عمداً ليخرجها عن موضوع الكتاب ، وإنما يسوقها في تراجم الأبواب تنبيهاً واستشهاداً واستئناساً وتفسيراً لبعض الآيات . وكأنه أراد أن يكون كتابه جامعاً لأبواب الفقه وغير ذلك من المعاني التي قصد ( جمعه فيها ) ، وقد بينت في كتاب تغليق التعليق كثيراً من الأحاديث التي يعلقها البخاري في الصحيح فيحذف إسنادها أو بعضها وتوجد موصولة عنده في موضع آخر من تصانيف التي هي خارج الصحيح .
( والحاصل من هذا أن أول من صنف في الصحيح ) يصدق على مالك باعتبار انتفائه وانتقاده للرجال ، فكتابه أصح من الكتب المصنفة في هذا الفن من أهل عصره وما قاربه كمصنفات سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة والثوري وابن إسحاق ومعمر وابن جريج وابن المبارك وعبد الرزاق وغيرهم ، ولهذا قال الشافعي : (( ما بعد كتاب الله عز وجل أصح من كتاب مالك )) . فكتابه صحيح عنده وعند من تبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف .
وأما أول من صنف الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف . فأول من جمعه البخاري ثم مسلم كما جزم به ابن الصلاح .
وأما قول القاضي أبي بكر ابن العربي ، ي مقدمة شرح الترمذي : (( والموطأ هو الأصل الأول والبخاري هو الأصل الثاني . وعليهما بنى جميع من بعدهما كمسلم والترمذي وغيرهما .
فإن أراد مجرد السبق إلى التصنيف فهو كذلك ولا يلزم منه مخالفة لما تقدم . وإن أراد الأصل في الصحة فهو كذلك ، لكن على التأويل الذي أولناه .
وأما قول مغلطاي : إن أحمد أفرد الصحيح فقد أجابالشيخ عنه في التنبيه السادس من الكلام على الحديث الحسن .
وأما ما يتعلق بالدامي فتعقبه الشيخ بأن فيه الضعيف والمنقطع ، لكن بقي مطالبة مغلطاي بصحة دعواه بأن جماعة أطلقوا على مسند الدارمي كونه صحيحاً فإني لم أر ذلك في كلامه أحد ممن يعتمد عليه . ثم وجدت بخط مغلطاي أنه رأى بخط الحافظ أبي محمد المنذوري ترجمة كتاب الدارمي بالمسند الصحيح الجامع .
وليس كما زعم فقد وقفت على النسخة التي بخط المنذري وهي أصل سماعنا للكتاب المذكور ، والورقة الأولى منه مع عدة أوراق ليست بخط المنذري بل هو بخط أبي الحسن ابن أبي الحصني وخطه قريب من خط المنذري فاشتبه ذلك على مغلطاي وليس الحصني من أحلاس هذا الفن حتى يحتج بخطه في ذلك كيف ولو أطلق ذلك عليه من يعتمد عليه لكان الواقع يخالفه لما في الكتاب المذكور من الأحاديث الضعيفة والمنقطعة والمقطوعة .
والموطأ في الجملة أنظف أحاديث وأتقن رجالاً منه ومع ذلك كله فلست أسلم أن الرادي صنف كتابه قبل تضعيف البخاري الجامع . لتعاصرهما .
تنبيه
22- قوله (ص) : (( ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ )) .
أملى المصنف حاشية على الأصل أنه روى عن الشافعي أنه قال : (( ما بعد كتاب الله تعالى أصح من موطأ مالك )) .
وروينا في جزء أبي بكر محمد بن إبراهيم الصفار من طريق هارون بن سعيد الأيلي قال : سمعت الشافعي يقول : (( ما بعد كتاب الله تعالى أنفع من موطأ مالك )) .
[ تفضيل بعض المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري : ]
23- قوله (ص) : (( ثم إن كتاب البخاري أصح صحيحاً )) ... الح .
أقول : قد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض المغاربة فذكر أبو محمد بن القاسم النجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن حزم : أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري . لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السردة )) .
وقال القاضي عياض كان أبو مروان الطبني حكى عن بعض شيوخه أنه كان يفضل صحيح مسلم
على صحيح البخاري . انتهى .
قلت : وما فضله بع بعض المغاربة ليس راجعاًإلى الأصحية ، بل هو لأمور :
(أ) أحدها : ما تقدم عن ابن حزم .
(ب) والثاني : أن البخاري كان يرى جواز الرواية بالمعنى وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران :
1- أحدهما : أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته ، فقد روينا عنه أنه قال : رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان . فكان ، لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمته بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه . ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق .
2- الثاني : أن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبطه منه ، لأنه لو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب .
ومسلم لم يعتمد ذلك ، بل يسوق أحاديث الباب كلها سرداً عاطفاً بعضها على بعض في موضع واحد ولو كان المتن مشتملاً على عدة أحكام ، فإنه يكره في أمس المواضع وأكثرها دخلاً فيه ويسوق المتون تامة محررة ، فلهذا ترى كثيراً ممن صنف في الأحكام بحدذف الأسانيد ( من المغاربة ) إنما يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون هذا ما يتعلق بالمغاربةولا يحفظ عن أحد أنه منهم صرح بأن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري فيما يرجع إلى نفس الصحة .
وأما ما قاله أبو علي النيسابوري فلم تجد عنه تصريحاً بأن كتاب مسلم أصح من صحيح البخاري .
وإنما قال : ما حكاه المؤلف من أنه نفى الأصحية على كتاب مسلم ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري لأن قول القائل : فلان أعلم أهل البلد بفن كذا كقوله : ما في البلد أعلم من فلان بفن كذا ، لأنه في الأول أثبت له الأعلمية وفي الثاني نفى أن يكون في البلد أحد أعلم منه فيجوز أن يكون فيها من يساويه فيه ، وإذا كان لفظ أبي علي محتملاً لكل من الأمرين فلم نجد ممن اختصر كلام ابن الصلاح فجزم بأن أبا علي قال : صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري فقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محي الدين النووي والقاضي بدر الدين بن جماعة والشيخ تاج الديت التبريزي وتبعهم جماعة . وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه .
على أني رأيت في كلام الحافظ أبي سعيد العلائي ما يدل على أن أبا علي النيسابوري ما رأى صحيح البخاري . وفي ذلك ، بعد عندي .
أما اعتبار أبي علي بكتاب مسلم فواضح ، لأنه بلديه وقد خرّج هو على كتابه ، لكن قوله في وصفه معارض بقول من هو مثله وأعلم .
فقال الحاكم أبو أحمد النيسابوري وهو عصري أبي علي وأستاذ الحاكم أبي عبد الله ـ أيضاً ـ ما رويناه عنه في كتاب الإرشاد للخليلي بسنده عنه ـ قال : (( رحم الله تعالى محمد بن إسماعيل فإنه ألف الأصول وبين للناس وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه كمسلم بن الحجاج فإنه فرق أكثر كتابه في كتابه وتجلد فيه غاية الجلادة حيث لم ينسبه إليه ... )) .
إلى أن قال : فإن عاند الحق معاند فليس يخفى صورة ذلك على أولي الألباب . ويؤيد ما ما رويناه على الحافظ أبي الحسن الدار قطني أنه قال ، في كلام جرى عنده في ذكر الصحيحين : (( وأي شئ صنع مسلم إنما اخذ كتاب البخاري وعمل عليه مستخرجاً وزاد فيه زيادات )) .
وهذا المحكي عن الدار قطني جزم به أبو العباس القرطبي في أول كتابه (( المفهم في شرح صحيح مسلم )) .
وقال أبو عبد الرحمن النسائي وهو من مشايخ أبي علي النيسابوري : (( ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل )) .
ونقل كلام الأئمة في تفضيل كتاب البخاري يكثر . ويكفي من ذلك اتفاقهم على أنه كان أعلم بالفن من مسلم . وأن مسلماً كان يتعلم منه ويشهد له بالتقدم والتفرد بمعرفة ذلك في عصره . فهذا من حيث الجملة .
وأما من حيث التفضيل فيترجح كتاب البخاري على كتاب مسلم فإن الإسناد الصحيح مداره على اتصاله وعدالة الرواة كما بيناه غير مرة وكتاب البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً من كتاب مسلم والدليل على ذلك من أوجه :
1- أحدها : أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلاً . المتكلم فيهم بالضعف منهم ( نحو من ثمانين رجلاً )) .
والذين انفرد مسلم بإخراج حديثهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلاً . المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلاً على الضعف من كتاب البخاري . ولا شك أن التخريج عن من لم يتكلم فيه أصلاً من التخريج عن من تكلم فيه ولو كان ذلك غير سديد .
2- الوجه الثاني : أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكن يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها أو أكثرها إلا نسخة عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ .
بخلاف مسلم فإنه يخرج أكثر تلك النسخ التي رواها عمن تكلم فيه كأبي الزير عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـوسهيل عن أبيه عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ وحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ونحوهم .
3- الوجه الثالث : أن الين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم فميز جيد من رديها بخلاف مسلم ، فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه من المتقدمين ، وقد أخرج أكثر نسخهم كما قدمنا ذكره .
ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيفه ممن تقدم عن عصرهم .
4- الوجه الرابع : أن أكثر هؤلاء الرجال الذين تكلم فيهم من المتقدمين يخرج البخاري أحاديثهم غالباً في الاستشهادات ، والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم ، فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول والاحتجاج ولا يعرج البخاري في الغالب على من أخرج لهم مسلم في المتابعات ( فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم وأكثر من يخرج لهم مسلم في المتابعات لا يعرج عليهم البخاري . فهاذ وجه من وجوه الترجيح ظاهر . والأوجه الأربعة المتقدمة كلها تتعلق بعدالة الرواة .
وبقي ما يتعلق بالاتصال : وهو الوجه الخامس :
وهو أن مسلماً كان مذهبه بل نقل الإجماع في أول صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما .
والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة . وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التأريخ وجرى عليه في الصحيح وهو مما يرجح به كتابه ، لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال .
وبهذا يتبين أن شرطه في كتابه أقوى اتصالاً وأشد تحرياً ـ والله أعلم ـ .
24- قوله (ص) : (( ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل طالبها عليه أحد المصنفات المعتمدة ... )) إلى أن قال : (( ويكفي مجرد كونها في كتب من اشترط الصحيح فيما جمعه كابن خزمية ، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين : ككتاب أبي عوانة )) ، انتهى .
ومقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد في كتاب ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ممن اشترط الصحيح ـ بالتسليم وكذا ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين وفي كل ذلك نظر .
أما الأول : فلم يلتزم ابن خزيمة وابن حبانن في كتابيهما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي ذكرها المؤلف ، لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن ، بل عندهما أن الحسن قسم من الصحيح لا قسيمه . وقد صرح ابن حبان بشرطه .
وحاصله : أن يكن راوي الحديث عدلاً مشهوراً بالطلب غير مدلس سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي .
فإن كان يروي من حفظه فليكن عالماً بما يحيل المعاني فلم يشترط على الاتصال والعدالة ما اشترطه
المؤلف في الصحيح من وجود الضبط ومن عدم الشذوذ والعلة . وهذا وإن لم يتعرض ابن حبان
لاشتراطه فهو إن وجده كذلك أخرجه وإلا فهو ماش على ما أصل ، لأن وجود هذه الشروط لا
ينافي ما اشترطه .
وسمى ابن خزيمة كتابه (( المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة )) .
وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء ، لأن ابن حبان تابع لابن خزيمة مغترف من بحره على منواله
ومما يعضد ما ذكرنا احتجاج ابن خزيمة وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين يخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات كابن إسحاق وأسامة بن زيد الليثي ومحمد بن عجلان ومحمد بن عمرو بن علقمة وغير هؤلاء .
فإذا تقرر ذلك عرفت أن حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن ما لم يظهر في بعضها علة فادحة .
وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أنها جمعت الشروط المذكورة في حد الصحيح فلا ـ والله أعلم ـ .
وأما الثاني : وهو ما يتعلق بالمستخرجات ففيه نظر ـ أيضاً ـ لأن كتاب أبي عوانة وإن سماه بعضهم مشتخرجاً على مسلم فإن له فيه أحاديث كثيرة مستقلة في أثناء الأبواب ( نبه هو على كثير منها ، ويوجد فيها الصحيح والحسن والضعيف ـ أيضاً ـ والموقوف ) .
وأما كتاب الإسماعيلي فليس فيه أحاديث زائدة وإنما تحصل الزيادة في أثناء بعض المتون ، والحكم بصحتها متوقف على أحوال رواتها . فرب حديث أخرجه البخاري من طريق بعض أصحاب الزهري عنه ـ مثلاً ـ فاستخرجه الإسماعيلي وساقه من طريق آخر من أصحاب الزهري بزيادة فيه وذلك الآخر ممن تكلم فيه فلا يحتج بزيادته .
وقد ذكر المؤلف ـ بعد ، أن أصحاب المستخرجات لم يلتزموا موافقة الشيخين في ألفاظ الحديث بعينها .
والسبب فيه أنهم أخرجوها من غير جهة البخاري ومسلم فحينئذ يتوقف الحكم بصحة الزيادة على ثبوت الصفات المشترطة في الصحيح للرواة الذين بين صاحب المستخرج وبين من اجتمع مع صاحب الأصل الذي استخرج عليه وكلما كثرت الرواة بينه وبين من اجتمع مع صاحب الأصل فيه افتقر إلى زيادة التنقير وكذا كلما بعد عصر المستخرج من عصر صاحب الأصل كان الإسناد كلما كثرت رجاله احتاج الناقد له إلى كثرة البحث عن أحوالهم . فإذا روى البخاري ـ مثلاً ـ عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن الزهري حديثاً ورواه الإسماعيلي ـ مثلاً ـ عن بعض مشايخه عن الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري واشتمل حديث الأوزاعي على زيادة على حديث ابن عيينة ، وسماع الأوزاعي من الزهري ، لأن الوليد بن مسلم من المدلسين على
شيوخه وعلى شيوخ شيوخه .
وكذا يتوقف على ثبوت صفات الصحيح لشيخ الإسماعيلي وقس على هذا جميع ما في المستخرج . وكذا الحكم في باقي المستخرجات . فقد رأيت بعضهم حيث يجد أصل الحديث اكتفى بإخراجه ولو لم تجتمع الشروط في رواته .
بل رأيت في مستخرج أبي نعيم وغيره عن جماعة من الضعفاء لأن أصل مقصودهم بهذه المستخرجات أن يعلو إسنادهم ولم يقصدوا إخراج هذه الزيادات وإنما وقعت اتفاقاً ـ والله أعلم . ومن هنا يتبين أن المذهب الذي اختاره المؤلف من سد باب النظر عن التصحيح غير مرضي ، لأنه منع الحكم بتصحيح الأسانيد التي جمعت شروط الصحة فأداه ذلك إلى الحكم بتصحيح ما ليس بصحيح ، فكان الأولى ترك باب النظر والنقد مفتوحاً ، ليحكم على كل حديث بما يليق به ـ والله الموفق .
[ ادعاء العراقي تفاوت العدد روايات البخاري : ]
5- قوله ع : (( والمراد بهذا العدد يعني عدد أحاديث صحيح البخاري رواية محمد بن يوسف الفربري فأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمائتي حديث ، وأنقص الروايات رواية إبراهيم بن معقل النسفي ، فإنها تنقص عن رواية الفربري ثلاثمائة حديث )) انتهى .
وظاهر هذا أن النقص في هاتين الروايتين وقع من أصل التصنيف أو مفرقاً من أثنائه ، لأنه اعترض على بن الصلاح في إطلاقه هذه العدة من غير تمييز قاعدة .
[ رد الحافظ على العراقي ادعاءه : ]
وليس كذلك بل كتاب البخاري في جميع الروايات في العدد سواء . وإنما حصل الاشتباه من جهة أن حماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل لما سمعا الصحيح على البخاري فإنهما من أواخر الكتاب شئ ، فرواياه بالإجازة عنه .
وقد نبه على ذلك الحافظ أبو الفضل ابن ظاهر وكذا نبه الحافظ أبو علي الجياني في كتاب تقييد المهمل ، على ما تيعلق بإبراهيم بن معقل فروى بسنده إليه قال :
(( وأما من أول كتاب الأحكام إلى آخر الكتاب فأجازه لي البخاري )) . قال أبو علي الجياني : (( وكذا فإنه من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة الإفك في باب قوله تبارك وتعالى : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) إلى آخر الباب )) .
وأما حماد بن شاكر ـ ففاته من أثناء كتابى الأحكام إلى آخر الكتاب فتبين أن النقص في رواية حماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل إنما حصل من طريان الفوت لا من أصل التصنيف . فظهر أن العدة في الروايات كلها سواء .وغايته أن الكتاب جميعه عن الفربري بالسماع . وعند هذين بعضه بسماع وبعضه بإجازة . والعدة عند الجميع في أصل التصنيف سواء . فلا اعتراض على ابن الصلاح في شئ مما أطلقه ـ والله أعلم ـ .
6- قوله ع : (( ولم يذكر عدة كتاب مسلم بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري بكثرة طرق )) ، انتهى .
وذكر الشيخ في شرح الألفية عن أحمد بن سلمة أن عدة كتاب مسلم بالمكرر اثنا عشر ألف حديث
وعن الشيخ محي الدين النووي أن عدته بغير المكرر نحو أربعة الآف قلت : وعندي في هذا نظر . وإنما لم يتعرض المؤلف لذلك ، لأنه لم يقصد ذكر عدة ما في البخاري حتى يستدرك عليه عدة ما في كتاب مسلم ، بل السبب في ذكر المؤلف لعدة ما في البخاري أنه جعله من جملة البحث في أن الصحيح الذي ليس في الصحيحين غير قليل خلافاً لقول ابن الأخرم .
لأن المؤلف رتب بحثه على مقدمتين :
(أ) إحداهما : أن البخاري قا ل: أحفظ مائة ألف حديث صحيح )) .
(ب) والأخرى : أن جملة ما في كتابه بالمكرر سبعى الآف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً . فينتج أن الذي لم يخرجه البخاري من الصحيح أكثر مما أخرجه .
والجواب عن هذا حاصل عند المؤلف من قوله :
(( إنهم يطلقون هذه العبارة على الموقوفات والمقطوعات والمكررات فباعتبار ذلك يمكن صحة دعوى ابن الأخرم .
ويزيد ذلك وضوحاً أنا الحافظ أبا بكر محمد بن عبد الله الشيباني المعروف بالجوزقي ذكر في كتابه المسمى بالمتفق أنه استخرج على جميع ما في الصحيحين حديثاً حديثاً . فكان مجموع ذلك خمسة وعشرين ألف طريق وأربعمائة وثمانين طريقاً فإذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما بلغ جماة ما في كتابيهما بالمكرر هذا القدر ، فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ هذا القدر ـ أيضاً ـ أو يزيد وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي لم يبلغ شرطهما لعله يبلغ هذا القدر ـ أيضاً ـ أو يقرب منه ، فإذا انضاف إلى ذلك ما جاء من الصحابة والتابعين تمت العدة التي ذكر البخاري أنه يحفظها بل ربما زادت على ذلك فصحت دعوى ابن الأخرم :
أن الذي يفوتهما من الحديث الصحيح قليل ( يعني مما يبلغ شرطهما ) بالنسبة إلى ما خرجاه ـ والله أعلم .
وأما قول النووي :
(( لم يفت الخمسة إلا القليل )) . فمراده من أحاديث الأحكام خاصة أما غير الأحكام فليس بقليل .
ومما يتعلق بالفائدة التي ذكرها الشيخ وهو عدة كتاب مسلم المكرر ما ذكر الجوزقي ـ أيضاً ـ في المتفق . أن جملة ما اتفق الشيخان على إخراجه من المتون في كتابيهما ألفان وثلاثمائة وستة وعشرون حديثاً .
فعلى هذا جملة ما في الصحيحين خمسة الآف حديث وستمائة حديث وخمسون حديثاً تقريباً [ هذا ] على مذهب الجوزقي ، لأنع بعد المتن إذا اتفقا على إخراجه ولو من حديث صحابيين حديثاً واحداً ، كما : إذا أخرج البخاري المتن من طريق أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وخرجه مسلم من طريق أنس ـ رضي الله عنه ـ وهذا غير جار على اصطلاح جمهور المحدثين ، لأنهم لا يطلقون الاتفاق إلا على ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معاً . وعلى هذا فتنقص العدة كما ذكر الجوزقي قليلاً ويزيد عدد الصحيحين في الجملة فلعله : يقرب من سبعة الآف بلا تكرير ـ والله أعلم ـ .
وهذه الجملة تشتمل على الأحكام الشرعية وغيرها من ذكر الأخبار عن الأحوال الماضية من بدء الخلق وصفة المخلوقات وقصص الأنبياء والأمم وسياق المغازي والمناقب والفضائل والأخبار عن الأحوال الآتية من الفتن والملاحم وأشراط الساعة والبرزخ والبعث وصفة النار وصفة الجنة وغير ذلك من هذا قد يدخل في الأحكام . وكثير منه لا يدخل فيها .
فأما ما يتعلق بالأحكام خاصة . فقد ذكر أبو جعفر محمد بن الحسين البغدادي في كتاب التمييز له عن الثوري وشبة ويحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل : وغيرهم أن جملة الأحاديث المسندة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( يعني الصحيحة بلا تكرير ) أربعة الآف وأربعمائة حديث .
وعن إسحاق بن راهوية أنه سبعة الآف ونيف .
وقال أحمد بن حنبل : وسمعت ابن مهدي يقول : الحلال والحرام من ذلك ثمانمائة حديث . وكذا قال إسحاق بن راهوية عن سعيد عن يحيى بن سعيد .
( وذكر القاضي أبو بكر ابن العربي ) أن الذي في الصحيحين من أحاديث الأحكام نحو ألفي حديث وقال أبو داود السجستاني عن ابن المبارك : تسعمائة ومرادهم بهذه العدة ما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من أقواله الصريحة في الحلال والحرام ـ والله أعلم .
وقال كل منهم بحسبي ما يصل إليه . ولهذا اختلفوا .
[ زعم العراقي أن الحميدي لم يذكر اصطلاحاً في الزيادات : ]
7- قوله ع : (( والزيادات الموجودة في كتاب الحميدي ليست في واحد من الكتابين ، ولم يروها الحميدي بإسناده فيكون حكمها حكم المستخرجات ولا أظهر لنا اصطلاحاً في زوائد التزم فيها الصحة فيقلد فيها )) ، انتهى .
وقد اعتمد شيخنا ـ رحمه الله تعالى ـ هذا في منظومته فقال : وليت إذ واد الحميدي ميزا .
وشرح ذلك بمعنى الذي ذكره هنا أن الحميدي لم يميز الزيادات التي زادها في الجمع ولا اصطلح على أنه لا يزيد إلا ما صح فيقلد في ذلك . وكان شيخنا ـ رضي الله عنه ـ قلد في هذا غيره وإلا فلو راجع كتاب الجمع بين الصحيحين لرأى في خطبته ما دل على ذكرع لاصطلاحه في هذه الزيادات وغيرها .
ولو تأمل المواضع الزائدة لرآها معزوة إلى من زادها من أصحاب المستخرجات وتبعه على ذلك الشيخ سراج الدين النحوي ، فألحق في كتابه (( المقنع )) ما صورته : (( هذه الزيادات ليس لها حكم الصحيح ، لأنه ما رواها بسنده كالمستخرج ولا ذكر أنه يزيد ألفاظاً واشترط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك )) .
وقال شيخ شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني في (( محاسن الاصطرح )) في هذا الموضع ما صورته : وفي (( الجمع بين الصحيحين )) للحميدي تتمات لا وجود لها في الصحيحين ، وهو كما قال ابن الصلاح . إلا أنه كان ينبغي التنبيه على حكم تلك التتمات لتكمل الفائدة .
والدليل على ما ذهبنا إليه من أن الحميدي أظهر اصطلاحه لما يتعلق بهذه الزيادات موجود في خطبة كتابه إذ قال في أثناء المقدمة ما نصه : (( وربما أضفنا إلى ذلك نبذاً مما بنهنا له من كتب أبي الحسن الدار قطني ، وأبي بكر الإسماعيلي وأبي الخوارزمي ( يعني البرقاني ) وأبي مسعود الدمشقي وغيرهم من الحفاظ الذين عنوا بالصحيح مما يتعلق بالكتابين من تنبيه على غرض أو تتميم لمحذوف أو زيادة من شرح أو بيان لاسم ونسب أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم .
فقوله : (( تتميم لمحذوف أو زيادة هو غرضنا هنا وهو يختص بكتابي الإسماعيلي والبرقاني ، لأنهما استخرجا على البخاري . واستخرج البرقاني على مسلم .
وقوله : (( من تنبيه على غرض أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم أو بيان لاسم أو نسب )) ، يختص بكتابي الدار قطني وأبي مسعود . داك في (( كتاب التتبع )) وهذا في (( كتاب الأطراف )) .
وقوله : (( مما يتعلق بالكتابين )) . احترز به عن تصانيفهم التي لا تتعلق بالصحيحين ، فإنه لم ينقل منها شيئاً هنا .
فهذا الحميدي قد أظهر اصطلاحه في خطبة كتابه . ثم أنه فيما تتبعته من كتابه إذا ذكر الزيادة في المتن يعزوها لمن زادها من أصحاب المستخرجات وغيرها فإن عزاها لمن استخرج أقرها وإن عزاها لمن لم يستخرج اعقبها غالباً ، لكنه تارة يسوق الحديث من الكتابين أو من أحدهما ثم يقول : مثلاً : زاد فيه فلان كذا .
