ج13وج14. ت الطبري
ج13. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
(صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)
دابتي أوفق لي، وركب دابته قال: فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائرا، فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه بعد، قال رجاء: فلما كان المساء من ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادع لي كاتبا، فدعوته وقد رأيت منه كل ما سرني، صنع في المراكب ما صنع، وفي منزل سُلَيْمَان، فقلت:
كيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيصنع نسخا، أم ماذا؟ فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابا واحدا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب أن ينسخ إلى كل بلد.
وبلغ عبد العزيز بن الوليد- وكان غائبا- موت سُلَيْمَان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعة الناس عمر بن عبد العزيز، وعهد سُلَيْمَان إلى عمر، فعقد لواء، ودعا إلى نفسه، فبلغته بيعة الناس عمر بعهد سُلَيْمَان، فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: قد بلغني أنك كنت بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذاك، وذلك أنه بلغني أن الخليفة سُلَيْمَان لم يكن عقد لأحد، فخفت على الأموال أن تنتهب، فقال عمر: لو بويعت وقمت بالأمر ما نازعتك ذلك، ولقعدت في بيتي، فقال عبد العزيز:
ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك وبايع عمر بن عبد العزيز قال: فكان يرجى لسُلَيْمَان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده.
وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا عتاقا وطعاما كثيرا، وحث الناس على معونتهم، وكان الذى وجه اليه الخيل العتاق- فيما قيل- خمسمائة فرس.
وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان، فقتلوا من المسلمين جماعة، ونالوا منهم، فوجه اليهم عمر بن عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي،
(6/553)
فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة بخمسين أسيرا.
وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق، ووجه على البصرة وأرضها عدي بن أرطاة الفزاري، وبعث على الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب الأعرج القرشي، من بني عدي بن كعب، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وكان عامل عمر على المدينة.
وكان عامل عمر على مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطاة، وعلى خراسان الجراح بن عبد الله.
وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني، وقد ولى فيما ذكر قبله الحسن بن أبي الحسن، فشكا، فاستقصى إياس بن معاوية.
وكان على قضاء الكوفة في هذه- السنة فيما قيل- عامر الشعبي وكان الواقدي يقول: كان الشعبي على قضاء الكوفة أيام عمر بن عبد العزيز من قبل عبد الحميد بن عبد الرحمن، والحسن بن أبي الحسن البصري على قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطاة، ثم إن الحسن استعفى من القضاء عديا، فأعفاه وولى اياسا
(6/554)
ثم دخلت
سنة مائة
(ذكر الخبر عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)
فمن ذلك خروج الخارجة التي خرجت على عمر بن عبد العزيز بالعراق.
ذكر الخبر عن أمرهم: ذكر مُحَمَّد بن عمر أن ابن أبي الزناد حدثه، قال خرجت حرورية بالعراق، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ ابن الخطاب عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنه نبيه ص فلما أعذر في دعائهم بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم.
فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم 4
. خبر خروج شوذب الخارجي
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب- واسمه بسطام من بني يشكر- لكان مخرجه بجوخى في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد، الا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلا صليبا حازما فوجهه إليهم، ووجه معه جندا، وأوصه بما أمرتك به.
فعقد عبد الحميد لمُحَمَّد بن جرير بن عبد الله البجلي في الفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم عليه مُحَمَّد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه
(6/555)
ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: أنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا فلم يحرك بسطام شيئا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك- قال أبو عبيدة: أحد الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر- قال: فيقال: أرسل نفرا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين، فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال:
صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك! قال: فقال: انظراني ثلاثا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سما، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثا حتى مات.
وفي هذه السنة أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطى وعمرو ابن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة.
وفيها شخص عمر بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا لعمر عليها
. خبر القبض على يزيد بن المهلب
وفي هذه السنة حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز.
ذكر الخبر عن سبب ذلك، وكيف وصل إليه حتى استوثق منه:
اختلف أهل السير في ذلك، فأما هشام بن مُحَمَّد فإنه ذكر عن أبي مخنف أن عمر بن عبد العزيز لما جاء يزيد بن المهلب فنزل واسطا، ثم ركب السفن يريد البصرة، بعث عدي بن أرطاة إلى البصرة أميرا، فبعث عدي موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، جسر
(6/556)
البصرة فأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فقدم به عليه موسى ابن الوجيه، فدعا به عمر بن عبد العزيز- وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم، وكان يزيد بن المهلب يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائيا، فلما ولي عمر عرف يزيد أن عمر كان من الرياء بعيدا ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سُلَيْمَان بن عبد الملك، فقال: كنت من سُلَيْمَان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سُلَيْمَان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سُلَيْمَان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبعث إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ولا يمر بكورة إلا أعطاهم فيها أموالا عظاما ثم خرج حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ! أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل، فقال عمر: لا الا ان تحمل جميع ما نسأله اياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينة فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه.
فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال فلما خرج مخلد قال: هذا خير عندي من أبيه، فلم يلبث مخلدا إلا قليلا حتى مات، فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئا ألبسه جبة من صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أخرج فمر به على الناس أخذ يقول: ما لي عشيرة، ما لي يذهب بي إلى دهلك! إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الخارب، سبحان الله! أما لي عشيرة! فدخل على عمر سلامة بن نعيم
(6/557)
الخولاني، فقال: يا أمير المؤمنين، اردد يزيد إلى محبسه، فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه، فإني قد رأيت قومه غضبوا له فرده إلى محبسه، فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر.
وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز الى عدى ابن أرطاة يأمره بتوجيه يزيد بن المهلب، ودفعه إلى من بعين التمر من الجند، فوجهه عدي بن أرطاة مع وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان، عرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع فانتضى سيفه، وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد ابن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضربن عنقه إن لم يتفرقوا، فناداهم يزيد بن المهلب، فأعلمهم يمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر، ورجع وكيع إلى عدي بن أرطاة، ومضى الجند الذين بعين التمر بيزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز، فحبسه في السجن
. عزل الجراح بن عبد الله عن خراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله عن خراسان، وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، فكانت ولاية الجراح بخراسان سنة وخمسة أشهر، قدمها سنة تسع وتسعين، وخرج منها لأيام بقيت من شهر رمضان سنة مائة.
(ذكر سبب عزل عمر إياه:) وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد عن كليب بن خلف عن إدريس بن حنظلة، والمفضل عن جده وعلي بن مجاهد عن خالد ابن عبد العزيز، أن يزيد بن المهلب ولى جهم بن زحر جرجان حين شخص عنها، فلما كان من أمر يزيد ما كان وجه عامل العراق من العراق واليا على جرجان، فقدم الوالي عليها من العراق، فأخذه جهم فقيده وقيد
(6/558)
رهطا قدموا معه، ثم خرج في خمسين من اليمن يريد الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، فقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا، فقال له جهم: ولولا أنك ابن عمي لم آتك- وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنتي حصين بن الحارث وابن عمه، لأن الحكم وجعفي ابنا سعد- فقال له الجراح: خالفت إمامك، وخرجت عاصيا، فاغز لعلك أن تظفر، فيصلح أمرك عند خليفتك فوجهه إلى الختل، فخرج، فلما قرب منهم سار متنكرا في ثلاثة، وخلف في عسكره ابن عمه القاسم بن حبيب- وهو ختنه على ابنته أم الأسود- حتى دخل على صاحب الختل فقال له:
أخلني، فأخلاه، فاعتزى، فنزل صاحب الختل عن سريره وأعطاه حاجته- ويقولون: الختل موالي النعمان- وأصاب مغنما، فكتب الجراح إلى عمر: وأوفد وفدا، رجلين من العرب، ورجلا من الموالي من بني ضبة ويكنى أبا الصيداء واسمه صالح بن طريف، كان فاضلا في دينه وقال بعضهم: المولى سعيد أخو خالد أو يزيد النحوي فتكلم العربيان والآخر جالس، فقال له عمر: أما أنت من الوفد؟ قال: بلى، قال: فما يمنعك من الكلام! قال:
يا أمير المؤمنين، عشرون ألفا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق، ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا، فيقول: أتيتكم حفيا، وأنا اليوم عصبي! والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد عمل بالظلم والعدوان فقال عمر:
إذن مثلك فليوفد.
وكتب عمر إلى الجراح: أنظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورا من الجزية، فامتحنهم بالختان.
فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا ص داعيا ولم يبعثه خاتنا وقال عمر: ابغوني رجلا صدوقا،
(6/559)
أسأله عن خراسان، فقيل له: قد وجدته، عليك بأبي مجلز فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلز وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله- أو عبد الله- بن حبيب.
فخطب الجراح فقال: يا أهل خراسان، جئتكم في ثيابي هذه التي علي وعلى فرسي، لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي- ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه، وبغلة قد شاب وجهها، فخرج في شهر رمضان واستخلف عبد الرحمن بن نعيم، فلما قدم قال له عمر: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان، قال: قد صدق من وصفك بالجفاء، هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج! وكان الجراح يقول: أنا والله عصبي عقبي- يريد من العصبية وكان الجراح لما قدم خراسان كتب إلى عمر: أني قدمت خراسان فوجدت قوما قد أبطرتهم الفتنة فهم ينزون فيها نزوا، أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك فكتب إليه عمر:
يا بن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم، لا تضربن مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلا في حق، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ، وتقرأ كتابا لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها.
ولما أراد الجراح الشخوص من خراسان إلى عمر بن عبد العزيز أخذ عشرين ألفا وقال بعضهم: عشرة آلاف من بيت المال وقال: هي علي سلفا حتى أؤديها إلى الخليفة، فقدم على عمر، فقال له عمر: متى خرجت؟ قال:
لأيام بقين من شهر رمضان، وعلي دين فاقضه، قال: لو أقمت حتى تفطر ثم خرجت قضيت عنك فأدى عنه قومه في أعطياتهم.
(6/560)
ذكر الخبر عن سبب تولية عمر بن عبد العزيز عبد الرحمن بن نعيم وعبد الرحمن بن عبد الله القشيري خراسان
وكان سبب ذلك- فيما ذكر لي- أن الجراح بن عبد الله لما شكي، واستقدمه عمر بن عبد العزيز، فقدم عليه عزله عن خراسان لما قد ذكرت قبل.
ثم إن عمر لما أراد استعمال عامل على خراسان، قال- فيما ذكر على ابن مُحَمَّد عن خارجة بن مصعب الضبعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما: ابغوني رجلا صدوقا أسأله عن خراسان، فقيل له: أبو مجلز لاحق بن حميد، فكتب فيه، فقدم عليه- وكان رجلا لا تأخذه العين- فدخل أبو مجلز على عمر في جفة الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس فسأل عنه فقيل:
دخل مع الناس ثم خرج، فدعا به عمر فقال: يا أبا مجلز، لم أعرفك، قال:
فهلا أنكرتني إذ لم تعرفني! قال: أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال:
يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء، وهو أمير يفعل ما يشاء، ويقدم إن وجد من يساعده قال: عبد الرحمن بن نعيم، قال: ضعيف لين يحب العافية، وتأتي له، قال: الذي يحب العافية وتأتي له أحب إلي، فولاه الصلاة والحرب، وولى عبد الرحمن القشيري ثم أحد بني الأعور بن قشير الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: أني استعملت عبد الرحمن على حربكم وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم عن غير معرفة مني بهما ولا اختيار، إلا ما أخبرت عنهما، فإن كانا على ما تحبون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله،.
ولا حول ولا قوة إلا بالله قال علي: وحدثنا أبو السري الأزدي، عن إبراهيم الصائغ، أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم:
أما بعد، فكن عبدا ناصحا لله في عباده، ولا يأخذك في الله لومة لائم، فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، فلا تولين شيئا من أمر المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعي،
(6/561)
وإياك أن يكون ميلك ميلا إلى غير الحق، فان الله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبا، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
قال علي، عن مُحَمَّد الباهلي، وأبي نهيك بن زياد وغيرهما: إن عمر بن عبد العزيز بعث بعهد عبد الرحمن بن نعيم على حرب خراسان وسجستان مع عبد الله بن صخر القرشي، فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى مات عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف، وليها في شهر رمضان من سنة مائة، وعزل سنة اثنتين ومائة، بعد ما قتل يزيد بن المهلب.
قال علي: كانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرا
. أول الدعوة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة- أعني سنة مائة- وجه مُحَمَّد بن عَلِيّ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس من أرض الشراة ميسرة إلى العراق، ووجه مُحَمَّد بن خنيس وأبا عكرمة السراج، وهو أبو مُحَمَّد الصادق وحيان العطار خال ابراهيم ابن سلمة إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي من قبل عمر بن عبد العزيز، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا، ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى مُحَمَّد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى مُحَمَّد بن علي، واختار أبو مُحَمَّد الصادق لمُحَمَّد بن علي اثني عشر رجلا، نقباء، منهم سليمان ابن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي وعمران بن إسماعيل أبو النجم، مولى لآل أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحه ابن رزيق الخزاعي وعمرو بن أعين أبو حمزة مولى لخزاعة وشبل بن طهمان أبو علي الهروي، مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة، واختار.
سبعين رجلا، فكتب إليهم مُحَمَّد بن علي كتابا ليكون لهم مثالا وسيرة يسيرون بها
(6/562)
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى عن أبي معشر.
وكذلك قال الواقدي.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل ما خلا عامل خراسان، فإن عاملها كان في آخرها عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج
(6/563)
ثم دخلت
سنة إحدى ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
خبر هرب يزيد بن المهلب من سجنه
فمن ذلك ما كان من هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز ذكر الخبر عن سبب هربه منه وكيف كان هربه منه:
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن عمر بن عبد العزيز لما كلم في يزيد بن المهلب حين أراد نفيه إلى دهلك، وقيل له: إنا نخشى أن ينتزعه قومه، رده إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر، فأخذ يعمل بعد في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك، لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل- كانت أم الحجاج بنت مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له الوليد بن يزيد المقتول- فكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقا فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه، فأعدوا له إبلا وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر أمر بإبله فأتي بها، فلما تبين له أنه قد ثقل نزل من محبسه، فخرج حتى مضى إلى المكان الذي واعدهم فيه، فلم يجدهم جاءوا، فجزع اصحابه وضجروا، فقال لأصحابه: اترونني أرجع إلى السجن! لا والله لا أرجع إليه أبدا ثم إن الإبل جاءت، فاحتمل، فخرج ومعه عاتكه امراته ابنه الفرات ابن معاويه العامريه من بنى البكاء في شق المحمل، فمضى.
فلما جاز كتب إلى عمر بن عبد العزيز: أني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي، ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك، فقال عمر: اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شرا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره ومضى يزيد بن المهلب حتى مر بحدث الزقاق، وفيه الهذيل بن زفر معه قيس،
(6/564)
فأتبعوا يزيد بن المهلب حيث مر بهم، فأصابوا طرفا من ثقله وغلمة من وصفائه، فأرسل الهذيل بن زفر في آثارهم، فردهم فقال: ما تطلبون؟
أخبروني، أتطلبون يزيد بن المهلب أو أحدا من قومه بتبل؟ فقالوا: لا، قال: فما تريدون؟ إنما هو رجل كان في إسار، فخاف على نفسه فهرب.
وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر
. خبر وفاه عمر بن عبد العزيز
وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز، فحدثني أحمد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي عمر بن عبد العزيز لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة.
وكذلك قال مُحَمَّد بن عُمَرُ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمرو بن عثمان، قال: مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة.
وقال هشام عن أبي مخنف: مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لخمس بقين من رجب بدير سمعان في سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسه اشهر، ومات بدير سمعان.
حدثني الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمي الهيثم بن واقد، قال: ولدت سنة سبع وتسعين، واستخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فأصابني من قسمه ثلاثة دنانير، وتوفي بخناصرة يوم الأربعاء لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان شكوه عشرين يوما، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، ودفن بدير سمعان.
وقد قال بعضهم: كان له يوم توفي تسع وثلاثون سنة، وخمسة أشهر
(6/565)
وقال بعضهم: كان له أربعون سنة.
وقال هشام: توفي عمر وهو ابن أربعين سنة وأشهر، وكان يكنى أبا حفص وله يقول عويف القوافي، وقد حضره في جنازة شهدها معه:
أجبني أبا حفص لقيت مُحَمَّدا ... على حوضه مستبشرا وراكا
فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة ... شمالك خير من يمين سواكا
وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان يقال له: اشج بنى اميه، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته فقيل له: اشج بنى اميه.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا سُلَيْمَان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر، في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلا! وحدثت عن منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا مروان بن شجاع.
عن سالم الأفطس، أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتيت به أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضمته إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه، وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادما ولا حاضنا يحطه من مثل هذا! فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إذ كان أشج بني أمية!
ذكر بعض سيره
ذكر علي بن مُحَمَّد أن كليب بن خلف حدثهم عن إدريس بن حنظلة، والمفضل، عن جده وعلي بن مجاهد عن خالد: أن عمر بن عبد العزيز كتب حين ولي الخلافة إلى يزيد بن الهلب:
(6/566)
أما بعد، فإن سُلَيْمَان كان عبدا من عبيد الله أنعم الله عليه، ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك وقدر لي ليس علي بهين، ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقاد أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا، ومساله غليظه، اما ما عافى الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك.
فلما قدم الكتاب على يزيد بن المهلب، ألقاه إلى أبي عيينة، فلما قرأه قال: لست من عماله، قال: ولم؟ قال: ليس هذا كلام من مضى من أهل بيته، وليس يريد أن يسلك مسلكهم فدعا الناس إلى البيعة فبايعوا.
قال: ثم كتب عمر إلى يزيد استخلف على خراسان، وأقبل، فاستخلف ابنه مخلدا.
قال علي: وحدثنا علي بن مجاهد، عن عبد الأعلى بن منصور، عن ميمون بن مهران، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم أن العمل والعلم قريبان، فكن عالما بالله عاملا له، فإن أقواما علموا ولم يعلموا، فكان علمهم عليهم وبالا.
قال وأخبرنا مصعب بن حيان عن مقاتل بن حيان، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن.
أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين.
قال علي: أخبرنا كليب بن خلف، عن طفيل بن مرداس، قال: كتب عمر إلى سُلَيْمَان بن أبي السري، أن اعمل خانات في بلادك فمن مر بك من المسلمين فأقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعا به فقووه بما يصل به إلى بلده.
فلما أتاه كتاب عمر قال أهل سمرقند لسُلَيْمَان: إن قتيبة غد ربنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فائذن لنا فليفد منا وفد
(6/567)
إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة فأذن لهم، فوجهوا منهم قوما، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سُلَيْمَان ابن أبي السري:
أن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلما أصابهم وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة.
قال: فأجلس لهم سُلَيْمَان جميع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربا.
وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عندنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا.
قال: وكتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم قال: فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: اللهم إني قد قضيت الذي علي، فلا تغز بالمسلمين، فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم.
قال: وكتب إلى عقبة بن زرعة الطائي- وكان قد ولاه الخراج بعد القشيري.
إن للسلطان أركانا لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع انا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم، فإن يك كفافا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم قال: فقدم عقبة فوجد خراجهم يفضل عن أعطياتهم، فكتب إلى
(6/568)
عمر فأعلمه، فكتب إليه عمر: أن اقسم الفضل في أهل الحاجة.
وحدثني عبد اللَّه بْن أحمد بْن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ:
حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: سمعت عبد الله يقول عن محمد بن طلحه، عن داود ابن سُلَيْمَان الجعفي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز:
من عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد، سلام عليك، أما بعد، فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في احكام الله وسنه خبيثة استنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك، فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامرا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة ليس لها آيين ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان، ولا ثمن الصحف، ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت، ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري، فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب، حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد من الذرية ان يحج، فعجل له مائه يحج بها، والسلام.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الله، عن شهاب بن شريعة المجاشعي، قال:
ألحق عمر بن عبد العزيز ذراري الرجال الذين في العطايا أقرع بينهم، فمن
(6/569)
أصابته القرعة جعله في المائة، ومن لم تصبه القرعة جعله في الأربعين، وقسم في فقراء أهل البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم، فأعطى الزمني خمسين خمسين قال: وأراه رزق الفطم. حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الفضيل، عن عبد الله قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشام.
سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه، ومن علم أن الموت حق رضى باليسير، والسلام قال علي بن مُحَمَّد: وقال أبو مجلز لعمر: إنك وضعتنا بمنقطع التراب، فاحمل إلينا الأموال قال: يا أبا مجلز: قلبت الأمر، قال: يا أمير المؤمنين أهو لنا أم لك؟ قال: بل هو لكم إذا قصر خراجكم عن أعطياتكم، قال: فلا أنت تحمله إلينا، ولا نحمله إليك، وقد وضعت بعضه على بعض.
قال: أحمله إليكم إن شاء الله.
ومرض من ليلته فمات من مرضه وكانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرا.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي عمارة بن أكيمة الليثي، ويكنى أبا الوليد، وهو ابن تسع وسبعين.
زياده في سيره عمر بن عبد العزيز ليست من كتاب أبي جعفر إلى أول خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان
روى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، قال: حدثنا رجل في مسجد الجنابذ، أن عمر بن عبد العزيز خطب الناس بخناصرة، فقال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض ألا واعلموا
(6/570)
أنما الأمان غدا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدا بباق، وقليلا بكثير وخوفا بأمان ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين! وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب، فسكن التراب وواجه الحساب فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم، غني عما ترك.
فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه.
وما منكم من أحد تبلغنا عنه حاجة إلا أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا الا وددت انه سداى ولحمتي، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء وايم الله إن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش، لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته.
ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله.
روى خلف بن تميم، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سعد، قال:
بلغني أن عمر بن عبد العزيز مات ابن له، فكتب عامل له يعزيه عن ابنه، فقال لكاتبه: أجبه عني، قال: فأخذ الكاتب يبري القلم، قال: فقال للكاتب: أدق القلم، فإنه أبقى للقرطاس، وأوجز للحروف، واكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن هذا الأمر أمر قد كنا وطنا أنفسنا عليه، فلما نزل لم ننكره، والسلام.
روى منصور بن مزاحم، قال: حدثنا شعيب- يعني ابن صفوان- عن ابن عبد الحميد، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب
(6/571)
حقه، فاتقوا الله، فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها الرزق مقسوم فلن يغدر المؤمن ما قسم له، فأجملوا في الطلب، فإن في القنوع سعة وبلغة وكفافا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهنم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق، وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله! وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه ووجهه مفقود، وذكره منسي، وبابه مهجور، وكأن لم يخالط إخوان الحفاظ، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا تحقر فيه مثقال ذرة في الموازين.
روى سهل بن محمود، قال: حدثنا حرملة بن عبد العزيز، قال:
حدثني أبي، عن ابن لعمر بن عبد العزيز، قال: أمرنا عمر أن نشتري موضع قبره، فاشتريناه من الراهب، قال: فقال بعض الشعراء:
أقول لما نعى الناعون لي عمرا ... لا يبعدن قوام العدل والدين
قد غادر القوم باللحد الذي لحدوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين
روى عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه فأعاضه مما انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرا مما انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ.
» وقدم كتابه على عبد الرحمن بن نعيم:
لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه، ولا تحدثن كنيسة ولا بيت نار، ولا تجر الشاة إلى مذبحها، ولا تحدوا الشفرة على رأس الذبيحة، ولا تجمعوا بين الصلاتين إلا من عذر.