وهذا لا إشكال فيه وتارة يسوق الحديث والزيادة جميعاً في نسق واحد ثم يقول في عقبه مثلاً : اقتصر منه البخاري على كذا وزاد فيه الإسماعيلي كذا وهذا يشكل على الناظر غير المميز ، لأنه إذا نقل منه حديثاً برمته وأغفل كلامه بعده وقع في المحذور الذي حذر منه ابن الصلاح ، لأنه حينئذ يعزو إلى أحد الصحيحين ما ليس فيه هذا الحامل لابن الصلاح على الاستثناء المذكور . حيث قال عن الحميدي ... إلى آخره .
1- فمن أمثلة ذلك : أنه قال في مسند العشرة في حديث طارق بن شهاب عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في قصة وفد بزاخة من أسد وغطفان وأن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ خيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية ـ فساق الحديث بطوله وقال في آخره : (( اختصره البخاري فأخرج طرفاً منه )) . وأخرجه بطوله أبو بكر البرقاني .
2- ومن ذلك : قوله في مسند أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن أبي صالح عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً وأتمها إلا لبنة قال فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة )) .
قال الحميدي : أحال به مسلم على حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في هذا المعنى ولم يسبق من حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ إلا قوله : مثلي ومثل النبيين ثم قال ؛ فذكر نحوه .
قال الحميدي : وحديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي أحال عليه أزيد لفظاً وأتم معنى ، ومتن حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ هو الذي أوردناه بينه أبو بكر البرقاني .
3- ومنها : ما ذكره في مسند عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في إفراد البخاري عن هزيل عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (( إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كانول يسيبون )) .
قال الحميدي : (( اختصره البخاري ولم يزد على هذا )) . وأخرجه بطوله أبو بكر البرقاني من تلك الطرق عن هزيل قال : جاء رجل إلى عبد الله ـ رضي الله عنه ـ فقال : إني أعتقت عبداً لي سائبة فمات وترك مالاً ولم يدع وارثاً . فقال عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : إن أهل الإسلام لا يسيبون كأهل الجاهلية ، فإنهم كانوا يسيبون ، فأنت ولي نعمته ولك ميراثه ، فإن تأثمت أو تحرجت في شئ فنحن نقبله ونجعله في بيت المال .
4- ومنها ما ذكره في مسند أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : الحديث الحادي والثلاثون ( يعني من أفراد البخاري ) عن أبي سعيد المقبري كيسان عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) .
قال الحميدي : أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه من حديث أحمد بن يونس عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه وهو الذي أخرجه البخاري من طريقه فزاد فيه والجهل بعد قوله والعمل به )) ، انتهى .
فانظر كيف لم يسامح بزيادة لفظة واحدة في المتن حتى بينها وأوضح أنها مخرجة من الطريق التي
أخرجها البخاري . فمن يفصل هذا التفصيل كيف يظن به أنه لا يميز بين ألفاظ الصحيحين اللذين جمعهما وبين الألفاظ المزيدة في رواية غيرهما .
5- ومنها : ما ذكره في مسند عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في أفراد البخاري عن أبي السفر بن يحمد قال : سمعت ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقول : يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول واسمعوني ما تقولون ولا تذهبوا فتقولوا : قال ابن عباس : من طاف بالبيت ، فليطف من وراء الحجر ولا تقولوا الحطيم ، لإإن الرجل في الجاهلية كان يحلف فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه لم يزد ( يعني البخاري ) .
وزاد البرقاني في الحديث بالإسناد المخرج به : (( وأيما صبي حج به أهله فقد قضت حجته عنه ما دام صغيراً فإذا بلغ فعليه حجة أخرى .
وأيما عبد حج به أهله ، فقد قضت [ حجته ] عنه ما دام عبداً فإذا أعتق فعليه حجة أخرى .
ومن المواضع التي تعقبها على غير أصحاب المستخرجات ما حكاه في مسند جابر عن أبي مسعود الدمشقي أنه قال ـ في الأطراف : حديث أبي خيثمة زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء سراقة فقال : يا رسول الله ! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن . أرأيت عمرتنا هذه لعامنا أو للأبد ؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( بل للأبد )) .
قالوا يا رسول الله ! فبين لنا ديننا كأن خلقنا الآن فيم العمل اليوم ... ؟ الحديث .
قال أبو مسعود : رواه مسلم عن أحمد ( يعني ابن يونس ) ويحيى ( يعني ابن يحيى ) يعني كلاهما عن زهير .
قال الحميدي : كذا قال أبو مسعود : والحديث عند مسلم في القدر ، كما قال عن أحمد ويحيى ، وليس فيه هذه القصة التي في العمرة .
قال الحميدي : والحديث في الأصل أطول من هذا ، وإنما أخرج مسلم منه ما أراد وحذف الباقي .
وقد أورده بطوله أبو بكر البرقاني في كتابه بالإسناد من حديث زهير ثم ساقه الحميدي من عند البرقاني بتمامه . وهذا غاية في التمييز والتبيين والتحري .
6- ونظير هذا سواء . قال أبو مسعود ـ أيضاً ـ في ترجمة قرة بن خالد عن أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به دخل النار )) .
قال : ودعا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بصحيفة عند موته ، فأراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلوا بعده ، فكثر اللغط وتكلم عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فرفضها رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال الحميدي : من قوله : ودعارسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى آخره ليس عند
مسلم وهو في الحديث أخرجه بطوله البرقاني من حديث قرة ولكن مسلماً اقتصر على ما أراد منه .
7- ومن ذلك : ما ذكره في حديث ابن عباس عن علي ـ رضي الله عنهم ـ قا ل: نهاني رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن القراءة في الركوع والسجود قال : وزاد في الأطراف في رواية ابن عباس عن علي ـ رضي الله عنهم ـ النهي عن : خاتم الذهب وليس ذلك عندنا في أصل كتاب مسلم .
قال الحميدي : ولعله قد وجد في نسخة أخرى .
8- وقال في مسند أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في الحديث الثالث عن أنس بن مالك عن أبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : قال الله عز وجل : إذا تقرب عبداً مني شبراً تقربت منه ذراعاً وإذا تقرب مني ذراعاً منه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيه هروله لفظ حديث مسلم ، زاد أبو مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (( وإن هرول سعيت إليه والله تعالى أسرع بالمغفرة )) .
قال الحميدي : لم أر هذه الزيادة في الكتابين .
قلت : والزيادة المذكور تفرد بها محمد عن أبي السري العسقلاني ولم بخرجا له . وقد بينت في تعليق التعليق .
فهذه الأمثلة توضح أن الحميدي بميز الزيادات التي يزيدها هو أو غيره خلافاً لمن نفى ذلك ، والله أعلم .
وقد قرأت في كتاب ( الحافظ أبي سعيد ) العلائي في علوم الحديث له قال ـ لما ذكر المستخرجات ـ : ومنها المستخرج على البخاري للإسماعيلي . والمستخرج على الصحيحين للبرقاني وهو مشتمل على زيادات كثيرة في تضاعيف متون الأحاديث وهي التي ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين منبهاً عليها . هذا لفظه بحروفه وهو عين المدعي ـ ولله الحمد .
25- قوله (ص) : (( فليس لك أن تنقل حديثاً منها وتقول : هو على هذا الوجه في كتاب البخاري ومسلم إلا أن تقابل لفظه أو يكون الذي أخرجه قد قال : أخرجه البخاري )) بهذا اللفظ .
قلت : محصل هذا أن مخرج الحديث إذا نسبه إل تخريج بعض المصنفين فلا يخلو : إما أن يصرح بالمرادفة أو بالمساواة أو لا يصرح : إن صرح فذاك وإن لم يصرح كان على الاحتمال . فإذا كان على الاحتمال فليس لأحد أن ينقل الحديث منها . ويقول : هو على هذا الوجه فيهما ، لكن هل له أن ينقل منه ويطلق كما أطلق ؟ هذا محل بحث وتأمل .
فائدة
استنكر ابن دقيق العيد عزو المصنفين على أبواب الأحكام الأحاديث إلى تخريج البخاري ومسلم مع
تفاوت المعنى . لأن من شأن من هذه حاله أن يستدل على صحة ما بوب فإذا ساق الحديث بإسناده ثم عزاه لتخريج أحدهما أوهم الناظر فيه أنه عند صاحب الصحيح كذلك ، ولو كان ما أخرجه صاحب الصحيح لا يدل على مقصود التبويب فيكون فيه تلبيس غير لائق ثم أن فيه ( مفسدة أيضاً ) من جهة أخرى وهو احتمال أن يكون في إسناد صاحب المستخرج من لا يحتج به كما بيناه غير مرة ، فإذا ظن الظان أن صاحب الصحيح أخرجه بلفظه قطع نظره عن البحث عن أحوال رواته اعتماداً على صاحب الصحيح ، والحال أن صاحب الصحيح لم يخرج ذلك فيوهم فاعل ذلك ما ليس بصحيح صحيحاً هذا معنى كلامه .
ثم قال : ولا ينكر هذا على من صنف على غير الأبواب كأصحاب المعاجم والمشيخات ، فإن مقصودهم أصل الإسناد لا الاستدلال بألفاظ المتون ـ والله أعلم .
26- قوله (ص) : (( بخلاف الكتب المختصرة من الصحيحين ، فإن منفيها نقلوا فيها ألفاظ الصحيحين أو أحدهما )) .
محصلة أن اللفظ إن كان متفقاً فذاك وإن كان مختلفاً يحكيه على وجهه وتارة يقتصر على لفظ أحدهما . ويبقى ما إذا كان كل منهما أخرج من الحديث جملة ولم يخرجها الآخر فهل للمختصر أن يسوق الحديث مساقاً واحداً وينسبه إليهما ويطلق ذلك أو عليه أن يبين ؟ هذا محل تأمل ، ولا يخفى الجواز وقد فعله غير واحد ـ والله أعلم ـ .
27- قوله (ص) يف ذكر المستدرك للحاكم : (( وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به فالأولى أن نتوسط في أمره ... )) إلى آخر كلامه .
[ زعم الماليني أنه ليس في المستدرك حديث على شرط الشخين : ]
أقول : حكى الحافظ أبو عبد الله الذهبي عن أبي سعد الماليني أنه قال : (( طالعت المستدرك على الشيخين الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره فلم أر فيه حديثاً على شرطهما )) .
وقرأت بخط بعض الأئمة أنه رأى بخط عبد الله بن زيادن المسكي قال : أملى على الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي سنة خمس وتسعين وخمسمائة قال : (( نظرت إلى وقت إملائي عليك هذا الكلام فلم أجد حديثاً على شرط البخاري ومسلم لم يخرجاه إلا أحاديث :
1- حديث أنس (( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )) .
2- وحديث الحجاج بن علاط لما أسلم .
3- وحديث علي ـ رضي الله عنه ـ (( لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع )) ، انتهى .
وتعقب الذهبي قول الماليني فقال : هذا غلو وإسراف وإلا ففي المستدرك جملة وافرة على شرطهما وجملة كثيرة على شرط أحدهما وهو قدر النصف . وفيه نحو الربع مما صح مسنده أو حسن . وفيه بعض العلل . وباقيه مناكير وفي بعضها موضوعات قد ألإردتها في جزء انتهى كلامه .
وهو كلام مجمل يحتاج إلى أيضاح وتبيين . من الإيضاح أنه ليس أنه جميعه كما قال ، فنقول :
(أ) ينقسم المستدرك أقساماً كل قسم منها يمكن تقسيمه :
1- الأول : أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجاً برواته في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع سالماً من العلل واحترزنا بقولنا على صورة الاجتماع عما احتجا برواته على صورة الانفراد . كسفيان بن حسين عن الزهري ، فإنهما احتجا بكل منهما على الانفراد ، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري ، لأن سماعه من الزهري ضعيف لا يقال دون بقية مشايخه .
فإذا وجد من روايته عن الزهري لا يقال على شرط الشيخين . لأنهما بكل منهما . بل لا يكون على شرطهما إلا إذا احتجا بكل منهما على صورة الاجتماع ، وكذا إذا كان الإسناد قد احتج كل منهما برجل منه ولم يحتج بآخر منه كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلاً عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فإن مسلماً احتج بحديث سماك إذا كان من رواية الثقات عنه ولم يحتج بعكرمة واحتج البخاريبعكرمة دون سماك ، فلا يكون الإسناد والحالة هذه على شرطهما حتى يجتمع فيه صورة الاجتماع . وقد صرح بذلك الإمام أبو الفتح القشيري وغيره .
وحترزت بقولي أن يكون سالماً من العلل بجميع رواته على صورة الاجتماع إلا أن فيهم من وصف بالتدليس أو اختلط في آخر عمره فإنا نعلم في الجملة أن الشيخين لم يخرجا من رواية المدلسين بالعنعنة إلا ما تحققا أنه مسموع لهم من جهة أخرى وكذا لم يخرجا من حديث المختلطين عمن سمع منهم بعد الاختلاط إلا ما تحققا أنه من صحيح حديثهم قبل الاختلاط . فإذا كان كذلك لم يجز الحكم للحديث الذي فيه مدلس قد عنعنه أو شيخ سمع ممن اختلط بعد اختلاطه ، بأنه على شرطهما وإن كانا قد أخرجا ذلك الإسناد بعينه .
إلا إذا صرح المدلس من جهة أخرى بالمساع وصح أن الراوي سمع من شيخه قبل اختلاطه ، فهاذ القسم يوصف بكونه على شرطهما أو على شرط أحدهما .
ولا يوجد في المستدرك حديث بهذه الشروط لم يخرجا له نظيراً أو أصلاً إلا القليل كما قدمناه . نعم وفيه جملة مستكثرة بهذه الشروط ، لكنها مما أخرجها الشيخان أو أحدهما ـ استدركها الحاكم واهماً في ذلك ظاناً أنهما لم يخرجاها .
(ب) القسم الثاني : أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقروناً بغيره . ويلتحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنباً ما تفرد به أو ما خالف فيه . كما أخرج مسلم من نسخه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ ما لم يتفرد به .
فلا يحسن أن يقال : إن باقي النسخة على شرط مسلم ، لأنه ما خرج بعضها إلا بعد أن تبين أن ذلك مما لم ينفرد به . فما كان بهذه المثابة لا يلتحق أفراده بشرطهما .
وقد عقد الحاكم في كتاب المدخل باباً مستقلاً ذكر فيه من أخرج له الشيخان في المتابعات وعدد ما أخرجا من ذلك ، ثم أنه مع هذا الاطلاع يخرج أحاديث هؤلاء في المستدرك زاعماً أنها على شرطهما . ولا شك في نزول أحاديثهم عن درجة الصحيح بل ربما كان فيها الشاذ والضعيف لكن أكثرها لا ينزل عن درجة الحسن .
والحاكم وإن ممن لا يفرق بين الصحيح والحسن بل يجعل الجميع صحيحاً تبعاً لمشايخه كما قدمناه عن ابن خزيمة وابن حبان . فإنما يناقش في دعواه أن أحاديث هؤلاء على شرط الشيخين أو أحدهما . وهذا القسم هو عمدة الكتاب .
(ج) القسم الثالث : أن يكون الإسناد لم يخرجا له لا في الاحتجاج ولا في المتابعات . وهذا قد أكثر منه الحاكم فيخرج أحاديث عن خلق ليسوا في الكتابين ويصححها ، لكن لا يدعي أنها على شرط واحد منهما وربما ادعى ذلك على سبيل الوهم . وكثير منها يعلق القول بصحتها على سلامتها من بعض رواتها . كالحديث الذي أخرجه من طريق الليث عن إسحاق بن بزرج عن الحسن بن علي في التزين للعيد . قال في أثره :
(( لولا جهالة إسحاق لحكمت بصحته وكثير منها لا يتعرض للكلام عليه أصلاً .
ومن هنا دخلت الآفة كثيراً فيما صححه وقل أن تجد في هذا القسم حديثاً يلتحق بدرجة الصحيح فضلاً عن أن يرتفع إلى درجة الشيخين ـ والله أعلم ـ .
ومن عجب ما وقع للحاكم أنه أخرج لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال ـ بعد روايته :
هذا صحيح الإسناد ، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن . مع أنه قال ـ في كتابه الذي جمعه في الضعفاء : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه .
وقال في آخر هذا الكتاب : فهؤلاء الذي ذكرتهم قد ظهر عندي جرحهم ، لأن الجرح لا أستحله تقليداً . انتهى .
فكان هذا من عجائب ما وقع لع من التساهل والغفلة . ومن هنا يتبين صحة ( قول ابن الأخرم التي قدمناها ) . وأن قول المؤلف أن يصفوا له منه صحيح كثير ـ غير جيد بل هو قليل بالنسبة إلى أحاديث الكتابين لأن المكرر يقرب من ستة الآف .
والذي يسلم من المستدرك على شرطهما أو شرط أحدهما مع الاعتبار الذي حررناه دون الألف فهو
قليل بالنسبة إلى ما في الكتابين ـ والله أعلم ـ .
وقد بالغ ابن عبد البر ، فقال : ما معناه أن البخاري ومسلماً إذا اجتمعا على ترك إخراج أصل من الأصول فإنه لا يكون له طريق صحيحه وإن وجدت فهي معلولة .
وقال في موضع آخر : (( وهذا الأصل لم يخرج البخاري ومسلم شيئاً منه وحسبك بذلك ضعفاً )) . هذا وإن كان لا يقبل منه فهو يعضد قول ابن الأخرم ـ والله أعلم .
8- قوله (ع) : وكلام الحاكم مخالف لما فهموه ( يعني ابن الصلاح وابن دقيق العيد والذهبي ) من أنهم يعترضون على تصحيحه على شرط الشيخين أو أحدهما ، بأن البخاري ـ مثلاً ـ ما أخرج لفلان وكلام الحاكم ظاهر أنه لا يتقيد بذلك حتى يتعقب به عليه .
قلت : لكن تصرف الحاكم يقوي أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما شيخنا ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه إذا كان عنده الحديث [ قد ] أخرجا أو أحدهما لرواته قال : صحيح على شرط الشيخين أو أحدهما وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال : صحيح الإسناد حسب .
ويوضح ذل قوله ـ في باب التوبة ـ لما أورد حديث أبي عثمان عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً (( لا تنزع الرحمة إلا من شقي )) قال : هذا حديث صحيح الإسناد (( وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ولو كان هو النهدي لحكمت بالحديث على شرط الشيخين .
فدل هذا على أنه إذا لم يخرجا رواة الحديث لا يحكم به على شرطهما وهو عين ما ادعى ابن دقيق العيد وغيره .
وإن كان الحاكم قد يغفل عن هذا بعض الأحيان ، فيصبح على شرطهما بعض ما لم يخرجا لبعض رواته ، فيحمل ذلك على السهو والنسيان ويتوجه به حينئذ عليه الاعتراض . والله أعلم .
[ فوائد المستخرجات : ]
28- قوله (ص) : (( ثم إن التخاريح على الكتابين يستفاد منها فائدتان )) فذكرهما قال شيخنا في التعقب عليه : (( لو قال : إن هاتين الفائدتين من فوائد المستخرجات لكان أولى )) .
ثم زاد عليه فائدة ثالثة وهي تكثر طرق الحديث ليرجح بها عند المعارضة . وهذه قد ذكرها المصنف في مقدمة شرح مسلم له . وتلقاها عنه الشيخ محي الدين النووي ، فاستدركها عليه في فختصره في علوم الحديث .
وللمستخرجات فوائد أخرى لم يتعرض أحد منهم لذكرها :
1- أحدها : الحكم بعدالة من أخرج له فيه ، لأن المخرج على شرط الصحيح يلزمه أن لا يخرج إلا عن ثقة عنده .
فالرجال الذين في المستخرج ينقسمون أقساماً منهم :
(أ) من ثبتت عدالته قبل هذا المخرج ، فلا كلام فيهم .
(ب) ومنهم من طعن فيه غير هذا المخرج فينظر في ذلك الطعن إن كان مقبولاً قادحاً فيقدم ( وإلا فلا ) .
(ج) ومنهم من لا يعرف لأحد قبل هذا المخرج فيه توثيق ولا تجريح فتخريج من يشترط الصحة لهم ينقلهم من درجة من هو مستور إلى درجة هو موثوق . فيستفاد من ذلك صحة أحاديثهم التي يروونها بهذا الإسناد ولو لم يكن في ذلك المستخرج ـ والله أعلم ـ .
2- الثانية : ما يقع فيها من حديث المدلسين بتصريح السماع وهي في الصحيح بالعنعنة ، فقد قدمنا أنها نعلم في الجملة أن الشيخين اطلعا على أنه مما سمعه المدلس من شيخه ، لكن ليس اليقين كالاحتمال فوجود ذلك في المستخرج بالتصريح ينفي أحد الاحتمالين .
3- الثالثة : ما يقع فيها من حديث المختلطين عن سمع منهم قبل الاختلاط ( وهو في الصحيح في حديث من سمع منهم قبل ذلك ) والحال فيها كالحال في التي قبلها سواء بسواء .
4- الرابعة : ما يقع فيها من التصريح بالأسماء والمهملة في الصحيح في الإسناد أو في المتن .
5- الخامسة : ما يقع فيها من التمييز للمتن المحال به على المتن المحال عليه وذلك في (( كتاب مسلم )) كثير جداً ، فإنه يخرج على لفظ بعض الرواة ويحيل بباقي ألفاظ الرواة على ذلك اللفظ الذي يورده فتارة يقول : مثله فيحمل على أنه نظير سواء . وتارة يقول : : نحوه أو معناه ، [ فتوجد ] بينهما مخالفة بالزيادة والنقص وفي ذلك من الفوائد ما لا يخفى .
6- السادسة : ما يقع فيها من الفصل للكلام المدرج في الحديث مما ليس في الحديث ويكون في الصحيح غير مفصل .
7- السابعة : ما يقع من الأحاديث المصرح برفعها وتكون في أصل الصحيح موقوفة أو كصورة الموقوف ، كحديث ابن عون عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : (( اللهم بارك لنا في يمننا ... الحديث أخرجه البخاري في أواخر الاستسقاء هكذا موقوفاً ورواه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجهما من هذا الوجه مرفوعاً بذكر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه ، في أمثلة كثيرة لذلك .
وكملت فائدة المستخرجات بهذه الفوائد السبعة التي ذكرناها عشر فوائد ـ والله الموفق ـ .
29- قوله (ص) : (( لما ذكر التعليق الممرض ـ : (( وليس في شئ منه حكم منه بصحة ذلك عمن ذكر منه ... ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعاراص يؤنس به ويركن إليه .
وقال في ذكر التعليق الجازم :
(( ثم إن ما يتقاعد من ذلك على شرط الصحيح قليل يوجد في (( كتاب البخاري )) في مواضع
من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه )) ... انتهى .
أقول : بل الذي يتقاعد على شرط البخاري ليس بالقليل إلا أن يريد بالقلة قلة نسبية إلأى باقي ما في الكتاب فيتجه ، بل جزم أبو الحسن ابن القطان بأن التعاليق التي لم يوصل البخاري إسنادها ليست على شرطه ، وإن كان ذلك لا يقبل من ابن القطان على ما ستوضحه .
وأما قول ابن الصلاح ـ في التعليق الممرض ـ :
(( ليس في شئ منه حكم بالصحة على من غفله عنه )) فغير مسلم لأن جميعه صحيح عنده وإنما يعدل عن الجزم لعلة ترحزحه عن شرطه .
وهذا يشترط أن يسوقه مساق الاحتجاج به ، فأما ما أورده من ذلك على سبيل التعليل له والرد أو صرح بضعفه ، فلا . وقد بينت ذلك على وجوهه وأقسامه في كتابي تغليق التعليق . أشير هنا إلى طرف من ذلك يكون إنموذجاً لما وراءه فأقول :
[ تقسيم التعليق في البخاري : ]
الأحاديث المرفوعة التي لم يوصل البخاري إسنادها في صحيحه .
(أ) منها : ما يوجد في موضع آخر من كتابه .
(ب) ومنها : ما لا يوجد إلا معلقاً .
فأما الأول : فالسبب في تعليقه أن البخاري من عادته في صحيحه أن لا يكرر شيئاً إلا لفائدة ، فإذا كان المتن يشتمل على أحكام كرره في الأبواب بحسبها أو قطعه في الأبواب إذا كانت الجملة يمكن انفصالها من الجملة الأخرى . ومع ذلك فلا يكرر الإسناد بل يغاير بين رجاله أما شيوخه أو شيوخ شيوخه ونحو ذلك .
فإذا ضاق مخرج الحديث ولم يكن له إلا إسناد واحد واشتمل على أحكام واحتاج إلى تكريرها ، فإنه والحالة هذه إما أن يختصر المتن أو يختصر الإسناد . وهذا أحد الأسباب في تعليقه الحديث الذي وصله في موضع آخر .
وأما الثاني : وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقاً ، فهو على صورتين :
إما بصيغة الجزم وإما بصيغة التمريض .
فأما الأول : فهو صحيح إلى من علقه عنه ، وبقي النظر فيما أبرز من رجاله فبعضه يلتحق بشرطه .
والسبب في تعليقه له إما لكونه لم يحصل له مسموعاص وإنما أخذه على طريق المذاكرة أو الإجازة أو كان قد خرج ما يقوم مقام ، فاستغنى بذلك عن إيراد هذا المعلق مستوفي السياق أو لمعنى غير ذلك ، [ وبعضه ] يتقاعد عن شرطه ، وإن صححه غيره أو حسنه ، وبعضه يكون ضعيفاً من جهة الانقطاع خاصة .
وأما الثاني : وهو المعلق بصيغة التمريض مما لم يورده في موضع آخر فلا يوجد فيه ما يلتحق بشرطه
إلا مواضع يسيرة قد أوردها بهذه الصيغة لكونه ذكرها بالمعنى كما نبه عليه شيخنا ـ رضي الله تعالى عنه . نعم ، فيه ما هو صحيح وإن تقاعد عن شرطه إما لكونه لم يخرج لرجاله أو لوجود علة فيه عنده ، ومنه : ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف وهو على قسمين :
أحدهما : ما ينجبر بأمر آخر . وثانيهما : ما لا يرتقي عن مرتبة الضعيف وحيث يكون بهذه المثابة ، فإنه يبين ضعفه ويصرح به حيث يورده في كتابه .
ولنذكر أمثلة لما ذكرناه :
فمثال التعليق الجازم الذي يبلغ شرطه ولم يذكره في موضع آخر :
(أ) قوله ـ في كتاب الصلاة : (( وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر مسير ويجمع بين المغرب والعشاء )) .
وهو حديث صحيح على شرط البخاري ، فقد رويناه من طريق أحمد ابن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان هكذا . وأحمد وأبوه ومن فوقهما قد أخرج لهم البخاري في صحيحه محتجاً به .
(ب) وقوله ـ في الوكالة وغيرها : (( وقال عثمان بن الهيثم ثنا عوف ثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرةـ رضي الله تعالى عنه ـ قال :
(( وكلني رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بزكاة رمضان ... الحديث بطوله وقد أورده في مواضع مطولاً ومختصراً )) .
وعثمان من مشايخه الذين سمع منهم الكثير ولم يصرح بسماعه منه لهذا الحديث ـ فالله أعلم هل سمعه أم لا . ومن الأحاديث التي علقها بحذف جميع الإسناد وهي على شرطه ولم يخرجها في موضع آخر .
(ج) قوله في الصيام : (( وقال أبو هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء )) . وأخرجه النسائي قال : ثنا محمد بن يحيى ثنا بشر بن عمر ثنا مالك ، عن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ بهذا
وأصل هذا الحديث عند البخاري بلفظ آخر من حديث الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : (( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة )) .
(د) ومثال التعليق الجازم الذي لا يبلغ شرطه وإن كان صحيحاً قوله ـ في الطهارة ـ وقال بهز ( بن
حكيم ) عن أبيه عن جده ( عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) (( الله أحق أن يستحي منه
من الناس )) .
وهو حديث مشهور أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث بهز . وبهز وأبوه وثقهما جماعة . وصحح حديث بهز غير واحد من الأئمة . نعم وتكلم في بهز غير واحد ، لكنه لم يتهم ولم يترك .
وقد علق البخاري حديثاً آخر من نسخة من بهز بن حكيم فلم يذكر إلا الصحابي وهو معاوية بن حيدة جد بهز فأتى بصيغة التمريض وقوله ـ في الطهارة ـ أيضاً ـ وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : (( كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يذكر الله تعالى على كل أحيانه )) . وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق خالد بن سلمة عن عبد الله البهي عن عروة عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ واستغربه الترمذي .
وخالد تكلم فيه بعض الأئمة وليس هو من شرط البخاري وقد تفرد بهذا الحديث ـ والله أعلم .
(هـ) ومثل التعليق الجازم يضعف بسبب الانقطاع :
قوله ـ في كتاب الزكاة وقال طاووس : قال معاذ ( يعني ابن جبل ـ رضي الله عنه ) لأهل اليمن : (( ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة لأهون عليكم وخير لأصحاب محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ . والإسناد صحيح إلى طاووس ، قد رويناه في كتاب الخراج ليحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وإبراهيم بن ميسرة عن طاووس ، لكنه منقطع ، لأن طاووساً لم يسمع من معاذ ـ رضي الله عنه ـ والله سبحانه وتعالى أعلم .
فائدة
سمى الدمياطي : ما يعلقه البخاري عن شيوخه حوالة ، فقال في كلامه على حديث أبي أيوب في الذكر : (( أخرجه البخاري حوالة فقال : قال موسى بن إسماعيل : ثنا وهيب عن داود عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبي أويوب .
(و) ومثال التعليق الممرض الذي يصح إسناده ولا يبلغ شرط البخاري لكونه لم يخرج لبعض رجاله .
قوله ـ في الصلاة ـ : (( ويذكر عن عبد الله بن السائب ـ رضي الله عنه ـ قال : (( قرأ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ المؤمنين في صلاة الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أو ذكر عيسى ـ عليه السلام ـ أخذته سعلة فركع )) .
وهو حديث صحيح رواه مسلم من طريق محمد بن عباد بن جعفر عن أبي سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو القاري وعبد الله بن المسيب ـ ثلاثتهم عن عبد الله بن السائب ـ رضي الله تعالى عنه ـ به . ولم يخرج البخاري بهذا الإسناد شيئاً يبلغ شرطه ، لكونه معللاً .
وقوله ـ في الصيام ـ (( ويذكر عن أبي خالد ( يعني الأحمر ) عن الأعمش عن الحكم ومسلم البطين وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قالت امرأة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( إن أختي ماتت ... الحديث . وهذا الإسناد صحيح . إلا أنه معلل بالاضطراب لكثرة الاختلاف في إسناده ولتفرد أبي خالد بهذه السياقة وقد خالفه فيها من هو أحفظ وأتقن فصار حديثه شاذاً للمخالفة .
وقد أخرجه مع ذلك ابن خزيمة في صحيحه وأصحاب السنن وأخرجه مسلم في المتابعات ولم يسق لقظه .
(ز) ومثال التعليق الممرض الذي يكون إسناده حسناً قوله في الزكاة : (( ويذكر عن سالم عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق )) .
وهذا الحديث وصله هكذا سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه في حديث طويل في الزكاة .
وقد قدمنا أن رواية سفيان بن حسين عن الزهري ليست على شرط الصحيح ، لأنه ضعيف فيه وإن كان كل منهما ثقة . لكن له شاهد من حديث أبي بكر الصديث ـ رضي الله تعالى عنه ـ وغيره فاعتضد به حديث سفيان بن حسين وصار حسناً .
وقوله ـ في كتاب البيوع ـ : (( ويذكر عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال له : (( إذا بعث فكل وإذا ابتعت فاكتل )) وهذا الحديث رواه أحمد والبزار من طريق ابن ليهعة عن موسى بن وردان عن سعيد بن المسيب عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وابن ليهعة ضعيف ، لكنه اعتضد برواية يحيى بن أيوب المصري وهو من رجال البخاري .
عن عبيد الله بن المغيرة وهو ثقة عن منقذ مولى ابن سراقة وهو مستور ولم يضعفه أحد عن عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ . كذلك رويناه في فوائد سمويه وفي سنن الدار قطني . فاعتضد هذا الإسناد بهذا الإسناد فصار حسناً .
(ح) ومثال التعليق الممرض الذي يكون إسناده ضعيفاً فرداً لكنه انجبر بأمر آخر . قوله في الوصايا : (( ويذكر أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قضى بالدين قبل الوصية )) .
وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره من رواية أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه ، والحارث ضعيف جداً وقد استغربه الترمذي ثم حكى إجماع أهل العلم على القول بذلك فاعتضد الحديث بالإجماع ـ والله أعلم .
(ط) ومثال التعليق الممرض الذي لا يرتقي عن درجة الضعيف ولم ينجبر بأمر آخر ، وعقبه البخاري بالتضعيف ـ قوله في الصلاة : (( ويذكر عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ رفعه (( لا يتطوع الإمام في مكانه )) . ولم يصح .
وكأنه أشار إلى ما أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سليم عن الحجاج عن بن عبيد عن إبراهيم
بن إسماعيل عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ نحوه . وليث بن أبي سليم ضعيف وقد تفرد وشيخ شيخه لا يعرف .
وقوله ـ في كتاب الهدية : (( ويذكر عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ مرفوعاً . (( إن جلساءه شركاؤه ولم يصح )) .
وهذا الحديث لا يصح رفعه ، فقد رويناه في مسند عبد بن حميد وفي كتاب الحلية وغيرها ـ من طريق مندل بن علي عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( من أهديت له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها )) .
ومندل بن علي ضعيف . والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ، موقوفاً كذلك رويناه في مصنف عبد الرزاق وفي فوائد الحسن بن رشيق من طريقه . عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار موقوفاً .
وروى عن عبد الرزاق مرفوعاً ولم يثبت عنه . ومحمد بن مسلم الطائفي فيه مقال ولكنه أرجح من مندل . وقد صحح كونه مرفوعاً أبو حاتم الرازي فيما ذكره ابنه في العلل فقال : إن رفعه منكر .
فقد لاح بهذه الأمثلة واتضح أن الذي يتقاعد عن شرط البخاري من التعليق الجازم جملة كثيرة وأن الذي علقه بصيغة التمريض متى أورده في معرض الاحتجاج والاستشهاد فهو صحيح أو حسن أو ضعيف منجبر وإن أورده في معرض الرد فهو ضعيف عنده ، وقد بينا أنه يبين كونه ضعيفاً ـ والله الموفق . وجميع ما ذكرناه يتعلق بالأحاديث المرفوعة .
أما الموقوفات فإنه بما صح منها ولو لم يبلغ شرطه ويمرض ما كان فيه ضعف وانقطاع . وإذا علق على شخصين وكان لهما ( إسنادان مختلفان ) مما يصح أحدهما ويضعف الآخر فإنه يعبر فيما هذا سبيله بصيغة التمريض ـ والله أعلم ـ .
وهذا كله فيما صرح بإضافته إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وإلى أصحابه .
أما ما لم يصرح بإضافته إلأى قائل وهي الأحاديث التي يوردها في تراجم الأبواب من غير أن يصرح بكونها أحاديث .
فمنها : ما يكون صحيحاً وهو الأكثر . ومنها ما يكون ضعيفاً . كقوله ، في باب اثنان فما فوقهما جماعة ولكن ليس شئ من ذلك ملتحقاً بأقسام التعليق التي قدمناها إذا لم يسقها مساق الأحاديث وهي قسم مستقل ينبغي الاعتناء بجمعه والكلام عليه وبه وبالتعليق يظهر كثرة ما اشتمل عليه جامع البخاري من الحديث ويوضح سعة اطلاعه ومعرفته بأحاديث الأحكام جملة وتفصيلاً ـ رحمه الله تعالى ـ .
تنبيه
30- قول ابن الصلاح ، في هذه المسألة : (( وأما الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر ... ففي بعضه نظر )) .
إنما خص النظر ببعضه ، لأنه كما أو ضحته على قسمين :
أحدهما : ما أورده موصولاً ومعلقاً كان ذلك في موضع واحد أو موضعين فهذا لا نظر فيه ، لأن الاعتماد على الموصول ويكون المعلق شاهداً له .
وثانيهما : ما لا يوجد في كتابه إلا معلقاً فهذا هو موضع النظر وقد أفردته بتأليف مستقل لطيف الحجم جم الفوائد ، ولله الحمد .
9- قوله (ع) : (( وفيه بقية أربعة عشر موضعاً رواه متصلاً ثم عقبه بقوله : (( ورواه فلان )) . وقد جمعها الرشيد العطاء في الغرر المجموعة وقد بينت ذلك كله في جزء مفرد )) انتهى .
وفيه أمور :
(أ) الأول : فيه بقية أربعة عشر . ليس فيه عند الرشيد إلا ثلاثة عشر . والذي أوقع الشيخ في ذلك أن أبا علي الجياني ـ وتبعه المازري ـ ذكر أنه أربعة عشر لكن لما سردها أورد منها حديثاً مكرراً وهو حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ (( أرأيتكم ليلتكم هذه )) هذا هو الذي كرر فصارت العدة ثلاثة عشر منا سأذكرها مفصلة .
(ب) والثاني : قوله : إنه يرويه متصلاً بقوله (( ورواه فلان )) . ليس ذلك في جمعي الأحاديث المذكورة وإنما وقع ذلك منه في ستة أحاديث منها .
(1) أحدها : في حديث أبي جهيم كما ذكره الشيخ .
(2) ، (3) الثاني والثالث في حديثي الليث كما ذكرها الشيخ وأن مسلماً وصلهما من طريق أخرى
(4) والرابع : في حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة ماعز قال : ورواه عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد بعد أن أورده من طريق غيره .
(5) والخامس : في حديث البراء بن عازب ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في الصلاة الوسطى قال : ورواه الأشجعي عن سفيان عن الأسود بن قيس بعد أن أورده من طريق أخرى عن البراء بن عازب ـ رضي الله تعالى عنه .
(6) والسادس : في حديث عوف بن مالك حديث (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم )) .
قال : ورواه معاوية بن صالح .
وأما السبعة الثانية :
1- فأحدها : في الجنائز في حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في خروجه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى البقيع .
قال ـ فيه ـ حدثني من سمع حجاجاً الأعور ، ثنا ابن جريج . أورده عقب حديث ابن وهب عن
ابن جريج .
2- وثانيها : في صفة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حدثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري وهذا وصله الجلودي صاحب ابن سفيان قال : ثنا محمد بن المسيب ثنا إبراهيم بن سعيد .
3- وثالثها : في باب السكوت بين التكبير والقراءة حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ .
قال : حدثت عن يحيى بن حسان ويونس بن محمد وغيرهما ، قالوا : ثنا عبد الواحد . أورده عقب حديث أبي كامل الجحدري عن عبد الواحد .
4- رابعها : في باب وضع الجوائح من حيدث عمرة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت (( سمع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صوت خصوم بالباب ... )) الحديث قال فيه حدثني غير واحد من أصحابنا قالوا : ثنا إسماعيل بن أويس وهذا لم يورده إلا من طريق عمرة .
5- خامسها : في باب احتكار الطعام في حديث معمر العدوي قال : حدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن عون وقد وصله من أطريق أخرى . عن سعيد بن المسيب .
6- سادسها : في آخر كتاب القدر في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ (( لتركبن سنن من كان قبلكم )) .
قال : وحدثني عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن زيد بن أسلم . وقد وصله من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم .
7- سابعها : في كتاب الصلاة في حديث كعب بن عجرة قال فيه : ثنا صاحل لنا : ثنا إسماعيل بن زكريا كذا ذكر الجياني أنه وقع في روايتهم . وأما الذي في رواية الجلودي عند المشارقفة فقال مسلم فيه : ثنا محمد بن بكار ثنا إسماعيل بن زكريا . والحديث المذكور عنده من طرق أخرى من غير هذا الوجه . فعلى هذا فهي اثنا عشر حديثاً فقط .
ستة منها بصيغة التعليق وستة منها بصيغة الاتصال لكن أيهم في كل واحد منها اسم من حدثه فإن كان الشيخ يرى أنها منقطعة كما يقوله الجياني ومن تبعه ، فكان حق العبارة أن يقول : وفيه بقية ثلاثة عشر موضعاً منقطعة . لا كما قال : إنه يقول : ورواه فلان .
وإن كان يرى أنها متصلة كما هو المعروف عند جمهور أهل الحديث وكما صرح هو به في موضع آخر ، فكان حق العبارة أن يقول : وفيه بقية ستة مواضع رواه متصلاً ثم عقبه يقول : وروه فلان . وفيه مواضع أخرى قيل إنها منقطعة وليست بمنقطعة .
3- الثالث : قوله (( إنه ليس في مسلم بعد المقدمة حديث معلق لم يوصله من طريق أخرى إلا
حديث أبي الجهيم )) . هذا صحيح يفيد التعليق لكن قد بينا أن الذي بصيغة التعليق إنما هو ستة لا
أكثر . أما على رأي الجياني ومن تبعه في تسميتهم المهم منقطعاً فإن فيها حديثين آخرين لم يوصلهما في مكان آخر .
1- أحدهما : حديث عمرة عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في الجوائح كما بيناه فإنه ما أورده إلا من تلك الطريق .
2- وثانيهما : حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله تعالة عنه ـ الذي قال فيه حدثت عن أبي أسامة ـ رضي الله عنه ـ وقد تقدم أن الجلودي وصله عندي أنه ملتحق بما صورته التعليق وهو موصول على رأي ابن الصلاح . فإن مسلماً قال : (( حدثت عن أبي موسى )) .
فلو اقتصر على هذا لكان متصلاً في إسناده مبهم على ما قررناه . منقطع على رأي الجياني . لكن زاد بعد ذلك فقال : وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري )) وإبراهيم هذا من شيوخ مسلم ، قد سمع منه غير هذا وأخرج عنه مما سمعه في صحيحه غير هذا مصرحاً به .
وقد قرر ابن الصلاح أن المعليق إذا سمي بعض شيوخه وكان غير مدلس حمل على أنه سمعه منه كما ذكر ذلك في حديث هشام بن عمار الذي أخرجه البخاري في تحريم المعازف ولا فرق بين أن يقول المعلق : قال أو روى أو ذكر أو ما أشبه ذلك من الصيغ التي ليست بصريحة . فهاذ منها ـ والله الموفق . وقد عثرت في (( صحيح مسلم )) على شئ غير هذا مما يلتحق بهذا وبينته فيما كتبته من النكت على شرح مسلم للنووي ـ والله أعلم ـ .
10- قوله (ع) : (( بل أزيد على هذا وأقول : الظاهر أن البخاري لم يرد برد الصدقة حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ المذكور في بيع المدبر وإنما أراد ـ والله أعلم ـ حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه في الرجل الذي دخل والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يخطب ، فأمرهم فتصدقوا عليه ... )) الحديث . وهو حديث ضعيف رواه الدار قطني وغيره انتهى .
فيه أمور :
1- أحدها : أن الدار قطني لم يرو قصة الداخل والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يخطب ، فأمرهم فتصدقوا عليه ـ من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أصلاً وإنما رواه من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه .
وسبب هذا الاشتباه في هذا أن القصة شبيهة بحديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة سليك الغطفاني التي أخرجها أصحاب الحديث الصحيح والدار قطني وغيره من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لكن ليس فيها قصة المتثدق ورد الصدقة عليه .
2- ثانيها : أن الحديث المذكور عند الدار قطني مع كونه ليس من حديث جابر ـ رضي الله تعالى
عنه ـ وإنما هو من حديث أبي سعيد ـ رضي الله تعالى عنه ـ ليس ضعيفاً ، بل هو صحيح أخرجه
النسائي وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان ي صحيحه والحاكم كلهم من حديث محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : جاء رجل يوم الجمعة ـ والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يخطب بهيئة بذة فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : أصليت ؟ قال : لا . قال : صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صلي ركعتين .
وحث الناس على الصدقة قال : فألقى أحد ثوبيه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ جاء هذا يوم الجمعة ( يعني التي قبلها ) بهيئة بذة ، فأمرت الناس بالصدقة ( فألقوا ثياباً فأمرت له منها يثوبين ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة فألقى أحدهما فانتهزه وقال : خذ ثوبك ) لفظ النسائي .
3- ثالثها : نفيه أن يكون البخاري أراد بحديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حديثه في بيع المدبر ليس بجيد . بل الظاهر أنه أراده وقد سبق مغلطاي إلى ذلك ابن بطال في شرح البخاري وعبد الحق في أواخر الجمع بين الصحيحين وغيرهما ولا يلزمه به منه ما ألزمه المعترض الذي تعقب الشيخ كلامه على ما سنبينه .
وبيان ذلك : أن حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في بيع المدبر قد اتفق الشيخان على تخريجه من طرق عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار عنه وأخرجه البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه .
وليس في رواية واحد منهم زيادة على قصة بيعه وإعطائه الثمن لصاحبه . ورواه مسلم منفرداً من طريق أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فزاد فيه زيادة ليست عند البخاري .
ولفظه : (( أعتق رجل من بني عذرة عبداً له من دبر فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقال : (( ألك مال غيره ؟ قال : لا . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من يشتريه مني ؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي ـ رضي الله عنه ـ بثمانمائة درهم فجاء بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فدفعها إليه ثم قال : ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ فلأهلك فإن فضل عن أهلك شئ فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شئ فهكذا وهكذا )) .
فهذه الزيادة من حديث أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة المدبر فيها إشعار بمعنى ما علقه البخاري من أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ رد على المتصدق صدقته قبل النهي ثم نهاه ، لكن ليس في هذا تصريح بالنهي .
فإن كان هو الذي أراده البخاري فلا حرج عليه في عدم جزمه به لأن راوي الزيادة وهو أبو
الزبير ليس ممن يحتج به على شرطه وعلى تقدير صلاحيته عنده للحجة فقد تقدم أنه ربما علق الحديث بالمعنى أو بالاختصار فلا يجزم به بل يذكره بصيغة التمريض للاختلاف في ذلك كما قرره الشيخ فعل ذلك تقدير للمعترض اعتراضه .
4- رابعها : ظهر لي مراد البخاري بالتعليق السابق عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حديث آخر غير حديث المدبر .
وهو ما أخبرني به إبراهيم بن محمد المؤذن بمكة أن أحمد بن أبي طالب أخبرهم أنا عبد الله بن عمر نا أبو الوقت أنا أبو الحسن بن داود ( أنا عبد الله بن أحمد أنا إبراهيم بن خريم ) أنا عبد بن حميد ، ثنا يعلى بن عبيد ثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال :
بينما نحن عند رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إذ جاءه رجل بمثل البيضة من الذهب أصابها في بعض المعادن ، فجاء بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من ركنه الأيمن فقال لرسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : خذها مني صدقة فوالله مالي مال غيرها ، فأعرض ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عنه ثم جاء من ركنه الأيسر فقال : مثل ذلك ، فجاءه من بين يديه فقال : مثل ذلك فقال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : هاتها مغضباً فحذفه بها فلو أصابه بها لعقره أو أوجعه ، ثم قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( يأتي أحدكم بماله كله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس )) . (( إنما الصدقة عن ظهر غني خذه لا حاجة لنا به )) [ قال ] فأخذ الرجل ماله فذهب )) .
وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده والدارمي وأبو داود في السنن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في مستدركه كلهم من طريق محمد بن إسحاق به . يزيد بعضهم على بعض في سياقه ورواه إسناده ثقات ومحمد بن إسحاق مشهور ولم أره من حديثه إلا معنعناً ثم رأيته في مسند أبي يعلى مصرحاً فيه بالتحديث . وسياقه أنسب وأشبه بمراد البخاري من الذي قبله . والمتن الذي أروده الشيخ مناسب للمراد إلا أنه ليس من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ كما بيناه ـ والله أعلم ـ .
لطيفة
الرجل الذي جاء بالبيضة هو الحجاج بن علاط السهمي ـ رضي الله تعالى عنه ـ رواه عبد الغني الأزدي من رواية بعض أحفاده عن أبيه عن جده إلى أن انتهى إلى الحجاج بن علاط ـ رضي الله عنه ـ أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بلبنة من ذهب أصابها من كنز فذكر الحديث .
11- قوله : ع (( وأما الإتيان بصيغة الجزم فيما ليس بصحيح فهذا لا يجوز ولا يظن بالبخاري
... )) إلخ .
أقول : هذا يكاد أن يكون مصادرة على المطلوب ، لأن الخصم ينكر أن يكون البخاري التزم أن لا يأتي باللفظ الجازم إلا في الطرق الصحيحة يستدل على ذلك بالمثال الذي ذكره ، لأنه أخرج حديثاً باللفظ الجازم وهو معلول كما ذكره أبو مسعود .
فكيف يكون جوابه : لا يظن ذلك بالبخاري ولا يأتي البخاري باللفظ الجازم إلا فيما عله له .
فالجواب السديد عن ذلك أن يقول :
ما ادعاه أبو مسعود من كون ذلك الحديث لا يعرف إلا من رواية عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ مردود . فإن الحديث المذكور معروف من رواية عبد الله بن الفضل ـ أيضاً ـ عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ كما علقه البخاري . فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل ، فيهاذ يتضح أن لعبد الله بن الفضل فيه شيخين كما ذكره الشيخ احتمالاً .
[ عادة البخاري في الأسانيد المختلفة : ]
ومن عادة البخاري أنه إذا كان في بعض الأسانيد التي يحتج بها خلاف على بعض رواتها ساق الطريق الراجحة عنده مسندة متصلة ، وعلق الطريق الأخرى إشعاراً بأن هذا الاختلاف لا يضره ، لأنه إما أن يكون للراوي فيه طريقان فحدث به تارة عن هذا وإما أن لا يكون له فيه إلا طريق واحدة والذي أتى عنه بالطريق الأخرى واهم عليه ولا يضر الطريق الصحيحة الراجحة وجود الطريق الضعيفة المرجوحة ـ والله أعلم .
31- قوله (ص):عند ذكر أقسام الصحيح ـ(( أولها : صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعاً ))
اعترض عليه بأن الأولى أن يكون القسم الأول : ما بلغ مبلغ التواتر أو قاربه في الشهرة والاستقامة .
والجواب عن ذلك أنا لا نعرف حديثاً وصف بكونه متواتراً ليس أصله في الصحيحين أو أحدهما . وقد رد شيخنا اعتراض من قال : الأولى أن القسم الأول ما رواه أصحاب الكتب السنة ( من له فيه نظر ) . والحق أن يقال : أن القسم الأول وهو : ما اتفقا عليه يتفرع فروعاً :
(أ) أحدها : ما وصف بكونه متواتراً .
(ب) ويليه : ما كان مشهوراً كثير الطرق .
(ج) ويليه : ما وافقهما الأئمة الذين التزموا على تخريجه الذين خرجوا السنن والذين انتقوا المسند .
(د) ويليه : ما وافقهما عليه بعض من ذكر .
(هـ) ويليه : ما انفردا بتخريجه .