روى عفان بن مسلم، عن عثمان بن عبد الحميد، قال: حدثنا أبي،
(6/572)
قال: بلغنا أن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: اشتد علزه ليلة، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا امرت وصيفا له يقال له مرثد، فقلت له:
يا مرثد، كن عند أمير المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريبا منه ثم انطلقنا فضربنا برءوسنا لطول سهرنا، فلما انفتح النهار استيقظت فتوجهت إليه، فوجدت مرثدا خارجا من البيت نائما، فأيقظته فقلت: يا مرثد ما أخرجك؟
قال: هو أخرجني، قال: يا مرثد، اخرج عنى! فو الله إني لأرى شيئا ما هو بالإنس ولا جان، فخرجت فسمعته يتلو هذه الآية: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» ، قال: فدخلت عليه فوجدته قد وجه نفسه وأغمض عينيه.
وإنه لميت رحمه الله
(6/573)
خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان
وفيها ولي يزيد بن عبد الملك بن مروان، وكنيته أبو خالد، وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن مُحَمَّد، ولما ولي الخلافة نزع عن المدينة أبا بكر ابن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فقدمها- فيما زعم الواقدي- يوم الأربعاء لليال بقين من شهر رمضان فاستقضى عبد الرحمن سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وذكر مُحَمَّد بن عمر، أن عبد الجبار بن عمارة حدثه عن أبي بكر بن حزم، أنه قال: لما قدم عبد الرحمن بن الضحاك المدينة وعزلني، دخلت عليه، فسلمت فلم يقبل علي، فقلت: هذا شيء لا تملكه قريش للأنصار، فرجعت إلى منزلي وخفته- وكان شابا مقداما- فإذا هو يبلغني عنه أنه يقول:
ما يمنع ابن حزم أن يأتيني إلا الكبر، وإني لعالم بخيانته، فجاءني ما كنت أحذر وما أستيقن من كلامه، فقلت للذي جاءني بهذا: قل له: ما الخيانة لي بعادة، وما أحب أهلها، والأمير يحدث نفسه بالخلود في سلطانه، كم نزل هذه الدار من أمير وخليفة قبل الأمير فخرجوا منها وبقيت آثارهم أحاديث إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا! فاتق الله ولا تسمع قول ظالم او حاسد على نعمه.
فلم يزل الأمر يترقى بينهما، حتى خاصم إليه رجل من بني فهر وآخر من بني النجار- وكان أبو بكر قضى للنجاري على الفهري في أرض كانت بينهما نصفين، فدفع أبو بكر الأرض إلى النجاري- فأرسل الفهري إلى النجاري وإلى أبي بكر بن حزم، فأحضرهما ابن الضحاك، فتظلم الفهري من أبي بكر بن حزم، وقال: أخرج مالي من يدي، فدفعه إلى هذا النجاري، فقال أبو بكر:
اللهم غفرا! أما رأيتني سألت أياما في أمرك وأمر صاحبك، فاجتمع لي على إخراجها من يدك، وأرسلتك إلى من أفتاني بذلك: سعيد بن المسيب وابى بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألتهما؟ فقال الفهري: بلى،
(6/574)
وليس يلزمني قولهما فانكسر ابن الضحاك فقال: قوموا، فقاموا، فقال للفهري:
تقر له أنك سألت من أفتاه بهذا، ثم تقول ردها علي! أنت أرعن، اذهب فلا حق لك، فكان أبو بكر يتقيه ويخافه، حتى كلم ابن حيان يزيد أن يقيده من أبي بكر، فإنه ضربه حدين، فقال يزيد: لا افعل، رجل اصطنعه اهل بيتى، ولكنى أولئك المدينة قال: لا أريد ذلك، لو ضربته بسلطاني لم يكن لي قودا فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابا:
أما بعد، فانظر فيما ضرب ابن حزم ابن حيان، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وإن كان ضربه في أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه، فإن كان ضربه في أمر غير ذلك فأقده منه.
فقدم بالكتاب على عبد الرحمن بن الضحاك، فقال عبد الرحمن:
ما جئت بشيء، أترى ابن حزم ضربك في أمر لا يختلف فيه! فقال عثمان لعبد الرحمن: إن أردت أن تحسن أحسنت، قال: الآن أصبت المطلب، فأرسل عبد الرحمن إلى ابن حزم فضربه حدين في مقام واحد، ولم يسأله عن شيء، فرجع أبو المغراء بن حيان وهو يقول: أنا أبو المغراء بن الحيان، والله ما قربت النساء من يوم صنع بي ابن أبي حزم ما صنع حتى يومى هذا، واليوم اقرب النساء!.
مقتل شوذب الخارجي
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي.
ذكر الخبر عن مقتله:
قد ذكرنا قبل الخبر عما كان من مراسلة شوذب عمر بن عبد العزيز لمناظرته في خلافه عليه، فلما مات عمر أحب- فيما ذكر معمر بن المثنى- عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلى
(6/575)
مُحَمَّد بن جرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسولا شوذب، ولم يعلم بموت عمر، فلما رأوا مُحَمَّد بن جرير يستعد للحرب، أرسل إليه شوذب: ما أعجلك قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسولا شوذب! فأرسل إليهم مُحَمَّد: أنه لا يسعنا ترككم على هذه الحالة- قال غير أبي عبيدة: فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح قال معمر بن المثنى: فبرز لهم شوذب، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في اهل القبله القتل، وتولوا منهزمين، والخوارج في أعقابهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة، ولجئوا إلى عبد الحميد، وجرح مُحَمَّد بن جرير في استه، ورجع شوذب إلى موضع فأقام ينتظر صاحبيه، فجاءاه فأخبراه بما صادرا عليه عمر، وان قد مات فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه من قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فلجأ بعضهم إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه، وهزموا أصحابه، فوجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين، فراسلهم وراسلوه، فقتلوه، وقتل منهم نفرا فيهم هدبة اليشكري، ابن عم بسطام- وكان عابدا- وفيهم أبو شبيل مقاتل ابن شيبان- وكان فاضلا عندهم- فقال أبو ثعلبة أيوب بن خولي يرثيهم:
تركنا تميما في الغبار ملحبا ... تبكى عليه عرسه وقرائبه
وقد أسلمت قيس تميما ومالكا ... كما أسلم الشحاج أمس أقاربه
وأقبل من حران يحمل راية ... يغالب أمر الله والله غالبه
فيا هدب للهيجا، ويا هدب للندى، ... ويا هدب للخصم الألد يحاربه!
ويا هدب كم من ملحم قد اجنته ... وقد أسلمته للرماح جوالبه
(6/576)
وكان أبو شيبان خير مقاتل ... يرجى ويخشى بأسه من يحاربه
ففاز ولاقى الله بالخير كله ... وخذمه بالسيف في الله ضاربه
تزود من دنياه درعا ومغفرا ... وعضبا حساما لم تخنه مضاربه
واجرد محبوك السراة كأنه ... إذا انقض وافي الريش حجن مخالبه
فلما دخل مسلمة الكوفة شكا إليه أهلها مكان شوذب، وخوفهم منه وما قد قتل منهم، فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي- وكان فارسا- فعقد له على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به، فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة، فكسروا أغماد السيوف وحملوا، فكشفوا سعيدا وأصحابه مرارا، حتى خاف الفضيحة فذمر أصحابه، وقال لهم: أمن هذه الشرذمة لا أبا لكم تفرون! يا أهل الشام يوما كأيامكم! قال: فحملوا عليهم، فطحنوهم طحنا لم يبقوا منهم أحدا، وقتلوا بسطاما وهو شوذب وفرسانه، منهم الريان بن عبد الله اليشكري، وكان من المخبتين، فقال أخوه شمر بن عبد الله يرثيه:
ولقد فجعت بسادة وفوارس ... للحرب سعر من بنى شيبان
اعتاقهم ريب الرمان فغالهم ... وتركت فردا غير ذي اخوان
كمدا تجلجل في فؤادي حسرة ... كالنار من وجد على الريان
وفوارس باعوا الإله نفوسهم ... من يشكر عند الوغى فرسان
وقال حسان بن جعدة يرثيهم:
يا عين أذري دموعا منك تسجاما ... وابكي صحابة بسطام وبسطاما
فلن تري أبدا ما عشت مثلهمُ ... أتقى وأكمل في الأحلام أحلاما
(6/577)
بسيهم قد تأسوا عند شدتهم ... ولم يريدوا عن الأعداء إحجاما
حتى مضوا للذي كانوا له خرجوا ... فأورثونا منارات وأعلاما
إني لأعلم أن قد أنزلوا غرفا ... من الجنان ونالوا ثم خداما
أسقى الإله بلادا كان مصرعهم ... فيها سحابا من الوسمي سجاما.
خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة:
قد مضى ذكرى خبر هرب يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة- أعني سنة إحدى ومائة.
ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلبه ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته.
فذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال أصحابه: لا بل امض بنا ودعه وأقبل يسير حتى ارتفع فوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن مخرمة بن عبد العزيز بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عُبْدُودِ بْنِ
(6/578)
نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب فمشى هشام قليلا، ثم رجع إلى عبد الحميد فقال:
آجيئك به أسيرا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر:
وسار ابن المهلب لم يعرج ... وعرس ذو القطيفة من كنانه
وياسر والتياسر كان حزما ... ولم يقرب قصور القطقطانه
ذو القطيفة هو مُحَمَّد بن عمرو، وهو أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أبو قطيفة، وإنما سمي ذا القطيفة، لأنه كان كثير شعر اللحية والوجه والصدر ومُحَمَّد يقال له ذو الشامة.
فلما جاء يزيد بن المهلب انصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد، ومضى يزيد إلى البصرة، وقد جمع عدي بن أرطاة إليه أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي وكان عدي بن أرطاة رجلا من بني فزارة وقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطاة: خذ ابني حميدا فاحبسه مكاني، وأنا أضمن لك أن أرد يزيد عن البصرة حتى يأتي فارس، ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك فأبى عليه، وجاء يزيد ومعه أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع مُحَمَّد بن المهلب- ولم يكن ممن حبس- رجالا وفتية من أهل بيته وناسا من مواليه، فخرج حتى استقبله، فأقبل في كتيبة تهول من رآها، وقد دعا عدي أهل البصرة، فبعث على كل خمس من أخماسها رجلا، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي، وبعث على خمس بني تميم محرز بن حمران السعدي من بني منقر، وعلى خمس بكر بن وائل عمران بن عامر
(6/579)
ابن مسمع من بني قيس بن ثعلبة فقال أبو منقر، - رجل من قيس بن ثعلبة-:
إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي نوح بن شيبان ابن مالك بن مسمع، فعقد له على بكر بن وائل، ودعا مالك بن المنذر بن الجارود، فعقد له على عبد القيس، ودعا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، فعقد له على أهل العالية- والعالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة- وأهل العالية بالكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة وبالبصرة خمس أهل العالية، وكانوا بالكوفة أخماسا، فجعلهم زياد بن عبيد أرباعا.
قال هشام عن أبي مخنف: وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن السبيل حتى يمضي، واستقبله المغيرة ابن عبد الله الثقفي في الخيل، فحمل عليه مُحَمَّد بن المهلب في الخيل، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، وأخذ يبعث إلى عدي بن أرطاة أن ادفع إلي إخوتي وأنا أصالحك على البصرة، وأخليك وإياها حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك، فلم يقبل منه، وخرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه من الناس، فكان يقطع لهم قطع الذهب وقطع الفضة، فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن عامر بن مسمع ساخطا على عدي بن أرطاة حين نزع منه رايته، راية بكر بن وائل، وأعطاها ابن عمه، ومالت إلى يزيد ربيعة وبقية تميم وقيس وناس بعد ناس، فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع ومعه ناس من أهل الشام، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين، ويقول:
(6/580)
لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهما إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتى يأتي الأمر في ذلك، فقال الفرزدق في ذلك:
أظن رجال الدرهمين يسوقهم ... إلى الموت آجال لهم ومصارع
فأحزمهم من كان في قعر بيته ... وأيقن أن الأمر لا شك واقع
وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد، فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس، فحمل عليهم فهزمهم، فقال الفرزدق في ذلك:
تفرقت الحمراء إذ صاح دارس ... ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم
جزى الله قيسا عن عدي ملامة ... ألا صبروا حتى تكون ملاحم
وخرج يزيد بن المهلب حين اجتمع له الناس، حتى نزل جبانة بني يشكر- وهو المنصف فيما بينه وبين القصر- وجاءته بنو تميم وقيس وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم مُحَمَّد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحبطي بالسيف فقطع أنف البيضة، ثم أسرع السيف إلى أنفه، وحمل على هريم بن أبي طلحة بن أبي نهشل بن دارم، فأخذ بمنطقته، فحذفه عن فرسه، فوقع فيما بينه وبين الفرس، وقال: هيهات هيهات! عمك أثقل من ذلك وانهزموا وأقبل يزيد بن المهلب إثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر،
(6/581)
فقاتلوهم وخرج إليه عدي بنفسه فقتل من أصحابه الحارث بن مصرف الأودي- وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج- وقتل موسى بن الوجيه الحميري ثم الكلاعي، وقتل راشد المؤذن، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو، والنشاب تقع في القصر، فقال لهم عبد الملك إني أرى النشاب تقع في القصر، وأرى الأصوات تدنو، ولا أرى يزيد إلا قد ظهر، وإني لا آمن من مع عدي من مضر ومن أهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم ألقوا عليه ثيابا ففعلوا فلم يلبثوا إلا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى ابن عمر، وكان على حرس عدي- فجاء يشتد إلى الباب هو وأصحابه، وقد وضع بنو المهلب متاعا على الباب، ثم اتكوا عليه، فأخذ الآخرون يعالجون الباب، فلم يستطيعوا الدخول، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم.
وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دار سلم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتي بالسلاليم، فلم يلبث عثمان أن فتح القصر، واتى بعدي ابن أرطاة، فجيء به وهو يتبسم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فو الله إنه لينبغي أن يمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما الفرار من القتلة الكريمة حتى أعطيت بيدك إعطاء المرأة بيدها، فهذه واحدة، والأخرى إني أتيت بك تتل كما يتل العبد الآبق إلى أربابه، وليس معك مني عهد ولا عقد، فما يؤمنك أن أضرب عنقك! فقال عدي: أما أنت فقد قدرت علي، ولكني أعلم أن بقائي بقاؤك، وأن هلاكي مطلوب به من جرته يده، إنك قد رأيت جنود الله بالمغرب، وعلمت بلاء الله عندهم في كل موطن من مواطن الغدر والنكث، فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فإن طلبت الاستقالة حينئذ لم تقل، وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين، وما لم يشخص القوم إليك فلم
(6/582)
يمنعوك شيئا طلبت فيه الأمان على نفسك وأهلك ومالك.
فقال له يزيد: أما قولك: إن بقاءك بقائي، فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور إن كنت لا يبقيني إلا بقاؤك، وأما قولك: إن هلاكك مطلوب به من جرته يده، فو الله لو كان في يدي من أهل الشام عشرة آلاف إنسان ليس فيهم رجل إلا أعظم منزلة منك فيهم، ثم ضربت أعناقهم في صعيد واحد، لكان فراقي إياهم وخلافي عليهم أهول عندهم وأعظم في صدورهم من قتل أولئك، ثم لو شئت أن تهدر لي دماؤهم، وأن أحكم في بيوت أموالهم، وأن يجوزوا لي عظيما من سلطانهم، على أن أضع الحرب فيما بيني وبينهم لفعلوا، فلا يخفين عليك أن القوم ناسوك لو قد وقعت أخيارنا إليهم، وأن أعمالهم وكيدهم لا يكون إلا لأنفسهم، لا يذكرونك ولا يحلفون بك وأما قولك: تدارك أمرك واستقله وافعل وافعل، فو الله ما استشرتك، ولا أنت عندي بواد ولا نصيح، فما كان ذلك منك إلا عجزا وفضلا، انطلقوا به، فلما ذهبوا به ساعة قال: ردوه، فلما رد قال: أما إن حبسي إياك ليس إلا لحبسك بني المهلب وتضييقك عليهم فيما كنا نسألك التسهيل فيه عليهم، فلم تكن تألو ما عسرت وضيقت وخالفت، فكأنه لهذا القول حين سمعه أمن على نفسه، وأخذ عدي يحدث به كل من دخل عليه.
وكان رجل يقال له السميدع الكندي من بني مالك بن ربيعة من ساكني عمان يرى رأي الخوارج، وكان خرج وأصحاب يزيد وأصحاب عدي مصطفون فاعتزل ومعه ناس من القراء، فقال طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السميدع ثم إن يزيد بعث إلى السميدع فدعاه إلى نفسه، فأجابه، فاستعملوا يزيد على الأبلة، فأقبل على الطيب والتخلق والنعيم، فلما ظهر يزيد بن المهلب هرب رءوس أهل البصرة من قيس وتميم ومالك بن المنذر، فلحقوا بعبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، فقال الفرزدق:
(6/583)
فداء لقوم من تميم تتابعوا ... إلى الشام لم يرضوا بحكم السميدع
أحكم حروري من الدين مارق ... أضل وأغوى من حمار مجدع
فأجابه خليفة الأقطع:
وما وجهوها نحوه عن وفادة ... ولا نهزة يرجى بها خير مطمع
ولكنهم راحوا إليها وأدلجوا ... بأقرع أستاه ترى يوم مقرع
وهم من حذار القوم أن يلحقوا بهم ... لهم نزلة في كل خمس وأربع
وخرج الحواري بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربا من يزيد بن المهلب، فلقي خالد بن عبد الله القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد بن المهلب، وكل شيء اراده فاستقبلهما، فسألاه عن الخبر، فخلا بهما حين راى معهما حميد بن عبد الملك، فقال: أين تريدان؟
فقالا: يزيد بن المهلب، قد جئناه بكل شيء أراده، فقال: ما تصنعان بيزيد شيئا، ولا يصنعه بكما، قد ظهر على عدوه عدي بن أرطاة، وقتل القتلى وحبس عديا، فارجعا أيها الرجلان ويمر رجل من باهلة يقال له مسلم بن عبد الملك، فلم يقف عليهما، فصايحاه وساءلاه، فلم يقف عليهما، فقال القسري: ألا ترده فتجلده مائة جلدة! فقال له صاحبه: عز به عنك، وامليا لينصرف.
ومضى الحواري بن زياد إلى يزيد بن عبد الملك، وأقبلا بحميد بن عبد الملك معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخالفا أمر يزيد ما بعثتما به! فإن يزيد قابل منكما، وإن هذا وأهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فأنشدكما الله أن تقبلا مقالته، فلم يقبلا قوله، وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وقد كان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملا عليها فلما بلغه خلع يزيد بن عبد الملك كتب إليه: أن جهاد من خالفك أحب إلي
(6/584)
من عملي على خراسان، فلا حاجة لي فيها، فاجعلني ممن توجهني إلى يزيد بن المهلب، وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بن الخطاب على خالد بن يزيد بن المهلب، وهو بالكوفة وعلى حمال بن زحر الجعفي، وليسا ممن كان ينطق بشيء إلا أنهم عرفوا ما كان بينه وبين بني المهلب، فأوثقهما وسرحهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعا، فلم يفارقوا السجن حتى هلكوا فيه وبعث يزيد بن عبد الملك رجالا من أهل الشام إلى الكوفة يسكنونهم، ويثنون عليهم بطاعتهم، ويمنونهم الزيادات منهم القطامي بن الحصين، وهو أبو الشرقي، واسم الشرقي الوليد، وقد قال القطامي حين بلغه ما كان من يزيد بن المهلب:
لعل عيني أن ترى يزيدا ... يقود جيشا جحفلا شديدا
تسمع للأرض به وئيدا ... لا برما هدا ولا حسودا
ولا جبانا في الوغى رعديدا ... ترى ذوي التاج له سجودا
مكفرين خاشعين قودا ... وآخرين رحبوا وفودا
لا ينقض العهد ولا المعهودا ... من نفر كانوا هجانا صيدا
ترى لهم في كل يوم عيدا ... من الأعادي جزرا مقصودا
ثم إن القطامي سار بعد ذلك إلى العقر حتى شهد قتال يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك، فقال يزيد بن المهلب: ما أبعد شعر القطامي من فعله! ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد في أربعة آلاف فارس، جريدة خيل، حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلب، ثم أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك وجنود أهل الشام، وأخذ على الجزيرة وعلى شاطئ الفرات، فاستوثق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، عليها الجراح بن عبد الملك الحكمي حتى انصرف إلى عمر بن
(6/585)
عبد العزيز، وعبد الرحمن بن نعيم الأزدي فكان على الصلاة واستخلف يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن القشيري على الخراج، وجاء مدرك بن المهلب حتى انتهى إلى رأس المفازة، فدس عبد الرحمن بن نعيم إلى بني تميم أن هذا مدرك بن المهلب يريد أن يلقي بينكم الحرب، وأنتم في بلاد عافية وطاعة وعلى جماعة، فخرجوا ليلا يستقبلونه، وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو من ألفي فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة، فقالوا لهم: ما جاء بكم؟
وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ فاعتلوا عليهم بأشياء، ولم يقروا لهم أنهم خرجوا ليتلفوا مدرك بن المهلب، فكان لهم الآخرون، بل قد علمنا أن تخرجوا لتلقى صاحبنا، وها هو ذا قريب، فما شئتم ثم انطلقت الأزد حتى تلقوا مدرك بن المهلب على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا، وأعزهم علينا، وقد خرج أخوك ونابذه، فإن يظهره الله فإنما ذلك لنا، ونحن أسرع الناس إليكم أهل البيت واحقه بذلك، وان تكن الاخرى فو الله مالك في أن يغشانا ما يعرنا فيه من البلاء راحة فعزم له رأيه على الانصراف، فقال ثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب، من الأزد من العتيك:
ألم تر دوسرا منعت أخاها ... وقد حشدت لتقتله تميم
رأوا من دونه الزرق العوالي ... وحيا ما يباح لهم حريم
شنوءتها وعمران بن حزم ... هناك المجد والحسب الصميم
فما حملوا ولكن نهنهتهم ... رماح الأزد والعز القديم
رددنا مدركا بمرد صدق ... ليس بوجهه منكم كلوم
وخيل كالقداح مسومات ... لدى أرض مغانيها الجميم
عليها كل أصيد دوسري ... عزيز لا يفر ولا يريم
بهم تستعتب السفهاء حتى ... ترى السفهاء تردعها الحلوم
(6/586)
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني معاذ بن سعد أن يزيد لما استجمع له البصرة، قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنه نبيه محمد ص، ويحث على الجهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك والديلم.
قال: فدخلت أنا والحسن البصري وهو واضع يده على عاتقي، وهو يقول: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ قلت: لا والله، ما أرى وجه رجل أعرفه، قال: فهؤلاء والله الغثاء، قال: فمضينا حتى دنونا من المنبر قال:
فسمعته يذكر كتاب الله وسنه نبيه ص، ثم رفع صوته، فقال: والله لقد رأيناك واليا ومولى عليك، فما ينبغي لك ذلك قال: فوثبنا عليه، فأخذنا بيده وفمه واجلسناه، فو الله ما نشك أنه سمعه، ولكنه لم يلتفت إليه ومضى في خطبته.