فهذه أنواع للقسم الأول وهو ما اتفقا عليه إذ يصدق على كل منها أنهما اتفقا على تخريجه . وكذا
نقول في ما انفرد به أحدهما أنه يتفرع على هذا الترتيب فيتبين بهذا أن ما اعترض به عليه أولاً وآخراً
مردود ـ والله أعلم ـ .
تنبيه
جميع ما قدمنا الكلام عليه من المتفق هو : ما اتفقا على تخريجه من حديث صحابي واحد . أما إذا كان المتن الواحد عند أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه عنه الآخر مع اتفاق لفظ المتن أو معناه . فهل يقال في هذا أنه من المتفق ؟ فيه نظر على طريقة المحدثين .
والظاهر : من تصرفاتهم أنهم لا يعدونه من المتفق إلا أن الجوزقي منهم استعمل ذلك في (( كتاب المتفق )) له في عدة أحاديث وقد قدمنا حكاية ذلك عنه وما يتمشى له ذلك إلا على طريقة الفقهاء ولننظر مأخذ ذلك . وذلك أن كون ما اتفقا على تخريجه أقوى مما انفرد به واحد منهما له فائدتان :
1- احداهما : أن اتفاقهما على التخريج عن راو من الراوة يزيده قوة فحينئذ ما يأتي من رواية ذلك الراوي الذي اتفقا على التخريج عنه أقوى مما يأتي من رواية من انفرد به أحدهما .
2- والثاني : أن الإسناد الذي اتفقا على تخريجه يكون متنه أقوى من الإسناد الذي انفرد به واحد منهما . ومن هنا يتبين أن فائدة المتفق إنما تظهر فيما إذا خرجا الحديث من حديث صحابي واحد .
نعم ، قد يكون في ذلك الجانب ـ أيضاً ـ قوة من جهة أخرى وهو أن المتن الذي تتعدد طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي . بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد إذا لم يكن فرداً غريباً أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الأخر ، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فرداً غريباً ، فيكون ذلك أقوى منه ، ـ والله أعلم ـ .
تنبيه آخر
هذه الأقسام التي ذكرها المصنف للصحيح ماشية على قواعد الأئمة ومحققي النقاد إلا أنها قد لا تطرد ، لأن الذي يتفرد به مسلم ـ مثلاً ـ إذا فرض مجيئه من طرق كثيرة حتى تبلغ التواتر أو الشهرة القوية ويوافقه على تخريجه مشترطو الصحة ـ مثلاً ـ لا يقال فيه : إن ما انفرد البخاري بتخريجه إذا كان فرداً ليس له إلا مخرج واحد أقوى من ذلك فليحمل إطلاق ما تقدم من تقسيمه على الأغلب الأكثر ـ والله أعلم ـ .
أقسام الحديث الصحيح :
وأما ما ذكره الحاكم في كتاب المدخل له أن للصحيح من الحديث ينقسم عشرة أقسام : خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها :
1- فالأول : ـ من المتفق عليها ـ اختيار البخاري ومسلم فذكر ما نقلناه في أوائل هذه الفوائد .
2- الثاني : أن لا يكون للصحابي إلا راو واحد . قال : (( ولم يخرجا هذا النوع في الصحيح )) .
3- الثالث : ( أن لا يكون للتابعي إلا راو واحد ) .
4- الرابع : الأحاديث الأفراد الغرائب التي يتفرد بها ثقة من الثقات .
5- الخامس : أحاديث جماعة عن آبائهم عن أجدادهم لم يأت عن آبائهم إلا عنهم .
قال : فهذه الخمسة الأقسام مخرجة في كتب الأئمة محتج بها ولن يخرج منها في الصحيحين غير القسم الأول .
وأما الأقسام المختلف فيها :
1- المراسيل .
2- وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا السماع .
3- والمختلف في وصله وإرساله بين الثقات .
4- وروايات الثقات غير الحفاظ .
5- ورواية المبتدعة إذا كانوا صادقين .
هذا حاصل ما ذكره الحاكم مبسوطاً مطولاً في (( كتاب المدخل إلى معرفة الإكليل )) وكل هذه الأقسام التي ذكرها في هذا المدخل مدخول .
ولولا أن جماعة من المصنفين كالمجد ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول تلقوا كلامه فيها بالقبول ، لقلة اهتمامهم بمعرفة هذا الشأن واسترواحهم إلى تقليد المتقدم دون البحث والنظر لأعرضت عن تعقب كلامه في هذا فإن حكايته خاصة تغني اللبيب عن التعقب .
فأقول : أما القسم [ الأول ] الذي ادعى أنه شرط فمنقوض بأنهما لم يشترطا ذلك ولا يقتضيه تصرفهما وهو ظاهر بين لن نظر في كتابيهما .
وأما زعمه : بأنه ليس في الصيححين شئ من رواية صحابي ليس له إلا راو واحد فمردود بأن البخاري أخرج حديث مرداس الأسلمي ـ رضي الله تعالى عنه ـ وليس له راو إلا قيس بن أبي حازم في أمثلة كثيرة مذكورة في أثناء الكتاب .
وأما قوله : بأنه ليس في الصحيحين من رواية تابعي ليس له إلا راو واحد فمردود ـ أيضاً ـ [ فقد ] خرج البخاري حديث الزهري عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ولم يرز عنه غير الزهري فيأمثلة قليلة لذلك .
وأما قوله : (( إن الغرائب الأفراد ليس في الصحيحين منها شئ فليس كذلك بل فيهما مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء مفرد .
وأما قوله : إنه ليس فيهما من روايات من روى عن أبيه عن جده مع تفرد الابن بذلك عن أبيه فمنتقض برواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده وبرواية عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي وغير ذلك . وفي تفرد به بعضهم وهو في الصحيحين أو أحدهما .
وأما الأقسام الخمسة التي ذكر أنه مختلف فيها وليس في الصحيحين منها شئ فالأول كما قال ؛ نعم ، قد يخرجان منه في الشواهد . وفي الثاني نظر يعرف من كلامنا في التدليس .
وأما ما اختلف في إرساله ووصله بين الثقات ، ففي الصحيحين منه جملة وقد تعقب الدارقطني بعضه في كتاب التتبع له وأجبنا عن أكثره .
وأما روايات الثقات غير الحفاظ ، ففي الصحيحين منه جملة ـ أيضاً ـ لكنه حيث يقع مثل ذلك عندهما يكونان قد أخرجا له أصلاً يقويه وأما روايات المتبدعة إذا كانوا صادقين ، ففي الصحيحين عن خلق كثير من ذلك ، لكنهم من غير الدعاة ولا الغلاة ، وأكثر ما يخرجان من هذا القسم في غير الأحكام .
نعم ، وقد أخرجا لبعض الدعاة الغلاة كعمران بن حطان وعباد بن يعقوب وغيرهما ، إلا أنهما لم يخرجا لأحد منهم إلا ما توبع عليه . وقد فات الحاكم من الأقسام المختلف فيها قسم آخر نبه عليه القاضي عياض ـ رحمه الله تعالى ـ وهو : رواية المستورين ، فإن رواياتهم مما اختلف في قبوله ورده . ولكن يمكن الجواب عن الحاكم في ذلك بأن هذا القسم وإن كان ممن اختلف في قبول حديثهم ورده ، إنه لم يطلق أحد على حديثهم اسم الصحة . بل الذين قبلوه جعلوه من جملة الحسن بشرطين :
1- أحدهما : أن لا تكون رواياتهم شاذة .
2- وثانيهما : أن لا يوافقهم غيرهم على رواية ما رووه .
فقبولها حينئذ إنما هو باعتبار المجموعية ـ كما قرر في الحسن ـ والله أعلم .
[ دعوى ابن عبد السلام والنووي أن أخبار الصحيحين لا تفيد إلا الظن : ]
12- قوله ع :
وقد غاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا وذكر أن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته .
وقال النووي : خالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون . فقالوا : يفيد الظن ما لم يتواتر ، وقال في شرح مسلم : لا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه من كلام النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
[ رد الحافظ على النووي وابن عبد السلام : ]
أقول : أقر شيخنا هذا من كلام النووي ، وفيه نظر وذلك أن ابن الصلاح لم يقل : إن الأمة أجمعت على العمل ( بما فيهما ) ، وكيف يسوغ له أن يطلق ذلك والأمة لم تجمع على العمل بما فيهما لا من حيث الجملة ولا من حيث التفضيل ، لأن فيهما أحاديث ترك العمل بما دلت عليه لوجود معارض من ناسخ أو مخصص .
وإنما نقل ابن الصلاح أن الأمة أجمعت على تلقيهما بالقبول من حيث الصحة ويؤيد ذلك أنه قال في شرح مسلم ـ ما صورته :
(( ما اتفقا عليه مقطوع بصدقه لتلقي الأمة له بالقبول وذلك يفيد العلم النظري وهو في إفادة العلم كالمتواتر إلا أن المتواتر يفيد العلم الضروري وتلقي الأمة بالقبول يفيد العلم النظري )) .
ثم حكى عن إمام الحرمين مقالته المشهورة أنه لو اختلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في (( كتاب البخاري ومسلم )) مما حكا بصحته من قول النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما .
فهذا يؤيد ما قلنا أنه ما أراد أنهم اتفقوا على العمل وإنما اتفقوا على الصحة . وحينئذ فلا بد لاتفاقهم من مزية ، لأن اتفاقهم على تلقي خبر غير ما في الصحيحين بالقبول ، ولو كان سنده ضعيفاً يوجب العمل بمدلوله . فاتفاقهم على تلقي ما صح سنده ماذا يفيد ؟
فأما متى قلنا يوجب العمل فقط لزم تساوي الضعيف والصحيح فلا بد للصحيح من مزية . وقد وجدت فيما حكاه إمام الحرمين في البرهان عن الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك ما يصرح بهذا التفضيل الذي أشرت إليه فإنه قال في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول مقطوع بصحته .
ثم فصل ذلك فقال : إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد .
وإن تلقوه بالقبول قولاً وفعلاً حكم بصدقه قطعاً . وحكى أبو نصر القشيري عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه بيم في (( كتاب التقريب )) أن الأمة إذا اجتمعت أو أجمع أقوام لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب من غير أن يظهر منهم ذلك التواطؤ على أن الخبر صدق ـ كان ذلك دليلاً على الصدق . قال أبو نصر وحكى إمام الحرمين عن القاضي أن تلقي الأمة لا يقتضي القطع بالصدق .
ولعل هذا فيما أذا تلقته بالقبول ، ولكن يحصل على تصديق الخبر فهذا وجه الجمع بين كلامي القاضي . وجزم القاضي أبو نصر عبد الوهاب المالكي في (( كتاب الملخص )) بالصحة فيما إذا تلقوه بالقبول . قال : وإنما اختلفوا فيما إذا أجمعت على العمل بخبر المخبر هل يدل ذلك على صحته أم لا ؟ على قولين :
قال : وكذلك إذا عمل بموجبه أكثر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأنكروا على من عدل عنه فهل
يدل على صحته وقيام الحجة به ؟
ذهب الجمهور إلى أنه لا يكون صحيحاً بذلك . وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يدل على صحته ، انتهى .
فقول الشيخ محي الدين النووي : (( خالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون )) . غير متجه . بل تعقبه شيخنا شيخ الإسلام في محاسن الاصطلاح فقال : (( هذا ممنوع فقد نقل المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول )) .
قلت : وكأنه عني بهذا تقي الدين ابن تيمية فإني رأيت فيما حكاه عنه بعض ثقات أصحابه ما ملخصه : الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف وهو الذي ذكره جمهور المصنفين في أصول الفقه كشمس الأئمة السرخسي وغيره من الحنفية والقاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية .
والشيخ أبي حامد الاسفرائيني والقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وأمثالهم من الشافعية . وأبي عبد الله ابن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم كأبي إسحاق الاسفرائيني وأبي بكر بن فورك وأبو منصور التميمي وابن السمعاني وأبي هاشم الجبائي وأبي عبد الله البصري قال : وهو مذهب أهل الحديث قاطبة وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح في مدخله إلى علوم الحديث ـ فذكر ذلك استنباطاً وافق فيه هؤلاء الأئمة وخالفه في ذلك من ظن أن الجمهور على خلاف قوله لكونه لم يقف إلا على تصانيف من خالف في ذلك كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي وابن عقيل وغيرهم ، لأن هؤلاء يقولون إنه لا يفيد العل مطلقاً وعمدتهم أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده . والأمة إذا عملت بموجبه فلوجوب العمل بالظن عليهم وأنه لا يمكن جزم الأمة بصدقه في الباطن ، لأن هذا جزم بلا علم .
والجواب : إن إجماع الأمور معصوم عن الخطأ في الباطن .. وإجماعهم على تصديق الخبر كإجماعهم على وجوب العمل به والواحد منهم وإن جاز عليه أن يصدق في نفس الأمر من هو كاذب أو غالط فمجموعهم معصوم عن هذا الواحد من أهل التواتر يجوز عليه بمجرده الكذب والخطأ ومع انضمامه إلى أهل التواتر ينتفي الكذب والخطأ عن مجموعهم ولا فرق . ( انتهى كلامه )
وأصرح من رأيت كلامه في ذلك ممن نقل الشيخ تقي الدين عنه ذلك فيما نحن بصدده ـ الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني فإنه قال : (( أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها )) .
كأنه يشير بذلك إلى ما نقده بعض الحفاظ . وقد احترز ابن الصلاح عنه . وأما قول الشيخ محي
الدين : (( لا يفيد العلم إلا إن تواتر )) فمنقوض بأشياء :
1- أحدها : الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري وممن صرح به إمام الحرمين والغزالي ، والسيف الآمدي وابن الحاجب ومن تبعهم .
2- ثانيها : الخبر المستفيض الوارد من وجوه كثيرة لا مطعن فيها يفيد العلم النظري للمتبحر في هذا الشأن . وممن ذهب إلى هذا الإسناد أبو إسحاق الاسفرائيني والأستاذ أبو منصور التميمي والأستاذ أبو بكر بن فورك .
وقال الأيباري ـ شارح البرهان ـ بعد أن حكى عن إمام الحرمين أنه ضعف هذه المقالة : (( بأن العرف وإطراد الاعتبار لا يقتضي الصدق قطعاً بل فصاراه غلبة الظن لغلبة الإسناد )) . أراد أن النظر في أحوال المخبرين من أهل الثقة والتجربة يحصل ذلك ومال إليه الغزالي . وإذا قلنا أنه يفيد العلم فهو نظري لا ضروري وبالغ أبو منصور التميمي في الرد على من أبى ذلك فقال : المستفيض وهو الحديث الذي له طرق كثيرة صحيحة لكنه لم يبلغ مبلغ التواتر ، يوجب العلم المكتسب ولا عبرة بمخالفة أهل الأهواء في ذلك .
3- ثالثها : ما قدمنا نقله عن الأئمة في الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول . ولا شك أن إجماع الأمة على القول بصحة الخبر أقوى من إفادة العلم من القرائن المحتفة ومن مجرد كثرة الطرق .
ثم بعد تقرير ذلك كله جميعاً لم يقل ابن الصلاح ولا من تقدمه أن هذه الأشياء تفيد العلم القطعي كما يفيده الخبر المتواتر لأن المتواتر يفيد العمل الضروري الذي لا يقبل التشكيك وما عداه مما ذكر يفيد العلم النظري الذي يقبل التشكيك . ولهذا تختلف إفادة العلم عن الأحاديث التي عللت في الصحيحين ـ والله أعلم . وبعد تقرير هذا فقول ابن الصلاح (( والعلم اليقيني النظري حاصل به )) لو اقتصر على قوله العلم النظري لكان أليق بهذا المقام .
أما اليقيني فمنعناه القطعي ، فلذلك أنكر عليه من أنكر ، لأن المقطوع به لا يمكن الترجيح بين آحاده وإنما يقع الترجيح في مفهوماته . ونحن نجد علماء هذا الشأن قديماً وحديثاً يرجحون بعض أحاديث الكتابين على بعض بوجوه من الترجيحات النقلية فلو كان الجميع مقطوعاً به ( ما بقي للترجيح مسلك وقد سلم ابن الصلاح هذا القدر فيما مضى ) لما رجح بين صحيحي البخاري ومسلم ، فالصواب الاقتصار في هذه المواضع على أنه يفيد العلم النظري كما قررناه ـ والله أعلم .
13- قوله ع : (( ما ادعاه من أن ما أخرجه الشيخان مقطوع بصحته قد سبقه إليه أبو الفضل بن طاهر وأبو نصر بن يوسف )) .
أقول : أراد الشيخ بذكر هذين الرجلين كونهما من أهل الحديث وإلا فقد قدمنا من كلام جماعة من أشمة الأصول موافقته على ذلك وهم قبل ابن الصلاح .
نعم وسبق ابن طاهر إلى القول بذلك جماعة من المحدثين كأبي بكر الجوزقي وأبي عبد الله الحميدي بل
نقله ابن تيمية كما تقدم عن أهل الحديث قاطبة .
14- قوله ع : (( إن ما استثناه من المواضع قد أجاب العلماء عنها ومع ذلك ليست يسيرة بل هي كثيرة جمعتها مع الجواب عنه في تصنيف )) .
أقول : كأن سودة هذا التصنيف ضاعت وقد طال بحثي عنها وسؤالي من الشيخ أن يخرجها لي فلم أظفر بها ، ثم جكى ولده أنه ضاع منها كراسان أولان فكان ذلك سبب إهمالها وعدم انتشارها .
قلت : وينبغي الاعتناء بمقاصد ما لعلها اشتملت عليه .
فأقول : أولاً اعتراض الشيخ على ابن الصلاح استثناء المواضع اليسيرة بأنها ليست يسيرة بل كثيرة وبكونه قد جمعها وأجاب عنها لا يمنع استثناءها . أما كونها ليست يسيرة فهذا أنر نسبي . نعم هي بالنسبة إلى ما لا مطعن فيه من الكتابين يسيرة جداً . وأما كونها يمكن الجواب عنها فلا يمنع ذلك استثناءها ، لأن من تعقبها من جملة من ينسب إليه الإجماع على التلقي .
[ تعين اسثتناء الأحاديث المنتقدة في الصحيحين من تلقيها بالقبول : ]
فالمواضع المذكورة متخلفة عنده من التلقي فيتعين استثناؤها وقد اعتنى أبو الحسن الدار قطني بتتبع ما فيهما من الأحاديث فزادت على المائتين . ولأبي مسعود الدمشقي في أطرافه انتقاد عليهما . ولأبي الفضل ابن عمار تصنيف لطيف في ذلك وفي كتاب التقييد لأبي علي الجياني جملة من ذلك .
والكلام على هذه الانتقادات من حيث التفضيل من وجوه :
منها : ما هو مندفع بالكلية .
ومنها : ما قد يندفع .
1- فمنها : الزيادة التي تقع في بعض الأحاديث إذا انفرد بها ثقة من الثقات ولم يذكرها من هو مثله أو أحفظ منه فاحتمال دون هذا الثقة غلط ظن مجرد وغايتها أنها زيادة ثقة فليس فيها منافاة لما رواه الأحفظ والأكثر فهي مقبولة .
2- ومنها : الحديث المروى من حديث تابعي مشهور عن صحابي سمع منه . فيعلل بكونه روي عنه بواسطة كالذي يورى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه . ويروى عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة . وأن مثل هذا لا مانع أن يكون التابعي بواسطة ثم سمعه بدون ذلك الواسطة .
ويلتحق بهذا ما يرويه التابعي عن صحابي ، فيروى من روايته عن صحابي آخر ، فإن هذا يكون سمعه منهما فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا .
كما قال علي بن المديني في حديث رواه عاصم عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس . ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله تعالى عنه .
قال : ما أرى الحديثين إلا صحيحين ، لإمكان أن يكون أبو قلابة سمعه من كل منهما .
قلت : هذا إنما يطرد حيث يحصل الاستواء في الضبط والاتقان .
3- ومنها : ما يشير صاحب الصحيح إلى علته كحديث يرويه مسنداً ثم يشير إلى أنه يروي مرسلاً فذلك مصير منه إلى ترجيح رواية من أسنده على من أرسله .
4- ومنها : ما تكون علته مرجوحة بالنسبة إلى صحته كالحديث الذي يرويه ثقات متصلاً ويخالفهم ثقة فيرويه منقطعاً أو يرويه ثقة متصلاً ويرويه ضعيف منقطعاً .
ومسألة التعليل بالانقطاع وعدم اللحاق قل أن تقع في البخاري بخصوصه لأنه معلوم أن مذهبه عدم الاكتفاء في الإسناد المعنعن بمجرد إمكان اللقاء وإذا اعتبرت هذه الأمور من جملة الأحاديث التي انتقدت عليهما لم يبق بعد ذلك مما نتقد عليهما سوى مواضع يسيرة جداً ومن أراد حقيقة ذلك فليطالع المقدمة التي كتبتها لشرح صحيح البخاري فقد بينت فيها ذلك بياناً شافياً ـ بحمد الله تعالى .
15- قوله ع : (( وما اشترطه المصنف من المقابلة بأصول متعددة ـ قد خالفه فيه الشيخ محي الدين ـ ثم قال : وفي كلام ابن الصلاح في موضع آخر ما يدل على عد اشتراطه ذلك )) .
أقول : ليس بين كلامه مناقضة . بل كلامه هنا مبني على ما ذهب إليه من عدم الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد ، لأنه علل صحة ذلك بأنه ما من إسناد إلا ونجد فيه خللاً ، فقضية ذلك أن لا يعتمد على أحدهما بل يعتمد على مجموع ما تتفق عليه الأصول المتعددة ، ليحصل بذلك جبر الخلل الواقع في أثناء الأسانيد .
وأما قوله في الموضع الآخر ينبغي أن تصحح أصلك بعدة أصول فلا ينافي قوله المتقدم ، لأن هذه العبارة تستعمل في اللازم ـ والله أعلم .
النوع الثاني : الحسن
32- قوله (ص) : ( قال الخطابي ... الخ ) .
نازعه الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال :
( إنما هذا اصطلاح : للترمذي . وغير الترمذي من أهل الحديث ليس عندهم إلا صحيح وضعيف ، والضعيف عندهم ما انحط عن درجة الصحيح ، ثم قد يكون متروكاً وهو أن يكون راويه متهماً أو كثير الغلط ، وقد يكون حسناً بأن لا يتهم بالكذب ، قال : وهذا معنى قول أحمد العمل بالضعيف أولى من القياس .
قال : وهذا كضعف المريض فقد يكون ضعفه قاطعاً فيكون صاحب فراش عطاياه من الثلث ، وقد يكون ضعف غير قاطع له فيكون عطاؤه من رأس المال كوجع الضرس والعين . ونحو ذلك ... ) انتهى .
ويؤيده قول البيهقي ـ في رسالته إلى أبي محمد الجويني : (( الأحاديث المروية ثلاثة أنواع :
1- نوع اتفق أهل العلم على صحته .
2- ونوع اتفقوا على ضعفه .
3- ونوع اختلفوا في ثبوته فبعضهم صححه وبعضهم يضعفه لعلة تظهر له بها أما أن يكون خفيت العلة على من صححه ، وأما أن يكون لا يراها معتبرة قادحة )) .
قلت : وأبو الحسن بن القطان في الوهم والإيهام يقصر نوع الحسن على هذا كما سيأتي البحث في قول المصنف أن الحسن يجتج به .
23- قوله (ص) : (( وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن وذكر الخطابي النوع الآخر مقتصراً كل واحد منهما على ما رأى أن يشكل ... الخ )) .
أقول : بين الخطابي والترمذي في ذلك فرق ، وذلك أن الخطابي قصد تعريف الأنواع الثلاثة عند أهل الحديث ، فذكر الصححي ثم الحسن ثم الضعيف . وأما الذي سكت عنه وهو : حديث المستور إذا أتى من غير وجه فإنما سكت عنه لأنه ليس عنده من قبيل الحسن . فقد صرح بأن رواية المجهول من قسم الضعيف وأطلق ذلك ولم يفصل ، والمستور قسم من المجهول .
وأما الترمذي : فلم يقصد التعريف بالأنواع المذكورة عند أهل الحديث بدليل أنه لم يعرف بالصحيح ولا بالضعيف بل ولا بالحسن المتفق على كونه حسناً بل المعرف به عنده وهو حديث المستور على ما فهمه المصنف ـ لا يعده كثير من أهل الحديث من قبيل الحسن وليس هو في التحقيق عند الترمذي مقصوراً على رواية المستور ، بل يشترك معه الضعيف بسبب سوء الحفظ والموصوف بالغلط والخطأ وحديث المختلط بعد اختلاطه والمدلس إذا عنعن وما في إسناده انقطاع خفيف . فكل ذلك عنده من قبيل الحسن بالشروط الثلاثة وهي :
1- أن يكون فيهم من يتهم بالكذب .
2- ولا يكون الإسناد شاذاً .
3- وأن يروى مثل ذلك الحديث أو نحوه من وجه آخر فصاعداً وليس كلها في المرتبة على حد سواء بل بعضها أقوى من بعض .
ومما يقوي هذا ويعضده أنه لم يتعرض لمشروطية اتصال الإسناد أصلاً ، بل أطلق ذلك ، فلهذا وصف كثيراً من الأحاديث المنقطعة بكونها حساناً .
[ أمثلة لما يحسنه الترمذي : ]
ولنذكر لكل نوع من ذلك مثلاً من كلامه ، يؤيد ما قلناه فأما أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية المستور فكثيرة لا نحتاج إلى الإطالة بها ، وإنما نذكر أمثلة لما زدناه على ما عند المصنف ـ رحمه الله .
1- فمن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف السيئ الحفظ ما رواه من طريق شعبة عن
عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال :
(( إن امرأة بني فزارة تزوجت على نعلين ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت : نعم . قال : فأجازه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال الترمذي : هذا حديث حسن .
وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد ـ رضي الله عنهم ـ . وذكر جماعة غيرهم . وعاصم بن عبيد الله قد ضعفه الجمهور ووصفوه بسوء الحفظ وغاب ابن عيينة على شعبة الرواية عنه
وقد حسن الترمذي حديثه هذا لمجيئه من غير وجه كما شرط ـ والله ـ أعلم .
2- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف الموصوف بالغلط والخطأ ما أخرجه من طريق عيسى بن يونس عن مجالد عن أب الوداك ، عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال : كان عندنا خمر ليتيم ، فلما نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : فقلت : (( إنه ليتيم )) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( أهريقوه )) .
قال : هذا حديث حسن .
قلت : ومجالد ضعفه جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث أنس وغيره رضي الله تعالى عنهم . وأشد من هذا مار واه من طريق الأعمش عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن ، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه في الأمر بقتل الكلاب وغيره ذلك قال : (( هذا حديث حسن )) .
قلت : وإسماعيل اتفقوا على تضعيفه ووصفه بالغلط وكثرة الخطأ لكنه عضده بأن قال : (( روى هذا الحديث من غير وجه عن الحسن مثله )) . يعني لمتابعة إسماعيل بن مسلم عن الحسن .
ومثله مارواه من طريق علي بن مسهر ، عن عبيدة بن معتب عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ـ رضي الله عنها قالت : (( كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نطهر فيأمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقضاء الصيام ، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة )) .
قال : (( هذا حديث حسن )) .
قلت : وعبيدة ضعيف جداً قد اتفق أئمة النقل على تضعيفه إلا أنهم لم يتهموه بالكذب . ولحديثه أصل من حديث معاذة ، عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها مخرج في الصحيح ، فلهذا وصفه بالحسن . ويؤيد هذا ما رويناه عن أبي زرعة أنه سئل عن أبي صالح كاتب الليث ، فقال : لم يكن ممن يتعمد الكذب ، ولكنه كان يغلط وهو عندي حسن الحديث .
3- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية من سمع من مختلط بعد اختلاطه ، ما رواه من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد بن علافة قال :
صلى بنا المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه فلما صلى ركعتين قام فلم يجلس فسبح به من
خلفه ، فأشار إليهم أن قوموا ، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم .
وقال : هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال : هذا حديث حسن .
قلت : والمسعودي اسمه : عبد الرحمن وهو ممن وصف بالاختلاط وكان سماع يزيد منه بعد أن اختلط .
وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من أوجه أخر بعضها عند المصنف أيضاً رحمه الله تعالى والله أعلم .
4- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو رواية مدلس قد عنعن ما رواه من طريق يحيى بن سعيد عن المثنى بن سعيد عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : المؤمن يموت بعرق الجبين .
قال : هذا حديث حسن .
وقد قال بعض أهل العلم : لم يسمع قتادة من عبد الله بن بريدة رضي الله تعالى عنه قلت : وهو عصرية وبلدية كلاهما من أهل البصرة ولو صح أنه سمع منه فقتاد مدلس معروف بالتدليس وقد روى هذا بصيغة العنعنة ، وإنما وصفه بالحسن لأنه له شواهد من حديث عبد الله بن مسعود وغيره رضي الله عنهم .
ومن ذلك ما رواه من طريق هشيم عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إن حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة وليمس أحدهم من طيب أهله فإن لم يجد فالماء له طيب .
قال : (( هذا حديث حسن )) .
قلت : وهشيم موصوف بالتدليس ، لكن تابعه عنده أبو يحيى التيمي . وللمتن شواهد من حديث أبي سعيد الخدري وغيره رضي الله تعالى عنهم .
5- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو منقطع الإسناد ما رواه من طريق عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي رضي الله تعالى عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر في العباس رضي الله تعالى عنه : (( إن عم الرجل صنوا أبيه )) . وكان عمر رضي الله عنه تكلم في صدقته وقال : هذا حديث حسن .
قلت : أبو البختري : اسمه سعيد بن فيروز ولم يسمع من علي رضي الله تعالى عنه . فالإسناد منقطع ووصفه بالحسن لأنه له شواهد مشهورة من حديث أبي هريرة وغيره وأمثلة ذلك عنده كثيرة . وقد صرح هو ببعضها .
فمن ذلك ما رواه من طريق الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن إسحاق بن عمر
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : (( ما صلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة
لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله عز وجل )) .
قال : هذا حديث حسن وليس إسناده بمتصل .
وإنما وصفه بالحسن لما عضده من الشواهد من حديث أبي برزة الأسلمي وغيره . وقد حسن عدة أحاديث من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه وهو لم يسمع منه عند الجمهور . وحديثاً من رواية أبي قلابة الجرمي عن عائشة رضي الله تعالى عنها .
ورأيت لأبي عبد الرحمن النسائي نحو ذلك ، فإنه روى حديثاً من رواية أبي عبيدة عن أبيه ثم قال : أبو عبيدة لم يسمع من أبيه إلا أن هذا الحديث جيد .
وكذا قال في حديث رواه من رواية عبد الجبار بن وائل بن حجر : عبد الجبار لم يسمع من أبيه لكن الحديث في نفسه جيد . إلى غير ذلك من الأمثلة . وذلك مصير منهم إلى أن الصورة الاجتماعية لها تأثر في التقوية .
وإذا تقرر ذلك كان من رأيه أي الترمذي أن جميع ذلك إذا اعتضد لمجيئه من وجه آخر أو أكثر نزل منزلة الحسن احتمل أن لا يوافقه غيره على هذا الرأي أو يبادر للإنكار عليه إذا وصف حديث الراوي الضعيف أو ما إسناده منقطع بكونه حسناً فاحتاج إلى التنبيه على اجتهاده في ذلك وأفصح عن مقصده فيه ولهذا أطلق الحسن لما عرف به فلم يقيده بغرابة ولا غيرها ونسبه إلى نفسه وإلى من يرى رأيه قال : (( عندنا كل حديث إلى آخر كلامه الذي ساقه شيخنا بلفظه .
وإذا تقر ذلك بقي وراءه أمر آخر . وذلك أن المصنف وغير واحد نقلوا الاتفاق على أن الحديث الحسن يحتج به كما يحتج بالصحيح ، وإن كان دونه في المرتبة . فما المراد على هذا بالحديث الحسن الذي اتفقوا فيه على ذلك هل هو القسم الذي حرره المصنف وقال : إن كلام الخطابي ينزل عليه . وهو رواية الصدوق المشهور بالأمانة ... إلى آخر كلامه أو القسم الذي ذكرناه آنفاً عن الترمذي مع مجموع أنواعه التي ذكرنا أمثلتها ، أو ا هو أعم من ذلك ؟
لم أر من تعرض لتحرير هذا ، والذي يظهر لي أن دعوى الاتفاق إنما نصح على الأول دون الثاني وعيه أيضاً يتنزل قول المصنف أن كثيراً من أهل الحديث لا يفرق بين الصحيح والحسن كالحاكم كما سيأتي وكذا قول المصنف : (( إن الحسن إذا جاء ارتقى إلى الصحة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
فأما ما حررناه عن الترمذي أنه يطلق عليه اسم الحسن من الضعيف والمنقطع إذا اعتضد ، فلا يتجه إطلاق الاتفاق على الاحتجاج به جميعه ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طرق . ويؤيد هذا قول الخطيب : (( أجمع أهل العلم أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به )) وقد صرح أبو الحسن ابن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه (( بيان الوهم والإيهام )) بأن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن .
وهذا حسن قوي رايق ما أظن يأباه والله الموفق . ويدل على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم [ عنده ] أن يحتج به أنه أخرج حديثاً من طريق خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه وقال بعده حديث حسن وليس إسناده بذاك .
وقال في كتاب العلم بعده : أن أخرج حديثاً في فضل العلم : (( هذا حديث حسن قال : وإنما لم نقل لهذا الحديث : صحيح ، لأنه يقال : إن الأعمش دلس فيه فرواه بعضهم عنه ، قال : حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه )) انتهى .
فحكم له بالحسن المتردد الواقع فيه وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك ، لكن في كل المثالين نظر ، لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهعما كونهما جاءا من وجه آخر كما تقدم تقريره . لكن محل بحثنا هنا هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحجة أم لا ؟ .
( هذا الذي يتوقف فيه والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل ) والله أعلم .
16- قوله (ع) : حكاية عن أي الفتح القشيري أنه قال : (( ليس في عبارة الخطابي كثير تلخيص والصحيح أيضاً قد عرف مخرجه واشتهر رجاله )) .
أقول : أجاب الحافظ أبو سعيد الهلائي عن ذلك فقال : (( إنما يتوجه الاعتراض على الخطابي أن لو كان بالحسن فقط أما وقد عرف بالصحيح أولاً ثم عرف بالحسن فيتعين حمل كلامه على أنه أراد بقوله : ما عرف مخرجه واشتهر رجاله (( ما لم يبلغ درجة الصحيح ، ويعرف هذا من مجموع كلامه )) .
قلت : وعلى تقدير تسليم هذا الجواب فهذا القدر غير منضبط فيصح القرب الذي في كلام ابن الجوزي رحمه الله تعالى غير منضبط فيصح ما قال القشيري أنه على غير صناعة الحدود والتعريفات . وقد رأيت لبعض المتأخرين في الحسن كلاماً يقتضي أنه الحديث الذي في رواته مقال ، لكن لم يظهر فيه مقتضى الرد فيحكم على حديثه بالضعف ولا يسلم من غوائل الطعن ، فيحكم لحديثه بالصحة .
وقال ابن دحية : (( الحديث الحسن هو : ما دون الصحيح مما فيه ضعف قريب محتمل عن راو ينتهي إلى درجة العدالة ولا ينحط إلى درجة الفسق )) .
قلت : وهو جيد بالنسبة إلى النظر في الراوي لكن صحة الحديث وحسنه ليس تابعاً لحال الراوي فقط ، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ ةالنكارة ، فإذا اعتبر في مثل هذا سلامة راويه الموصوف بذلك من الشذوذ والإنكار كان من أحسن ما عرف به الحديث الحسن الذاتي لا المجبور على رأي الترمذي والله أعلم .
تنبيه
فسر القاضي أبو بكر بن العربي مخرج الحديث بأن يكون من رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل
بلده ، كقتادة في البصريين وأبي إسحاق السبيعي في الكوفيين وعطاء في المكيين وأمثالهم . فإن حديث البصريين مثلاً إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفاً وإذا جاء عن غير قتادة ونحوه كان شاذاً ـ والله أعلم .
17- قوله (ع) ـ حكاية عن التاح التبريزي : أنه تعقب على ابن دقيق العبد قوله : (( إن الصحيح أخص من الحسن ، فإن من لازم ذلك أن يدخل الصحيح في حد الحسن ، لأن دخول الخاص في حد العام ضروري )) .
أقول : بين الصحيح والحسن خصوص وعموم من وجه ، وذلك بيّن واضح لمن تدبره ، فلا يرد اعتراض التبريزي إذ لا يلزم من كون الصحيح أخص من الحسن من وجه أن يكون أخص منه مطلقاً حتى يدخل الصحيح في الحسن .
وقد سألت شيخنا إمام الأئمة عنه ـ والله الموفق .
18- قوله (ع) : حكاية عن بعض المتأخرين أنه زعم أن قول الترمذي : ولا يكون شاذاً (( زيادة لا حاجة إليها،لأن قوله يروى من غير وجه يغني عنه ، ثم قال : فكأنه كرره بلفظ مباين )).
أقول : ليس في كلامه تكرار بل الشاذ عنده ما خالف فيه الراوي من هو أحفظ منه أو أكثر سواء انفرد به أو لم ينفرد ، كما صرح به الشافعي ـ رضي الله عنه .
وقوله : يروى من غير وجه شرط زايد على ذلك . وإنما يتمشى ذلك على رأي من يزعم أن الشاذ ما تفرد به الراوي مطلقاً . وحمل كلام الترمذي على الأول أليق ، لأن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ، ولا سيما في التعارف ـ والله أعلم .
19- قوله (ع) : حكاية عن بعض المتأخرين أنه يرد على ابن الصلاح في القسم الأول ( يعني الذي نزل كلام الترمذي عليه ) المنقطع والمرسل الذي في رجاله مستور وروي مثله أو نحوه من وجه آخر .
أقول : المتأخر المذكور هو القاضي بدر الدين بن جماعة ، كذلك قال في مختصره وأقرّ شيخنا كلامه ، وهو غير وارد لما قدمنا ذكره أن الترمذي يحكم للمنقطع إذا روي من وجه آخر بالحسن .
[ تعريف ابن جماعة للحسن : ]
وأما قول ابن جماعة : (( الأحسن في حد الحسن أن يقال : هو ما في إسناده المتصل مستور له به شاهد أو مشهور قاصر عن درجة الاتقان وخلا من العلة والشذوذ )) .
[ رد الحافظ على ابن جماعة : ]
فليس يحسن في حد الحسن فضلاً عن أن يكون أحسن ، لأوجه :
1- أحدها : أن قيد الاتصال إنما يشترط في رواية الصدوق الذي لم يوصف بتمام الضبط والاتقان ،
وهذا هو الحسن لذاته وهو الذي لم يتعرض الترمذي لوصفه . بخلاف القسم الثاني الذي وصفه ، فلا
يشترط الاتصال في جميع أقسامه كما قررناه .
2- ثانيها : اقتصاره على رواية المستور مشعر بأن رواية الضعيف السيئ الحفظ ومن ذكرنا معه من الأمثلة المتقدمة ليست تعد حساناً إذا تعددت طرقها ، وليس الأمر في تصرف الترمذي كذلك ، فلا يكون الحد الذي ذكره جامعاً .
3- ثالثها : اشتراط نفي العلة لا يصلح هنا ، لأن الضعيف في الراوي علة في الخبر والانقطاع في الإسناد علة في الخبر ، وعنعنة المدلس علة في الخبر ، وجهالة حال الراوي علة في الخبر ، ومع ذلك ، فالترمذي يحكم على ذلك كله بالحسن إذا جمع الشروط الثلاثة التي ذكرها ، فالتقييد بعدم العلة بناقض ذلك ـ والله أعلم .
4- رابعها : القصور الذي ذكر غير منضبط فيرد عليه ما يرد على ابن الجوزي ـ والله أعلم .
34- قوله (ص) : (( وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية متبعد ذكرنا له نص الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في قبول مراسيل التابعين )) ... إلى آخره .
أقول : إنما اقتصر على الشافعية دون غيرهم ، لأنهم هم الذين يردون المرسل دون من الفقهاء ومع ذلك فالشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ لا يرده مطلقاً ولكن اقتصاره على الفقهاء في استبعاد ذلك عجيب فإن جمهور المحدثين لا يقبلون رواية المستور وهو قسم من المجهول فروايته بمفردها ليست بحجة عندهم وإنما يحتج بها عند بعضهم بالشروط التي ذكرها الترمذي ، فلا معنى لتخصيص ذلك بالفقهاء .
35- قوله (ص) : (( ومن ذلك ضعف لا يزول بمجيئه من وجه آخر لقوة الضعف وتقاعد الجابر ، عن جبره ومقاومته ، كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب أو كون الحديث شاذاً وهذه جملة يدرك تفاصيلها بالمباشرة )) .
أقول : لم يذكر للجابر ضابطاً يعلم منه ما يصلح أن يكون جائزاً أولاً ، والتحرير فيه أن يقال : أنه
يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد ، فحيث يستوي الاحتمال فيهما الذي يصلح لأن ينجبر
وحيث يقوى جانب الرد فهو الذي لا ينجبر .
وأما إذا رجح جانب القبول فليس من هذا بل ذاك في الحسن الذاتي ـ والله أعلم .
وقوله : قبل ذلك : (( إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة . ثم مثل ذلك بحديث (( الأذنان من الرأس )) .
وقد تعقب ذلك عليه الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد في شرح الإلمام فقال : (( هذا الذي ذكره قد
لا يوافق عليه ، فقد ذكرنا رواية ابن ماجه وأن رواتها ثقات ، ورواية الدار قطني وأن ابن القطان
حكم لها بالصحة وعلى الجملة فإن كان الحكم له بالقبول متوقفاً على طريق لا علة لها ولا كلام في
أحد من رواتها ، فقد يتوقف ذلك هنا لكن اعتبار ذلك صعب ينتقض عليهم في كثير مما صححوه أو حسنوه . ولو شرط ذلك لما كان لهم حاجة إلى الحكم بالحسن فمقتضى المتابعة والمجىء من طرق للإسناد الضعيف ، لأن الضعيف علة ـ والله أعلم .
وقال الحافظ صلاح الدين العلائي : (( في التمثيل بذلك نظر ، لأن الحديث المشار إليه ربما ينتهي ببعض طرقه إلى درجة الحسن )) .
وذكر شيخنا ـ في كلامه على هذا الموضع ـ أن أبا الفرج ابن الجوزي ذكر طرقه في العلل المتناهية وضعفها كلها .
قلت : وقد راجعت (( كتاب العلل المتناهية لابن الجوزي ، فلم أره تعرض لهذا الحديث ، بل رأيته في كتاب التحقيق له قد احتج به وقواه فينظر في هذا .
وقد جمعت طرقه فيما كتبته على جامع الترمذي ، فرأيت في الحاشية : أمثلها حديث عبد الله بن زيد وحديث عبد الله بن عباس وحديث عبد الله بن عمر وأبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وفي كل واحد منها مع ذلك مقال ـ والله أعلم .
أما حديث عبد الله بن زيد ـ رضي الله عنه ـ فرواه ابن ماجه قال : ثنا سويد بن سعيد . ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن شعبة عن حبيب بن زيد . عن عباد عن عبد الله بن زيد ـ رضي الله تعالى عنه ت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الأذنان من الرأس )) .
قال المنذري : (( هذا الإسناد متصل ورواته محتج بهم وهو أمثل إسناد في هذا الباب [ قلت هذا لإسناد ] رجاله رجال مسلم ، إلا أن له علة فإنه من رواية سويد بن سعيد كما ترى . وقد وهم فيه . وذكر الترمذي في العلل الكبير أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فضعف سويداً .
قلت : وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه فقه ضعف الأئمة واعتذر مسلم عن تخريج حديثه ، بأنه ما أخرج له إلا ما له أصل من رواية غيره . وقد كان مسلم لقيه وسمع منه قبل أن يعمى ويتلقن ما ليس من حديثه . وإنما كثرت المناكير في روايته به عماه .
وقد حدث بهذا الحديث في حال صحته فأتى به على الصواب . فرواه البيهقي من رواية عمران بن
موسى السختياني عن سويد بسنده إلى عبد الله بن زيد ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ توضأ بثلثي مد وجعل يدلك . قال : (( والأذنان من الرأس )) ، انتهى .
وقوله : قال والأذنان من الرأس هو من قول عبد الله بن زيد ـ رضي الله تعالى عنه ـ والمرفوع منه
ذكر الوضوء بثلثي مد والدلك .
وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم من حديث أبي كريب عن ابن أبي زائدة
دون الموقوف . وقد أوضحت ذلك بدلائله وطرقه في الكتاب الذي جمعته في المدرج .
وأما حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فرواه أبو بكر البزار في مسنده والحسن بن علي المعمري في (( اليوم والليلة )) كلاهما عن أبي كامل الجحدري قال : ثنا غندر . ثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الأذنان من الرأس )) .
ومن هذا الوجه رواه الدار قطني وهذا رجاله رجال مسلم أيضاً ـ إلا أن له علة فإن أبا كامل به عن غندر وتفرد به غندر عن ابن جريج . وخالفه من هو أحفظ منه وأكثر عدداً .
فرووه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ معضلاً والعلة فيه من جهتين :
1- أحداهما : أن سماع غندر عن ابن جريج كان بالبصرة وابن جريج لما حدث بالبصرة حدث بأحاديث وهم فيها ، وسماع من سمع منه بمكة أصح .
2- ثانيهما : أن أبا كامل قال : ـ فيما رواه أبو أحمد بن عدي عنه ـ : (( لم أكتب عن غندر إلا هذا الحديث أفادنيه عنه عبد الله بن سلمة الأفطس )) . انتهى . والأفطس ضعيف جداً فلعله أدخله على أبي كامل .
وقد مال أبو الحسن ابن القطان إلى الحكم بصحته لثقة رجاله واتصاله وقال ابن دقيق العيد : لعله أمثل إسناد في هذا الباب .
قلت : وليس بجيد ، لأن فيه العلة التي وصفناها ، والشذوذ ، فلا يحكم له بالصحة . كما تقرر ـ والله أعلم .
وأما حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فرواه البيهقي في الخلافيات من طريق ضمرة بن ربيعة عن إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنها ـ ورجاله ثقات ، إلا أن رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين فيها مقال وهذا منها ، والمحفوظ من حديث نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ من قوله . وكذا رواه عبد الرزاق وأبوبكر بن أبي شيبة من طرق عنه . وكذا رواه بن أبي شيبة ـ أيضاً من رواية سعيد بن مرجانة
وهلال بن أسامة كلاهما عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ موقوفاً .
وأما حديث : أبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقد أشار إليه شيخنا وقوله : إن ابن حبان أخرجه في صحيحه من رواية شهر عن أبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيه نظر ، بل ليس هو في صحيح ابن حبان البتة لا من طريق أبي أمامة ولا من طريق غيره بل لم يخرج ابن حبان في
صحيحه شيئاً .
وقد ذكرت طرق حديث شهر هذا في (( كتاب المدرج )) بدلائله وكيفية الإدراج فيه بحمد الله تعالى .
وإذا نظر المصنف إلى مجموع هذه الطرق علم أن للحديث أصلاً ، وأنه ليس مما يطرح ، وقد حسنوا أحاديث كثيرة باعتبار طرق لها دون هذه ـ والله أعلم ـ .
تنبيهان
الأول : معنى هذا المتن أن الأذنين حكمهما حكم الرأس في المسح لا أنهما جزء من الرأس ، بدليل أنه لا يجزئ المسح على ما عليهما من شعر عند من يجتزئ بمسح بعض الرأس بالاتفاق ، وكذلك لا يجزئ المحرم أن يقصر مما عليهما من شعر بالإجماع . ـ والله الموفق ـ .
الثاني : ينبغي أن يمثل في هذا المقام بحديث من حفظ على أمتي أربعين حديثاً . فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه مع كثرة طرقه ـ والله أعلم ـ .
36- قوله (ص) : (( إذا كان راوي الحديث متأخراً عن درجة أهل الحفظ والاتقان غير أنه من المشهورين ( بالصدق والستر ) ، وروي حديثه من غير وجه ، فقد اجتمعت له القوة من الجهتين وذلك يرقي حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصحيح .
مثاله : حديث ( محمد بن عمرو بن علقمة ) عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه )) … إلى آخر كلامه .
وفيه أمور :
1- أحدها : أن ظاهر كلامه أن شرط الصحيح أن يكون راويه حافظاً متقناً وقد بينا ما فيه فيما سبق .
2- وثانيهما : أن وصف الحديث بالصحة إذا قصر عن رتبة الصحيح وكان على شرط الحسن إذا روي من وجه آخر لا يدخل في التعريف الذي عرف به الصحيح أولاً .
فإما أن يزيد في حد الصحيح ما يعطي أن هذا أيضاً يسمى صحيحاً وإما أن لا يسمي هذا صحيحاً ، والحق أنه من طريق النظر أنه يسمى صحيحاً وينبغي أن يزاد في التعريف بالصحيح فيقال : هو الحديث الذي يتصل إسناده نقل العدل [ التام ] الضبط أو القاصر عنه إذا اعتضد عن مثله إلى منتهاه
ولا يكون شاذاً ولا معللاً .
وإنما قلت ذلك لأنني اعتبرت كثيراً من أحاديث الصحيحين فوجدتها لا يتم الحكم عليها بالصحة إلا بذلك .
ومن ذلك حديث أبي بن العباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده ـ رضي الله تعالى عنه ـ في
ذكر خيل النبي صلى الله عليه وسلم .
وأبي هذا قد ضعفه لسوء حفظه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والنسائي ، ولكن تابعه عليه أخوه عبد
المهيمن بن العباس ـ أخرجه ابن ماجه من طريقه . وعبد المهمين ـ أيضاً ـ فيه ضعف ، فاعتضد .
وانصاف إلى ذلك أنه ليس من أحاديث الأحكام ، فلهذه الصورة المجموعية حكم البخاري بصحته .
وكذا حكم بصحة حديث معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عاشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أنه سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الجهاد ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( جهادكن الحج والعمرة )) . ومعاوية ضعفه أبو زرعة ووثقه أحمد والنسائي . وقد تابعه عليه عنده حبيب بن أبي عمرة فاعتضد . في أمثلة كثيرة قد ذكرت الكثير منها في مقدمة شرح البخاري . ويوجد في كتاب مسلم منها أضعاف ما في البخاري ـ والله أعلم .
[ الحسن قسمان : ]
وقياس ما ذكر ابن الصلاح أن الحسن قسمان :
أحدهما : ما هو لذاته . والآخر ما هو لجابره .
وكون الصحيح كذلك . ويكون القسم الذي هو صحيح أو حسن لذاته أقوى من الآخر ، وتظهر فائدة ذلك عند التعارض وكذلك أقول في الضعيف إذا روي بأسانيد كلها قاصرة عن درجة الاعتبار حيث لا يجبر بعضها ببعض أنه أمثل من ضعيف روي بإسناد واحد كذلك ، وتظهر فائدة ذلك في جواز العمل به أو منعه مطلقاً ـ والله أعلم ـ .
3- ثالثها : أنه اعترض عليه في المثال الذي مثل به وهو حديث : (( لولا أن أشق … )) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ بأن الحكم بصحته إنما جاء من جهة أن روي من طريق أخرى صحيحة لا مطعن فيها . منها في الصحيحين من طريق الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ والمثال اللائق هنا أن يذكر حديث له أسانيد كل منها لا يرتقي عن درجة الحسن قد حكم له بالصحة باعتبار تلك الطرق .
والجواب عن المصنف أن المثال الذي أورده مستقيم والذي طولب به قسم من المسألة . وذلك أن الحديث الذي يروى بإسناد حسن لا يخلو إما أن يكون فرداً أو له متابع .
الثاني لا يخلو المتابع إما أن يكون دونه أو مثله أو فوقه فإن كان دونه فإنه لا يرقيه عن درجته .
قلت : قد يفيده إذا كان عن غير متهم بالكذب قوة ما يرجح بها لو عارضه حسن آخر
بإسناد غريب . وإن كان مثله أو فوقه فكل منهما يرقيه إلى درجة الصحة . فذكر المصنف مثالاً لما فوقه ولم يذكر مثالاً لما هو مثله .
وإذا كانت الحاجة ماسة إليه فلنذكره نيابة عنه وأمثلة كثيرة قد ذكرنا منها الحديثين اللذين أوردناهما من الصحيح قبل هذا .
ومنها : ما رواه الترمذي من طريق إسرائيل عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن عثمان بن عفان ـ
رضي الله عنه ـ قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم ـ كلن يخلل لحيته .
تفرد بها عامر بن شقيق ، وقد قواه البخاري والنسائي وابن حبان ولينه ابن معين وأبو حاتم وحكم البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل بأن حديثه هذا حسن ، وكذا قال أحمد فيما حكاه عنه أبو داود : أحسن شئ في هذا الباب حديث عثمان ـ رشي الله تعالى عنه ـ . وصححه مطلقاً الترمذي والدار قطني وابن خزيمة والحاكم وغيرهم . وذلك لما عضده من الشواهد ، كحديث أبي المليح الرقي عن الوليد بن زوران عن أنس ـ رضي الله عنه .
أخرجه أبو داود وإسناده حسن ، لأن الوليد وثقه ابن حبان ولم يضعفه أحد وتابعه عليه ثابت البناني عن أنس ـ رضي الله عنه .
أخرجه الطبراني في الكبير من رواية عمر بن إبراهيم العبدي وعمر لا بأس به . ورواه الذهلي في الزهريات من طريق الزبيدي عن الزهري ـ رضي الله عنه ـ إلا أن له علة غير قادحة ، كما قال ابن القطان .
ورواه الترمذي والحاكم من طريق قتادة عن حسان بن بلال عن عمار بن ياسر وهو معلول ولو شولهد أخرى دون ما ذكر في المرتبة وبمجموع ذلك حكموا على أصل الحديث بالصحة وكل طريق منها بمفردها لا يبلغ درجة الصحيح ـ والله أعلم .
[ إطلاق لفظ الحسن قبل شيوخ الترمذي : ]
20- قوله (ع) : (( وقد وجد التعبير بالحسن في كلام الشيوخ الطبقة التي قبل الترمذي كالشافعي )) .
أقول : قد وجد التعبير بالحسن في كلام من هو أقدم من الشافعي .
قال إبراهيم النخعي : كانوا إذا اجتمعوا كلاهوا أن يخرج الرجل حسان حديثه . وقيل لشعبة كيف تركت أحاديث العرزمي وهي حسان ؟ قال : من حسنها فررت .
ووجد (( هذا من أحسن الأحاديث إسناداً )) في كلام علي بن المديني وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم ويعقوب بن شيبة وجماعة . لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي .
ومنهم من لا يريده . فأما ما وجد في ذلك في عبارة الشافعي ومن قبله بل وفي عبارة أحمد بن حنبل فلم يتبين لي منهم إرادة المعنى الإصطلاحي ، بل ظاهر عبارتهم خلاف ذلك .
فإن حكم الشافعي على حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة بكونه حسناً خلاف الاصطلاح بل هو صحيح متفق على صحته . وكذا قال الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ في حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ في السهو .
وأما أحمد : فإنه سئل فيما حكاه الخلال عن أحاديث نقض الوضوء بمس الذكر فقال : أصح ما فيها
حديث أم حبيبة ـ رضي الله تعالى عنها .
قال : وسئل عن حديث بسرة ـ رضي الله عنها ـ فقال : صحيح .
قال الخلال : حدثنا أحمد بن أصرم أنه سأل أحمد عن حديث أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ في مس الذكر فقال : هو حديث حسن . فظاهر هذا أنه لم يقصد المعنى الاصطلاحي ، لأن الحسن لا يكون أصح من الصحيح .
وأما أبو حاتم ، فذكر ابنه في كتاب الجرح والتعديل في باب اسمه عمرو من حرف العين عمرو بن محمد ـ روى عن سعيد بن جبير وأبي زرعة بن عمرو بن جرير ـ روى عنه إبراهيم بن طهمان سألت أبي عنه فقال هو مجهول والحديث الذي رواه عن سعيد بن جبير حسن .
قلت : وكلام أبي حاتم هذا محتمل ، فإنه يطلق المجهول على ما هو أعم من المستور وغيهر ، فيحتمل أن يكون حكم على الحديث بالحسن لأنه روي من وجه آخر ، فيوافق كلام الترمذي ، ويحتمل أن يكون حكم بالحسن وأراد المعنى اللغوي [ أي ] أن متنه حسن ـ والله أعلم .
وأما علي بن المديني فقد أكثر من وصف الأحاديث بالصحة والحسن في مسنده وفي علله ، فظاهر عبارته قصد المعنى الاصطلاحي وكأنه الإمام السابق لهذا الاصطلاح ، وعنه أخذ البخاري ويعقوب بن شيبة وغير واحد . وعن البخاري أخذ الترمذي .
فمن ذلك : ما ذكر الترمذي في العلل الكبير أنه سأل البخاري عن أحاديث التوقيت في السمح على الخفين ، فقال : حديث صفوان بن عسال صحيح ، وحديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ حسن وحديث صفوان الذي أشار أليه موجود في شرائط الصحة .
وحديث أبي بكرة الذي أشار إليه ـ رواه ابن ماجه من رواية المهاجر أبي مخلد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ به والمهاجر قال وهيب : إنه كان غير حافظ .
وقال ابن معين : صالح . وقال الساجي : صدوق .
وقال أبو حاتم : لين الحديث يكتب حديثه . فهذا على شرط الحسن لذاته . كما تقرر .
وإن كان ابن حبان أخرجه في (( صحيحه )) ، فذالك جري على قاعدته في عدم التفرقة بين الصحيح والحسن ، فلا يعترض به . وذكر الترمذي ـ أيضاً ـ في (( الجامع )) أنه سأله عن حديث شريك بن عبد الله النخعي ، عن أبي إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ وله نفقته )) .
وهو من أفراد شريك عن أبي إسحاق ، فقال البخاري : هو حديث حسن . انتهى .
وتفرد شريك بمثل هذا الأصل عن أبي إسحاق ( مع كثرة الرواة ) عن أبي إسحاق مما يوجب التوقف
عن الاحتجاج به ، ولكنه اعتضد بما رواه الترمذي أيضاً من طريق عقبة بن الأصم ، عن عطاء بن
رافع رضي الله عنه فوصفه بالحسن لهذا . وهذا على شرط القسم الثاني فبان أن استمداد الترمذي لذلك إنما هو من البخاري ولكن الترمذي أكثر منه وأشاذ بذكره وأظهر الاصطلاح فيه فصار أشهر به من غيره والله أعلم .
21- قوله (ع) : (( ويعقوب بن شيبة وأبو عيل إنما صنفا كتابيهما بعد الترمذي )) .
أقول : فيه نظر بالنسبة إلى يعقوب بن شيبة ( فقط ) فإنه من طبقة شيوخ الترمذي وهو أقدم سناً وسماعاً وأعلى رجالاً من البخاري إمام الترمذي وإن تأخرت وفاته بعده ست سنين .
وذكر الخطيب أنه أقام في تصنيف مسنده مدة طويلة وأنه لم يكمله مع ذلك ومات قبل الترمذي بنحو عشرين سنة . فكيف يقال إنه صنف كتابه بعد الترمذي ؟ ظاهر الحال يأبى ذلك .
وأما قوله حكاية عن المعترض على ابن الصلاح بأن أبا علي الطوسي كان شيخاً لأبي حاتم الرازي ، فقد رأيت ذلك في كتاب العلامة علاء الدين مغلطاي في مواضع كثيرة من شرح البخاري وغيره فلا يذكر أبا علي الطوسي إلا ويصفه بأنه شيخ أبي حاتم الرازي وليس ذلك بوصف صحيح بل الصواب العكس . وأبو حاتم شيخ أبي علي وإن كان أبو حاتم حكى عن أبي علي شيئاً ، فذلك من باب رواية الأكابر عن الأصاغر فقد قال الخليلي في الإرشاد : روى عنه أبو حاتم شيوخه حكايات . وهذا كرواية البخاري عن الترمذي فإن أبا حاتم والبخاري من طبقة واحدة كما أن الترمذي وأبا علي من طبقة واحدة وهذا بين من معرفة شيوخهم ووقت وفاتهم ، فسماع أبي حاتم قبل أبي علي بنحو من ثلاثين سنة . ومات أبو حاتم قبل أبي علي بنحو من هذا القدر .
وكانت رحلة أبي علي الطوسي بعد رحلة الترمذي ، فلم يلق عوالي شيوخه كقتيبة ، ولكنه شاركه في أكثر مشايخه واستخرج على كتابه كما قال شيخنا وسمى كتابه كتاب الأحكام .
والدليل على صحة كون كتابه مستخرجاً على الترمذي أنه يحكم على كل حديث بنظير ما يحكم عليه الترمذي سواء إلا أنه يعبر بقوله : يقال : ( هذا حديث حسن ) يقال : حديث حسن صحيح لا يجزم بشئ من ذلك .
وهذا مما يقوي أنه نقل كلام غيره فيه وهو الترمذي ، لأنها عبارته بعينها . وإذا تقرر ذلك ، فقول ابن الصلاح : إن (( كتاب الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن )) لا اعتراض عليه فيه ، لأنه نبه مع ذلك على أنه يوجد في متفرقات كلام من تقدمه . وهو كما قال والله أعلم .
تنبيه
أبو علي الطوسي المذكور : اسمه الحسن بن علي بن نصر الحافظ له تصانيف ورحلة ذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وأثنى عليه وأبو علي الخليلي في الإرشاد وقال : سمعت من عشرة من أصحابه وله تصانيف تدل على معرفته . وأبو أحمد الحاكم في الكنى وقال : إنه سمع منه وغيرهم . وكانت وفاته
سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة والله أعلم .
37- قوله (ص) : (( ومن مظانه )) :
أي من مظان الحسن والمظان جمع مظنة بكسر الظاء وهي مفعلة من الظن . وقال المطرزي : المظنة العم من ظن بمعنى علم .
22- قوله (ع) : (( ولم ينقل لما عن أبي داود يقول بذلك ( يعني الحسن الاصطلاحي ) أم لا ))؟
أقول : حكى ابن كثير في مختصره أنه رأى في بعض النسخ من رسالة أبي داود ما نصه : (( وما سكت عليه فهو حسن وبعضها أصح من بعض )) . فهذه النسخة إن كانت معتمدة فهو نص في موضع النزاع ، فيتعين المصير إليه ، ولكن نسخة روايتنا والنسخ المعتمدة التي وفقنا عليها ليس فيها هذا والله الموفق .
23- قوله (ع) :
في الجواب من اعتراض أبي الفتح اليعمري إذ زعم أن شرط أبي داود كشرط مسلم إلا في الأحاديث التي بين أبو داود بأن مسلماً شرط الصحيح ، فليس لنا أن نحكم على حديث في كتابع بأنه حسن وأبو داود إنما قال : (( ما سكت عنه فهو صالح والصاح يجوز أن يكون صحيحاً وأن يكون حسناً فالاحتياط أن يحكم عليه بالحسن )) .
أقول : أجاب الحافظ صلاح الدين العلائي عن كلام أبي الفتح اليعمري بجواب أمتن من هذا فقال : ما نصه : (( هذا الذي قاله ضعيف ، وقل ابن الصلاح أقوى ، لأن درجات الصحيح إذا تفاوتت ( لا نعني بالحسن إلا ) الدرجة الدنيا منها .
والدرجة الدنيا منها لم يخرج مسلم منها شيئاً في الأصول ، وإنما يخرجها في المتابعات والشواهد .
[ الرواة عند مسلم ثلاثة أقسام : ]
قلت : وهو تعقب صحيح وهو مبني عل أمر اختلف نظر الأئمة فيه وهو قول مسلم ما معناه أن الرواة ثلاثة أقسام :
الأول : كمالك وشعبة وأنظارهما .
الثاني : مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وأمثالهما .
وكل من القسمين مقبول ، ( لما اشتمل الكل ) من اسم الصدق .
والطبقة الثالثة : أحاديث المتروكين .
فقال القاضي عياض وتبعه النووي وغيره : (( إن مسلماً أخرج أحاديث القسمين الأولين ولم يخرج شيئاً من أحاديث القسم الثالث )) .
وقال الحاكم والبيهقي وغيرهما : (( لم يخرج مسلم إلا أحاديث القسم الأول فقط فلما حدث به
اخترمته المنية قبل إخراج القسمين الآخرين )) .
ويزيد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن إبراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم قال : ((
صنف مسلم ثلاثة كتب أحدها هذا الذي قرأه الناس ( يعني الصحيح ) والثاني يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق وأمثالهما والثالث يدخل فيه الضعفاء .
قلت : وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني موجودة في صحيحه لكن فرض المسألة هل احتج ( بهم كما احتج ) بأهل القسم الأول أم لا ؟
والحق : أنه لم يخرج شيئاً مما انفرد به الواحد منهم وإنما احتج بأهل القسم الأول سواء تفردوا أم لا .
ويخرج من أحاديث أهل القسم الثاني ما يرفع به التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول . وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني طرق كثيرة يعضد بعضها بعضاً فإنه قد يخرج ذلك . وهذا ظاهر بين كتابه ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم الثاني في الأصول بل وفي المتابعات لكان كتابه أضعاف ما هو عليه . ألا تراه أخرج لعطاء بن السائب في المتابعات وهو من المكثرين ومع ذلك فبه له عنده سوى مواضع يسيرة .
وكذا محمد بن إسحاق وهو من بحور الحديث وليس عنده في المتابعات إلا ستة أو سبعة . ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا ليزيد بن أبي زياد ولا لمجالد بن سعيد إلا مقروناً . وهذا بخلاف أبي داود ، فإنه يخرج أحاديث هؤلاء في الأصول محتجاً بها ، ولأجل ذا تخلف كتابه عن شرط الصحة وفي قول أبي داود : (( وما كان فيه وهن شديد بينته )) ( ما يفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد ) أنه لا يبينه .
ومنه يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي . بل هو على أقسام :
1- منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة .
2- ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته .
3- ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد .
وهذان القسمان كثير في كتابه جداً .
4- ومنه ما هو ضعيف ، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالباً . وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها .
كما نقل ابن منده عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه أقوى عنده من رأي الرجال . وكذلك قال ابن عبد البر : (( كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره )) .
ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله ابن المنذر عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره .
وأصرح من هذا ما رويناه عنه فيما حكاه أبو العز بن كادش أنه قال لابنه : (( لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشئ بعد الشئ ، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شئ يدفعه )) .
ومن هذا ما روينا من طريق عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بالإسناد الصحيح إليه قال : سمعت أبي يقول:((لا تكاد ترى أحداً ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل والحديث الضعيف أحب إلى من الرأي ))
[ موقف أحمد من الرأي : ]
قال : فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وصاحب رأي فمن يسأل ؟
قال : يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي .
فهذا نحو مما حكي عن أبي داود . ولا عجب ، فإنه كان من تلامذه الإمام أحمد فغير مستنكر أن يقول قوله .
بل حكى النجم الطوفي عن العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال : (( اعتبرت مسند أحمد ، فوجدته موافقاً لشرط أبي داود )) .
وقد أشار شيخنا في النوع الثالث والعشرين إلى شئ من هذا ومن هنا يظهر ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل ابن ليهعة ، وصالح مولى التوأمة ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وموسى بن وردان ، وسلمة بن الفضل ، ودلهم بن صالح وغيرهم .
فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم ، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه ؟
لا سيما إن كان مخالفاً لرواية من هو أوثق منه ، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن وجيه وصدقة الدقيقي وعثمان بن واقد العمري ومحمد بن عبدالرحمن البيلماني وأبي جناب الكلبي وسليمان بن أرقم وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وأمثالهم من المتروكين .
وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة وأحاديثهم المدلسين بالعنعنة والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم ، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود ، لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه ويكون لذهول منه .
وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته . كأبي الحويرث
ويحيى بن العلاء وغيرهما . وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر .
فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه في الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية
اللؤلؤي وإن كانت روايته أشهر . ومن أمثل ذلك ما رواه من طريق الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه حديث : (( إن تحت كل شعرة جنابة … )) الحديث .
فإنه تكلم عليه في بعض الروايات فقال : هذا حديث ضعيف والحارث حديثه منكر وفي بعضها اقتصر على بعض هذا الكلام . وفي بعضها لم يتكلم فيه وقد يتكلم على الحديث بالتضعيف البالغ خارج السنن ويسكت عنه فيها .
ومن أمثلته : ما رواه في السنن من طريق محمد بن ثابت العبدي عن نافع قال : انطلقت مع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في حاجة إلى ابن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فذكر الحديث في الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى تيمم ، ثم رد السلام وقال : (( إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على طهر )) . لم يتكلم عليه في السنن ، ولما ذكره في (( كتاب التفرد )) قال : (( لم يتابع أحد محمد بن ثابت على هذا )) . ثم حكى عن أحمد بن حنبل أنه قال : (( هو حديث منكر )) .
[ كثرة الانقطاع والإبهام في سنن أبي داود : ]
وأما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة :
منه : وهو ثالث حديث في كتابه ما رواه من طريق أبي التياح قال : حدثني شيخ قال : لما قدم ابن عباس البصرة كان يحدث عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه فذكر حديث (( إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله )) . لم يتكلم عليه في جميع الروايات ، وفيه هذا الشيخ المبهم . إلى غير ذلك من الأحاديث التي يمنع من الاحتجاج بها ما فيها من العلل .
فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه . والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك فكيف يقلده فيه ؟
وهذا جميعه إن حملنا قوله : (( وما لم أقل فيه فهو صالح )) . على أن مراده أنه صالح للحجة . وهو الظاهر . وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاحية للحجة أو للاستشهاد أو للمتابعة ، فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف . ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي ضعيفة هل فيها أفراد أم لا ؟ إن وجد فيها أفراد تعين الحمل على الأول وإلا حمل على الثاني وعلى كل تقدير ، فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقاً .
وقد نبه على ذلك الشيخ محي الدين النووي رحمه الله تعالى فقال : (( في سنن أبي داود أحاديث
ظاهرة الضعف لم يبينها مع أنه متفق على ضعفها ، فلا بد من تأويل كلامه .
ثم قال : والحق أن ما وجدناه في سننه ما لم يبينه ، ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد
فهو حسن ، وإن نص على ضعفه من يعتمد أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له
حكم بضعفه ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود )) .
قلت : وهذا هو التحقيق ، لكنه خالف ذلك في مواضع من شرح المهذب وغيره من تصانيفه ، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها فلا يغتر بذلك والله أعلم .
38-قوله (ص) : (( ما صار إليه صاحب المصابيح من تقسيم أحاديثه إلى نوعين : الصحاح والحسان إلى أن قال : فهذا اصطلاح غير معروف )) . وتبعه الشيخ محي الدين في مختصره فقال : (( هذا الكلام من البغوي ليس بصواب )) .
وقد تعقب العلامة تاج الدين التبريزي في مختصره هذا الكلام فقال : (( ليس من العادة المشاحة في الاصطلاح والتخطئة عليه مع نص الجمهور على أن من اصطلح في أول الكتاب فليس ببعيد عن الصواب . والبغوي قد نص في ابتداء المصابيح بهذه العبارة : (( وأعني بالصحاح ما أخرجه الشيخان … إلى آخره )) .
ثم قال : وأعني بالحسان ما أورده أبو داود والترمذي وغيرهما من الأئمة … إلى آخره .
ثم قال : وما كان من ضعيف أو غريب أشرت إليه وأعرضت عما كان منكراً أو موضوعاً . هذه عبارته ولم يذكر قط أن مراد الأئمة بالصحاح كذا وبالحسان كذا . قال : ومع هذا فلا يعرف لتخطئة الشخين ( يعني ابن الصلاح والنووي ) إياه وجه .
قلت : ومما يشهد لصحة كونه أراد بقوله الحسان اصطلاحاً خاصاً له أن يقول في مواضع من قسم الحسان : هذا صحيح تارة ، وهذا ضعيف تارة بحسب ما يظهر له من ذلك .
ولو كان أراد بالحسان الاصطلاح العام ما نوه في كتابه إلى الأنواع الثلاثة وحتى لو كان عليه في بعض ذلك مناقشة بالنسبة إلى الإطلاق فذلك يكون لأمر خارجي حتى يرجع إلى الذهول ولا يضر فيما نحن فيه والله أعلم .
39- قوله (ص) : (( كتب المسانيد غير ملتحقة بالكتب الخمسة وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما يورد فيها مطلقاً كمسند أحمد وغيره … )) إلى أن قال : (( فهذه عادتهم أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثاً محتجاً به أم لا )) .
قلت : هذا هو الأصل في وضع هذين الصنفين ، فإن ظاهر حال من يصنف على الأبواب أنه ادعى على أن الحكم في المسألة التي بوب عليها ما بوب به فيحتاج إلى مستدل لصحة دعواه والاستدلال إنما ينبغي أن يكون بما يصلح أن يحتج به وأما من يصنف على المسانيد فإن ظاهر قصده
جمع حديث كل صحابي على حده سواء أكان يصلح للاحتجاج به أم لا .
وهذا هو ظاهر من أصل الوضع بلا شك ، لكن جماعة من المصنفين في كل من الصنفين خالف أصل
موضوعه فانحط أو ارتفع ، فإن بعض من صنف الأبواب قد أخرج فيها الأحاديث الضعيفة بل
والباطلة إما لذهول عن ضعفها وإما لقلة معرفة بالنقد .
وبعض من صنف على المسانيد انتقى أحاديث كل صحابي فأخرج أصح ما وجد من حديثه . كما روينا عن إسحاق بن راهويه أنه انتقى في مسنده أصح ما وجده من حديث كل صحابي إلا أن لا يجد ذلك المتن إلا من تلك الطريق ، فإنه يخرجه . ونحى بقي بن مخلد في مسنده نحو ذلك . وكذا صنع أبو بكر البزار قريباً من ذلك وقد صرح ببعض ذلك في عدة مواضع من مسنده فيخرج الإسناد الذي فيه ويذكر علته ، ويعتذر عن تخريجه بأنه لم يعرفه إلا من ذلك الوجه .
وأما الإمام أحمد ، فقد صنف أبو موسى المديني جزءاً كبيراً ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتفى مسنده وأنه كله صحيح عنده وأن ما أخرجه فيه عن الضعفاء إنما هو في المتابعات ، وإن كان أبو موسى قد ينازع في بعض ذلك ، لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن رجالاً من غيره . وهذا يدل على أنه انتخبه .
ويؤيد هذا ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث التي يستنكرها .
وروى أبو موسى في هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق قال : (( جمعنا أحمد أنا وأبناء عبد الله وصالح وقال : انتقيته من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفاً فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه ، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة )) .
فهذا صريح فيما قلناه إنه انتقاه ولو وقعت فيه الأحاديث الضعيفة والمنكرة ، فلا يمنع ذلك صحة هذه الدعوى ، لأن هذه أمور نسبية بل هذا كاف فيما قلناه أنه لم يكتف بمطلق جمع حديث كل صحابي
وظاهر كلام المصنف أن الأحاديث التي في الكتب الخمسة وغيرها يحتج بجها جميعها ، وليس كذلك فإن فيها شيئاً كثيراً لا يصلح للاحتجاج به بل وفيها ما لا يصلح للاستشهاد به من حديث المتروكين
وليست الأحاديث الزائدة على الصحيحين من سنن أبي داود وجامع الترمذي .
وإذا تقرر هذا فسبيل من أراد أن يحتج بحديث من السنن أو بأحاديث من المسانيد واحد إذ جميع ذلك لم يشترط من جمعه الصحة ولا الحسن خاصة ، فهذا المحتج إن كان متأهلاً لمعرفة الصحيح من غيره ، فليس له أن يحتج بحديث من السنن من غير أن ينظر في اتصال إسناده وحال رواته كما أنه ليس له أن يحتج بحديث من المسانيد حتى يحيط علماً بذلك .
وإن كان غير متأهل لدرك ذلك فسبيله أن ينظر في الحديث إن كان خرج في الصحيحين أو صرح أحد من الأئمة بصحته ، فله أن يقلد في ذلك . وإن لم يجد أحداً صححه ولا حسنه فما له أن يقدم على الاحتجاج به فيكون كحاطب ليل فلعله يحتج بالباطل وهو لا يشعر .
ولم أر للمصنف سلفاً في أن جميع ما صنف على الأبواب يحتج به مطلقاً ولو كان اقتصر على الكتب الخمسة لكان أقرب من حيث الأغلب لكنه قال مع ذلك : (( وما جرى مجراها )) . فيدخل في عبارته غيرها من الكتب المصنفة على الأبواب كسنن ابن ماجه بل ومصنف ابن أبي شيبة وعبد
الرزاق وغيرهم ، فعليه في إطلاق ذلك من التعقب ما أوردناه والله أعلم .