قال: ثم إنا خرجنا إلى باب المسجد، فإذا على باب المسجد النضر بن انس ابن مالك يقول: يا عباد الله، ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه ص! فو الله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن: سبحان الله! وهذا النضر بن أنس قد شهد أيضا.
قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني المثنى بن عبد الله أن الحسن البصري مر على الناس وقد اصطفوا صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح، وهم ينتظرون خروج يزيد، وهم يقولون: يدعونا يزيد إلى سنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم فلما غضب غضبة نصب قصبا، ثم وضع عليها خرقا، ثم قال: إني قد خالفتهم فخالفوهم قال هؤلاء:
نعم وقال: إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه، فقال له ناس من اصحابه
(6/587)
ممن سمع قوله: والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام قبحهم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله ص، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال! قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة.
ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار! قال: ثم إن يزيد خرج من البصرة، واستعمل عليها مروان بن المهلب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، فأقبل حتى نزل واسطا، وقد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال: هاتوا الرأي، فإن أهل الشام قد نهضوا إليكم، فقال له حبيب، وقد أشار عليه غير حبيب أيضا فقالوا: نرى أن تخرج وتنزل بفارس، فتأخذ بالشعاب وبالعقاب، وتدنو من خراسان، وتطاول القوم، فإن أهل الجبال ينقضون إليك وفي يديك القلاع والحصون فقال:
ليس هذا برأيي، ليس يوافقني هذا، إنما تريدون أن تجعلوني طائرا على رأس جبل فقال له حبيب: فإن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلا عليها أهل بيتك حتى ترد الكوفة، فإنما هو عبد الحميد بن عبد الرحمن، مررت به في سبعين رجلا فعجز عنك، فهو عن خيلك أعجز في العدة، فنسبق إليها أهل الشام وعظماء أهلها يرون رأيك، وأن تلي عليهم أحب إلى جلهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير الآن برأي، سرح مع أهل بيتك خيلا من خيلك عظيمة فتأتي الجزيرة، وتبادر إليها حتى ينزلوا حصنا من حصونها، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندا من جنودك بالجزيرة، ويقبلون إليك فيقيمون عليهم، فكأنهم حابستهم عليك حتى تأتيهم فيأتيك من بالموصل من قومك، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور، وتقاتلهم في ارض رفيغه السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك،
(6/588)
فقال: إني أكره أن أقطع جيشي وجندي فلما نزل واسطا أقام بها أياما يسيرة.
قال أبو جعفر: وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك ابن قيس الفهري، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ محمد بن عمر.
وكان عبد الرحمن عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان على الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها يزيد ابن المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم.
(6/589)
ثم دخلت
سنة اثنتين ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان فيها من مسير العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمه ابن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب بتوجيه يزيد بن عبد الملك إياهما لحربه.
وفيها قتل يزيد بن المهلب، في صفر.
ذكر الخبر عن مقتل يزيد بن المهلب
ذكر هشام، عن أبي مخنف: أن معاذ بن سعيد حدثه أن يزيد بن المهلب استخلف على واسط حين أراد الشخوص عنها للقاء مسلمة بن عبد الملك والعباس ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتى مر بفم النيل، ثم سار حتى نزل العقر وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار، ثم عقد عليها الجسر، فعبر من قبل قرية يقال لها فارط، ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلب، وقد قدم يزيد أخاه نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد بسورا، فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد عليهم أهل البصرة شدة كشفوهم فيها، وقد كان معهم ناس من بني تميم وقيس ممن انهزم من يزيد من البصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العباس، فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعي فلما انكشف أهل الشام تلك الانكشافة، ناداهم هريم بن أبي طحمة: يا أهل الشام، الله الله أن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر فأخذوا ينادونه: لا بأس عليك، إن لأهل الشام جولة في أول القتال، أتاك الغوث
(6/590)
قال: ثم إن أهل الشام كروا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا، وقتل المنتوف من بكر بن وائل، مولى لهم، فقال الفرزدق يحرض بكر بن وائل:
تبكي على المنتوف بكر بن وائل ... وتنهى عن ابني مسمع من بكاهما
غلامين شبا في الحروب وأدركا ... كرام المساعي قبل وصل لحاهما
ولو كان حيا مالك وابن مالك ... إذا أوقدوا نارين يعلو سناهما
وابنا مسمع: مالك وعبد الملك ابنا مسمع، قتلهم معاوية بن يزيد بن المهلب فأجابه الجعد بن درهم مولى من همدان:
نبكي على المنتوف في نصر قومه ... ولسنا نبكي الشائدين أباهما
أراد فناء الحي بكر بن وائل ... فعز تميم لو أصيب فناهما
فلا لقيا روحا من الله ساعة ... ولا رقأت عينا شجي بكاهما
أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما ... وقد لقيا بالغش فينا رداهما
وجاء عبد الملك بن المهلب حتى انتهى إلى أخيه بالعقر، وأمر عبد الله ابن حيان العبدي، فعبر إلى جانب الصراة الأقصى- وكان الجسر بينه وبينه- ونزل هو وعسكره وجمع من جموع يزيد، وخندق عليه، وقطع مسلمة إليهم الماء وسعيد بن عمرو الحرشي، ويقال: عبر إليهم الوضاح، فكانوا بإزائهم.
وسقط إلى يزيد ناس من الكوفة كثير، ومن الجبال، وأقبل إليه ناس من الثغور، فبعث على أرباع أهل الكوفة الذين خرجوا إليه وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وبعث على ربع مذحج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، وبعث على ربع كندة وربيعة محمد
(6/591)
ابن إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث، وبعث على ربع تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعا مع المفضل بن المهلب.
قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف: حدثني العلاء بن زهير، قال:
والله إنا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: ترون أن في هذا العسكر ألف سيف يضرب به؟ قال حنظلة بن عتاب: إي والله وأربعة آلاف سيف، قال: إنهم والله ما ضربوا الف سيف قط، والله لقد أحصى ديواني مائة وعشرين ألفا، والله لوددت أن مكانهم الساعة معي من بخراسان من قومي.
قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إنه قام ذات يوم فحرضنا ورغبنا في القتال ثم قال لنا فيما يقوله: إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة بن عبد الملك- وعاقر ناقة ثمود، يعنى العباس ابن الوليد، وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية- والله لقد كان سُلَيْمَان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه، فبلغني أنه ليس همهما إلا التماسي في الارض، والله لو جاء اهل الأرض جميعا وليس إلا أنا، ما برحت العرصة حتى تكون لي أو لهم قالوا: نخاف أن تعنينا كما عنانا عبد الرحمن ابن مُحَمَّد، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار، وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله! ثم نزل.
قال: ودخل علينا عامر بن العميثل- رجل من الأزد- قد جمع جموعا فأتاه فبايعه، فكانت بيعة يزيد: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه ص، وعلى الا تطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا يعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، فمن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبى جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه، ثم يقول: تبايعونا؟ فإذا قالوا: نعم، بايعهم.
وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة، وبعث إلى المياه فبثقها فيما بين الكوفة وبين يزيد بن المهلب، لئلا يصل إلى الكوفة، ووضع على الكوفة مناظر وأرصادا لتحبس أهل الكوفة عن الخروج إلى يزيد، وبعث
(6/592)
عبد الحميد بعثا من الكوفة عليهم سيف بن هانئ الهمداني حتى قدموا على مسلمة، فألطفهم مسلمة، وأثنى عليهم بطاعتهم، ثم قال: والله لقل ما جاءنا من أهل الكوفة فبلغ ذلك عبد الحميد، فبعث بعثا هم أكثر من ذلك، وبعث عليهم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، فلما قدم أثنى عليه، وقال:
هذا رجل لأهل بيته طاعه وبلاء، ضموا اليه من كان هاهنا من أهل الكوفة.
وبعث مسلمة إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن فعزله، وبعث مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد بن عقبة- وهو ذو الشامة- مكانه فدعا يزيد بن المهلب رءوس أصحابه فقال لهم: قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألف رجل، فأبعثهم مع محمد ابن المهلب حتى يبيتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع والأكف والزبل لدفن خندقهم، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقية ليلتهم، وأمده بالرجال حتى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس، فنناجزهم، فانى أرجو عند ذلك ان ينصرنا الله عليهم قال السميدع: إنا قد دعوناهم الى كتاب الله وسنه نبيه محمد ص، وقد زعموا انهم قابلوا هذا منا، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر، ولا نريدهم بسوء حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا قال أبو رؤبة- وكان رأس طائفة من المرجئة، ومعه أصحاب له:
صدق، هكذا ينبغي قال يزيد: ويحكم! أتصدقون بني أمية! إنهم يعملون بالكتاب والسنة، وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا، إنهم يقولوا لكم: إنا نقبل منكم، وهم يريدون الا يعملوا بسلطانهم إلا ما تأمرونهم به، وتدعونهم إليه، لكنهم أرادوا أن يكفوكم عنهم، حتى يعملوا في المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، ابدءوهم بها، انى قد لقيت بنى مروان فو الله ما لقيت رجلا هو أمكر ولا أبعد غورا من هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة- قالوا: لا نرى أن نفعل ذلك، حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا.
وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرح الناس إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد ابن المهلب
(6/593)
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الحميد البصري، أن الحسن البصري كان يقول في تلك الأيام:
أيها الناس، الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضا على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم تكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقي، فمن كان منكم خفيا فليلزم الحق، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفا، وكفى له بها من الدنيا خلفا، ومن كان منكم معروفا شريفا، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك، فواها لهذا! ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله! فهذا غدا- يعني يوم القيامة- القرير عينا، الكريم عند الله مآبا.
فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب قام خطيبا كما يقوم، فأمر الناس بالجد والاحتشاد، ثم قال لهم:
لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي- ولم يسمه- يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه، أينكر علينا وعلى اهل مصرنا ان نطلب حقنا، وأن ننكر مظلمتنا! أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة- قوما ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا- أو لأنحين عليه مبردا خشنا.
فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: فقد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه! آمركم ألا يقتل بعضكم بعضا مع غيري، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضا دوني! فبلغ ذلك مروان بن المهلب، فاشتد عليهم وأخافهم وطلبهم حتى تفرقوا ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكف عنه مروان بن المهلب
(6/594)
وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ أجمع وهو ومسلمة ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر، بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالوضاحية والسفن حتى يحرق الجسر، ففعل وخرج مسلمة فعبى جنود أهل الشام، ثم ازدلف بهم نحو يزيد بن المهلب، وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وجعل على ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث العامري، وجعل العباس على ميمنته سيف بن هانئ الهمداني، وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي ومسلمة على الناس، وخرج يزيد بن المهلب، وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل بن المهلب، وكان مع المفضل أهل الكوفة وهو عليهم، ومعه خيل لربيعة معها عدد حسن، وكان مما يلي العباس بن الوليد.
قال أبو مخنف: فحدثني الغنوي- قال هشام: وأظن الغنوي العلاء ابن المنهال- إن رجلا من الشام خرج فدعا إِلَى المبارزة، فلم يخرج إِلَيْهِ أحد، فبرز له مُحَمَّد بن المهلب، فحمل عليه، فاتقاه الرجل بيده، وعلى كفه كف من حديد، فضربه مُحَمَّد فقطع كف الحديد وأسرع السيف في كفه، واعتنق فرسه، وأقبل مُحَمَّد يضربه، ويقول: المنجل أعود عليك قال: فذكر لي أنه حيان النبطي قال: فلما دنا الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه، وقد اقتتل الناس ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان، وقيل لهم: أحرق الجسر انهزموا، فقالوا ليزيد: قد انهزم الناس.
قال: ومم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله! فقيل له: قالوا:
أحرق الجسر فلم يثبت أحد، قال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه، فقال:
اضربوا وجوه من ينهزم، ففعلوا ذلك بهم، حتى كثروا عليه، فاستقبلهم منهم مثل الجبال، فقال: دعوهم، فو الله انى لأرجو الا يجمعني الله وإياهم في مكان واحد أبدا، دعوهم يرحمهم الله، غنم عدا في نواحيها الذئب، وكان
(6/595)
يزيد لا يحدث نفسه بالفرار، وقد كان يزيد بن الحكم بن أبي العاص- وأمه ابنه الزبرقان السعدي- أتاه وهو بواسطه قبل ان يصل الى العقر، فقال:
ان بني مروان قد باد ملكهم ... فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر
قال يزيد: ما شعرت قال: فقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي:
فعش ملكا أو مت كريما وان تمت ... وسيفك مشهور بكفك تعذر
قال: أما هذا فعسى:
ولما خرج يزيد إلى أصحابه واستقبلته الهزيمة، فقال: يا سميدع، أرأيي أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم! قال: بلى والله، والرأي كان رأيك، انا ذا معك لا أزايلك، فمرني بأمرك، قال: إما لا فانزل، فنزل في أصحابه، وجاء يزيد بن المهلب جاء فقال: إن حبيبا قد قتل.
قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير بن سلمة الأزدي، قال: أشهد أني أسمعه حين قال له ذلك، قال: لا خير في العيش بعد حبيب! قد كنت والله أبغض الحياه بعد الهزيمة، فو الله ما ازددت له إلا بغضا، امضوا قدما فعلمنا والله أن قد استقتل، فأخذ من يكره القتال ينكص، وأخذوا يتسللون، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن اصحابه، جاء ابو رؤبه المرجى، فقال: ذهب الناس- وهو يشير بذلك إليه وأنا أسمعه- فقال: هل لك أن تنصرف إلى واسط، فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة، ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن، وتضرب خندقا؟
فقال له: قبح الله رأيك! ألي تقول هذا! الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فإني أتخوف عليك لما ترى، أما ترى ما حولك من جبال الحديد! وهو يشير إليه، فقال له: أما أنا فما أباليها، جبال حديد كانت أم جبال نار، اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالا معنا قال: وتمثل قول حارثة بن بدر الغداني- قال أبو جعفر أخطأ هذا، هو للأعشى-:
(6/596)
أبالموت خشّتني عباد وإنما ... رأيت منايا الناس يشقى ذليلها
فما مِيتَةٌ إِنْ مِتُّهَا غَيْرُ عَاجِزٍ ... بِعَارٍ إِذَا ما غالت النفس غولها
وكان يزيد بن المهلب على برذون له أشهب، فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره، حتى إذا دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام، وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه السميدع، وقتل معه مُحَمَّد بن المهلب وكان رجل من كلب من بني جابر بن زهير بن جناب الكلبي يقال له القحل بن عياش لما نظر إلى يزيد قال: يا أهل الشام، هذا والله يزيد، والله لأقتلنه أو ليقتلني، وإن دونه ناسا، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فقال له ناس من أصحابه: نحمل نحن معك، ففعلوا، فحملوا بأجمعهم، واضطربوا ساعة، وسطع الغبار، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا، وعن القحل بن عياش بآخر رمق فأومى إلى أصحابه يريهم مكان يزيد، يقول لهم: أنا قتلته، ويومي إلى نفسه أنه هو قتلني ومر مسلمة على القحل بن عياش صريعا إلى جنب يزيد، فقال: أما إني أظن هذا هو الذي قتلني وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته؟
فقال: لا، فلما أتى به مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقال له الحواري بن زياد ابن عمرو العتكي: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به، فعرفه، فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير، قال: لقد قتل يزيد وهزم الناس، وإن المفضل بن المهلب ليقاتل أهل الشام ما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس، وإنه لعلى برذون شديد قريب من الأرض، وإن معه لمجففة أمامه، فكلما حمل عليها نكصت وانكشفت وانكشف، فيحمل في ناس من أصحابه حتى يخالط القوم ثم يرجع حتى يكون من وراء أصحابه، وكان لا يرى منا ملتفتا إلا أشار إليه بيده ألا يلتفت ليقبل القوم بوجوههم على عدوهم، ولا يكون لهم هم غيرهم
(6/597)
قال: ثم اقتتلنا ساعة، فكأني أنظر إلى عامر بن العميثل الأزدي وهو يضرب بسيفه، ويقول:
قد علمت أم الصبي المولود ... أني بنصل السيف غير رعديد
قال: واضطربنا والله ساعة، فانكشفت خيل ربيعة، والله ما رأيت عند أهل الكوفة من كبير صبر ولا قتال، فاستقبل ربيعة بالسيف يناديهم: أي معشر ربيعة، الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولالئام، ولا هذه لكم بعادة، فلا يؤتين أهل العراق اليوم من قبلكم أي ربيعة، فدتكم نفسي، اصبروا ساعة من النهار.
قال: فاجتمعوا حوله، وثابوا إليه، وجاءت كويفتك.
قال: فاجتمعنا ونحن نريد الكرة عليهم، حتى أتى، فقيل له:
ما تصنع هاهنا وقد قتل يزيد وحبيب ومُحَمَّد، وانهزم الناس منذ طويل؟
وأخبر الناس بعضهم بعضا، فتفرقوا ومضى المفضل، فأخذ الطريق إلى واسط، فما رأيت رجلا من العرب مثل منزلته كان أغشى للناس بنفسه، ولا أضرب بسيفه، ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه.
قال أبو مخنف: فقال لي ثابت مولى زهير: مررت بالخندق، فإذا عليه حائط، عليه رجال معهم النبل، وأنا مجفف، وهم يقولون: يا صاحب التجفاف، أين تذهب؟ قال: فما كان شيء أثقل علي من تجفافي، قال: فما هو إلا أن جزتهم، فنزلت فألقيته لأخفف عن دابتي وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد بن المهلب، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعة من النهار حتى ذهب عظمهم، وأسر أهل الشام نحوا من ثلاثمائه رجل، فسرحهم مسلمة إلى مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد فحبسهم وكان على شرطه العريان بن الهيثم وجاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى مُحَمَّد بن عمرو:
أن اضرب رقاب الأسراء فقال للعريان بن الهيثم: أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين قال: فقام نحو من ثلاثين رجلا من بني تميم، فقالوا:
(6/598)
نحن انهزمنا بالناس، فاتقوا الله وابدءوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فقال لهم العريان: اخرجوا على اسم الله، فأخرجهم إلى المصطبة، وأرسل إلى مُحَمَّد بن عمرو يخبره بإخراجهم ومقالتهم، فبعث إليه أن اضرب أعناقهم.
قال أبو مخنف: فحدثني نجيح أبو عبد الله مولى زهير، قال: والله انى لانظر اليهم يقولون: إنا لله! انهزمنا بالناس، وهذا جزاؤنا، فما هو إلا أن فرغ منهم، حتى جاء رسول من عند مسلمة فيه عافية الأسراء والنهي عن قتلهم، فقال حاجب بن ذبيان من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم:
لعمري لقد خاضت معيط دماءنا ... بأسيافها حتى انتهى بهم الوحل
وما حمل الأقوام أعظم من دم ... حرام ولا ذحل إذا التمس الذحل
حقنتم دماء المصلتين عليكمُ ... وجر على فرسان شيعتك القتل
وقى بهمُ العريان فرسان قومه ... فيا عجبا أين الأمانة والعدل!
وكان العريان يقول: والله ما اعتمدتهم ولا أردتهم حتى قالوا: ابد بنا، أخرجنا، فما تركت حين أخرجتهم أن أعلمت المأمور بقتلهم، فما يقبل حجتهم، وأمر بقتلهم، والله على ذلك ما أحب أن قتل من قومي مكانهم رجل، ولئن لاموني ما أنا بالذي أحفل لأئمتهم، ولا تكبر علي وأقبل مسلمة حتى نزل الحيرة، فأتى بنحو من خمسين أسيرا، ولم يكونوا فيمن بعث به إلى الكوفة، كان أقبل بهم معه، فلما رأى الناس أنه يريد أن يضرب رقابهم، قام إليه الحصين بن حماد الكلبي فاستوهبه ثلاثة: زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعتبة بن مسلم، وإسماعيل مولى آل بني عقيل بن مسعود، فوهبهم له، ثم استوهب بقيتهم أصحابه، فوهبهم لهم، فلما جاءت هزيمة يزيد إلى واسط، اخرج معاويه بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيرا كانوا
(6/599)
في يده، فضرب أعناقهم: منهم عدي بن أرطاة، ومُحَمَّد بن عدي بن أرطاة ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وعبد الله بن عزرة البصري، وعبد الله بن وائل، وابن أبي حاضر التميمي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقد قال له القوم: ويحك! انا لا نراك الا تقتلنا، إلا أن أباك قد قتل، وإن قتلنا ليس بنافع لك في الدنيا، وهو ضارك في الآخرة، فقتل الأسارى كلهم غير ربيع بن زياد بن الربيع ابن انس بن الريان، تركه، فقال له ناس: نسيته؟ فقال: ما نسيته، ولكن لم أكن لأقتله، وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف وبيت عظيم، ولست أتهمه في ود، ولا أخاف بغيه فقال ثابت قطنة في قتل عدي بن ارطاه:
ما سرني قتل الفزاري وابنه ... عدي ولا أحببت قتل ابن مسمع
ولكنها كانت معاوي زلة ... وضعت بها أمري على. غير موضع
ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع آل المهلب بالبصرة، وقد كانوا يتخوفون الذي كان من يزيد، وقد أعدوا السفن البحرية، وتجهزوا بكل الجهاز، وقد كان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأزدي على قندابيل أميرا، وقال له: إني سائر إلى هذا العدو، ولو قد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى تكون إلي أولهم، فإن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيل حتى يقدم عليك أهل بيتي، فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أمانا، أما إني قد اخترتك لأهل بيتى من بين قومى، فكن عند حسن ظني، وأخذ عليه أيمانا غلاظا ليناصحن أهل بيته، إن هم احتاجوا ولجئوا إليه، فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة بعد الهزيمة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لججوا في البحر حتى مروا بهرم ابن القرار العبدي- وكان يزيد استعمله على البحرين- فقال لهم: أشير عليكم الا تفارقوا سفنكم، فإن ذلك هو بقاؤكم، وإني أتخوف عليكم إن خرجتم من هذه السفن ان يتخطفكم الناس، وأن يتقربوا بكم إلى بني مروان فمضوا حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم، وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب
(6/600)
وكان معاوية بن يزيد بن المهلب حين قدم البصرة قدمها ومعه الخزائن وبيت المال، فكأنه أراد أن يتأمر عليهم، فاجتمع آل المهلب وقالوا للمفضل: أنت أكبرنا وسيدنا، وإنما أنت غلام حديث السن كبعض فتيان أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في طلب آل المهلب وفي اثر الفل فأدرك مدرك المفضل بن المهلب، وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس فتبعهم، فأدركهم في عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتد قتالهم إياه، فقتل مع المفضل بن المهلب النعمان بن إبراهيم بن الاشتر النخعى ومحمد بن إسحاق ابن مُحَمَّد بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك قهستان أسيرا، وأخذت سرية المفضل العالية، وجرح عثمان بن إسحاق بن مُحَمَّد بن الأشعث جراحة شديدة، وهرب حتى انتهى إلى حلوان، فدل عليه، فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة، ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلب، فطلبوا الأمان، فأومنوا، منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمن بن مُحَمَّد مواطنه وأيامه كلها، فطلب له الأمان مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان إلى مسلمة بن عبد الملك عمه وابنة مسلمة تحته- فآمنه، فلما أتاه الورد وقفه مسلمة فشتمه قائما، فقال: صاحب خلاف وشقاق ونفاق ونفار في كل فتنة، مرة مع حائك كندة، ومرة مع ملاح الأزد، ما كنت بأهل أن تؤمن، قال: ثم انطلق وطلب الأمان لمالك بن إبراهيم بن الأشتر الحسن بن عبد الرحمن بن شراحيل- وشراحيل يلقب رستم الحضرمي- فلما جاء ونظر إليه، قال له الحسن بن عبد الرحمن الحضرمي: هذا مالك بن إبراهيم بن الأشتر، قال له: انطلق، قال له الحسن:
أصلحك الله! لم لم تشتمه كما شتمت صاحبه! قال: أجللتكم عن ذلك، وكنتم أكرم علي من أصحاب الآخر وأحسن طاعة قال: فإنه أحب إلينا أن تشتمه، فهو والله أشرف أبا وجدا، وأسوأ أثرا من أهل الشام من الورد بن عبد الله، فكان الحسن يقول بعد أشهر: ما تركه إلا حسدا من ان يعرف
(6/601)
صاحبنا، فأراد أن يرينا أنه قد حقره ومضى آل المهلب ومن سقط منهم من الفلول حتى انتهوا إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب الكلبي فرده، وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، من بني مازن بن عمرو بن تميم فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد.
وكاتبه هلال بن أحوز، ولم يباين آل المهلب فيفارقهم، فتبين لهم فراقه لما التقوا وصفوا، كان وداع بن حميد على الميمنة، وعبد الملك بن هلال على الميسره وكلاهما ازدى، فرقع لهم راية الأمان، فمال إليهم وداع بن حميد وعبد الملك ابن هلال، وارفض عنهم الناس فخلوهم فلما رأى ذلك مروان بن المهلب ذهب يزيد أن ينصرف إلى النساء، فقال له المفضل: أين تريد؟ قال: أدخل إلى نسائنا فأقتلهن، لئلا يصل إليهن هؤلاء الفساق، فقال: ويحك! أتقتل أخواتك ونساء أهل بيتك! إنا والله ما نخاف عليهن منهم قال: فرده عن ذلك، ثم مشوا بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، الا أبا عيينه ابن المهلب، وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل، وبعث بنسائهم وأولادهم إلى مسلمة بالحيرة، وبعث برءوسهم إلى مسلمة، فبعث بهم مسلمه الى يزيد بن عبد الملك، وبعث بهم يزيد بن عبد الملك إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك، وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكانه جالس معى حدثنى.
وقال مسلمة: لأبيعن ذريتهم وهم في دار الرزق، فقال الجراح بن عبد الله: فأنا أشتريهم منك لأبر يمينك، فاشتراهم منه بمائة ألف، قال:
هاتها، قال: إذا شئت فخذها، فلم يأخذ منه شيئا، وخلى سبيلهم، إلا تسعه فتية
(6/602)
منهم أحداث بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب رقابهم، فقال ثابت قطنة حين بلغه قتل يزيد بن المهلب يرثيه:
ألا يا هند طال علي ليلي ... وعاد قصيره ليلا تماما
كأني حين حلقت الثريا ... سقيت لعاب أسود أو سماما
أمر علي حلو العيش يوم ... من الأيام شيبني غلاما
مصاب بني أبيك وغبت عنهم ... فلم أشهدهمُ ومضوا كراما
فلا والله لا أنسى يزيدا ... ولا القتلى التي قتلت حراما
فعلي أن أبو بأخيك يوما ... يزيدا أو أبوء به هشاما
وعلي أن أقود الخيل شعثا ... شوازب ضمرا تقص الإكاما
فأصبحهن حمير من قريب ... وعكا أو أرع بهما جذاما
ونسقي مذحجا والحي كلبا ... من الذيفان أنفاسا قواما
عشائرنا التي تبغي علينا ... تجربنا زكا عاما فعاما
ولولاهم وما جلبوا علينا ... لأصبح وسطنا ملكا هماما
وقال أيضا يرثي يزيد بن المهلب:
أبى طول هذا الليل أن يتصرما ... وهاج لك الهم الفؤاد المتيما
أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما
على هالك هد العشيرة فقده ... دعته المنايا فاستجاب وَسَلَّمَا
على ملك يا صاح بالعقر جبنت ... كتائبه واستورد الموت معلما
(6/603)
أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدا ... تسليت إن لم يجمع الحي مأتما
وفي غِيَر الأيام يا هند فاعلمي ... لطالب وتر نظرة إن تلوما
فعلي إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي ذبان أن يتندما
أمسلم أن يقدر عليك رماحنا ... نذقك بها قيء الأساود مسلما
وإن تلق للعباس في الدهر عثره ... نكافئه باليوم الذي كان قدما
قصاصا ولا نعدو الذي كان قد أتى ... إلينا وإن كان ابن مروان أظلما
ستعلم إن زلت بك النعل زلة ... وأظهر أقوام حياء مجمجما
من الظالم الجاني على أهل بيته ... إذا أحصرت أسباب أمر وأبهما
وإنا لعطافون بالحلم بعد ما ... نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما
وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ... به ساكنا إلا الخميس العرمرما
نرى أن للجيران حاجا وحرمه ... إذا الناس لم يرعوا لدى الجار محرما
وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... إذا كان رفد الرافدين تجشما
وراحت بصراد ملث جليده ... على الطلح ارما كامن الشهب صيما
أبونا أبو الأنصار عمرو بن عامر ... وهم ولدوا عوفا وكعبا وأسلما
وقد كان في غسان مجد يعده ... وعادية كانت من المجد معظما.
ولايه مسلمه بن عبد الملك على العراق وخراسان
فلما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة، فلما ولاه يزيد ذلك، ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة مُحَمَّد بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقام بأمر البصرة بعد أن خرج منها آل المهلب- فيما قيل- شبيب بن الحارث التميمي، فضبطها، فلما ضمت إلى مسلمة بعث عاملا
(6/604)
عليها عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمر بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن بن سليم أن يستعرض أهل البصرة، وأفشى ذلك إلى عمر بن يزيد، فقال له عمر: أتريد أن تستعرض أهل البصرة ولم تمن حصنا بكويفة، وتدخل من تحتاج اليه! فو الله لو رماك اهل البصرة وأصحابك بالحجارة لتخوفت أن يقتلونا، ولكن أنظرنا عشرة أيام حتى نأخذ أهبة ذلك.
ووجه رسولا إلى مسلمة يخبره بما هم به عبد الرحمن، فوجه مسلمة عبد الملك ابن بشر بن مروان على البصرة، وأقر عمر بن يزيد على الشرطه والاحداث.
ذكر استعمال مسلمه سعيد خذينه على خراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، وهو الذي يقال له سعيد خذينة- وإنما لقب بذلك- فيما ذكر- أنه كان رجلا لينا سهلا متنعما، قدم خراسان على بختية معلقا سكينا في منطقته، فدخل عليه ملك أبغر، وسعيد متفضل في ثياب مصبغة، حوله مرافق مصبغة، فلما خرج من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينيه، لمته سكينية، فلقب خذينة وخذينة هي الدهقانة ربة البيت، وإنما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنه كان ختنه على ابنته، كان سعيد متزوجا بابنه مسلمه.
ولما ولى مسلمة سعيد خذينة خراسان، قدم إليها قبل شخوصه سوره ابن الحر من بني دارم، فقدمها قبل سعيد- فيما ذكر- بشهر، فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فخرج إليها في خمسة وعشرين رجلا من أهل بيته، فأخذ على آمل، فأتى بخارى، فصحبه منها مائتا رجل، فقدم
(6/605)
السغد، وقد كان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ووليها ثمانية عشر شهرا، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل السغد، ووبخ سكانها من العرب وعيرهم بالجبن، فقال: ما أرى فيكم جريحا، ولا أسمع فيكم أنة فاعتذروا إليه بأن جبنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدي، وكان على الحرب ثم قدم سعيد، فأخذ عمال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم، فكلمه فيهم عبد الرحمن بن عبد الله القشيري، فقال له سعيد: قد رفع عليهم أن عندهم أموالا من الخراج قال:
فأنا اضمنه، فضمن عنهم سبعمائة ألف، ثم لم يأخذه بها ثم إن سعيدا رفع إليه- فيما ذكر علي بن مُحَمَّد- أن جهم بن زحر الجعفي وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي والقعقاع الأزدي ولوا ليزيد بن المهلب وهم ثمانية، وعندهم أموال قد اختانوها من فيء المسلمين فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو، فقيل له: إن هؤلاء لا يؤدون إلا أن تبسط عليهم فأرسل إلى جهم بن زحر، فحمل على حمار من قهندز مرو، فمروا به على الفيض بن عمران، فقام إليه فوجأ أنفه، فقال له جهم: يا فاسق، هلا فعلت هذا حين أتوني بك سكران قد شربت الخمر، فضربتك حدا! فغضب سعيد على جهم فضربه مائتي سوط، فكبر أهل السوق حين ضرب جهم بن زحر، وأمر سعيد بجهم والثمانية الذين كانوا في السجن فدفعوا إلى ورقاء بن نصر الباهلي، فاستعفاه فأعفاه.
وقال عبد الحميد بن دثار- أو عبد الملك بن دثار- والزبير بن نشيط مولى باهلة، وهو زوج أم سعيد خذينة: ولنا محاسبتهم، فولاهم فقتلوا في العذاب جهما، وعبد العزيز بن عمرو والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقوما حتى أشرفوا على الموت.
قال: فلم يزالوا في السجن حتى غزتهم الترك وأهل السغد، فأمر سعيد باخراج
(6/606)
من بقي منهم، فكان سعيد يقول: قبح الله الزبير، فإنه قتل جهما! وفي هذه السنة غزا المسلمون السغد والترك، فكان فيها الوقعة بينهم بقصر الباهلي.
وفيها عزل سعيد خذينة شعبة بن ظهير عن سمرقند.
ذكر الخبر عن سبب عزل سعيد شعبة وسبب هذه الوقعة وكيف كانت ذكر علي بن محمد، عن الذين تقدم ذكرى خبره عنهم، أن سعيد خذينة لما قدم خراسان، دعا قوما من الدهاقين، فاستشارهم فيمن يوجه إلى الكور، فأشاروا إليه بقوم من العرب، فولاهم، فشكوا إليه، فقال للناس يوما وقد دخلوا عليه: إني قدمت البلد، وليس لي علم بأهله، فاستشرت فأشاروا علي بقوم، فسألت عنهم فحمدوا، فوليتهم، فأحرج عليكم لما أخبرتموني عن عمالي فأثنى عليهم القوم خيرا، فقال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري: لو لم تحرج علينا لكففت، فاما إذ حرجت علينا فإنك شاورت المشركين فأشاروا عليك بمن لا يخالفهم وبأشباههم، فهذا علمنا فيهم.
قال: فاتكا سعيد ثم جلس، فقال: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» ، قوموا.
قال: وعزل سعيد شعبة بن ظهير عن السغد، وولى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، وولى الخراج سُلَيْمَان بن أبي السري مولى بني عوافة، واستعمل على هراة معقل بن عروة القشيري، فسار إليها.
وضعف الناس سعيدا وسموه خذينة، فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك،
(6/607)
ووجههم الى السغد، فكان على الترك كورصول، وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي.
وقال بعضهم: أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة، وكانت في ذلك القصر، فأرسل إليها يخطبها، فأبت، فاستجاش ورجا أن يسبوا من في القصر، فيأخذ المرأة، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله وخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة، وندب عثمان بن عبد الله الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبه بن ظهير: لو كان هاهنا خيول خراسان ما وصلوا إلى غايتهم.
قال: وكان فيمن انتدب من بني تميم شعبة بن ظهير النهشلي وبلعاء بن مجاهد العنزي، وعميرة بن ربيعة أحد بني العجيف- وهو عميرة الثريد- وغالب بن المهاجر الطائي- وهو عم أبي العباس الطوسي- وأبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وثابت قطنة، وأبو المهاجر بن داره من غطفان، وحليس الشيباني والحجاج بن عمرو الطائي، وحسان بن معدان الطائي، والأشعث أبو حطامة وعمرو بن حسان الطائيان فقال المسيب بن بشر لما عسكروا:
إنكم تقدمون على حلبة الترك حلبة خاقان وغيرهم والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم.
فانصرف عنه الف وثلاثمائه، وسار في الباقين، فلما سار فرسخا قال للناس مثل مقالته الأولى، فاعتزل ألف، ثم سار فرسخا آخر فقال لهم مثل ذلك، فاعتزل ألف، ثم سار- وكان دليلهم الأشهب بن عبيد الحنظلي- حتى إذا كان على فرسخين من القوم نزل فأتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: انه لم يبق هاهنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري، وأنا في ثلاثمائه مقاتل فهم معك، وعندي الخبر، قد كانوا صالحوهم على أربعين ألفا، فأعطوهم سبعة عشر رجلا، ليكونوا رهنا
(6/608)
في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم، فلما بلغهم مسيركم إليهم قتل الترك من كان في أيديهم من الرهائن.
قال: وكان فيهم نهشل بن يزيد الباهلي فنجا لم يقتل، والأشهب بن عبيد الله الحنظلي، وميعادهم أن يقاتلوهم غدا أو يفتحوا القصر، فبعث المسيب رجلين: رجلا من العرب ورجلا من العجم من ليلته على خيولهم، وقال لهم: إذا قربتم فشدوا دوابكم بالشجر، واعلموا علم القوم فأقبلا في ليلة مظلمة، وقد أجرت الترك الماء في نواحي القصر، فليس يصل إليه أحد، ودنوا من القصر، فصاح بهما الربية، فقالا: لا تصح وادع لنا عبد الملك ابن دثار، فدعاه فقالا له: أرسلنا المسيب، وقد أتاكم الغياث، قال: أين هو؟ قال: على فرسخين، فهل عندكم امتناع ليلتك وغدا؟ فقال: قد أجمعنا على تسليم نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا، حتى نموت جميعا غدا فرجعا إلى المسيب، فأخبراه فقال المسيب للذين معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب، فلم يفارقه أحد، وبايعوه على الموت فسار وقد زاد الماء الذي أجروه حول المدينة تحصينا، فلما كان بينه وبينهم نصف فرسخ نزل، فأجمع على بياتهم، فلما أمسى أمر الناس فشدوا على خيولهم، وركب فحثهم على الصبر، ورغبهم فيما يصير إليه أهل الاحتساب والصبر، وما لهم في الدنيا من الشرف والغنيمة إن ظفروا، وقال لهم: اكعموا دوابكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوها، وشدوا شدة صادقة وكبروا، وليكن شعاركم: يا مُحَمَّد، ولا تتبعوا موليا، وعليكم بالدواب فاعقروها، فإن الدواب إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، والقليل الصابر خير من الكثير الفشل، وليست بكم قله، فان سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وإن كثر أهله
(6/609)
قال: وعباهم وجعل على الميمنه كثير بن الدبوسي، وعلى الميسرة رجلا من ربيعة يقال له ثابت قطنة، وساروا حتى إذا كانوا منهم على غلوتين كبروا وذلك في السحر، وثار الترك، وخالط المسلمون العسكر، فعقروا الدواب، وصابرهم الترك، فجال المسلمون وانهزموا حتى صاروا إلى المسيب، وتبعهم الترك وضربوا عجز دابة المسيب فترجل رجال من المسلمين، فيهم البختري أبو عبد الله المرائي، ومُحَمَّد بن قيس الغنوي- ويقال: مُحَمَّد بن قيس العنبري- وزياد الأصبهاني، ومعاوية بن الحجاج وثابت قطنة فقاتل البختري فقطعت يمينه، فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيديه حتى استشهد واستشهد أيضا مُحَمَّد بن قيس العنبري أو الغنوي وشبيب بن الحجاج الطائي قال: ثم انهزم المشركون، وضرب ثابت قطنة عظيما من عظمائهم، فقتله، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم، فإنهم لا يدرون من الرعب، أتبعتموهم أم لا! واقصدوا القصر، ولا تحملوا شيئا من المتاع إلا المال، وتحملوا لا من يقدر على المشي وقال المسيب: من حمل امرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله، ومن أبى فله أربعون درهما، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه قال: فقصدوا جميعا القصر، فحملوا من كان فيه، وانتهى رجل من بني فقيم إلى امرأة، فقالت: أغثني أغاثك الله! فوقف وقال: دونك وعجز الفرس، فوثبت فإذا هي على عجز الفرس، فإذا هي أفرس من رجل، فتناول الفقيمي بيد ابنها، غلاما صغيرا، فوضعه بين يديه، وأتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وأتاهم بطعام، وقال: الحقوا بسمرقند، لا يرجعوا في آثاركم فخرجوا نحو سمرقند، فقال لهم: هل بقي أحد؟
قالوا: هلال الحريري، قال: لا أسلمه، فأتاه وبه بضع وثلاثون جراحة، فاحتمله، فبرأ، ثم أصيب يوم الشعب مع الجنيد قال: فرجع الترك من الغد، فلم يروا في القصر أحدا، ورأوا
(6/610)
قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين جاءوا من الإنس، فقال ثَابِت قطنة:
فدت نفسي فوارس من تميم ... غدا. الروع في ضنك المقام
فدت نفسي فوارس اكنفونى ... على الأعداء في رهج القتام
بقصر الباهلي وقد رأوني ... أحامي حيث ضن به المحامي
بسيفي بعد حطم الرمح قدما ... أذودهمُ بذي شطب جسام
أكر عَلَيْهِم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام
أكر به لدى الغمرات حتى ... تجلت لا يضيق بها مقامي
فلولا اللَّه ليس لَهُ شريك ... وضربي قونس الملك الهمام
إذا لسعت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام!
فمن مثل المسيب في تميم ... أبى بشر كقادمة الحمام
وقال جرير يذكر المسيب:
لولا حماية يربوع نساءكم ... كانت لغيركم منهن أطهار
حامي المسيب والخيلان في رهج ... إذ مازن ثم لا يحمى لها جار
إذ لا عقال يحامي عن ذماركم ... ولا زرارة يحميها ووزار
قال: وعور تلك الليلة أبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وشلت يده، وقد كان ولي ولاية قبل سعيد، فخرج عليه شيء مما كان بقي عليه، فأخذ به، فدفعه سعيد إلى شداد بن خليد الباهلي ليحاسبه ويستأديه فضيق عليه شداد، فقال: يا معشر قيس، سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش، حديد البصر، فعورت وشلت يدي، وقاتلت مع من قاتل
(6/611)
حتى استنقذناهم بعد أن أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع، فكفوه عني، فخلاه.
قال: وقال عبد الله بن مُحَمَّد عن رجل شهد ليلة قصر الباهلي قال: كنا في القصر، فلما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل
. ذكر الخبر عن غزو سعيد خذينه السغد
وفي هذه السنة قطع سعيد خذينة نهر بلخ وغزا السغد، وكانوا نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين.
ذكر الخبر عما كان من أمر سعيد والمسلمين في هذه الغزوة:
وكان سبب غزو سعيد هذه الغزوة- فيما ذكر- أن الترك عادوا إلى السغد، فكلم الناس سعيدا وقالوا: تركت الغزو، فقد أغار الترك، وكفر أهل السغد، فقطع النهر، وقصد للسغد، فلقيه الترك وطائفة من أهل السغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم، فإن السغد بستان أمير المؤمنين وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أباروكم.
وسار المسلمون، فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقال عبد الرحمن ابن صبح: لا يقطعن هذا الوادي مجفف ولا راجل، وليعبر من سواهم.
فعبروا، ورأتهم الترك، فأكمنوا كمينا، وظهرت لهم خيل المسلمين فقاتلوهم، فانحاز الترك فأتبعوهم حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادي، فقال لهم عبد الرحمن بن صبح: سابقوهم، ولا تقطعوا فإنكم إن قطعتم أبادوكم فصبروا لهم حتى انكشفوا عنهم، فلم يتبعوهم، فقال
(6/612)
قوم: قتل يومئذ شعبة بن ظهير وأصحابه، وقال قوم: بل انكشف الترك منهم يومئذ منهزمين، ومعهم جمع من أهل السغد فلما كان الغد، خرجت مسلحة للمسلمين- والمسلحة يومئذ من بني تميم- فما شعروا إلا بالترك معهم، خرجوا عليهم من غيضة وعلى خيل بني تميم شعبة بن ظهير، فقاتلهم شعبة فقتل، أعجلوه عن الركوب وقتل رجل من العرب، فأخرجت جاريته حناء، وهي تقول: حتى متى أعد لك مثل هذا الخضاب، وأنت مختضب بالدم! مع كلام كثير، فأبكت أهل العسكر وقتل نحو من خمسين رجلا، وانهزم أهل المسلحة، وأتى الناس الصريخ، فقال عبد الرحمن بن المهلب العدوي: كنت أنا أول من أتاهم لما أتانا الخبر، وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة كأنه قنفذ من النشاب، وقد قتل، وركب الخليل بن أوس العبشمي- أحد بني ظالم، وهو شاب- ونادى: يا بني تميم، أنا الخليل، إلي! فانضمت إليه جماعة- فحمل بهم على العدو، فكفوهم ووزعوهم عن الناس حتى جاء الأمير والجماعة، فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم يومئذ، حتى ولي نصر بن سيار، ثم صارت رياسة بني تميم لأخيه الحكم بن أوس.
وذكر علي بن مُحَمَّد، عن شيوخه، ان سوره بن الحر قال لحيان: انصرف يا حيان، قال: عقيرة الله أدعها وأنصرف قال: يا نبطي قال: أنبط الله وجهك! قال: وكان حيان النبطي يكنى في الحرب أبا الهياج، وله يقول الشاعر:
إن أبا الهياج أريحي ... للريح في أثوابه دوي
قال: وعبر سعيد النهر مرتين، فلم يجاوز سمرقند، نزل في الأولى بإزاء العدو، فقال له حيان مولى مصقلة بن هبيرة الشيباني: أيها الأمير، ناجز أهل السغد، فقال: لا، هذه بلاد أمير المؤمنين، فرأى دخانا ساطعا، فسأل عنه فقيل له: السغد قد كفروا ومعهم بعض الترك قال: فناوشهم، فانهزموا
(6/613)
فألحوا في طلبهم، فنادى منادي سعيد: لا تطلبوهم، إنما السغد بستان أمير المؤمنين، وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرة، فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع، فلما كان العام المقبل بعث رجالا من بني تميم إلى ورغسر، فقالوا: ليتنا نلقى العدو فنطاردهم- وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا رد ذراري السبي وعاقب السرية، فقال الهجري وكان شاعرا:
سريت إلى الأعداء تلهو بلعبة ... وأيرك مسلول وسيفك مغمد
وأنت لمن عاديت عرس خفية ... وأنت علينا كالحسام المهند
فلله در السغد لما تحزبوا ... ويا عجبا من كيدك المتردد!
قال: فقال سورة بن الحر لسعيد- وقد كان حفظ عليه، وحقد عليه قوله: أنبط الله وجهك-: إن هذا العبد أعدى الناس للعرب والعمال، وهو أفسد خراسان على قتيبة بن مسلم، وهو واثب بك، مفسد عليك خراسان، ثم يتحصن في بعض هذه القلاع فقال: يا سورة لا تسمعن هذا أحدا ثم مكث أياما، ثم دعا في مجلسه بلبن، وقد أمر بذهب فسحق، وألقي في إناء حيان فشربه، وقد خلط بالذهب، ثم ركب، فركب الناس اربعه فراسخ إلى باركث، كأنه يطلب عدوا، ثم رجع فعاش حيان أربعة أيام ومات في اليوم الرابع، فثقل سعيد على الناس وضعفوه، وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعا إلى مروان بن مُحَمَّد، فذكر إسماعيل عند خذينة ومودته لمروان، فقال سعيد: وما ذاك الملط! فهجاه إسماعيل، فقال:
زعمت خذينة أنني ملط ... لخذينة المرآة والمشط
ومجامر ومكاحل جعلت ... ومعازف وبخدها نقط
(6/614)
أفذاك أم زغف مضاعفة ... ومهند من شأنه القط
لمقرس ذكر أخي ثقة ... لم يغذه التأنيث واللقط
أغضبت أن بات ابن أمكم ... بهم وأن أباكم سقط
إني رأيت نبالهم كسيت ... ريش اللوام ونبلكم مرط
ورأيتهم جعلوا مكاسرهم ... عند الندي وأنتم خلط.
عزل مسلمه عن العراق وخراسان
وفي هذه السنة عزل مسلمة بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام.
ذكر الخبر عن سبب عزله وكيف كان ذلك:
وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد- أن مسلمة لما ولي ما ولي من أرض العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئا، وأن يزيد بن عاتكة أراد عزله فاستحيا منه، وكتب إليه أن استخلف على عملك، وأقبل.
وقد قيل إن مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى ابن عاتكة ليزوره، فقال له: أمن شوق بك إليه! إنك لطروب، وإن عهدك به لقريب، قال: لا بد من ذلك، قال: إذا لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه، فشخص، فلما بلغ دورين لقيه عمر بن هبيرة على خمس من دواب البريد، فدخل عليه ابن هبيرة، فقال: الى اين يا بن هبيرة؟ فقال: وجهني أمير المؤمنين في حيازة أموال بني المهلب فلما خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز فجاءه، فقال: هذا ابن هبيرة قد لقينا كما ترى، قال: قد أنبأتك، قال: فإنه إنما وجهه لحيازة أموال بني المهلب، قال: هذا أعجب من الأول، يصرف عن الجزيرة، ويوجه في حيازة اموال
(6/615)
بني المهلب، قال: فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عماله والغلظة عليهم فقال الفرزدق:
راحت بمسلمة الركاب مودعا ... فارعى فزارة لا هناك المرتع
عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقع
ولقد علمت لئن فزاره امرت ... ان سوف تطمع في الإمارة أشجع
من خلق ربك ما همُ ولمثلهم ... في مثل ما نالت فزارة يطمع
يعني بابن بشر عبد الملك بن بشر بن مروان، وبابن عمرو مُحَمَّدا ذا الشامة بن عمرو بن الوليد، وبأخي هراة سعيدا خذينة بن عبد العزيز، كان عاملا لمسلمة على خراسان.
وفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الروم بأرمينية، فهزمهم وأسر منهم بشرا كثيرا قيل سبعمائة اسير.
بدء ظهور الدعوة
وفيها وجه- فيما ذكر ميسرة- رسله من العراق إلى خراسان وظهر أمر الدعوة بها، فجاء رجل من بني تميم يقال له عمرو بن بحير بن ورقاء السعدي إلى سعيد خذينه، فقال له: ان هاهنا قوما قد ظهر منهم كلام قبيح، فبعث إليهم سعيد، فأتي بهم، فقال: من أنتم؟ قالوا: أناس من التجار؟ قال:
فما هذا الذي يحكى عنكم؟ قالوا: لا ندري، قال: جئتم دعاة؟ فقالوا:
(6/616)
إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلا عن هذا، فقال: من يعرف هؤلاء؟ فجاء أناس من أهل خراسان، جلهم ربيعة واليمن، فقالوا: نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه، فخلى سبيلهم.
ذكر خبر قتل يزيد بن ابى مسلم بإفريقية
وفيها- أعني سنة اثنتين ومائة- قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية وهو وال عليها ذكر الخبر عن سبب قتله:
وكان سبب ذلك أنه كان- فيما ذكر- عزم أن يسير بهم بسيرة الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار، ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة، فأسلم بالعراق ممن ردهم إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم على كفرهم، فلما عزم على ذلك تآمروا في أمره، فأجمع رأيهم- فيما ذكر- على قتله فقتلوه، وولوا على أنفسهم الذي كان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم، وهو مُحَمَّد بن يزيد مولى الأنصار، وكان في جيش يزيد بن أبي مسلم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى الله والمسلمون، فقتلناه، وأعدنا عاملك.
فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك: إني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم، واقر محمد بن يزيد على إفريقية.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة استعمل عمر بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة على العراق وخراسان.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك، كذلك قال أبو معشر والواقدي
(6/617)
وكان العامل على المدينة عبد الرحمن بن الضحاك، وعلى مكة عبد العزيز ابن عبد الله بن خالد بن أسيد وعلى الكوفة مُحَمَّد بن عمرو ذو الشامة، وعلى قضائها القاسم بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود، وعلى البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، وعلى خراسان سعيد خذينه، وعلى مصر اسامه ابن زيد
(6/618)
ثم دخلت
سنة ثلاث ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
عزل سعيد خذينه عن خراسان
فمما كان فيها من ذلك عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان، وكان سبب عزله عنها- فيما ذكر علي بن مُحَمَّد عن أشياخه- أن المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة، فشكواه فعزله، واستعمل سعيد بن عمرو بن الأسود بن مالك بن كعب بن وقدان بن الحريش بْن كعب بْن ربيعة بْن عامر بْن صعصعة، وخذينة غاز بباب سمرقند، فبلغ الناس عزله، فقفل خذينة، وخلف بسمرقند ألف فارس، فقال نهار بن توسعة:
فمن ذا مبلغ فتيان قومي ... بأن النبل ريشت كل ريش
بأن الله أبدل من سعيد ... سعيدا لا المخنث من قريش
قال: ولم يعرض سعيد الحرشي لأحد من عمال خذينة، فقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال سعيد: صه، مهما سمعتم فهو من الكاتب، والأمير منه بريء، فقال الشاعر يضعف الحرشي في هذا الكلام:
تبدلنا سعيدا من سعيد ... لجد السوء والقدر المتاح
قال الطبري: وفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح مدينة يقال لها رسله.
وفيها اغارت الترك عن اللان
(6/619)
وفيها ضمت مكة إلى عبد الرحمن بن الضحاك الفهري، فجمعت له مع المدينة.
وفيها ولي عبد الواحد بن عبد الله النضري، الطائف وعزل عبد العزيز بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد عن مكة.
وفيها أمر عبد الرحمن بن الضحاك أن يجمع بين أبي بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم وعثمان بن حيان المري، وكان من أمره وأمرهما ما قد مضى ذكره قبل.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضحاك بن قيس الفهري، كذلك قال أبو معشر والواقدي.
وكان عامل يزيد بن عاتكة في هذه السنة على مكة والمدينة عبد الرحمن بن الضحاك، وعلى الطائف عبد الواحد بن عبد الله النضري وعلى العراق وخراسان عمر بن هبيرة، وعلى خراسان سعيد بن عمرو الحرشي من قبل عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة القاسم بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
استعمال ابن هبيرة سعيدا الحرشي على خراسان
وفيها استعمل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي على خراسان.
ذكر الخبر عن سبب استعماله الحرشي على خراسان:
ذكر علي بن مُحَمَّد عن أصحابه أن ابن هبيرة لما ولي العراق، كتب إلى يزيد بن عبد الملك بأسماء من أبلى يوم العقر، ولم يذكر الحرشي، فقال يزيد بن عبد الملك: لم لم يذكر الحرشي: فكتب إلى ابن هبيرة: ول الحرشي خراسان فولاه، فقدم الحرشي على مقدمته المجشر بن مزاحم السلمي سنة ثلاث ومائة، ثم قدم الحرشي خراسان، والناس بإزاء العدو، وقد كانوا نكبوا، فخطبهم وحثهم على الجهاد، فقال: إنكم لا تقاتلون عدو الإسلام بكثرة
(6/620)
ولا بعدة، ولكن بنصر الله وعز الإسلام، فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال:
فلست لعامر إن لم تروني ... أمام الخيل أطعن بالعوالي
فأضرب هامة الجبار منهم ... بعضب الحد حودث بالصقال
فما أنا في الحروب بمستكين ... ولا أخشى مصاولة الرجال
أبى لي والدي من كل ذم ... وخالي في الحوادث خير خال
إذا خطرت أمامي حي كعب ... وزافت كالجبال بنو هلال.
ارتحال اهل السغد عن بلادهم الى فرغانه
وفي هذه السنة ارتحل أهل السغد عن بلادهم عند مقدم سعيد بن عمرو الحرشي فلحقوا بفرغانة، فسألوا ملكها معونتهم على المسلمين.
ذكر الخبر عما كان منهم ومن صاحب فرغانة:
ذكر علي بن مُحَمَّد عن أصحابه، أن السغد كانوا قد أعانوا الترك أيام خذينة، فلما وليهم الحرشي خافوا على أنفسهم، فأجمع عظماؤهم على الخروج عن بلادهم، فقال لهم ملكهم: لا تفعلوا، أقيموا واحملوا إليه خراج ما مضى، واضمنوا له خراج ما تستقبلون، واضمنوا له عمارة أرضيكم والغزو معه إن أراد ذلك، واعتذروا مما كان منكم، وأعطوه رهائن يكونون في يديه.
قالوا: نخاف الا يرضى، ولا يقبل منا، ولكنا نأتي خجندة، فنستجير ملكها، ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح عما كان منا، ونوثق له الا يرى أمرا يكرهه، فقال: أنا رجل منكم، وما أشرت به عليكم كان خيرا لكم، فأبوا، فخرجوا إلى خجندة، وخرج كارزنج وكشين وبياركث وثابت بأهل إشتيخن، فأرسلوا إلى ملك فرغانة الطار يسألونه أن يمنعهم وينزلهم
(6/621)
مدينته فهم أن يفعل، فقالت له أمه: لا تدخل هؤلاء الشياطين مدينتك، ولكن فرغ لهم رستاقا يكونون فيه، فأرسل إليهم: سموا لي رستاقا أفرغه لكم، وأجلوني أربعين يوما- ويقال: عشرين يوما- وإن شئتم فرغت لكم شعب عصام بن عبد الله الباهلي- وكان قتيبة خلفه فيهم- فقبلوا شعب عصام، فأرسلوا إليه: فرغه لنا، قال: نعم، وليس لكم علي عقد ولا جوار حتى تدخلوه، وإن أتتكم العرب قبل أن تدخلوه لم أمنعكم، فرضوا، ففرغ لهم الشعب.
وقد قيل: إن ابن هبيرة بعث إليهم قبل أن يخرجوا من بلادهم يسألهم أن يقيموا، ويستعمل عليهم من أحبوا، فأبوا وخرجوا إلى خجندة وشعب عصام من رستاق أسفرة- وأسفرة يومئذ ولي عهد ملك فرغانه بلاذا، وبيلاذا ابو جور ملكها.
وقيل: قال لهم كارزنج: أخيركم ثلاث خصال، إن تركتموها هلكتم:
إن سعيدا فارس العرب، وقد وجه على مقدمته عبد الرحمن بن عبد الله القشيري في حماة أصحابه، فبيتوه فاقتلوه، فان الحرشي إذ أتاه خبره لم يغزكم، فأبوا عليه، قال: فاقطعوا نهر الشاش، فسلوهم ماذا تريدون؟ فإن أجابوكم وإلا مضيتم إلى سوياب، قالوا: لا، قال: فأعطوهم.
قال: فارتحل كارزنج وجلنج بأهل قي، وأبار بن ماخنون وثابت بأهل إشتيخن، وارتحل اهل بياركث واهل سبسكث بألف رجل عليهم مناطق الذهب مع دهاقين بزماجن، فارتحل الديواشني بأهل بنجيكث إلى حصن ابغر، ولحق كارزنج واهل السغد بخجنده.
. تم الجزء السادس من تاريخ الطبرى ويليه الجزء السابع، واوله: ذكر حوادث سنه اربع ومائه
(6/622)
الجزء السابع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ثم دخلت
سنة أربع ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الوقعه بين الحرشي والسغد
ففي هذه السنة كانت وقعة الحرشي بأهل السغد وقتله من قتل من دهاقينها ذكر الخبر عن أمره وأمرهم في هذه الوقعة:
ذكر علي عن أصحابه أن الحرشي غزا في سنة أربع ومائة فقطع النهر.
وعرض الناس، ثم سار فنزل قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده.
قَالَ: فأمر الناس بالرحيل، فقال له هلال بْن عليم الحنظلي: يا هناه، إنك وزيرا خير منك أميرا، الأرض حرب شاغرة برجلها، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل! قَالَ: فكيف لي؟ قَالَ: تأمر بالنزول، ففعل.
وخرج النيلان ابن عم ملك فرغانة إلى الحرشي، وهو نازل على مغون فقال له: إن أهل السغد بخجندة، وأخبره خبرهم وقال: عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضي الأجل فوجه الحرشي مع النيلان عبد الرحمن القشيري وزياد بْن عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم على ما فعل فقال: جاءني علج لا أدري صدق أم كذب، فغررت بجند من المسلمين وارتحل في أثرهم حتى نزل في أشروسنة، فصالحهم بشيء يسير، فبينا هو يتعشى إذ قيل له: هذا عطاء الدبوسي- وكان فيمن وجهه مع القشيري- ففزع وسقطت اللقمة من يده، ودعا
(7/7)
بعطاء، فدخل عليه، فقال: ويلك! قاتلتم أحدا؟ فقال: لا، قَالَ:
الحمد لله، وتعشى، وأخبره بما قدم له عليه فسار جوادا مغذا، حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار فلما انتهى إلى خجندة، قَالَ للفضل بْن بسام:
ما ترى؟ قَالَ: أرى المعاجلة، قَالَ: لا أرى ذلك، إن جرح رجل فإلى أين يرجع! أو قتل قتيل فإلى من يحمل! ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل فرفع الأبنية وأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدو، فجبن الناس الحرشي، وقالوا: كان هذا يذكر بأسه بالعراق ورأيه، فلما صار بخراسان ماق قَالَ: فحمل رجل من العرب، فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقا، وغطوه بقصب، وعلوه بالتراب مكيدة، وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق، ويشكل على المسلمين فيسقطوا في الخندق.
قَالَ: فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطئوهم الطريق، فسقطوا في الخندق فأخرجوا من الخندق أربعين رجلا، على الرجل درعان درعان، وحصرهم الحرشي، ونصب عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى ملك فرغانة: غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال لهم: لم أغدر ولا أنصركم، فانظروا لأنفسكم، فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري فلما أيسوا من نصره طلبوا الصلح، وسألوا الأمان وأن يردهم إلى السغد، فاشترط عليهم أن يردوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الخراج، ولا يغتالوا أحدا، ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثا حلت دماؤهم.
قَالَ: وكان السفير فيما بينهم موسى بْن مشكان مولى آل بسام،
(7/8)
فخرج إليه كارزنج، فقال له: إن لي حاجة أحب أن تشفعني فيها، قَالَ:
وما هي؟ قَالَ: أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح ألا تأخذني بما جنى، فقال الحرشي: ولي حاجة فاقضها، قَالَ: وما هي؟ قال: لا يلحقني في شرطي ما أكره قَالَ: فأخرج الملوك والتجار من الجانب الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم أهلها على حالهم، فقال كارزنج للحرشي: ما تصنع؟
قَالَ: أخاف عليكم معرة الجند قَالَ: وعظماؤهم مع الحرشي في العسكر نزلوا على معارفهم من الجند، ونزل كارزنج على أيوب بْن أبي حسان، فبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساء كن في أيديهم، فقال لهم: بلغني أن ثابتا الأشتيخني قتل امرأة ودفنها تحت حائط، فجحدوا فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا فإذا المرأة مقتولة قَالَ: فدعا الحرشي بثابت، فأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالخبر، وسأل الحرشي ثابتا وغيره عن المرأة، فجحد ثابت وتيقن الحرشي أنه قتلها فقتله فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل يقبض على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي، فقال لأيوب بْن أبي حسان: إني ضيفك وصديقك، فلا يجمل بك أن يقتل صديقك في سراويل خلق، قَالَ: فخذ سراويلي.
قَالَ: وهذا لا يجمل، أقتل في سراويلاتكم! فسرح غلامك الى جلنج ابن أخي يجيئونى بسراويل جديد- وكان قد قَالَ لابن أخيه: إذا أرسلت إليك أطلب سراويل فاعلم أنه القتل- فلما بعث بسراويل أخرج فرندة خضراء فقطعها عصائب، وعصبها برءوس شاكريته، ثم خرج هو وشاكريته.
فاعترض الناس فقتل ناسا، ومر بيحيى بْن حضين فنفحه نفحة على رجله، فلم يزل يخمع منها وتضعضع أهل العسكر، ولقي الناس منه شرا، حتى انتهى إلى ثابت بْن عثمان بْن مسعود في طريق ضيق، فقتله ثابت بسيف عثمان بْن مسعود وكان في أيدي السغد أسراء من المسلمين فقتلوا منهم خمسين ومائة، ويقال: قتلوا منهم أربعين، قَالَ: فأفلت منهم غلام فأخبر
(7/9)
الحرشي- ويقال: بل أتاه رجل فأخبره- فسألهم فجحدوا، فأرسل إليهم من علم علمهم، فوجد الخبر حقا، فأمر بقتلهم، وعزل التجار عنهم- وكان التجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصين- قَالَ: فامتنع أهل السغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم فلما كان الغد دعا الحراثين- ولم يعلموا ما صنع أصحابهم- فكان يختم في عنق الرجل ويخرج من حائط إلى حائط فيقتل، وكانوا ثلاثة آلاف- ويقال سبعة آلاف- فأرسل جرير بْن هميان والحسن بْن أبي العمرطة ويزيد بْن أبي زينب فأحصوا أموال التجار- وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل- فاصطفى أموال السغد وذراريهم، فأخذ منه ما أعجبه، ثم دعا مسلم بْن بديل العدوي، عدي الرباب، فقال: قد وليتك المقسم، قال: بعد ما عمل فيه عمالك ليلة! ولِّه غيري، فولاه عبيد الله بْن زهير بْن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسم الأموال، وكتب الحرشي إلى يزيد بْن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بْن هبيرة، فكان هذا مما وجد فيه عليه عمر بْن هبيرة، فقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:
أقر العين مصرع كارزنج ... وكشين وما لاقى بيار
وديواشنى وما لاقى جلنج ... بحصن خجند إذ دمروا فباروا
ويروى أقر العين مصرع كارزنج، وكشكيش، ويقال: إن ديواشني دهقان أهل سمرقند، واسمه ديواشنج فأعربوه ديواشني.
ويقال: كان على أقباض خجندة علباء بْن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضع يده على لحيته كأنه رمد، فرد الجونة، وأخذ الدرهمين، فطلب فلم يوجد
(7/10)
قَالَ: وسرح الحرشي سليمان بْن أبي السري مولى بني عوافة إلى قلعة لا يطيف بها وادي السغد إلا من وجه واحد ومعه شوكر بْن حميك وخوارزم شاه وعورم صاحب أخرون وشومان، فوجه سليمان بْن أبي السري على مقدمته المسيب بْن بشر الرياحي، فتلقوه من القلعة على فرسخ في قرية يقال لها كوم، فهزمهم المسيب حتى ردهم إلى القلعة فحصرهم سليمان، ودهقانها يقال له ديواشني.
قَالَ فكتب إليه الحرشي فعرض عليه أن يمده، فأرسل إليه: ملتقانا ضيق فسر إلى كس، فأنا في كفاية الله إن شاء الله فطلب الديواشنى ان يزل على حكم الحرشي، وأن يوجهه مع المسيب بْن بشر إلى الحرشي، فوفي له سليمان ووجهه إلى سعيد الحرشي، فألطفه وأكرمه مكيدة، فطلب أهل القلعة الصلح بعد مسيرة على ألا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلمون القلعة فكتب سليمان إلى الحرشي أن يبعث الأمناء في قبض ما في القلعة.
قَالَ: فبعث محمد بْن عزيز الكندي وعلباء بْن أحمر اليشكري، فباعوا ما في القلعة مزايدة، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم وخرج الحرشي إلى كس فصالحوه على عشرة آلاف رأس ويقال: صالح دهقان كس، واسمه ويك- على ستة آلاف رأس، يوفيه في أربعين يوما على ألا يأتيه فلما فرغ من كس خرج إلى ربنجن، فقتل الديواشني، وصلبه على ناوس، وكتب على أهل ربنجن كتابا بمائة إن فقد من موضعه، وولى نصر بْن سيار قبض صلح كس، ثم عزل سورة بْن الحر وولى نصر بْن سيار، واستعمل سليمان بْن أبي السري على كس، ونسف حربها وخراجها، وبعث برأس الديواشني إلى العراق، ويده اليسرى إلى سليمان بْن ابى السري إلى طخارستان.
قَالَ: وكانت خزار منيعة، فقال المجشر بْن مزاحم لسعيد بْن عمرو الحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قَالَ: بلى، قَالَ:
المسربل بْن الخريت بْن راشد الناجي، فوجهه إليها- وكان المسربل صديقا لملكها، واسم الملك سبقري وكانوا يحبون المسربل- فأخبر الملك ما صنع
(7/11)
الحرشي بأهل خجندة وخوفه، قَالَ: فما ترى؟ قَالَ: أرى أن تنزل بأمان، قَالَ: فما أصنع بمن لحق بي من عوام الناس؟ قال: نصيرهم معك في أمانك، فصالحهم فآمنوه وبلاده.
قَالَ: ورجع الحرشي إلى مرو ومعه سبقري، فلما نزل أسنان وقدم مهاجر بْن يزيد الحرشي، وامره ان يوافيه ببرذون بن كشانيشاه قتل سبقري وصلبه ومعه أمانه- ويقال: كان هذا دهقان ابن ماجر قدم على ابن هبيرة فأخذ أمانا لأهل السغد، فحبسه الحرشي في قهندز مرو، فلما قدم مرو دعا به، وقتله وصلبه في الميدان، فقال الراجز:
إذا سعيد سار في الأخماس ... في رهج يأخذ بالأنفاس
دارت على الترك أمر الكاس ... وطارت الترك على الأحلاس
ولوا فرارا عطل القياس.
وفي هذه السنة عزل يزيد بْن عبد الملك عبد الرحمن بْن الضحاك بْن قيس الفهري عن المدينة ومكة، وذلك للنصف من شهر ربيع الأول، وكان عامله على المدينة ثلاث سنين.
وفيها ولى يزيد بْن عبد الملك المدينة عبد الواحد النضري.
ذكر الخبر عن سبب عزل يزيد بْن عبد الملك عبد الرحمن ابن الضحاك عن المدينة وما كان ولاه من الأعمال
وكان سبب ذلك- فيما ذكر محمد بن عمر، عن عبد الله بن محمد بْن أبي يحيى- قَالَ: خطب عبد الرحمن بْن الضحاك بْن قيس الفهري فاطمة ابنة الحسين، فقالت: والله ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بني هؤلاء،
(7/12)
وجعلت تحاجزه وتكره أن تنابذه لما تخاف منه قَالَ: وألح عليها وقال:
والله لئن لم تفعلي لأجلدن أكبر بنيك في الخمر- يعني عبد الله بْن الحسن- فبينا هو كذلك، وكان على ديوان المدينة ابن هرمز رجل من أهل الشام، فكتب إليه يزيد أن يرفع حسابه، ويدفع الديوان، فدخل على فاطمة بنت الحسين يودعها، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك، وما يتعرض مني قَالَ: وبعثت رسولا بكتاب إلى يزيد تخبره وتذكر قرابتها ورحمها، وتذكر ما ينال ابن الضحاك منها، وما يتوعدها به قال: فقدم ابن هرمز والرسول معا قَالَ: فدخل ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل كان من مغربة خبر؟ فلم يذكر ابن هرمز من شأن ابنة الحسين، فقال الحاجب: أصلح الله الأمير! بالباب رسول فاطمة بنت الحسين فقال ابن هرمز: أصلح الله الأمير! إن فاطمة بنت الحسين يوم خرجت حملتني رسالة إليك، فأخبره الخبر.
قَالَ: فنزل من أعلى فراشه، وقال: لا أم لك! ألم أسألك هل من مغربة خبر، وهذا عندك لا تخبرنيه! قَالَ: وجعل يضرب بخيزران في يديه وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك! هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر النضري.
قَالَ: فدعا بقرطاس، فكتب بيده:
إلى عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر النضري وهو بالطائف: سلام عليك، أما بعد فإني قد وليتك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فاهبط واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي.
قَالَ: وأخذ البريد الكتاب، وقدم به المدينة، ولم يدخل على ابن الضحاك
(7/13)
وقد أوجست نفس ابن الضحاك، فأرسل إلى البريد، فكشف له عن طرف المفرش، فإذا ألف دينار، فقال: هذه ألف دينار لك ولك العهد والميثاق، لئن أنت أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك، فأخبره، فاستنظر البريد ثلاثا حتى يسير، ففعل ثم خرج ابن الضحاك، فأغذ السير حتى نزل على مسلمة بْن عبد الملك، فقال: أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه وذكر حاجة جاء لها، فقال: كل حاجة تكلمت فيها هي في يدك ما لم يكن ابن الضحاك، فقال: هو والله ابن الضحاك! فقال: والله لا أعفيه أبدا وقد فعل ما فعل، قَالَ: فرده إلى المدينة إلى النضري.
قَالَ عبد الله بْن محمد: فرأيته في المدينة عليه جبة من صوف يسأل الناس، وقد عذب ولقي شرا، وقدم النضري يوم السبت للنصف من شوال سنة أربع ومائة.
قَالَ محمد بْن عمر: حدثني إبراهيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ الزهري، قَالَ: قلت لعبد الرحمن بْن الضحاك: إنك تقدم على قومك وهم ينكرون كل شيء خالف فعلهم، فالزم ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم ابن محمد وسالم بْن عبد الله، فإنهما لا يألوانك رشدا قَالَ الزهري: فلم يأخذ بشيء من ذلك، وعادى الأنصار طرا، وضرب أبا بكر بْن حزم ظلما وعدوانا في باطل، فما بقي منهم شاعر إلا هجاه، ولا صالح إلا عابه وأتاه بالقبيح، فلما ولي هشام رأيته ذليلا.
وولي المدينة عبد الواحد بْن عبد الله بْن بشر فأقام بالمدينة لم يقدم عليهم وال أحب عليهم منه، وكان يذهب مذاهب الخير، لا يقطع أمرا إلا استشار فيه القاسم وسالما.
وفي هذه السنة غزا الجراح بْن عبد الله الحكمي- وهو أمير على أرمينية وأذربيجان- أرض الترك ففتح على يديه بلنجر، وهزم الترك وغرقهم وعامه
(7/14)
ذراريهم في الماء، وسبوا ما شاءوا، وفتح الحصون التي تلي بلنجر وجلا عامة أهلها.
وفيها ولد- فيما ذكر- أبو العباس عبد الله بْن محمد بْن علي في شهر ربيع الآخر.
وفيها دخل أبو محمد الصادق وعدة من أصحابه من خراسان الى محمد ابن علي، وقد ولد أبو العباس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: والله ليتمن هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدوكم.
وفي هذه السنة عزل عمر بْن هبيرة سعيد بْن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة الكلابي.
ذكر الخبر عن سبب عزل عمر بْن هبيرة سعيد بْن عمرو الحرشي عن خراسان
ذكر أن سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشي في أمر الديواشني، وذلك أنه كان كتب إليه يأمره بتخليته وقتله، وكان يستخف بأمر ابن هبيرة، وكان البريد والرسول إذا ورد من العراق قَالَ له: كيف أبو المثنى؟ ويقول لكاتبه: اكتب إلى أبي المثنى ولا يقول: الأمير، ويكثر أن يقول: قَالَ أبو المثنى وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فدعا جميل بْن عمران، فقال له: بلغني أشياء عن الحرشي، فاخرج إلى خراسان، وأظهر أنك قدمت تنظر في الدواوين، واعلم لي علمه.
فقدم جميل، فقال له الحرشي: كيف تركت أبا المثنى؟ فجعل ينظر في الدواوين فقيل للحرشي: ما قدم جميل لينظر في الدواوين، وما قدم إلا ليعلم علمك، فسم بطيخة، وبعث بها إلى جميل، فأكلها فمرض،
(7/15)
وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة، فعولج واستبل وصح، فقال لابن هبيرة: الأمر أعظم مما بلغك، ما يرى سعيد إلا أنك عامل من عماله فغضب عليه وعزله وعذبه، ونفح في بطنه النمل، وكان يقول حين عزله: لو سألني عمر درهما يضعه في عينه ما أعطيته، فلما عذب أدى، فقال له رجل:
ألم تزعم أنك لا تعطيه درهما! قَالَ: لا تعنفني، إنه لما أصابني الحديد جزعت، فقال أذينة بْن كليب- أو كليب بْن أذينة:
تصبر أبا يحيى فقد كنت- علمنا ... - صبورا ونهاضا بثقل المغارم
وقال علي بْن محمد: إنما غضب عليه ابن هبيرة أنه وجه معقل بْن عروة إلى هراة، إما عاملا وإما في غير ذلك من أموره، فنزل قبل أن يمر على الحرشي، وأتى هراة، فلم ينفذ له ما قدم فيه، وكتب إلى الحرشي، فكتب الحرشي إلى عامله: أن احمل إلي معقلا، فحمله، فقال له الحرشي: ما منعك من إتياني قبل أن تأتي هراة؟ قَالَ: أنا عامل لابن هبيرة ولاني كما ولاك، فضربه مائتين وحلقه فعزله ابن هبيرة، واستعمل على خراسان مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة، فكتب الى الحرشي يلخنه، فقال سعيد: بل هو ابن اللخناء وكتب إلى مسلم أن احمل إلي الحرشي مع معقل بْن عروة، فدفعه إليه فأساء به وضيق عليه، ثم أمره يوما فعذبه، وقال: اقتله بالعذاب.
فلما أمسى ابن هبيرة سمر فقال: من سيد قيس؟ قالوا: الأمير، قَالَ:
دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بْن زفر، لو بوق بليل لوافاه عشرون ألفا، لا يقولون: لم دعوتنا ولا يسألونه، وهذا الحمار الذي في الحبس- قد أمرت بقتله- فارسها، وأما خير قيس لها فعسى أن أكونه، إنه لم يعرض إلي أمر أرى أني أقدر فيه على منفعة وخير إلا جررته إليهم، فقال له أعرابي من بني فزارة: ما أنت كما تقول، لو كنت كذلك ما أمرت بقتل فارسها فأرسل إلى معقل أن كف عما كنت امرتك به
(7/16)
قَالَ علي: قَالَ مسلم بْن المغيرة: لما هرب ابن هبيرة أرسل خالد في طلبه سعيد بْن عمرو الحرشي، فلحقه بموضع من الفرات يقطعه إلى الجانب الآخر في سفينة، وفي صدر السفينة غلام لابن هبيرة يقال له قبيض، فعرفه الحرشي فقال له: قبيض؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أفي السفينة أبو المثنى؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: فخرج إليه ابن هبيرة، فقال له الحرشي: أبا المثنى، ما ظنك بي؟
قَالَ: ظني بك أنك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قريش، قال: هو ذاك، قال: فالنجاء.
قَالَ علي: قَالَ أبو إسحاق بْن ربيعة: لما حبس ابن هبيرة الحرشي دخل عليه معقل بْن عروة القشيري، فقال: أصلح الله الأمير! قيدت فارس قيس وفضحته، وما أنا براض عنه، غير أني لم أحب أن تبلغ منه ما بلغت، قَالَ: أنت بيني وبينه، قدمت العراق فوليته البصرة، ثم وليته خراسان، فبعث إلي ببرذون حطم واستخف بأمري، وخان فعزلته، وقلت له: يا بن نسعه، فقال لي: يا بن بسرة فقال معقل: وفعل ابن الفاعلة! ودخل على الحرشي السجن، فقال: يا بن نسعة، أمك دخلت واشتريت بثمانين عنزا جربا، كانت مع الرعاء ترادفها الرجال مطية الصادر والوارد، تجعلها ندا لبنت الحارث بْن عمرو بْن حرجة! وافترى عليه، فلما عزل ابن هبيرة، وقدم خالد العراق استعدى الحرشي على معقل ابن عروة، وأقام البينة أنه قذفه، فقال للحرشي: اجلده، فحده، وقال:
لولا أن ابن هبيرة وهن في عضدي لنقبت عن قلبك، فقال رجل من بني كلاب لمعقل: أسأت إلى ابن عمك وقذفته، فأداله الله منك، فصرت لا شهادة لك في المسلمين، وكان معقل حين ضرب الحد قذف الحرشي أيضا، فأمر خالد بإعادة الحد، فقال القاضي: لا يحد قال: وأم عمر ابن هبيرة بسرة بنت حسان، عدوية من عدي الرباب
(7/17)
ولايه مسلم بن سعيد على خراسان
وفي هذه السنة ولى عمر بْن هبيرة مسلم بْن سعيد بْن أسلم بْن زرعة بْن عمرو بْن خويلد الصعق خراسان بعد ما عزل سعيد بْن عمرو الحرشي عنها ذكر الخبر عن سبب توليته إياها:
ذكر علي بْن محمد أن أبا الذيال وعلي بْن مجاهد وغيرهما حدثوه، قالوا: لما قتل سعيد بْن أسلم ضم الحجاج ابنه مسلم بْن سعيد مع ولده، فتأدب ونبل، فلما قدم عدي بْن أرطاة أراد أن يوليه، فشاور كاتبه، فقال: ولِّه ولاية خفيفة ثم ترفعه، فولاه ولاية، فقام بها وضبطها وأحسن، فلما وقعت فتنة يزيد بْن المهلب حمل تلك الأموال إلى الشام، فلما قدم عمر بْن هبيرة أجمع على أن يوليه ولاية، فدعاه ولم يكن شاب بعد، فنظر فرأى شيبة في لحيته، فكبر.
قَالَ: ثم سمر ليلة ومسلم في سمره، فتخلف مسلم بعد السمار، وفي يد ابن هبيرة سفرجلة، فرمى بها، وقال: أيسرك أن أوليك خراسان؟
قَالَ: نعم، قَالَ: غدوة إن شاء الله قَالَ: فلما أصبح جلس، ودخل الناس، فعقد لمسلم على خراسان وكتب عهده، وأمره بالسير، وكتب إلى عمال الخراج أن يكاتبوا مسلم بْن سعيد، ودعا بجبلة بْن عبد الرحمن مولى باهلة فولاه كرمان، فقال جبلة: ما صنعت بي المولويه! كان مسلم يطمع أن ألي ولاية عظيمة فأوليه كورة، فعقد له على خراسان وعقد لي على كرمان! قَالَ: فسار مسلم فقدم خراسان في آخر سنة أربع ومائة- أو ثلاث ومائة- نصف النهار، فوافق باب دار الإمارة مغلقا، فأتى دار الدواب فوجد الباب مغلقا فدخل المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقا، فصلى وخرج وصيف من باب المقصورة فقيل له: الأمير، فمشى بين يديه حتى أدخله مجلس الوالي في دار الإمارة، وأعلم الحرشي، وقيل له: قدم مسلم بْن سعيد ابن أسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميرا أو وزيرا أو زائرا؟ فأرسل إليه: مثلي لا يقدم خراسان زائرا ولا وزيرا، فأتاه الحرشي فشتمه وأمر بحبسه، فقيل له: إن أخرجته نهارا قتل، فأمر بحبسه عنده حتى أمسى، ثم حبسه ليلا
(7/18)
وقيده، ثم أمر صاحب السجن أن يزيده قيدا فأتاه حزينا، فقال:
مالك؟ فقال: أمرت أن أزيدك قيدا، فقال لكاتبه: اكتب إليه: إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيدا، فإن كان أمرا ممن فوقك فسمعا وطاعة، وإن كان رأيا رأيته فسيرك الحقحقة، وتمثل:
هم إن يثقفوني يقتلوني ... ومن أثقف فليس إلى خلود
ويروى:
فإما تثقفوني فاقتلوني ... فمن أثقف فليس إلى خلود
هم الأعداء ان شهدوا وغابوا ... أولو الأحقاد والأكباد سود
أريغوني إراغتكم فإني ... وحذفة كالشجا تحت الوريد
ويروى: أريدوني إرادتكم.
. قال: وبعث مسلم على كورة رجلا من قبله على حربها قَالَ: وكان ابن هبيرة حريصا، أخذ قهرمانا ليزيد بْن المهلب، له علم بخراسان وبأشرافهم، فحبسه فلم يدع منهم شريفا إلا قرفه، فبعث أبا عبيدة العنبري ورجلا يقال له خالد، وكتب إلى الحرشي وأمره أن يدفع الذين سماهم إليه يستأديهم فلم يفعل، فرد رسول ابن هبيرة، فلما استعمل ابن هبيرة مسلم بْن سعيد أمره بجباية تلك الأموال، فلما قدم مسلم أراد أخذ الناس بتلك الأموال التي فرفت عليهم، فقيل له: إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل في هذا حتى توضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان، لأن هؤلاء الذين تريد أن تأخذهم بهذه الأموال أعيان البلد قرفوا بالباطل، إنما كان على مهزم بْن جابر ثلاثمائة الف فزادوا مائه الف فصارت أربعمائة ألف، وعامة من سموا لك ممن كثر عليه بمنزله
(7/19)
فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدا فيهم مهزم بْن جابر، فقال له مهزم بْن جابر: أيها الأمير، إن الذي رفع إليك الظلم والباطل، ما علينا من هذا كله لو صدق إلا القليل الذي لو أخذنا به أديناه، فقال ابن هبيرة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» ، فقال: اقرأ ما بعدها:
«وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» فقال ابن هبيرة:
لا بد من هذا المال، قَالَ: أما والله لئن أخذته لتأخذنه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوك، وليضرن ذلك بأهل خراسان في عدتهم وكراعهم وحلقتهم، ونحن في ثغر نكابد فيه عدوا لا ينقضي حربهم، إن أحدنا ليلبس الحديد حتى يخلص صدؤه إلى جلده، حتى إن الخادم التي تخدم الرجل لتصرف وجهها عن مولاها وعن الرجل الذي تخدمه لريح الحديد، وأنتم في بلادكم متفضلون في الرقاق وفي المعصفرة، والذين قرفوا بهذا المال وجوه أهل خراسان وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي.
وقبلنا قوم قدموا علينا من كل فج عميق، فجاءوا على الحمرات، فولوا الولايات، فاقتطعوا الأموال، فهي عندهم موقره جمة.
فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بْن سعيد بما قَالَ الوفد، وكتب إليه أن استخرج هذه الأموال ممن ذكر الوفد أنها عندهم فلما أتى مسلما كتاب ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال، وأمر حاجب بن عمرو الحارثي أن يعذبهم، ففعل وأخذ منهم ما فرق عليهم.
وحج بالناس في هذه السنة عبد الواحد بْن عبد الله النضري، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الوافدى.
وكان العامل على مكة والمدينة والطائف في هذه السنة عبد الواحد بْن عبد الله النضري، وعلى العراق والمشرق عمر بْن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة حسين بْن الحسن الكندي، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى.
(7/20)
ثم دخلت
سنة خمس ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمما كان فيها من ذلك غزوة الجراح بْن عبد الله الحكمي اللان، حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون من وراء بلنجر، ففتح بعض ذلك، وجلى عنه بعض أهله، وأصاب غنائم كثيرة.
وفيها كانت غزوة سعيد بْن عبد الملك أرض الروم، فبعث سرية في نحو من ألف مقاتل، فأصيبوا- فيما ذكر- جميعا.
وفيها غزا مسلم بْن سعيد الترك، فلم يفتح شيئا، فقفل ثم غزا أفشينة مدينة من مدائن السغد بعد في هذه السنة، فصالح ملكها وأهلها.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر عَلِيّ بن محمد عن أصحابه، أن مسلم بْن سعيد مرزب بهرام سيس فجعله المرزبان وأن مسلما غزا في آخر الصيف من سنة خمس ومائة، فلم يفتح شيئا وقفل، فاتبعه الترك فلحقوه، والناس يعبرون نهر بلخ وتميم على الساقة، وعبيد الله بْن زهير بْن حيان على خيل تميم، فحاموا عن الناس حتى عبروا ومات يزيد بْن عبد الملك، وقام هشام، وغزا مسلم أفشين فصالح ملكها على ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة، فانصرف لتمام سنة خمس ومائة.
ذكر موت يزيد بن عبد الملك
وفي هذه السنة مات الخليفة يزيد بْن عبد الملك بْن مروان، لخمس ليال بقين من شعبان منها، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي
(7/21)
وقال الواقدي: كانت وفاته ببلقاء من أرض دمشق، وهو يوم مات ابن ثمان وثلاثين سنة.
وقال بعضهم: كان ابن أربعين سنة.
وقال بعضهم: ابن ست وثلاثين سنة، فكانت خلافته في قول أبي معشر وهشام بْن محمد وعلي بْن محمد أربع سنين وشهرا، وفي قول الواقدي أربع سنين.
وكان يزيد بْن عبد الملك يكنى أبا خالد، كذلك قال ابو معشر وهشام ابن محمد والواقدي وغيرهم.
وقال علي بْن محمد: توفي يزيد بْن عبد الملك وهو ابن خمس وثلاثين سنة أو أربع وثلاثين سنة في شعبان يوم الجمعة لخمس بقين منه سنة خمس ومائة.
وقال: ومات بأربد من أرض البلقاء، وصلى عليه ابنه الوليد وهو ابن خمس عشرة سنة، وهشام بْن عبد الملك يومئذ بحمص، حدثنى بذلك عمر ابن شبه، عن على.
وقال هشام بْن محمد: توفي يزيد بْن عبد الملك، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قَالَ علي: قَالَ أبو ماوية أو غيره من اليهود ليزيد بْن عبد الملك: إنك تملك أربعين سنة، فقال رجل من اليهود: كذب لعنه الله، إنما رأى أنه يملك أربعين قصبة، والقصبة شهر، فجعل الشهر سنة.
ذكر بعض سيره وأموره
حدثني عمر بْن شبة، قَالَ: حدثنا علي، قَالَ: كان يزيد بْن عاتكة من فتيانهم، فقال يوما وقد طرب، وعنده حبابة وسلامة: دعوني أطير، فقالت حبابة: إلى من تدع الأمة! فلما مات قالت سلامة القس:
(7/22)
لا تلمنا إن خشعنا ... أو هممنا بالخشوع
قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع
ثم بات الهم مني ... دون من لي من ضجيع
للذي حل بنا اليوم ... من الأمر الفظيع
كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي
قد خلا من سيد كان ... لنا غير مضيع
ثم نادت: وا امير المؤمنيناه! والشعر لبعض الأنصار.
قَالَ علي: حج يزيد بْن عبد الملك في خلافة سليمان بْن عبد الملك فاشترى حبابة- وكان اسمها العالية- بأربعة آلاف دينار من عثمان بْن سهل ابن حنيف، فقال سليمان: هممت أن أحجر على يزيد، فرد يزيد حبابة فاشتراها رجل من أهل مصر، فقالت سعدة ليزيد: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه بعد؟ قَالَ: نعم حبابة، فأرسلت سعدة رجلا فاشتراها باربعه آلاف دينار، وصنعتها حتى ذهب عنها كلال السفر، فأتت بها يزيد، فأجلستها من وراء الستر، فقالت: يا أمير المؤمنين، أبقي شيء من الدنيا تتمناه؟ قَالَ: ألم تسأليني عن هذا مرة فأعلمتك! فرفعت الستر وقالت: هذه حبابه، وقامت وخلتها عنده، فحظيت سعدة عند يزيد وأكرمها وحباها وسعدة امرأة يزيد، وهي من آل عثمان ابن عفان.
قَالَ علي عن يونس بْن حبيب: إن حبابة جارية يزيد بْن عبد الملك غنت يوما:
بين التراقي واللهاة حرارة ... ما تطمئن وما تسوغ فتبرد
(7/23)
فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة، فمرضت وثقلت، فقال: كيف أنت يا حبابة؟ فلم تجبه، فبكى وقال:
لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى ... فباليأس يسلو القلب لا بالتجلد
وسمع جارية لها تتمثل:
كفى حزنا بالهائم الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا
فكان يتمثل بهذا.
قَالَ عمر: قَالَ علي: مكث يزيد بْن عبد الملك بعد موت حبابة سبعة أيام لا يخرج إلى الناس، أشار عليه بذلك مسلمة، وخاف أن يظهر منه شيء يسفهه عند الناس.
(7/24)
خلافة هشام بْن عبد الملك
وفي هذه السنة استخلف هشام بْن عبد الملك لليال بقين من شعبان منها، وهو يوم استخلف ابن أربع وثلاثين سنة وأشهر.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ، قَالَ: حدثنا أبو محمد القرشي وأبو محمد الزيادي والمنهال بْن عبد الملك وسحيم بْن حفص العجيفي، قالوا: ولد هشام بْن عبد الملك عام قتل مصعب بْن الزبير سنة اثنتين وسبعين.
وأمه عائشة بنت هشام بْن إسماعيل بْن هشام بْن الوليد بْن المغيرة بْن عبد الله ابن عمر بْن مخزوم، وكانت حمقاء، أمرها أهلها ألا تكلم عبد الملك حتى تلد، وكانت تثني الوسائد وتركب الوسادة وتزجرها كأنها دابة، وتشترى الكندر فتمضغه وتعمل منه تماثيل، وتصنع التماثيل على الوسائد، وقد سمت كل تمثال باسم جارية، وتنادي: يا فلانة ويا فلانة، فطلقها عبد الملك لحمقها وسار عبد الملك إلى مصعب فقتله، فلما قتله بلغه مولد هشام، فسماه منصورا، يتفاءل بذلك، وسمته أمه باسم أبيها هشام، فلم ينكر ذلك عبد الملك، وكان هشام يكنى أبا الوليد.
وذكر محمد بْن عمر عمن حدثه أن الخلافة أتت هشاما وهو بالزيتونة في منزله في دويرة له هناك.
قَالَ محمد بْن عمر: وقد رأيتها صغيرة، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، وسلم عليه بالخلافة، فركب هشام من الرصافة حتى أتى دمشق.
وفي هذه السنة قدم بكير بن ماهان من السغد- وكان بها مع الجنيد بْن عبد الرحمن ترجمانا له- فلما عزل الجنيد بْن عبد الرحمن، قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بْن خنيس وسالما الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة، فذكروا له أمر
(7/25)
دعوة بني هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق ما معه عليهم، ودخل الى محمد ابن علي ومات ميسرة فوجه محمد بْن علي بكير بْن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل، والنضري على المدينة.
قَالَ الواقدي: حدثني إبراهيم بْن محمد بْن شرحبيل، عن أبيه، قَالَ:
كان إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل حج، فأرسل إلى عطاء بن ابى رباح:
متى أخطب بمكة؟ قَالَ: بعد الظهر، قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر، وقال: أمرني رسولي بهذا عن عطاء، فقال عطاء: ما امرته الا بعد الظهر، قال: فاستحيا إبراهيم بْن هشام يومئذ، وعدوه منه جهلا
. ذكر ولايه خالد القسرى على العراق
وفي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك عمر بْن هبيرة عن العراق وما كان إليه من عمل المشرق، وولى ذلك كله خالد بْن عبد الله القسري في شوال.
ذكر محمد بْن سلام الجمحي، عن عبد القاهر بْن السري، عن عمر بْن يزيد بْن عمير الأسيدي قَالَ: دخلت على هشام بْن عبد الملك، وعنده خالد بْن عبد الله القسري، وهو يذكر طاعة أهل اليمن، قَالَ: فصفقت تصفيقة بيدي دق الهواء منها، فقلت: تالله ما رأيت هكذا خطأ ولا مثله خطلا! والله ما فتحت فتنة في الإسلام إلا بأهل اليمن، هم قتلوا أمير المؤمنين عثمان، وهم خلعوا أمير المؤمنين عبد الملك، وإن سيوفنا لتقطر من دماء آل المهلب قَالَ: فلما قمت تبعني رجل من آل مروان كان حاضرا، فقال: يا أخا بني تميم، ورت بك زنادي، قد سمعت مقالتك، وأمير المؤمنين مول خالدا العراق، وليست لك بدار
(7/26)
ذكر عبد الرزاق أن حماد بْن سعيد الصنعانى اخبره قال: أخبرني زياد ابن عبيد الله، قَالَ: أتيت الشام، فاقترضت، فبينا أنا يوما على الباب باب هشام، إذ خرج علي رجل من عند هشام، فقال لي: ممن أنت يا فتى؟
قلت: يمان، قَالَ: فمن أنت؟ قلت: زياد بْن عبيد الله بْن عبد المدان، قَالَ: فتبسم، وقال: قم الى ناحيه العسكر فقل لأصحابي: ارتحلوا فإن أمير المؤمنين قد رضي عني، وأمرني بالمسير، ووكل بي من يخرجني قَالَ: قلت: من أنت يرحمك الله؟ قَالَ: خالد بْن عبد الله القسري، قَالَ:
ومرهم يا فتى ان يعطوك منديل ثيابي وبرذوني الأصفر فلما جزت قليلا ناداني، فقال: يا فتى، وإن سمعت بي قد وليت العراق يوما فالحق بي، قَالَ: فذهبت إليهم، فقلت: إن الأمير قد أرسلني إليكم بأن أمير المؤمنين قد رضي عنه، وأمره بالمسير فجعل هذا يحتضنني وهذا يقبل رأسي، فلما رأيت ذلك منهم، قلت: وقد أمرني أن تعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، قالوا: إي والله وكرامة، قَالَ: فأعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، فما أمسى بالعسكر أحد أجود ثيابا مني، ولا أجود مركبا مني، فلم ألبث إلا يسيرا حتى قيل: قد ولي خالد العراق، فركبني من ذلك هم، فقال لي عريف لنا: ما لي أراك مهموما! قلت: أجل قد ولي خالد كذا وكذا، وقد أصبت هاهنا رزيقا عشت به، وأخشى أن أذهب إليه فيتغير على فيفوتني هاهنا وهاهنا، فلست أدري كيف أصنع! فقال لي:
هل لك في خصلة؟ قلت: وما هي؟ قَالَ: توكلني بأرزاقك وتخرج، فإن أصبت ما تحب فلي أرزاقك، وإلا رجعت فدفعتها إليك، فقلت نعم.
وخرجت، فلما قدمت الكوفه لبست من صالح ثيابي وأذن للناس، فتركتهم حتى أخذوا مجالسهم، ثم دخلت فقمت بالباب، فسلمت ودعوت وأثنيت، فرفع رأسه، فقال: أحسنت بالرحب والسعة، فما رجعت الى منزلي حتى اصبت ستمائه دينار بين نقد وعرض.
ثم كنت أختلف إليه، فقال لي يوما: هل تكتب يا زياد؟ فقلت:
(7/27)
أقرأ ولا أكتب، أصلح الله الأمير! فضرب بيده على جبينه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! سقط منك تسعة أعشار ما كنت أريده منك، وبقي لك واحدة فيها غني الدهر قَالَ: قلت: أيها الأمير، هل في تلك الواحدة ثمن غلام؟ قَالَ: وماذا حينئذ! قلت: تشتري غلاما كاتبا تبعث به إلي فيعلمني، قَالَ: هيهات! كبرت عن ذلك، قَالَ: قلت: كلا، فاشترى غلاما كاتبا حاسبا بستين دينارا، فبعث به إلي، فأكببت على الكتاب، وجعلت لا آتيه إلا ليلا، فما مضت إلا خمس عشرة ليلة حتى كتبت ما شئت وقرأت ما شئت قَالَ: فإني عنده ليلة، إذ قَالَ: ما أدري هل أنجحت من ذلك الأمر شيئا؟ قلت: نعم، أكتب ما شئت، وأقرأ ما شئت، قَالَ:
إني أراك ظفرت منه بشيء يسير فأعجبك، قلت: كلا، فرفع شاذ كونه، فإذا طومار، فقال: اقرأ هذا الطومار، فقرأت ما بين طرفيه، فإذا هو من عامله على الري، فقال: اخرج فقد وليتك عمله، فخرجت حتى قدمت الري، فأخذت عامل الخراج، فأرسل إلي: إن هذا أعرابي مجنون، فإن الأمير لم يول على الخراج عربيا قط، وإنما هو عامل المعونة، فقل له:
فليقرني على عملي وله ثلاثمائة ألف، قَالَ: فنظرت في عهدي، فإذا أنا على المعونة، فقلت: والله لا انكسرت، ثم كتبت إلى خالد: إنك بعثتني على الري، فظننت أنك جمعتها لي فأرسل إلي صاحب الخراج ان اقره على عمله ويعطيني ثلاثمائة ألف درهم فكتب إلي أن اقبل ما أعطاك، واعلم أنك مغبون فأقمت بها ما أقمت، ثم كتبت: إني قد اشتقت إليك فارفعني إليك، ففعل، فلما قدمت عليه ولاني الشرطة.
وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف عبد الواحد بْن عبد الله النضري وعلى قضاء الكوفة حسين بْن حسن الكندي، وعلى قضاء البصرة موسى بْن أنس وقد قيل إن هشاما إنما استعمل خالد بْن عبد الله القسري على العراق وخراسان في سنة ست ومائة، وإن عامله على العراق وخراسان في سنة خمس ومائة كان عمر بْن هبيرة.
(7/28)
ثم دخلت
سنة ست ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك عن المدينة عبد الواحد بْن عبد الله النضري وعن مكة والطائف، وولى ذلك كله خاله إبراهيم بْن هشام بْن إسماعيل المخزومي، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادى الآخرة سنة ست ومائة، فكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر.
وفيها غزا سعيد بْن عبد الملك الصائفة وفيها غزا الحجاج بْن عبد الملك اللان، فصالح أهلها، وأدوا الجزية وفيها ولد عبد الصمد بْن علي في رجب.
وفيها مات الإمام طاوس مولى بحير بْن ريسان الحميري بمكة وسالم ابن عبد الله بْن عمر، فصلى عليهما هشام وكان موت طاوس بمكة وموت سالم بالمدينة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحكيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ: مات سالم بْن عبد الله سنة خمس ومائة في عقب ذي الحجة، فصلى عليه هشام بْن عبد الملك بالبقيع، فرأيت القاسم بْن محمد بْن أبي بكر جالسا عند القبر وقد أقبل هشام ما عليه إلا دراعة، فوقف على القاسم فسلم عليه، فقام إليه القاسم فسأله هشام: كيف أنت يا أبا محمد؟ كيف حالك؟ قَالَ: بخير، قَالَ: إني أحب والله أن يجعلكم بخير ورأى في الناس كثرة، فضرب عليهم بعث أربعة آلاف، فسمي عام الأربعة آلاف وفيها استقضى إبراهيم بْن هشام محمد بْن صفوان الجمحى ثم عزله، واستقضى الصلت الكندى
(7/29)
ذكر الخبر عن الحرب بين اليمانيه والمضرية وربيعه
وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بين المضرية واليمانية وربيعة بالبروقان من أرض بلخ.
(ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة:) وكان سبب ذلك- فيما قيل- إن مسلم بْن سعيد غزا، فقطع النهر، وتباطأ الناس عنه، وكان ممن تباطأ عنه البختري بْن درهم، فلما أتى النهر رد نصر بْن سيار وسليم بْن سليمان بْن عبد الله بْن خازم وبلعاء بْن مجاهد بْن بلعاء العنبري وأبا حفص بْن وائل الحنظلي وعقبة بْن شهاب المازني وسالم بْن ذؤابة إلى بلخ، وعليهم جميعا نصر بْن سيار، وأمرهم أن يخرجوا الناس إليه فأحرق نصر باب البختري وزياد بْن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بْن مسلم من دخول بلخ- وكان عليها- وقطع مسلم بْن سعيد النهر فنزل نصر البروقان، فأتاه أهل صغانيان، وأتاه مسلمة العقفاني من بني تميم، وحسان بْن خالد الأسدي، كل واحد منهما في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابي وزرعة بْن علقمة وسلمة بْن أوس والحجاج بْن هارون النميري في أهل بيته، وتجمعت بكر والأزد بالبروقان، رأسهم البختري، وعسكر بالبروقان على نصف فرسخ منهم، فأرسل نصر إلى أهل بلخ: قد أخذتم أعطياتكم فالحقوا بأميركم، فقد قطع النهر فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو ابن مسلم، وقال قوم من ربيعة: إن مسلم بْن سعيد يريد أن يخلع، فهو يكرهنا على الخروج فأرسلت تغلب إلى عمرو بْن مسلم: إنك منا، وأنشدوه شعرا قاله رجل عزا بأهله إلى تغلب- وكان بنو قتيبة من باهلة- فقالوا:
إنا من تغلب، فكرهت بكر أن يكونوا في تغلب فتكثر تغلب، فقال رجل منهم:
زعمت قتيبة أنها من وائل ... نسب بعيد يا قتيبة فاصعدي
وذكر أن بني معن من الأزد يدعون باهلة، وذكر عن شريك بْن
(7/30)
أبي قيلة المعني أن عمرو بْن مسلم كان يقف على مجالس بني معن، فيقول: لئن لم نكن منكم ما نحن بعرب، وقال عمرو بْن مسلم حين عزاه التغلبي إلى بني تغلب: أما القرابة فلا أعرفها، وأما المنع فإني سأمنعكم، فسفر الضحاك بْن مزاحم ويزيد بْن المفضل الحداني، وكلما نصرا وناشداه فانصرف فحمل أصحاب عمرو بْن مسلم والبختري على نصر، ونادوا: يال بكر! وجالوا، وكر نصر عليهم، فكان أول قتيل رجل من باهلة، ومع عمرو بْن مسلم البختري وزياد بْن طريف الباهلي، فقتل من أصحاب عمرو بْن مسلم في المعركة ثمانية عشر رجلا، وقتل كردان أخو الفرافصة ومسعدة ورجل من بكر بْن وائل يقال له إسحاق، سوى من قتل في السكك، وانهزم عمرو بْن مسلم إلى القصر وأرسل إلى نصر: ابعث إلى بلعاء بْن مجاهد، فأتاه بلعاء، فقال:
خذ لي أمانا منه، فآمنه نصر، وقال: لولا أني أشمت بك بكر بْن وائل لقتلتك وقيل: أصابوا عمرو بْن مسلم في طاحونة، فأتوا به نصرا في عنقه حبل، فآمنه نصر، وقال له ولزياد بْن طريف والبختري بْن درهم: الحقوا بأميركم وقيل: بل التقى نصر وعمرو بالبروقان، فقتل من بكر بْن وائل واليمن ثلاثون، فقالت بكر: علا م نقاتل إخواننا وأميرنا، وقد تقربنا إلى هذا الرجل فأنكر قرابتنا! فاعتزلوا وقاتلت الأزد، ثم انهزموا ودخلوا حصنا فحصرهم نصر، ثم أخذ عمرو بْن مسلم والبختري أحد بني عباد وزياد بْن طريف الباهلي، فضربهم نصر مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح وقيل:
أخذ البختري في غيضه كان دخلها، فقال نصر في يوم البروقان:
أرى العين لجت في ابتدار وما الذي ... يرد عليها بالدموع ابتدارها!
فما أنا بالواني إذا الحرب شمرت ... تحرق في شطر الخميسين نارها
ولكنني أدعو لها خندف التي ... تطلع بالعبء الثقيل فقارها
(7/31)
وما حفظت بكر هنالك حلفها ... فصار عليها عار قيس وعارها
فإن تك بكر بالعراق تنزرت ... ففي أرض مرو علها وازورارها
وقد جربت يوم البروقان وقعة ... لخندف إذ حانت وآن بوارها
أتتني لقيس في بجيلة وقعة ... وقد كان قبل اليوم طال انتظارها
يعني حين أخذ يوسف بْن عمر خالدا وعياله وذكر علي بْن محمد أن الوليد بْن مسلم قَالَ: قاتل عمرو بْن مسلم نصر بْن سيار فهزمه عمرو، فقال لرجل من بني تميم كان معه: كيف ترى استاه قومك يا أخا بني تميم؟ يعيره بهزيمتهم، ثم كرت تميم فهزموا أصحاب عمرو، فانجلى الرهج وبلعاء بْن مجاهد في جمع من بني تميم يشلهم، فقال التميمي لعمرو: هذه استاه قومي قَالَ: وانهزم عمرو، فقال بلعاء لأصحابه: لا تقتلوا الأسرى ولكن جردوهم، وجوبوا سراويلاتهم عن أدبارهم، ففعلوا، فقال بيان العنبري يذكر حربهم بالبروقان:
أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ... لآل تميم أرجفت كل مرجف
تظل عيون البرش بكر بْن وائل ... إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف
هم أسلموا للموت عمرو بْن مسلم ... وولوا شلالا والأسنة ترعف
وكانت من الفتيان في الحرب عادة ... ولم يصبروا عند القنا المتقصف
خبر غزو مسلم بن سعيد الترك
وفي هذه السنة غزا مسلم بْن سعيد الترك، فورد عليه عزله من خراسان من خالد بْن عبد الله، وقد قطع النهر لحربهم وولاية أسد بْن عبد الله عليها ذكر الخبر عن غزوة مسلم بْن سعيد هذه الغزوة: ذكر علي بْن محمد عن أشياخه أن مسلما غزا في هذه السنة، فخطب الناس في ميدان يزيد، وقال: ما أخلف بعدي شيئا أهم عندي من قوم
(7/32)
يتخلفون بعدي مخلقى الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين، اللهم افعل بهم وافعل! وقد أمرت نصرا ألا يجد متخلفا إلا قتله، وما أرثي لهم من عذاب ينزله الله بهم- يعني عمرو بْن مسلم وأصحابه- فلما صار ببخارى أتاه كتاب من خالد بْن عبد الله القسري بولايته على العراق، وكتب إليه: أتمم غزاتك فسار إلى فرغانة، فقال أبو الضحاك الرواحي- أحد بني رواحة من بني عبس، وعداده في الأزد، وكان ينظر في الحساب: ليس على متخلف العام معصية، فتخلف أربعة آلاف.
وسار مسلم بْن سعيد، فلما صار بفرغانة بلغه أن خاقان قد أقبل إليه، وأتاه شميل- أو شبيل- بْن عبد الرحمن المازني، فقال: عاينت عسكر خاقان في موضع كذا وكذا، فأرسل إلى عبد الله بْن أبي عبد الله الكرماني مولى بني سليم، فأمره بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في يوم، ثم سار من غد حتى قطع وادي السبوح فأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بْن أبي عبد الله قوما من العرفاء والموالي، فأغار الترك على الذين أنزلهم عبد الله ذلك الموضع فقتلوهم، وأصابوا دواب لمسلم وقتل المسيب بْن بشر الرياحي، وقتل البراء- وكان من فرسان المهلب- وقتل أخو غوزك وثار الناس في وجوههم، فأخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بْن مالك الحماني، ورحل بالناس فساروا ثمانية أيام، وهم مطيفون بهم، فلما كانت الليلة التاسعة أراد النزول، فشاور الناس فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد، وإنك إن نزلت المرج تفرق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك، فقال لسوره بْن الحر: يا أبا العلاء، ما ترى؟ قَالَ: أرى ما رأى الناس ونزلوا قَالَ: ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحرقوا قيمة ألف ألف وأصبح الناس فساروا، فوردوا الماء فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بْن سعيد: أعزم على كل رجل إلا اخترط سيفه، ففعلوا فصارت الدنيا كلها سيوفا، فتركوا الماء وعبروا، فأقام يوما،
(7/33)
ثم قطع من غد، وأتبعهم ابن الخاقان قَالَ: فأرسل حميد بْن عبد الله وهو على الساقة إلى مسلم: قف ساعة فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم- وهو مثقل جراحة- فوقف الناس، فعطف على الترك، فأسر أهل السغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة، وانصرف البقية، ومضى حميد ورمي بنشابة في ركبته، فمات.
وعطش الناس، وقد كان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي حمل عشرين قربة على إبله، فلما رأى جهد الناس أخرجها، فشربوا جرعا، واستسقى يوم العطش مسلم بْن سعيد فأتوه بإناء، فأخذه جابر- أو حارثة- بْن كثير أخو سليمان بْن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه، فما نازعني شربتي إلا من حر دخله، فأتوا خجندة، وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بْن نعيم، فأتياه بعهده على خراسان من أسد بْن عبد الله، فأقرأه عبد الرحمن مسلما، فقال: سمعا وطاعة، قَالَ:
وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
قَالَ: وكان أعظم الناس غنى يوم العطش إسحاق بْن محمد الغداني، فقال حاجب الفيل لثابت قطنة، وهو ثابت بْن كعب:
نقضي الأمور وبكر غير شاهدها ... بين المجاذيف والسكان مشغول
ما يعرف الناس منه غير قطنته ... وما سواها من الآباء مجهول
وكان لعبد الرحمن بْن نعيم من الولد نعيم وشديد وعبد السلام وإبراهيم والمقداد، وكان أشدهم نعيم وشديد، فلما عزل مسلم بْن سعيد، قَالَ الخزرج التغلبي: قاتلنا الترك، فأحاطوا بالمسلمين حتى أيقنوا بالهلاك، فنظرت إليهم وقد اصفرت وجوههم، فحمل حوثرة بْن يزيد بْن الحر بْن الحنيف بْن نصر بْن يزيد بْن جعونة على الترك في أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بْن سيار في ثلاثين فارسا، فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم، وحمل الناس عليهم، فانهزم الترك.
قَالَ: وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بْن الحر قَالَ: وكان عمر بْن
(7/34)
هبيرة قَالَ لمسلم بْن سعيد حين ولاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وحث صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر قَالَ: وما عمال العذر؟ قَالَ: مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلا فوله، فإن كان خيرا كان لك، وإن كان شرا كان لهم دونك، وكنت معذورا.
قَالَ: وكان مسلم بْن سعيد كتب إلى ابن هبيرة أن يوجه إليه توبة بْن أبي أسيد مولى بني العنبر، فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة: احمل إلي توبة بْن أبي أسيد، فحمله فقدم- وكان رجلا جميلا جهيرا له سمت- فلما دخل على ابن هبيرة، قَالَ ابن هبيرة: مثل هذا فليول، ووجه به إلى مسلم، فقال له مسلم: هذا خاتمي فاعمل برأيك، فلم يزل معه حتى قدم أسد بْن عبد الله، فأراد توبة أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد: أقم معي فأنا أحوج إليك من مسلم فأقام معه، فأحسن إلى الناس وألان جانبه، وأحسن إلى الجند وأعطاهم أرزاقهم، فقال له اسد: حلفهم بالطلاق فلا يتخلف أحد عن مغزاه، ولا يدخل بديلا، فأبى ذلك توبة فلم يحلفهم بالطلاق.
قَالَ: وكان الناس بعد توبة يحلفون الجند بتلك الايمان، فلما قدم عاصم ابن عبد الله أراد أن يحلف الناس بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف بأيمان توبة، قَالَ: فهم يعرفون ذلك، يقولون: ايمان توبه
. حج هشام بن عبد الملك
وحج بالناس في هذه السنة هشام بْن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره، لا خلاف بينهم في ذلك.
قَالَ الواقدي: حدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قَالَ: كتب الى
(7/35)
هشام بْن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن اكتب لي سنن الحج، فكتبتها له، وتلقاه أبو الزناد قَالَ أبو الزناد: فإني يومئذ في الموكب خلفه، وقد لقيه سعيد بْن عبد الله بْن الوليد بْن عثمان بْن عفان، وهشام يسير، فنزل له، فسلم عليه، ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام: أبو الزناد! فتقدمت، فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيدا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة، قَالَ: فشق على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قَالَ:
ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنة، قدمنا حجاجا ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال: يا عبد الله بْن ذكوان، فرغت مما كتبت إليك؟ فقلت: نعم، فقال أبو الزناد: وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام، فرأيته منكسرا كلما رآني.
وفي هذه السنة كلم إبراهيم بْن محمد بْن طلحة هشام بْن عبد الملك- وهشام واقف قد صلى في الحجر- فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظما لحقه، إلا رددت علي ظلامتي! قَالَ:
أي ظلامة؟ قَالَ: داري، قَالَ: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟
قَالَ: ظلمني والله، قَالَ: فعن الوليد بْن عبد الملك؟ قَالَ: ظلمني والله، قَالَ: فعن سليمان؟ قَالَ: ظلمني، قَالَ: فعن عمر بْن عبد العزيز؟ قَالَ:
يرحمه الله، ردها والله علي، قَالَ: فعن يزيد بْن عبد الملك؟ قَالَ: ظلمني والله، هو قبضها مني بعد قبضي لها، وهي في يديك قَالَ هشام: أما والله لو كان فيك ضرب لضربتك، فقال إبراهيم: في والله ضرب بالسيف والسوط.
فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع، كيف سمعت هذا اللسان؟
قال: ما اجود هذا اللسان! قَالَ: هذه قريش وألسنتها، ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
(7/36)
وفي هذه السنة قدم خالد بْن عبد الله القسري أميرا على العراق.
ولايه اسد بن عبد الله القسرى على خراسان
وفيها استعمل خالد أخاه أسد بْن عبد الله أميرا على خراسان، فقدمها ومسلم بْن سعيد غاز بفرغانة، فذكر عن أسد أنه لما أتى النهر ليقطع، منعه الأشهب بْن عبيد التميمي أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل، فقال له أسد: أقطعني، فقال: لا سبيل إلى إقطاعك، لأني نهيت عن ذلك، قَالَ: لاطفوه وأطعموه، فأبى، قَالَ: فإني الأمير، ففعل، فقال أسد:
اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا، فقطع النهر، فأتى السغد، فنزل مرجها، وعلى خراج سمرقند هانئ بْن هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسدا، فأتوه بالمرج، وهو جالس على حجر، فتفاءل الناس، فقالوا: أسد على حجر! ما عند هذا خير فقال له هانئ: أقدمت أميرا فنفعل بك ما نفعل بالأمراء؟
قَالَ: نعم، قدمت أميرا ثم دعا بالغداء فتغدى بالمرج، وقال: من ينشط بالمسير وله أربعة عشر درهما- ويقال: قَالَ ثلاثة عشر درهما- وها هي في كمي؟ وإنه ليبكي ويقول: إنما أنا رجل مثلكم وركب فدخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بْن نعيم على الجند، فقدم الرجلان على عبد الرحمن بْن نعيم، وهو في وادي أفشين على الساقة- وكانت الساقة على أهل سمرقند الموالي وأهل الكوفة- فسألا عن عبد الرحمن فقالوا: هو في الساقة، فأتياه بعهد وكتاب بالقفل والإذن لهم فيه، فقرأ الكتاب ثم أتى به مسلما وبعهده، فقال مسلم: سمعا وطاعه، فقام عمرو ابن هلال السدوسي- ويقال التيمى- فقنعه سوطين لما كان منه بالبروقان إلى بكر بْن وائل، وشتمه حسين بْن عثمان بْن بشر بْن المحتفز، فغضب
(7/37)
عبد الرحمن بْن نعيم، فزجرهما ثم أغلظ لهما، وأمر بهما فدفعا، وقفل بالناس وشخص معه مسلم.
فذكر علي بْن محمد عن أصحابه، أنهم قدموا على أسد، وهو بسمرقند، فشخص أسد إلى مرو، وعزل هانئا، واستعمل على سمرقند الحسن بْن أبي العمرطة الكندي من ولد آكل المرار قَالَ: فقدمت على الحسن امرأته الجنوب ابنة القعقاع بْن الأعلم رأس الأزد، ويعقوب بْن القعقاع قاضي خراسان، فخرج يتلقاها، وغزاهم الترك، فقيل له: هؤلاء الترك قد أتوك- وكانوا سبعة آلاف- فقال: ما أتونا بل أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وايم الله مع هذا لأدنينكم منهم، ولأقرنن نواصي خيلكم بنواصي خيلهم.
قَالَ: ثم خرج فتباطأ حتى أغاروا وانصرفوا، فقال الناس: خرج إلى امرأته يتلقاها مسرعا، وخرج إلى العدو متباطئا فبلغه فخطبهم، فقال:
تقولون وتعيبون! اللهم اقطع آثارهم وعجل أقدارهم، وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء! فشتمه الناس في أنفسهم.
وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحصر فقال: من يطع الله ورسوله فقد ضل، وارتج عليه، فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قَالَ:
إن لم أكن فيكم خطيبا فإنني ... بسيفي إذا جد الوغى لخطيب
فقيل له: لو قلت هذا على المنبر، لكنت خطيبا، فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره حصره:
أبا العلاء لقد لاقيت معضلة ... يوم العروبة من كرب وتخنيق
تلوي اللسان إذا رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النيق
(7/38)
لما رمتك عيون الناس ضاحية ... أنشأت تجرض لما قمت بالريق
أما القران فلا تهدى لمحكمة ... من القران ولا تهدى لتوفيق
وفي هذه السنة ولد عبد الصمد بْن علي في رجب.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة إبراهيم بْن هشام المخزومي وعلى العراق وخراسان خالد بْن عبد الله القسري، وعامل خالد على صلاة البصرة عقبة بْن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بْن المنذر بْن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بْن عبد الله بْن أنس، وعلى خراسان أسد بْن عبد الله.
(7/39)
ثم دخلت
سنة سبع ومائة
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من خروج عباد الرعيني باليمن محكما، فقتله يوسف ابن عمر، وقتل معه اصحابه كلهم وكانوا ثلاثمائه.
وفيها غزا الصائفة معاوية بْن هشام، وعلى جيش الشام ميمون بْن مهران، فقطع البحر حتى عبر إلى قبرس، وخرج معهم البعث الذى هشام كان أمر به في حجته سنة ست، فقدموا في سنة سبع على الجعائل، غزا منهم نصفهم وقام النصف وغزا البر مسلمة بْن عبد الملك وفيها وقع بالشام طاعون شديد.
وفيها وجه بكير بْن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بْن خنيس وعمار العبادي في عدة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق دعاة إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بْن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبي عكرمة ومحمد بْن خنيس وعامة أصحابه، ونجا عمار، فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وأرجلهم، وصلبهم فأقبل عمار إلى بكير بْن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب به إلى محمد بْن علي، فأجابه: الحمد لله الذي صدق مقالتكم ودعوتكم، وقد بقيت منكم قتلى ستقتل.
وفي هذه السنة حمل مسلم بْن سعيد إلى خالد بن عبد الله، وكان اسد ابن عبد الله له مكرما بخراسان لم يعرض له ولم يحبسه، فقدم مسلم وابن هبيرة مجمع على الهرب، فنهاه عن ذلك مسلم، وقال له: إن القوم فينا أحسن رأيا منكم فيهم وفي هذه السنة غزا أسد جبال نمرون ملك الغرشستان مما يلي جبال الطالقان، فصالحه نمرون وأسلم على يديه، فهم اليوم يتولون اليمن.
غزو الغور
وفيها غزا أسد الغور وهي جبال هراة
(7/40)
ذكر الخبر عن غزوة أسد هذه الغزوة:
ذكر علي بن محمد عن أشياخه، أن أسدا غزا الغور، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتخاذ توابيت ووضع فيها الرجال، ودلاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه، فقال ثابت قطنة:
أرى أسدا تضمن مفظعات ... تهيبها الملوك ذوو الحجاب
سما بالخيل في أكناف مرو ... وتوفزهن بين هلا وهاب
إلى غورين حيث حوى أزب ... وصك بالسيوف وبالحراب
هدانا الله بالقتلى تراها ... مصلبة بأفواه الشعاب
ملاحم لم تدع لسراة كلب ... مهاترة ولا لبني كلاب
فأوردها النهاب وآب منها ... بأفضل ما يصاب من النهاب
وكان إذا أناخ بدار قوم ... أراها المخزيات من العذاب
ألم يزر الجبال جبال ملع ... ترى من دونها قطع السحاب
بأرعن لم يدع لهم شريدا ... وعاقبها الممض من العقاب
وملع من جبال خوط فيها تعمل الحزم الملعية.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة نقل أسد من كان بالبروقان من الجند إلى بلخ، فأقطع كل من كان له بالبروقان مسكن مسكنا بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له: إنهم يتعصبون، فخلط بينهم، وكان قسم لعمارة مدينة بلخ الفعلة على كل كورة على قدر خراجها، وولى بناء مدينة بلخ برمك أبا خالد بْن برمك، - وكان البروقان منزل الأمراء وبين البروقان وبين بلخ فرسخان وبين المدينة والنوبهار قدر غلوتين- فقال أبو البريد في بنيان أسد مدينة بلخ:
شعفت فؤادك فالهوى لك شاعف ... رئم على طفل بحومل عاطف
(7/41)
ترعى البرير بجانبي متهدل ... ريان لا يعشو إليه آلف
بمحاضر من منحني عطفت له ... بقر ترجح زانهن روادف
إن المباركة التي أحصنتها ... عصم الذليل بها وقر الخائف
فأراك فيها ما رأى من صالح ... فتحا وأبواب السماء رواعف
فمضى لك الاسم الذي يرضى به ... عنك البصير بما نويت اللاطف
يا خير ملك ساس أمر رعية ... إني على صدق اليمين لحالف
الله آمنها بصنعك بعد ما ... كانت قلوب خوفهن رواجف
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال الواقدي وهشام وغيرهما.
وكانت عمال الأمصار فِي هَذِهِ السنة عمالها الذين ذكرناهم قبل في سنة ست ومائة
(7/42)
ثم دخلت
سنة ثمان ومائة
(ذكر مَا كَانَ فِيهَا من الأحداث) ففيها كانت غزوة مسلمة بْن عبد الملك حتى بلغ قيسارية، مدينة الروم مما يلي الجزيرة، ففتحها الله على يديه.
وفيها أيضا غزا إبراهيم بْن هشام ففتح أيضا حصنا من حصون الروم.
وفيها وجه بكير بن ماهان الى خراسان عدة، فيهم عمار العبادي، فوشى بهم رجل إلى أسد بْن عبد الله، فأخذ عمارا فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه، فقدموا على بكير بْن ماهان فأخبروه الخبر، فكتب بذلك إلى محمد بْن علي، فكتب إليه في جواب الكتاب: الحمد لله الذي صدق دعوتكم ونجى شيعتكم.
وفيها كان الحريق بدابق، فذكر مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نافع حدثه عن أبيه، قَالَ: احترق المرعى حتى احترق الدواب والرجال.
غزو الختل
وفيها غزا أسد بْن عبد الله الختل، فذكر عن علي بْن محمد أن خاقان أتى أسدا وقد انصرف إلى القواديان، وقطع النهر، ولم يكن بينهم قتال في تلك الغزاة وذكر عن أبي عبيدة، أنه قَالَ: بل هزموا أسدا وفضحوه، فتغنى عليه الصبيان:
از ختلان آمذى ... برو تباه آمذي
قَالَ: وكان السبل محاربا له، فاستجلب خاقان، وكان أسد قد أظهر أنه يشتو بسرخ دره، فأمر أسد الناس فارتحلوا، ووجه راياته، وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره، فكبر الناس، فقال أسد: ما للناس؟ قالوا:
(7/43)
هذه علامتهم إذا ففلوا، فقال لعروة المنادي: ناد أن الأمير يريد غورين، ومضى وأقبل خاقان حين انصرفوا إلى غورين النهر فقطع النهر، فلم يلتق هو ولا هم، ورجع إلى بلخ، فقال الشاعر في ذلك يمدح اسد بن عبد الله:
ندبت لي من كل خمس ألفين ... من كل لحاف عريض الدفين
قال: ومضى المسلمون إلى الغوريان فقاتلوهم يوما، وصبروا لهم، وبرز رجل من المشركين، فوقف أمام أصحابه وركز رمحه، وقد أعلم بعصابة خضراء- وسلم بْن أحوز واقف مع نصر بن سيار- فقال سلم لنصر: قد عرفت رأي أسد، وأنا حامل على هذا العلج، فلعلي أن أقتله فيرضى.
فقال: شأنك، فحمل عليه، فما اختلج رمحه حتى غشيه سلم فطعنه فإذا هو بين يدي فرسه، ففحص برجله، فرجع سلم فوقف، فقال لنصر: أنا حامل حمله أخرى، فحمل حتى إذا دنا منهم اعترضه رجل من العدو، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، فرجع سلم جريحا، فقال نصر لسلم: قف لي حتى أحمل عليهم، فحمل حتى خالط العدو، فصرع رجلين ورجع جريحا، فوقف فقال: أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! فقال: لا والله فيما أظن وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير: قد رأيت موقفكما منذ اليوم وقلة غنائكما عن المسلمين، لعنكما الله! فقالا: آمين إن عدنا لمثل هذا وتحاجزوا يومئذ، ثم عادوا من الغد فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد فأسروا وسبوا وغنموا، وقال بعضهم رجع أسد في سنة ثمان ومائة مفلولا من الختل، فقال اهل خراسان:
از ختلان آمذى ... برو تباه آمذي
بيدل فراز آمذي
قال: وكان أصاب الجند في غزاة الختل جوع شديد، فبعث اسد
(7/44)
بكبشين مع غلام له، وقال: لا تبعهما باقل من خمسمائة، فلما مضى الغلام، قَالَ أسد: لا يشتريهما إلا ابن الشخير، وكان في المسلحة، فدخل ابن الشخير حين أمسى، فوجد الشاتين في السوق، فاشتراهما بخمسمائة، فذبح إحداهما وبعث بالأخرى إلى بعض إخوانه، فلما رجع الغلام إلى أسد أخبره بالقصة، فبعث إليه أسد بألف درهم.
قَالَ: وابن الشخير هو عثمان بْن عبد الله بْن الشخير، أخو مطرف بْن عبد الله بْن الشخير الحرشي وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف.
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي وكان العمال في هذه السنة على الأمصار في الصلاة والحروب والقضاء هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل.
(7/45)
ثم دخلت
سنة تسع ومائة
(ذكر الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا) فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك غزوة عبد الله بْن عقبة بْن نافع الفهري على جيش في البحر وغزوة معاوية بْن هشام أرض الروم، ففتح حصنا بها يقال له طيبة، وأصيب معه قوم من اهل أنطاكية
خبر مقتل عمر بن يزيد الأسيدي
وفيها قتل عمر بْن يزيد الأسيدي، قتله مالك بْن المنذر بْن الجارود ذكر الخبر عن ذلك:
وكان سبب ذلك- فيما ذكر- أن خالد بْن عبد الله شهد عمر بْن يزيد أيام حرب يزيد بْن المهلب، فأعجب به يزيد بْن عبد الملك، وقال: هذا رجل العراق، فغاظ ذلك خالدا، فأمر مالك بْن المنذر وهو على شرطه البصرة أن يعظم عمر بْن يزيد، ولا يعصى له أمرا حتى يعرفه الناس، ثم أقبل يعتل عليه حتى يقتله، ففعل ذلك، فذكر يوما عبد الأعلى بْن عبد الله بْن عامر، فافترى عليه مالك، فقال له عمر بْن يزيد: تفتري على مثل عبد الأعلى! فأغلظ له مالك، فضربه بالسياط حتى قتله
. غزو غورين
وفيها غزا أسد بْن عبد الله غورين، وقال ثابت قطنة:
أرى أسدا في الحرب إذ نزلت به ... وقارع أهل الحرب فاز وأوجبا
تناول أرض السبل، خاقان ردؤه ... فحرق ما استعصى عليه وخربا
أتتك وفود الترك ما بين كابل ... وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا
فما يغمر الأعداء من ليث غابة ... أبي ضاريات حرشوه فعقبا
(7/46)
أزب كأن الورس فوق ذراعه ... كريه المحيا قد أسن وجربا
ألم يك في الحصن المبارك عصمة ... لجندك إذ هاب الجبان وأرهبا!
بنى لك عبد الله حصنا ورثته ... قديما إذا عد القديم وأنجبا.
وفي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك خالد بْن عبد الله عن خراسان وصرف أخاه أسدا عنها
. ذكر الخبر عن عزل هشام خالدا وأخاه عن خراسان
وكان سبب ذلك أن أسدا أخا خالد تعصب حتى أفسد الناس، فقال أبو البريد- فيما ذكر علي بْن محمد لبعض الأزد: ادخلنى على ابن عمك عبد الرحمن ابن صبح، وأوصه بي، وأخبره عني، فأدخله عليه- وهو عامل لأسد على بلخ- فقال: أصلح الله الأمير! هذا أبو البريد البكري أخونا وناصرنا، وهو شاعر أهل المشرق، وهو الذي يقول:
إن تنقض الأزد حلفا كان أكده ... في سالف الدهر عباد ومسعود
ومالك وسويد أكداه معا ... لما تجرد فيها أي تجريد
حتى تنادوا أتاك الله ضاحية ... وفي الجلود من الإيقاع تقصيد
قَالَ: فجذب أبو البريد يده، وقال: لعنك الله من شفيع كذب! أصلحك الله! ولكني الذي أقول:
الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا ... ما بيننا نكث ولا تبديل
قال: صدقت، وضحك وأبو البريد من بني علباء بن شيبان بن ذهل ابن ثعلبة.
قَالَ: وتعصب على نصر بْن سيار ونفر معه من مضر، فضربهم بالسياط، وخطب في يوم جمعه فقال في خطبته: قبح الله هذه الوجوه! وجوه أهل الشقاق والنفاق، والشغب والفساد اللهم فرق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني، وقل من يروم ما قبلي أو يترمرم، وأمير المؤمنين خالي، وخالد بْن عبد الله أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمان
(7/47)
ثم نزل عن منبره، فلما صلى ودخل عليه الناس، وأخذوا مجالسهم، أخرج كتابا من تحت فراشه، فقرأه على الناس، فيه ذكر نصر بْن سيار وعبد الرحمن بن نعيم الغامدي وسورة بْن الحر الأباني- أبان بْن دارم- والبختري بْن أبي درهم من بني الحارث بْن عباد، فدعاهم فأنبهم، فأزم القوم، فلم يتكلم منهم أحد، فتكلم سورة، فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدو مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من قرفهم بالباطل فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا، فضرب عبد الرحمن بْن نعيم، فإذا رجل عظم البطن، أرسح، فلما ضرب التوى، وجعل سراويله يزل عن موضعه، فقام رجل من أهل بيته، فأخذ رداء له هرويا، وقام مادا ثوبه بيده، وهو ينظر إلى أسد، يريد أن يأذن له فيؤزره فأومى إليه أن أفعل، فدنا منه فأزره- ويقال بل أزره أبو نميلة- وقال له: اتزر أبا زهير، فإن الأمير وال مؤدب ويقال: بل ضربهم في نواحي مجلسه.
فلما فرغ قَالَ: أين تيس بني حمان؟ - وهو يريد ضربه، وقد كان ضربه قبل- فقال: هذا تيس بني حمان، وهو قريب العهد بعقوبة الأمير، وهو عامر بْن مالك بْن مسلمة بْن يزيد بْن حجر بْن خيسق بْن حمان بْن كعب بْن سعد وقيل إنه حلقهم بعد الضرب، ودفعهم إلى عبد ربه بْن أبي صالح مولى بني سليم- وكان من الحرس- وعيسى بن ابى بريق، ووجههم الى خالد، وكتب اليه: انهم أرادوا الوثوب عليه، فكان ابن ابى بريق كلما نبت شعر احدهم حلقه، وكان البختري بن أبي درهم، يقول: لوددت أنه ضربني وهذا شهرا- يعني نصر بْن سيار لما كان بينهما بالبروقان- فأرسل بنو تميم إلى نصر: إن شئتم انتزعناكم من أيديهم، فكفهم نصر، فلما قدم بهم على خالد لام أسدا وعنفه، وقال: ألا بعثت برءوسهم! فقال عرفجة التميمي:
فكيف وأنصار الخليفة كلهم ... عناة وأعداء الخليفة تطلق
(7/48)
بكيت ولم أملك دموعي وحق لي ... ونصر شهاب الحرب في الغل موثق
وقال نصر:
بعثت بالعتاب في غير ذنب ... في كتاب تلوم أم تميم
إن أكن موثقا أسيرا لديهم ... في هموم وكربة وسهوم
رهن قسر فما وجدت بلاء ... كأسار الكرام عند اللئيم
أبلغ المدعين قسرا وقسر ... أهل عود القناة ذات الوصوم
هل فطمتم عن الخيانة والغدر ... أم أنتم كالحاكر المستديم،
وقال الفرزدق:
أخالد لولا الله لم تعط طاعة ... ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا
إذا للقيتم دون شد وثاقه ... بنى الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا
وخطب أسد بْن عبد الله على منبر بلخ، فقال في خطبته: يا أهل بلخ، لقبتموني الزاغ والله لأزيغن قلوبكم.
فلما تعصب أسد وأفسد الناس بالعصبية، كتب هشام إلى خالد بْن عبد الله: اعزل أخاك، فعزله فاستأذن له في الحج، فقفل أسد إلى العراق ومعه دهاقين خراسان، في شهر رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف أسد على خراسان الحكم بْن عوانة الكلبي، فأقام الحكم صيفيه، فلم يغز.
ذكر الخبر عن دعاه بنى العباس
وذكر علي بْن محمد أن أول من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بْن عبد الله الأولى، بعثه محمد بْن على ابن عبد الله بْن العباس، وقال له: ادع الناس إلينا وانزل في اليمن، والطف بمضر ونهاه عن رجل من أبرشهر، يقال له غالب، لأنه كان مفرطا في حب بني فاطمه
(7/49)
ويقال: أول من جاء أهل خراسان بكتاب محمد بن على حرب بْن عثمان، مولى بني قيس بْن ثعلبة من أهل بلخ.
قَالَ: فلما قدم زياد أبو محمد، ودعا إلى بني العباس، وذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، فقدم عليه غالب من أبرشهر، فكانت بينهم منازعة، غالب يفضل آل أبي طالب وزياد يفضل بني العباس.
ففارقه غالب، وأقام زياد بمرو شتوة، وكان يختلف إليه من أهل مرو يحيى بْن عقيل الخزاعي وإبراهيم بْن الخطاب العدوي.
قَالَ: وكان ينزل برزن سويد الكاتب في دور آل الرقاد، وكان على خراج مرو الحسن بْن شيخ، فبلغه أمره، فأخبر به أسد بْن عبد الله، فدعا به- وكان معه رجل يكنى أبا موسى- فلما نظر أليه أسد، قَالَ له:
أعرفك؟ قَالَ: نعم، قَالَ له أسد: رأيتك في حانوت بدمشق، قَالَ: نعم، قَالَ لزياد: فما هذا الذي بلغني عنك؟ قَالَ: رفع إليك الباطل، إنما قدمت خراسان في تجارة، وقد فرقت مالي على الناس، فإذا صار إلي خرجت.
قَالَ له أسد: اخرج عن بلادي، فانصرف، فعاد إلى أمره، فعاود الحسن أسدا، وعظم عليه أمره، فأرسل إليه، فلما نظر إليه، قَالَ: ألم أنهك عن المقام بخراسان! قَالَ: ليس عليك أيها الأمير مني بأس، فاحفظه وأمر بقتلهم، فقال له أبو موسى: فاقض ما أنت قاض فازداد غضبا، وقال له: أنزلتني منزلة فرعون! فقال له: ما أنزلتك ولكن الله أنزلك.
فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل بيت الكوفة، فلم ينج منهم يومئذ إلا غلامان استصغرهما، وأمر بالباقين فقتلوا بكشانشاه.
وقال قوم: أمر أسد بزياد أن يخط وسطه، فمد بين اثنين، فضرب فنبا السيف عنه، فكبر أهل السوق، فقال أسد: ما هذا؟ فقيل له، لم يحك السيف فيه فأعطى أبا يعقوب سيفا، فخرج في سراويل والناس قد اجتمعوا عليه، فضربه، فنبا السيف، فضربه ضربة أخرى، فقطعه باثنتين
(7/50)
وقال آخرون: عرض عليهم البراءة، فمن تبرأ منهم مما رفع عليه خلى سبيله، فأبى البراءة ثمانية منهم، وتبرأ اثنان.
فلما كان الغد أقبل أحدهما وأسد في مجلسه المشرف على السوق بالمدينة العتيقة، فقال: اليس هذا أسيرنا بالأمس! فأتاه، فقال له: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فأشرفوا به على السوق، وهو يقول: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد ص نبيا، فدعا اسد بسيف بخاراخذاه، فضرب عنقه بيده قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيرا، فنزل على أبي النجم، فكان يأتيه الذين لقوا زيادا فيحدثهم ويدعوهم، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان كثير أميا، فقدم عليه خداش، وهو في قرية تدعى مرعم، فغلب كثيرا على أمره، ويقال: كان اسمه عمارة فسمي خداشا، لأنه خدش الدين.
وكان أسد استعمل عيسى بْن شداد البرجمي إمرته الأولى في وجه وجهه على ثابت قطنة، فغضب، فهجا أسدا، فقال:
أرى كل قوم يعرفون أباهم ... وأبو بجيلة بينهم يتذبذب
إني وجدت أبي أباك فلا تكن ... إلبا علي مع العدو تجلب
أرمي بسهمي من رماك بسهمه ... وعدو من عاديت غير مكذب
اسد بن عبد الله جلل عفوه ... أهل الذنوب فكيف من لم يذنب!
أجعلتني للبرجمي حقيبة ... والبرجمي هو اللئيم المحقب
عبد إذا استبق الكرام رأيته ... يأتي سكينا حاملا في الموكب
إني أعوذ بقبر كرز أن أرى ... تبعا لعبد من تميم محقب.
ولايه اشرس بن عبد الله على خراسان