24- قوله (ع) : (( لا نسلم أن أحمد اشترط الصحة في كتابه )) .
أقول : حرف الجواب أن المراد بصحة ماذا ؟ إن قيل باعتبار الشرائط التي تقدم ذكرها ، فلا يمكن دعوى ذلك في المسند مع ما فيه من الأحاديث المعللة والمضعفة .
وإن قيل باعتبار ما يراه أحمد من التمسك بالأحاديث ولو كانت ضعيفة ما لم يكن ضعفها شديداً . كما تقدم في الكلام على أبي داود فهذا يمكن دعواه .
25- قوله (ع) : (( على أن ثمة أحاديث صحيحة مخرجه في الصحيح وليست في مسند أحمد ))
أقول : أجاب بعضهم عن هذا بأن الأحاديث الصحيحة التي خلا عنها المسند لا بد أن يكن لها فيه أصول أو نظائر أو شواهد أو ما يقوم مقامها .
قلت : فلعل هذا إنما يتم النقض أن لو وجد حديث محكوم بصحته سالم من التعليل ليس هو في المسند وإلا فلا والله أعلم .
[ أحاديث منتقدة في مسند أحمد : ]
26- قوله (ع) : (( بل فيه ( أي المسند ) أحاديث موضوعة وقد جمعتها في جزء )) .
أقول : ذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية أن أًل هذه القصة أن الحافظين أبا العلاء الهمذاني وأبا الفرج ابن الجوزي سئلا هل في المسند أحاديث موضوعة أم لا ؟ . فأنكر ذلك أبو العلاء أشد الإنكار . وأثبت ذلك أبو الفرج وبين ما فيه من ذلك بحسب ما ظهر له .
قلت : ثم انتدب أبو موسى المديني فانتصر لشيخه أبي العلاء الهمذاني وصنف الجزء الذي أشار إليه شيخنا .
وأما الجزء المذكور فهو مشتمل على تسعة أحاديث وهي الستة التي ساقها الشيخ هنا من المسند والحديثان المساقان من زيادات عبد الله والتاسع حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مثل حديث أنس رضي الله عنه فيمن عمر أربعين سنة .
والحكم على الأحاديث التسعة بكونها موضوعة محل نظر وتأمل ثم إنها كلها في الفضائل أو الترغيب والترهيب . ومن عادة المحدثين التساهل في مثل ذلك . وفي الجملة لا يتأتى الحكم على جميعها بالوضع .
1- فمن ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنهما في احتكار الطعام … الحديث . فقد ذكر شيخنا أن في الحكم بوضعه نظراً وأن الحاكم صححه وهو كما قال شيخنا .
فقد رواه الإمام أحمد قال : حدثنا يزيد بن هارون ثنا أصبغ بن زيد ثنا أبو بشر عن أبي
الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((
من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى )) .
وهكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي خيثمة زهير بن حرب عن يزيد به . ومن طريقهما أخرجه
الحافظ الضياء في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين .
وأما الحاكم فإنه أخرجه من طريق عمرو بن الحصين عن أصبغ وعمر بن الحصين أحد المتروكين المتهمين ، فالمعتمد عليه فيه هو يزيد بن هارون ولم يعله ابن الجوزي إلا بأصبغ بن زيد ، وقد ساق ابن عدي له ثلاثة أحاديث هذا منها . وقال : إنها غير محفوظة وأنه لم يرو عنه غير يزيد بن هارون .
وقد وهم ابن عدي في ذلك فإنه روى عنه عشرة أنفس غيره ووثقه يحيى بن معين وأبو داود وغيرهما
وقال النسائي : (( ليس به بأس )) وكذا قال أحمد وزاد ما أحسن رواية يزيد عنه . وقال الدار قطني : (( تكلما فيه وهو ثقة عندي )) .
قلت : لم أر للمتقدمين فيه كلاماً سوى لابن سعد وهو محجوج بما تقدم والله أعلم . وللمتن شواه تدل على صحته . فإن قيل : إنما حكم عليه بالوضع نظراً إلى لفظ المتن وكون ظاهره مخالفاً للقواعد قلنا : ليست هذه وظيفة المحدث ، وعلى التنزل ، فالجواب عنه أنه من جملة الأحاديث التي سبقت في معنى الزجر الشديد والتغليظ ولفظ البراءة وإن كان مستشكلاً فقد صحت بمثله أحاديث أخر . ففي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا برئ ممن سلق وحلق وخرق )) . فمهما أجيب عنه فهو جوابنا .
2- ومنها : حديث عمر رضي الله تعالى عنه : (( ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد )) …الحديث .
رواه أحمد قال : حدثنا أبو المغيرة ، ثنا إسماعيل بن عياش الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : ولد لأخي أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم (( سميتموه بأسماء فراعنتكم ؟ ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد لهو شر على هذه الأمة من فرعوه لقومه )) .
ورجال إسناده ثقات ، وإسماعيل بن عياش ، صدوق إنما تكلموا في حديثه من غير الشاميين ، ولم يعله ابن الجوزي إلا بقول ابن حبان : (( هذا خبر باطل ، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ولا عمر رضي الله عنه ولا سعيد ولا الزهري حدث به ولا هو من حديث الأوزاعي [ قال ] : وكان إسماعيل من الحفاظ المتقنين في حداثته ، فلما كبر تغير حفظه فما حفظه في صباه حدث به على جهته ، وما حفظ به على الكبر من حديث الغرباء خلط فيه .
قلت : وليس هذا الحديث مما حفظه إسماعيل من حديث الغرباء بل هو من حديثه عن الشاميين وقد قال جمع من الأئمة : إن حديث إسماعيل عن الشاميين قوي وصحح الترمذي وغيره من عدة أحاديث . على أنه لم ينفرد بهذا .
فقد رواه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن محمد بن خالد بن العباس السكسكي قال : ثنا الوليد بن مسلم . ثنا عمرو الأوزاعي فذكره إلا أنه لم يذكر عمر في إسناده : فكانوا يرون أنه الوليد بن عبدالملك ، ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتتة الناس به حين خرجوا عليه ، فقاتلوه فانفتحت الفتن على الأمة والهرج .
قلت : وتابع الوليد على إرساله بشر بن بكر أخرجه البيهقي في الدلائل عن الحاكم وغيره عن أبي العباس ( وهو الأصم ) عن سعيد بن عثمان التنوخي عن ( بشر بن بكر ) قال حدثني الزهري فذكره وزاد في المتن غيروا اسمه فسموه عبد الله . وزاد أيضاً أنه ولد لأخي أم سلمة رضي الله عنها من أمها .
قال البيهقي : هذا مرسل حسن وهو كما قال ، بل هو على شرط الصحيح لولا إرساله . وكذا أرسله معمر عن الزهري بسنده في الجزء الثاني من أمالي عبد الرزاق عن معمر .
فبان بهذا أن قول ابن حبان : أن ابن المسيب ما حدث به قط ولا ابن شهاب ما حدث به أيضاً ولا الأوزاعي . لا يخلو من مجازفة .
وقد صرحت ( رواية بشر بن بكر ) بسماع الأوزاعي له من الزهري فأمن ما يخشى من أن الوليد بن مسلم دلس فيه تدليس التسوية . على أن الأوزاعي لم ينفرد به ، فقد رواه الزبيدي عن الزهري مثله . وفي الباب عن أن أم سلمة رضي الله تعالى عنها .
رواه ابن إسحاق عن محمحد بن عمرو بن عطاء ، عن زبيب بنت أم سلمة عن أنعا رضي الله تعالى عنها قالت : دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد فقال صلى الله عليه وسلم : من هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : قد اتخذتم الوليد حناناً غيروا اسمه ، فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له الوليد . ورواه محمد بن سلام الجمحي عن حماد بن سلمة نحوه منقطعاً .
3- ومنها : حديث أنس رضي الله تعالى عنه : (( ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء : الجنون والجذام … )) الحديث .
قال الإمام أحمد : ثنا أنس بن عياض ، قال : ثنا يوسف بن أبي ذرة عن جعفر بن عمرو بن أنية عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين لين الله عليه الحساب … الحديث .
ورواه أبو يعلى وغيره من حديث أبي ضمرة أنس بن عياض به . ورواه أحمد أيضاً عن أبي النضر ، عن فرج بن فضالة عن محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله عن عمرو بن جعفر عن أنس رضي الله عنه موقوفاً . وهو معروف بيوسف بن أبي ذرة .
ورواه عنه أيضاً الحارث بن أبي الزبير ويوسف ضعفه يحيى بن معين ولم ينفرد به . فقد رواه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري . كذا رويناه في مسند أبي يعلى رواية ابن المقري .
وفي تفسير ابن مردويه أيضاً من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن موسى بن أبي عبيدة الزمعي عن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عمرو بن عثمان به . وما وقع في رواية أحمد الموقوفة عن عمرو بن جعفر وهم من فرج بن فضالة انقلب اسمه وإنما هو جعفر بن عمرو .
ولم ينفرد به جعفر بن عمرو ، فقد رويناه من طريق عبد الواحد بن راشد وأبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم وعبيد الله بن أنس وزيد بن أسلم وغيرهم كلهم عن أنس رضي الله عنه وفي الباب عن عثمان بن عفان وعبد الله بن أبي بكر الصديق وأبي هريرة رضي الله عنهم .
وأجودها إسناداً طريق زيد بن أسلم وقد أوردها البيهقي في كتاب الزهد له عن الحاكم عن الأصم عن بكر بن سهل عن عبد الله بن محمد بن رمح عن عبد الله بن وهب عن حفص بن ميسرة عنه به .
وليس في إسناده من ينظر في أمره إلا بكر بن سهل ، فقد ضعفه النسائي وقواه غيره . ولم يتهمه أحد بالكذب . فقد رويناه من وجه آخر عن حفص بن ميسرة .
وفي الجملة فالحكم على هذا الحديث بالوضع مردود وقد جمعت طرقه بأسانيدها وعللها في الجزء الذي جمعته فيما ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب غفر الله ذنوبنا كلها بمنه وكرمه .
4- ومنها : حديث ابن عمر رضي الله عنهما في سد الأبواب إلا باب علي رضي الله تعالى عنه وهو في المسند من رواية الإمام أحمد عن وكيع ،عن هشام بن سعد ، عن عمرو بن أسيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (( كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر رضي الله تعالى عنهما ولقد أوتي ابن أبي طالب رضي الله تعالة عنه ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم . زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته . وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد وأعطاه الراية يوم خيبر .
ورواته ثقات إلا أن هشام بن سعد ق
ضعف من قبل حفظه وأخرج له مسلم فحديثه في رتبة الحسن لا سيما ما له من الشواهد وقد تبين أنه من رواية أحمد لا من رواية ابنه . وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أورده النسائي في الخصائص بسند صحيح عن أبي إسحاق عن العلاء بن عرار قال : قلت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أخبرني عن علي وعثمان رضي الله تعالى عنهما فقال : أما علي رضي الله عنه فلا تسأل عنه أحداً وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه . والعلاء وثقه ابن معين .
ورواه ابن أبي عاصم من طريق عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق سألت ابن
عمر رضي الله عنهما فذكره . وأما حديث سعد بن مالك في ذلك فهو من رواية أحمد أيضاً لا من رواية ابنه وإسناده حسن أيضاً .
وأما إدعاء ابن الجوزي : أنهما من وضع الرافضة فكلامه في ذلك دعوى عربة عن البرهان . وقد أخرج النسائي في خصائص على رضي الله عنه حديث سعد رضي الله عنه وأخرج فيه أيضاً حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه بإسناد صحيح .
قلت : وأخرج أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : وسد أبواب المسجد غير باب علي رضي الله عنه قال : فيدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره في حديث طويل وقد أخرج أحمد في مسنده أيضاً هذين الحديثين .
وكذا أخرجهما الترمذي ، لكنه قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بعد أن أخرجه عن محمد بن حميد عن إبراهيم بن المختار عن شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عنه : غريب لا نعرفه عن شعبة إلا من هذا الوجه .
وتعقبه الحافظ الضياء في المختارة بأن الحاكم والطبراني روياه من طريق مسكين بن بكير عن شعبة وهي أصح من طريق الترمذي ورواية أحمد هي من طريق أبي عوانة عن أبي بلج . وأبو بلج وثقه يحيى بن معين وأبو حاتم .
وقال البخاري فيه نظر. انتهى . والحديث الذي أشار إليه من رواية الحاكم رويناه أيضاً .. في المجلس الرابع من أمالي أبي جعفر محمد بن عمرو بن البختري .
قال : ثنا أبو الأصبغ القرقساني . ثنا أبو جعفر النفيلي ، ثنا مسكين بن بكير : ثنا شعبة به . ويشهد له حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيرب وغيرك . رواه الترمذي .
ذلك أن بيت علي رضي الله عنه كان مع بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فكان يحتاج إلى استطراق المسجد وشاهد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن قال : ثنا إبراهيم بن حمزة : ثن سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن بيته كان في المسجد وهذا مرسل قوي .
وإذا تقرر ذلك فهذا هو السبب في استشنائه ، ودعوى كون هذا المتن يعارض حديث أبي سعيد : (( لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكرة المخرج في الصحيحين ممنوعة .
وبيانه أن الجمع ممكن ، لأن أحدهما فيما يتعلق بالأبواب ، وقد بينا سببه والآخر فيما يتعلق بالخوخ ، ولا سبب له إلا الاختصاص المحض . فلا تعارض ولا وضع .
ولو فتح الناس هذا الباب لرد الأحاديث لادعي في [ كثير من ] أحاديث الصحيحين البطلان ، ولكن
يأبى الله تعالى ذلك والمؤمنون .
5- ومنها : حديث بريدة بن الحصيب في فضل مرو . وهو حديث تفرد به حفيده سهل بن عبد الله بن بريدة . وتكلم الناس فيه بسببه ، ولا يتبين فيه صحة الحكم بالوضع . ثم إنه ليس من أحاديث الأحكام ، فيطلب المبالغة في التنقيب عنه .
6- وكذا حديث أنس رضي الله عنه (( في فضل عسقلان )) مشتمل على ترغيب في المرابطة وليس فيه [ في ] الذي قبله ما يحيله الشرع ولا العقل .
وما بقي من لجزء كله سوى حديث عائشة في قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه والجواب عنه ممكن ، لكن كفانا المؤنة شهادة أحمد بكونه كذاب فقد أبان علته ، فلا حرج عليه في إيراده مع بيان علته ولعله مما أمر بالضرب عليه ، لأن هذه عادته في الأحاديث التي تكون شديدة النكارة يأمر بالضر عليها من المسند وغيره . أو يكون مما غفل عنه وذهل ، لأن الإنسان محل السهو والنسيان والكمال لله تعالى .
وإذا انتهى القول إلى هذا المقام ينبغي أن ينشد هذا الإمام
شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ من شر أعينهم بعيب واحد
وقد روينا عن العلامة تقي الدين ابن تيمية قال :
ليس في (( المسند )) عن الكذابين المتعمدين شئ بل ليس فيه من الدعاة إلى البدع شئ ، فلا أريد بالموضوع ، ما يتعمد صاحبه الكذب ، فاحمد لا يعتمد رواية هؤلاء في (( مسنده )) ومتى وقع منه شئ فيه ذهولاً أمر بالضرب عليه حال القراءة . وإن أريد بالموضوع ما يستدل على بطلانه بدليل منفصل فيجوز والله أعلم .
قلت : وما حررنا من الكلام على الأحاديث المتقدمة يؤيد صحة هذا التفصيل والله أعلم . وقد تحرر من مجموع [ ما ذكر ] أن المسند مشتمل على أنواع الحديث لكنه مع مزيد انتقاء وتحرير بالنسبة إلى غيره من الكتب التي لم يلتزم الصحة في جميعها والله أعلم .
40- قوله (ص) : (( السابع : قولهم : هذا حديث صحيح الإسناد دون قولهم حديث صحيح ، لأنه قد يقال : صحيح الإسناد فلا يصح [ أي ] المتن لكونه أي الإسناد شاذاً أو معللاً … قال غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على ذلك ولم يقدح فيه ، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح ، لأن عدم العلة والقادح هو الأصل )) .
قلت : لا نسلم أن عدم العلة هو الأصل ، إذ لو كان هو الأصل ما اشترط عدمه في شرط الصحيح ، فإذا كان قولهم : صحيح الإسناد يحتمل أن يكون مع وجود العلة لم يتحقق عدم العلة ، فكيف يحكم له بالصحة .
وقوله : إن المصنف المعتمد إذا اقتصر … الخ يوهم أن التفرقة التي فرقها أولاً مختصة بغير المعتمد وهو
كلام ينبو عنه السمع ، لأن المعتمد هو قول المعتمد وغير المعتمد لا يعتمد . والذي يظهر لي أن الصواب التفرقة من يفرق في وصفه الحديث بالصحة بين التقييد والإطلاق وبين من لا يفرق .
فمن عرف من حاله بالاستقراء التفرقة يحكم له بمقتضى ذلك ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معاً وتقييده على الإسناد فقط ومن عرف من حاله أنه لا يصف الحديث دائماً وغالباً إلا بالتقييد فيحتمل أن يقال في حقه ما قال المصنف آخراً والله أعلم .
41- قوله : (ص) : (( الثامن في قول الترمذي وغيره )) عني بالغير البخاري فقد وقع ذلك في كلامه .
27- قوله (ع) : (( ورد ابن دقيق العيد الجواب الثاني )) .
( يعني قوله أنه غير مستنكر أن بعض من قال ذلك أراد معناه اللغوي ) بأنه يلزم عليه أن يطلق على الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ بأنه حسن . وذلك لا يقوله أحد من المحدثين إذا جروا على اصطلاحهم … إلى آخر الفصل .
قلت : وهذا الإلزام عجيب ، لأن ابن الصلاح إنما فرض المسألة حيث يقول القائل حسن صحيح فحكمه عليه بالصحة يمتنع معه أن يكون موضوعاً .
وأما قول الشيخ بعد ذلك : (( أن بعض المحدثين أطلق الحسن أراد به معناه اللغوي دون الاصطلاحي )) ثم أورد الحديث الذي ذكر ابن عبد البر … إلى آخر كلامه عليه وهو عجيب ، فإن ابن دقيق العيد قد يد كلامه بقوله إذا جروا على اصطلاحهم وهنا لم يجر ابن عبد البر في ذلك الحكم على اصطلاح المحدثين باعترافه بعدم قوة إسناده فكيف يحسن التعقب بذلك على ابن دقيق العيد .
وأما قول ابن المواق : إن الترمذي لم يخص الحسن بصفة تميزه عن الصحيح وما اعترض به أبو الفتح اليعمري من أنه اشترط في الحسن أن يجئ من غير وجه ولم يشترط ذلك في الصحيح .
قلت : وهو تعقب وارد [ ورد ] واضح على زاعم التداخل بين النوعين وكأن ابن المواق فهم التداخل من قول الترمذي وأن لا يكون راويه متهماً بالكذب . وذلك ليس بلازم للتداخل لأن الصحيح لا يشترط فيه أن لا يكون متهماً بالكذب فقط ، بل بانضمام أمر آخر وهو : ثبوت العدالة والضبط بخلاف قسم الحسن الذي عرف به الترمذي . فبان التباين بينهما .
وأما جواب الشخ عماد الدين ابن كثير وقول شيخنا أنه تحكم لا دليل عليه . فقد استدل هو عليه فيما وجدته عنه بما حاصله : أن الجمع بين الحسن والصحة رتبة متوسطة . فللقبول ثلاث مراتب :
الصحيح أعلاها ، والحسن أدناها .
والثالثة ما يتشرب من كل منهما ، فإن كل ما كان فيه شبه من شيئين ولم يتمحض لأحدهما اختص برتبة مفرده كقولهم للمز وهو : ما فيه حلاوة وحموضة : هذا حلو حامض .
قلت : لكن هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به . ثم إنه يلزم عليه أن لا يكون في كتاب
الترمذي حديث صحيح إلا النادر لأنه قل ما يعبر إلا بقوله حسن صحيح . وإذا أردت تحقيق ذلك ، فانظر إلى ما حكم به على الأحاديث المخرجة من الصحيحين كيف يقول فيها حسن صحيح غالباً .
وأجاب بعض المتأخرين عن أصل الإشكال بأنه باعتبار صدق الوصفين على الحديث بالنسبة إلى أحوال رواته عند أئمة الحديث فإذا كان فيهم من يكون حديثه صحيحاً عند قوم وحسناً عند قوم يقال فيه ذلك .
ويتعقب هذا بأنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع فيقول : حسن وصحيح أو أتى بأو التي هي للتخيير أو التردد فقال حسن أو صحيح ، ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره ، فهذا يقدح في هذا الجواب ويتوقف أيضاً على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين فإن كان في بعضها ما لا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته ، فيقدح في الجواب أيضاً لكن لو سلم هذا الجواب من التعقب لكان أقرب إلى المراد من غيره ، وإني لأميل إليه وأرتضيه . والجواب عما يرد عليه ممكن والله أعلم .
وقيل : يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وصفين مختلفين وهما الإسناد والحكم ، فيجوز أن يكون قوله : حسن أي باعتبار إسناده صحيح أي باعتبار حكمه ، لأنه من قبيل المقبول ، وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة .
وهذا يمشي على قول من لا يفرد الحسن من الصحيح ، بل يسمي الكل صحيحاً ، لكن يرد عليه ما أوردناه أولاً من أن الترمذي أكثر من الحكم بذلك على الأحاديث الصحيحة الإسناد . واختار بعض من أدركنا أن اللفظين عنده مترادفان ، ويكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول على سبيل التأكيد . كما يقال : صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك .
وهذا قد يقدح فيه القاعدة بأن الحمل على التأسيس خير من الحمل على التأكيد لأن الأصل عدم التأكيد ، لكن قد يندفع القدح بوجود القرينة الدالة على ذلك . وقد وجدنا في عبارة غير واحد كالدار قطني : هذا حديث صحيح ثابت . وفي الجملة أقوى الأجوبة ما أجاب به ابن دقيق العيد ، والله أعلم .
42- قوله (ص) : (( من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن )) .
هذا ينبغي أن يقيد به إطلاقه في أول الكلام على نوع الصحيح وهو قوله : (( الحديث ينقسم عنده أهله إلى صحيح وحسن وضعيف )) .
43- قوله (ص) : (( وهو الظاهر من تصرف الحاكم وإليه يومئ في تسميته (( كتاب الترمذي )) بالجامع الصحيح )) .
إنما جعله يومئ إليه ، لأن ذلك مقتضاه ، وذلك أن كتاب الترمذي مشتمل على الأنواع الثلاثة ، كلن المقبول فيه وهو الصحيح والحسن أكثر من المردود فحكم للجميع بالصحة بمقتضى الغلبة .
فلو كان ممن يرى التفرقة بين الصحيح والحسن لكان في حكمه ذلك مخالفاً للواقع ، لأن الصحيح الذي فيه أقل من مجموع الحسن والضعيف فلا يعتذر عنه بأنه أراد الغالب ، فاقتضى توجيه كلامه أن يقال : أنه لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن ، ليصح ما ادعاه من التسمية .
وقد وجدت في (( المستدرك )) له أثر حديث أخرجه قال : أخرجه أبو داود في (( كتاب السنن )) الذي هو صحيح على شرطه .
وهذا أيضاً محمول على أنه أراد به عدم التفرقة بين الصحيح والحسن ولم يعتبر الضعيف الذي فيه لقلته بالنسبة إلى النوعين .
من هنا أجاب بعض المتأخرين عن الإشكال الماضي وهو قول الترمذي (( حسن صحيح )) . أنه أراد حسن على طريقة من يفرق بين النوعين لقصور رتبة راويه عن درجة الصحة المصطلحة ، صحيح على طريقة من لا يفرق . ويرد عليه ما أوردنا فيما سبق .
[ أكثر أهل الحديث لا يفرقون بني الحسن والصحيح : ]
واعلم أن أكثر أهل الحديث لا يفردون الحسن من الصحيح ، فمن ذلك ما رويناه عن الحميدي شيخ البخاري قال : (( الحديث الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( هو ) أن يكون متصلاً غير مقطوع معروف الرجال )) .
وروينا عن محمد بن يحيى الذهلي قال : (( ولا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث المتصل غير المنقطع الذي ليس فيه رجل مجهول ولا رجل مجروح )) . فهذا التعريف يشمل الصحيح والحسن معاً . وكذا شرط ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما لم يتعرضا فيه لمزيد أمر آخر على ما ذكره الذهلي .
44- قوله (ص) : (( أطلق الخطيب والسلفي الصحة على كتاب النسائي )) .
قلت : وقد أطلق عليه أيضاً اسم الصحة أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي وأبو الحسن الدارقطني وابن منده وعبد الغني بن سعيد وأبو يعلى الخليلي وغيرهم . وأطلق الحاكم اسم الصحة عليه وعلى كتابي أبي داود والترمذي كما سبق .
وقال أبو عبد الله ابن منده : (( الذين خرجوا الصحيح أربعة : البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي )) . وأشار إلى مثل ذلك أبو علي ابن السكن .
وما حكاه ابن الصلاح عن البارودي أن النسائي يخرج أحاديث من لم يجمع على تركه ، فإنما أراد بذلك إجماعاً خاصاً .
[ طبقات النقاد : ]
وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط .
فمن الأولى : شعبة وسفيان الثوري أشد منه .
ومن الثانية : يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى أشد من عبد الرحمن .
ومن الثالثة : يحيى بن معين وأحمد . ويحيى أشد من أحمد .
ومن الرابعة : أبو حاتم والبخاري . وأبو حاتم أشد من البخاري .
وقال النسائي : لا يترك رجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه . فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلاً فإنه لا يترك لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد .
وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه . كالرجال الذين ذكرنا ، قيل أن أبا داود يخرج أحاديثهم وأمثال من ذكرنا . بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين .
وحكى أبو الفضل ابن طاهر قال : سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه فقلت له : إن النسائي لم يحتج به فقال : يا بني ! إن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم .
وقال أبو بكر البرقاني الحافظ في جزء له معروف : (( هذه أسماء رجال تكلم فيهم النسائي ممن أخرج له الشيخان في صحيحيهما سألت عنهم أبا الحسن الدار قطني فدون كلامه في ذلك وقال أحمد بن محبوب الرملي : سمعت النسائي يقول : لما عزمت على جمع السنن استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشئ ، فوقعت الخيرة على تركهم فنزلت في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم .
وقال الحافظ أبو طالب : أحمد بن نصر شيخ الدار قطني : (( من يصبر على ما يصبر عليه النسائي ؟ كان عنده حديث ابن ليهعة ترجمة ترجمة فما حدث منها بشئ )) .
قلت : وكان عنده عالياً عن قتيبة عنه ولم يحدث به ولا في السنن ولا في غيرها . وقال محمد بن معاوية الأحمر الراوي عن النسائي ما معناه قال النسائي : كتاب السنن كله صحيح وبعضه معلول إلا أنه لم يبين علته والمنتخب منه المسمى بالمجتبى صحيح كله .
وقال أبو الحسن المعافري : إذا نظرت إلى ما يخرجه أهل الحديث فما خرجه النسائي أقرب إلى الصحة مما خرجه غيره .
وقال ابن رشد : كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً وكأن كتابه جامع بين طريقتي البخاري وسملم مع حظ كبير من بيان العلل . وفي الجملة فكتاب النسائي أقل الكتب بعد الصحيحين ( حديثاً ) ضعيفاً ورجلاً مجروحاً ، ويقاربه كتاب أبي داود وكتاب الترمذي ويقابله في الطرف الآخر كتاب ابن ماجه فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك والعلاء بن زيدل وداود بن المحبر وعبد الوهاب بن الضحاك وإسماعيل بن زياد السكوني وعبد
السلام بن أبي الجنوب وغيرهم .
وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما فيه ضعف . فهي حكاية لا تصح لانقطاع إسنادها ، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءاً منه فيه هذا القدر .
وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة ، وذلك محكي في كتاب العلل لابن أبي حاتم وكان الحافظ صلاح الدين العلائي يقول : ينبغي أن يعد كتاب الدارمي سادساً للكتب الخمسة بدل كتاب ابن ماجه فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى من كتاب ابن ماجه .
قلت : وبعض أهل العلم لا يعد السادس إلا الموطأ . كما صنع رزين السرقسطي وتبعه المجد بن الأثير في جامع الأصول .
[ أول من أضاف ابن ماجه إلى الأصول : ]
وكذا غيره . وحكى ابن عساكر أن أول من أضاف كتاب ابن ماجه إلى الأصول أبو الفضل ابن طاهر وهو كما قال ، فإنه عمل أطرافه معها وصنف جزءاً آخر في شروط الأئمة الستة فعدة معهم . ثم عمل الحافظ عبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال الذين هذبه الحافظ أبو الحجاج المزي فذكره فيهم .
وإنما عدل ابن طاهر ومن تبعه عن عد الموطأ إلى عد ابن ماجه لكون زيادات الموطأ على الكتب الخمسة من الأحاديث المرفوعة يسيرة جداً بخلاف ابن ماجه ، فإن زياداته أضعاف زيادات الموطأ فأرادوابضم كتاب ابن ماجه إلى الخمسة تكثير الأحاديث المرفوعة والله أعلم .
ومن هنا يتبين ضعف طريقة من صنف في الأحكام بحذف الأسانيد من الكتب المذكورة كأبي البركات ابن تيمية ، فإنه يخرجون الحديث منها ويعزونه إليها من غير بيان صحته أو ضعفه . وأعجب من ذلك أن الحديث يكون في الترمذي وقد ذكر علته فيخرجونه منه مقتصرين على قولهم رواه الترمذي ، معرضين عما ذكر من علته . وقد تتبع أبو الحسن ابن القطان الأحاديث التي سكت عبد الحق في أحكامه عن ذكر عللها بما فيه مقنع . وهو وإن كانت قد تعنت في كثير منه فهو مع ذلك جم الفائدة والله سبحانه الموفق .
28- قوله (ع) : (( وإنما قال السلفي : (( والحكم بصحة أصولها ولا يلزم من كون الشئ له أصل صحيح أن يكون هو صحيحاً )) .
قلت : وحاصله توهيم ابن الصلاح في نقله للكلام السلفي وهو في ذلك تابع للعلامة مغلطاي وما تضمنه من الإنكار ليس بجيد إذا العبارتان جميعاً موجودتان في كلام السلفي ، لكن ما نقله مغلطاي وتبعه شيخنا سابق .
ثم عاد السلفي وقال : ما نقله ابن الصلاح عنه بزيادة ، ولفظه (( وأما السنن )) فكتاب له صدر في الآفاق ولا نرى مثله على الإطلاق وهو أحد الكتب الخمسة التي اتفق على صحتها علماء الشرق والغرب والمخالفين لهم كالمتخلفين عنهم بدار الحرب إذ كل من رد ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتلقه بالقبول قد ضل إذ كان صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى .
وإذا تقرر هذا ينبغي حمل كلام السلفي على نحو ما حملنا عليه الكلام الحاكم . وقد سبق إلى نحو ذلك الشيخ محي الدين فقال إثر كلام السلفي : مراده بهذا أن معظم الكتب الثلاثة يحتج به أي صالح لأن يحتج به لئلا على إطلاق عبارته المنسوخ أو المرجوح عند المعارضة والله أعلم .
تنبيه
السلفي بكسر السين نسبة إلى جده وهو لقب له .
قال منصور بن سليم الحافظ كان إحدى شفتيه عريضة مفروقة فكان له ثلاث شفاه . فقيل له بالفارسية سي لبه أي ثلاث شفات ، ثم عرب فقيل له : سلفة . ووهم أبو محمد بن حوط الله وهما شنيعاً فقال في فهرسته : هو منسوب إلى سلفه قرية من قرى أصبهان .
وكذا رأيته في فهرست ابن بشكوال نقلاً عن بعض مشايخه رحمه الله عليهم .
خاتمة
للكلام على الحديث الصحيح والحسن . قد قررنا أنهما في حيز القبول ، وقد وجدنا في عبارة جماعة من أهل الحديث ألفاظاً يوردونها في مقام القبول ينبغي الكلام عليها وهي :
الثابت والجيد والقوي والمقبول والصالح وسنستوفي الكلام على هذه الأنواع في آخر الكتاب إن شاء الله كما وعدنا في الخطبة والله أعلم .
النوع الثالث : الضعيف
45- قوله (ص) : (( كل حديث لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحسن فهو ضعيف )) .
اعترض عليه بأنه لو اقتصر على نفي صفات الحسن لكان أخصر لأن نفي صفات الحسن مستلزم لنفي صفات الصحيح وزيادة ، وأجاب بعض من عاصرناه بأن مقام التعريف يقتضي ذلك إذ لا يلزم من عدم وجود وصف الحسن عدم وجود وصف الصحيح إذ الصحيح بشرطه السابق لا يسمى حسناً ، فالترديد متعين قال : ونظيره قول النحوي إذا عرف الحرف بعد تعريف الاسم والفعل : الحرف ما لا يقبل شيئاً من علامات الاسم ولا علامات الفعل ، انتهى .
وأقول : والتنظير غير مطايق ، لأنه ليس بين الاسم والفعل والحرف هموم ولا خصوص بخلاف الصحيح والحسن ، فقد قررنا فيما مضى أن بينهما عموماً وخصوصاً ، وأنه يمكن اجتماعهما وانفراد كل منهما بخلاف الاسم والفعل والحرف .
والحق أن كلام المصنف معترض وذلك أن كلامه يعطي أن الحديث حيث ينعدم فيه صفة من صفات الصحيح يسمى ضعيفاً وليس كذلك ، لأن تمام الضبط مثلاً إذا تخلف صدق أن صفات الصحيح لم تجتمع ، ويسمى الحديث الذي اجتمعت فيه الصفات سواء حسناً لا ضعيفاً .
[ تعريف الحافظ للضعيف : ]
وما من صفة من صفات الحسن إلا وهي إذا انعدمت كان الحديث ضعيفاً ولو عبر بقوله : [ كل ]حديث لم يجتمع فيه صفات القبول لكان أسلم من الاعتراض وأخصر والله أعلم .
46- قوله (ص) : (( وأطنب أبو حاتم ابن حبان في تقسيمه )) ... إلى آخره .
أقول : لم أقف على كلام ابن حبان في ذلك . وتجاسر بعض من عاصرناه فقال : هو : في أ لكتابه في الضعفاء ولم يصب في ذلك ، فإن الذي قسمه ابن حبان في مقدمة كتاب الضعفاء له تقسيم الأسباب الموجبة لتضعيف الرواة ، لا تقسيم الحديث الضعيف ثم أنه أبلغ الأسباب المذكورة عشرين قسماً لا تسعة وأربعين والحاصل ( أن الموضع ) الذي ذكر ابن حبان فيه ذلك ما عرفنا مظنته والله أعلم .
47- قوله (ص) : (( وسبيل من أراد البسط أن يعمد إلى صفة معينة )) .. إلى آخره .
أقول : شرح هذا شيخنا في شرح منظومته ولم يتعرض له هنا فرأيت الإشارة إلى ذلك عنا :
[ صفات القبول : ]
قال رضي الله عنه : (( صفات القبول ستة )) :
1- اتصال السند .
2- وعدالة الرجال .
3- والسلامة من كثرة الخطأ والغفلة .
قلت : بل التعبير هنا باشتراط الضبط أولى . انتهى .
4- قال ويجئ الحديث من وجه آخر حيث كان في الإسناد مستور لم تعرف أهليته وليس متهمااً كثيرا الغلط .
قلت : وكذا إذا كان فيه ضعيف بسبب سوء لحفظ أو كان في الإسناد انقطاع خفيف أو خفي أو كان مرسلاً . كما قررنا ذلك في الكلام على الحسن المجبور . انتهى .
5- قال والسلامة من الشذوذ .
6- والسلامة من العلة القادحة )) .
قلت : وتلخيص التقسيم المطلوب إن فقد الأوصاف راجع إلأى ما في رايوه طعن أو في سنده فالسقط إما أن يكون في أوله أو في آخره أو في أثنائه ويدخل تحت ذلك المرسل والمعلق والمدلس
والمنقطع والمعضل وكل واحد من هذه إذا انضم إليه وصف من أوصاف الطعن وهي : تكذيب
الراوي أو تهمته بذلك أو فحش غلطه أو مخالفته أو بدعته أو جهالة عينة أو جهالة حاله ، فباعتبار ذلك يخرج منه أقسام مع الاحتراز من التداخل المقضي إلى التكرار فإذا فقد ثلاثة أوصاف من مجموع ما ذكر حصلت منها أقسام أخرى مع الاحتراز مما ذكر . ثم إذا فقد أربعة أوصاف ، فكذلك ثم كذلك إلى آخره ، فكلما عدمت فيه صفة واحدة يكون أخف مما عدمت فيه صفتان بشرط أن لا تكون الصفة المتقدمة قد جبرتها صفة قوية ، وهكذا إلى أن ينتهي الحديث إلى درجة الموضوع المختلق بأن تنعدم فيه شروط القبول ويوجد فيه ما يشترط انعدامه من جميع أسباب الطعن والسقط .
لكن قال شخنا : إنه لا يلزم من ذلك ثبوت الحكم بالوضع وهو متجه ، لكن مدار الحكم في الأنواع على غلبة الظن ، وهي موجودة هنا والله أعلم .
تنبيهات
الأول : قولهم : ضعيف الإسناد أسهل من قولهم : ضعيف على ما تقدم في قولهم صحيح الإسناد وصحيح ، ولا فرق .
الثاني : من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث ، فإنه يقبل حتي يجب العمل به . وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول . ومن أمثلته قول الشافعي رضي الله عنه : (( وما قلت من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه ـ يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله ، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلافاً . وقال في حديث (( لا وصية لوارث )) .
لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية للوارث .
[ أوهى الأسانيد : ]
الثالث : لم يتعرض المصنف للكلام على أوهى الأسانيد كما تكلم على أصح الأسانيد مع أن الحاكم قد ذكر الفصلين معاً ، وتبعه أبو نعيم فيما خرجه على كتابه والأستاذ أبو منصور البغدادي ، وأورده الشيخ تقي الدين القشيري في الاقتراح وغير واحد ممن تأخر عنه ، وليس هو عرباً عن الفائدة ، بل يستفاد من معرفته ترجيح بعض الأسانيد على بعض وتمييز ما يصلح للاعتبار مما لا يصلح .
قال الحاكم : أوهى أسانيد الصديق رضي الله عنه صدقة الدقيقي عن فرقد السبخي عن مرة الطيب عن أبي بكر رضي الله عنه .
وأوهى أسانيد العمرييين محمد بن القاسم بن عبد الله بن عمر عن حفص بن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده ، فإن محمداً والقاسم وعبد الله لم يحتج بهم .
وأوهى أسانيد أهل البيت عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الحارث الأعور عن علي رضي الله
تعالى عنه .
( وأوهى أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه السري بن إسماعيل عن داود بن يزيد الأودي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ) .
وأوهى أسانيد عائشة رضي الله تعالى عنها الحارث بن شبل عن أم النعمان عن عائشة رضي الله عنها
وأوهى أسانيد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه .
( وأوهى أسانيد أنس رضي الله عنه داود بن المحبر بن قحذم عن أبيه عن أبان عن أنس رضي الله عنه)
وأوهى أسانيد المكيين : عبد الله بن ميمون القداح عن شهاب بن خراش عن إبراهيم بن يزيد الخوزي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
وأوهى أسانيد اليمانيين حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعال عنهما .
وأوهى أسانيد المصريين أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد عن أبيه عن جده عن قرة بن عبد الرحمن عن شيوخه .
وأوهى أسانيد الشاميين محمد بت سعيد المصلوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أماة رضي الله تعالى عنه .
وأوهى أسانيد الخراسانيين عبد الله بن عبد الرحمن بن مليحة وإبراهيم عن نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
قلت : وهذا الذي ذكره الحاكم وتبعه من ذكر عليه غالبه لا تنتهي نسخته إلى الوصف بالوضع ، وإنما هو بالنسبة إلى اشتمال الترجمة على اثنين فأزيد من الضفعاء .
ووراء هذه التراجم نسخ كثيرة موضوعة هي أولى بإطلاق أوهى الأسانيد كنسخ أبي هدية إبراهيم بن هدبة ونعيم بن سالم بن قنبر ودينار أبي مكيس . وسمعان وغير هؤلاء من الشيوخ المتهمين بالوضع كلهم عن أنس رضي الله تعالى عنه . ونسخة يرويها بقية عن مبشر بن عبيد عن حجاج بن أرطأة عن الشيوخ ومبشر متهم بالكذب والوضع .
ونسخة رواها إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي عن أبيه عن عبد العزيز عن أبي داود عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه وإبراهيم متهم بالوضع وأبوه متروك الحديث .
ونسخة رواها أبو سعيد أبان بن جعفر البصري أرودها كلها من حديث أبي حنيفة وهي نحو ثلاثمائة حديث . ما حدث أبو حنيفة منها بحديث وفي سردها كثرة .
ومن أراد استيفاءها فليطالع كتابي لسان الميزان الذي اختصرت فيه كتاب الذهبي في أحوال الرواة المتكلم فيهم وزدت فيه تحريراًَ وتراجم على شرطه والله الموفق .
48- قوله (ص) : (( وهلم جرا )) .
قرأت بخط أبي يعقوب النجيرمي : أن أصله مأخوذ عن سوق الإبل ( يعني سيروا على هينتكم لا تجهدوا أنفسكم ) أخذاً من الجر في السوق وهو أن تترك الإبل ترعى في السير .
[ إعراب هلم جرا : ]
أما إعرابها فقال ابن الأنباري : في نصبه ثلاثة أوجه :
1- الأول : هو مصدر في موضع الحال أي هلم جارين أي متأنين كقولهم : جاء عبد الله مشياً وأقبل ركضاً .
2- والثاني : هو مصدر على بابه لأن هلم جرا ( بمعنى ) جروا جراً .
3- والثالث : أنه منصوب على التمييز .
قال : ويقال للرجل : هلم جرا وللرجلين هلما جرا وللجمع هلموا جرا . والاختيار الأفراد في الجميع . لأن هلم ليست [ فعلاً ] تتصرف وبه جاء القرآن في قوله تبارك وتعالى :
( والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ) .
49- قوله (ص) : (( والملحوظ فيا نورده ( أي فيما يأتي ) عموم أنواع علوم الحديث لا خصوص أنواع التقسيم الذي فرغنا منه الآن )) .
وهذا جواب عن سؤال مقدر وهو أنه ذكر في أول الكتاب أن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، ثم سمى الأقسام الثلاثة أنواعاً ثم ذكر بعد ذلك أشياء أخر سماها أنواعاً ، فأين صحة دعوى الحصر في الثلاثة .
والجواب : بأن هذه الأنواع التي يذكرها بعد الثلاثة المراد بها أنواع علم الحديث لا أنواع أقسام الحديث .
وحاصله : بأن هذه الأنواع ترجع إلى تلك الثلاثة :
منها : ما يرجع إلى أحدها .
ومنها : ما يرجع إلى مجموع وذلك واضح والله أعلم .
النوع الرابع : المسند
29- قوله (ع) : (( وإنما حكى ( يعني ابن الصلاح ) كلام الخطيب ، ثم قال : وأكثر ما يستعمل في ذلك … )) إلى آخر كلامه .
أقول : مقتضاه أن يكون في السياق إدراجاً ، وعند التأمل يتبين أن الأمر بخلاف ذلك ، لأن ابن الصلاح لم ينقل عبارة الخطيب بلفظها .
وبيان ذلك أن الخطيب قال في الكفاية :
(( ووصفهم للحديث بأنه مسند يريدون أن إسناده متصل بين راويه وبين من أسند عنه ، إلا أن أكثر
استعمالهم هذه العبارة هو : فيما أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم )) انتهى . فذكر [ هذا ] كله ابن الصلاح بالمعنى .
وقوله : (( وأكثر ما يستعمل ذلك فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم دون ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم . هو معنى قول الخطيب : (( إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة .
[ المسند عند الخطيب : ]
فالحاصل أن المسند عند الخطيب ينظر فيه إلى ما يتعلق بالسند فيشترط فيه الاتصال ، وإلى ما يتعلق بالمتن فلا يشترط فيه الرفع إلا من حيث الأغلب في الاستعمال ، فمن لازم ذلك أن الموقوف إذا اتصل سنده قد يسمى مسنداً ، ففي الحقيقة لا فرق عند الخطيب بين المسند والمتصل إلا في غلبة الاستعمال فقط .
[ المرسل عند ابن عبد البر : ]
وأما ابن عبد البر فلا فرق بين المسند مطلقاً فيلزم على قوله أن يتحد المرسل والمسند . وهو مخالف للمستفيض من عمل أئمة الحديث في مقابلتهم بين المرسل والمسند ، فيقولون : (( أسنده فلان وأرسله فلان )) .
وأما الحاكم وغيره : ففرقوا بين المسند والمرفوع بأن المرفوع ينظر إلى المتن مع قطع النظر عن الإسناد فحيث صح إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مرفوعاً سواء اتصل سنده أم لا . ومقابلة المتصل ، فإنه ينظر إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً .
وأما المسند ، فينظر فيه إلى الحالين معاً ، فيجتمع شرطا الاتصال والرفع ، فيكون بينه وبين كل من الرفع والاتصال عموم وخصوص مطلق ، فكل مسند مرفوع وكل مسند متصل ، ولا عكس فيهما .
على هذا رأي الحاكم وبه جزم أبو عمرو الداني ، وأبو الحسن ابن الحصار في (( المدارك )) له والشيه تقي الدين في الاقتراح والذي يظهر لي بالاستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم أن المسند عندهم ما أضافه من سمع النبي صلى الله عليه وسلم [ إليه ] بسند ظاهره الاتصال .
[ تعريف المسند ]
فمن سمع أعم من أن يكون صحابياً أو تحمل كفره وأسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
[ لكنه يخرج ] من لم يسمع كالمرسل ( والمعضل ) . وبسند يخرج ما كان بلا سند . كقول القائل من المصنفين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا من قبيل المعلق وظهور الاتصال يخرج المنقطع ، لكن يدخل منه ما فيه انقطاع خفي كعنعنة المدلس والنوع المسمى بالمرسل الخفي فلا يخرج ذلك عن كون الحديث يسمى مسنداً ومن تأمل مصنفات الأئمة في المسانيد لم يرها تخرج عن اعتبار
هذه الأمور .
وقد راجعت كلام الحاكم بعد هذا فوجدت عبارته : (( والمسند ما رواه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه ( لسن يحتمله ) وكذلك سماع شيخه من شيخه متصلاً إلى صحابي [ مشهور ] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يشترط حقيقة الاتصال بل اكتفى بظهور ذلك . كما قلته تفقهاً ولله الحمد .
وبهذا يتبين الفرق بين الأنواع وتحصل السلامة من تداخلها واتحادها إذ الأصل عدم لترادف والاشتراك والله أعلم . وأمثلة هذا في تصرفهم كثيرة من ذلك :
قال ابن أبي حاتم سألت أبي عن خالد بن كثير يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ليست لي صحبة ؟ قال : فقلت : أن أحمد بن سنان أخرج حديثه في المسند ؟ فقال [ أبي ] خالد بن كثير من أتباع التابعين ، فكيف يخرج حديث في المسند ؟
وقال البيهقي عقب حديث رواه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : هذا حديث غير مسند .
النوع الخامس : المتصل
50- قوله (ص) : (( ويقال له الموصول )) .
قلت : ويقال له : المؤتصل بالفك والهمز . وهي عبارة الشافعي في الأم في مواضع .
وقال ابن الحاجب في التصريف له : (( هي لغة الشافعي وهي عبارة عن ما سمعه كل راو من شيخه في سياق الإسناد من أوله إلى منتهاه )) . فهو أعم من المرفوع . كما قررناه وسيأتي شرح صيغ ذلك إن شاء الله تعالى .
تنبيه
اعلم أن الشيخ أول ما ذكر ما ينظر إلى الإسناد والمتن معاً وهو المسند ثم تلاه بما ينظر فيه إلى الإسناد فقط وهو الاتصال فكان ينبغي أن يتلوه بما ينظر فيه إلى الإسناد فقط وهو الانقطاع ولكنه كما قلنا غير مرة إنه لم يراع فيه تحسين الترتيب .
النوع السادي : المرفوع
51- قوله (ص) : (( وهو المسند عند قوم سواء )) .
يعني ابن عبد البر كما تقدم في الكلام على المسند فكان ينبغي أن يذكر نظير هذا في المتصل ولا فرق
52- قوله (ص) : حكاية عن الخطيب : (( المرفوع : ما أخبر فيه الصحابي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فخصه بالصحابة رضي الله عنهم فيخرج عنه مرسل التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم )) .
قلت : يجوز أن يكون الخطيب أورد ذلك على سبيل المثال لا على سيل التقييد فلا يخرج
عنه شئ ، وعلى تقدير أن يكون أراد جعل ذلك قيداً فالذي يخرج عنه أعم من مرسل التابعي ، بل يكون كل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمى مرفوعاً إلا إذا ذكر فيه الصحابي رضي الله عنه . والحق خلاف ذلك بل الرفع كما قررناه إنما ينظر فيه إلى المتن دون الإسناد والله أعلم .
النوع السابع : الموقوف
53- قوله (ص) : (( وهو ما يروى عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أقوالهم وأفعالهم )) .
أما أقوالهم فالمراد به هنا ما خلت عن قرينة تدل على أن حكم ذلك الرفع كما سيأتي .
وأما أفعالهم المجردة فهل تكون أحكاماً عند من يحتج بقول الصحابي رضي الله عنه أم لا ؟ فيه نظر ، ثم سكت عما يعمل أو يقال بحضرتهم فلا ينكرونه والحكم فيه أنه إذا نقل في مثل ذلك حضور أهل الإجماع فيكون نقلاً للإجماع ، وإن لم يكن فإن خلا عن سبب ما نع من السكوت والإنكار فحكمه حكم الموقوف والله أعلم .
تنبيه
شرط الحاكم في الموقوف أن يكون إسناده غير منقطع إلى الصحابي رضي الله عنه وهو شرط لم يوافقه عليه أحد والله أعلم .
54- قوله (ص) : (( وموجود في اصطلاح الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر )) .
[ ما المراد بالأثر : ]
هذا وقد وجد في عبارة الشافعي رضي الله تعالى عنه في مواضع والأثر في الأصل العلامة والبقية والرواية ونقل النووي عن أهل الحديث أنهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف معاً .
ويؤيده تسمية أبي جعفر الطبري كتابه (( تهذيب الآثار )) وهو مقصور على المرفوعات وإنما يورد فيه الموقوفات تبعاً .
وأما كتابه (( شرح معاني الآثار )) للطحاوي فمشتمل على المرفوع والموقوف أيضاً والله تعالى الموفق .
مُلتقى أهل الحديث/baljurashi.com.www
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق