ج5وج6.[تكلمه صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم وصفة قراءته وصوته]$
*قال هند: "ويتكلم بجوامع الكلم فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير".
وفي رواية ابن عباس, عن هند رضي الله عنهم: «إذا تكلم تكلم بجوامع الكلام لا فضل ولا تقصير, وإذا حدث أعاد».
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأوتيت جوامع الكلم».
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا محمد النبي الأمي, لا نبي بعدي, أوتيت جوامع الكلم وخواتمه, وعلمت خزنة النار, وحملة العرش».
وخرج الدارقطني في "سننه": من حديث زكريا بن عطية, حدثنا سعيد بن خالد, حدثني محمد بن عثمان, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع العلم, واختصر لي الحديث اختصاراً».
وخرج أبو عبد الله محمد بن أيوب بن الضريس في كتابه "فضائل القرآن العظيم" فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا جرير, عن
الحسن: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله, إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا وقد هممنا أن نكتبها, فقال: «يا ابن الخطاب, أتتهودون كما يتهود اليهود والنصارى, أما والذي نفس محمد بيده, لقد جئتكم بها بيضاء نقية, ولكن أعطيت جوامع الكلم, واختصر لي الحديث اختصاراً».
وجاء معناه عن أبي قلابة, عن عمر, خرجه أبو داود في "المراسيل".
وخرج أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: حدثنا أحمد بن عبد الله بحران, حدثنا النفيلي, حدثنا زهير بن معاوية, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله رضي الله عنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلام وخواتمه, أو جوامع الخير وخواتمه, وإنا كنا لا ندري ما نقول إذا جلسنا في الصلاة حتى علمنا فقال: «قولوا: التحيات لله» .... وذكر الحديث.
أخبرنا الخطيب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأذرعي ثم المصري – قدم علينا دمشق بقراءتي عليه – أخبرك الخطيب
أبو الفتح محمد بن محمد البكري فأقر به, أخبرنا عبد اللطيف بن أبي محمد النميري, أخبرنا عبد المنعم بن عبد الوهاب التاجر, أخبرنا علي بن أحمد العمري, أخبرنا محمد بن محمد البزار, أخبرنا إسماعيل بن محمد الملحي, أخبرنا الحسن بن عرفة العبدي, حدثنا هشيم بن بشير, عن عبد الرحمن بن إسحاق القرشي, عن أبي بردة, عن أبي موسى الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه», فقلنا: يا رسول الله, علمنا مما علمك الله عز وجل فعلمنا التشهد في الصلاة.
وجاء قوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم» في عدة أحاديث, وفسر جوامع الكلم في هذا بالقرآن لإيجازه.
وأما قول هند: "ويتكلم بجوامع الكلم" أي بالموجز الكثير المعاني, القليل الألفاظ, المفيد المحكم من القول, يبينه قوله: "فصلاً" وهو المحكم من القول الذي لا يعاب قائله, يقال: فصل القائل القول يفصله بالكسر فصلاً إذا أحكمه.
وقوله: "لا فضول فيه ولا تقصير" يقال: فضل الشيء بالفتح يفضل بالضم, وفضل بالكسر يفضل بالفتح فضولاً, أي: صار فضلة لا يحتاج إليه, فكان كلامه صلى الله عليه وسلم عارياً عن الفضول الذي يزيد على الحاجة, خالياً من التقصير الذي يحتاج إلى إتمامه لنقصه وعدم إحكامه.
وفي "مسند أحمد بن حنبل" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسرد سردكم هذا, كان يتكلم بكلام يبينه فصلاً يحفظه من يسمعه.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" بنحوه.
وأصله مخرج في "الصحيحين".
وفيهما عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه.
وأما قول هند في رواية ابن عباس: "وإذا حدث أعاد":
ففي "الصحيحين": عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه.
وهو في "الشمائل" للترمذي, عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه.
وقال أحمد بن منيع أبو جعفر البغوي في "مسنده": حدثنا أبو أحمد – يعني: الزبيري – حدثنا مسعر, سمعت شيخنا, قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل وترتل.
ومعناهما واحد؛ أي يتمهل فيه مع البيان, وحسن التأليف.
وكذلك كانت قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن:
روي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ما رأيت إنسياً أحسن صوتاً من النبي صلىوسلم عليه بالقرآن.
رواه أبو بكر يعقوب بن يوسف المطوعي, حدثنا أبو معمر – يعني القطيعي – حدثنا سفيان, عن مسعر, عن عدي بن ثابت, عن البراء.
وقال الخرائطي في "اعتلال القلوب": حدثنا علي بن داود القنطري, حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عبد الله بن يحيى, عن علي رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} قال: ما بعث الله عز وجل نبياً قط إلا صبيح الوجه, كريم الحسب, حسن الصوت, وإن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان كريم الحسب صبيح الوجه حسن الصوت ماداً ليس له ترجيع.
ورواه محمد بن إسحاق بن خزيمة, حدثنا العباس بن يزيد البحراني, حدثنا نوح بن قيس الحداني, حدثنا حسام بن المصك الأزدي, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: ما بعث الله نبياً قط إلا حسن الوجه, حسن الصوت, إلا أنه كان لا يرجع.
ورواه أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي, عن محمد بن أحمد الضبعي, عن العباس بن يزيد بن أبي حبيب ... فذكره.
تابعهما أبو بكر محمد بن إبراهيم الأنماطي, عن البحراني.
ورويناه في كتاب "الشمائل" تأليف الترمذي, عن قتادة من قوله نحوه. وذكره الدارقطني أنه الصواب.
$*وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان جهير الصوت:$
وفي حديث عاصم عن زر, عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فبينا نحن عنده إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري: يا محمد, فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو من صوته: «هاؤم» ... الحديث.
خرجه أحمد في "مسنده", والترمذي في "جامعه", والنسائي في
"سننه الكبرى".
قيل: إنما رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته رفقاً بالأعرابي حتى لا يكون صوته أرفع من صوت النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة مفسرة [حرفاً] حرفاً.
وجاء عن مخرمة بن سليمان, عن كريب قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل, فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو شاء حافظ أن يحفظها لفعل.
وحدث ابن لهيعة, عن الحارث بن يزيد, عن زياد بن نعيم, عن مسلم بن مخراق, عن عائشة رضي الله عنها قال: ذكر لها أن ناساً يقرءون القرآن في الليلة مرة أو مرتين فقالت: أولئك قرءوا ولم يقرءوا, كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة التمام, وكان يقرأ بسورة البقرة وآل عمران والنساء، ولا يمر بآية فيها تخوف إلا وعاذ الله عز وجل واستعاذه، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغب إليه.
خرجه أحمد في "مسنده".
وقال عبد الله بن أبي قيس لعائشة رضي الله عنها: كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل يجهر أو يسر؟ قالت: كل ذلك كان يفعل, ربما جهر وربما أسر.
وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال جرير بن حازم: حدثنا قتادة, سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: كان يمد مداً.
وقال همام: عن قتادة, سئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت مداً, ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم, يمد ببسم الله, ويمد بالرحمة, ويمد بالرحيم.
وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: {بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}
وخرجه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل.
وتقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه.
$[تمثله صلى الله عليه وسلم بالشعر]$
*وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بالشعر في بعض كلامه:
خرج الإمام أحمد في "مسنده" والنسائي في "عمل اليوم والليلة" والترمذي في "جامعه" و"الشمائل", واللفظ له من حديث شريك, عن المقدام بن شريح, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قال: قيل لها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل شعر ابن رواحة, ويتمثل ويقول: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
ورواه هارون بن معروف, عن سفيان بن عيينة, عن مسعر, عن المقدام.
وقال مسدد والإمام أحمد في "مسنديهما" حدثنا هشيم – زاد مسدد واللفظ له: وأبو عوانة, عن مغيرة, عن عامر, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث خبراً تعمل بعاقبة بيت طرفة: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».
وخرجه النسائي في كتاب "عمل اليوم والليلة" من حديث عبد الله بن محمد بن نفيل, عن هشيم بنحوه, ومن حديث أبي عوانة عن إبراهيم بن مهاجر, عن الشعبي به.
وقال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن الصباح, حدثنا الوليد بن أبي ثور, عن سماك, عن عكرمة قال: سئلت عائشة رضي الله عنها هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل شعراً قط؟ قالت: كان أحياناً إذا دخل بيته يقول: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».
وهو عند سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس أيضاً؛ حدث به أبو محمد عبد بن حميد في "مسنده": حدثني ابن أبي شيبة, حدثنا أبو أسامة, عن زائدة, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود».
وصدر هذا: ستبدي لك الأيام ما كانت جاهلا.
وهذا البيت لطرفة بن العبد واسمه عمرو.
وذكر أبو زرعة أحمد بن الحسن الرازي في كتاب "الشعراء" له في ترجمة طرفة هذا: أنه كان آدم أزرق أزور الصدر أفرع وكان لسانه أسود, كأنه لسان الظبي.
وقال نحوه أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني في "معجم الشعراء" له فقال: وكان آدم أزرق أوقص أفرع أكشف أزور الصدر متساوك الخلق، ويقال: إنه أخرج لسانه فإذا هو أسود كأنه لسان ظبي, فأخذه بيده ثم أومأ بيده إلى رقبته فقال: ويل لهذا مما يجني عليه هذا, فكان هو الذي جنى عليه, فقتل, وذلك أنه هجا عمرو بن هند – وكان منادمه هو والمتلمس – والمتلمس – خال طرفة – فكتب لهما كتابين إلى المكعبر يأمره فيهما بقتلهما.
وقال المرزباني: قيل: وقتلهما المكعبر بالبحرين بكتاب عمرو بن هند وله بضع وعشرون سنة, وقد روي أنه لم يبلغ العشرين. انتهى.
وبيته هذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بعجزه من أحكم ما قالته العرب, وقد دخل الشعبي على عبد الملك بن مروان فقال: يا شعبي أنشدني أحكم ما قالته العرب وأوجزه, فأنشده أبياتاً منها هذا البيت فقال: وقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
رواه مطولاً أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد, حدثنا أبو عثمان, أخبرنا العتبي قال: دخل الشعبي على عبد الملك ... فذكره.
رويناه في "فوائد أبي مسلم الكاتب" محمد بن أحمد بن علي, حدث به عن أبي بكر بن دريد.
وذكر ابن عائشة أنه كان يقال: أشعر بيت قالته العرب هذا البيت.
رواه شهاب بن عطارد, عن الغلابي, عن ابن عائشة.
ولطرفة بيت آخر بمعناه وهو ما ذكره أبو عبيد في كتابه "غريب المصنف" عن الأصمعي قال: وكان جرير بن الخطفي ينشد لطرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
يريد تشتري له. انتهى.
وبتاتاً: زاداً.
وقال أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي بن النحاس في كتابه "شرح المعلقات السبع" ومنها قصيدة طرفة التي منها البيت الأول, قال: قال الأصمعي: وأنشد جرير بيتاً لطرفة بعد هذا لم يأت به غير جرير وهو:
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
انتهى.
والبيت الأول الذي كان يتمثل النبي صلى الله عليه وسلم بعجزه أحكم وأوجز من هذا.
وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا إبراهيم بن عرعرة, حدثنا يوسف بن يزيد أبو معشر البراء, حدثني طيسلة بن صدقة – قال ابن
عرعرة: وإنما هو صدقة بن طيسلة – حدثني أبي والحي, عن أعشى بن مازن قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته:
يا مالك الناس وديان العرب
إني نكحت ذربة من الذرب
ذهبت أبغيها الطعام في رجب
فخلفتني بنزاع وحرب
أخلفت العهد ولطت بالذنب
وهن شر غالب لمن غلب
قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل ويقول: «وهن شر غالب لمن غلب, وهن شر غالب لمن غلب».
وحدث به البخاري في "تاريخه الكبير" على الصواب, فقال: قاله لي محمد بن أبي بكر, حدثنا أبو معشر يوسف البراء, حدثني صدقة بن طيسلة, حدتني معن بن ثعلبة المازني والحي بعد قال: حدثني
الأعشى المازني قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته, وذكر الأبيات بنحوها.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عارم بن الفضل, حدثنا
حماد بن زيد, عن علي بن زيد, عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ...
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله, إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً ... , ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً» فقال أبو بكر رضي الله عنه: نشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر ولا ينبغي لك.
وقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل».
وجاء من مراسيل الحسن البصري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمة نبي ألقيت على لسان شاعر: إن القرين بالمقارن يقتدي».
قلت: وصدره:
عن المرء لا تسل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي.
وهو من شعر عدي بن زيد العبادي الحيري يكنى أبا عمير نصراني, ذكره منسوباً إلى زيد مناة بن تميم: أبو عبيد الله المرزباني في "معجمه".
$[علمه صلى الله عليه وسلم بألسنة العرب ومخاطبة كل قوم بلغتهم]$
وتمثله صلى الله عليه وسلم بالأشعار المحكمة والأمثال المعلمة دال على فصاحته السنية وبلاغته القوية, ولقد كان صلى الله عليه وسلم من الفصاحة بالمكان الذي لا يلحق والغاية التي لا تدرك والمحل الأرفع والمجال الأوسع, أدب أكمل أدب, وعلم ألسنة العرب, فكان يخاطب كلا بلغته وفصاحته, ويجاريه في غريبه وبلاغته.
جاء في حديث طهفة بن أبي زهير النهدي الذي روي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: لما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم قام طهفة بن أبي زهير [النهدي] فقال: أتيناك يا رسول الله, من غوري تهامة على أكوار الميس ترتمي بنا العيس, نستحلب الصبير, ونستخلب الخبير, ونستعضد البرير .... الحديث بطوله, وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومزقها وفرقها, وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر, وافجر لهم الثمد, وبارك لهم في المال والولد .... » الحديث, وفي آخره فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله, نراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره, ونحن بنو أب واحد, فقال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي, وربيت في بني سعد».
رواه عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري الحارثي كربزان, حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العذري, حدثنا شريك, عن العوام بن حوشب, عن الحسن, عن عمران بطوله نحوه, وتفرد به العذري.
ورواه أبو الشيخ, عن عبد الغفار بن أحمد الحمصي, حدثنا محفوظ ابن بحر, حدثنا الوليد بن عبد الواحد التيمي, أخبرني زهير بن معاوية, عن ليث, عن حبة العرني, عن حذيفة, قال: لما اجتمعت وفود العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام لهم طهفة النهدي .... وذكره بمعناه.
وقال أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي: حدثني عمارة بن زيد الأنصاري – من الأوس من ساكني تيماء – حدثني إبراهيم بن سعد, عن محمد بن إسحاق, حدثني يحيى بن عروة بن الزبير, عن عروة بن الزبير, عن زبان ابن قسور الكلفي, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو نازل بوادي الشوحط ومعه رجل دونه في هديه وسمته إذا كلم رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم) فأطال أومأ إليه أن اقتصد, وإذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجلاً سمعه وفهمه قول النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت لبعض أصحابه: من هذا؟ قالوا: هذا صاحبه الأخص, هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن لوباً – يعني: نحلاً – كان في عيلم له طرم وشرو فجاء رجل فضرب ميتين فأنتج حياً وكفنه بالثمام فنحس فطار اللوب هارباً, ودلي مشواره في العيلم فاشتار العسل فمضى به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون ملعون من سرق شرو قوم فأضر بهم, أفلا تبعتم أثره وعرفتم خبره», قال: قلت: يا رسول الله, دخل في قوم لهم منعة وهم جيرتنا من هذيل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صبرك صبرك ترد نهر الجنة, وإن سعته كما بين اللقيقة والسحيقة يتسبسب جرياً بعسل صاف من قذاه ما تقيأه لوب, ولا مجه نوب».
فقوله العيلم: هو في أحد معانيه الركية الكثيرة الماء, والعيلم – أيضاً – البحر فيما قاله الخليل.
والطرم: في بعض اللغات: العسل, وفي بعضها: الشهد, ويطلق – أيضاً – على الزبد, وعلى الكافور, والطرم أيضاً فيما قيل: ضرب من الشجر.
والشرو: القطع من الشهد.
والثمام: نبت ضعيف معروف له خوص أو شبهه.
والمشوار: الآلة التي يشتار بها العسل, واشتاره: اجتناه, وكذلك شاره وأشاره لغة.
والميتان: الزندان, ويقال: الزندتان عودان في أحدهما فروض وهي الثقب تقدح بها النار, فالتي فيها الفروض هي الأنثى, يقال لها: الزندة, وهي السفلى, والذي يقدح بطرفه الذكر, ويقال: الزند وهو العود الأعلى, والحي الذي أنتجه منها النار.
ونحس: دخن, والنحاس في أحد معانيه الدخان.
واللقيقة والسحيقة: موضعان متباينان بعداً.
ويتسبسب: يجري متواصلاً كأنه من السبب الذي يتوصل به إلى غيره, ومعناه على هذا جريه.
والنوب: النحل؛ لأنها ترعى وتنوب إلى مكانها, وقيل: لأنها تضرب إلى السواد, ومنه قيل للأسود: نوبي, ولوبي باللام أيضاً, وكذلك النحل يقال لها: لوبي كما في الحديث, واللوب فسر في الحديث بالنحل, واللوب جمع لوبة, وهي الحرة, وأيضاً جمع لائب وهو العطشان, ونحل لوب: أي عطاش.
وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا ابن جابر,
حدثني عروة بن محمد بن عطية السعدي, حدثني أبي أن أباه أخبره, قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من بني سعد بن بكر وكنت أصغر القوم, فخلفوني في رحالهم ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى حوائجهم, قال: «هل بقي منكم أحد؟», قالوا: يا رسول الله غلام منا خلفناه في رحالنا, فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعثوني إليه, فأتوني فقالوا: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني, قال: «ما أغناك الله عز وجل فلا تسأل الناس شيئاً فإن اليد العليا هي المنطية واليد السفلى هي المنطاة وإن مال الله لمسئول ومنطى» قال: فكلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا.
ورواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا ابن جابر ... فذكر نحوه.
ورواه العباس بن الوليد بن مزيد, عن أبيه, عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بنحوه.
وجاء عن يونس بن عبد الأعلى: حدثنا ابن وهب, حدثني عاصم بن عبيد الله بن نعيم, عن أبيه, عن عروة بن محمد بن عطية السعدي, عن أبيه, عن جده: أنه قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من قومه من
ثقيف .. وذكر الحديث بنحوه.
ورواه حماد بن سلمة, عن رجاء أبي المقدام, عن إسماعيل بن عبيد الله, عن عطية – رجل من بني جشم بن سعد – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس, لا تسألوا فإن مال الله مسئول ومنطى».
وقال الباغندي الكبير محمد بن سليمان محمد بن الحارث: حدثنا أبو نعيم – يعني: ضرار بن صرد – حدثنا سعيد بن عبد الجبار الزبيدي الحمصي, عن منصور بن رجاء, عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر, عن عطية بن عمرو السعدي, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل الناس شيئاً ومال الله مسئول ومنطى» قال: فكلمني بلغة قومي وهمز.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن الزهري, عن صفوان بن عبد الله, عن أم الدرداء, عن
كعب بن عاصم الأشعري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من ام بر أم صيام في ام سفر».
وهو في "معجم الطبراني" عن عبد الله بن أحمد, عن أبيه كذلك.
وكعب بن عاصم الأشعري من أصحاب السفينة في هجرتهم إلى الحبشة ثم منها إلى المدينة مع أبي موسى وأصحابه, وشهد فتح مصر، وتوفي بالشام, وهو من المقلين, له من الأحاديث دون العشرة: منها هذا الحديث, وهو على لغة حمير فإنهم والأشعريين منهم يقلبون اللام من أداة التعريف ميماً يقولون: هذا امرجل أي هذا الرجل, وهي لغة مشهورة باليمن وتسمى طمطمة حمير, ويحتمل – والله أعلم – أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك على لغة كعب بن عاصم الأشعري؛ ليخاطب كل قوم بما يعرفون, كما تقدم من كلامه؟.
وقد رواه على اللغة المشهورة الطبراني – أيضاً – فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, عن عبد الرزاق ولفظه: «ليس من البر الصيام في السفر».
تابعه يزيد بن زريع, عن معمر كذلك.
وخالف أصحاب معمر بن عبد الواحد بن زياد, فرواه عن معمر, عن الزهري, عن صفوان, عن أم الدرداء, قال: ولا أعلمه إلا عن أبي الدرداء, عن كعب.
وحدث به أحمد بن حنبل في "المسند": عن سفيان بن عيينة, عن الزهري, عن صفوان, عن أم الدرداء, عن كعب.
تابعه علي بن حرب الطائي والحميدي, عن سفيان, زاد الحميدي في آخره, فقال: قال سفيان: وذكر لي أن الزهري كان يقول فيه – ولم أسمعه أنا: «ليس من ام بر ام صيام في ام سفر» وهي لغة.
تابعهما محمد بن الوليد الزبيدي, وأبو سلمة محمد بن أبي حفصة – واسمه ميسرة – وإبراهيم ابن أبي عبلة, وإسحاق بن راشد, وإسماعيل بن مسلم, وداود ابن أبي هند, وزياد بن سعد, وسليمان بن كثير, وابن جريج, وعقيل بن خالد, والليث بن سعد, ومالك بن أنس, ومكحول الأزدي، والنعمان بن راشد, ويونس بن يزيد وغيرهم عن الزهري دون زيادة الحميدي التي ذكرناها.
خالفهم قرة بن عبد الرحمن بن حيويل المعافري المصري فيما رواه عبد الله بن وهب المصري عنه, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن أم الدرداء عن كعب.
وقرة فيه لين.
$[تكلمه صلى الله عليه وسلم بالفارسية وغيرها]$
وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية وغيرها من اللغات الأمم:
قال بكار بن قتيبة: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير, حدثنا ذواد بن علبة الحارثي, عن الليث بن أبي سليم, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة اشكنب درد» قال: قلت: نعم يا رسول الله, قال: «قم فصل فإن في الصلاة شفاء» قال بكار: اشكنب درد؟: أتشتكي بطنك؟
هذا الحديث حدث به أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في "سننه": عن جعفر بن مسافر, عن السري بن مسكين, عن ذواد بن علبة بنحوه.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أسود بن عامر, حدثنا ذواد أبو المنذر, عن ليث, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما هجرت إلا وجدت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, قال فصلى ثم قال: «اشكنب درد؟» قال: قلت: لا, قال: «قم فصل فإن في الصلاة شفاء».
كذا وقع "قلت: لا" والمعروف في الحديث "قلت: نعم".
ورواه باللفظ المعروف أيضاً أبو نعيم الأصبهاني في "الطب" من حديث جبارة بن المغلس عن ذواد.
وله طرق مدارها على ذواد, ولا يحتج به.
وقد حدث به الصلت بن الحجاج, عن ليث – وهو ابن أبي سليم – فاتهم بسرقته من ذواد.
وقال أبو أحمد ابن عدي: حديث الصلت منكر. انتهى.
والحديث بذواد معروف, فمن حدث به عن غيره فقد سرقه, والله أعلم.
ولذواد بهذا الإسناد حديث آخر بمعناه متنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم يبنون حائطاً فقال: «بند بند لكسد».
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لأبي الدرداء رضي الله عنه ولا يصح كالذي قبله.
وفي الأحاديث الصحيحة غنية عن ذلك, فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بالفارسية في قصة جابر رضي الله عنه يوم الخندق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما دعاه جابر إلى ذلك الطعام: «يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سوراً فحي هلا بكم». الحديث.
"سور" - بالضم غير مهموز -: الطعام أو الضيافة بالفارسية.
وبوب على ذلك البخاري في "صحيحه".
وتكلم أيضاً بلسان الحبشة في قوله صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد رضي الله عنها لما كساها تلك الخميصة وأراها علمها: «هذا سنه سنه» وفي رواية: «سناه سناه», وفي رواية: «سنا سنا».
قال القاضي عياض: كلها بالفتح والشد إلا عند أبي ذر فإنه خفف.
قال القاضي أبو الحسين عبد الباقي بن قانع: حدثنا إبراهيم بن
هاشم, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا خالد بن سعيد بن العاص, عن أبيه, عن خالد بن سعيد وكان من مهاجرة الحبشة هو وأخوه عمرو بن سعيد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاهم حين دنوا منه – وذلك بعد بدر بعام وجزعوا أن لا يكونوا شهدوا بدراً – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن يكون للناس هجرة ولكم هجرتان» ودخل خالد ومعه ابنته أم خالد وعليها قميص أصفر فراطنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحبشية, فقال: «سنه سنه» أي: حسن حسن, وقال: «أبلي وتبقي».
روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أعرب العرب».
خرجه الطبراني في "معجمه الكبير".
$[فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته]$
وجاء عن علي بن الحسين بن واقد: حدثنا أبي, عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله, مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: «كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظنيها».
خرجه الحاكم في "مستدركه".
وقال عباد بن العوام: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي, عن أبيه قال رجل: يا رسول الله, ما أفصحك, ما رأيت الذي هو أعرب منك! قال: «حق لي, وإنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين».
وقد كان صلى الله عليه وسلم من فصاحته وبيانه وقوة بلاغته بين أنصاره وأعوانه يسألونه عن معنى بعض كلامه فيجيب ويوضح لهم ما أشكل من الغريب.
قال عبد الله بن روح المدائني: أخبرنا شبابة بن سوار,, حدثنا الحسام ابن مصك, عن عبد الله بن بريدة, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفصح الناس, كان يتكلم بالكلام لا يدرون ما هو حتى يخبرهم.
وقال القاسم بن ثابت في "الدلائل": حدثنا علي بن عبدك, حدثنا العباس بن عيسى, حدثنا يعقوب بن عبد الوهاب الزبيري, حدثني محمد بن عبد الرحمن الزهري, عن أبيه, عن جده, قال: قال رجل من بني سليم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, الرجل يدالك أهله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم إذا كان ملفجاً» قال: فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله, ما قال لك, وما قلت له؟ قال: «قال لي: الرجل يماطل أهله»؟ قال: «فقلت: نعم إذا كان مفلساً» قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله, لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك, فمن أدبك؟ قال: «أدبني ربي, ونشأت في بني سعد».
وقال أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري في كتابه
#37#
"الحكم والأمثال" في ترجمة قوله صلى الله عليه وسلم: «مات حتف أنفه» قال: وقد روي عن علي رضي الله عنه نحو هذا, أخبرنا به ابن دريد, حدثنا عبد الأول بن مريد – بإسناد له – قال: قال علي رضي الله عنه ما سمعت كلمة غريبة من العرب إلا وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعته يقول: «مات حتف أنفه» وما سمعتها من عربي قبله.
وحدث محمد بن إسحاق, عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جاهد في سبيل الله, وأين المجاهدون؟» وأشار بيده يقللهم «فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته حية, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله» والله ما سمعت هذه الكلمة من أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو قتل بعصا فقد استوجب المآب».
رواه جرير, عن ابن إسحاق.
ورواه أبو الأصبغ عبد العزيز بن يحيى الحراني, والمعافى بن سليمان الجزري الرسعني, عن محمد بن سلمة, عن ابن إسحاق بنحوه.
ورواه أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبي, حدثنا
#38#
يزيد بن هارون, أخبرنا محمد بن إسحاق, عن محمد بن إبراهيم, عن محمد بن عبد الله بن عتيك, عن أبيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات حتف أنفه» والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقد وقع أجره على الله».
وروي عن عبد الله بن يحيى بن أبي كثير, عن أبيه, عن جبير بن نفير, عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قالوا: يا رسول الله, وما عسله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه».
خرجه أبو محمد دعلج في "مسند المقلين": من حديث عبد الله بن يحيى.
وخرجه أيضاً من حديث موسى بن عبد الرحمن المسروقي, حدثنا زيد بن الحباب, عن معاوية بن صالح, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي, عن أبيه أنه سمع عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه (أنه) سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قيل: وما عسله, قال: «يفتح له عملاً صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله وجيرانه».
#39#
تابعه عبد بن حميد فحدث به في "مسنده": عن زيد بن حباب العكلي وهو في "مكارم الأخلاق" للخرائطي: حدث به عن حميد بن الربيع الخزاز, حدثنا زيد بن الحباب .... فذكره, ولفظه: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قيل وما عسله؟ قال: «يحببه إلى جيرانه».
وحدث بنحوه عباس بن محمد الدوري، وقال عباس الدوري في "تاريخ يحيى بن معين" الذي ألفه: سمعت يحيى بن معين يقول: قال ابن مهدي، وقال أهل مصر في حديث معاوية بن صالح: «إذا أراد الله بعبد خيرا غسله»، لم يقولوا: «عسله».
قلت: الرواية بالمهملة وما سواه تصحيف, والله أعلم.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث أبي تقي هشام بن عبد الملك الحمصي, حدثنا بقية بن الوليد, حدثني محمد بن زياد الألهاني, عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسله» قيل: يا رسول الله وما عسله؟ قال: «يفتح الله له عملاً صالحاً ثم يقبضه عليه».
وقال أحمد بن عمير بن جوصا: حدثنا عمرو بن عثمان, وكتب ابن عبيد وابن حنان – يعني: محمد بن عمرو – وقالوا: حدثنا بقية بن الوليد, عن محمد بن زياد, عن أبي عنبة الخولاني, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا
#40#
أراد الله بعبد خيراً عسله» الحديث بنحوه.
أبو عنبة مختلف في صحبته, أدرك الجاهلية والإسلام, قيل: اسمه عبد الله.
#41#
$[عود إلى شرح حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه]$
*قال هند: "دمثاً ليس بالجافي ولا المهين":
فقوله: "دمثاً" أي لين الخلق سهله حسنه, وفسره بقوله: "ليس بالجافي ولا المهين".
و"الجافي": المعرض المتباعد عن الناس, وأصله من الجفاء وهو ترك الصلة والبر, وقيل: الجافي: الغليظ الخلقة والطبع. وقد جفا أصحابه يجفوهم إذا قاطعهم, أو خشن عليهم.
و"المهين" يروى بفتح الميم وهو المشهور وبضمها, وبالفتح: من المهانة وهي الحقارة والصغر, وبالضم: من الإهانة والإذلال والإطراح, أي لا يهين أحداً من أصحابه, أو من الناس.
وقال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في تفسير: "ليس بالجافي ولا المهين" قال: لا يجفو الناس, ولا يهينهم.
#42#
وفي حديث علي رضي الله عنه قال: كان أجود الناس صدراً, وأصدق الناس لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما رأيت أشجع ولا أنجد ولا أجود ولا أرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.
وحسن الخلق لفظ جامع للخصال الحميدة والآداب الشريفة, وكلها بكمالها كانت خلق نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وروي من طرق عن عائشة رضي الله عنها قالت عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان خلقه القرآن, يرضى برضاه ويسخط بسخطه.
وخرج مسلم في "صحيحه": عن سعد بن هشام بن عامر الأنصاري, عن عائشة رضي الله عنها أنه قال لها: يا أمير المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى, قالت: فإن خلف نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ... الحديث.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: "لم يخرجاه" فوهم.
#43#
وخرجه أبو داود والنسائي في "سننهما".
وعن جبير بن نفير قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: القرآن.
خرجه أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم".
وهو في "سنن النسائي" لجبير بن نفير مطول.
وقال أبو الشيخ في الكتاب: حدثنا عمرو بن نصير بن ثابت, حدثنا حميد بن مسعدة, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا أبو عمران الجوني, عن يزيد بن بابنوس قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين, ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, ثم قالت أتقرءون سورة المؤمنين؟ قلنا: نعم, قالت: أقرأه, فقرأت: {قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون . والذين هم لفروجهم حافظون} حتى بلغ {والذين هم على صلواتهم يحافظون} فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#44#
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» رواه سعيد بن منصور, حدثنا عبد العزيز بن محمد, عن محمد بن عجلان, عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق».
ورواه مصعب, عن عبد العزيز.
قال الحافظ أبو القاسم اللالكائي: حديث غريب من حديث أبي عبد الله محمد بن عجلان المدني, لا نحفظه إلا من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عنه.
قلت: تابعه يحيى بن أيوب, فقال: حدثني محمد بن عجلان, وذكر مثله, وهو في "مسند أحمد" وفي "مستدرك الحاكم", وقال: صحيح على شرط مسلم, وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بعض أخلاقه الشريفة في هذا الحديث – حديث هند رضي الله عنه وما يندرج فيه من ذلك في شواهده.
#45#
*قال هند: "يعظم النعمة وإن دقت":
أي: لا يستصغر ما أوتيه وإن كان صغيراً.
وحدث الشعبي عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أعندك شيء»؟ فقلت: لا, إلا خبز يابس وخل, فقال: «يا أم هانئ ما أفقر بيت من أدم فيه خل».
وفي معناه ما صح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أهدي إلي ذراع لقبلت, ولو دعيت إلى كراع لأجبت».
#46#
*قال هند: "لا يذم شيئاً غير أنه لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه":
وفي حديث علي رضي الله عنه: "كان لا يذم ذواقاً ولا يمدحه".
"الذواق" – بالفتح – من قولهم: ما ذقت ذواقاً – بالفتح – أي شيئاً, والذواق: الذوق, يقال: ذاق الشيء ذوقاً: تعرف طعمه.
وقول هند هذا موافق لما في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط, إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وفيه أيضاً من حديث خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب أحرام هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا, ولكنه طعام ليس في قومي فأجدني أعافه».
وفي "مسند أحمد بن حنبل" من حديث جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً بعث فضله إلى أبي أيوب, فأتي يوماً بقصعة فيها ثوم فبعث بها, فقال: يا رسول الله, أحرام هو؟ قال: «لا ولكن أكره ريحه» قال: فإني أكره ما تكره.
وقول هند: "لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه" فسره أبو بكر محمد بن هارون الروياني فقال: يريد أنه كان لا يصف الطعام بطيب ولا فساد إن كان فيه.
#47#
قلت: ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "ولا يمدحه" إذا قربه إلى ضيف ونحوه, وإلا فقد سأل صلى الله عليه وسلم أهله الأدم, فقالوا: ما عندنا إلا خل, فجعل يأكل منه ويقول: «نعم الأدم الخل» قاله جبراً لقلب أهله حين قربوا الخل إليه.
وقد صح من رواية أبي موسى الأشعري, وأنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
وورد مدحه صلى الله عليه وسلم للأشياء مما تذاق كاللبن والعسل والتمر واللحم تنبيهاً على فضل ذلك, والله أعلم.
*قال هند: "لا تغضبه الدنيا وما كان لها, فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له, لا يغضب لنفسه, ولا ينتصر لها":
شواهد هذا كثيرة, منها: ما صح عن مالك, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة, نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته, ثم قال: يا محمد, مر لي من مال الله
#48#
الذي عندك, فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء.
وفي رواية ثابتة أيضاً عن همام, عن إسحاق بن عبد الله, عن أنس قال: فجاذبه حتى انشق البرد وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن عكرمة بن عمار, عن إسحاق بنحوه, وعنده قال: ثم جبذه إليه – يعني: الأعرابي – جبذة, رجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي.
وفي بعض طرقه عن أنس رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا محمد, احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك, فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك, فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «المال مال الله وأنا عبده», ثم قال: «ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟» قال: لا, قال: «لم؟» قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر.
#49#
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله, وما ضرب بيده شيء قط إلا أن يجاهد في سبيل الله, وما ضرب خادماً ولا امرأة.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في "أخلاق النبي صلىالله عليه وسلم ": من حديث علي بن زيد بن جدعان, عن سعيد بن المسيب, عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين فما سبني سبة قط, ولا ضربني ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي, ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه, فإن عاتبني أحد من أهله قال: «دعوه, فلو قدر شيء كان»,
وقال كثير بن هشام: حدثنا جعفر, حدثنا عمران القصير, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين .... الحديث بنحوه.
ذكره أبو الفداء إسماعيل بن كثير – رحمه الله وإيانا – في كتابه "جامع المسانيد والسنن" في ترجمة عمران, عن أنس ثم قال: تفرد به.
وليس كذلك بل تابعه عليه سعيد بن المسيب كما قدمناه وغيره.
#50#
وقال أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق": حدثنا نصر بن داود, حدثنا محمد بن بكار, حدثني أبو المليح الرقي, حدثني فرات بن سلمان, عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثماني سنين فما لامني على شيء يوماً يتوي على يدي, فإن لامني لائم, قال: «دعوه فإنه لو قضي شيء لكان».
وخرج – أيضاً – من حديث بدل بن المحبر: حدثنا عبد السلام – وهو ابن عجلان – سمعت ثابتاً البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سنة ما قال لي قط: ألا فعلت هذا, ولم فعلت هذا؟
قال ثابت: فقلت: يا أبا حمزة, إنه كما قال الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقال: حدثنا علي بن حرب, حدثنا أبو مسعود, عن معمر, عن ثابت, عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما سبني سبة قط, ولا قال لي أف, ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته, ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلته.
ورواه يونس بن محمد المؤدب, حدثنا سلام بن مسكين, سمعت ثابتاً, سمعت أنساً ... فذكره بنحوه.
#51#
وهو عند يزيد بن هارون, عن حميد, عن أنس بنحوه, وفي أوله قصة.
وله طرق غير ما ذكرنا: منها ما قال مسلم في "صحيحه": حدثني أبو معن الرقاشي – زيد بن يزيد – حدثنا عمر بن يونس, حدثنا عكرمة – وهو ابن عمار – قال: قال إسحاق: قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة, فقلت: والله لا أذهب, وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمر على صبيان [هم] يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك, فقال: «يا أنيس, ذهبت حيث أمرتك», قال: قلت: نعم, أنا أذهب يا رسول الله, قال [أنس]: والله لقد خدمته صلى الله عليه وسلم تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا, أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا.
وخرج أبو العباس الدغولي في كتاب "الآداب": عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين, وليس كل أمري ما يشتهي صاحبي ما قال لي: أف ولا تف, ولا قال: ما لك فعلت وما لك لم تفعل هذا.
وخرج أبو بكر ابن أبي عاصم في كتاب "السنة" عن أنس رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما أعلمه عاب علي شيئاً قط.
#52#
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت أبا إسرائيل, سمعت جعدة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول: «لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك».
قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا: هذا أراد أن يقتلك, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لم ترع, ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي».
جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي مولى أبي إسرائيل.
وروى هذا الحديث عبيد الله بن معاذ: حدثني أبي, عن شعبة بنحوه.
وخرج الإمام أحمد أيضاً من حديث الأعمش, عن يزيد بن حيان, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود, قال: فاشتكي لذلك أياماً فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا, فأرسل إليها من يجيء بها, فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فاستخرجها فجاء بها فحللها, قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال, قال: فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط حتى مات.
وهو في "مسند أبي محمد عبد بن حميد", قال: حدثني أحمد بن
#53#
يونس, حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن يزيد بن حيان, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود, قال: فاشتكى فأتاه جبريل عليه السلام فنزل عليه بالمعوذتين, وقال: إن رجلاً من اليهود سحرك, والسحر في بئر فلان, قال: فأرسل علياً رضي الله عنه فجاء به قال: فأمره أن يحل العقد, ويقرأ آية, قال: فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال, قال: فما ذكر رسول الله صلىالله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئاً مما صنع به, ولا رآه في وجهه.
وجاء عن زيد بن أرقم بلفظ آخر:
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا موسى بن مسعود, حدثنا سفيان الثوري, عن الأعمش, عن ثمامة المحلمي, عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: عقد رجل من الأنصار – يعني: للنبي صلىالله عليه وسلم – عقداً, وكان يأمنه ورمى به في بئر كذا وكذا, فجاء الملكان يعودانه فقال أحدهما لصاحبه: تدري ما عقد له فلان الأنصاري, ورمى به في بئر كذا وكذا, ولو أخرجه لعوفي, فبعثوا إلى البئر فوجدوا الماء قد اخضر (فأخرجوه فرموا به) فعوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما حدث به ولا رؤي في وجهه.
وقال أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "الأخلاق الشريفة النبوية": حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن, حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب, حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن سليمان بن قيس,
#54#
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة, قال: فرأوا من المسلمين غرة, فجاء رجل حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف, فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله» قال: فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف, فقال: «من يمنعك مني؟», فقال: كن خير آخذ قدر, قال: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟), قال: لا, غير أني لا أقاتلك, ولا أكون معك, ولا أكون مع قوم يقاتلونك, فخلى سبيله فجاء أصحابه, فقال: جئتكم من عند خير الناس.
أصل هذا مخرج في "الصحيحين", ولهذا علة قال البخاري في
#55#
"التاريخ": وروى أبو بشر, وقتادة, والجعد أبو عثمان, عن كتاب سليمان, ومات سليمان قبل جابر بن عبد الله.
#56#
*قال هند: "إذا أشار أشار بكفه كلها, وإذا تعجب قلبها, وإذا تحدث اتصل بها, وضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى":
هكذا في روايتنا من طريق أبي عيسى الترمذي.
وكذلك رواه أبو عبد الله محمد بن محمد بن جعفر الماليني, عن أبي علي أحمد بن محمد بن رزين, عن سفيان بن وكيع شيخ أبي عيسى.
وساقه القاضي عياض: من حديث موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين, عن آبائه, فقال في هذه اللفظة: "وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى".
ومعنى قوله "وإذا تحدث اتصل بها": أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بكفه إلى حديثه وما بعده يفسره.
*قال هند: "وإذا غضب أعرض وأشاح":
وفي رواية ابن عباس عن هند: وإذا خولف أعرض وأشاح: أي صرف وجهه صيانة له عما غصب منه, وقيل: مال وانقبض, وقيل: أشاح بالغ في الإعراض وجد فيه, والمشيح المبالغ في كل أمر, وأشاح لها معان: جد وبالغ, وعزم، وحاد وصدي, وإعراض النبي
#57#
صلى الله عليه وسلم حين غضبه وكراهيته للأمر أحد حالاته في الغضب.
وخرج أبو الشيخ ابن حيان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته. وقد قدمناه.
#58#
وقال الزاهد أبو بكر محمد بن أبي إسحاق الكلاباذي في كتابه "المعاني": حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الفقيه, حدثنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن علي, حدثنا أبو سفيان الغنوي, حدثنا أحمد بن الحارث, حدثتني أمي أم الأزهر, عن سدرة مولاة ابن عامر قالت: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إن النبي صلىلمله عليه و كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفس صعداء, وقال: «حسبي الله ونعم الوكيل» فيعرف بذلك شدة غمه.
وخرجه القاسم بن ثابت في "الدلائل", فقال: وحدثونا عن أبي سفيان الغنوي .... فذكره بنحوه.
وجاء من طريق (سهل) مولى المغيرة بن أبي الغيث, عن ابن شهاب, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم
#59#
أدخل يده في لحيته.
وخرجه أبو نعيم في كتاب "الطب": من حديث سعيد بن أبي مريم: حدثنا رشدين بن سعد, حدثني عقيل, عن ابن شهاب, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى اللهعليه وسلم كان إذا اهتم أكثر من مس لحيته ما أدري يقبض عليها أو يخللها.
وقال القاسم بن ثابت في "الدلائل": حدثنا عبد الله بن علي, حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا سعيد بن أبي مريم, أخبرنا رشدين, أخبرنا عقيل بن خالد, عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبر سعد بن معاذ وإن الدموع تجري على وجنته وهو قابض على لحيته.
وتقدم قول هند: "بينهما عرق يدره الغضب", وحديث أم سلمة رضي الله عنها كان إذا غضب احمر وجهه.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا الثوري, عن جابر, عن عامر, عن عبد الله بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه جوامع من التوراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: مررت على حبر بني قريظة فكتبت جوامع من التوراة أعرضها عليك يا رسول الله, فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قبح الله
#60#
عملك أما ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً, فسري [عن] النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: «والذي نفس محمد بيده, لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم لأنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من الأنبياء».
*قال هند: "وإذا فرح غض طرفه":
وهذه علامة لرضاه؟, وغض الطرف عند الفرح دليل على نفي البطر والأشر.
وقد صح عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر.
وفي بعض ألفاظه: إذا سره الأمر استنار وجهه كأنه دارة القمر.
#61#
وفي "الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً تبرق أسارير وجهه.
الأسارير: خطوط الجبهة, وهو جمع الجمع الذي هو أسرار، واحدها سر وسرر.
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم: حدثنا أبو الحكم يزيد بن عياش [بن الحكم بن يزيد بن عياض] حدثني جدي, عن أبيه، عن الزهري, عن سالم [عن أ] بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف رضاه وغضبه بوجهه, كان إذا رضي فكأنما تلاحك الجدر وجهه .... وذكر الحديث.
قال ابن أبي عاصم: سمعت أبا الحكم الليثي يقول: هي – يعني: "تلاحك الجدر" – المرأة توضع في الشمس فيرى ضوؤها على الجدار.
*وقال هند: "جل ضحكه التبسم":
التبسم: ضحك ليس بالشديد, وقيل هو أقل الضحك وأدناه.
خرج الترمذي في "جامعه" من حديث الليث بن سعد, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسماً.
وقال: هذا حديث صحيح غريب.
وخرجه أيضاً في "جامعه" و "الشمائل", والإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث جابر بن سمرة قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لا يضحك إلا تبسماً.
وصح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم.
وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضحكاً حتى أرى لهواته, إنما كان يتبسم.
قولها: "لهواته" جمع لهاة بفتح اللام, ولم يذكر ابن فارس في "مجمله" في جمع لهاة سوى لهى.
و"اللهاة" اللحمة المشرفة على الحلق, وذكر الأصمعي أنها لحمة حمراء معلقة في أعلى الحنك على عكرة اللسان, وقيل اللهاة أقصى الفم.
وقول عائشة: "حتى أرى لهواته" وإنما هي لهاة واحدة هو من مجاز المجاورة, كأنها أطلقت اللهوات على اللهاة وما حولها كقولهم: مذاكير لما يلي الذكر, والله أعلم.
وقد قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا": ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على التبسم.
قلت: قد صح ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المجامع أهله في نهار رمضان, قال في آخره: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
وفي لفظ في "الصحيح" أيضاً: قد بدت أنيابه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تكون الأرض خبزة واحدة يتكفؤها الجبار عز وجل بيده كما تكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة» فأتاه رجل من اليهود, فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: «بلى» قال: تكون
الأرض خبزة واحدة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه .... الحديث.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً: رجل يخرج من النار حبواً) ... وذكر الحديث, وفيه قال: «إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا, فيقول: أتسخر بي, أو أتضحك مني وأنت الملك» قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.
والأحاديث في ذلك كثيرة, والجمهور على أن المراد بالنواجذ هنا: الأنياب, وقيل: الضواحك, وقيل: الأضراس, وهذا على الخلاف في النواجذ لغة, فالناجذ السن بين الضرس, والناب أواخر الأضراس وهو ضرس الحلم لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل وللإنسان أربعة نواجذ, وقيل: الأضراس كلها نواجذ, واستدلوا بقول الشماخ:
نواجذهن كالحداء الوقيع
وقال أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتابه "المجالسة": حدثنا أحمد بن داود, عن أبي زيد قال: للإنسان أربع ثنايا وأربع رباعيات, الواحدة رباعية مخففة, وأربعة أنياب وأربع ضواحك, واثنا عشر رحى ثلاث في كل شق, وأربعة نواجذ وهي أقصاها.
وقد قيل: التبسم هو أول الضحك, وآخره بدو النواجذ, وقيل: يكون معه القهقهة, وعلى كل حال من الأقوال إن بدو النواجذ في
الضحك زيادة على التبسم, وكان هذا نهاية ضحكه صلى الله عليه وسلم ولم يكن بقهقهة.
وحدث حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري – وتكلم فيه – عن جدته عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة, سألت عائشة رضي الله عنها كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه؟ قالت: كان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان أكرم الناس, وأحسن الناس خلقاً, وكان ضاحكاً بساماً.
رواه أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي, فقال: حدثنا محمد بن خليل المخرمي, حدثنا أبو بدر, عن حارثة بن محمد ... فذكره بنحوه.
تابعة يعلى بن عبيد, عن حارثة, وأبو بدر شجاع بن الوليد بن قيس السكوني.
قال الخطيب البغدادي: هذا حديث غريب من حديث عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية, عن عائشة أم المؤمنين, لا أعلم رواه عنها إلا ابن ابنها حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة
رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أضحك الناس وأطيبه نفساً.
وحدث به ابن أبي الدنيا في كتابه "مداراة الناس": عن محمد بن سهل التميمي, عن سعيد بن أبي مريم, عن يحيى بن أيوب به, وفي لفظه: من أضحك الناس وأطيبهم نفساً.
وقال في الكتاب المذكور أيضاً: حدثنا علي بن حرب الطائي, حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن ابن لهيعة, عن عمارة بن غزية, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.
$[مطلب فيما يفعله نساء الزمان إذا اجتمعن بلطخ وجوههن بالعدس المطحون، له أصل كما تراه مروياً عن عائشة رضي الله عنها ]$
وقال أيضاً: حدثنا المؤمل بن هشام, حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, عن محمد بن عمرو, عن يحيى بن عبد الرحمن, قال: قالت عائشة رضي الله عنها دخلت على سودة بنت زمعة فجلست ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها وقد صنعت خزيرة فجئت بها فقلت: كلي, فقالت: ما أنا بذائقتها, قالت: قلت: والله لتأكلين منها أو لألطخن منها بوجهك, قالت: ما أنا بذائقتها, فتناولت منها شيئاً فمسحت بوجهها فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك وهو بيني وبينها, فتناولت منها شيئاً لتمسح بها وجهي, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفض عنها ركبته – وهو يضحك – لتستقيد مني فأخذت شيئاً فمسحت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة, حدثنا وكيع, عن زمعة بن صالح, عن الزهري, عن وهب بن عبد بن زمعة, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر رضي الله عنه في تجارة إلى بصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام, وخرج معه نعيمان وسويبط بن حرملة وكانا شهدا بدراً وكان نعيمان على الزاد فقال له سويبط – وكان رجلاً مزاحاً -: أطعمني. قال: حتى يجيء أبو بكر. قال: أما إني لأغيظنك.
قال: فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم, قال: فإنه عبد وله كلام, وهو قائل لكم: إني حر, فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا علي عبدي. قالوا: بل نشتريه منك. قال: فاشتروه بعشرة قلائص. قال: فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة (وحبلاً), فقال نعيمان: [إن هذا] يستهزئ بكم وإني حر لست بعبد. قالوا: قد أخبرنا بخبرك. قال: فانطلقوا به فجاء أبو بكر فأخبروه فاتبعهم فرد عليهم القلائص وأخذه, فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه فضحك النبي صلى الله عليه وسلم منهما هو وأصحابه حولاً.
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذه الضحك
#68#
وضع يده على فيه.
وأما ما قال أبو الشيخ ابن حيان: أخبرنا أحمد بن موسى الأنصاري, أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي, أخبرنا عبد الله بن صالح, أخبرنا الليث, حدثني جرير بن حازم, عن الحسن – يعني: ابن عمارة – عن سلمة بن كهيل, عن عبد الرحمن هو ابن شبابة, سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أتاني ثلاثة نفر يختصمون في غلام من امرأة وقعوا عليها جميعاً في طهر واحد كلهم يدعي أنه ابنه, فأقرعت بينهم فألحقته بالذي أصابته القرعة, ونصيبه لصاحبيه ثلثاً دية الحر فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فضحك حتى ضرب برجليه الأرض, ثم قال: «حكمت فيهم بحكم الله تعالى» أو قال: «لقد رضي الله عز وجل حكمك فيهم» فهذا حديث لا يعتد به.
والحسن بن عمارة بن مضرب الكوفي رماه شعبة بالكذب والوضع.
وقال الحافظ زكريا الساجي: أجمعوا على ترك حديثه.
وخرج نحو هذه القصة أبو داود في "سننه" فقال: حدثنا خشيش بن
#69#
أصرم, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا الثوري, عن صالح الهمداني, عن الشعبي, عن عبد خير, عن زيد بن أرقم قال: أتى علي رضي الله عنه بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد, فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا, حتى سألهم جميعاً فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا, فقرع بينهم فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة وجعل عليه ثلثي الدية, قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه.
وقال: حدثنا عبيد الله بن معاذ, حدثنا شعبة, عن سلمة, سمع الشعبي, عن الخليل أو ابن الخليل قال: أتي علي بن أبي طالب رضي الله في امرأة ولدت من ثلاثة ... نحوه, لم يذكر اليمن ولا النبي صلى الله عليه وسلم ولا قوله: طيباً بالولد.
وقد ذكره الشافعي من بلاغاته, عن شعبة, عن سلمة بن كهيل, سمعت الشعبي يحدث عن أبي الخليل أو ابن الخليل: إن ثلاثة نفر اشتركوا .... وذكر الحديث بنحوه, فقد تختلف في إسناده ورفعه.
وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" ولم يذكر اللفظة المنكرة التي في حديث الحسن بن عمارة: "فضحك حتى ضرب برجليه الأرض".
وقال الحاكم: أخبرني علي بن محمد بن دحيم الشيباني, حدثنا أحمد بن حازم الغفاري, حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي, حدثنا
#70#
الأجلح, عن الشعبي, عن عبد الله بن الخليل, عن زيد بن أرقم: أن علياً رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فارتفع إليه ثلاثة يتنازعون ولداً, كل واحد يزعم أنه ابنه, قال: فخلا باثنين فقال: أتطيبان نفساً لهذا الباقي بالولد؟ قالا: لا, وخلا باثنين فقال لهما مثل ذلك, فقالا: لا, فقال: أراكم شركاء متشاكسين وأنا مقرع بينكم, فأقرع بينهم فجعله لأحدهم وأغرمه ثلثي الدية للباقين, قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه.
قال الحاكم عقب هذا: قد أعرض الشيخان رضي الله عنهما عن الأجلح بن عبد الله الكندي أصلاً, وليس في رواياته بالمتروك, فإن الذي ينقم عليه به مذهبه.
قلت: مذهبه شيعي معدود في شيعة الكوفة يقال اسمه يحيى فيما ذكره البخاري في "تاريخه الكبير" والأجلح لقب وكنيته أبو حجبة, روى عنه الثوري وابن المبارك وغيرهما.
ورواه يحيى بن سعيد القطان, عن الأجلح متابعة لأبي غسان النهدي, خرجه أبو داود, عن مسدد, حدثنا يحيى .. فذكره.
#71#
*وقال هند: "ويفتر عن مثل حب الغمام":
وفي رواية ابن عباس عن هند: "ويتبسم" مكان "ويفتر" وهما بمعنى واحد, أفتر الرجل تبسم حكاه الزبيدي في "مختصر العين" وأصله من فررت عن سن الدابة فراً إذا كشفت شفتها لتعرف مقدار سنها. وفي "غريب المصنف" لأبي عبيد عن بعضهم: الافترار الضحك الحسن.
وحب الغمام هو البرد. وورد: يفتر عن مثل سنا البرق, والسنا – بالقصر ضوء البرق. وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه, وأنه كان أشنب الأسنان. وفي حديث أم معبد: "وإن تكلم سما وعلاه البهاء".
*قال الحسن رضوان الله عليه: فكتمتها الحسين بن علي رضي الله عنهما زماناً: يعني: الصفات الشريفة التي ذكرها له هند رضي الله عنه.
*قال: ثم حدثته فوجدته قد سبقني فسأله عما سألت عنه, ووجدته قد سأل أباه عن مدخله صلى الله عليه وسلم ومخرجه – وفي رواية: ومجلسه وشكله – فلم يدع منه شيئاً.
المراد بشكله هنا سيرته وطريقته – ذكره بعضهم – و"الشكل": المثل يقال: فلان شكل فلان أي مثله في حالاته قال الله تعالى: {وءاخر من شكله أزواج}.
#72#
$[حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نعت النبي صلى الله عليه وسلم]$
*قال الحسن: قال الحسين: فسألت أبي رضي الله عنهم عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك".
هذا أول حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي رواه عنه ولده الحسين رضي الله عنهما وعنده انتهى وصف هند رضي الله عنه.
لكن الحديث كله يعرف بهذا, ولهذا والله أعلم وهم فيه من وهم من نسبة كلام علي رضي الله عنه إلى هند رضي الله عنه على ما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى.
وغفل عنه أبو القاسم ابن عساكر فلم يذكره في "الأطراف" في حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
واستدركه الحافظ أبو الحجاج المزي فذكره في جملة أحاديث الحسين عن أبيه رضي الله عنهما فأجاد, والله أعلم.
*وقول علي رضي الله عنه "مأذوناً له":
يحتمل أن دخوله صلى الله عليه وسلم كان بإذن ربه عز وجل كما كانت أحواله كلها لله عز وجل
#73#
وبأمر الله عز وجل ويحتمل أنه كان يستأذن في دخوله فيؤذن له فيدخل, والله أعلم.
*قال علي: رضي الله عنه: "وكان إذا أوى إلى منزله":
يقال: أوى الإنسان إلى منزله – بالقصر – يأوي أوياً: رجع, وحكي: يأوي إواء, وأويته أنا بالمد أويه إيواء, وهذا هو الأفصح فيها, وبه جاء القرآن وحكي في كل منهما اللغتان.
*قال علي رضي الله عنه: "جزأ دخوله ثلاثة أجزاء":
أي قسمه ثلاثة أقسام بحيث إنه صلى الله عليه وسلم لم ير فارغاً في بيته.
وقال أبو الحسين محمد بن أحمد بن شمعون: حدثنا أبو بكر المطري – يعني: محمد بن جعفر – حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد, حدثنا بشر بن مهران, حدثنا محمد بن دينار, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رفع للنبي صلى الله عليه وسلم قط غداء لعشاء ولا عشاء قط لغداء, ولا اتخذ من شيء زوجين ولا قميصين ولا رداءين ولا إزارين ولا من النعال ولا رؤي قط فارغاً في بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أو يخيط ثوباً لأرملة.
#74#
وقال الإمام أحمد في كتابه "الزهد": حدثنا يعمر بن بشر, حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا الحجاج بن فرافصة, عن عقيل, عن ابن شهاب: أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت وأكثر ما يعمل الخياطة.
*قال علي رضي الله عنه: "جزء لله, وجزء لأهله, وجزء لنفسه":
فجزء الله عز وجل يخلو فيه بمناجاة الله وعبادته من صلاة أو تلاوة أو ذكر أو استغفار أو تفكر وما أشبه ذلك من أنواع العبادات, وإلا فقد كانت أوقاته كلها لله ومعمورة بذكر الله تعالى وأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وإن كان منها دنيوي فهي ملتحقة بالأخروية التي هي لله عز وجل, صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عمرو بن عطار, عن نعيم المجمر, عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فأجلس ببابه إذا دخل بيته أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فما أزال أسمعه يقول: «سبحان الله, سبحان الله وبحمده» حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد .... الحديث.
#75#
ربيعة بن كعب هو ابن مالك الأسلمي أبو فراس, وسيأتي – إن شاء الله تعالى – ذكره في خدام النبي صلى الله عليه وسلم الأحرار.
وأما جزء أهله فهو الوقت الذي يصحبهن فيه ويعاشرهن ويعمل مصالحهن الأخروية والدنيوية, فكان صلى الله عليه وسلم هاديهن ومعلمهن ومؤدبهن وقائماً بحقوقهن مما يحتجن إليه حتى كان يدخر لهن نفقة سنة, صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم.
قال أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يشبع من خبز بر مرتين, وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنتهم كيف هذا؟ قال: كان يعد لأهله قوت سنة فتنزل به النازلة فيقسمه فيبقى بلا شيء.
وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند رجل من يهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله.
#76#
وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لكل من نسائه يومها وليلتها خلا ملك اليمين, وتارة يطوف على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار, وهن إحدى عشرة, كما رواه هشام الدستوائي, عن قتادة, عن أنس.
وروى سعيد, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة.
وجمع بين هذا الحديث والذي قبله ابن حبان في "صحيحه" بأن أنساً حكى ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم في أول قدومه المدينة حيث كان تحته إحدى عشرة نسوة, وخبر سعيد أنه حكاه أنس في آخر قدومه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة؛ لأن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم كان مراراً كثيرة لا مرة واحدة.
#77#
وهذا غلط من ابن حبان رحمه الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده إحدى عشرة زوجة في وقت قط, بل وجه الجمع والله أعلم أن قوله "إحدى عشرة" بالتسع اللاتي توفي عنهن وريحانه ومارية سريتيه, وأن قوله: "وله يومئذ تسع نسوة" أراد به الزوجات فقط, والله أعلم.
وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين.
وقال صفوان بن سليم: أعطي قوة أربعين رجلاً في الجماع.
وكذا روي عن معمر, عن ابن طاووس, عن أبيه.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث سويد بن عبد العزيز, عن المغيرة بن قيس, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت قوة أربعين في البطش والنكاح ... » الحديث.
وقال الزبير بن بكار في كتابه "ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم": حدثني محمد بن حسن، عن حاتم بن إسماعيل، عن أسامة بن زيد، عن صفوان بن سليم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيني جبريل عليه السلام بقدر فأكلت
#78
منها فأعطيت الكفيت وقاع أربعين رجلاً»
وقال: حدثني محمد بن حسن, عن مالك بن أنس, عن رجل من آل أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي من الجماع ما شاء الله تعالى فلما كانت الليلة التي أعطي فيها ما أعطي طاف على سائه, فكلما فرغ من امرأة اغتسل .... الحديث.
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغسل واحد.
وفي رواية: "وله يومئذ تسع نسوة".
وحديث معمر, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أصب لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من نسائه أجمع.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي أهله ويعود, ولا يمس ماء. خرجه الإمام أحمد في "مسنده".
#79#
وخرج أيضاً عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في يوم فجعل يغتسل عند هذه وعند هذه, فقيل: يا رسول الله, لو جعلت غسلاً واحداً, قال: «هذا أزكى وأطيب وأطهر».
وخرجه أبو داود وقال: حديث أنس أصح من هذا.
وخرجه النسائي وابن ماجه.
وروي نحوه عن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم رواه الواقدي: حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع, عن أبيه, عن جدته سلمى – مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه ليلة التسع اللاتي توفي وهن عنده, وكلما خرج من عند امرأة قال لسلمى: «صبي لي غسلاً» فيغتسل قبل أن يأتي الأخرى, قلت: يا رسول الله, أما يكفيك غسل واحد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أطهر وأطيب».
وفي بعض طرقه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف في ليلة على نسائه, ويغتسل من كل واحدة غسلاً, فسئل عن ذلك, فقال: «إنه أذكر», قال أبو عبيد: يعني: أنه أحد. انتهى.
مأخوذ من رهبت ذكرة السيف والرجل أي حدتهما.
#80#
وذكر أبو نعيم في كتاب "الطب النبوي": أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتى تبرأ عينها من الرمد، هذا مع استناره وغض بصره عند الجماع.
وخرج الترمذي في "الشمائل" من حديث منصور، عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن مولى لعائشة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.
وخرجه أحمد في "مسنده" وابن ماجه في "سننه" من حديث منصور هو ابن المعتمر.
وقال ابن ماجه عن شيخه أبي بكر ابن أبي شيبة، قال أبو بكر: كان أبو نعيم يقول: عن مولاة لعائشة. انتهى.
ورواه بركة بن محمد الحلبي، عن يوسف بن أسباط، عن الثوري، عن محمد بن جحادة، عن قتادة، عن أنس: أن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت عورة رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.
#81#
وحدث به أحمد بن عبد الله بن شابور، عن بركة بنحوه، إلا أنه جعل مكان "الثوري": "حماد بن سلمة".
وبركة الحلبي كذاب يضع الحديث، قاله الدارقطني، وبركة لقبه، واسمه حسين.
وخرج أبو الشيخ ابن حبان قال: أخبرنا أبو يعلى، أخبرنا مجاهد ابن موسى، أخبرنا محمد بن القاسم الأسدي، حدثنا كامل أبو العلاء، عن أبي صالح أراه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من نسائه إلا متقنعا يرخي الثوب على رأسه، وما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه مني.
وخرجه القاضي أحمد بن علي بن سعيد المروزي في كتابه "مسند عائشة رضي الله عنها" فقال: حدثنا مجاهد بن موسى، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي .. فذكره بنحوه.
وإسناده واه، الأسدي كذبه أحمد بن حنبل وغيره، وشيخه كامل
#82#
ضعيف جدا.
وخرج الحافظ أبو بكر الخطيب من حديث منصور بن عمار، حدثني معروف أبو الخطاب، سمعت واثلة بن الأسقع رضي الله عنه سمعت أم سلمة رضي الله عنها تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى امرأة من نسائه غمض عينيه وقنع رأسه الحديث، وهو حديث منكر، ومعروف بالمناكير معروف.
وقال محمد بن يونس الكديمي: حدثنا خالد بن عبد الرحمن، حدثنا سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء غطى رأسه، وإذا أتى أهله غطى رأسه.
وخرجه البيهقي في "السنن الكبرى".
وقال أبو أحمد ابن عدي: لا أعلم لا رواه غير الكديمي، وقد اتهم بوضع الحديث.
#83#
قلت: ورواه إبراهيم بن راشد فقال: حدثنا علي بن حبان الحوري، حدثنا سفيان الثوري.. فذكره بنحوه.
ومع قيامه صلى الله عليه وسلم بحقوقهن وبكسبه لنفقاتهن لم يشغلنه عن الله عز وجل بل فيما خرجه النسائي في "سننه" من حديث عفان بن مسلم، عن سلام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة».
تابعه علي بن الجعد، عن سلام بن سليمان هو أبو المنذر القارئ البصري.
ورواه النسائي أيضا من حديث سيار بن حاتم، عن جعفر بن سليمان عن ثابت، عن أنس مرفوعا به، ولفظه: «حبب إلي النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة».
ورواه أبو كامل الجحدري، عن سلام، عن ثابت، عن أنس.
وسلام هذا غير الأول هو ابن أبي الصهباء البصري الفزاري،
#84#
وكنيته أبو المنذر أيضا.
وبعضهم يروي هذا الحديث «حبب إلي من ديناكم ثلاث» وهو غلط ليس فيه "ثلاث"؛ لأن الصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها، فكان النساء والطيب أحب شيء إليه صلى الله عليه وسلم.
#85#
قال القاضي عياض: وكان حبه لهاتين الخصلتين - يعني: النساء والطيب – لأجل غيرته وقمع شهوته، وكان حبة الحقيقي المختص بذاته صلى الله عليه وسلم في مشاهدة جبروت مولاه ومناجاته، ولذلك ميز بين الحالين وفصل بين الحالين فقال صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة». انتهى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» اخبر أن في الصلاة ما تقر به عينه، ولم يقل) وجعلت قرة عيني الصلاة. والصلاة هي صلاته صلى الله عليه وسلم لله عز وجل هذا هو المشهور عند الجمهور.
وقيل: المراد بالصلاة: صلاة الله عليه في قول عز وجل: {إن الله وملائكة يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}. الآية، والله أعلم.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا زكريا بن إبراهيم، (عن إبراهيم) عن أبيه، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصبنا من دنياكم هذه إلا نساءكم».
تفرد به ابن أبي فديك، قاله الطبراني.
وحدث به أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" عن إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن الوليد بن برد، حدثنا ابن
#86#
أبي فديك، عن زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه قال:
سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعطيت من دنياكم هذه إلا نساؤكم».
وقال ابن سعد في "الطبقات" أخبرنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو بشر صاحب البصري، عن يونس، عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحببت من عيش الدنيا إلا الطيب والنساء».
وقال: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا أبو المليح، عن ميمون قال: ما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عيش الدنيا إلا النساء والطيب.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رجل حدثني عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلىملله عليه وس يعجبه من الدنيا ثلاثة: الطعام، والنساء، والطيب، فأصاب ثنتين ولم يصب واحدة، أصاب النساء والطيب، ولم يصب الطعام.
*وأما جزء نفسه صلى الله عليه وسلم بل قال علي رضي الله عنه في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "ثم جزء جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئا".
#87#
أي يعتمد على أن الخاصة ترفع إلى العامة علومه، قاله ابن الجوزي.
وقيل: يجعل منه جزءا للخاصة، ثم يشتركون مع العامة في جزئها.
وقيل: يجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة.
وفسره أبو بكر محمد بن هارون الروياني فقال: يريد أن العامة كانت لا تصل إليه في منزله في هذا الوقت، ولكنه كان يوصل إليها حظها من ذلك الجزء بالخاصة التي تصل إليه فتوصله إلى العامة.
*قال علي رضي الله عنه: "فكان من سيرته صلى الله عليه وسلم في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه":
أي يؤثر بالإذن في الدخول عليه أهل الفضل.
#88#
قال علي رضي الله عنه: "وقسمه على قدر فضلهم في الدين فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول: «ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فإنه من أبلغ سلطانا حاجه من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة» "لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره".
هذا صفة دخول الخاصة عليه وقسمته بينهم على مراتبهم في الفضل لديه، وكيف كان يشتغل بقضاء حوائجهم تامة ويشغلهم بما به صلاحهم خاصة وصلاح الأمة عامة من الموعظة والتذكير، والتخويف، والتحذير والترغيب، والترهيب، والحث على تبليغ الغائب، وإبلاغ حاجه الجائع واللائب، ليس يذكر عنده سوى ما ورد، ولا يقبل غيره من أحد.
قال أحمد بن عمير بن يوسف بن جوصا: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن ابن عبد الله بن يزيد بن تيم، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، أخبرني أبو زرعة يحيى بن [أبي] عمرو السيباني، حدثني عمرو بن عبد الله الحضرمي أنه حدثه عن واثلة بن الأسقع قال: خرجت مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم
#89#
أقبل الناس بين خارج وقائم فجعل رسول الله صلىالله عليه وسلم لا يرى قاعدا إلا دنا إليه فسأله: «هل لك حاجة»؟ فبدأ بالصف الأول، ثم الثاني، ثم الثالث حتى دنا إلي فقال: «ألك حاجة»؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما حاجتك؟» قلت: الإسلام، قال: «هو خير لك» الحديث بطوله.
*قال علي رضي الله عنه: "يدخلون روادا":
أي محتاجين طالبين يقال: راد الشيء روادا وارتاده: طلبه، فهو رائد، وجمعه رواد يقال: بعثنا رائد يرود لنا الكلأ أي ينظر ويطلب، ورواد هنا مثل لما يلتمسون عنده صلى الله عليه وسلم من العلم والنفع في دينهم ودنياهم، ذكره أبو بكر الروياني.
*قال علي رضي الله عنه: "ولا يتفرقون إلا عن ذواق":
قيل: الذواق هنا ما يقدم للضيف مما يعد ذواقا، وهذا من بعض جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقري الضيف وهذه كانت صفته قبل الإسلام، كما قالته خديجة رضي الله عنها وصفته في الإسلام كما هو المعروف من سيرته قبل وبعد.
قال سويد بن سعيد الحدثاني: حدثنا سويد بن عبد العزيز، حدثنا
#90#
نوح بن ذكوان، عن أخيه أيوب بن ذكوان، عن الحسن، عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم عن الأجود الأجود، الله الأجود الأجود، وأنا أجود ولد آدم» الحديث.
وقال أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ: حدثنا عبد الرحيم بن عبد الباقي بحلب، حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم، حدثنا خالد بن يزيد، عن إسماعيل - يعني: ابن أبي خالد – عن بيان - يعني ابن بشر عن أنس رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان أكرم الناس. وقيل: قوله "عن ذواق" عن معرفة استفادوها، وعلم تعلموه، وهذا أشبه؛ لأنه قال بعده: ويخرجون أدلة.
#91#
ويحتمل أنهم كانوا يتفرقون عن الأمرين جميعا، والأحاديث الصحيحة جاءت بذلك صريحة.
حدث الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فحلبنا له من شاة داجن، وشيب له من بئر في الدار، وأعرابي عن يمينه، وأبو بكر عن يساره، وعمر تجاهه، فشرب رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال عمر: أعط أبا بكر، فناول الأعرابي، وقال: «الأيمن فالأيمن».
وخرج أبو الشيخ ابن حيان من حديث يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه فقالوا: يا رسول الله، لو شربت، فقال: «ساقي القوم آخرهم».
*ومعنى قوله: "ويخرجون أدلة" أي يدلون الناس على الخير الذي تعلموه منه صلى الله عليه وسلم في دخولهم عليه.
وري: "ويخرجون أذلة" – بالذال المعجمة - بدل المهملة، أي يخرجون من عنده بما سمعوه وتعلموه متواضعين متخشعين كما في قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين}.
#92#
*قال الحسين رضي الله عنه: فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟
(تنبيه تقدم الوعد به)
هذا الفصل مما وهم فيه أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا" وقبله أبو الفضل عياض في كتابه "الشفا" فجعلاه من كلام هند بن أبي هالة رضي الله عنه.
أما ابن الجوزي، فروى في باب مخالطته صلى الله عليه وسلم الناس وهو الباب الرابع والعشرون من أبواب آدابه وسمته وهديه صلى الله عليه وسلم بإسناده إلى الترمذي في "الشمائل": أخبرنا سفيان بن وكيع، حدثني جميع، حدثني أبو عبد الله التميمي، عن ابن لأبي هالة، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان يخزن لسانه ... وذكر الحديث.
وإنما هذا الوصف من كلام علي (بن أبي طالب) رضي الله عنه كما تقدم, سأله عنه ولده الحسين رضي الله عنهما وهو مبين في سياق الحديث.
وقد قطعه الترمذي في أماكن منها أنه ذكر طرفاً منه إلى قوله: "يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر" ثم قال: فذكر الحديث بطوله.
قال الحسن: فكتمتها الحسين زماناً, ثم حدثته, فوجدته قد سبقني إليه, فسأله عما سألته عنه, ووجدته قد سأل أباه عن مدخله وعن مخرجه وشكله فلم يدع منه شيئاً. قال الحسين: فسألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم.
#93#
وذكر أبو عيسى بقية الحديث من مدخله ومخرجه ومجلسه.
وأما القاضي عياض فقال في فصل حسن عشرته وأدبه وبسط خلقه صلى الله عليه وسلم: وكان صلى الله عليه وسلم يؤلفهم ولا ينفرهم ويكرم كريم كل قوم, وذكره إلى قوله: وصاروا عنده في الحق سواء, ثم قال: بهذا وصفه ابن أبي هالة, ثم قال القاضي (عياض): قال: وكان دائم البشر سهل الخلق .... وذكر بقيته.
وهذا وهم بين وغلط ظاهر لم أر أحداً تعرض له, ولا نبه.
وقد وهم قبلهما في ذلك الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في كتابه "طرق حديث نزول الرب عز وجل" فقال فيه: فكان كلامه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – مع الناس على قدر معرفتهم, وينزل الناس منازلهم في العلم والمعرفة فكان يكلم كل قوم بلغتهم, وكان كما وصفه هند ابن أبي هالة للحسن بن علي رضي الله عنهم حين استوصفه عن مدخله ومجلسه فقال: كان جزأ نفسه ثلاثة أجزاء: جزءاً لله عز وجل وجزءاً لأهله, وجزءاً لنفسه.
وهذا ليس من وصف هند للحسن رضي الله عنهما بل من وصف علي لولده الحسين رضي الله عنهما بيناه قبل, ولله الحمد.
*قال علي رضي الله عنه حين سأله ابنه الحسين رضي الله عنه عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصنع فيه فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا فيما يعنيه»:
#94#
وفي رواية: "إلا فيما يعنيهم".
تقدم قول هند: "ولا يتكلم في غير حاجة".
وحدث أبو داود في "سننه" عن محمد بن يحيى بن فارس, عن محمد بن يوسف الفريابي, عن إسرائيل, عن الوليد – قال أبو داود: ونسبه لنا زهير بن حرب – عن حسين بن محمد, عن إسرائيل في هذا الحديث قال: الوليد ابن أبي هشام, عن زيد بن زائد.
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».
وخرجه الترمذي عن محمد بن يحيى هذا به, ومن طريق عبيد الله بن موسى, وحسين بن محمد, عن إسرائيل, عن السدي, عن الوليد بن أبي هشام به, وقال: غريب من هذا الوجه.
ومن أفعاله صلى الله عليه وسلم في مخرجه: أنه كان يتبدى إذا اخضرت الأرض, قال أبو حنيفة – صاحب كتاب "النبات" -: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتبدى إذ هو بمكة قبل كثرة الأشغال ومقاساة أعباء الرسالة والنهوض بها, إذا اخضرت الأرض فأعشبت.
وهذا الذي قاله أبو حنيفة جاءت ببعضه الرواية, وذلك فيما رواه
#95#
إبراهيم بن سعد الزهري, عن شريك, عن بريد, عن أبي بردة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبدى.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا ابن نمير, حدثنا شريك, عن المقدام بن شريح الحارثي, عن أبيه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدو؟ قالت: نعم, كان يبدو إلى هذه التلاع, فأراد البداوة مرة فأرسل إلى نعم من إبل الصدقة فأعطاني منها ناقة محرمة, ثم قال: «يا عائشة, عليك بتقوى الله عز وجل والرفق؛ فإن الرفق لم يك في شيء قط إلا زانه, ولم ينزع من شيء قط إلا شانه».
وحدث به أبو داود في "سننه" عن أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزار، عن شريك بنحوه.
وقال أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الأديب: حدثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي, حدثنا سعيد بن سيف الكريزي, عن سفيان بن عيينة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اهتم بدى.
#96#
غريب المتن والإسناد:
وجاء من رواية الحسن بن عمرو بن سيف, عن القاسم بن مطيب, عن منصور بن صفية, عن أبي معبد, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب أن ينظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري.
وخرجه أبو نعيم في "الطب النبوي".
*قال علي رضي الله عنه: "ويؤلفهم ولا ينفرهم":
وفي رواية "ولا يفرقهم":
صح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
ومن تأليفه صلى الله عليه وسلم ما حدث به إسماعيل بن محمد الصفار, حدثنا عبد الرحمن بن محمد الحارثي, حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العذري، حدثنا مالك بن أنس, عن أبي الزناد, عن خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه قال: جاء رجل من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أرضاً بين جبلين, فكتب له بها, فأسلم, ثم أتى قومه, فقال لهم: أسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطية لا يخاف الفاقة.
#97#
هذا من أفراد العذري, عن مالك, والمعروف ما رواه أبو حفص عمرو بن علي الفلاس فقال: حدثنا خالد بن الحارث, حدثنا حميد – هو الطويل – عن موسى بن أنس, عن أبيه رضي الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه, فجاءه رجل, فسأله فأمر له بغنم بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء لا يخاف الفاقة.
وحدث به مسلم, عن عاصم بن النضر, عن خالد بن الحارث.
وهو في "مسند أحمد بن حنبل" ولفظه: عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئاً على الإسلام إلا أعطاه, فأتاه رجل, فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة قال: فرجع إلى قومه, فقال: يا قوم, أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.
وخرجه مسلم أيضاً من طريق حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس بنحوه.
#98#
وعند مسلم أيضاً من حديث عبد الله بن وهب, أخبرني يونس, عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين, وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم, ثم مائة, ثم (مائة).
قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان رضي الله عنه قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي, فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني من حديث إبراهيم بن الحكم بن أبان, حدثني أبي, عن عكرمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء فأعطاه شيئاً ثم قال: «أحسنت إليك»؟ فقال الأعرابي: لا, ولا أجملت, قال: فغضب المسلمون, وقاموا إليه, فأشار صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفوا, ثم قام, فدخل منزله, ثم أرسل إلى الأعرابي, فدعاه إلى البيت – يعني: فأعطاه, فرضي, فقال: «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك, وقلت ما قلت وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك» قال: نعم, فلما كان الغد أو العشي جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبكم هذا كان جاء يسألنا فأعطيناه فقال
#99#
ما قال, وإنا دعوناه إلى البيت فأعطيناه فزعم أنه رضي أكذاك؟» قال الأعرابي: نعم, فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كان له ناقة فشردت / عليه, فأتبعها الناس, فلم يزيدوها إلا نفوراً, فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي, فأنا أرفق بها فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض, فجاءت فاستناخت, فشد عليها رحلها واستوى عليها, وإني لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار».
وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا أبو المغيرة: ح.
قال: وحدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد, حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قالا: حدثنا حريز بن عثمان, عن سليم بن عامر أن أبا أمامة رضي الله عنه حدثه أن غلاماً شابا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا, فصاح الناس, فقال: مه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقروه, أدن مني» فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لأمك؟» قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم, أتحبه لابنتك؟» فقال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم, أتحبه لأختك؟»
#100#
قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم, أتحبه لعمتك؟» قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم, أتحبه لخالتك؟» قال: لا, قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم» فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره, فقال: «اللهم كفر ذنبه, وطهر قلبه, وحصن فرجه».
وخرجه الطبراني أيضاً من حديث محمد بن عائذ, حدثنا الهيثم بن حميد, عن العلاء بن الحارث, عن القاسم, عن أبي أمامة بنحوه.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
وقد جاءت الرواية بما يشعر أن الذي استأذن في الزنا هو أبو كبير الهذلي الشاعر الذي تقدم (ذكر) نسبه, ولهذه القصة قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... صلت هذيل بما سالت ولم تصب
سألوا نبيهم ما ليس معطيهم ... حتى الممات وكانوا عرة العرب
#101#
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة: منها: ما قال إبراهيم بن طهمان, عن أبي سعيد – وهو عمر بن سعيد أخو سفيان – عن الأعمش, عن عمرو بن مرة الجملي, عن أبي البختري قال: جاء أعرابي فبال في المسجد, فأخذوه فسبوه, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فصب على مكان البول الماء, ثم قال: «إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين, كونوا معلمين, ولا تكونوا معانتين, أرشدوا الرجل» قال: ثم جاء من الغد فقال: اللهم اغفر لي ولمحمد صلى الله عليه وسلم ولا تغفر لأحد غيرنا, قال: ففعلوا به مثل ذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم بعثتم هداة ولم تبعثوا مضلين, كونوا معلمين, ولا تكونوا معانتين, أرشدوا الرجل».
رواه أبو عبيد الله محمد بن يحيى بن منده, عن أحمد بن معاوية, عن الحسين بن حفص, حدثنا إبراهيم – يعني: ابن طهمان ... فذكره.
*قال علي رضي الله عنه: "ويكرم كريم كل قوم, ويوليه عليهم":
هذا كفعله صلى الله عليه وسلم مع رؤساء الوفود التي وفدت عليه فإنه كان يكرم نزلهم ويجيز كلا منهم بما يليق به ويؤمر عليهم كريمهم.
#102#
من ذلك تأميره صلى الله عليه وسلم الحارث بن عوف على ذي مرة لما وفد عليه في ثلاثة عشر رجلاً وأمر بلالاً فأجازهم كل واحد بعشر أواق فضة, وفضل الحارث بن عوف فأعطاه اثنتي عشرة أوقية.
وكذلك تأميره صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص على وفد ثقيف, وكان من أحدثهم سناً وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن, ومالك بن النمط – ذي الشعار – على همدان.
وفي قصة إسلام جرير رضي الله عنه قال: فألقى – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – إلي كساءه ثم أقبل على أصحابه ثم قال: «إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه».
خرجه الطبراني بطوله في "المعجم".
وجاء عن القاسم, عن عائشة أن الأسود بن وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خال, أدخل» فدخل فبسط له رداءه, وقال: «اجلس عليه» قال: حسبي, قال: «اجلس على ما أنت عليه», قال: «إن الخال والد, يا خال من أسدي إليه معروف فلم يشكر فليذكر, فإنه إذا ذكر فقد شكر».
#103#
*قال علي رضي الله عنه: "ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشرة ولا خلقه":
في "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة» أو «بئس ابن العشيرة» فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه, فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله, حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا, ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة, متى عهدتيني فحاشاً؟! إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركته الناس اتقاء شره».
وقد جاءت الرواية بأن هذا الرجل هو مخرجه بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة أبو المسور, أحد المؤلفة قلوبهم.
قال أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا أبو عامر الخزاز, عن أبي يزيد المدني, عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء مخرمة بن نوفل فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال: «بئس أخو العشيرة» فلما جاء أدناه ... وذكر الحديث بنحوه.
#104#
رواه ابن منده في كتابه "معرفة الصحابة" من طريق الهيثم.
وقد حدث الحارث بن أبي أسامة, عن الخليل بن زكريا, حدثنا هشام الدستوائي, عن عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل رجل فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بئس أخو العشيرة, وبئس الرجل» فلما دنا منه أدنى مجلسه فلما قام وذهب قالوا: يا رسول الله, حين أبصرته قلت: بئس أخو العشيرة وبئس الرجل, ثم أدنيت مجلسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه منافق أداريه عن نفاقه وأخشى أن يفسد علي غيره».
حديث غريب تفرد بن الخليل بن زكريا البصري, وقد ضعفه أبو جعفر العقيلي, وأبو الفتح الأزدي, وأبو أحمد ابن عدي.
وقال القاسم بن زكريا المطرز: وهو والله كذاب, ووثقه جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ أحد الرواة عنه, فقال أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي: سمعت جعفراً الصائغ يقول: سمعت الخليل بن زكريا –
#105#
وكان ثقة مأموناً.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً بشيء يكرهه.
خرجه أبو داود في "سننه", والترمذي في "الشمائل", والنسائي في "عمل اليوم والليلة".
*قال علي رضي الله عنه: "ويتفقد أصحابه".
حدث أبو محمد ابن حيان أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" عن أبي يعلى, حدثنا الأزرق بن علي, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا عباد بن كثير, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له, وإن كان شاهداً زاره, وإن كان مريضاً عاده.
قال حذيفة رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده.
خرجه أحمد في "مسنده".
وخرج دعلج في كتابه "مسند المقلين" من حديث أحمد بن شبيب,
#106#
حدثنا أبي, عن يونس, عن ابن شهاب, أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعود مرضى مساكين المسلمين ويشيع جنائزهم, ولا يصلي عليهم أحد غيره .... الحديث.
ورواه محمد بن أبي حفصة وسفيان بن حسين, عن الزهري, عن أبي أمامة بن سهل مرسلاً (ورواه إسحاق بن راهويه فقال: أخبرنا الوليد ابن مسلم, عن الأوزاعي, عن أبي أمامة بن سهل) كذلك.
ورواه عيسى بن يونس, عن الأوزاعي, عن الزهري, عن أبي أمامة ابن سهل, عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح برءوسهم.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث محمد بن عقبة السدوسي, حدثنا مسكين بن عبد الله – أبو فاطمة الأزدي – سمعت أبا عطية البكري – بكر بن وائل – قال: انطلق [بي] أهلي إلى
#107#
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام شاب فمسح يده على رأسي قال: فرأيت أبا عطية أسود الرأس واللحية وكانت قد أتت عليه مائة سنة.
تفرد به محمد بن عقبة.
وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث أسباط – هو ابن نصر الهمداني – عن سماك, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله, وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً قال: وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار.
وقال أبو السري هناد بن السري في كتابه "الزهد" والإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له: حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش, عن أبي إسحاق, عن عبد الرحمن بن زيد الفائشي, عن ابنة لخباب قالت: خرج خباب في سرية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدنا حتى كان يحلب عنزاً لنا في جفنة لنا. قالت: فكان يحلبها حتى تطفح أو تفيض فلما رجع خباب حلبها فرجع حلابها إلى ما كان, فقلنا له: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلبها حتى تفيض. وقال مرة: حتى تمتلئ, فلما حلبتها رجع حلابها.
#108#
وحدث به أحمد بن حنبل أيضاً عن خلف بن الوليد, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الرحمن بن مالك الأحمسي, عن ابنة خباب بن الأرت قالت: خرج أبي في غزاة ولم يترك لنا إلا شاة .... فذكره نحوه.
*قال علي رضي الله عنه: "ويسأل الناس عما في أيديهم":
من ذلك ما صح عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقاً أقمنا عنده عشرين ليلة, فظن أنا قد اشتقنا أهلنا, فسألنا عمن تركنا, فأخبرناه فقال: «رجعوا إلى أهاليكم فأقيموا فيهم ..» الحديث.
*قال علي رضي الله عنه: "ويحسن الحسن ويقويه – وفي رواية: ويصوبه – ويقبح القبيح ويوهنه":
هذا كمدحه صلى الله عليه وسلم العبادات المفروضات والنوافل والطاعات وسائر أنواع الخيرات, وكذمه المعاصي المهلكات والسيئات الموبقات وسائر الأقوال والأفعال الموجبة لصاحبها النكال, والأحاديث الواردة في معناه كثيرة.
*قال علي رضي الله عنه: "معتدل الأمر غير مختلف":
كان صلى الله عليه وسلم معتدل الأمر في القول والفعل, مجبولاً على الإنصاف والعدل, معتدل الخلق والخلق, ولد بالعدل, ورضع بالعدل, ونشأ بالعدل, ونبئ بالعدل, وقضى بالعدل, وأمر بالعدل, إلى أن مضى لسبيله وترك الناس على أعدل محجة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وسلم.
#109#
*قال علي رضي الله عنه: "لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا – وفي رواية يملوا – لكل حال عنده عتاد":
العتاد: العدة والشيء تعده لأمر ما.
ومعنى قول علي هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية الأمة وإرشادهم إلى كل خير وإنقاذهم من كل شر, لا يغفل عن تعليمهم وتذكيرهم وإرشادهم للخير وتحذيرهم من الشر مخافة غفلتهم عن ذلك, بل كان يعد لكل من الموعظة والتذكير والدعاء إلى الإسلام ما يقتضيه الوقت والحال.
روى عبد الله بن عمر بن أبان, عن محمد بن فضيل, عن أبي حيان, عن عطاء, عن (ابن) عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر, فأقبل أعرابي, فلما دنا منه قال: «أين تريد؟» قال الأعرابي: إلى أهلي, قال «وهل لك إلى خير» قال: وما هو؟ قال: «تسلم» قال: هل من شاهد؟ قال: «هذه الشجرة» فدعاها فأقبلت تخد الأرض خداً, فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت له, قال: ثم رجعت إلى منبتها, ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني آتك بهم وإلا رجعت إليك فكنت معك.
تابعه محمد بن طريف, عن ابن فضيل, حدث به الدارمي في "مسنده" عن ابن طريف.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في نصيحة الأمة على أحوال:
#110#
فتارة يبشرهم كما في "الصحيحين" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلىعليه وسلم في قبة فقال: «ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» قلنا: نعم, قال: «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟» قلنا: نعم, قال: «أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟» قلنا: نعم, قال: «والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة, وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة, وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود, أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر».
وخرج ابن ماجه في "سننه" من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها, هي ورب الكعبة نور يتلألأ, وريحانه تهتز, وقصر مشيد, ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة, وحلل كثيرة, ومقام في أبد في دار سليمة, وفاكهة خضرة, وحبرة, ونعمة, في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله, نحن المشمرون لها, قال: «قولوا: إن شاء الله» فقال القوم: إن شاء الله.
وكان صلى الله عليه وسلم تارة ينذرهم ويخوفهم كما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً».
#111#
وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم».
وتارة يجمع لهم البشارة والنذارة في وقت واحد, كما صح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل الجنة أحدا عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله, قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد, ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد».
وخرج أبو بكر الخرائطي في كتابه "مكارم الأخلاق" فقال: حدثنا القنطري, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثنا الليث, حدثني أسامة بن زيد أنه سمع أبا حازم وحفص بن عبيد الله بن أنس يقولان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه عن أمر الآخرة, فإذا رآهم قد كسلوا وعرف ذلك فيهم, أخذ بهم في بعض أحاديث الدنيا حتى إذا نشطوا وأقبلوا أخذ بهم في حديث الآخرة.
#112#
وحدث به أيضاً في كتابه "اعتلال القلوب" عن علي بن داود القنطري هذا بنحوه مختصراً.
وأحاديثه صلى الله عليه وسلم في وعظ الأمة وترغيبها وترهيبها وتخويفها وتحذيرها لا تحصى ولا تحصر.
وفي رواية ابن عباس عن هند رضي الله عنهم: "وإذا وعظ جد وماد".
فمعنى "جد" اجتهد, و"ماد": أي أعطى المستمع للوعظ ما ينفعه, والله أعلم؛ لأن هذه المادة يقال فيها: ماد السكران وغيره ميداً تعطف, والأرض اضطربت, والرجل أعطيته، ومنه المائدة.
*قال علي رضي الله عنه: "لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه إلى غيره":
هذا في جميع أحواله صلى الله عليه وسلم المبنية على العدل.
صح عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك, وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها, وما أريد بها وجه الله, فقلت: والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته فقال: «من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله, رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
*قال علي رضي الله عنه: "الذين يلونه من الناس خيارهم":
صح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم قد دعوا الله لعمر رضي الله عنه وقد وضع على سريره إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: يرحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني
#113#
كثيراً مما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخلت أنا وأبو بكر وعمر, وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ...». الحديث.
وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة, ويقول: «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم, ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ...» الحديث.
*قال علي رضي الله عنه: "أفضلهم عنده أعمهم نصيحة, وأعظمهم عنده أحسنهم مساواة ومؤازرة":
من كانت نصيحته من الذين يلونه عامة كان عنده المقدم المفضل, ومن كان أحسنهم مواساة ومؤازرة كان عنده المعظم المبجل, كالعمرين – يعني: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب – ونحوهما من المهاجرين, والسعدين – يعني: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة – وشبههما من الأنصار المؤثرين.
*قال الحسين رضي الله عنه: فسألته عن مجلسه – وفي رواية: - كيف كان يصنع فيه؟ فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر»:
تقدم حديث عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
#114#
وجاء عن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو .... الحديث وسيأتي إن شاء الله تعالى بتمامه.
وخرج أبو داود في "المراسيل" من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن عمر بن عبد العزيز بن وهب, عن خارجة بن زيد بن ثابت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه.
*قال علي رضي الله عنه: "ولا يوطن الأماكن, وينهى عن إيطانها وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك":
الوطن: محل الإنسان, وطنت الأرض: اتخذتها وطناً.
وقال أبو أحمد حميد بن زنجويه النسوي في كتابه "الترغيب والترهيب": حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا عثمان, عن أبي العاتكة, عن علي بن يزيد, عن القاسم أبي عبد الرحمن: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم صلاة العصر, ثم قام فدخل بيت عائشة, فمكث ساعة, ثم خرج إلى المسجد, فإذا برجل قاعد يقص على الناس ويذكرهم, والناس مقبلون
#115#
عليه بوجوههم, فلما نظر الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً قطع قصصه, وقام من مجلسه للنبي ؟, فأشار إليه بيده أن اثبت مكانك, وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى الناس ولم يتخط أحداً, فلما فرغ الرجل من قصصه قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه والتفت الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو خلفهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقم من مجلسك, ولا تقطع قصصك, فإني أمرت أن أصبر نفسي مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه, ولئن أصبر نفسي مع قوم يذكرون الله من حين يصلون الصبح إلى أن ترتفع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل». قال عثمان: بلغني أن الرجل الذي كان يقص: عبد الله بن رواحة رضي الله عنه.
وخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" من حديث جرير, عن أبي فروة – يعني: عروة بن الحارث – عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير, عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل, فطلبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه, فبنينا له دكاناً من طين فكان يجلس عليه ونجلس بجانبيه.
وخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي فروة, بنحوه.
#116#
$[ما روي في تواضعه صلى الله عليه وسلم]$
ومن عادة أصحابه رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهى إليهم لم يقوموا إليه لكراهيته صلى الله عليه وسلم لذلك.
قال الإمام أحمد في "مسنده": وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن حماد بن سلمة, عن حميد, عن أنس رضي الله عنه قال: ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته صلى الله عليه وسلم لذلك.
وحدث به الترمذي في "جامعه": عن عبد الله بن عبد الرحمن, عن عفان, عن حماد بنحوه, وقال: حسن صحيح غريب. انتهى.
تابعهما إبراهيم بن الحجاج, عن حماد, حدث به أبو بكر ابن السني في كتابه "رياضة المتعلمين": عن أبي يعلى الموصلي, حدثنا إبراهيم ابن الحجاج ... فذكره.
وخرج أبو داود من حديث أبي غالب, عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصى فقمنا له فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضاً».
#117#
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" ولفظه: عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عصى, فلما رأيناه قمنا إليه فقال: «لا تفعلوا كما تفعل الأعاجم يقوم بعضها لبعض» قلنا: اشتهينا أن تدعو لنا, فقال: «اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا وتقبل منا, وأدخلنا الجنة ونجنا من النار, وأصلح شأننا كله», قال: فكأنا اشتهينا أن تزيدنا, فقال: «أوليس قد جمعت الخير».
وكراهيته صلى الله عليه وسلم لقيام أصحابه له من باب تواضعه صلى الله عليه وسلم على علو منصبه.
والأحاديث في معنى تواضعه صلى الله عليه وسلم كثيرة:
منها ما قال أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي: أخبرنا الحجاج, حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت سيدنا وابن سيدنا, وخيرنا وابن خيرنا فقال: «يا أيها الناس, قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان, قولوا: محمد بن عبد الله».
وحدث به النسائي في (كتابه) "عمل اليوم والليلة" عن أبي بكر بن نافع وهو محمد بن أحمد بن نافع البصري، عن بهز بن أسد, عن حماد.
وقال أبو مسعود الرازي – أيضاً -: أخبرنا محمد بن الفضل, حدثنا مهدي بن ميمون, عن غيلان بن جرير, عن مطرف بن عبد الله, عن أبيه
#118#
قال: وفدنا على النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر فسلمنا عليه, فقالوا: أنت والدنا, وأنت سيدنا, وأنت أفضلنا فيها فضلاً, وأطولنا علينا فيها طولاً, فقال: «قولوا بقولكم ولا يستجري» – يعني: - الشيطان, أو قال: «الشيطان».
ومنها ما خرج محمد بن فضيل بن غزوان الضبي في كتاب "الزهد" له عن عمارة, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل عليه السلام (إلي النبي صلى الله عليه وسلم), فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل, فقال له جبريل عليه السلام إن هذا الملك ما نزل قبل منذ يوم خلق قبل الساعة, فلما نزل قال: يا محمد, أرسلني إليك ربك, فملكاً نبياً يجعلك ربك أم عبداً رسولاً؟ فقال جبريل: تواضع لربك يا محمد, فقال: «بل عبداً رسولاً».
حدث به الإمام أحمد في "مسنده" عن ابن فضيل.
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" مطولا فقال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى (حدثني أبي، عن ابن أبي ليلى) عن الحكم بن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل عليه السلام يناجيه إذ انشق أفق السماء،
#119#
فأقبل جبريل يدنو من الأرض ويتمايل، فإذا ملك قد مثل بين يدي النبي صلىالله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يأمرك أن تختار بين نبي عبد أو ملك نبي، قال: «فأشار جبريل عليه السلام إلي بيده أن تواضع، فعرفت أنه لي ناصح، فقلت: عبد نبي» فعرج ذلك الملك إلى السماء، فقال «يا جبريل قد كنت أردت أن أسأل عن هذا، فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة، فمن هذا يا جبريل؟» قال: هذا إسرافيل، خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه، وبيه وبين الرب تعالى سبعون نورا ما منها نور يكاد يدنو منه إلا احترق.. وذكر الحديث، وفيه أن جبريل قال: وما الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة.
تابعه محمد بن يحيى الذهلي، عن محمد بن عمران، تفرد به ابن أبي ليلى، عن الحكم، والحكم عن مقسم، والله أعلم.
وحدث بنحوه أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، عن عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي أبو تقي، حدثنا عبد الله بن سالم الحمصي، عن الزبيدي، حدثنا الزهري، عن محمد بن عبد الله بن عباس: أن (ابن) عباس كان يحدث: أن الله تعالى أرسل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة معه جبريل عليه السلام. وذكر الحديث.
ورواه يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثني أبو العباس
#120#
حيوة بن شريح، أخبرنا بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، فذكره بنحوه.
وحدث به ابن المبارك في "الزهد" عن معمر، عن الزهري من بلاغاته.
وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم" حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني وحميد، عن الحسن: أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنبي عبد أم نبي ملك؟ قال: «لا بل نبي عبد» قال جبريل عليه السلام: إن الله عز وجل يشكرك على ذلك، أنك أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول من يدخل الجنة.
وقال أيضا: حدثنا أحمد بن عثمان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا المعلى، عن الحسن، قال: وحدثنا المهاجر مولى أبي بكر، عن أبي العالية، قال: نزل إسرافيل ولم ينزل قبلها، فقال: يا محمد، إن ربك أرسلني إليك يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا، وبين أن تكون ملكا،
#121#
فأشار إليه جبريل عليه السلام بيده، قال حماد: وسمعت غير المعلى يقول: وكان جبريل له ناصحا، قال: «فقلت: نبيا عبدا» قال: «فشكمني عز وجل أن تواضعت له، وجعلني سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع».
قوله: "فشكمني" أي: أعطاني وأثابني، والشكم: العطاء والثواب.
وخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في كتابه "حلية الأولياء" من حديث يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت أبا حازم، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل عليه السلام فقال: السلام عليك يا محمد، وقال: أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا فنظر إلي جبريل عليه السلام فأومأ إلي أن تواضع» فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «نبيا عبدا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أني قلت: نبيا ملكا ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا».
هذا حديث غريب من حديث أبي حازم، عن ابن عمر، تفرد به أيوب بن نهيك، وأبو حازم مختلف فيه، فقيل: سلمة بن دينار، وقيل محمد بن قيس (المدني. قاله أبو نعيم، ومحمد بن قيس) أشبه بل الصواب.
#122#
قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا أبو شعيب – عبد الله بن الحسن الحراني - حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت محمد بن قيس المدني – أبا حازم -، يقول: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يوم الأربعاء، ويوم الخميس، ويوم الجمعة ثم تصدق يوم الجمعة بما قل من ماله أو كثر غفر له كل ذنب علمه حتى يصير كيوم ولدته أمه من الخطايا».
ثم قال عقب هذا: حدثنا أبو شعيب، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت محمد بن قيس المدني، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد من بعدي وهو إسرافيل» وعنده جبريل عليهما السلام، فقال: السلام عليك يا محمد، ثم قال: أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، «فنظرت إلى جبريل عليه السلام فأومأ جبريل إلي أن تواضع» فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «نبيا عبدا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أني قلت: نبيا ملكا (ثم شئت) لسارت الجبال معي ذهبا».
قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا محمد بن بكار، حدثنا أبو معشر،
#123#
عن سعيد - يعني: المقبري – عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل عليه السلام، فأشار إلي أن ضع نفسك، فقلت: نبيا عبدا»، قالت: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئا، يقول: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
وقال ابن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا الأوزاعي، عن عبد الله بن عبيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام بمفاتيح خزائن الدنيا، فوالذي نفسي بيده ما بسطت إليها يدي»، قال عبد الله بن عبيد: لو علم صلى الله عليه وسلم أن فيها خيرا لبسط إليها يده.
عبد الله هو: ابن عبيد بن عمير الليثي أبو هاشم، من أعيان التابعين.
وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا عبد الله بن صالح البخاري – ببغداد - حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرني الحسين بن واقد، حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس».
وحدث به أبو بكر ابن أبي عاصم، عن محمد بن علي بن شقيق، عن أبيه، ولفظه: «أوتيت بمفاتيح خزائن الدنيا على فرس أبلق جاءني به
#124#
جبريل عليه السلام».
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين، و إن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة».
خرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وخرجه الترمذي في "جامعه" من حديث ثابت بن محمد العابد الكوفي، حدثنا الحارث بن النعمان الليثي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة».
وقال المسعودي – عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود - عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر بجلده، فجعلت أمسحه عنه، وأقول: بأبي وأمي ألا آذنتنا فنبسط لك، قال: «مالي وللدنيا إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».
#125#
وحدث به وكيع في كتابه في "الزهد" دون القصة فقال: حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم بن علقمة، عن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في أصل الشجرة في يوم صائف، ثم راح وتركها».
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: لما قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين»
خرجه الطبراني في "الطولات".
وخرجه أبو سعيد الخليل بن أحمد السجزي في كتابه "الآداب" من حديث حفص بن عمرو – هو ابن الصباح - عن العلاء بن هلال الرقي، حدثنا طلحة بن زيد، عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة، قال: (قدم وفد النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم فقام النبي) صلىالله عليه وسلم يخدمهم، فقلنا: يا رسول الله، نحن نكفيك، فقال «إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وأحب أن أكافئهم».
تفرد به طلحة بن زيد عن الأوزاعي.
#126#
تابعه علي بن الحسن النسائي وهلال بن العلاء بن هلال، عن أبيه.
قال أبو نعيم الأصبهاني عن هلال بن العلاء بن هلال، والحديث به اشتهر.
وقال أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا دليل بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا جعفر بن عون، عن إسماعيل، عن قيس - يعني: ابن أبي حازم – عن أبي مسعود رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يكلمه فأرعد فقال: «هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».
وخرجه ابن ماجه بنحوه.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث محمد بن كعب الحمصي، حدثنا شقران، حدثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم من بين يديه فاستقبلته رعدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».
لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل، عن قيس، عن جرير إلا عيسى بن يونس، تفرد به شقران، قاله الطبراني.
وعد الدارقطني حديث جرير هذا وحديث أبي مسعود قبله
#127#
وهما قال: والصواب، عن إسماعيل – يعني: ابن أبي خالد – عن قيس مرسلا، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا معمر، عن يحيى بن المختار، عن الحسن أنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا والله ما كانت تغلق
#128#
دونه الأبواب ولا تقوم دونه الحجبة (ولا يغدى عليه بالجفان)، ولا يراح عليه بها، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان بارزا، من أراد [أن] يلقى نبي الله صلى الله عليه وسلم لقيه، وكان – والله - يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار ويردف بعده، ويلعق - والله – يده صلى الله عليه وسلم.
وحدث عبد الله بن وهب، عن معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت ما كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ فقالت: كان بشرا من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه.
تابعه الليث بن معاوية.
ورواه ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن مجاهد، عن عائشة.
ورواه غيره عن يحيى فأدخل بينه وبين مجاهد حميد بن قيس المكي الأعرج.
وخرج أبو نعيم في كتابه "حلية الأولياء" من حديث الحماني، حدثنا الحسن بن عمارة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أنس بن مالك
#129#
رضي الله عنه قال: النبي صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف، وينام على الأرض، ويأكل من الأرض، ويركب الحمار ويردف خلفه، ويعقل البعير (كذا) فيحلبها ويجيب دعوة العبد.
تفرد به الحسن بن عمارة فيما ذكره أبو نعيم.
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليهوسلم " من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله كل – جعلني الله فداك – متكئا فإنه أهون عليك.
قالت: فأصغى برأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ثم قال: «لا، بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
وقال الإمام أحمد في كتابه في "الزهد": حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن جرير بن حازم، سمعت الحسن يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام أمر به فألقي على الأرض، وقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».
#130#
وقال: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، حدثنا عبدة بن أيمن، عن عطاء بن أبي رباح، قال: دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على وسادة، وبين يديه طبق عليه رغيف، قال: فوضع الرغيف على الأرض ونحى الوسادة، فقال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد».
وجاء من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد على الطعام استوفز على ركبته اليسرى وأقام اليمنى، ثم قال: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأفعل كما يفعل العبد».
وتقدم عن أنس مثله.
وله شاهد عن ابن عمر وغيره.
وعن أنس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل وهو مقع من الجوع. خرجه النسائي.
وقال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في كتابه "المواعظ
#131#
والوصايا": أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي بن زياد, حدثنا الهيثم بن خلف الدوري – ببغداد – حدثنا يحيى بن عثمان, حدثنا بقية بن الوليد دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه فأتيت فجلس هكذا, ووضع رجله اليسرى تحت أليته ونصب رجله اليمنى ووضع يده عليها وقال: يا أبا محمد تعرف هذه الجلسة.؟ قلت: لا.
قال: هذه جلسة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يجلس جلسة العبيد ويأكل أكل العبيد, كل باسم الله, وذكر بقيته.
وخرجه الدينوري في "المجالسة" فقال: حدثنا محمد بن عمرو, عن يحيى بن عثمان, عن بقية بن الوليد ..... فذكره مختصراً.
وقال أبو الحسن علي بن المهدب الحموي الطبيب في كتابه "الطب النبوي": روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس عند الأكل متوركاً على ركبتيه ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى؛ تواضعاً لربه عز وجل وأدباً, وهذه الهيئة أحمد؛ لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي التي خلقت عليه. انتهى.
وجلوس النبي صلى الله عليه وسلم كان كيفما تيسر تارة يجلس القرفصاء وهي أن يجلس على إليتيه ويلصق بطنه بفخذيه, وتارة يستلقي في المسجد على قفاه, وتارة يتكئ على جنبه.
قال أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الذكواني:
#132#
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي – هو أبو عبد الله – حدثنا هشام بن علي بن هشام, حدثنا عبد الله بن رجاء, أخبرنا الحسن بن صالح بن حي, عن مسلم الأعور, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد هذه القعدة ووضع ذراعيه على ركبتيه وقبض بكفه اليمنى على ذراعه اليسرى, واليسرى على اليمنى.
وخرج الترمذي في "الشمائل": عن عبد بن حميد, عن عفان بن مسلم, عن عبد الله بن حسان, عن جدتيه, عن قيلة بنت مخرمة أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو قاعد القرفصاء.
قالت: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق.
هذا الحديث مختصر من حديث قيلة بنت مخرمة العنبرية التميمية وفيه طول.
وروى بعضه الترمذي في "جامعه" بهذا الإسناد.
ورواه بطوله أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر", وأبو القاسم الطبراني من طريق أبي الجنيد عبد الله بن حسان العنبري, وتفرد هو بالحديث عن جدتيه وهما صفية ودحيبة بنتا عليبة
#133#
وكانتا ربيبتي أبي قيلة, وكانت قيلة جدة أبيهما.
وفي بعض طرقه عن جدتيه أن قيلة حدثتهما أنها كانت تحت حبيب ابن أزهر أخي بني جناب, فولدت له النساء, ثم توفي فانتزع بناتها منها أثوب بن أزهر عمهن, فخرجت تبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام, فبكت جويرية منهن هي أصغرهن حديباء كانت قد أخذتها الغرصة فرحمتها فاحتملتها معها ... الحديث.
وفيه: قالت: ثم انطلقت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبينما أنا عندها ليلة تحسب عني نائمة, إذ دخل زوجها من السامر, فقال: وأبيك لقد وجدت لقيلة صاحباً صاحب صدق حريث بن حسان الشيباني غادياً وافد بكر بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا صباح .... الحديث إلى أن قالت: فخرجت معه صاحب صدق حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الغداة, وقد أقيمت حين انشق الفجر والنجوم شابكة في السماء, والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة الليل, فصففت مع الرجال وامرأة كانت حديثة عهد بجاهلية, فقال الرجل الذي يليني من الصف: امرأة أنت أو رجل؟
#134#
قلت: لا, بل امرأة, فقال: إنك قد كدت تفتنيني فصلي في النساء وراءك.
وإذا صف من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته (حين دخلت فكنت فيهن) حتى إذا طلعت الشمس دنوت, فكنت إذا رأيت رجلاً ذا رواء, وذا قشر طمح إليه بصري لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الناس حتى جاء رجل، وقد ارتفعت الشمس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليك السلام ورحمة الله», وعليه – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم - أسمال مليتين وقد كانتا بزعفران وقد نفضتا, وبيده عسيب نخلة مقش غير خويصتين من أعلاه, وهو قاعد القرفصاء, فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق, فقال جليسه: يا رسول الله, أرعدت المسكينة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره: «يا مسكينة عليك السكينة».
وفي رواية أبي بكر الروياني قالت: فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق وأنا قاعدة عند ظهره.
فقالت له عائشة: يا رسول الله, أرعدت المسكينة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومأ بيده من خلفه ولم ينظر إلي: «يا مسكينة عليك السكينة».
فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أذهب الله تعالى ما كان دخل قلبي من الرعب .... الحديث بطوله.
#135#
وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن عفان بن مسلم, حدثنا عبد الله بن حسان أخو بني كعب من بلعنبر, حدثته جدتاه صفية بنت عليبة ودحيبة بنت عليبة فذكرتاه مطولاً بنحوه.
وحدث به بطوله أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": عن أبي إسحاق أحمد بن إسحاق الحضرمي, وموسى بن إسماعيل المنقري قالا: حدثنا عبد الله بن حسان. فذكره.
وذكر في آخره, فقال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه, عن أبيه, عن سلمويه, عن ابن المبارك, عن عبد الله بن حسان بحديث قيلة هذا, وجعله في كتاب الأمراء – يعني: ابن المبارك – والله أعلم.
تابعهم عبد الله بن سوار العنبري, وعلي بن عثمان اللاحقي, وغيرهما عن عبد الله بن حسان العنبري بطوله.
وحدث ببعضه أبو داود في "سننه": عن حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل كلاهما, عن عبد الله بن حسان.
قولها: "تحسب عني نائمة" على لغة تميم, يبدلون العين من الهمزة, وتسمى العنعنة, أي: تحسب أني نائمة.
ورواه بعضهم: تحسب عيني نائمة, والأول أحفظ وأشهر.
والرواء: المنظر الحسن الجميل, والقشر: اللباس النفيس.
والأسمال: الأخلاق من الثياب, واحدها سمل.
ومليتين: تصغير ملاءتين تثنية ملاءة وهي الثوب الذي يتشح به ويؤتزر.
#136#
وخرج الترمذي في "الشمائل": من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس احتبى بيديه.
وصح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيديه هكذا.
وذكر البخاري: أن الاحتباء باليد هي القرفصاء.
#137#
وصح عن خباب رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة, فقلت: ألا تدعو الله, فقعد ... وذكر الحديث.
وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه في الكبائر, قال: وكان متكئاً فجلس وقال: «ألا وقول الزور».
وعن عباد بن تميم, عن عمه أنه أبصر النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في المسجد رافعاً إحدى رجليه على الأخرى.
وفي لفظ: مستلقياً في المسجد.
وحدث محمد بن أسلم الطوسي, عن عبد الحكم بن ميسرة, حدثنا ابن جرير, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماداً رجليه بين أصحابه.
وخرج أبو داود في "سننه" من طريق محمد بن إسحاق, عن يعقوب بن عتبة, عن عمر بن عبد العزيز, عن يوسف بن عبد الله بن
#138#
سلام, عن أبيه رضي الله عنهما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء.
#139#
$[عود إلى شرح حديث علي رضي الله عنه]$
*قال علي رضي الله عنه: "يعطي كل جلسائه بنصيبه, لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه":
هذا من عدله الكثير وإنصافه الخطير, مساواته صلى الله عليه وسلم بين جلسائه الصغير والكبير, حتى لا يحتقر أحد نفسه لديه, ولا يحسب أن أحداً أكرم منه عليه.
خرج الإمام أبو بكر البيهقي في كتابه "الدلائل": من حديث يزيد بن هارون, أخبرنا جعفر بن سليمان الضبعي, حدثنا المعلى – يعني: ابن زياد – عن العلاء بن بشير المازني, حدثنا أبو الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في عصابة من المهاجرين جالساً, وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري, وقارئ لنا يقرأ علينا, فكنا نستمع إلى كتاب الله عز وجل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم», قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليعدل بنفسه فينا, وقال: «أبشروا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة, تدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم, وذلك خمسمائة عام».
وخرجه أبو داود في "سننه" عن مسدد, عن جعفر بن سليمان
#140#
بنحوه.
وحدث به الإمام أحمد بن حنبل في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا المعلى بن زياد, حدثنا العلاء بن بشير المزني, وكان – والله – ما علمت شجاعاً عند اللقاء بكاء عند الذكر, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في حلقة من الأنصار, إن بعضنا ليستتر ببعض .... وذكر الحديث بنحوه.
وخرجه أبو بكر ابن السني في كتابه "رياضة المتعلمين: فقال: أخبرنا أبو يعلى, حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق, حدثنا جعفر بن سليمان .... فذكره.
وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا المعلى بن زياد, حدثني العلاء بن بشير, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ونحن جلوس, ورجل يقرأ علينا ويدعو لنا – ناس من ضعفاء المسلمين – وإن بعضنا ليتوارى ببعض من العري والجهد وسوء الحال, فجلس إلينا ثم قال بيده هكذا, فاستدارت له الحلقة وما أظنه يعرف منهم أحداً, ما هم إلا من ضعفاء المسلمين, فأمسكوا, فقال: «ما كنتم تراجعون؟» قالوا: كان هذا يقرأ علينا, ويدعو لنا, قال: «فعودوا لما كنتم تراجعون» ثم قال: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر
#141#
نفسي معه» ثم قال: «أبشروا ضعفاء المسلمين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة عام, هؤلاء ينعمون وهؤلاء يحاسبون».
وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث حجاج بن أبي زينب, حدثني أبو سفيان: طلحة بن نافع, سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
#142#
كنت جالساً في داري فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي فقمت إليه, فأخذ بيدي فانطلقنا حتى أتينا بعض حجر نسائه, فدخل ثم أذن لي فدخلت الحجاب عليها فقال: «هل من غداء؟» فقالوا: نعم, فأتى بثلاثة أقرصة, فوضعن على بني, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصاُ, فوضعه بين يديه, وأخذ قرصاً آخر فوضعه بين يدي, ثم أخذ الثالث فكسره باثنتين, فجعل نصفه بين يديه, ونصفه بين يدي, ثم قال: «هل من أدم؟» قالوا: لا, إلا شيء من خل قال: «هاتوه, فنعم الأدم هو».
*قال علي رضي الله عنه: "من جالسه أو أقامه لحاجة – وفي رواية: أو قاومه لحاجة – صابره حتى يكون هو المنصرف".
خرج الترمذي: من حديث عمران بن زيد التغلبي, عن زيد العمي, عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لم ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع, ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه, ولم ير صلى الله عليه وسلم مقدماً ركبتيه أمام جليس له.
#143#
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "الأخلاق النبوية" من طريق أبي الوليد خلف بن الوليد, حدثنا أبو جعفر الرازي, عن أبي درهم, عن يونس بن عبيد, عن مولى لأنس – قد سماه ونسيته – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين, وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهته, وكان إذا لقيه أحد من أصحابه قام معه ولم ينصرف عنه, حتى يكون الرجل هو ينصرف عنه, وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناولها إياه, (فلم ينزع منه حتى يكون الرجل ينصرف عنه, وإذا لقيه أحد من أصحابه فيناوله أذنه ناوله إياه) فلم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها منه.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عبد الله بن صالح بن مسلم, عن مندل, عن الحسن بن الحكم, عن أنس رضي الله عنه بنحوه.
وقال أبو علي أحمد بن الفضل بن العباس بن خزيمة: حدثنا الحارث بن محمد, حدثنا عبد الرحيم بن واقد, حدثنا عدي بن الفضل, عن يونس بن عبيد, عن ثابت البناني, عن أنس بن مالك
#144#
رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفاً بالناس, والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء البارد فيغسل وجهه وذراعيه, والله ما سأله سائل قط أذنه إلا أصغى إليه, فلم ينصرف حتى كان هو الذي ينصرف, ولا (تناول أحد) يده قط إلا ناولها إياه, فلم ينزعها من يده حتى يكون هو الذي يدعها.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث روح بن صلاح, حدثنا سفيان الثوري, عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصافحه, فلم ينزع النبي صلى الله عليه وسلم يده من يد الرجل حتى انتزع الرجل يده ... الحديث.
وهو من أفراد روح عن سفيان.
وخرج أبو الشيخ ابن حيان في كتابه "الأخلاق الشريفة النبوية": من طريق غندر, عن شعبة, عن علي بن زيد, قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إن كانت الوليدة من ولائد المدينة تجيء فتأخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت.
وخرجه مرة من طريق أخرى عن علي بن زيد, عن أنس قال: إن
#145#
كانت الأمة من إماء (أهل) المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدور بها في حوائجها حتى تفرغ, ثم يرجع.
وعلقه البخاري في "صحيحه": عن أنس بنحوه.
وخرجه ابن ماجه في "سننه" موصولاً من طريق شعبة.
وخرج مسلم في "صحيحه": من حديث حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء, فقالت: يا رسول الله, إن لي إليك حاجة فقال: «يا أم فلان, أنظري أي السكك شئت حتى أقضي حاجتك» فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها.
وخرجه أبو داود في "سننه" لحماد.
وخرج أبو الشيخ في كتاب "الأخلاق": من حديث حسين بن واقد, عن يحيى بن عقيل, سمعت ابن أبي أوفي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو, ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة, وكان
#146#
لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين, فيقصي له حاجته.
وخرجه النسائي في "سننه": من طريق حسين.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث أبي مسلم – قائد الأعمش – عن الأعمش, عن مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن كان الرجل من أهل العوالي ليدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الليل على خبز الشعير فيجيب.
وهو في "المعجم الكبير" أيضاً.
وفي "صحيح مسلم": من حديث سلمان بن المغيرة, عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء, فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها, فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها.
#147#
#148#
$[ما روي في جوده وسخائه صلى الله عليه وسلم]$
*قال علي رضي الله عنه: "ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول".
أحاديث جوده صلى الله عليه وسلم وكرمه وسماحته وسخائه لا تستقصى.
قال عبد الله بن عامر بن سعد الأنصاري: حدثنا هشام بن عروة بن هشام بن عروة, عن جده, عن عروة بن الزبير, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أنشد أبو بكر رضي الله عنه قول لبيد:
أخ لي أما كل شيء سألته ... فيعطي وأما كل ذنب فيغفر
#149#
فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد صح من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا.
قال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا جعفر بن محمد الفريابي, حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني, قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله, استغفر لي, فسكت عني, فقلت: يا رسول الله إن سفيان بن عيينة حدثنا, عن محمد بن المنكدر, عن جابر أنك ما سئلت شيئاً قط فقلت: لا, قال: فتبسم في وجهي, فقال: «اللهم اغفر له».
وخرج أبو محمد الدارمي في "مسنده": من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيياً لا يسأل شيئاً إلا أعطى.
وصح عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس, وأجود الناس, وأشجع الناس.
ورواه أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد, حدثنا محمد بن زنبور,
#150#
حدثنا حماد بن زيد حدثنا ثابت البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وجهاً, وأجودهم كفاً وأسمحهم, وفزع أهل المدينة فخرج على فرس لأبي طلحة عري وقال: «لن تراعوا, لن تراعوا ....» الحديث.
حدث به النسائي عن ابن زنبور.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون, أخبرنا مسعر, عن عبد الملك بن عمير, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما رأيت أحداً أجود, ولا أنجد, ولا أشجع ولا أوضأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث الحاكم أبو أحمد – محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق – إملاء, عن أبي الجهم – أحمد بن الحسين القرشي الدمشقي – قال: حدثنا العباس – يعني: ابن الوليد بن صبح الخلال – حدثنا مروان بن محمد, حدثنا سعيد بن بشير, حدثنا قتادة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلت على الناس بأربع: في السخاء، والشجاعة, وكثرة الجماع, وشدة البطش».
ولا أعلم أحداً حدث به غير سعيد, قاله الحاكم أبو أحمد.
#151#
وهو في "معجم الطبراني الأوسط" من حديث محمد بن هارون بن محمد بن بكار, عن العباس.
وقال أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي: حدثنا داود بن عمرو, حدثنا شريك بن عبد الله القاضي, عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من رطب وأجر زغب, فأعطاني ملء كفيه أو كفه حلياً أو ذهباً.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن الأسود بن عامر, وإسحاق بن عيسى قالا: حدثنا شريك ... فذكره.
وقال أبو عمرو ابن السماك: قال القاسم بن منبه: سمعت بشراً – يعني: ابن الحارث الحافي – يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: لو شئنا أن نشبع شبعنا, ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يؤثر على نفسه.
#152#
وخرج الترمذي في "الشمائل": عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما عندي شيء, ولكن اتبع علياً, فإذا جاءني شيء قضيته», فقال عمر: يا رسول الله قد أعطيته وما كلفك الله ما لا تقدر عليه, فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر, فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعرف البشر في وجهه؛ لقول الأنصاري ثم قال: «بهذا أمرت».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل أنصاري أربعين صاعاً, فاحتاج الأنصاري, فأتاه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما جاءنا من شيء بعد» فقال الرجل, وأراد أن يتكلم فقال: «لا تقل إلا خيراً, فأنا خير من تسلف» فأعطاه أربعين فضلاً وأربعين بسلفه, فأعطاه ثمانين, ذكره البزار.
وخرج الترمذي من حديث يزيد بن هارون, عن أيوب, عن سعيد المقبري: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فعوضه منها بست بكرات .... الحديث.
#153#
قال الترمذي: ويزيد يروي عن أيوب أبي العلاء – وهو أيوب بن مسكين – ويقال: ابن أبي مسكين, ولعله هذا.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا وكيع, حدثنا إسماعيل, عن قيس, عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعون وأربعمائة نسأله الطعام, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «قم فأعطهم», فقال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصبية.
قال وكيع: القيظ في كلام العرب أربعة أشهر, قال: «قم فأعطهم» قال عمر: يا رسول الله سمعاً وطاعة, قال: فقام عمر وقمنا معه, فصعد بنا إلى غرفة له, فأخرج المفتاح من حجرته ففتح الباب, قال دكين: فإذا في الغرفة من التمر شبيه بالفصيل الرابض قال: شأنكم, قال: فأخذ كل منا حاجته ما شاء, قال: ثم التفت وإني لمن آخرهم فكأنا لم نرزأ منه تمرة.
وخرجه أبو داود: عن عبد الرحيم بن مطرف, عن عيسى بن يونس, عن إسماعيل بن أبي خالد, بنحوه.
#154#
وهو عند قتيبة عن سفيان, عن إسماعيل. علقه البخاري مختصراُ عن قتيبة في "تاريخه الكبير".
وسعيد والد دكين: بفتح أوله وكسر ثانيه على الأصح. وكذا ذكره البخاري فيما حكاه ابن الجوزي, وقال: قال ابن سعد: وبعضهم يقول سعيد بضم السين، وقال البرقي بن مسعدة: قال أبو عبد الله الصوري الذي أحفظه: سعيد, وقال الإسماعيلي: سعيد بضم السين, فوهم في ذلك, انتهى قول ابن الجوزي. وحكي في أبي دكين قول رابع وهو سعد.
والحديث له شاهد من حديث النعمان بن مقرن فما خرجه من حديث هشيم, عن حصين, عن ذكوان – أبي صالح – عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة من مزينة فلما أردنا أن ننصرف, قال: «يا عمر زود القوم», فقال عمر: ما عندي إلا شيء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعاً, قال: «انطلق فزودهم» فانطلق بهم عمر فأدخلهم منزله, ثم أصعدهم إلى علية له, فلما دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق, فأخذ القوم منه حاجتهم, قال النعمان: فكنت آخر من خرج فالتفت فإذا فيها من التمر مثل الذي كان.
#155#
وقال أبو حاتم – محمد بن إدريس الرازي -: حدثنا أبو توبة – يعني: الربيع بن نافع – حدثنا معاوية بن سلام, عن زيد بن سلام: أنه سمع أبا سلام, حدثني عبد الله الهوزني – يعني: أبا عامر الهوزني – قال: لقيت بلالاً مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بحلب, فقلت: يا بلال, حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء [من ذلك], إلا أنا الذي كنت ألي ذلك منه منذ بعثه الله عز وجل إلى أن توفي, فكان إذا أتاه الإنسان المسلم فرآه عارياً يأمرني فأنطلق وأستقرض وأشتري البردة والشيء فأكسوه وأطعمه, حتى اعترضني رجل من المشركين, فقال: يا بلال إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني, ففعلت, فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة؛ فإذا المشرك في عصابة من التجار, فلما رآني قال: يا حبشي, قال: قلت: يا لبيه, فتجهمني, وقال قولاً غليظاً, فقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب, قال: إنما بينك وبينه أربع ليال فآخذك بالذي لي عليك, فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك ولا من كرامة صاحبك, ولكن أعطيتك لتجب لي عبداً فأدرك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك, فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس, فانطلقت, ثم أذنت بالصلاة, حتى إذا صليت العتمة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه, فأذن لي, فقلت: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي, إن
#156#
المشرك الذي ذكرت لك أني كنت أتدين منه قد قال لي كذا وكذا, وليس عندك ما يقضي عني ولا عندي, وهو فاضحي, فأذن لي أن آتي إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا, حتى يرزق الله رسوله ما يقضي عني, فخرجت حتى أتيت منزلي, فجعلت سيفي وحرابي ورمحي ونعلي عند رأسي, واستقبلت بوجهي الأفق, وكلما نمت انتبهت, فإذا رأيت علي ليلاً نمت حتى انشق عمود الصبح الأول, فأردت أن أنطلق, فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب النبي صلى الله عليه وسلم.
فانطلقت حتى أتيته صلى الله عليه وسلم, فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنت, فقال (لي) النبي صلى الله عليه وسلم: «[أبشر] فقد جاءك الله بقضائك» فحمدت الله عز وجل, وقال: «ألم تمر على الركائب المناخاة الأربع؟» قال: فقلت: بلي, قال: «فإن لك رقابهن وما عليهن», فإذا عليهن كسوة وطعام, أهداهن له عظيم فدك, «فاقبضهن إليك, ثم اقض دينك» قال: ففعلت فحططت عنهن أحمالهن, ثم عقلتهن, ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح, حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى البقيع, فجعلت أصبعي في أذني فناديت وقلت: من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً فليحضر, فما زلت أبيع وأقضي وأعرض وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين في الأرض حتى فضل عندي
#157#
أوقيتان أو أوقية ونصف, ثم انطلقت إلى المسجد, وقد ذهب عامة النهار, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده, فسلمت عليه فقال لي: «ما فعل ما قبلك؟» قلت: قد قضى الله عز وجل كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء, قال: «فضل شيء؟» قال: قلت: نعم ديناران. قال: «انظر أن تريحني منهما, فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما» [قال]: فلم يأتنا أحد حتى أمسينا, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني, فقال: «ما فعل [ما] قبلك؟» قلت: هو معي لم يأتنا أحد, فبات في المسجد, حتى أصبح, وظل في المسجد اليوم الثاني, حتى كان في آخر النهار جاء راكبان, فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما, حتى إذا صلى العتمة دعاني فقال: «ما فعل الذي قبلك؟» قلت: قد أراحك الله منه, فكبر الله وحمد الله شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك, ثم اتبعته صلى الله عليه وسلم, حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة [امرأة] حتى أتى صبيه فهذا الذي سألتني عنه.
تابعه أبو داود فحدث به في "سننه": عن أبي توبة.
#158#
وحدث به أبو القاسم الطبراني في كتابه "الطوالات": عن أحمد ابن خليد الحلبي, حدثنا أبو توبة – الربيع بن نافع ... فذكره.
وخرجه أبو حاتم – محمد بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام, حدثنا محمد بن خلف الداري, حدثنا معمر بن يعمر, حدثنا معاوية بن سلام أنه سمع أبا سلام.. فذكره بطوله.
وأحاديث جوده عليه الصلاة والسلام وآثار كرمه وسخائه كثيرة.
قال أبو الشيخ [عبد الله بن] محمد بن جعفر بن حيان: حدثنا محمد بن السمط الجرجاني, حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا أبو نعيم, حدثنا مسعر, عن علي بن الأقمر سمعت أبا جحيفة رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل تمراً فإذا مرت به حشفة أمسكها في يده, فقال له قائل: أعطني هذا الذي نقيته. قال: «إني لست أرضى لكم ما أسخطه لنفسي».
#159#
$[عود إلى شرح حديث علي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]$
*قال علي رضي الله عنه: "قد وسع الناس بسطه وخلقه, فصار لهم أباً, وصاروا عنده في الحق سواء":
وفي رواية: وصاروا عنده في الحق متقاربين, متفاضلين فيه بالتقوى.
خرج البيهقي في "سننه الكبرى": من حديث يوسف بن يعقوب, حدثنا محمد بن أبي بكر, حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن عجلان, حدثني القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم» وذكر الحديث.
وحدث به الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني في كتابه "رياضة المتعلمين" فقال: أخبرنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي أخبرنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا يحيى بن سعيد, عن محمد بن عجلان, عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد الرحيم أعلمكم».
وهكذا أخرجه النسائي في "سننه": عن يعقوب الدورقي.
وحدث به أبو داود في "سننه": عن عبد الله بن محمد النفيلي, عن عبد الله بن المبارك, عن ابن عجلان.
#160#
وخرجه ابن ماجه في "السنن": عن محمد بن الصباح, عن سفيان بن عيينة.
وعن يعقوب بن حميد بن كاسب المخزومي, عن المغيرة بن عبد الرحمن المكي, كلاهما عن محمد بن عجلان – طوله ابن عيينة.
وهو في "صحيح ابن حبان".
وصح عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها, فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه».
وقال الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" وهو أول حديث فيه: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم, حدثنا جعفر بن مهران, حدثنا عبد الوارث, عن أبي التياح, عن أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً.
وقال: حدثنا أحمد بن جعفر بن نصر الجمال, حدثنا جرير بن يحيى, حدثنا حسين بن علوان الكوفي, حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال له: «لبيك» فلذلك
#161#
أنزل الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقال: حدثنا أحمد بن جعفر, حدثنا جرير بن يحيى, حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن عدي بن الفضل, عن إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله. قال: «يا لبيك».
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": عن محمد بن حاطب أن أمة قالت: يا رسول الله فقال: «يا لبيك, وسعديك» .... الحديث.
وقال الحارث بن أبي أسامة في "مسنده": حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير, وكان علي بن أبي طالب وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا إذا كانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالا: يا رسول الله اركب حتى نمشي عنك, قال: «ما أنتما بأقوى مني, ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».
#162#
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": من حديث نصر بن علي, حدثنا المقرئ هو أبو عبد الرحمن, حدثنا الليث, حدثني الوليد بن أبي الوليد, أن سليمان بن خارجة حدثه, عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق دخلوا على زيد بن ثابت فقالوا: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو خيثمة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأحمد بن إبراهيم الدورقي, قالوا: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ, عن ليث بن سعد, حدثني أبو عثمان – الوليد بن أبي الوليد – أن سليمان بن خارجة بن زيد بن ثابت حدثه عن أبيه خارجة, قال: دخل نفر على زيد بن ثابت فقالوا: حدثنا عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت جاره, فإذا نزل عليه الوحي أرسل إلي فكتبت له, وكان إذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا, وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا وكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا المقرئ أبو عبد الرحمن, حدثنا الليث بن سعد ... فذكره.
#163#
وحدث به أبو بكر محمد (بن) جعفر الخرائطي في كتاب "اعتلال القلوب" عن علي بن حرب, حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ..فذكره.
تابعه أبو الهيثم خالد بن القاسم المدائني الضعيف, عن ليث.
*قال علي رضي الله عنه: "مجلسه مجلس حلم وحياء, وصبر وأمانة":
أي: مجلسه صلى الله عليه وسلم يشتمل على (الحلم) وهو الأناة والتثبت في الأمور وترك الطيش, وهو من شعار العقلاء.
وعلى "الحياء" وهو خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في الحق.
وقوله: "وصبر": أي على الطاعة, وقيل: على الشدة, وقيل: عن المعصية.
والأمانة: يحتمل أنه قيامهم بالعهد الذي أخذه الله عليهم والتكليفات, أو يأمن بعضهم بعضاً, ويحتمل الأمرين معاً وهو الأقوى.
*قال علي رضي الله عنه: "لا ترفع فيه الأصوات, ولا تؤبن فيه الحرم":
وفي رواية: ولا تنثى.
وفي رواية: فلا تنتثل فلتاته.
#164#
هذا من خشوع جلسائه الذين أمروا يخفض أصواتهم عنده, واستعمالهم الأدب معه قبل لقيه وبعده, كانوا يجلسون معه مقتبسين الخير متخشعين كأنما على رءوسهم الطير.
قال دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": حدثنا أبو مسلم الكجي، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبه، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك هو الثعلبي الذبياني العامري رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأن على رءوسهم الطير .. الحديث.
وقد ذكرنا له فيما تقدم طريقا آخر غير هذا.
وقوله: (ولا تؤبن فيه الحرم) أي: لا تذكر بقبيح ولا ترمى بعيب ولا تقذف بفعل ولا قول غير مرضيين، كما يحدث في مجالس عديمي المروءة وأهل العصيان.
#165#
و(الحرم) جمع حرمة وهي المرأة، وهي أيضا ما يلزم الإنسان صونه وحفظه.
وقوله: "ولا تنثى فلتاته": من قولهم نثوت الكلام نثوا إذا أظهرته، والفلتات جمع فلتة وهي هنا السقطة من الكلام من غير تدبر، ومعنى هذا أنه لا يتحدث عن مجلسه بسقطة ولا بهفوة إن حدثت فيه من بعض القوم.
وقيل: معناه أنه لم يكن في مجلسه فلتة فتظهر، بل كان خاليا عن الفلتات، معمورا بالأقوال المحكمات.
ومعنى الرواية الأخرى: لا تنتثل، أي: لا تستخرج ولا تعاد.
*قال علي: رضي الله عنه: "يتعاطفون فيه بالتقوى" وفي رواية: "متعادلين يتفاضلون منه بالتقوى"، "متواضعين يوقرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير ويؤثرون ذا الحاجة".
وفي رواية: "ويرقدون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب".
وفي رواية: "ويرحمون الغريب".
#166#
قوله: "يتعاطفون فيه بالتقوى" أي: يميل بعضهم إلى بعض بالتقوى التي هي وقاية بين العبد وبين ما نهى الله عنه.
وفي الرواية الأخرى "متعادلين" أي: مستقيمين على سمت واحد، وطريقة واحدة.
وقوله: (يتفاضلون منه بالتقوى): أي من مجلسه صلى الله عليه وسلم يكسبون بالتقوى ما يفضلون به غيرهم.
وقوله: (متواضعين): لما كانوا يأخذون به أنفسهم من السكينة والوقار في مجلسه صلى الله عليه وسلم.
خرج الترمذي: من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم فلا يرفع منهم إليه بصره، إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما. وهذان من تواضع الصحابة رضي الله عنهم الذي هو خفض أبصارهم واستعمالهم السكينة والوقار في مجلسه صلى الله عليه وسلم.
وأما في غير مجلسه فأخبارهم بالتواضع قد اشتهرت وآثارهم بالسهولة والبشر قد انتشرت، من طالع سيرهم تيقن ذلك وعرفه، وحفظ لكل منهم منزلته وشرفه.
#167#
وقوله: (يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير) لما هم عليه من الشفقة والرحمة، وامتثالا لقول المؤيد بالعصمة صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه محمد بن فضيل، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال رسول الله صلىه عليه وسلم : «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا».
خرجه الترمذي لابن فضيل، وذكر أنه حديث حسن صحيح.
ورواه أبو ميسرة محمد بن الحسين بن أبي العلاء الزعفراني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح [...]، عن عبد الله بن عمرو يرويه، قال: »ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا».
#168#
#169#
الشافعي هذا هو: إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان المكي ابن عم الإمام أبي عبد الله الشافعي، لأن أبا ميسرة لم يرو عن الإمام ولم يلقه.
وجاء من حديث أنس رضي الله عنه قال: جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم أن يوسعوا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا».
خرجه الترمذي من حديث عبيد بن واقد، عن زربي، عن أنس.
وحدث عبد الله بن وهب المصري، عن مالك، عن أبي قبيل، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من لا يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا».
#170#
تابعه زيد بن الحباب عن مالك بن الخير، بنحوه.
ومالك هذا ليس بابن أنس الإمام، ولكنه مالك بن الخير الزبادي التجيبي من بني زياد بفتح الزاي بعدها موحدة، وهم حي من أحياء اليمن.
قال بعضهم عن مالك هذا: وقد تفرد بهذا الحديث عن أبي قبيل.
قلت: لم ينفرد به، بل رواه عبد الله بن لهيعة عن أبي قبيل، واسمه حيي بن هانئ بن ناضر – بالمعجمة – بن يمتع المعافري من خيار أهل مصر.
وقوله: (ويؤثرون ذا الحاجة) وفي الرواية الأخرى: (ويرفدون ذا الحاجة)، و "يؤثرون" أبلغ من "يرفدون" في الرواية الأخرى، لأن رتبة الإيثار أعظم من رتبة الرفد، وعلى كلتا الروايتين وكل من الأمرين: يفوز ذو الحاجة منهم بقضاء المآرب، ويرى من كرمهم ومساعدتهم في ذلك العجائب.
صح عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل، فقال: إني أبدع بي يا رسول الله، فاحملني، فقال: «ما عندي ما أحملك عليه» فقال رجل: أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله».
#171#
وخرجه الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم (رجل يستحمله فلم يجد عنده ما يحمله، فدله آخر – يعني: على آخر – فحمله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم) فأخبره، فقال: «الدال على الخير كفاعله».
قال الحسين بن علي رضي الله عنهما: فسألته – يعني: أباه عليا رضي الله عنه – عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جلسائه، فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر".
تقدم عن جرير رضي الله عنه أنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم.
وجاء من حديث عبد الله بن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفكه لناس.
خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "المداراة" لابن لهيعة، وتقدم.
*قال علي رضي الله عنه: "سهل الخلق":
روي عن الفضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} قال: على أدب القرآن.
#172#
وحدث حسين بن علوان الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال له: «لبيك» فلذلك أنزل الله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم} وقد تقدم.
وروي عن أنس رضي الله عنه قال: ما التقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، واخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له.
وتقدم بلفظ غير هذا.
وجاء أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: كان خدم المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها، وربما كان في الغداة الباردة يريدون به التبرك.
خرجه مسلم في "صحيحه".
وتقدم حديث أنس رضي الله عنه: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم سنين فما سبني سبة قط
#173#
ولا ضربني ضربة قط، ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد من أهله قال: «دعوه فلو قدر شيء لكان».
*قال علي رضي الله عنه: "لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب».
(لفظ): السيئ الخلق، الخشن الكلام، يقال: فظ يفظ بالفتح فظاظة: تجهم، وأغلظ في منطقه، والغليظ من قولهم غلظ الخلق غلظة وغلظة بالضم والكسر وغلاظة إذا كان فيه شكاسة وصعوبة
و(سخاب): فعال من السخب وهو على البدل من الصخب كالتعب وزنا وهو الضجة واضطراب الأصوات والخصام.
وتقدم حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة بذلك مع شواهده، ولله الحمد..
قال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه, لأنظر إلى زفن الحبشة حتى كنت التي مللت, فانصرفت عنهم.
وبالإسناد إلى عبد الرحمن عن أبيه قال: قال لي عروة: إن عائشة قالت: قال رسول الله صلىلم عليه و يومئذ: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة, إني أرسلت بحنيفية سمحة».
*قال علي رضي الله عنه: "ولا فحاش ولا عياب ولا مداح":
الفحاش والعياب: فعال للمبالغة من الفحش في القول وعيب الناس والوقيعة فيهم.
وتقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «متى عهدتيني فحاشاً».
وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً.
وثبت عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سباباً ولا فاحشاً ولا لعاناً, كان يقول لأحدنا عند المعتبة: «ما له ترب جبينه».
وثبت أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله, ادع على المشركين, قال: «إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة».
انفرد بإخراجه مسلم دون باقي الستة.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة», حدث به أبو علي – الحسن بن عبد الله بن سعيد الكندي البعلبكي – حدثنا محمد بن تمام, حدثنا مؤمل – يعني: ابن إهاب – حدثنا مالك بن سعير, حدثنا الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة .... فذكره.
تابعه زياد بن يحيى الحساني, عن مالك بن سعير.
وخالفه وكيع بن الجراح فرواه عن الأعمش, عن أبي صالح, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة» فأرسله.
حدث به ابن سعد في "الطبقات" عن وكيع هكذا.
خالفه في المتن الإمام أحمد فحدث به في "العلل" فقال: حدثنا وكيع وعبد الله بن داود, عن الأعمش, عن أبي صالح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت مهداة ورحمة».
وفي "صحيح مسلم" من حديث بكر بن سوادة, عن عبد الرحمن بن جبير, عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني} الآية وقول عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}
فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى, فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله, فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال – وهو أعلم – فقال الله عز وجل: يا جبريل (ذاهب) إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
وحدث عن الفضل بن دكين, حدثنا مسعر, عن معبد بن خالد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلمون أني رحمة مهداة» الحديث.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو الربيع, حدثنا حماد, حدثنا أيوب, عن أنس رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعباد من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان استرضع لابنه إبراهيم في أقصى المدينة, وكان زوجها قيناً, فيأتيه الغلام وعليه أثر الغبار فيلتزمه ويقبله ويشمه.
*وقوله: (ولا مداح) أي: لمن لا يسوغ مدحه, وإلا فقد أثنى على غير واحد من أصحابه, كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر في الإزار ما ذكر قال أبو بكر: يا رسول الله إن إزاري يسقط أحد شقيه قال: «إنك لست منهم».
وكذلك شهادته صلى الله عليه وسلم للعشرة رضي الله عنهم بالجنة ولغيرهم, وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل».
وقد روي بدل هذه اللفظة: و"لا مزاح" بالزاي من المزاح الذي هو الدعابة, وهذا أيضاً يكون نفياً للمزاح الباطل, لأنه صلى الله عليه وسلم مازح بالحق وداعب بالصدق.
$[ما روي في مزاحه صلى الله عليه وسلم]$
خرج الترمذي في "جامعه" و "الشمائل" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله, إنك تداعبنا, قال: «إني لا أقول إلا حقاً».
وقال أبو عبد الله الزبير بن بكار في كتابه "الفكاهة": حدثني علي ابن محمد, حدثني المبارك بن فضالة, عن بكر بن عبد الله المزني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أمزح ولا أقول إلا الحق».
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني: من حديث طفيل بن سنان, عن عبيد بن عمير, قال: كنت قاعداً عند عائشة رضي الله عنها [فذكر قصة ذكر فيها أن عائشة رضي الله عنها] قالت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا».
وروى المعافى بن زكريا من حديث يوسف بن الضحاك, حدثنا أبي,
حدثنا خالد الحذاء, عن أبي قلابة, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مزاحاً, وكان يقول: «إن الله لا يؤاخذ المزاح الصادق في مزاحه».
وقال الزبير بن بكار: حدثني حمزة بن عتبة, عن نافع بن عمر, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها أنها مزحت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه بعض دعابات بهذا الحي من بني كنانة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل بعض مزحنا بهذا الحي من قريش» حمزة مجهول, والحديث منكر.
وخرج أبو الشيخ في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": من حديث عبد الله بن يزيد, حدثنا ابن لهيعة, عن عبيد الله بن المغيرة, سمعت عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه يقول: ما رأيت أحداً أكثر مزاحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا أكثر تبسماً منه .... الحديث. وقد قدمنا آنفاً قول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس.
وحدث عبد الرزاق, عن معمر, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً فكان يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من البادية فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم, (وقال: «إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته» وكان دميماً (بالدال المهملة), فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً) وهو يبيع متاعه فاحتضنه النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه – وهو لا يبصره – فقال: أرسلني من هذا؟ والتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري مني العبد؟» فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسداً, فقال: «لكن أنت عند الله غال».
صحيح غريب, قاله الذهبي.
وخرج الترمذي في "جامعه" و "الشمائل": من حديث أبي أسامة, عن شريك, عن عاصم الأحول, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ذا الأذنين» قال أبو أسامة: يعني: يمازحه.
ورواه لوين وإسحاق بن [أبي] إسرائيل وغيرهما, عن شريك بنحوه.
وخرجه أبو داود في "سننه": عن إبرهيم بن مهدي, حدثنا شريك ... فذكره.
تابعهم شعبة والصلت بن الحجاج, عن عاصم.
ويشبهه ما رواه موسى بن مروان, حدثنا يحيى بن سعيد العطار – يعني: الحمصي – عن الصلت بن الحجاج – عن عاصم الأحول, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها ذات يوم: «ما أكثر بياض عينيك!».
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: (وحدثني) أبو جعفر المديني, عن علي بن محمد القرشي, عن عبد الله بن سهم الفهري, قال: دخلت امرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من زوجك؟» فسمته فقال: «الذي في عينيه بياض» فرجعت – أي: تنظر إلى زوجها – فقال: ما لك؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك فلان؟ قلت: نعم قال: «الذي في عينيه بياض», قال: أوليس البياض في عيني أكثر من السواد.
وقال الزبير بن بكار في كتابه "الفكاهة": حدثني عبد الله بن نافع الصائغ, عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم: أن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك قال: «من هو؟ (هو) الذي بعينه بياض؟», فقالت: إي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعينه بياض, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلي إن بعينه بياضاً» فقالت: لا والله, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد إلا وبعينه بياض».
قال: وجاءته امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله, احملني على بعير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احملوها على ابن البعير» فقالت: ما أصنع به, لا تحملني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل من بعير إلا ابن بعير» وكان يمزح معها.
وخرج الترمذي في "جامعه" و "الشمائل" من حديث خالد بن عبد الله الطحان, عن حميد, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني حاملك على ولد الناقة» فقال: يا رسول الله, ما أصنع بولد الناقة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل تلد الإبل إلا النوق؟!» قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب.
وخرجه أبو داود في "سننه", وأحمد بن حنبل في "مسنده" لخالد الطحان.
وقال ابن سعد في "طبقاته الكبرى": أخبرنا الفضل بن دكين, حدثنا أبو معشر, عن محمد بن قيس قال: جاءت أم أيمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: احملني, فقال: «أحملك على ولد الناقة» فقالت: يا رسول الله إنه لا يطيقني ولا أريدها, فقال: «لا أحملك إلا على ولد الناقة». يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يمازحها, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً, والإبل كلها ولد النوق.
وخرج الترمذي في "الشمائل" أيضاً من حديث المبارك بن فضالة, عن الحسن قال: أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, ادع الله لي أن يدخلني الجنة, فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز» قالت: فولت تبكي, فقال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز, إن الله عز وجل يقول: {إنا أنشأنهن إنشاء . فجعلناهن أبكارا . عرباً أتراباً}».
وخرجه أبو سعيد – الخليل بن أحمد السجزي – في كتابه "الآداب": من حديث سفيان, حدثنا جرير, حدثنا الحسن .... فذكره بنحوه.
والمرأة هي عمته صلى الله عليه وسلم صفية بنت عبد المطلب.
ومن حديث جرير بن حازم, عن الحسن خرجه الزبير بن بكار في "الفكاهة" وهو من مراسيل الحسن.
وحدث به سلمة بن شبيب, عن عمر بن عثمان, حدثنا سعيد بن يونس, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها سئلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح؟ قالت: نعم, كان عندي عجوز فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: ادع الله أن يجعلني من أهل الجنة فقال: «إن الجنة لا تدخلها العجائز» وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم النداء فخرج ودخل وهي تبكي فقال: «ما لها؟» قالوا: إنك حدثتها أن الجنة لا تدخلها العجائز, فقال: «إن الله يحولهن أبكاراً عرباً أتراباً».
حدث به أبو بكر ابن أبي الدنيا, عن سلمة.
ورواه الزبير بن بكار في كتاب "الفكاهة والمزاح" أيضاً متصلاً من طريق أخرى: من حديث خارجة من مصعب, وهو متروك, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أنس رضي الله عنه أن عجوزاً دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن شيء فقال لها ومازحها: «إنه لا يدخل الجنة عجوز» وحضرت الصلاة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فبكت بكاء شديداً حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا نبي الله إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها: «إنه لا يدخل الجنة عجوز» فضحك صلى الله عليه وسلم, وقال: «أجل لا يدخل الجنة عجوز, ولكن قال الله عز وجل: {إنا أنشأنهن
إنشاء . فجعلناهن أبكاراً . عرباً أتراباً} وهن العجائز الرمص».
وجاء عن الأسود بن عامر, حدثنا حماد بن سلمة, عن أبي جعفر الخطمي: أن رجلاً يكنى أبا عمرة, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أم عمرة» فضرب الرجل يده إلى مذاكيره, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «مه», قال: والله ما ظننت إلا أني امرأة لما قلت لي: «يا أم عمرة» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر مثلكم أمازحكم».
وهذا مرسل.
ومما يقرب من هذا الباب: توريته صلى الله عليه وسلم, كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها.
فقيل: هو أن يريد جهة فيسأل عن غيرها: كيف طريقها؟ وكيف مياهها صلى الله عليه وسلم وكيف مسلكها؟ وهو يريد غيرها.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عثمان بن خالد بن عمر السلفي,
حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبائري, حدثنا الحكم بن الوليد, سمعت عبد الله بن بسر رضي الله عنهما يقول: بعثتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطف من عنب فأكلته, فقالت أمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتاك عبد الله بقطف من عنب؟ قال: «لا» فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآني قال: «غدر, غدر».
هذا حديث حمصي الإسناد, والحكم تكلم فيه.
*قال علي رضي الله عنه: "يتغافل عما لا يشتهي".
(أي: يتركه) فلا يؤيس منه.
وفي رواية: ولا يوحش منه, ولا يحبب فيه.
فقوله: (يتغافل عما لا يشتهي): أي: يتركه على ذكر منه له؛ يدل عليه قوله: (فلا يؤيس منه), كقوله في الرواية الأخرى: (ولا يوحش منه) أي: لا ينفر منه, أو يكون من قولهم: توحش للدواء. أي: أخل جوفك له من الطعام, أو من قولهم: وحش الرجل بسلاحه إذا رمى به مخافة أن يلحق.
$[ما روي في زهده صلى الله عليه وسلم]$
*قال علي رضي الله عنه: "قد ترك نفسه من ثلاثة: الرياء والإكثار وما لا يعنيه".
فالرياء: التزين للناس بالعمل أو القول, وفي رواية: "المراء" بدل "الرياء", وهو الجدل, وفسر المراء أيضاً بالمخالفة وجحد الحق, والتلون على الناس.
والإكثار: أي من الأشياء الدنيوية, حتى كان صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغد, ثبت ذلك من حديث أنس بن مالك وغير واحد.
ومن الغرائب ما قال أبو زكريا يحيى بن معين: حدثنا مروان بن معاوية, حدثنا هلال بن معاوية, حدثنا هلال بن سويد الأحمري, سمعت أنساً رضي الله عنه يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له ثلاثة طوائر فأطعمه
خادمه طيراً, فلما كان الغد أتاه به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أنهك أن تخبئ شيئاً لغد, فإن الله عز وجل يأتي برزق كل غد».
تفرد به مروان عن هلال, قاله أبو القاسم ابن عساكر.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة قال: قال لنا الإمام أبو سهل محمد بن سليمان: كان – يعني: النبي صلى الله عليه وسلم – يعامل فيما بينه وبين مولاه على حسن الظن والانتظار, دون الحبس والادخار, وكان لا يحتجز لنفسه ليومه من أمسه.
وقد صح أنه لم يكن يدخر أشياء لغد, فإن احتبس عنده شيء فلا على نية الغد, ولكن للظفر من يجود به – يعني: عليه – أو يصرفه في نائبة من نوائب الدين.
وقيل: لا يدخر تملكاً بل يدخره تمليكاً.
وقيل: لم يكن يدخره على أمل البقاء إلى غد.
وقال أبو السري هناد بن السري في كتابه "الزهد": حدثنا وكيع, عن مسعر, عن أبي حصين, قال: أصبح عند بلال رضي الله عنه تمر قد دخره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «أمنت أن يصبح له بخار من بخار جهنم, أنفق بلال, ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».
وقال الإمام أحمد في "الزهد": حدثنا وكيع, حدثنا إسرائيل [عن] أبي إسحاق, عن مسروق, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنفق بلال, ولا تخش من ذي العرش إقلالاً».
وقال زائدة بن قدامة: حدثنا عبد الملك بن عمير, عن ربعي بن حراش, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساهم الوجه, فحسبت ذلك من وجع, فقلت: يا رسول الله مالي أراك ساهم الوجه, قال: «من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس ولم تنفقهن فكن في خمل الفراش».
وقال حماد بن إسحاق في كتابه "تركة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عن خيثمة بن عبد الرحمن, قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيت خزائن الأرض ما لم يعطه أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك, ولا ينقصك من الآخرة شيئاً, قال: «اجمعوها لي في الآخرة», فنزلت: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً}.
تابعه أبو نعيم, عن سفيان مثله.
وجاء عن الوضين بن عطاء, حدثني (عطاء) بن أبي رباح, قال: دعي أبو سعيد الخدري إلى وليمة وأنا معه, فدخلنا فرأى صفرة وخضرة, فقال: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش, وإذا تعشى لم يتغد.
وقال حماد أيضاً: حدثنا أحمد بن منصور, حدثنا ابن أبي مريم, أخبرنا يحيى بن أيوب, حدثني ابن زحر, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض علي ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً؛ فقلت: لا يا رب, ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً, فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك, وإذا شبعت حمدتك وشكرتك».
ورواه عبد الله بن صالح, عن يحيى بن أيوب بنحوه.
وحدث به يحيى الحماني, عن ابن المبارك, عن يحيى بن أيوب،
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير".
وقال حماد أيضاً: حدثنا (عارم), حدثنا ثابت بن يزيد, حدثنا هلال بن خباب, عن عكرمة, عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم على حصير قد أثر في جنبه, فقال له: يا رسول لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا؟! فقال: «مالي وللدنيا, ومالي وللدنيا, ومالي وللدنيا, والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها».
وهو في "مسند أحمد بن حنبل", عن عبد الصمد – هو ابن عبد الوارث – وعفان وغيرهما, عن ثابت بن يزيد.
وخرجه في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا عبد الصمد وأبو سعيد – المعنى واحد – قالا: حدثنا ثابت ..... فذكره.
وقال في "الزهد" أيضا: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا المسعودي, عن عمرو بن مرة, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله
ألا أذنتنا فنبسط تحتك ألين منه؟ فقال: «مالي وللدنيا, إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف فقال تحت شجرة, ثم راح وتركها».
تفرد به المسعودي عن عمرو بن مرة متصلاً مرفوعاً فيما ذكره أبو نعيم.
وقال في "مسنده" أيضاً: حدثنا يحيى بن (عيلان, حدثنا يحيى ابن) إسحاق, حدثنا ليث بن سعد, عن يزيد بن أبي حبيب, عن علي بن رباح, سمعت عمرو بن العاص يقول: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان يزهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله ما أتت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر مما له, فقال له بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسلف.
وقال غير يحيى: والله ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الدهر إلا والذي عليه أكثر من الذي له.
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا عباد بن عباد, عن شعبة بن الحجاج, عن سماك بن حرب, عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر الدنيا وما أعطوا, وقال: لقد رأيت رسول الله يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.
وهو في "صحيح مسلم" ليحيى بن آدم, عن زهير, عن سماك، بنحوه, ولم يذكر عمر.
وله طرق بألفاظ غير ما ذكر:
منها: طريق شعبة, عن سماك سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكر ما فتح الله على هذه الأمة, لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يلتوي ما يجد ما يملأ بطنه من الدقل, وما ترضون إلا بألوان الطعام, وألوان الثياب.
وحدث به مسلم في "صحيحه": عن أبي موسى وبندار, عن غندر, عن شعبة.
وقال الإمام أحمد في كتاب "الزهد": حدثنا أبو عبد الصمد العمي, حدثنا مالك بن دينار, عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشبع من الخبر واللحم إلا على ضفف.
وقال مالك: لم أدر ما (الضفف), فسألت أعرابياً فقال: عربية والأكلة – يجتمع القوم على الطعام فيتناولونه تناولاً.
وخرج دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": من حديث بقية, حدثني سعيد بن سنان الكندي, عن أبي الزاهرية, عن جبير بن نفير (عن) ابن البجير – وكانت له صحبة رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه ذات يوم جوع, فوضع حجراً على بطنه, ثم قال: «ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة, ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة, ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين, ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم, ألا يا رب متخوض يتنعم فيما أفاء الله على رسوله ما له عند الله من خلاق, ألا وإن عمل الجنة خربة بربوة, ألا وإن عمل النار سهلة بشهوة, ألا يا رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلا».
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في كتاب "الزهد" لأبيه: أخبرت عن سيار, حدثنا سهل بن أسلم العدوي, حدثنا يزيد بن أبي منصور, عن أنس بن مالك, عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع فرفعنا عن بطوننا حجراً حجراً, ورفع رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين.
وخرجه الترمذي في "جامعه" وإسناده جيد.
وفي "الصحيحين": في قصة حفر الخندق من حديث جابر رضي الله عنه: ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوب بحجر من الجوع. وذكر ابن حبان في حديث شد الحجر على بطن النبي صلى الله عليه وسلم فقال في "صحيحه": إنما هو الحجز بضم الحاء وآخره زاي, جمع, وقد انفرد بذلك.
وقال الطبراني: حدثنا بكر بن سهل, حدثنا عمرو بن هشام, حدثنا سليمان بن أبي كريمة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر, لم يضع لبنة على لبنة, ولا قصبة على قصبة, رفع له علم فشمر إليه, اليوم المضمار وغداً السباق والغاية الجنة أو النار».
[عود إلى شرح حديث علي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]
$[النهي عن الغيبة وتتبع عورات المسلمين]$
*قال علي رضي الله عنه: "وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيبه".
وفي رواية: "ولا يعيره".
تقدم قول علي رضي الله عنه: ولا "عياب", وقول أنس رضي الله عنه: "لم يكن سباباً ولا فاحشاً, ولا لعاناً".
*قال علي رضي الله عنه: "ولا يطلب عورته":
هذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وكمال مروءته أنه لا يعيب أحداً ولا يطلب عورته, وقد أمر بذلك أمته.
خرج الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر, فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه, لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من اتبع عورة أخيه المسلم اتبع الله عورته, ومن اتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله».
وخرجه أبو داود من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من اتبع عورتهم تبع الله عورته, ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته».
*قال علي رضي الله عنه: "ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه":
وفي رواية: "يرجو ثوابه" كذكره الله عز وجل على كل أحيانه, وكجوامع الكلم التي نشرها في تقرير الشرائع وتأسيس الآداب, وتأصيل مكارم الأخلاق, وبث فنون العلوم التي أرشد إليها ودل الناس عليها إلى ما لا يحويه حفظ, ولا يحيط به حصر.
$[الطب النبوي]$
ومن ذلك: علم الطب, وتوضيح فوائده, وتمهيد قواعده وتحرير كلياته, وترتيب جزئياته.
خرج أبو نعيم في كتاب "الطب": من طريق مسكين بن بكير, حدثنا إسماعيل بن عياش, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا ابن أختي كان يمرض الإنسان من أهلي فيبعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدعيه فأنعته للناس.
وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم, أو شربة عسل, أو كية بنار, وأنا أنهى أمتي عن الكي».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه فقال: «اسقه عسلاً» ثم أتاه الثانية, فقال: «اسقه عسلاً» ثم أتاه الثالثة فقال: «اسقه عسلاً» ثم أتاه فقال: فد فعلت فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك, اسقه عسلاً» فسقاه فبرأ.
وحدث ابن الطباع: عن عبد الحميد بن زكريا, حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي, عن عبد الحميد بن سالم, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لعق العسل ثلاث غدوات من الشهر لم يصبه عظيم من البلاء».
تابعه سعيد بن زكريا المدائني عن الزبير, وقد تفرد به الزبير وهو ضعيف, وعبد الحميد بن سالم لا يعرف له سماع من أبي هريرة فيما قاله البخاري, والله أعلم.
وقال أبو داود في "المراسيل": حدثنا محمد بن العلاء, أخبرنا ابن المبارك, عن زكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي, قال رسول الله صلىعليه وسلم : «خير دوائكم السعوط واللدود والمشي والحجامة والعلق».
ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة, عن عبد الرحيم بن سليمان, عن زكريا, عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير الدواء اللدود والسعوط والمشي والحجامة والعلق».
وجاء موصولاً فيما رواه أبو جعفر – محمد بن عثمان بن أبي شيبة – حدثنا عقبة بن مكرم, حدثنا يونس بن بكير, حدثنا عباد بن منصور, عن عكرمة, عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير ما تداويتم به اللدود والسعوط والحجامة والمشي».
وقال أيضاً: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, عن مسروق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السعوط أحب
إلي من النفخ, واللدود أحب إلي من العلاق, والكمأة أحب إلي من الكي».
قال أبو داود: اللدود: صب الدواء تحت اللسان من شق.
وخرج من مراسيل أيوب السختياني: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على شدة الحر بالحجامة».
وجاء عن عوف, عن الحسن بيان ذلك.
وحدث عبد الله بن صالح, عن عبد العزيز بن أبي سلمة, عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه».
وخرجه أبو داود في "المراسيل" فقال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقال عبد الملك بن حبيب السلمي في كتابه "التداوي": حدثني الحزامي, عن مزاحم بن زفر, عن يوسف بن زياد, عن عبد الله بن
عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإياكم والحجامة يوم الأربعاء فإنه لم يظهر بامرئ داء إلا في ليلة الأربعاء».
وقال: وحدثني أبو محمد الحنفي, عن أبي معشر المدني, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتجم يوم الجمعة فمات فقد أشرك في دمه».
وقال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه».
وقال: حدثنا سليمان بن داود المهري, حدثنا ابن وهب, أخبرني يونس, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه رآه مضطجعاً في الشمس، قال يونس: فنهاني, وقال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنها تورث الكسل, وتثير الداء الدفين».
وخرج أبو نعيم في "كتاب الطب": من طريق هلال بن يحيى الرازي, حدثنا عبد الملك بن زياد المهلب, حدثنا بسطام بن عباد:
أن مدرك بن حجرة ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً نائماً في الشمس, فقال: «ثم فإنها تغير اللون, وتبلي الثوب».
ومن حديث إسماعيل بن زرارة, حدثنا عبد الرحمن بن قيس, حدثني أخي حسين بن قيس, عن أبي بردة, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجلس الرجل بين الظل والشمس.
ومن حديث عبد الله بن وهب, أخبرني عبد الجبار بن عمر: أن محمد بن المنكدر, أخبره عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينام الرجل بعضه في الشمس وبعضه في الظل.
وقال: حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان, حدثنا أبو يعلى الموصلي, حدثنا عمرو بن الحصين, حدثنا (ابن) علاثة, حدثنا الأوزاعي, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه».
وروي من حديث عباد بن كثير، عن سيار الواسطي، عن إسحاق ابن أبي طلحة، عن أنس (بن مالك) رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصبحوا وقيلوا فإن الشيطان لا يقيل».
تابعه ابن أبي فديك، عن عباد، عن أبي إسحاق الواسطي.. فذكره.
وعن أبي خليفة: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ومعاذ بن معاذ وابن أخي خلاد الأعمى، قالوا: حدثنا بزيع – أبو الخليل – حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة, ولا تناموا عليه فتقسى قلوبكم».
تابعهم أزهر بن حميد.
وقال محفوظ بن أبي توبة: حدثنا يحيى بن عبد الله, حدثنا إبراهيم بن جريج الرهاوي – أبو سلمة – عن زيد بن أبي أنيسة, عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة, فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة, وإذا سقمت المعدة صدرت العروق بالسقم».
وحدث به أبو نعيم في كتاب "الطب": عن محمد بن علي بن خنيس في آخرين, قالوا: حدثنا أبو شعيب الحراني, حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي .... (فذكره.
ورواه أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران في الأول من "أماليه" الخمسة فقال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري بمكة, حدثنا أبو شعيب عبد الله بن الحسن بن أبي شعيب الحراني إملاء في شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين ومائتين, فذكره.
ورواه أبو جعفر العقيلي عن أبي شعيب الحراني مرسلاً, فقال العقيلي: حدثنا عبد الله بن الحسن بن محمد الحراني, حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي) فذكره مرسلاً لم يذكر (فيه) أبا هريرة.
وقال العقيلي: هذا الحديث باطل, لا أصل له, إنما يروى عن ابن أبجر.
وكذا قال الدارقطني: إنما هو من كلام ابن أبجر.
قلت: وابن أبجر هو عبد الملك بن سعيد بن حيان الكوفي.
قال أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي: ثقة, رجل صالح, وكان يعالج للناس, بصيراً بالطب, وكان لا يأخذ عليه أجراً, وكان يقول: خذ كذا, وخذ كذا, واستشف الله.
وذكر الدارقطني عن الحديث: أن إبراهيم بن جريج تفرد به ولم يسنده غيره, قال: وقد اضطرب فيه, وكان طبيباً فجعل له إسناداً.
وذكر ابن الجوزي أن المتهم برفعه: إبراهيم بن جريج.
قلت: وقول ابن أبجر الحديث المذكور رواه أبو علي – حنبل بن إسحاق في "تاريخه" فقال: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, عن ابن
أبجر سمعه يحدث عن أبيه, أنه قال: المعدة حوض (الجسد), والعروق تشرع فيه, فما ورد فيها بصحة صدر بصحة، وما ورد فيها بسقم صدر بسقم.
$[عقله صلى الله عليه وسلم]$
وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا داود بن المحبر, حدثنا عباد بن كثير, عن أبي إدريس, عن وهب بن منبه, قال: قرأت أحداً وسبعين كتاباً, فوجدت في جميعها أن الله عز وجل لم يعط جميع الناس من بدو الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين جميع رمال الدنيا, وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً.
وحدث به أبو بكر – محمد بن أبي إسحاق – الكلاباذي في كتابه "المعاني": عن محمد بن موسى بن علي, عن الحارث بن أبي أسامة به.
وخرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو القاسم – عبد الله بن محمد العطشي, حدثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي, حدثنا داود بن المحبر, حدثنا عباد بن كثير, عن [أبي] إدريس, عن وهب بن منبه قال: قرأت أحداً وسبعين كتاباً
فوجدت في جميعها أن الله عز وجل لم يعط جميع الناس من بدو الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب (عقل) محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين جميع رمال الدنيا وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلاً وأفضلهم رأياً.
$[تعظيم أصحابه صلى الله عليه وسلم له]$
*قال علي رضي الله عنه: "إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير".
روينا من طريق إسماعيل بن سعيد المعدل قال: قال أبو بكر ابن الأنباري: قولهم: "جلساء فلان كأنما على رؤوسهم الطير" في هذا قولان:
أحدهما: أن يكون المعنى أنهم يسكتون فلا يتحركون ويغضون أبصارهم, والطير لا يقع إلا على ساكن.
يقال للرجل إذا كان حليماً وقوراً: إنه لساكن الطير, أي: كأن على رأسه طيراً لسكونه.
والقول الثاني: إن الأصل في قولهم: "كأن على رؤوسهم الطير": أن سليمان بن داود – عليهما السلام – كان يقول للريح: أقلينا, وللطير: أظلينا, فتقله وأصحابه الريح, وتظله الطير.
فكان أصحابه يغضون أبصارهم هيبة له وإعظاماً, ويسكنون فلا يتحركون, ولا يتكلمون بشيء إلا أن يسألهم عنه فيجيبوا, فقيل للقوم إذا سكنوا هم علماء وقراء كأنما على رؤوسهم الطير؛ تشبيهاً بأصحاب سليمان عليه السلام.
ومن ذلك الحديث الذي يروى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير.
وفي حديث البراء الذي خرجه أبو داود وابن ماجه ( .... ) رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير.
*قال علي رضي: "فإذا سكت تكلموا":
كان من عادة الصحابة رضي الله عنهم تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله وإكرامه وتوقيره وبره, ومن خبر سيرهم عرف كيف كانوا معه صلى الله عليه وسلم وقد نهوا عن التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم بالقول وسبقه بالكلام حتى يستوفي صلى الله عليه وسلم كلامه في
قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية الشريفة, واختاره أبو العباس – أحمد بن يحيى ثعلب.
وقال سهل بن عبد الله التستري في معنى الآية الشريفة: لا تقولوا قبل أن يقول, فإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا.
*قال علي رضي الله عنه: "لا يتنازعون عنده بحديث, من تكلم عنده أنصتوا حتى يفرغ":
قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا ينبغي عندي تنازع», وفي لفظ: «لا ينبغي عند نبي تنازع».
$[ما روي في استماعه صلى الله عليه وسلم حديث أصحابه]$
*قال علي رضي الله عنه: "حديثهم عنده حديث أوليتهم يضحك مما يضحكون منه":
"الأولية" ما كان قبل النبوة وأيامهم فيها.
ومن حديث الأولية الذي ذكر بحضرته صلى الله عليه وسلم حديث أم زرع في أحد طرقه المتفق عليها.
وخرج الترمذي في "جامعه" و"الشمائل": من حديث سماك بن حرب, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو داود – سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي – في "مسنده": حدثنا شريك وقيس, عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم, كان طويل الصمت قليل الضحك, وكان أصحابه ربما يتناشدون عنده الأشعار والشيء في أمورهم, فيضحكون, وربما تبسم صلى الله عليه وسلم.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث محمد بن الفضل, عن سالم الأفطس, عن مكحول: سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يقول: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناشدون عنده الأشعار ويضحكون, ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتبسم معهم.
وقال أبو محمد يحيى بن صاعد: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا شبابة, عن أبي بكر الهذلي, عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رخص صلى الله عليه وسلم في شعر الجاهلية إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت في أهل بدر, وقصيدة الأعشى في عامر وعلقمة.
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في كتاب "الأغاني الكبير": أخبرني الحرمي بن أبي العلاء, حدثنا الزبير بن بكار, حدثني عمرو بن عثمان, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما يحدث أصحابه وربما تركهم يتحدثون ويصغي إليهم ويتبسم, فبينما هم يوماً علي ذلك
يتذاكرون الشعر وأحاديث العرب [إذ] سمع حسان بن ثابت ينشد هجاء أعشى بن قيس بن ثعلبة علقمة بن علاثة ومديحه عامر بن الطفيل:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
إن تسد الحوص فلم تعدها ... فعامر ساد بني عامر
ساد وألفى قومه سادة ... وكابرا سادوك عن كابر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كف عن ذكره يا حسان, فإن أبا سفيان لما سبني عند هرقل رد عليه علقمة» فقال حسان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, من نالتك يده فقد وجب علينا شكره.
وقال أبو أحمد الزبيري: حدثنا زمعة بن صالح, عن الزهري, عن عبد الله بن وهب بن زمعة, عن أم سلمة أن أبا بكر خرج تاجراً إلى بصرى.
قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بعام أو عامين ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة وهما بدريان وكان سويبط على زادهم فجاء نعيمان, فقال: أطعمني فقال: لا, حتى يأتي أبو بكر, وكان نعيم مزاحاً فقال: لأبيعنك. ثم قال لأناس: ابتاعوا مني غلاماً وهو رجل ذو لسان, ولعله يقول: أنا حر, فإن كنتم تاركيه إذا قال لكم ذلك فدعوني ولا تفسدوا علي غلامي, قالوا: لا, بل نبتاعه منك, فباعه بعشر قلائص, ثم جاءهم, فقال: هو هذا, فقال سويبط: هو كاذب, وأما أنا فرجل حر. قالوا: قد أخبرنا بخبرك, وطرحوا الحبل والعمامة في رقبته وذهبوا فيه, فجاء أبو بكر فأخبروه, فذهب وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم منها وأصحابه حولاً.
وقال أبو نعيم في كتابه "الحلية": حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة قال: سئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال.
وخرج أبو الحسن الدارقطني في "سننه" من حديث أبي نعيم, حدثنا زمعة بن صالح, عن سلمة بن وهرام, عن عكرمة قال: كان
ابن رواحة مضطجعاً إلى جنب امرأته, فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة, فوقع عليها, وفزعت امرأته فلم تجده في مضجعه, فقامت فخرجت فوجدته على جاريته, فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة, ثم خرج وفزع فقام فلقيها تحمل الشفرة, فقال: مهيم. فقالت: مهيم. قالت: لو أدركتك حيث رأيتك لوجأت بين كتفيك بهذه الشفرة, قال: وأين رأيتني؟ قالت: رأيتك على الجارية. فقال: ما رأيتني. قال: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب. قالت: فأقرأ, فقال:
أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الفجر ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
فقالت: آمنت بالله وكذبت البصر, ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره, فضحك, حتى بدت نواجذه.
تابعه سعيد بن زكريا, عن زمعة.
وقد رويت هذه القصة بشعر غير هذا من طرق منقطعة منها عن
يحيى بن أيوب الغافقي المصري, عن عمارة بن غزية, عن قدامة بن محمد بن إبراهيم الحاطبي أن عبد الله بن رواحة ... فذكره.
$[كفارة المجلس]$
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يقوم من مجلسه بين أصحابه يقول – ما خرجه أبو الشيخ ابن حيان الأصبهاني من حديث مصعب بن حيان – أخي مقاتل بن حيان – عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمع إليه أصحابه, فأراد أن ينهض قال: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث الحجاج بن دينار, عن أبي هاشم الواسطي, عن رفيع أبي العالية, عن أبي برزة رضي الله عنه قال: لما كان بآخرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس فأراد أن يقوم قال: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» فقالوا: يا رسول الله إنك تقول الآن كلاماً ما كنت تقوله فيما خلا, فقال: «هذه كفارة ما يكون في المجلس».
وقال محمد بن كثير: حدثنا عمرو بن قيس, عن أبي إسحاق, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً إذا قام من مجلسه
قال: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» فقلت: إن هذا لمن أعجب الكلام فقال: «أرجو أن لا يقولها عبد إذا قام من مجلسه إلا غفر له, وإن كان قد أكثر».
وجاء من حديث إسرائيل, عن جعفر بن الزبير, عن القاسم, عن أبي أمامة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً فأراد أن يقوم استغفر عشراً إلى خمسة عشر.
#224#
$[صبره صلى الله عليه وسلم على جفاء الأعراب]$
*قال علي رضي الله عنه: "ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم":
أي: يصيحون بهم, من جلب القوم جلبة بالتحريك, وأجلبوا: صاحوا.
وفي معنى قول علي رضي الله عنه ما خرجه أبو الشيخ الأصبهاني من حديث الفياض بن محمد, عن محمد بن إسحاق, عن هشام بن عروة, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزوراً من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة, فجاء به إلى منزله, فالتمس التمر, فلم يجده في البيت, قال: فخرج إلى الأعرابي, فقال: «يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورك هذا بوسق من تمر الذخيرة, ونحن نرى أنه عندنا فلم نجده» فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه, فوكزه الناس وقالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: «دعوه».
وفي "تاريخ البخاري الكبير" من حديث شريك, عن سماك, عن أبي ظبيان, عن ابن عباس رضي الله عنهما جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟ قال: «أرأيت لو دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟» قال: نعم, فدعاه فجعل ينزل من النخلة
#225#
حتى سقط في الأرض فجل ينقز حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال له: «ارجع» فرجع حتى عاد إلى مكانه, فقال: أشهد أنك رسول الله , وآمن.
وفي معناه أيضاً أحاديث كثيرة, كحديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة, فلا تجد علي في نفسك, فقال: «سل عما بدا لك» ... الحديث.
وكحديث أبي أمامة رضي الله عنه في قصة الشاب الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أئذن لي في الزنا, .... وقد تقدم.
#226#
$[ما روي في مصارعته صلى الله عليه وسلم]$
ومما يقرب من هذا ما قال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثنا عبد الله بن ياسين, حدثنا أحمد بن غياث الضرير العسكري, حدثنا حفص [بن] عمر، حدثنا حماد بن سلمة, عن عمرو بن دينار, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء زيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة من الغنم, فقال: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» قال: مائة من غنمي, قال: فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه, ثم قال: يا محمد هل لك في العود؟ قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» قال: مائة أخرى, قال: فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه, ثم قال: يا محمد هل لك في العود؟ قال: «وما تجعل لي إن صرعتك؟» قال: ما بقي من الغنم, قال: فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه, ثم قال: يا محمد ما وضع (أحد ظهري) على الأرض قبلك ولا كان أحد أبغض إلي منك, وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, فقام عنه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه.
هذا حديث أمثل ما روي من مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم, وأقرب ما روي إلى الصحة, وأما ما روي من مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل فليس له أصل وهو
#227#
شيء مفتعل لا يعرج على مثله ما قاله الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي.
*قال علي رضي الله عنه: "ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة فأرفدوه":
أي أعينوه وأعطوه, يقال: رفدته أرفده بالكسر رفداً, وأرفدته أعنته وأعطيته, والرفد بالكسر المعونة والعطية.
وفي معنى قول علي رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدال على الخير كفاعله» وتقدم.
وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً فجاء رجل يسأل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه وقال: «اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء».
متفق على صحته.
وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي الأشهب, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له, (قال) فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً
#228#
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عنده فضل فليعد به على من لا ظهر له, ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له» قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر, حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
*قال علي رضي الله عنه: "ولا يقبل – وفي رواية: لا يطلب – الثناء إلا من مكافئ":
قيل: إلا من مكافئ على إحسان سبق إليه من النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا ابتدئ بالثناء كره ذلك, وإذا أسدى معروفاً فأثني عليه قبل ذلك.
وقال نحوه أبو محمد عبد الله بن قتيبة.
وأنكر هذا التأويل أبو بكر ابن الأنباري, وقال: هذا غلط؛ لأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله عز وجل بعثه للناس كافة وهداهم ورحمهم به, فكلهم تحت نعمته, والثناء عليه صلى الله عليه وسلم فرض لا يتم الإسلام إلا به.
وقال ابن الأنباري مرة: يجوز أيضاً أن يقال: من كافأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثناء على نعمة سلفت منه قبل ثناءه ومن لا فلا؛ لأن الثناء عليه فرض على جميع الناس.
قال ابن الأنباري: وإنما المعنى لا يقبل الثناء عليه إلا من رجل يعرف حقيقة إسلامه ممن لم ينبذ بنفاق أي: لا يكون من المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وقيل: المكافئ المقتصر في الثناء والمدح.
#229#
قال الأزهري: أي لا يقبل الثناء إلا من مقارب في مدحه غير مجاوز حد مثله, ولا مقصر به عما رفعه الله إليه ألا تراه يقول صلى الله عليه وسلم «لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى ابن مريم, ولكن قولوا عبد الله ورسوله» فإذا قيل نبي الله ورسوله فقد وصف بما لا يجوز أن يوصف به أحد من أمته فهو مدح مكافئ له. انتهى.
والمكافأة: المجازاة على الشيء, يقال: كافأته أكافته مكافأة, والتكافؤ: التساوي.
قال أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي: حدثنا عفان بن مسلم, حدثنا حماد بن سلمة, عن علي بن زيد, عن عبد الرحمن بن أبي بكرة, عن الأسود بن سريع رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني امتدحت ربي عز وجل وذكرتك فقال: «إن ربك يحب المدح, فهات ما امتدحت به ربك ودع ما ذكرتني».
وخرج أبو نعيم في "الحلية" من حديث مسعود بن سعد, عن عطاء بن السائب, عن ابن عباد, عن أبيه, قال: جاء رجل من بني ليث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أنشدك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا» ثلاث
#230#
مرات, فأنشده الرابعة مدحة له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان أحد من الشعراء أحسن فقد أحسنت».
عباد هذا هو عباد بن خالد الغفاري, قيل: إنه هو الذي نزل بالسهم في البئر يوم الحديبية.
وخرج البيهقي في "الدلائل" فقال: أخبرنا أبو طاهر الفقيه, أخبرنا أبو حامد بن بلال, حدثنا يحيى بن الربيع المكي, حدثنا سفيان, عن الزهري, عن محمد بن جبير, عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كان مطعم حياً ثم كلمني في هؤلاء لأطلقتهم [له]». يعني: أسارى بدر.
قال سفيان: وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد, وكان صلى الله عليه وسلم أجزى الناس باليد.
*قال علي رضي الله عنه: "ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز", وفي رواية: "يجوز", وفي رواية: "يحوز" بمهملة, فيقطعه بنهي, وفي رواية: "بانتهاء أو قيام":
وهذا كما في حديث عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه حين أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله واجتمع عنده فيه ذوو عدد من جيرانه, فقال بعضهم: أين
#231#
مالك بن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقل ذاك» .... الحديث.
ومنه حديث يعلى بن الأشدق: سمعت النابغة رضي الله عنه يقول: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
#232#
وفي رواية الحارث بن أبي أسامة, عن العباس بن الفضل, حدثنا محمد بن عبد الله التميمي, حدثني الحسن بن عبيد الله, حدثني من سمع النابغة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشدته قولي:
وإنا لقوم ما نعود خيلنا إذا ... ما التقينا أن تحيد وتنفرا
الأبيات ومنها:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
#233#
وخرجه البزار في "مسنده" بنحوه ولفظ البيت:
علونا العباد عفة وتكرما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
فقال النبي صلى الله عليه وسلم في رواية ابن الأشدق: «أين المظهر يا أبا ليلى؟». قلت: الجنة قال: «أجل إن شاء الله .....» الحديث بطوله.
#234#
$[آخر حديث علي رضي الله عنه]$
*قال الحسين رضي الله عنه في بعض الروايات بعد قول أبيه علي رضي الله عنه: فيقطعه بنهي أو قيام: فسألته كيف كان سكوت النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: "كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر, فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس, وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى, وجمع له الحلم في الصبر, فكان لا يغضبه شيء يستفزه، وجمع له في الحذر أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به, وتركه القبيح لينتهى عنه, واجتهاد الرأي بما أصلح أمته صلى الله عليه وسلم, والقيام لهم بما جمع لهم من أمر الدنيا والآخرة":
هذا آخر الحديث وتفسيره وشواهده, فلله الحمد على نعمه التامة وعوائده.
وهذا الفصل الأخير فيه ما يوضحه من التفسير فلا حاجة إلى زيادة بيان, وبالله عز وجل المستعان.
#235#
$[سكوته وشجاعته صلى الله عليه وسلم]$
وقد وردت أحاديث عدة في أن نبينا – عليه أفضل الصلاة والسلام – كان كثير السكوت قليل الكلام.
(قال قيس, عن سماك, عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت).
وقال أبو الشيخ الأصبهاني في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم": حدثنا جبير – يعني: ابن هارون بن عبد الله – حدثنا علي الطنافسي, حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن سعد بن عياض الثمالي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الكلام, قليل الحديث, فلما أمر بالقتال تشمر, وكان من أشد الناس بأساً.
قوله: "تشمر" من التشمير في الأمر الذي هو الاجتهاد فيه مع السرعة والمبالغة, وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في جده واجتهاده ومحاربته أعداء الله وجهاده.
حدث أبو أسامة – حماد بن أسامة – عن زكريا – هو ابن (أبي) زائدة – عن أبي إسحاق, عن البراء رضي الله عنه قال: كنا والله إذا احمر البأس
#236#
نتقي به يعني: النبي صلى الله عليه وسلم, وإن الشجاع منا الذي يحاذي به.
وحدث به زهير, عن أبي إسحاق, عن حارثة بن مضرب, عن علي رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
ورواه وكيع, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن حارثة بن مضرب, عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.
وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا عمرو بن محمد, حدثنا عمر الزيات, عن سعيد بن عثمان العبدي, عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب.
وقال وكيع: حدثنا إسرائيل, عن رجل, عن أبي جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد البطش.
#237#
والأحاديث في الباب كثيرة.
قال القاضي عياض رحمه الله في الفصل المشار فيه إلى شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم ونجدته, قال: وكان صلى الله عليه وسلم منهما بالمكان الذي لا يجهل قد حضر المواقف الصعبة, وفر الكمأة والأبطال عنه غير مرة, وهو ثابت لا يبرح, ومقبل لا يدبر ولا يتزحزح, وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة, وحفظت عنه جولة, سواه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
#238#
وهذا هو المعروف من سيرته الشريفة, والمعهود من صفاته العالية المنيفة, ومنها قول سعد بن عياض المتقدم: فلما أمر بالقتال تشمر, وكان من أشد الناس بأساً.
وسعد بن عياض الثمالي الكوفي تابعي ثقة من أصحاب ابن مسعود وغيره, جرح فمات بأرض الروم, فالحديث مرسل.
#239#
$[حديث عائشة رضي الله عنها في وصف النبي صلى الله عليه وسلم]$
وقد روي الحافظ الكبير أبو بكر أحمد ابن الحافظ أبي خيثمة زهير بن حرب النسائي في "تاريخه" حديثاً طويلاً جامعاً لكثير من الشمائل النبوية والصفات المحمدية, رأيت أن أضمه إلى حديث هند المذكور, لأنه من أفراد غرائب المأثور, وهو ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني, حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد, حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, وعن هشام بن عروة, عن أبيه: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن, ولا المشذب الذاهب – والمشذب الطول نفسه, إلا أنه المخفف – ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالقصير المتردد, وكأنه ينسب إلى الربعة إذا مشي وحده, ولم يكن على ذلك يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما, فإذا فارقاه (نسبا إلى الطول) ونسب رسول الله
#240#
صلى الله عليه وسلم إلى الربعة, ويقول صلى الله عليه وسلم: «جعل الخير كله في الربعة».
وكان لونه صلى الله عليه وسلم ليس بالأبيض الأمهق الشديد البياض الذي يضرب بياضه (إلى) الشهبة, ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالآدم.
وكان صلى الله عليه وسلم أزهر اللون. والأزهر: الأبيض الناصع البياض الذي لا يشوبه حمرة ولا صفرة ولا شيء من الألوان.
وكان ابن عمر كثيراً مما ينشد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نعت عمه أبي طالب إياه في لونه حين يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ويقول كل من سمعه: هكذا كان (رسول الله) صلى الله عليه وسلم.
وقد نعته بعض من نعته (بذلك) بأنه [كان] مشرب حمرة, وقد صدق من نعته بذلك, ولكن إنما كان المشرب منه حمرة ما ضحا للشمس والرياح, فقد كان بياضه من ذلك قد أشرب حمرة, وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر لا يشك فيه أحد, فمن وصفه بأنه أبيض أزهر فعنى ما تحت الثياب فقد أصاب, ومن نعت ما ضحا للشمس والرياح بأنه أزهر مشرب حمرة فقد أصاب, ولونه الذي لا يشك فيه الأبيض الأزهر, وإنما الحمرة من قبل الشمس والرياح.
#241#
وكان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه مثل اللؤلؤ, أطيب من المسك الأذفر, وكان صلى الله عليه وسلم رجل الشعر حسنه, ليس بالسبط, ولا الجعد القطط, كان إذا مشطه بالمشط كأنه حبك الرمل أو كأنه المتون التي تكون في الغدر إذا سفتها الرياح, فإذا نكثه بالمرجل أخذ بعضه بعضاً, وتحلق حتى يكون متحلقاً كالخواتم, كان أول أمره قد سدل ناصيته بين عينيه كما تسدل نواصي الخيل, ثم جاءه جبريل عليه السلام بالفرق ففرق.
وكان شعره فوق حاجبيه, ومنهم من قال: كان شعره يضرب منكبيه, وأكثر من ذلك أنه كان إلى شحمة أذنه, وكان صلى الله عليه وسلم ربما جعله غدائر أربع, يخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها, ويخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين بكتنفانها, وتخرج الأذنان ببياضهما من بين تلك الغدائر كأنها توقد الكوالكب الدرية بين سواد شعره.
وكان أكثر شيبه في الرأس في فودي رأسه, والفودان حرفا الفرق, وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن.
وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه وإذا مس ذلك الشيب الصفرة – وكان كثيراً ما يفعل – صار كأنه خيوط الذهب يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه.
#242#
وكان صلى الله عليه وسلم (أحسن) الناس وجهاً وأنورهم لوناً, لم يصفه واصف قط بلغتنا صفته إلا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر, ولقد كان يقول من كان يقول منهم: لربما نظرنا إلى القمر ليلة البدر فنقول: هو أحسن في أعيننا من القمر, أزهر اللون نير الوجه يتلألأ تلألؤ القمر, يعرف رضاه وغضبه في سروره بوجهه, (كان إذا رضي أو سر فكأن وجهه المرآة, وكأنما الجدر تلاحك وجهه, وإذا غضب تلون وجهه) واحمرت عيناه.
قال: وكانوا يقولون هو صلى الله عليه وسلم كما وصفه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
أمين مصطفى للخير يدعوه ... كضوء البدر زايله الظلام
ويقولون: كان كذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما ينشد قول زهير بن أبي سلمى حين يقول لهرم بن سنان:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المضيء لليلة البدر
فيقول عمر ومن سمع ذلك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك, ولم يكن كذلك غيره.
وكذلك قالت عمته عاتكة ابنة عبد المطلب بعدما سار من مكة مهاجراً
#243#
فجزعت عليه بنو هاشم فانبعثت تقول: [شعر].
أعيني جوداً بالدموع السواجم على ... المرتضى كالبدر من آل هاشم
على المرتضى للبر والعدل والتقى ... وللدين والدنيا مقيم المعالم
على الصادق الميمون ذي الحلم والنهى ... وذي الفضل والداعي بخير التراحم.
ونعتته أيضاً بشبهه بالبدر ونعتته بهذا النعت, ووقعت في النفوس لما ألقى الله منه لما في الصدور, ولقد نعتته وإنها لعلى دين قومها.
وكان صلى الله عليه وسلم أجلا الجبين إذا طلع جبينه من بين الشعر, أو طلع في فلق الصبح,, أو عند طفل الليل, أو طلع بوجهه على الناس فرأوا جبينه كأنه ضوء السراج المتوقد يتلألأ, وكانوا يقولون هو صلى الله عليه وسلم كما قال شاعره حسان بن ثابت (رضي الله عنه):
متي يبد في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد
وكان صلى الله عليه وسلم واسع الجبهة أزج الحاجبين سابغهما.
#244#
و"الأزج الحاجبين" هما الحاجبان المقوسان اللذان لا تعدو شعرة منهما شعرة في النبات والاستواء من بين فرق بينهما.
وكان أبلج ما بين الحاجبين حتى كأن ما بينهما الفضة المخلصة بينهما عرق يدره الغضب, لا يرى ذلك العرق إلا أن يدره الغضب.
و"الأبلج": النقي ما بين الحاجبين من الشعر.
وكانت عيناه صلى الله عليه وسلم نجلاوين أدعجهما.
و"النجلاء": (العين) الواسطة الحسنة.
و"الدعج": شدة سواد الحدقة, لا يكون الدعج في شيء من الأبيض إلا في سواد الحدقة.
وكانت عينيه تموج من حمرة, وكان أهدب الأشفار حتى تكاد تلتبس من كثرتها, أقنى العرنين.
و"العرنين": المستوي الأنف من أوله إلى آخره, وهو الأشم.
وكان أفلج الأسنان أشنبها.
قال: و"الشنب": أن تكون الأسنان متفرقة فيها طرائق مثل تفرق المشط إلا أنها حديدة الأطراف, وهو الأشر الذي تكون أسفل الأسنان كأنه ماء يقطر في تفتحه ذلك وطرائقه.
وكان صلى الله عليه وسلم يتبسم عن مثل حب البرد المتحدر من متون الغمام فإذا افتر ضاحكاً افتر عن مثل سنا البرق إذا تلألأ.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله شفتين وألطفه ختم فم سهل الخدين صلتهما.
#245#
قال: و"الصلت الخد" هو الأسيل.
"السهل الخد" المستوي, الذي لا يفوت بعض لحمه بعضاً.
ليس بالطويل الوجه ولا المكلثم, كث اللحية. و"الكث": الكثير منابت الشعر الملتفها.
وكانت عنفقته صلى الله عليه وسلم بارزة فنِيكاه حول العنفقة كأنهما بياض اللؤلؤ, في أسفل عنفقته شعر منقاد حتى يقع انقيادها على شعر اللحية حتى يكون كأنه منها.
و"الفنيكان" هما مواضع الطعام حول العنفقة من جانبيها جميعاً.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن عباد الله عنقاً, لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر, ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة مشرب فذهباً يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب, وما غيبت الثياب من عنقه ما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر.
وكان صلى الله عليه وسلم عريض الصدر ممسوحه كأنه المرايا في شدتها واستوائها, لا يعدو بعض لحمه بعضاً على بياض القمر ليلة البدر، موصول ما بين لبته إلى سرته شعر منقاد كالقضيب, لم يكن في صدره ولا بطنه شعرة غيره.
وكانت له صلى الله عليه وسلم عكن ثلاثة يغطي الإزار منها واحدة وتظهر ثنتان, ومنهم من قال: يغطي الإزار منها اثنتين وتظهر واحدة, تلك العكن أبيض من القباطي المطواة وألين مساً.
وكان صلى الله عليه وسلم عظيم المنكبين أشعرهما ضخم الكراديس, و"الكراديس":
#246#
رؤوس عظام المنكبين والمرفقين والوركين والركبتين.
وكان صلى الله عليه وسلم جليل الكتد, قال: و"الكتد": مجتمع الكتفين والظهر – واسع الظهر, بين كتفيه خاتم النبوة – وهو [مما يلي] منكبه الأيمن – فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة وحولها شعرات متواليات, كأنهن من عرف فرس.
ومنهم من قال: كانت شامة النبوة بأسفل كتفه خضراء منحفرة في اللحم قليلاً.
وكان صلى الله عليه وسلم طويل مسربة الظهر – و"المسربة": الفقار الذي في الظهر من أعلاه إلى أسفله.
وكان صلى الله عليه وسلم عبل العضدين والذراعين, طويل الزندين, و"الزندان": العظمان اللذان في ظاهر الساعدين.
وكان صلى الله عليه وسلم فعم الأوصال, سبط العصب, شثن الكف, رحب الراحة, سائل الأطراف, كأن أصابعه قضبان الفضة, كفه ألين من الخز, كأن كفه كف عطار طيباً, مسها بطيب أو لم يمسها به, يصافحه المصافح فيظل يومه يجد ريحها, ويضعها على رأس الصبي فيعرف بين الصبيان من ريحها على رأسه.
وكان صلى الله عليه وسلم عبل ما تحت الإزار بين الفخذين والساق, شثن القدم غليظها ليس لها خمص – منهم من قال: كان في قدمه شيء من خمص – يطأ الأرض بجميع قدميه, معتدل الخلق, بدن في آخر زمانه, وكان بذلك البدن متماسكاً, وكاد يكون على الخلق الأول
#247#
لم يضره السن.
وكان صلى الله عليه وسلم مفخماً في جسده كله, إذا التفت التفت جميعاً.
وكان فيه صلى الله عليه وسلم شيء من صور, و"الصور": الرجل الذي كأنه يلمح الشيء ببعض وجهه وإذا مشى فكأنما يتقلع في صخر ويتحدر في صبب يخطو تكفياً ويمشي الهوينا بغير تبختر, و"الهوينا": تقارب الخطا والمشي على الهينة, يبدر القوم إذا سارع إلى الخير أو مشى إليه, ويسوقهم إذا لم يسارع إلى شيء بمشيه الهوينا وترفقه فيها.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أشبه الناس بأبي آدم, وكان أبي إبراهيم خليل الرحمن أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً».
ثم قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: إن كان هذا عبد العزيز بن عبد الصمد هو العمي فإنه لم يسمع من هشام بن عروة.
قلت: هو العمي, صرح به محمد بن عبدة المصيصي في روايته عن الشيخ الفرغاني حدث به الطبراني, عن محمد بن عبدة بنحوه, والله أعلم.
فهذا ما يسر الله تعالى به من نعمه الجزيلة مما وقع لنا من آثار
#248#
الصفات الجميلة, وأخبار الشمائل اللطيفة الجليلة المؤذنة بشرف المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلاه, التي لم تجتمع قبل, ولن تجتمع بعد في بشر سواه.
وفي آخر حديث هند وصفه صلى الله عليه وسلم بكثرة السكوت المبين كماله, وفي حال سكوته صلى الله عليه وسلم كانت تعلوه السكينة والهيبة والجلالة حسبما ذكرناه من الآثار.
ومنها: قول أم معبد فيه: إن صمت فعليه الوقار.
وأم معبد هذه من الصحابيات المهاجرات, تقدم أن اسمها عاتكة وهي بنت خالف بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حزام بن حبشية بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو من بقياء بن عامر ماء السماء.
وأم معبد كانت بقديد فيما قيل, وبين خليص ورابغ مكان يقال له: قبر أم معبد, معروف بين الحرمين, فيحتمل أن يكون قبرها, والله أعلم.
#249#
&[حديث سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه وباقي أحداث الهجرة]&
ولما راح النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من عند أم معبد عرض لهم سراقة بن مالك بن جعشم فيما ذكره الواقدي وغيره.
وقال الزهري: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن جعشم, أن أباه أخبره: أنه سمع سراقة يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهم لمن قتله أو أسره, فبينا أنا جالس في مجلس من
#250#
مجالس قومي – بني مدلج – أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس, فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه, قال سراقة: فعرفت أنهم هم, فقلت: إنهم ليسوا بهم, وإنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا.
ثم لبثت في المجلس ساعة, ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي, وأخذت رمحي وخرجت (به) من ظهر البيت, فخططت بزجه الأرض
#251#
وخفضت عاليه, حتى أتيت فرسي فركبتها [فرفعتها] تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت فرسي, فخررت عنها, فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي, فاستخرجت منها الأزلام واستقسمت بها: أضرهم أم لا, فخرج الذي أكره.
فركبت فرسي, وعصيت الأزلام, تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة
#252#
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت, وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات, ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها, ثم زجرتها، فنهضت, فلم تكد تخرج يديها, فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان, فاستقسمت بالأزلام, فخرج الذي أكره, فناديتهم بالأمان, فوقفوا.
#253#
فركبت فرسي حتى جئتهم, ووقع في نفسي حين لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية, وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت علهم الزاد والمتاع, فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا, فسألته أن يكتب لي كتاب أمن, فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة
#254#
من أدم, ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: أن سراقة قال: يا نبي الله مرني بما شئت قال: «فقف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا» فجعل لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتكم ما هاهنا.
قال ابن شهاب الزهري: فكان أول النهار جاهداً على نبي الله صلى الله عليه وسلم, وكان آخر النهار مسلحة له, أي كأنه جماعة بسلاح وكلوا بحفظ ذلك.
#255#
وقال موسى بن عقبة في "مغازيه": حدثنا ابن شهاب حديثاً من حديث سراقة يخالف هذا قال: حدثني عبد الرحمن بن مالك بن جعشم المدلجي: أن أباه مالكاً أخبره: أن أخاه سراقة / بن جعشم أخبره: أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة, جعلت قريش لمن رده عليهم مائة ناقة.
قال: فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ جاء رجل منا فقال: لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفاً إنني لأظنه محمداً صلى الله عليه وسلم قال: فأومات إليه – يعني أن اسكت – فقلت: إنما هم بنو فلان يبغون ضالة لهم, ثم سكت, قال: فمكثت قليلاً, ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي, قال: فأخرجت سلاحي من وراء حجرتي, ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها, ثم لبست لامتي, ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها, فخرج سهم الذي أكره – لا تضره – وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة, قال: فركبت على أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر فسقطت عنه، قال: فأخرجت قداحي, فاستقسمت بها, فخرج السهم الذي أكره – لا تضره – فأبيت إلا أن أتبعه, فركبت فلما بدا لي القوم فنظرت إليهم عثر فرسي, فذهبت يداه في الأرض فسقطت عنه, فاستخرج يديه وأتبعه دخان مثل الغبار, فعرفت أنه منع مني وأنه ظاهر, فناديتهم فقلت: انظروني, فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل له بماذا تتبعني» قال: قلت: اكتب لي كتاباً يكون بيني وبينك آية, قال: «اكتب له يا أبا بكر».
قال: فكتب ثم ألقاه إلي فسكت فلم أذكر شيئاُ مما كان, حتى إذا فتح
#256#
الله مكة وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل حنين, خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ألقاه ومعي الكتاب الذي كتب لي, فبينما أنا عامد له دخلت بين ظهري كتيبة من كتائب الأنصار قال: فطفقوا يقرعونني بالرماح, ويقولون: إليك, حتى دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته أنظر إلى ساقه في غرزة كأنها جمارة, فرفعت يدي بالكتاب فقلت: يا رسول الله هذا كتابك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم وفاء وبر, ادنه» قال: فأسلمت. وذكر الحديث.
وقد جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله, قال: «لا تحزن إن الله معنا» فلما دنا وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة, فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم اكفناه بما شئت» قال: فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها, فوثب عنها, ثم قال: يا محمد, قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه, فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب, وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لنا في إبلك وغنمك» ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق راجعاً إلى أصحابه.
وفي رواية: فوجد الناس يلتمسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارجعوا فقد استبرأت ما هاهنا, وقد عرفتم بصري بالأثر, فرجعوا عنه.
#257#
وفي رواية: أن سراقة قال لهم: قد كفيتم هذه الناحية فلا تطلبوا بها, فرجعوا عنها.
ويروى أن أبا بكر رضي الله عنه قال في ذلك:
قال النبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدفة من ظلمة الغار
لا تخشى ضيماً فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لي منه بإظهار
وإنما كيد من يخش بوادره ... كيد الشياطين كادته لكفار
والله مهلكهم طراً بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النار
وأنت مرتحل عنهم وتاركهم ... إما عدواً وإما مدلج سار
وهاجر أرضهم حتى يكون لنا ... قوم عليهم ذوو عز وأنصار
حتى إذا الليل وارتنا جوانبه ... وسد من دون من نخشى بأستار
#258#
سار الأريقط يهدينا وأينقه ... ينعين بالقوم نعياً تحت أكوار
يعسفن عرض الثنايا بعد أطولها ... وكل سهب رقاق الترب موار
حتى إذا قلت قد أنجدت عارضنا ... من مدلج فارس في منصب وار
يردي به مشرق الأقطار معتزم ... كالسيد ذي اللبدة المستأسد الضاري
فقال كروا فقلنا إن كرتنا ... من دونها لك نصر الخالق الباري
إن يخسف الأرض بالأحوى وفارسه ... فانظر إلى أربع في الأرض غوار
فهيل لما رأى أرساغ مقربه ... قد سخن في الأرض لم تحفر بمحفار
فقال هل لكم أن تطلقوا فرسي ... وتأخذوا موثقي في نصح أسرار
وأصرف الحي عنكم إن لقيتهم ... وأن أعور منهم كل عوار
#259#
[فادع الذي هو عنكم كف عدوتنا ... يطلق جوادي وأنتم خير أبرار]
فقال قولاً رسول الله مبتهلاً ... يا رب إن كان ينوي غير إخفار
فتجه سالماً من شر دعوتنا ... ومهره مطلقاً من كلم آثار
فأظهر الله إذ يدعو حوافره ... وفاز فارسه من هول أخطار
وبلغ أبا جهل أمر سراقة وفعله, فقال أبياتاً يعتبه فيها, (منها):
بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة يستغوي بنصر محمد
عليكم به أن لا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
فقال سراقة يجيب أبا جهل:
أبا حكم واللات لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
#260#
عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر تود النضر فيه بأسرها ... بأن جميع الناس طراً تسالمه
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم الجحفة حمله أبو مالك أوس بن عبد الله بن حجر – ويقال حجر بالتحريك – الأسلمي على جمل.
قال أبو نعيم في كتابه "معرفة الصحابة": حدثنا أبو حامد بن جبلة, حدثنا محمد بن إسحاق, حدثنا محمد بن عباد بن موسى العكلي, حدثنا أخي موسى بن عباد, حدثني عبد الله بن سيار, حدثني إياس بن مالك بن أوس الأسلمي, عن أبيه قال: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه مروا بإبل الجحفة فقال له النبي صلى الله عله وسلم: «لمن هذه الإبل؟» قال: لرجل من أسلم, فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «سلمت إن شاء الله تعالى» فقال: «وما اسمك؟» قال: مسعود, فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «سعدت إن شاء الله تعالى», فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له ابن الردى.
#261#
وقال أبو يوسف – يعقوب بن شيبة بن الصلت – في "مسنده": حدثني إبراهيم بن المنذر, حدثني محمد بن فليح, عن موسى بن عقبة, عن ابن شهاب قال: فلما فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم قديداً هو ومن معه ورد الله عنهم سراقة سلك بهم دليله في الخرار, ثم اجتاز بهم على ثنية المرة, ثم استبطن مدلجة مجاج, ثم سلك مرجح بن مجاج, ثم بطن مرجح بذي العصرين، ثم بطن ذات كشد (معاً), ثم نغذ الأجرد, ثم سلك ذا سلم, ثم بطن أعدر مدلجه تعهن, ثم بلغ الغيثانة, ثم أجاز القاحة, ثم هبط العرج, فحمله رجل من أسلم يقال له مالك بن أوس على جمل له يقال له ابن اللقاح, وبعث معه غلاماً له يدعى مغيثاً, فسلك به في ثنية الأعياد عن يمين ركوبة أو في ركوبة, ثم هبط به ريما, ثم أجاز إلى بني عمرو بن عوف بقباء.
وقد رويت قصة أوس الأسلمي على غير هذا السياق حدث بها الطبراني عن محمد بن [ .... ] أبو عمرو – عثمان بن السماك – فقال: حدثنا الحسن بن مكرم بن حسان, واللفظ له – حدثنا فيض بن وثيق, أخبرنا صخر بن مالك بن إياس بن مالك بن أوس بن عبد الله بن حجر – وقيل: حجر – الأسلمي شيخ من أهل العرج, أن أباه مالكاً أخبره,
#262#
أن أباه إياساً أخبره, أن أباه مالكاً أخبره, أن أباه أوس بن عبد الله بن حجر مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخذوات بين الجحفة وهرشا, وأبو بكر رضي الله عنه على جمل واحد, فحملهما على فحل إبله ابن الرداء, وبعث معهما غلاماً له يقال له مسعود, فقال [له]: اسلك بهما حيث تعلم من مخارم الطرق ولا تفارقهما حتى يقضيا حاجتهما منك ومن جملك.
قال: فسلك بهما ثنية الدمجا, ثم أقبل بهما أحياء, ثم سلك بهما ثنية المرة, ثم أتى بهما من شعبة ذات كشت, ثم سلك بهما الغيثانة والعثبانة, (ثم سلك بهما طرف صخرتكها, ثم سلك بهما ثنية
#263#
ذات ركوبة حتى) أدخلهما المدينة, ثم رجع صلى الله عليه وسلم مسعوداً إلى سيده أوس بن عبد الله بن حجر .... الحديث.
وقال الواقدي: حدثنا أفلح بن سعيد, عن بريدة بن سفيان الأسلمي, عن مسعود بن هنيدة قال: وحدثني هاشم بن عاصم الأسلمي, عن أبيه, عن مسعود بن هنيدة قال: إني بالخذوات نصف النهار إذا أنا بأبي بكر يقود بآخر, فسلمت عليه وكان ذا خلة بأبي تميم فقال: اذهب إلى أبي تميم فأقرئه مني السلام, وقل له يبعث إلي ببعير وزاد ودليل, فخرجت حتى أتيت مولاي فأعلمته برسالة أبي بكر, فأعطاني جمل ظعينة (لأهل ظعينة) لأهله يقال له الذيال, ووطباً من لبن, وصاعاً من تمر, وأرسلني دليلاً, وقال [لي]: دله على الطريق حتى يستغني عنك, فسرت بهم حتى سلكت ركوبة فلما علوناها حضرت الصلاة, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو بكر على يمينه, ودخل الإسلام قلبي, فأسلمت فقمت من شقه الآخر, فدفع بيده في صدر أبي بكر فصففنا وراءه, قال مسعود: فلا أعلم أحداً من بني سهم أسلم أول مني غير بريدة بن الحصيب.
#264#
وحدث أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسند أبيه" عن مصعب بن عبد الله, حدثنا أبي, عن فائد مولي عبادل قال: خرجت مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل إبراهيم بن عبد الرحمن إلى ابن سعد, حتى إذا كنا بالعرج أتانا ابن سعد, وسعد الذي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم (على طريق ركوبة, فقال إبراهيم: أخبرني ما حدثك أبوك, فقال ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أتاهم ومعه أبو بكر رضي الله عنه وكانت لأبي بكر عندنا بنت مسترضعة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة, فقال له سعد: هذا العابر من ركوبة وبه لصان من أسلم يقال لهما المهانان, فإن شئت أخذنا عليهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذ بنا عليهما» قال سعد: فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه: هذا اليماني, فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعرض عليهما الإسلام, فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما, فقالا: نحن المهانان. فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة, فخرجنا حتى أتينا ظاهر قباء, فتلقانا بنو عمرو بن عوف. وذكر بقيته.
وقد جاء أن سبعين رجلاً من أسلم فيهم بريدة بن الحصيب تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق, فأسلموا ودخلوا معه المدينة مهاجرين.
#265#
قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا الحسين بن حريث, حدثنا أوس بن عبد الله بن بريدة, عن الحسين بن واقد, عن عبد الله بن بريدة, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتطير, ولكن يتفاءل, فركب بريدة في سبعين راكباً من أهل بيته من بني سهم يتلقى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «من أنت؟» قال: بريدة, فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «يا أبا بكر برد أمرنا وصلح» ثم قال: «ممن؟» قال: من أسلم, قال لأبي بكر رضي الله عنه: «سلمنا» ثم قال: «ممن؟» قال: من بني سهم, قال: «خرج سهمك».
قال بريدة لنبي الله صلى الله عليه وسلم: فمن أنت؟ قال: «محمد بن عبد الله رسول الله» قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله, فأسلم بريدة وأسلم الذين معه جميعاً, قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء, فحل عمامته, ثم شدها في رمح, ثم مشى بين يديه حتى دخل المدينة.
قال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم طائعين ... وفيه طول.
واختصره ابن أبي خيثمة, وقال: قال أبو عمار – يعني: الحسين ابن حريث: سمعت أوساً يحدث بهذا الحديث, بعد ذلك قلت: من حدثك؟ قال: حدثني سهل أخي.
#266#
وذكر أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة فانتهى إلى الغميم أتاه بريدة بن الحصيب فأسلم هو ومن معه, وكانوا زهاء ثمانين, فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء, فصلوا خلفه, ثم رجع بريدة إلى بلاد قومه, وقد تعلم شيئاً من القرآن ليلتئذ, ثم قدم على رسول الله صلىعليه وسلم بعد أحد, فشهد معه مشاهده. انتهى.
وفي رواية يعقوب بن شيبة التي قدمناها إلى الزهري قال: ويقال: فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى المدينة, وقدم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه من الشام, خرج عامداً إلى مكة؛ لما ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وخرج إما متلقياً لهما وإما عامداً تعمدهما بمكة, ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام, فلما لقيه أعطاه الثياب, فلبس منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه.
هكذا في رواية يعقوب بن شيبة في "مسنده" من طريق موسى بن عقبة, عن ابن شهاب أن طلحة بن عبيد الله هو الذي قدم ومعه ثياب أهداها لأبي بكر رضي الله عنه.
وقد حدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" فقال: حدثنا الحجاج – يعني: ابن أبي منيع – حدثني جدي, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل يقال له
#267#
ثور, فمكثا فيه ثلاثاً, ثم ارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي, فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى المدينة قدم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وقال: يجسان, فخرج الزبير عامداً لمكة؛ لما ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر, فخرج متلقياً لهما وإما عامداً عمدهما بمكة, ومعه ثياب أهداها لأبي بكر من ثياب الشام, وكان أبو بكر قد زوجه أسماء بنت أبي بكر, فقدم عليه بثياب بعث بها إلى أبي بكر وإلى أهله, فتلقاها أبو بكر في الطريق فقبضها, فلبس منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه.
فصاحب القصة في الهدية هو الزبير في هذا الحديث, وهو أشبه بما في "الصحيح" من رواية الزهري عن عروة الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
لكن قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع, عن عبد الله بن سعد, عن أبيه قال: لما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخرار في هجرته إلى المدينة, وكان الغد لقيه طلحة بن عبيد الله جائياً من الشام في عير, فكسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من ثياب الشام, وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من بالمدينة من المسلمين قد استبطئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير, ومضى طلحة إلى مكة, حتى فرغ من حاجته, ثم رجع بعد ذلك مع آل أبي بكر رضي الله عنهما فهو الذي قدم بهم المدينة.
#268#
ورواية الزهري, عن عروة التي في "الصحيح" هي ما قال: وأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام, فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ثياب بياض.
وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه صلى الله عليه وسلم حتى يردهم حر الظهيرة, فانقلبوا يوماً بعدما طال انتظارهم, فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه, فبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين, يزول بهم السراب, فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون, فثار المسلمون في السلاح, فتلقوا رسول الله بظهر الحرة, فعدل بهم ذات اليمين, حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف, وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول.
#269#
#270#
$[ما روي في قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وأين نزل]$
وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا سليمان بن المغيرة, عن ثابت (قال): قال أنس رضي الله عنه: إني لأسعى مع الغلمان إذ قالوا: جاء محمد, فننطلق فلا نرى شيئاً, حتى أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه, وجاء في بعض حرار المدينة ومعنا رجل من أهل البادية فأذن بهما الأنصار, فجاء البدوي يأذن بهما الأنصار, واستقبله زهاء خمسمائة من الأنصار, فأتوهما, فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين, فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه معه, وخرج الناس حتى العواتق فوق الآجار يقلن: أيهم هو؟
كان نزول النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لثمان خلون من ربيع الأول سنة تسعمائة وثلاث وثلاثين لذي القرنين. ويقال لاثنتي عشرة ليلة خلت منه, وذكر الواقدي أنه هو المجتمع عليه, وكان ذلك حين اشتد الضحى. ويقال قدم لهلال ربيع الأول روي عن
#271#
الزهري. وقيل: لليلتين خلتا منه. وقيل غير ذلك, والله سبحانه أعلم.
#272#
وبنو عمرو بن عوف بقباء: وكان نزوله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وكان شيخاً كبيراً شريفاً صالحاً رضي الله عنه.
وقيل: نزل على سعد بن خيثمة بن الحارث الأنصاري, والصحيح الأول, وإنما كان صلى الله عليه وسلم يتحدث في منزل سعد بن خيثمة, وذلك أنه كان عزباً لا أهل له, وكان منازل العزاب من المهاجرين عنده, وكان يقال لبيت سعد بن خيثمة بيت العزاب.
قال الواقدي: فلذلك قيل: نزل على سعد بن خيثمة, والثبت عندنا نزوله على كلثوم بن الهدم العمري قاله في "تاريخه" الذي رواه عنه ابنه محمد بن محمد وكاتبه محمد بن سعد.
وقال أيضاً: ونزل على كلثوم أيضاً جماعة من الصحابة, منهم: أبو عبيدة بن الجراح والمقداد بن عمرو وخباب بن الأرت وسهيل وصفوان ابنا بيضاء, وذكر آخرين رضي الله عنهم.
وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه نزل على خبيب بن يساف, وقيل: على خارجة بن زيد بن أبي زهير.
وكان علي رضي الله عنه قد تأخر بمكة ثلاث ليال وأيامها, حتى أدى ودائع كانت للناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم لحق هو وصهيب بقباء, فنزل علي رضي الله عنه على كلثوم بن الهدم, ونزل صهيب رضي الله عنه على سعد بن خيثمة.
#273#
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني عاصم بن سويد – من بني عمرو بن عوف – عن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: قدم آخر الناس في الهجرة إلى المدينة: علي، وصهيب رضي الله عنهما وذلك للنصف من شهر ربيع الأول ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء لم يرم بعد.
وقال: أخبرنا محمد بن عمر, حدثني عبد الله بن جعفر, عن عبد الحكيم بن صهيب, عن عمر بن الحكم قال: قدم صهيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو بقباء ومعه أبو بكر وعمر وبين أيديهم رطب قد جاءهم به كلثوم بن الهدم أمهات جراذين, وصهيب قد رمد بالطريق, وأصابته مجاعة شديدة, فوقع في الرطب, فقال عمر: يا رسول الله ألا ترى إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تأكل الرطب وأنت رمد؟!» فقال صهيب: إنما آكله بشق عيني الصحيحة, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجعل صهيب يقول لأبي بكر: وعدتني أن نصطحب فخرجت وتركتني, ويقول: وعدتني يا رسول الله أن تصاحبني فانطلقت وتركتني, فأخذتني قريش فحبسوني, فاشتريت نفسي وأهلي بمالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ربح البيع» فأنزل الله عز وجل: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} وقال صهيب: يا رسول الله, ما تزودت إلا مداً من دقيق عجنته بالأبواء حتى قدمت عليك.
#274#
$[أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة]$
قال أبو جعفر – محمد بن جرير الطبري – في "تاريخه": وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس, وأسس مسجدهم, ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة.
ورواه الواقدي في "تاريخه" قال: فحدثني أفلح بن سعيد, سمعت محمد بن كعب القرظي, وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة, عن عثمان بن وثاب, عن أبي غطفان, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وركب من قباء يوم الجمعة يؤم المدينة فجمع في بني سالم, فكانت أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا حسن بن الربيع, حدثنا ابن إدريس, حدثنا ابن إسحاق, عن محمد بن جعفر, عن عروة, عن عبد الرحمن بن عويم, أخبرني بعض قومي قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول, فأقام بقباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس, فأسس المسجد وصلى فيه تلك الأيام, حتى إذا كان يوم الجمعة خرج على ناقته القصواء, وبنو عمرو بن
#275#
عوف (يزعمون) أنه لبث فيهم ثماني عشرة ليلة, ثم خرج وقد اجتمع فأدركته الصلاة في بني سالم فصلاها بمن معه في المسجد الذي ببطن الوادي, وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
وثبت من حديث عبد الوارث, عن أبي التياح, عن أنس رضي الله عنه أن إقامته صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف كانت أربع عشرة ليلة.
وقيل أقام خمس ليال, وقيل أربعاً كما تقدم, وقيل ثلاثاً, وقيل ثنتين وعشرين ليلة.
#276#
$[فضل مسجد قباء]$
وقال الزهري في حديثه: فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة فأسس المسجد الذي أسس على التقوى.
#277#
مراده بهذا مسجد قباء, وأول مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو أحد المساجد الشريفة.
#278#
وقال ابن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة, حدثنا أبو أسامة.
وقال أبو عيسى الترمذي في "جامعه" واللفظ له: حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع قالا: حدثنا أبو أسامة عن عبد الحميد بن جعفر, حدثنا أبو الأبرد مولى بني خطمة سمع أسيد بن ظهير الأنصاري – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة في مسجد قباء كعمرة».
ولفظ ابن أبي شيبة: «من أتى مسجد قباء فصلى فيه كان كعمرة».
وحدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن ابن الأصبهاني وأبي بكر ابن أبي شيبة قالا: حدثنا أبو أسامة ... فذكره.
قال الترمذي: حديث حسن غريب, ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئاً يصح غير هذا الحديث.
وقال: وفي الباب عن سهل بن حنيف.
قلت: ووالد أسيد: ظهير بن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج الحارثي.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني مجمع بن يعقوب, عن سعيد بن عبد الرحمن, عن ابن غنمة
#279#
الجهني, عن ظهير بن رافع الحارثي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في مسجد قباء يوم الإثنين والخميس انقلب بأجر عمرة».
ابن غنمة اسمه عبد الله.
وأما حديث سهل بن حنيف الذي أشار إليه الترمذي, فخرجه أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل المدينة", فقال: حدثنا (الخبر) أبو علقمة المديني, حدثني مطرف بن عبد الله, عن أبي الموالي, عن رجل من أهل قباء كان قديماً عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه أن رسول الله صلىعليه وسلم قال: «من توضأ في أهله فأحسن وضوءه, ثم خرج عامداً إلى مسجد قباء, لا ينزعه حاجة إلا الصلاة فيه, كانت صلاته له بمنزلة عمرة».
#280#
وحدث به عبد بن حميد في "مسنده" فقال: حدثني ابن أبي شيبة, حدثنا ابن نمير, عن موسى بن عبيدة, أخبرني يوسف بن طهمان, عن أبي أمامة بن سهل, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن وضوءه, ثم جاء مسجد قباء, فركع فيه أربع ركعات, كان ذلك كعدل عمرة».
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا خالد بن مخلد, وأبو عامر العقدي قالا: حدثنا عبد الله بن جعفر, عن عمته – أم بكر بنت المسور – أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو كان مسجد قباء في أفق من الآفاق؛ لصرفنا إليه أكباد الإبل.
ومسجد قباء لم يزل على ما بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن بناه عمر بن عبد العزيز – رحمة الله عليه – عند بناء مسجد المدينة على حالته التي هو عليها اليوم, غير أنه شعث وتهدم, فجدده الوزير الجواد محمد بن علي بن أبي المنصور الأصبهاني رحمه الله.
#281#
$[خروج النبي صلى الله عليه وسلم من قباء وصلاته الجمعة في بني سالم بن عوف وخطبته هناك]$
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بأمر الله – عز وجل – من قباء حين ارتفع النهار, فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف, فصلاها في بطن وادي رانونا – قيل: واسم الوادي: ذو صلب – وجمع معه صلى الله عليه وسلم من المسلمين مائة على ما ذكره غير واحد.
قال الواقدي في "تاريخه": فحدثني معاذ بن محمد, سألت محمد بن عمارة بن خزيمة: كم كان القوم الذين جمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانوا مائة رجل, قال: وقال أبو معشر: كانوا أربعين رجلاً.
قال ابن جرير في "تاريخه": من ذلك – أي من الأمور التي جرت في السنة الأولى من الهجرة – تجميعه صلى الله عليه وسلم بأصحابه الجمعة في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء, وذلك أن ارتحاله صلى الله عليه وسلم عنها كان يوم الجمعة عامداً المدينة, فأدركته الصلاة – صلاة الجمعة – في بني سالم بن عوف ببطن واد لهم, قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجداً فيما بلغني.
#282#
قلت: شاهدت ذلك المسجد الشريف, وتبركت بالصلاة فيه لما رجعت من زيارة قباء يوم السبت في الحجة الأولى, وهو مسجد لطيف, قيل: اسمه "الغبيب", له جدران ومحراب, وهو اليوم في حديقة نخل على يمين السالك إلى مسجد قباء, وهو بعد صفة الاستراحة للمتوجه من قباء إلى المدينة, وهذه الصفة هي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستريح بالجلوس فوقها في زيارته قباء على ما ذكر لي, والله أعلم.
وشمالي المسجد المذكور "مسجد الجمعة" – أطم خراب, يقال له: المزدلف, وهو أطم عتبان بن مالك, وهو مسجد صغير, مبني بحجارة قدر نصف القامة, وهو الذي كان السيل يحول بينه وبين عتبان, لأن منازل بني سالم بن عوف كانت غربي هذا الوادي على طرف الحرة, وآثارهم باقية هناك اليوم كما ذكره بعضهم.
وأما الخطبة التي خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى الجمعة في هذا المسجد, فقد جاءت الرواية بها؛ قال ابن جرير في "تاريخه": حدثني يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, حدثني سعيد بن
#283#
عبد الرحمن الجمحي, أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:
«الحمد لله, أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه, وأومن به ولا أكفره, وأعادي من يكفره, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, أرسله بالهدى والنور والموعظة, على حين فترة من الرسل, وقلة من العلم, وضلالة من الناس, وانقطاع من الزمان, ودنو من الساعة, وقرب من الأجل, من يطع الله ورسوله فقد رشد, ومن يعصهما فقد غوى وفرط, وضل ضلالاً بعيداً.
أوصيكم بتقوى الله, فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم, أن يحضه على الآخرة, وأن يأمره بتقوى الله, فأحذروا ما حذركم الله من نفسه, ولا أفضل من ذلك نصيحة, ولا أفضل من ذلك ذكرى, وإن تقوى الله لمن عمل به على وجل, ومخافة من ربه, عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة.
ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية, لا ينوي بذلك إلا وجه الله, يكن له ذكراً في عاجل أمره, وذخراً فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم, وما كان سوى ذلك {تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد}.
والذي صدق قوله, ونجز وعده لا خلف لذلك, فإنه يقول جل وعز: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية, فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً, ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً.
وإن تقوى الله توقي مقته, وتوقي عقوبته, وتوقي سخطه, وإن تقوى
#284#
الله تبيض الوجوه, وترضي الرب, وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله, فقد علمكم الله كتابه, ونهج لكم سبيله, ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين, فأحسنوا كما أحسن الله إليكم, وعادوا أعداءه, وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين؛ ليهلك من هلك عن بينة, ويحيى من حي عن بينة, ولا قوة إلا بالله, فأكثروا ذكر الله, واعملوا لما بعد اليوم, فإنه من يصلح ما بينه وبين الله، يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه, ويملك من الناس ولا يملكون منه, الله أكبر, ولا قوة إلا بالله العظيم».
#285#
واعترض على القول بأنه أقام بقباء أربع عشرة ليلة وخرج يوم الجمعة منها, مع القول بأنه قدم يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول قيل: هذا لا يصح؛ لأن ما أرخ به القدوم يقتضي أن مستهل الشهر يوم الخميس, فكيف يتصور مع ذلك المقام أربع عشرة ليلة والخروج يوم الجمعة.
ويتمشى على ما قيل إنه خرج من الغار ليلة الإثنين لهلال ربيع الأول, وقدم المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه.
وقيل: كانت إقامته في بني عمرو بن عوف أربع ليال كما قدمناه مبدؤها يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول, فيتصور حينئذ خروجه صلىالله عليه وسلم يوم الجمعة.
والذي ذكره البخاري في "صحيحه" و"تاريخه" عن ابن شهاب أنه أقام بضع عشرة ليلة, سالم من الاعتراض, والله أعلم.
#286#
$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونزوله على أبي أيوب في بني النجار]$
وحدث محمد بن عائذ, عن محمد بن شعيب, عن عثمان بن عطاء – هو الخرساني – عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مر على عبد الله بن أبي وهو جالس على ظهر الطريق, فوقف عليه (رسول الله) صلى الله عليه وسلم ينظر أن يدعوه إلى المنزل – وهو يومئذ سيد أهل المدينة في أنفسهم – فقال عبد الله: انظر الذين دعوك فأتهم، فعمد إلى سعد بن خيثمة، فنزل عليه في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال, واتخذ مكانه مسجداً, فكان يصلي فيه, ثم بناه بنو عمرو، فهو الذي أسس على التقوى والرضوان, ثم إنه ركب يوم الجمعة, فمر على بني سالم فجمع فيهم, وكانت أول جمعة صلاها صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة, واستقبل بيت المقدس, فلما أبصرته اليهود صلى إلى قبلتهم طمعوا فيه, للذي يجدونه مكتوباً عندهم, ثم ارتحل, فاجتمعت له الأنصار, يعظمون دين الله بذلك, يمشون حول ناقته لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة, فقال صلى الله عليه وسلم: «خلوا زمام الناقة, فإنما أنزل حيث أنزلني الله» حتى انتهى إلى دار أبي أيوب في بني غنم, وكان
#287#
المسجد موضعاً للتمر لابني أخي أسعد بن زرارة, فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى ابني أخيه مكانه نخلاً له في بني بياضة.
فقالا: نعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا نأخذ له ثمناُ.
وبنى النبي صلى الله عليه وسلم لحمزة ولعلي وجعفر وهم بأرض الحبشة, وجعل مسكنهم في مسكنه, وجعل أبوابهم في المسجد مع بابه, ثم إنه بدا له, فصرف باب حمزة وجعفر – كذا وقع هنا – وهم بأرض الحبشة, وكان علي حينئذ بمكة لا خلاف في ذلك والله أعلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الجمعة في بني سالم ركب راحلته, فأخذوا بخطامها, وقالوا: هلم إلى العدد والعدة, والسلاح والمنعة, فقال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة».
واعترضت له بنو الحارث بن الخزرج فقالوا له مثل ذلك, فقال لهم مثل ذلك, ثم اعترضت له بنو عدي, فقالوا له مثل ذلك, فقال لهم مثل ذلك.
ولم تزل راحلته صلى الله عليه وسلم سائرة به حتى وصلت إلى موضع مسجده
اليوم, فبركت ولم ينزل عنها, حتى نهضت وسارت قليلاً, ثم التقت ورجعت,
#288#
فبركت في موضعها الأول, فنزل عنها – وذلك في بني النجار أخواله – فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم, وبادر أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى رحله فأدخله بيته, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء مع رحله».
وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته صلى الله عليه وسلم فكانت عنده, وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل بني أيوب, حتى بنى حجرته ومسجده. قيل: كانت إقامته صلى الله عليه وسلم هناك شهراً, قاله أبو بشر الدولابي.
وقيل: سبعة أشهر. ذكره الواقدي في "تاريخه" وصححه الحافظ أبو محمد الدمياطي.
وقيل: إلى صفر من السنة الثانية من الهجرة قاله أبو الحسن رزين بن معاوية بن عمار العبدري الأندلسي.
ودار أبي أيوب هذه مقابلة لدار عثمان من جهة القبلة, وبينهما الطريق, وقد اشترى عرصتها صاحب ميافارقين الملك المظفر غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب, وبناها مدرسة وقفها على الفقهاء من أهل السنة على المذاهب الأربعة, وفيها قاعتان كبرى وصغرى, وفي الإيوان الغربي من الصغرى خزانة صغيرة مما يلي القبلة, فيها محراب, يقال: هناك مبرك
#289#
ناقة النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل هناك مهاجراً.
وجاء من طريق عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء في حديث: اشترى أبو بكر من عازب رحلاً, [و] فيه: قال أبو بكر: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلاً, فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أنزل الليل في بني النجار أخوال بني عبد المطلب أكرمهم بذلك», وقدم الناس حين قدمنا المدينة في الطريق وعلى البيوت؛ الغلمان والخدم يقولون: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, الله أكبر جاء محمد, الله أكبر, جاء محمد صلى الله عليه وسلم, فلما أصبح صلى الله عليه وسلم انطلق فنزل حيث أمر.
وقال هاشم بن القاسم: حدثنا سليمان – هو ابن المغيرة – عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد صلى الله عليه وسلم وأسعى ولا أرى شيئاً ثم يقولون: جاء محمد صلى الله عليه وسلم فأسعى حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه, فكمنا في بعض حرار المدينة, ثم بعثا رجلاً من أهل البادية ليؤذن بهما الأنصار قال: فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما, فقالوا: انطلقا آمنين
#290#
مطاعين, فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم, فخرج أهل المدينة, حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن أيهم هو؟ قال: فما رأينا منظراً شبهاً به يومئذ.
وقيل نزول النبي صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب جاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه فسمع من قوله ثم أسلم.
وثبت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة نزل جانب الحرة, ثم بعث إلى الأنصار, فجاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه فسلموا عليهما, وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وحفوا دونهما بالسلاح, فقيل في المدينة: جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم, جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأشرفوا ينظرون ويقولون: (جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم), جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب, فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله
#291#
يخترف لهم, فجعل أن يضع الذي يخترف لهم فيها, فجاء وهي معه, فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم, ثم رجع إلى أهله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي بيوت أهلنا أقرب؟» فقال أبو أيوب رضي الله عنه: أنا يا نبي الله هذه داري, وهذا بابي, قال: «فانطلق فهيئ لنا مقيلاً» قال: قوماً على بركة الله.
قال الواقدي في "تاريخه": فحدثني إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة, عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن سعد بن زرارة قال: قال زيد بن ثابت: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب لم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية, أول من هدية دخلت عليه بها قصعة مثرودة خبزاً وسمناً ولبناً, فأضعها بين يديه
#292#
صلى الله عليه وسلم, فقلت: يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي, فقال: «بارك الله فيك» ودعا أصحابه فأكلوا فلم أرم الباب حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة رضي الله عنه على رأس غلامه مجيب مغطاة, فوقف على باب أبي أيوب وكشف غطاؤها لأنظر فرأيت ثريداً عليها عراق, فدخل بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أن أبا أيوب رضي الله عنه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر رضي الله عنه من الطعام زهاء ما يكفيهما, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع ثلاثين من أشراف الأنصار», فدعاهم, فأكلوا حتى تركوه,
ثم قال: «ادع ستين»، فكان مثل ذلك، ثم قال: «ادع تسعين»، فأكلوا حتى تركوا، وما خرج منهم أحد إلا حتى أسلم وبايع.
قال أبو أيوب رضي الله عنه: فأكل من طعامي مائة وثمانون رجلاً.
#293#
$[إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه]$
قال أنس رضي الله عنه: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم – يعني دار أبي أيوب رضي الله عنه جاء عبد الله بن سلام, فقال: أشهد أنك رسول الله, وأنك جئت بحق.
وفي رواية عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, فأتاه يسأله عن أشياء, فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة, وما أول طعام يأكله أهل الجنة, وما بأن الولد ينزع إلى أبيه وإلى أمه؟ قال: «أخبرني بهن جبريل آنفاً» قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة.
قال: «أول أشراط الساعة, فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب, وأما أول طعام أهل الجنة, فزيادة كبد الحوت, وأما الولد, فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد, وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد».
قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, يا رسول الله إن اليهود قوم بهت, فسلهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي, فجاءت اليهود.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام»؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا, وأفضلنا وابن أفضلنا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أسلم عبد الله» قالوا: أعاذه الله من ذلك, فأعاد عليهم, فقالوا مثل ذلك, فخرج عليهم عبد الله بن سلام, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, قالوا: شرنا وابن
#294#
شرنا, وتنقصوه, قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله.
#295#
$[فرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم]$
وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام, أخبرنا معمر. ح.
وقال أبو داود في "سننه": حدثنا الحسن بن علي, قال هو وأحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, لعبت الحبشة لقدومه المدينة, فرحاً بذلك.
اللفظ للبخاري.
وروى الحافظ أبو بكر الخطيب من طريق نصر بن علي – هو الجهضمي الصغير – حدثنا عبد الأعلى – يعني ابن عبد الأعلى – عن عوف, (عن ثمامة), عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجوار من الأنصار, وهن يغنين يقلن:
نحن جوار من بني النجار ... وحبذا محمد من جار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله يعلم أني أحبكن».
#296#
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه في استماع الغناء:
وروي أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تلقاه أولاد الأنصار وجواريهم سروراً به صلى الله عليه وسلم وقالوا:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب البرقاني في كتابه "اللقط": قرأت على أبي بكر الإسماعيلي, يقول: سمعت أبا خليفة, يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقولون:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
(وخرجه) البيهقي في كتاب "دلال النبوة" في أحاديث الهجرة, فقال: أخبرنا أبو عمرو الأديب, أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي ... فذكره.
ورواه أبو علي الحسن بن علي بن محمد الجبلي المؤدب في "جزئه" فقال: حدثنا أبو خليفة, سمعت ابن عائشة يقول: أراه عن أبيه, قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الصبيان والنساء والولائد يقولون:
#297#
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي, حدثنا حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه قال: شهدت
#298#
يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوماً أحسن منه ولا أضوأ.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وكذا المدينة .... وذكر الحديث الذي تقدم قال – يعني أنساً: فشهدته يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة, وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً: أخبرنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا جعفر بن سليمان, حدثنا ثابت البناني, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء.
تابعه عبد السلام بن مطهر وغيره, عن جعفر.
وخرجه الترمذي وابن ماجه جميعاً, عن بشر بن هلال الصواف البصري, حدثنا جعفر بن سليمان ... فذكره مطولاً, وسيأتي إن شاء الله تعالى.
#299#
$[بناء مسجده صلى الله عليه وسلم] $
ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بدار أبي أيوب دعا بصاحبي المربد وهما: "سهل" و"سهيل" ابنا رافع بن عمرو بن مالك بن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار, وكانا يتيمين في حجر أسعد بن زرارة – وقيل: في حجر معاذ بن عفراء، وقيل: كانا يتيمين لأبي أيوب – فلما دعا صلى الله عليه وسلم (بالغلامين ساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله, فأبي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما, ثم بناه مسجداً.
#300#
قال الواقدي حين حدث بنحو هذا عن معمر بن راشد, عن الزهري: وقال غير معمر, عن الزهري: فابتاعه بعشرة دنانير.
قال: وقال معمر عن الزهري: وأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يعطيهما ذلك.
وذكر غير الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه منهما بعشر أواق من (الذهب).
وقال أبو جعفر ابن جرير في "تاريخه": والصحيح في ذلك عندنا ما حدثنا مجاهد بن موسى, حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا حماد بن
#301#
سلمة, عن أبي التياح, عن أنس رضي الله عنه قال: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لبني النجار, وكان فيه نخل وحرث وقبور من قبور الجاهلية, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [«ثامنوني به», فقالوا: لا نبتغي به ثمناً إلا ما عند الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] بالنخل فقطع, وبالحرث فأفسد, وبالقبور فنبشت, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل ذلك في مرابض الغنم وحيث أدركته.
قال ابن جرير في "تاريخه": وتولى بناء مسجده صلى الله عليه وسلم هو (بنفسه) وأصحابه المهاجرون والأنصار.
وهذا قول الواقدي في "تاريخه" قال: وفيها – أي في السنة الأولى من الهجرة – بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بالمدينة, وكان يبنيه هو بنفسه في المهاجرين والأنصار.
قال محمد بن إسحاق الصاغاني: حدثنا (عبيد الله) بن عمر, حدثنا وكيع, حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي, حدثنا عمران بن أبي أنس, عن سهل ابن سعد قال: اختلف رجلان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى, قال أحدهما: هو المسجد الأعظم, وقال الآخر: هو مسجد قباء, قال: (فأتيا) النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «هو مسجدي هذا».
حدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" عن ابن إسحاق – هو الصاغاني.
#302#
وحدث به أبو محمد عبد بن حميد في "مسنده" فقال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة, حدثنا وكيع, عن ربيعة بن عثمان ... فذكره.
ورواه أبو بكر الروياني أيضاً في "مسنده": عن محمد بن معمر, حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد الله بن عامر, عن عمران بن أبي أنس, عن سهل بن سعد, عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى, قال: «هو مسجدي هذا».
تابعه أبو بكر ابن أبي خيثمة فرواه في "تاريخه" عن الفضل بن دكين.
خالفه عبد العزيز بن أبي حازم, فرواه عن عبد الله بن عامر, عن عمران بن أبي أنس, عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فذكر مثله, ولم يذكر سهل بن سعد.
#303#
وحدث به المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مدينة النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: حدثنا الزبير, حدثني أبو ضمرة أنس بن عياض, عن عبد الله بن عامر, عن عمران, عن سهل بن سعد, عن أبي بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله – يعني: بمثل ما رواه بالإسناد المذكور إلى عمران بن أبي أنس – قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري, عن أبيه: أن رجلين من الأنصار تماريا في المسجد الذي أسس على التقوى, فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «هو مسجدي».
وهو في "صحيح مسلم" من حديث حميد الخراط, قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن, قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري, قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه, فقلت: يا رسول الله, أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض, ثم قال: «هو مسجدكم هذا» لمسجد المدينة.
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن خليل بن أبي الحسن, أخبرتنا زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم, أنبأنا أحمد بن المفرج الأموي, أخبرنا
#304#
أبو القاسم علي بن الحسن الحافظ قراءة عليه وأنا أسمع, أخبرنا الشيخ أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك بن الحسين الأديب, أخبرنا أبو القاسم إبراهيم بن منصور بن إبراهيم – سبط بحرويه – أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن المقرئ, أخبرنا أبو سعيد المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي, حدثنا ابن أبي عمر, وسعيد – يعني: ابن عبد الرحمن أبا عبيد الله المخزومي – قالا: حدثنا سفيان, عن أبي الزناد, عن خارجة بن زيد, عن أبيه رضي الله عنه قال: المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خرجه النسائي, عن زكريا بن يحيى, عن محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني.
وحدث به المفضل في كتابه "فضائل المدينة" أيضاً: عن الزبير بن بكار القاضي, حدثنا أبو ضمرة, عن عبد الله بن عامر, عن أبي الزناد, بمثله.
#305#
وقال بشر بن السري: حدثنا سفيان الثوري, عن ثور, عن خالد بن معدان, عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذرعنا المسجد ثم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «(عريشاً) كعريش موسى, ثمام وخشيبات, والأمر أعجل من ذلك».
وقال المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل (المدينة)" – مدينة النبي صلى الله عليه وسلم -: حدثنا ابن أبي عمر, وسعيد, قالا: حدثنا سفيان, عن ثور بن يزيد, عن راشد بن سعد, قال: وجد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وأصحاباً له معهم قصبة أو جريدة يمسحون بها المسجد, فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله, لو بنينا مسجدنا هذا
#306#
على بناء مسجد الشام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجريدة أو القصبة وهجل بها – يعني: رمى بها – وقال: «خشيبات وثمام, وعريش كعريش موسى, (الأمر) أعجل من ذلك».
قال الزهري – فيما ثبت عنه -: وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه, ويقول – وهو ينقل اللبن -:
«هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر»
ويقول:
«اللهم إن الخير خير الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره»
#307#
"الحمال": - بالكسر – الأحمال, وبذلك فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا الحمال لا حمال خيبر» ومعناه: أن ثوابكم على بنيانكم هذا ثمر الجنة الذي لا ينفد, وهو الحمال لا حمال خيبر من التمر والزبيب والطعام.
وقال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير, [عن عروة بن الزبير], عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة, قال: حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة توكفنا قدومه, وذكر الحديث بطوله وفيه: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب رضي الله عنه حين بنى مسجده ومساكنه فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمون في العمل فيه, فعمل فيه المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم ودأبوا فيه, فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
قال ابن إسحاق: وارتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ:
#308#
لا يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائماً وقاعداً
ومن يرى عن الغبار حائداً
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عبد الله بن نمير, عن الأجلح, عن عبد الله بن أبي الهذيل, قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده جعل المسلمون يحملون, وجعل يحمل هو وعمار, فجعل عمار يرتجز ويقول:
نحن المسلمون نبني المساجدا
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المساجدا».
وقد كان عمار اشتكى قبل ذلك, فقال بعض القوم: ليموتن عمار اليوم, فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فنفض لبنته, وقال: «ويحك» – ولم يقل: ويلك – «يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».
وجاء عن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: كان بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسميط لبنة على لبنة ثم بالسعيدة لبنة ونصف أخرى, ثم كثروا
#309#
فقالوا: يا رسول الله, لو زيد فيه, ففعل, فبنى بالذكر والأنثي وهما لبنتان مختلفتان.
وفي رواية عن أحمد بن زكربا العابدي: حدثنا الزبير, عن محمد بن الحسن: أنه ضرب (لبنة) من بقيع الخبجبة ناحية بئر أبي أيوب بالمناصع.
قلت: وهو عن يسار بقيع الغرقد.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث محمد بن جابر, عن قيس بن طلق, عن أبيه, قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس مسجد المدينة فجعلت أحمل الحجارة كما يحملون, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم يا أهل اليمامة أحذق بأخلاط الطين, فاخلط لنا الطين» فكنت أخلط لهم الطين ويحملونه.
وخرج أيضاً [الطبراني] – رحمه الله -: من حديث ملازم بن
#310#
عمرو, حدثنا عبد الله بن بدر, عن قيس بن طلق, عن أبيه, قال: بنيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة فكان يقول: «مكنوا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له مسا».
ورواه أيوب بن عتبة, حدثنا قيس بن طلحة, عن أبيه,, قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يبنون المسجد, فلما رأيت عملهم أخذت (المسحاة) فخلطت بها الطين فكأنه أعجبه صلى الله عليه وسلم أخذي المسحاة وعملي, فقال: «دعوا الحنفي والطين فإنه أضبطكم للطين».
وقال أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي, وأبو القاسم بن منيع, ومحمد بن إبراهيم بن أبان السراج: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني, حدثنا حشرج بن نباتة, حدثنا سعيد بن جمهان, عن سفينة, قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع حجراً ثم قال: «ليضع أبو بكر حجراً إلى حجري, ثم ليضع عمر حجراً [إلى حجر] أبي
#311#
بكر, ثم ليضع عثمان [حجراً] إلى حجر عمر», ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي».
وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده", فقال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني فذكره.
#312#
خالفهم أحمد بن يحيى بن سهل فرواه أبو (عبيد الله) محمد بن عطية في كتابه "الخلافة" عنه عن يحيى الحماني بسنده, عن سفينة, قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فوضع حجراً .... وذكر الحديث بنحوه.
لم يذكر في هذا الحديث مسجد قباء أحد ممن رواه عن الحماني إلا أحمد بن يحيى – فيما أعلم – والله أعلم.
وجاء من رواية سويد بن سعيد ومنصور بن أبي مزاحم, قالا: حدثنا خالد الزيات, عن زرعة بن (عمرو), عن أبيه, وكان رابع أربعة ممن دفن عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الدار بعد العتمة, قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «انطلقوا بنا إلى أهل قباء (نسلم) عليهم» فلما أتاهم فسلم عليهم رحبوا به, فقال: «يا أهل قباء, ائتوني بحجارة من هذه الحرة», فجمعت عنده, فخط قبلتهم, فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً
#313#
فوضعه, ثم قال: «يا أبا بكر, خذ حجراً فضعه إلى جنب حجري» ثم قال: «يا عمر, خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر» ففعل, ثم قال: «يا عثمان, خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر» ففعل ثم التفت إلى الناس بآخرة, فقال: «وضع رجل [حجره] حيث أحب على هذا الخط».
تابعهما أسود بن عامر, عن خالد, وقال: عن زرعة بن عمرو مولى خباب.
وقال محمد بن داود بن [أبي] ناجية الإسكندراني: حدثنا زياد ابن يونس, حدثني نافع بن أبي نعيم القارئ, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد أخذ لبنة فوضعها فتبعه أبو بكر, ثم تبعه عمر, ثم تبعه عثمان, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «هكذا تكونون بعدي».
قال أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو بن مهدي النقاش: لا أعلم أحداً رواه عن نافع غير زياد بن يونس, وهذا من باب الذي قبله في الضعف.
ومن ضربه ما قال الطبراني في "معجمه الكبير" حدثنا أبو غسان
#314#
أحمد بن سهل السكري الأهوازي, حدثنا يزيد بن حكيم العسكري.
حدثنا سعيد بن مسلمة, عن ليث، عن زياد بن أبي المليح, عن أبيه [أبي المليح, عن أبيه]: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة وكان صاحبها رجلا من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لك بها بيت في الجنة» فقال: لا, فجاء عثمان رضي الله عنه فقال له: لك بها عشرة آلاف فاشتراها منه, ثم جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: / يا رسول الله, اشتر مني البقعة بالذي اشتريتها من الأنصاري, فاشتراها منه ببيت في الجنة, فقال عثمان: إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم, فوضع النبي صلى الله عليه وسلم لبنة ثم دعا أبا بكر رضي الله عنه فوضع لبنة. ثم دعا عمر رضي الله عنه فوضع لبنة، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فوضع لبنة, ثم قال للناس: «ضعوا» فوضعوا.
سعيد وزياد ضعيفان.
وقال أبو عبد الله الواقدي – في ذكر المربد الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجداً – قال: [وقال] معمر, عن الزهري: وكان جداراً (مجدراً) ليس عليه سقف, وقبلته إلى بيت المقدس, كان أسعد بن زرارة بناه وكان (يصلى فيه بأصحابه, ويجمع) بهم فيه الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل التي في الحديقة
#315#
وبالغرقد الذي فيه أن يقطع, وأمر باللين فضرب وكان في المربد قبور جاهلية فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبشت وأمر بالعظام أن تغيب, وكان في المربد ماء (مستنجل) فسيروه حتى ذهب, وأسسوا المسجد فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع.
ويقال: كان أقل من المائة وجعلوا الأساس قريباً من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثم بنوه باللبن وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وجعل ينقل الحجارة بنفسه وهو يقول:
«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره»
وجعل يقول:
«هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر»
وجعل قبلته إلى بيت المقدس, وجعل له ثلاثة أبواب: باباً في مؤخره, وباباً يقال له: باب الرحمة وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة, والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الباب الذي يلي [آل] عثمان, وجعل طول الجدار بسطة, وعمده الجذوع,
#316#
وسقفه جريداً.
وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا يونس بن حبيب, [حدثنا أبو داود] حدثنا عبد الله بن نافع, عن أبيه, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى المسجد جعل باباً للنساء, فقال: «لا يلجن من هذا الباب من الرجال أحد», قال نافع: فما رأيت ابن عمر داخلاً من ذلك الباب ولا خارجاً منه.
وقال (أبو) إسحاق إبراهيم بن أبي داود: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, عن أيوب, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو تركنا هذا الباب للنساء» قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات رضي الله عنه.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": لأبي معمر عبد الله ابن عمرو المنقري المقعد, عن عبد الوارث بن سعيد, وهو من أفراده.
#317#
$ولما استخلف أبو بكر رضي الله عنه لم يحدث في المسجد شيئاً ووسعه عمر رضي الله عنه$
قال أبو نعيم: حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن سيار بن (معرور), سمعت عمر رضي الله عنه وهو يخطب الناس فقال: يا أيها الناس, إن هذا المسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه – المهاجرون والأنصار – فصلوا فيه, فمن لم يجد منكم مكاناً فليسجد على ظهر أخيه.
#318#
تابعه محمد بن عيسى الوابشي, عن [أبي] الأحوص, نحوه.
رواه عنهما أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" (فقال): قال لنا أبو نعيم الفضل بن دكين – حين حدثنا بهذا الحديث -: هو سيار بن مغرور أخطأ فيه – يعني – (أراد) أن أبا الأحوص أخطأ.
قلت: وتابعه يحيى بن معين, فقال: أخطأ فيه أبو الأحوص – يعني حين قاله بالعين المهملة – وإنما هو ابن مغرور [الكندي] بالمعجمة.
وقال البخاري في "تاريخه الكبير" قال لنا أبو نعيم: [هو ابن مغرور الكندي].
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً وهو في مصلاه في المسجد: «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة, فلما ولي عمر رضي الله عنه, وأراد الزيادة أجلسوا رجلاً في المصلى, ثم رفعوا يده وخفضوها, ثم جيء بمقط
#319#
- يعني خيطاً – فوضعوا طرفه بيد الرجل, ثم مدوه, فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك شبيه بما أشار به النبي صلى الله عليه وسلم فكان موضع جدار عمر في القبلة.
وجاء أن عمر رضي الله عنه كلم العباس في بيع داره ليزيدها في المسجد.
قال المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل المدينة": حدثنا ابن أبي عمر, وسعيد قالا: حدثنا سفيان, عن بشر بن عاصم, قال: أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان للعباس بن عبد المطلب دار إلى جنبه, فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بعنيها, فقال العباس: لا أبيعها, فقال عمر: إذن آخذها, فقال العباس: لا تأخذها, قال: فاجعل بيني وبينك من شئت, قال: فجعلا بينهما أبي بن كعب فأتياه فأخبراه الخبر, فقال أبي: إن الله عز وجل أوحى إلى سليمان بن داود – عليهما السلام – أن ابن بيت المقدس وكانت أرضاً لرجل فاشتراها منه سليمان, فلما باعه إياها قال له الرجل: هذا خير أو ما أعطيتني؟, (فقال): بل ما أخذت منك (خير), قال: فإني لا أجيزه, وناقضه البيع, ثم اشتراها الثانية, فقال له مثل ذلك, فقال: بل هذه خير, فناقضه البيع, ثم اشتراها الثالثة, فصنع مثل ذلك حتى قال له سليمان بن داود: احتكم بما شئت
#320#
على أن لا تسألني غيره, قال: فاحتكم (اثني) عشر ألف (قنطاراً) من ذهب, فاستكثر ذلك سليمان واستعظمه [قال]: فأوحى (الله عز وجل إليه): إن كنت تعطيه من عندك فذاك, وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى. قال أبي بن كعب: فإني أراها للعباس, فقال العباس رضي الله عنه: أما إذ قضيت لي بها فقد جعلتها صدقة للمسلمين.
#321#
$ [أمر عمر رضي الله عنه بالمسجد أن يبسط بحصباء العقيق] $
وعمر رضي الله عنه أول من بطح المسجد من حصباء العقيق, كان الناس إذا رفعوا من السجود (نفضوا) أيديهم, فأمر عمر بالحصباء فجيء به من العقيق فبسط في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث سفيان بن عيينة, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: أول من بطح المسجد – يعني: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم – عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ابطحوا من الوادي المبارك.
رواه ابن صاعد فقال: حدثنا سعيد بن عبد الرحمن, حدثنا سفيان فذكره.
وخرجه الجندي في "فضائل المدينة" فقال: حدثنا ابن أبي عمر وسعيد, قالا: حدثنا سفيان. فذكره.
وقوله: "الوادي المبارك": - يعني وادي العقيق – كما جاء تسميته بذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بات بالعقيق في حجته: «أتاني الليلة آت
#322#
من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك, وقل عمرة في حجة».
وقال يعقوب بن محمد الزهري: حدثني عمر بن عثمان التيمي, حدثنا أيوب بن سلمة المخزومي, حدثنا عامر بن سعد, عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – وذكر العقيق فقال: «ما ألين موطئه وأعذب ماءه!».
وأصل مسيل العقيق كما ذكره الإمام أبو بكر بن الحسين المراغي في كتابه "معالم المدينة" من النقيع – بالنون – قبلي المدينة الشريفة بينه
#323#
وبين قباء مقدار يوم ونصف, وهو معروف في طريق المشيان ويصل إلى بئر علي العليا المعروفة – بالخليقة – يالقاف وأوله خاء معجمه مفتوحة بعدها لام مكسورة – ثم يأتي على غربي جبل عير, ويصل إلى بئر على ذي الحليفة محرم الحجاج, ثم يأتي مشرفاً إلى قريب الحرة التي يطلع منها إلى المدينة, ثم يعرج يساراً ومن بئر المحرم ذي الحليفة يسمى العقيق.
ويقال العقيق الأكبر والعقيق الأصغر, قال بعضهم: الأصغر به بئر رومة, والأكبر قريب منه من بلاد مزينة, بئر عروة وهو الذي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث, ثم أقطعه عمر رضي الله عنه الناس.
ثم إن عثمان رضي الله عنه بناه في خلافته في سنة تسع وعشرين بالحجارة والقصة, وجعل عمده حجارة وسقفه بالساج, وزاد فيه ووسعه, جعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع, وجعل أبوابه كما كانت زمن عمر رضي الله عنه ستة أبواب ونقل إليه الحصباء من العقيق.
#324#
وكان أول من اتخذ في المسجد المقصورة مروان بن الحكم, بناها بحجارة منقوشة, ثم لم يحدث فيه شيئاً إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد أبيه, فكتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو عامله على المدينة يأمره بهدم المسجد وبنائه, وبعث إليه بمال ورخام وفسيساء – وهي فيما قاله الزبيدي في "مختصر العين": ألوان مؤلفة من الخرز تركب في الحيطان – وبعث إليه بثمانين صانعاً من الروم والقبط من أهل الشام ومصر فبناه وزاد فيه, وولي القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان, وذلك في سنة سبع وثمانين, وقيل: في سنة ثمان وثمانين ثم لم يحدث فيه أحد من الخلفاء شيئاً حتى استخلف المهدي.
قال الواقدي: بعث المهدي عبد الملك بن شبيب الغساني ورجلاً من
#325#
ولد عمر بن عبد العزيز إلى المدينة لبناء مسجدها والزيادة فيه, وعليها يومئذ جعفر بن سليمان بن علي, فمكثا في عمله سنة وزاد في مؤخره مائة ذراع, فصار طوله ثلاثمائة ذراع وعرضه مائتي ذراع.
وقال علي بن محمد المدائني: ولى المهدي جعفر بن سليمان مكة والمدينة واليمامة, فزاد في مسجد مكة ومسجد المدينة فتم بناء مسجد, المدينة في سنة اثنتين وستين ومائة, وكان المهدي أتى المدينة في سنة ستين قبل الحجر (فأمر) بقلع المقصورة وتسويتها مع المسجد.
قال أبو داود في "المراسيل": حدثنا محمد بن سلمة المرادي, حدثنا ابن وهب, عن ابن لهيعة, أن بكير بن الأشج حدثه: أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع أهلها تأذين بلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلون في مساجدهم, أقربها مسجد بني عمرو بن مبذول من بني النجار, ومسجد بني ساعدة, ومسجد بني عبيد, ومسجد بني سلمة, ومسجد بني
#326#
راتج, من بني عبد الأشهل, ومسجد بني زريق, ومسجد بني غفار, ومسجد أسلم, ومسجد جهينة, ويشك في التاسع.
وخرجه الدارقطني في "سننه": من طريق أبي داود.
#327#
$ [من فضائل المسجد النبوي] $
وحدث محمد بن يحيى المروزي, عن عاصم بن علي, حدثنا سليمان بن كثير, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام؛ لأني آخر الأنبياء وهو آخر المساجد» أو «أحد المساجد», شك عاصم.
#328#
وقال مكي بن إبراهيم: حدثنا موسى بن عبيدة, عن داود بن مدرك, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا خاتم الأنبياء ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء, وأحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل مسجد الحرام ومسجدي, صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام».
وحدث العباس, ثنا حمزة بن عبد الرحيم بن حبيب, حدثنا داود بن
#329#
عجلان, حدثنا إبراهيم بن أدهم, عن مقاتل بن حيان, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة في مسجد الحرام مائة ألف صلاة, والصلاة في مسجدي عشرة آلاف صلاة, والصلاة في مسجد الرباطات ألف صلاة».
وله طريق أخرى أشد ضعفاً من هذه رواها هاشم بن القاسم الحراني: حدثنا محمد بن عجلان الملطي, عن سعيد بن ميسرة, عن أنس بن مالك مرفوعاً بمعناه.
وجاء عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي كان يمنزلة حجة».
#330#
وحدث خبيب بن عبد الرحمن, عن حفص بن عاصم, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة, ومنبري على حوضي» متفق عليه من حديث عبيد الله بن عمر, عن خبيب.
وحدث به موسى بن إسماعيل التبوذكي, عن حماد بن سلمة, أخبرنا عبيد الله بن عمر, وسهيل بن أبي صالح, عن أبي صالح, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منبري هذا على ترعة من ترع الجنة, وما بين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة».
وهو عند حماد بن سلمة فيما رواه التبوذكي, وعفان عنه, عن علي بن زيد, عن علي بن الحسين: أن رسول الله صلىالله عليه وسلم , قال: «ما بين منبري وبين حجرتي روضة من رياض الجنة».
#331#
وله شاهد من حديث سعد بن أبي وقاص, وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني, وأم سلمة رضي الله عنهم.
قال الإمام أبو بكر بن الحسين المراغي نزيل المدينة الشريفة في كتابه "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة": وينبغي اعتقاد كون الروضة الشريفة [لا تختص] بما هو معروف الآن بل تتسع إلى حد بيوته صلى الله عليه وسلم من ناحية الشام, وهو آخر المسجد في زمنه صلى الله عليه وسلم فيكون كله
#332#
روضة, وهذا إذا فرعنا على أن المفرد المضاف (للعموم), وقد رجحه في كتب الأصول جماعة, فإضافة بيته المكرم إلى نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم يعم كل بيت له, وقد كانت بيوته خارجة من المسجد مديرة به إلا من جهة الغرب, وكانت أبوابها شارعة في المسجد كما نقله ابن النجار, عن أهل السير, والله أعلم.
قلت: آخر المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم معروف إلى (أن) أعلموه بحجر [أسود ملقى في المسجد من جهة الشام بين الحصباء, تجاه الحجر المبني لمعرفة الأوقات إلى جهة القبلة., والله أعلم].
#333#
$ [إرساله صلى الله عليه وسلم إلى عياله بمكة ليقدموا عليه المدينة] $
ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أرسل إلى عياله بمكة ليقدموا عليه.
روي عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: متى بنى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لما هاجر إلى المدينة بعث إلينا زيد بن حارثة, وبعث معه أبا رافع مولاه, وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم – أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي – يشتريان بها ما يحتاجان إليه من الظهر, وبعث معهما عبد الله بن أريقط الديلي ببعيرين أو بثلاثة, وكتب إلى أخي عبد الرحمن يأمره أن يحمل أهله أي أم رومان وأختي أسماء وأنا, فاشترى زيد بتلك الخمسمائة ثلاثة أبعرة, ثم دخلوا مكة, فصادفوا طلحة بن عبيد الله يريد الهجرة بآل أبي بكر, فخرجنا جميعاً, وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة, وحمل زيد أم أيمن وأسامة بن زيد, فلما قدمنا المدينة نزلت مع عيال أبي بكر, وبقيت أياماً, وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم البناء بي وأصدقني أثنتي عشرة أوقية ونشا [- أي نصفاً -] وبنى بي في بيتي هذا, وهو الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم.
#334#
وحدث به الزبير بن بكار مطولاً, فقال: حدثنا محمد بن حسن المخزومي, عن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفنا وخلف بناته, فلما استقر بعث زيد بن حارثة وبعث معه أبا رافع مولاه, وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم أخذها من أبي بكر رضي الله عنه يشتريان بها ما يحتاجان إليه من الظهر, وبعث أبو بكر معهما عبد الله بن أريقط ببعيرين أو ثلاثة، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل أمي أم رومان وأني وأختي (وكذا) أسماء امرأة الزبير فخرجوا (مصطحبين), فلما انتهوا إلى قديد اشترى زيد بن حارثة بتلك الخمسمائة درهم ثلاثة أبعرة, ثم دخلوا مكة جميعاً فصادفوا طلحة بن عبيد الله يريد الهجرة, فخرجوا جميعاً وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة, وحمل زيد أم أيمن وأسامة حتى إذا كنا بالبيداء نفر بعيري وأنا في محفة ومعي فيها أمي, فجعلت أمي تقول: وابنتاه واعروساه حتى أدرك بعيرنا, وقد هبط الثنية – ثنية هرشا, فسلم إليه ثم إنا قدمنا المدينة, فنزلت مع آل أبي بكر ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم معه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجده وأبياتاً حول المسجد فأنزل فيها أهله فمكثا أياماً, ثم قال أبو بكر: يا رسول الله, ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: «الصداق» فأعطاه أبو بكر [رضي الله عنه] اثنتي عشرة أوقية ونشا, فبعث بها إلينا وبنى
#335#
بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا الذي أنا فيه, وهو الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم، وأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة أحد تلك البيوت (فكان) يكون عندها ... وذكر الحديث.
وذكر الواقدي في "تاريخه": أنهم حين قدموا المدينة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد وأبياتاً حول المسجد, فأنزلهم في بيت لحارثة بن النعمان.
وذكر أيضاً: أن أبا رافع وزيداً اشتريا بتلك الخمسمائة ثلاثة أبعرة بقديد.
قال الواقدي في غير "التاريخ": وكانت لحارثة بن النعمان منازل قرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله فكلما أحدث رسول الله أهلاً تحول له حارثة بن النعمان عن منزله حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضي الله عنهن.
#336#
وقال أيضاً: حدثني إبراهيم بن شعيب, عن يحيى بن شبل, عن أبي جعفر قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وتزوج علي (فاطمة) وأراد أن يبني بها, قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطلب منزلاً», فطلب علي منزلاً فأصابه مستأخراً عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً, فبنى بها فيه, فجاء النبي صلى الله عليهوسلم إليها, قال: «إني أريد أن أحولك إلي», فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فكلم حارثة بن النعمان أن يتحول عني – تريد أن يتحول إلى غير منزله – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فد تحول حارثة عنا حتى استحييت» فبلغ حارثة رضي الله عنه فتحول, وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, بلغني أنك تحول فاطمة إليك, وهذه منازلي وهي أسقب بيوت بني النجار, وإنما أنا ومالي لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم, والله يا رسول الله, للذي تأخذ مني أحب إلي من الذي تدع, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدقت بارك الله عليك» فحولها إلى بيت حارثة رضي الله عنه.
#337#
$ [كيف كانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم] $
كانت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلها في الشق الأيسر إذا قمت إلى الصلاة إلى وجه الإمام في وجه المنبر فهذا أبعده.
قاله أبو الرجال, عن أمه عمرة.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, عن عبد الله بن عامر الأسلمي, قال لي أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو في مصلاه فيما بين الأسطوان التي تلي حرف القبر التي تلي الأخرى إلى طريق [باب] رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا [بيت] زينب بنت جحش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه, وهذا الصف كله إلى باب أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد [الله] بن عباس اليوم إلى رحبة المسجد فهذه بيوته صلى الله عليه وسلم التي رأيتها بجريد قد طرت بالطين عليها مسوح الشعر.
وقال أيضاً: أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا عبد الله بن يزيد
#338#
الهذلي, قال: رأيت بيوت أزواج (رسول الله) صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز كانت بيوتاً باللبن ولها حجر من جريد مطرور بالطين عددت تسعة أبيات بحجرها وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى منزل أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس, ورأيت بيت أم سلمة وحجرتها من لبن, فسألت ابن ابنها, فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة دومة, بنت أم سلمة حجرتها بلبن فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن, فدخل عليها أول نسائه, فقال: «ما هذا البناء؟» فقالت: أردت – يا رسول الله – أن أكف أبصار الناس, فقال: «يا أم سلمة, إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان».
وقال: أخبرنا ابن عمر فحدثت بهذا الحديث معاذ بن محمد الأنصاري, فقال: سمعت عطاء الخراساني – في مجلس فيه عمران بن أبي أنس – يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ, يأمر بإدخال حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أكثر باكياً من ذلك اليوم.
قال عطاء: (سمعت) سعيد بن المسيب يقول يومئذ: والله لوددت
#339#
أنهم تركوها على حالها ينشأ ناشئ من أهل المدينة, ويقدم القادم من الأفق فبرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها – يعني: في الدنيا.
قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن لها حجر من جريد, وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها, على أبوابها مسوح الشعر, ذرعت الستر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع والعظم أو أدنى من العظم.
فأما ما ذكر من كثرة البكاء يومئذ, فلقد رأيتني في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن, وأبو أمامة بن سهل بن حنيف, وخارجة بن زيد بن ثابت, وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمع, وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تركت فلم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء ويرون ما رضي الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الدنيا بيده.
وقال حماد بن إسحاق: حدثنا أحمد بن المعدل, عن محمد بن (مسلمة), عن مالك بن أنس, أنه قال: رأيت بعض أهل العلم يقولون: وددنا أنهم كانوا لما بنوا مسجد المدينة وأحاطوا الحائط على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا (تركوا) أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم التسع حتى يراها الناس قد اتخذت بالجريد والمسوح فيعتبرون بذلك, ويقولون: هذا أكرم الخلق على الله عز وجل رضي من الدنيا بهذا.
#340#
ونحسب عمر بن عبد العزيز وهو الذي كان بنى المسجد للوليد لم يدعها على حالها لعلمهم بأنها كانت تدرس وتذهب ولا تبقى.
وقال محمد بن مقاتل المروزي: أخبرنا عبد الله بن المبارك, حدثني حريث بن السائب, سمعت الحسن – يعني البصري – رحمة الله عليه – قال: كنت أدخل بيوت أزواج (رسول الله) صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي.
وفي رواية: وأنا غلام مراهق.
وخرجه أبو داود في "المراسيل": عن غسان بن الفضل, عن ابن المبارك مثله.
وحدث أيضاً في الكتاب: عن غسان بن الفضل, عن ابن المبارك, عن داود بن قيس – هو الفراء مولى قريش – قال: رأيت الحجرات من جريد مغشى من خارج بمسوح الشعر ... وذكر بقيته.
قال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا عبد الرحمن بن شيبة, أخبرني ابن أبي فديك, حدثني موسى بن يعقوب, عن عبد الرحمن بن إسحاق: أن هشام بن عروة أخبره: أن عروة أخبره، أن عائشة أخبرته.
#341#
فلما حضرت سودة الوفاة أوصت لعائشة ببيتها, قالت: فلما حضرت صفية بنت حيي الوفاة أرسلت إلى عائشة أنها معطيتها مسكنها فأبت عائشة على صفية, فلما هلكت صفية قبض علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب تركتها وكان في حجرها, فباع علي بن عبد الله المسكن من معاوية بمائة ألف.
وذكر محمد بن عمرو بن عطاء العامري: أن أولياء صفية باعوا بيتها من معاوية بمائة وثمانين ألف درهم, وأن سودة أوصت ببيتها لعائشة – رضي الله عنهن.
وجاء أن بيت عائشة اشتراه منها معاوية بمائة وثمانين ألف درهم, وقيل بمائتي ألف درهم, وشرط لها سكناها حياتها, وحمل إليها المال فما رامت مجلسها حتى قسمته.
وقيل اشتراه ابن الزبير من عائشة, بعث إليها فيما قيل خمسة أجمال بخت تحمل المال, وشرط لها سكناها حياتها فما برحت حتى قسمت ذلك, فقيل لها: لو خبأت منه درهماً, فقالت عائشة رضي الله عنها: لو ذكرتموني فعلت.
#342#
وأما بيت حفصة تركته بعدها فورثه ابن عمر فلم يأخذ له ثمناً, وهدم وأدخل في المسجد. قاله سالم.
وبيت أم سلمة كان بيت زينب بنت خزيمة فلما توفيت أدخل أم سلمة في بيتها, فذكر عكرمة أن ورثة أم سلمة باعوا بيتها بمال, وقيل: لم يبع.
قال أبو داود في "المراسيل": حدثنا عبد الله بن محمد وعلي بن سهل الرمليان, قالا: حدثنا الوليد, عن عبد الله بن العلاء, عن عطية ابن قيس, قال: كان حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بجريد النخل فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مغزى له وكانت أم سلمة موسرة فجعلت مكان الجريد لبناً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟» قالت: أردت أن أكف عني أبصار الناس فقال: «يا أم سلمة, إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان».
#343#
$ [هدايا الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم] $
وكانت الأنصار لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم يهدون إليه حيث ما دار في بيوت أزواجه:
قال يعقوب بن حميد: حدثنا سفيان بن حمزة, عن كثير بن زيد, عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي, عن أبيه, قال: كان طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على أصحابه على هذا ليلة وعلى هذا ليلة, فدار علي, فعملت طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذهبت به فتحرك النحي فأهريق ما فيه, فقلت: على يدي أهريق طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس», فقلت: لا أستطيع يا رسول الله, فرجعت فإذا النحي يقول: قب قب, فقلت: فضلة فضلت فيه, فاختبرته, فإذا هو قد ملئ إلى يديه فأوكيته, ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, فقال: «أما إنك لو تركته لملئ إلى فيه فأوكه».
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني موسى بن يعقوب, عن عمته, عن أم سلمة رضي الله عنها, قالت:: كانت الأنصار الذين يكثرون إلطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم: سعد بن عبادة, وسعد بن معاذ, وعمارة بن حزم, وأبو أيوب؛ وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يمر يوم إلا ولبعضهم هدية تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث دار وجفنة سعد بن عبادة تدور حيث دار لا يغبها كل ليلة.
#344#
وقال أيضاً: أخبرنا محمد بن عمر, حدثنا سعيد بن محمد بن زيد, سألت عمارة بن غزية وعمرو بن يحيى بن جفنة سعد بن عبادة فقالا: كانت مرة بلحم, ومرة بسمن, ومرة بلبن يبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلما دار دارت معه الجفنة.
وخرج أبو بكر أحمد بن مروان بن محمد الدينوري في كتابه "المجالسة": عن إبراهيم بن حبيب, حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا الهيثم, حدثني معن بن بشير, عن أبيه, عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصحفة أو جفنة مملوءة مخاً, فقال: «يا أبا ثابت, ما هذا؟!», فقال: والذي بعثك بالحق لقد نحرت أو ذبحت أربعين ذات كبد فأحببت أن أشبعك من المخ, قال: فأكل ودعا له [النبي] صلى الله عليه وسلم بخير.
قال إبراهيم بن حبيب: سمعت أن الخيزران حدثت بهذا الحديث فقسمت قسماً من مالها على ولد سعد بن عبادة، وقالت: أكافئ به ولد سعد بن عبادة عن فعله برسول الله صلى الله عليه وسلم.
#345#
$ [وعك الصحابة رضي الله عنهم عند قدومهم المدينة] $
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت من أوبأ أرض الله بالحمى, فوعك أبو بكر وبلال وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.
روينا عن ابن إسحاق قال: وذكر ابن شهاب الزهري, عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عله وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضاً, وصرف ذلك عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى كانوا ما يصلون إلا وهم قعود, قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك, فقال لهم: «اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» قال: فتجشم المسلمون القيام على ما هم فيه من الضعف والسقم التماس الفضل.
وحدث أبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد الكوفي الحافظ, عن هشام, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته, (ويقول):
#346#
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
[وقال]: «(اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد, اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا وصححها لنا, وانقل حماها إلى الجحفة» قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله, قالت: فكان بطحان يجري نجلاً.
تابعه سفيان الثوري عن هشام, وله طرق.
وقولها "يجري نجلاً": هو بالإسكان, رواه بعضهم بالتحريك [وهو] وهم, أي: ماء نزا, فالنجل: النز, وهو ما تحلب من الأرض من ماء.
وقال أبو زيد: النجل: الماء حين يسيل.
ووقع في "صحيح البخاري" تفسيره تعني ماء آجناً وعددهما, لكنه
#347#
يحتمل أنه أراد وصف النجل بالتغيير, (وعبر) عن النجل بالماء فقال: تعني ماء آجناً.
وحدث بهذه القصة ابن إسحاق, فقال: وحدثني هشام بن عروة, عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم, وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم, قالت: وكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر مع أبي بكر في بيت واحد, فأصابتهم الحمى, فدخلت (عليهم) أعودهم – وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب –وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك, فدنوت من أبي بكر, فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: قلت: والله ما يدري أبي ما يقول.
قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة, فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه
وذكر بقية القصة.
#348#
ورواها أحمد بن حنبل في "مسنده": من طريق ابن إسحاق, [فقال: حدثنا يونس, حدثنا ليث, عن يزيد – يعني ابن أبي حبيب – عن أبي بكر بن إسحاق] بن يسار, عن عبد الله بن عروة, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اشتكى أصحابه, واشتكى أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر وبلال, فاستأذنت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم في عيادتهم, فإذن لها, فقالت لأبي بكر: كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
وسألت عامراً, فقال:
إني وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
وسألت بلالاً, فقال:
يا ليت (شعري) هل أبيتن ليلة ... بفج وحولي إذخر وجليل
#349#
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم, فأخبرته بقولهم, فنظر إلى السماء, (وقال): «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد, اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها, وانقل وباها إلى مهيعة» وهي الجحفة كما زعموا.
وحدث سليمان بن بلال, عن موسى بن عقبة, عن سالم بن عبد الله, عن أبيه, رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى أقامت بمهيعة» وهي الجحفة – "فأولت أن وباء المدينة نقل إليها".
تابعه فضيل بن سليمان, عن موسى.
وضرب المثل لذهاب الوباء بخروج (السوداء) لحكمة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان داعياً في ذهاب الوباء عن المدينة وانتقاله إلى الجحفة لكون المشركين بها حينئذ, وكان يتوقع الإجابة, ويتوكف بلوغ الأمل منها, فلما رأى هذه الرؤيا ردها إلى ما كان ينتظر, قاله الإمام أبو بكر ابن العربي في "شرح الترمذي".
وكذا وقعت هذه الرؤيا فإن الوباء نقل من المدينة وحسمت مادة الطاعون منها فلا يدخلها طاعون أبداً.
ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال».
#350#
وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها, أو يقتل صيدها».
وقال: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون, لا (يدعها) أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه, ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة».
وفي رواية في هذا الحديث: «ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء».
وجاء عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلىوسلم عليه أشرف على المدينة, فرفع يديه حتى (رؤيت) عفرة أبطية, ثم قال: «اللهم من أرادني وأهل بلدي بسوء فعجل هلاكه».
وفي هذا تسمية المدينة ببلد الرسول صلى الله عليه وسلم.
#351#
$ [فضل المدينة المشرفة وأسماؤها] $
وأسماء المدينة كثيرة وردت في أحاديث وآثار.
قال عبد العزيز بن محمد الدراوردي: وبلغني أن لها في التوراة أربعين اسماً.
قلت: والذي وقع لي من أسمائها ما رتبته هنا, وهو: أرض الهجرة, أكالة البلدان, البحرة, بلد الرسول صلى الله عليه وسلم, الحبيبة, الخيرة, الدار, دار الإيمان, دار الهجرة, دار السنة, الشافية, طابة, طيبة, طيّبة – بالتشديد – ظبايا, العاصمة, العذراء, القاصمة, قبة الإسلام, المباركة, المجبورة, المحبة, المختارة, المدينة, المرحومة, المرزوقة, المسكينة, المقدسة, الموفية, الهذرا, يثرب, يلندد, يندد.
وقد كره غير واحد من العلماء تسميتها بيثرب.
وقال عيسى بن دينار الخزاعي: من سماها يثرب كتبت عليه
#352#
خطيئة.
وكأنه – والله أعلم – أخذ هذا من حديث البراء بن عازب الذي خرجه الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا إبراهيم بن مهدي, حدثنا صالح بن عمر, عن يزيد بن [أبي] زياد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن البراء رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هي طابة هي طابة».
وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا محمد بن إسحاق, حدثنا (أحمد) بن إبراهيم الموصلي, حدثنا صالح بن عمر, عن يزيد بن أبي زياد .... فذكره بنحوه.
وخرجه أبو سعيد المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي اليمني في
#353#
كتابه "فضائل المدينة" فقال: [حدثنا ابن أبي عمر وسعيد, قالا:] حدثنا سفيان, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله ثلاثاً, هي طيبة» مرتين.
وأما تسميتها في القرآن بهذا الآسم في قوله تعالى: {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب} فهذا حكاية حكاها الله تعالى عن غير المؤمنين.
قيل: عن أبي عرابة أوس بن قيظي.
وفي "يثرب": لغة في إبدال الياء همزة مفتوحة والباقي سواء: "أثرب".
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: يثرب اسم أرض, ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية منها.
#354#
وقال غيره: إن هذا الاسم – يعني يثرب – يطلق الآن على أرض غربي مشهد حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشرقي الموضع المعروف بالبركة مصرف عين الأزرق وتسميها الحجاج: "عيون حمزة".
وحكى رزين بن معاوية الأندلسي في "أخبار دار الهجرة": أن يثرب أسم أبي عبيل.
وقال غيره: نزل المدينة رجل من العماليق اسمه يثرب بن عبيل فسميت به.
وقال أبو سعيد الجندي في كتابه "فضائل المدينة": حدثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي, حدثنا عبد الله بن نافع, عن محمد بن عبد الرحمن العامري, عن يحيى بن سعيد, عن عمرة بنت عبد الرحمن, قالت: خطب مروان بن الحكم بمكة فذكر مكة وفضلها فأطنب فيها, ورافع بن خديج عند المنبر, فقال: ذكرت مكة وفضلها وهي على ما ذكرت, ولم أسمعك ذكرت المدينة, أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المدينة أفضل من مكة».
تابعه يعقوب بن حميد بن كاسب, عن محمد بن عبد الرحمن – وهو ابن الرداد المديني – من ولد ابن أم مكتوم, وهو لين تفرد بهذا
#355#
الحديث, وهو غير محفوظ.
#356#
$ [ما جاء في أن غبار المدينة أمان من الجذام] $
ومن خصائص المدينة ما ذكره صاحب كتاب "صورة الأرض والأقاليم" الذي صنفه لأبي السري الحسن بن الفضل بن أبي السري الأصبهاني, قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن غبار المدينة أمان من الجذام.
قال: ومن أقام بها وجد في مائها وهوائها رائحة ليست في الأراييح طيباً خلقة فيها وجوهرية لا تتغير, وهي أنقى طيباً من الطيب بنيسابور, وألذ نسيماً من نهر الأبلة ولا تتغير المعجونات والطيب بها ما أقاما.
قلت: والحديث الذي ذكره جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلىعليه وسلم لما دنا من المدينة منصرفه من تبوك خرج إليه فتلقاه أهل المدينة من المشايخ والغلمان فثار من آثارهم غبرة, فخمر بعض من كان مع
#357#
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفه عن الغبار, فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده, فأماطه عن وجهه, وقال: «أما علمت أن عجوة المدينة شفاء من السقم, وغبارها شفاء من الجذام».
خرجه أبو الحسن رزين بن معاوية بن عمار الأندلسي في (كتابه) "أخبار دار الهجرة".
وقال أبو نعيم الأصبهاني في كتاب "الطب": أخبرنا أحمد بن محمد, حدثنا عيسى بن زكريا, حدثنا عمير بن مرداس, حدثنا محمد بن بكير, حدثنا القاسم بن عبد الله العمري, عن أبي بكر بن محمد, عن سالم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غبار المدينة يبرئ من الجذام».
وخرج في الكتاب من حديث أبي غزية محمد بن موسى, عن عبد العزيز بن عمران, عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن
#358#
خارجة, عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس, عن أبيه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غبار المدينة شفاء من الجذام».
ومن حديث موسى بن يعقوب الزمعي, حدثني الزبير بن عبد الله بن رهيمة, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فقال: «والله إن تربتها ميمونة».
#359#
وحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن أحمد بن المرحل المقدسي المؤدب في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة أنه حج فلما رجع من حجته إلى المدينة سمع بعض المحدثين يذكر فضيلة غبار المدينة الشريفة, فقال شيخ حسن الوجه واللمة: إن بعض الناس كان في جسده بياض, فكان يخرج من المدينة إلى البقيع عرياناً في السحر ويعود, فبرأ بذلك الغبار وعوفي.
فكأن ابن المرحل حصل في نفسه شيء من شك, فنظر في يده فوجد في ساعده بياضاً قدر الدرهم, فأقبل على الله عز وجل بالدعاء والبكاء والافتقار إليه, وخرج إلى البقيع وهو في حال الله أعلم بها, وكان يأخذ من الرمل الذي في الروضة الشريفة المباركة ويضعه على ذلك البياض, ويدلكه, فذهب بإذن الله عز وجل ثم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.
#360#
$ [دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة بالبركة] $
ومن خصائص المدينة:
ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا, وبارك لنا في مدينتنا, وبارك لنا في صاعنا, وبارك لنا في مدنا, اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك, وأنا عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة, وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر.
خرجه أبو القاسم الطبراني في "معجمه الأوسط" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا عند السقيا
#361#
التي كانت لسعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة, وأنا محمد عبدك ورسولك وإني أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم مثلما باركت لأهل مكة واجعل مع البركة بركتين».
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا مصعب بن عبد الله, حدثنا عبد العزيز بن محمد, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قيل: يا رسول الله, صاعنا أصغر من الصيعان, ومدنا أصغر الأمداد, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في قبلتنا, واجعل لنا مع البركة بركتين».
وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها, وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة, وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة».
وفي "معجم الطبراني الكبير" عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه
#362#
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان, وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان».
وقال أبو محمد يحيى بن صاعد: حدثنا هارون بن موسى الفروي في كتاب المغازي بمسجد المدينة في الأخبار: حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي, عن القاسم بن عبد الله بن عمر, عن كثير بن عبد الله المدني, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا كألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام, وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها, وصلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها».
#363#
عمر, والقاسم, (وكثير): ضعفاء.
#364#
$ [فتح المدينة بالقرآن] $
ومن الخصائص أيضاً ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": [حدثنا أبي], حدثنا محمد بن الحسن بن أبي الحسن المخزومي, عن مالك بن أنس, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افتتحت المدائن بالسيف وفتحت المدينة بالقرآن».
المخزومي هو ابن زبالة, وقد قال يحيى بن معين في حديثه هذا: كذب ليس بشيء, أصحاب مالك يروونه من كلام مالك.
#365#
رواه إبراهيم بن الجنيد, عن يحيى, والحديث مخرج في "مسند البزار".
وقد جاء عن مالك عن هشام, عن أبيه, عن عائشة موقوفاً, فيما حدث به الزبير بن بكار فقال: حدثني محمد بن يحيى – أبو غسان – عن مالك بن أنس, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف والرمح, وافتتحت المدينة بالقرآن.
*وهي مهاجر رسول الله صلىملله عليه وسل ومحل أزواجه وفيها قبره صلى الله عليه وسلم.
#366#
وقال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحافظ: حدثنا قالون, حدثنا أبو موسى المديني, حدثنا عبد الله بن نافع, عن أبي المثنى القاري, عن سعيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة قبة الإسلام, ودار الإيمان, وأرض الهجرة, ومبوأ الحلال والحرام».
ورواه عبد الله بن محمد بن أيوب المخرمي, عن عبد الله بن كثير بن جعفر الأنصاري, حدثني أبو المثنى سليمان بن يزيد, عن سعيد المقبري .... فذكره. وهو في "المعجم الأوسط" للطبراني.
وروى أبو همام الدلال محمد بن محبب النيسابوري, عن سعيد بن السائب الطائفي, حدثنا عبد الملك بن أبي زهير بن عبد الرحمن
#367#
الثقفي, أن القاسم بن حبيب أخبره, أن حمزة بن عبد الله الثقفي الأسلمي أخبره, أن عبد الملك بن عباد بن جعفر أخبره, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول من أشفع له من أمتي أهل المدينة, وأهل مكة, وأهل (الطائف)».
تابعه حرمي بن عمارة, عن سعيد بن السائب.
#368#
خالفهما عبد الوهاب الثقفي, [فرواه] عن سعيد, عن حمزة بن عبد الله بن سبرة, عن القاسم, عن عبد الملك, بنحوه.
ورواه محمد بن بكار, عن زافر بن سليمان, عن محمد بن مسلم, عن عبد الملك بن [أبي] زهير, عن حمزة بن أبي شمر, عن محمد بن عباد, عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الدراوردي, عن أسامة بن زيد, عن عبد الله بن عكرمة, عن عبد الله بن [عبد الله بن] عمر, عن أبيه, عن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه لن يموت
#369#
بها أحد إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة».
وجاء عن صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري, عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة, عن الصميتة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فمن مات بالمدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً».
وفي إسناده اختلاف على الزهري واضطراب.
وقال الصلت بن مسعود الجحدي: حدثنا سفيان بن موسى, حدثنا أيوب, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإن من مات بالمدينة شفعت له يوم القيامة».
#370#
خرجه الترمذي عن بندار, وابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف: كلاهما عن معاذ بن هشام, عن أبيه, عن أيوب به.
وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب".
#371#
$ [تشوقه صلى الله عليه وسلم إلى مكة حين ذكر أوقافها] $
وقال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة (شرفها الله تعالى)": حدثنا ابن أبي بزة, حدثنا إسماعيل بن يعقوب بن غرير الزهري, أخبرني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز, عنه أبيه, عن ابن شهاب الزهري, قال: قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت [له]: يا أصيل, كيف عهدت مكة؟ قال: عهدتها والله قد أخصب جنابها, وابيضت بطحاؤها, واعذوذق سلمها وإذخرها, فقالت: أقم حتى يأتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يلبث أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «يا أصيل كيف عهدت مكة؟» قال: عهدتها والله (وقد) أخصب
#372#
جنابها, وابيضت بطحاؤها, وأعذق سلمها وإذخرها, وأسلب ثمامها, وأمشر سلمها, قال: «حسبك حسبك يا أصيل, لا تحزنا».
وحدث به أبو الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن هارون بن أبي بكر, عن إسماعيل بن يعقوب, بنحوه.
وقال أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ: حدثنا عبد الله بن (سعيد) بن يحيى, حدثنا أحمد بن بكار بن أبي ميمونة، حدثنا عبد الله بن سعيد, عن محمد بن عبد الرحمن القرشي, عن بديح – قبل هو ابن سدرة السلمي – قال: قدم أصيل الهذلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف تركت مكة يا أصيل», قال: يا رسول الله, حسن أبطحها, وأعذق ثمارها, وأمشر سلمها, وأحجن إذخرها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويها يا أصيل, دع
#373#
القلوب تقر».
قوله: "أعذق": أي صار (لها) عذوق.
وقوله في الرواية الأولى: "أعذق سلمها وإذخرها" أي صارت له أفنان كالعذوق.
وقوله: "أسلب ثمامها" أي أخوص وصار له خوص, والثمام نبت ليس بالطويل.
وقوله: "وأمشر سلمها": أي أخرج مشرته وهي شبه (الخوصة), ومعناه أورق سلمها واخضر, والسلم من شجر العضاه يدبغ بورقه.
وفي الرواية الثانية: "وأمشر سبلها": أي اخضرت طرقها.
وقوله: "وأحجن إذخرها": أي صارت له حجون وهي الشعب.
#374#
وروى ابن الأعرابي فقال: حدثنا هلال بن العلاء الرقي, حدثنا مروان بن محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم, حدثني أبو بكر الضبي وعبد القدوس, عن الحسن, عن أبان بن سعيد بن العاص رضي الله عنه: أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبان, كيف تركت أهل مكة؟», فقال: تركتهم وقد جيدوا, وتركت الإذخر وقد أعذق, وتركت الثمام وقد خاص, قال: فاغرورقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: قوله: "جيدوا": أي أصابهم الجود وهو المطر الواسع فهو (مجود) كما يقال: قيل فهو مقول.
وقوله: "خاص": كذا رواه وإنما هو أخوص أي تمت خوصته.
وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول, اسمع ما يقول أصيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشوقنا», أو كلمة نحوها.
#375#
$ [ابتداء التاريخ] $
ومن هذه الهجرة كتب التاريخ:
خرج البخاري في "تاريخه الكبير" من حديث سعيد بن المسيب قال: قال عمر رضي الله عنه: متي نكتب التاريخ؟ وجمع المهاجرين فقال له علي رضي الله عنه: من يوم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, فكتب التاريخ.
وجاء من حديث حبان بن علي العنزي, عن مجالد, عن الشعبي قال: كتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنهما أنه يأتينا منك كتب ليس فيها تاريخ فأرخ, قال: فجمع عمر المشورة, فقال بعضهم: أرخ لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم: لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عمر: بل تؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قد ذكر فإن مهاجره صلى الله عليه وسلم فرق بين الحق والباطل.
رواه أبو نعيم الفضل, عن (حبان).
#376#
وحدث قتيبة بن سعيد, عن خالد بن حيان – أبي يزيد (الخزاز) الحراني – عن فرات بن سلمان, عن ميمون بن مهران, قال: رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه صك محله في شعبان, فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ قال: ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه, فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم, فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين فهذا يطول, وقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس, فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح من كان قبله, فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فوجدوه عشر سنين فكتب التاريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تابعه أحمد بن (حنبل), عن خالد بن حيان.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أحمد بن الخليل,
#377#
حدثنا كثير بن هشام, حدثنا جعفر, حدثنا ميمون, قال: ائتمر أصحاب (رسول الله) صلى الله عليه وسلم مما يكتبون التاريخ؟ فقال بعضهم: نكتبه من الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم: نكتبه من حين أوحى الله إليه, وقال بعضهم: نكتبه من هجرته التي هجر فيها دار (الشرك) إلى دار الإيمان, فأجمع رأيهم على أن يكتبوا التاريخ من (هجرة النبي) صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة, وذلك لعشر سنين منذ هاجر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى يوم توفي, وفي هذا التاريخ عشر سنين من حياته صلى الله عليه وسلم.
وقال يعقوب في "التاريخ": حدثنا عبيد الله بن معاذ بن معاذ, حدثني أبي, حدثنا قرة, عن محمد, [قال]: قدم رجل من اليمن على عمر رضي الله عنه وكان عاملاً, فقال: أما تؤرخون؟ (فقالوا): كيف؟ قال: تكتبون في شهر كذا في سنة كذا, فأرادوا أن يكتبوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قالوا: بل من عند وفاته, ثم أجمع رأيهم على أن يكتبوا من مهاجره.
#378#
تابعه أبو داود الطيالسي فرواه عن قرة بن خالد, عن محمد بن سيرين, قال: قام رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال: أرخوا, فقال عمر: ما أرخوا؟! قال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا, فقال عمر رضي الله عنه: حسن فأرخوا, فقالوا: من أي [السنين نبدأ؟
فقالوا: من مبعثه صلى الله عليه وسلم, وقالوا: من وفاته صلى الله عليه وسلم, ثم أجمعوا على الهجرة, ثم قال: فبأي] الشهورد نبدأ؟ فقالوا: رمضان, ثم قالوا: المحرم فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام, فأجمعوا على المحرم.
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتأريخ فكتب من الهجرة.
وقد قدمنا في حديث مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم سلمان حين كتبها علي رضي الله عنه بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخرها: وكتب علي بن أبي طالب يوم الإثنين في ربيع الأول مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
وحدث أبو جعفر محمد بن جرير في "تاريخه": عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة, حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, عن أبي سلمة, عن ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة – وقدمها في شهر ربيع الأول – أمر بالتأريخ.
#379#
قال ابن جرير: فذكر أنهم كانوا يؤرخون بالشهر والشهرين من مقدمه صلى الله عليهوسلم إلى أن تمت السنة.
وقال ابن جرير أيضاً: حدثني [أحمد بن ثابت, حدثنا] أحمد, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا زكريا بن إسحاق, عن عمرو بن دينار: أن (أول) من أرخ الكتب يعلى بن أمية وهو باليمن.
أحمد هو ابن محمد بن حنبل, حدث به عنه ابن أبي خيثمة في "تاريخه".
وحدث به يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن سلمة, حدثنا أحمد, حدثنا روح .... فذكره.
وزاد في آخره: وأن يعلى قدم المدينة في شهر ربيع الأول, وأن الناس أرخو لأول السنة, وإنما أرخ الناس لمقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن سرح المصري, حدثنا سعيد بن أبي (مريم), حدثنا يعقوب بن أبي (عباد) المكي.
#380#
وقال ابن جرير في "تاريخه": حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم, حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد قال: - واللفظ للطبراني -: حدثنا محمد بن مسلم, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان التاريخ في السنة التي قدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وفيها ولد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
وخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" بنحوه, عن سعيد بن أبي مريم.
وحدث به عن البخاري: ابن جرير في "تاريخه".
وخرج البخاري في "صحيحه" عن سهل بن (سعد) رضي الله عنه أنه قال: ما عدوا من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته, ولا عدوا إلا من مقدمه المدينة.
#381#
قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان في شهر ربيع الأول كما قدمناه, وابتدأ عمر رضي الله عنه التاريخ باتفاق الصحابة رضي الله عنهم من سنة الهجرة الشريفة من المحرم منها, فيكون قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
قال ابن جرير: فإنه وإن كان يعني التأريخ من الهجرة فإن ابتداءهم إياه قبل مقدم (النبي) صلى الله عليه وسلم المدينة بشهرين وأيام, وهي اثنا عشر, وذلك أن أول السنة المحرم, وكان (قدوم النبي) صلى الله عليه وسلم المدينة بعد مضي ما ذكرت من السنة, ولم يؤرخ التاريخ من وقت قدومه بل من أول تلك السنة. انتهى.
ويحتمل أن سهلاً رضي الله عنه أراد بقوله: "إلا من مقدمة المدينة" عام مقدمه لا الشهر, والله أعلم؛ لأن إذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم بالهجرة وقع في المحرم من تلك السنة لما رجع أصحاب العقبة إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم – رضي الله عنهم.
وقد قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا أبو الطاهر – يعني أحمد بن عمرو بن السرح, ويونس – يعني ابن عبد الأعلى – قالا: حدثنا ابن وهب, عن ابن جريج, عن ابن شهاب أنه قال: التاريخ من يوم قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً.
#382#
قال ابن وهب: وسألت مالكاً عن التأريخ من متى كان؟ قال: من مقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
والقول الأول أن ابتداء التأريخ من [أول] المحرم هو الأكثر.
قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": وأخبرنا علي بن محمد، عن قرة بن خالد, عن ابن سيرين: أن رجلاً من المسلمين قدم أرض اليمن, فقال لعمر رضي الله عنه: رأيت باليمن شيئاً يسمونه التاريخ (يكتبونه) من عام كذا (في) شهر كذا, فقال عمر: إن هذا لحسن فأرخوا, فلما (اجتمع) على أن يؤرخ شاور, فقال قوم: بمولد النبي صلى الله عليه وسلم, وقال قوم: بالمبعث, وقال قائل: حين خرجوا كذا مهاجراً من مكة إلى المدينة, وقال قائل: الوفاة حين توفي, فقال: أرخوا خروجه من مكة إلى المدينة, ثم قال: بأي شهر نبدأ, فنصير أول السنة؟ فقالوا: رجب, فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه.
وقال آخرون: شهر رمضان, وقال بعضهم: ذو الحجة فيه الحج, وقال آخرون: الشهر الذي خرج من مكة, وقال آخرون: الشهر الذي قدم فيه, فقال عثمان: أرخوا المحرم أول السنة, وهو شهر حرام, وهو أول الشهور في العدة, وهو منصرف الناس عن الحج, فصيروا أول السنة المحرم, فكان أول ما أرخ في الإسلام من مهاجر النبي
#383#
صلى الله عليه وسلم, فقال الناس: سنة إحدى, (وسنة) اثنتين إلى يومك هذا, وكان التأريخ في سنة سبع عشرة.
ويقال: في سنة (ست) عشرة في ربيع الأول.
#384#
$ [إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار] $
ولما صار المهاجرون في المدينة اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم:
قيل: كانوا مائة.
وقيل: كانوا تسعين رجلاً, من المهاجرين: خمس وأربعون, ومن الأنصار: خمس وأربعون.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري.
والإخاء كان في السنة الأولى بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.
قاله أبو عمر ابن عبد البر.
وقيل: بثمانية أشهر.
وذكر الواقدي في "تاريخه": أنه في السنة الأولى في شهر رمضان.
وقيل: كان بعد بناء المسجد.
وقيل: كان الإخاء والمسجد يبنى.
#385#
$ [ابتداء الأذان وأسماء المؤذنين والزيادة في الصلاة على ركعتين] $
وكذلك شرع الأذان في السنة الأولى, وكان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلال, وابن أم مكتوم, وأبو محذورة, وسعد القرظ وكان يؤذن لأهل قباء, وفي السنة الأولى زيد في صلاة الظهر والعصر والعشاء في كل واحدة ركعتان بعد أن كانت ثنائية.
خرج أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر (رسول الله) صلى الله عليه وسلم زيد في صلاة الحضر إلا الفجر, فإنها أقرت على حالها من أجل طول القراءة, والمغرب؛ لأنها وتر النهار.
وفي السنة الأولى أيضاً مات نقيب النقباء أبو أمامة أسعد بن زرارة في شوال ودفن بالبقيع, والمهاجرون يقولون: أول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون.
حكاه الواقدي في "تاريخه".
قيل: وكان أسعد أول ميت صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نقيب بني النجار, فلما مات رضي الله عنه لم يجعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيباً بعده, وقال
#386#
لهم: «(أنا) نقيبكم»,, فكانت من مفاخرهم.
وفي السنة الأولى مات البراء بن معرور بن صخر بن خنساء رضي الله عنه وهو أول النقباء موتاً.
قيل: مات في صفر قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر.
#387#
$ [حوادث سني الهجرة نظماً] $
وقد نظمت ذلك مع حوادث سني الهجرة التي وقعت إلي من السنة الأولى التي أولها المحرم كما تقدم إلى سنة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدة لا ينبغي لطالب التخلف عن حفظها, فهي جليلة في معناها, وجيزة في لفظها, وقد سميتها: "بواعث الفكرة في حوادث الهجرة", وهي هذه:
سنو هجرة المختار فيها حوادث ... فخذ نثرها من كل عام وأحكم
مصلى قبا في "أول" ثم مسجداً ... بنى وبيوتاً والصلاة فأتمم
وحلف أذان جمعة مات أسعد ... براء وعبد الله أسلم فاسلم
وثان صيام فطرة أم كعبة ... وغزوة ودان بواط لمغنم
عشير وبدر عرس عائش مثله ... البتول وموت لابن مظعون أكرم
سويق سليم قينقاع ومسور ... ومروان والنعمان سروا بمقدم
كذا ابن زبير مثل موت رقية ... أبو بنت هند أنمار كانت (بمعلم)
#388#
غزا أحداً في ثالث قتل حمزة ... وذا أمر والخمر ردت فحرم
وحمراء مع بدر أخيراً بناؤه ... بزينب ذات البر كسبا لمعدم
كذا حفصة مع أم كلثوم زوجت ... أتى حسن قبل الحسين المقدم
وفي "رابع" تزويج هند معونة ... نضير وقصر والتيمم فافهم
مريسيع إفك والرقاع وموعد ... ورجم وموت أم المساكين عظم
وصلى لخوف ثم في "الخمس" خندق ... قريظة سعد مات دومة قدم
ضمام أتى إسلام عمرو وخالد ... وعثمان الداري التزلزل فاعلم
وفي سادس لحيان ذو قرد به ... حديبية استسقا ابن خولة أعظم
مقوقس أهدى والظهار وخاتم ... لشيرويه الطاعون حج لمسلم
وخيبر في "سبع" صفية رملة ... زواجهما ذو الحبس أبوا بأنعم
قدوم أبي هر هدايا عطية ... قضا عمرة تزويج ميمونة أتمم
#389#
"وثامن" عام مؤتة الفتح أسلموا ... ومولد إبراهيم نجل المعظم
حنين غلاء طائف نصب منبر ... وبنت رسول الله زينب سلم
"بتسع" تبوك والوفود وجزية ... وحج أبي بكر وموت أم كلثم
ومات ابن بيضا والنجاشي وعروة ... قتيل ثقيف والسلولي فافهم
لعان وإيلاء وبوران ملكت ... لقتل فتى شيرويه (بتظلم)
وفي "العاشر" إبراهيم مات ومولدٌ ... لنجل أبي بكر محمد اعلم
جرير اهتدى ضلت بأسود عنسةٌ ... كسوف بخلف حجة التم أعجم
وسبع وعشرون المغازي ومثلها ... سراياه مع عشرين أرح لمقدم
أُصِبْنا "لإحدى عشرة" بنبينا ... فيا عُظْمَه (رزءاً لدى) كل مسلم
بها يابعوا الصديق ردة وابكين ... لفاظمة مع أم أيمن واختم
#390#
فهذه أبيات عزيزة جامعة وجيزة, والنفس متطلعة إلى شرح مجملها وفتح مقفلها, وحل مشكلها في كتاب مفرد, فعسى الله أن يوفق لذلك ويقدره بمنه وكرمه؛ ولهذا لم نذكر في هذا الحديث الحوادث والغزوات إلا مجملة في هذه الأبيات, وجميع غزواته وسراياه وبعوثه صلى الله عليه وسلم كانت بعد الهجرة مفرقة في سنيها, فغزا صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعاً وعشرين غزوة.
#391#
$ [ذكر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه مجملة] $
وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن (عمر بن) واقد, حدثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي, وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي, ومحمد بن عبد الله ابن أخي الزهري, وموسى بن يعقوب ابن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود, وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري, ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري, وربيعة بن عثمان بن عبد الله بن الهدير التيمي, وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي, وعبد الحميد بن جعفر الحكمي, وعبد الرحمن بن أبي الزناد, ومحمد بن صالح التمار: ح.
قال ابن سعد أيضاً: وأخبرنا رويم بن يزيد المقرئ حدثنا هارون ابن أبي عيسى, عن محمد بن إسحاق: ح.
قال: وأخبرنا حسين بن محمج, عن أبي معشر: ح.
قال: وأخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس المدني, عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة, عن عمه موسى بن عقبة دخل حديث بعضهم في حديث بعض, قالوا: كان عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي غزا بنفسه سبعاً وعشرين غزوة, وكانت سراياه التي بعث بها سبعاً
#392#
وأربعين سرية.
وهذا هو المشهور في غزواته, وقيل: غزا خمساً وعشرين, وقيل: غزا ستاً وعشرين, وقيل: أربعاً وعشرين, وقيل: إحدى وعشرين, وقيل: ثمان عشرة, وقيل: تسع عشرة, وقيل غير ذلك.
وأما بعوثه (وسراياه صلى الله عليه وسلم) فكان سبعاً وأربعين كما تقدم.
وذكر ابن إسحاق في رواية زياد ثمانية وثلاثين من بين بعث وسرية.
والغزوات الللاتي قاتل فيهن تسع: بدر, وأحد وفيها جرح صلى الله عليه وسلم, والخندق وفيها تحصن, (وغزاة) بني قريظة, وبني المصطلق وهي المريسيع, وخيبر, وفتح مكة, وحنين, والطائف، وفيها قاتل بالمنجنيق, وقيل: قاتل أيضاً في غزوة بني النضير، ولكن الله جعلها له نفلا خاصة، وقال في غزوة وادي القرى من أعمال خيبر منصرفه منها, (وقتل فيها) بعض أصحابه, وقاتل في الغابة.
وأكبر الغزوات اللاتي نزل في شأنهن القرآن سبع: بدر, وأحد, والخندق, وخيبر, وفتح مكة, وحنين, وتبوك, وبعد تبوك حج حجة الإسلام، ثم اختار الله عز وجل له دار المقامة والإنعام والحسنى والإكرام, فنقله إليها بعد أن كمل الدين, وتمت النعمة على المؤمنين, فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله (وصحبه) وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. والله أعلم.
#393#
&فصل في حجته صلى الله عليه وسلم. حجة الوداع وصفاتها. وذكر وفاته الشريفة ومتعلقاتها&
لما أتى لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين وأحد عشر شهراً وعشرة أيام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع المسماة حجة الإسلام, وحجة البلاغ, وحجة التمام: قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن أحمد بن البراء, حدثنا المعافَى بن سُليمان, حدثنا موسى بن أعين, عن ليث, عن طاوس, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي حجة الوداع: حجة الإسلام.
وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي, وقبيصة بن عقبة قالا: حدثنا سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره أن يقول: حجة الوداع, قال: فقلت: حجة الإسلام؟ قال: نعم, حجة الإسلام.
وقال: أخبرنا الفضل بن دكين, عن سفيان بن عيينة, عن إبراهيم بن ميسرة, قال: كان طاوس يكره أن يقول: حجة الوداع, ويقول: حجة الإسلام.
#394#
قال ابن إسحاق فيما رواه عنه إبراهيم بن سعد: فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة تجهز للحج وأمر الناس بالجهاز له.
وطرق أحاديث حجته صلى الله عليه وسلم كثيرة, ورواتها من الصحابة رضي الله عنهم لا تكاد تنحصر.
قال أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني, حدثنا الحسن بن علي الرازي, سمعت أبا زرعة وسُئل عن عدة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: ومن يضبط هذا؟ شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفاً, وشهد معه تبوك سبعون ألفاً.
وفي ضبط هذا نظر. وقيل: شهد حجة الوداع من الصحابة تسعون ألفاً. وقيل: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. ويُروَى: أنه وقف معه صلى الله عليه وسلم في حجته مائة ألف وعشرون ألفاً.
ولا يصح ضبط هذا أيضاً, لكن شهد معه الحجة خلق لا يحصون, ونقلها عنه عدد كثير, وأما ناقلوها عن الصحابة من التابعين ومن بعدهم فكثير يعسر جمع طرقهم.
ومن أصح الطرق بحجة الوداع وأتمها سياقاً طريق أبي عبد الله جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة – بكسر اللام – بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري السلمي رضي الله عنه؛ لأنه حفظها وضبطها من سيره ونزوله مرحلة مرحلة, وإحرامه, واغتساله, وإهلاله, ومواضع وقوفه, وكيفية طوافه, وسعيه, ورمية, وخطبه,
#395#
ونحر بدنه, إلى غير ذلك من كلياتها وجرئياتها.
وقد اعتمد الأئمة على حديثه في مناسك الحج, واستنبطوا منه أحكاماً كثيرة وفوائد خطيرة, ومنهم أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري رحمه الله عمل في إخراج فوائده واستنباط فقهه مصنفاً سماه "التحبير عما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما من المعاني والآداب الحسان".
ونحن إن شاء الله تعالى نعتمد في سياق حجة الوداع في كتابنا هذا على حديثه من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني الصادق أحد الأعلام, عن أبيه, عن جابر رضي الله عنه، لكن فيه كلمات لم يسمعها محمد بن علي من جابر فأدرجت في الحديث, بينها الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب فيما وجدته بخطه في كتابه "الفصل للوصل المدرج في النقل" حين روى الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس, عن أبيه بطوله.
ثم قال [فيما] وجدته بخطه: كذا روى ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله المديني بهذا الحديث, عن جعفر بن محمد بن علي, عن أبيه,
#396#
عن جابر, وفيه كلمات لم يسمعها محمد بن علي من جابر فأدرجت في الحديث, وهي قول علي رضي الله عنه: فذهبت محرشاً على فاطمة – رضي الله عنها – بالذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقت».
كان محمد بن علي يرسل هذه الكلمات عن علي, ويقول: لم يذكرها جابر بن عبد الله في حديثه.
بين ذلك وهيب بن خالد, وعبد الملك بن جريج, ويحيى بن سعيد القطان – في روايتهم هذا الحديث, عن جعفر بن محمد بن علي.
وكان يحيى بن سعيد يدرج في روايته – أيضاً – أحرفاً ويجعلها مرفوعة, وهي أن النبي صلىالله عليه وسلم صلى عند مقام إبراهيم عليه السلام ركعتين, وقرأ فيهما بـ: {قل يا أيها الكافرون} و{قل هو الله أحد} وذكر قراءة هاتين السورتين خاصة في هذا الحديث ليس بمرفوع, وإنما هو حكاية جعفر بن محمد عن أبيه كما بينه أبو أويس عن جعفر.
وكذلك رواه وهيب وابن جريج, عن جعفر, عن أبيه, وقالا: لم يذكر ذلك في حديث جابر.
انتهى قول الخطيب كما وجدته بخطه سوى الترضي عن علي وفاطمة رضي الله عنهما, وسوى السلام على إبراهيم عند ذكره, وسوى الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة علي رضي الله عنه, وسوى لفظه: (وسلم) بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مكانين, فإن الخطيب رحمه الله ترك ذلك في خطه وهو المعروف من خطه أنه يكتب عند ذكر النبي
#397#
صلى الله عليه وسلم: "صلى الله عليه" دون "وسلم".
قال بعض شيوخنا: وليس بمرض, فقد قال حمزة الكناني: كنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (صلى الله عليه) ولا أكتب: (وسلم) فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك: (صلى الله عليه) إلا وكتبت: وسلم. قلت: وقد حدث الشريف أبو الفضل محمد بن عبد العزيز بن العباس بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين المهدي في "مشيخته", عن أبي الحسن محمد بن عبد العزيز الصوفي, ومات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة, أخبرني أبو الطيب المؤدب الدارقطني, قال: قال لي أبو سليمان الحراني: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام, فقال لي: يا أبا سليمان لم إذا ذكرتني في الحديث إذا صليت علي ألا تقول: وسلم, هي أربعة أحرف بكل حرف عشر حسنات تترك أربعين حسنة.
ووجدت بخط أبي الحسن علي بن مسعود الموصلي رحمه الله: حدثنا
#398#
شيخنا زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم المقدسي من لفظه قال: كنت أكتب الحديث وكنت أكتب في الحديث: صلى الله عليه, ولا أكتب: وسلم, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم, فقال لي: لم لا تكتب إذا صليت علي تقول: (وسلم) فإنه يفوتك أربعون حسنة و: (س ل م) بكل حرف عشر حسنات.
ولتحصيل هذا الأجر إن شاء الله تعالى زدت ما زدت على ما وجدته بخط الخطيب فيما بينه من المدرج في حديث جابر في حجة الوداع.
وفي سياقنا حديث جابر رضي الله عنه نذكر في أثنائه ما وقع لنا من شواهده وزيادات لم تقع في حديثه ووقعت في حديث غيره, وربما ذكرنا فوائد محكية عن أربابها في أماكنها, إن شاء الله تعالى.
قال أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النسب النيسابوري الدار والموطن في "صحيحه": حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعاً, عن حاتم, قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المديني, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, قال: دخلنا على جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن الحسين, فأهوى بيده إلى رأسي, فنزع زري الأعلى, ثم نزع زري الأسفل, ثم وضع كفه بين ثديي – وأنا يومئذ غلام شاب – فقال: مرحباً بك يا ابن أخي, سل عما شئت.
#399#
فسألته وهو أعمى, وحضره وقت الصلاة, فقام في ساجة ملتحفاً بها كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها, ورداؤه إلى جنبه على المشجب فصلى بنا.
(الساجة): الطيلسان الغليظ الخشن. وقيل: هو ثوب. وروي: فقام في نساجة بدل ساجة, ولا أراه يصح فيما قاله الحافظ أبو موسى المديني.
و(النساجة) رويت على وجهين: (نساجة) بضم النون مع التشديد, و(نساجة) بالكسر مخففة.
#400#
قيل: هي ضرب من الملاحف منسوجة كأنها سميت بالمصدر.
ويحتمل أن تكون ثوباً فيه طرائق من قولهم: نسج الريح الماء: طرقت فيه طرائق.
وقوله: (كلما وضع على منكبيه رجع طرفاها إليه) وفي رواية: (وقع) بدل (رجع).
و(المشجب): وزان مبرد: أعواد موثقة تنصب فتوضع عليها الثياب, وتوضع عليه الأسقية لتبريد الماء.
وسؤال جابر رضي الله عنه عن القوم لضرورة, فإنه كان مكفوف البصر حينئذ، ويوضحه ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن سعيد, أخبرنا حاتم بن إسماعيل ح, وقال: وحدثنا هارون بن معروف, حدثنا حاتم, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, قال: أتينا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فلما انتهينا إليه سأل عن القوم فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين, فقال: مرحباً بك يا ابن أخي سل عما شئت, فسألته وهو أعمى. فهذا تصريح بما ذكرناه.
قال محمد بن علي في رواية مسلم, فقلت: أخبرني عن حجة
#401#
رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال بيده, فعقد تسعاً, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحجج ثم أذن في الناس [في] العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج.
وقال البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير": حدثنا عبد الله بن مسلمة, حدثنا سليمان بن بلال, عن جعفر, عن أبيه, عن جابر, قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسع سنين, ثم أذن في الناس بالحج حتى كان بذي الحليفة ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر.
وفي رواية عن جابر وقعت لنا في الثاني من حديث أبي حفص عمر بن محمد بن علي بن يحيى بن موسى بن يونس بن الزيات الصيرفي, قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن [محمد بن] ناجية بن نجبة – يوم الجمعة في ذي القعدة سنة ثلاثمائة – حدثنا صباح بن مروان أبو سهل النيلي, حدثنا عبد الله بن سنان الزهري, عن أبيه سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد الحج كتب إلى من بلغه
#402#
كتابه من المسلمين يخبرهم: «إني أريد الحج» ويأمرهم بالحج من قدر عليه وأطاقه.
وجاء عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أم معقل رضي الله عنها قالت: لما تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع أمر الناس بالخروج معه, فأصابتهم هذه القرحة الجدري, أو الحصبة, فدخل علينا ما شاء الله أن يدخل لمرض أبي معقل, ومرضت معه .... الحديث.
وقول جابر رضي الله عنه: "مكث تسع سنين لم يحجج ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج", ربما يوهم أن (فرض الحج كان في أول الهجرة), وإنما فرض الحج على الراجح عند الأكثر سنة ست من الهجرة. وقيل سنة خمسة. وقيل: سنة تسع. وقال بعضهم: لما نزل فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر. انتهى.
#403#
وهذا قول مرجوح, والذي عليه الأكثر من أهل المغازي وأصحاب التواريخ أن فرض الحج سنة ست, ويدل عليه قول الله عز وجل {وأتموا الحج والعمرة لله} إلى آخر الآية, وكان ابن مسعود يقرؤها: (وأقيموا الحج والعمرة لله)؛ لأن نزول هذه الآية زمن الحديبية لما صح عن كعب بن عجرة رضي الله عنه من حديث مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه, قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتهافت من رأسي, فقال: «يا كعب, يؤذيك هوامك؟» فقلت: نعم, قال: «فاحلق رأسك, واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام, أو أطعم ستة مساكين».
وفي رواية: فأنزل الله عز وجل: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فكان كعب يقول: ففي نزلت هذه الآية.
فثبت بهذا أن نزول قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} سنة ست؛ لأن عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.
والحديبية التي كانت العمرة منها: قرية على طريق جدة دون مرحلة عن مكة, وهي من أبعد الحل, وليس هي طول الحرم ولا في عرضه, إلا أنها في زاوية الحرم؛ فلذلك صار بينها وبين المسجد أكثر من يوم.
#404#
ذكر السهيلي: أن تخفيفها أعرف عند أهل العربية, ومنع بعضهم من تشديدها وهو المنقول عن الشافعي رضي الله عنه.
وقال أبو عبيد البكري: أهل العراق يشددون الراء والياء في (الجعرانة), و (الحديبية) وأهل الحجاز يخففون.
وحكى ابن سيده في "المحكم" الوجهين, فقال: والحديبية: موضع, وقيل: بئر سمي المكان بها, وبعضهم يقول: الحديبية بالتخفيف. انتهى.
وقال البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير", واللفظ للأوسط: حدثني عبد الرحمن بن شيبة, حدثنا عبد الله المخزومي, عن نافع بن أبي نعيم, عن نافع مولي ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين ثم توفي, وكان أبو بكر رضي الله عنه سنتين وسبعة أشهر, وكان عمر رضي الله عنه عشر سنين وخمسة أشهر, وكان عثمان رضي الله عنه ثنتي عشرة سنة, وكانت فتنة معاوية بينه وبين علي أربع سنين, ثم ولي معاوية عشرين سنة إلا شهرين, وكان يزيد بن معاوية أربع سنين إلا شهراً, ثم هلك, فقام ابن الزبير, فكانت فتنة ابن الزبير تسع سنين, ثم قتل على رأس ثلاث وسبعين إلا شهرين, وكانت الحديبية سنة ست بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حين صد في ذي القعدة, وكانت القضية في ذي القعدة سنة سبع, وكان الفتح سنة ثمان في رمضان, ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم المدينة من فوره إلى حنين والطائف, فلما رجع في شوال اعتمر من الجعرانة,
#405#
ثم حج عتاب بن أسيد فأقام الحج للناس فاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الحج، ثم حج أبو بكر سنة تسع, ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من مقدمه المدينة, وهي حجة الوداع.
#406#
$[الاختلاف في كم حج النبي صلى الله عليه وسلم وكم اعتمر]$
وفي قول جابر رضي الله عنه: "مكث تسع سنين لم يحج": فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة غير حجة الوداع وهو الراجح المشهور, وقيل: بعد النبوة.
رواه ابن سعد في "الطبقات": عن الواقدي, عن أشياخه بأسانيد لهم, قالوا: ولم يحج غيرها – يعنون حجة الوداع – مذ تنبأ إلى أن توفاه الله عز وجل.
وقيل: حج بمكة بعد النبوة حجة أخرى. وقيل: حجتين أخريين.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي, حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن مجاهد, قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجتين قبل أن يهاجر, وبعدما هاجر حجة.
وقال أبو محمد بن حزم: حج واعتمر صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها حججاً وعمراً لا يعرف عددها.
وروى من حديث زهير, عن أبي إسحاق, سمعت زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول: حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته حجة.
#407#
وهو في "صحيح البخاري": عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة, وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة, ولم يحج بعدها حجة الوداع.
وهو في "صحيح مسلم" بنحوه.
وقال الواقدي: فحدثني ابن أبي سبرة, عن الحارث بن الفضيل: سألت سعيد بن المسيب: كم حج رسول صلى الله عليه وسلم من لدن تنبأ إلى أن توفي؟ قال: حجة واحدة من المدينة.
قال الحارث: وسألت أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية, قال: حج بمكة قبل الهجرة, وبعد النبوة, وحجة من المدينة. وكان مجاهد يقول: حجتين قبل الهجرة.
والأمر المعروف عندنا الذي اجتمع عليه أهل بلدنا: إنما حج حجة واحدة من المدينة وهي الحجة التي يقول الناس: إنها حجة الوداع.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا هشام بن عبد الملك – أبو الوليد الطيالسي- وعمرو بن عاصم الكلابي, قالا: حدثنا قتادة, قلت لأنس بن مالك: كم حجة حجها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة.
#408#
وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى": من حديث أبي الوليد الطيالسي, عن همام مطولاً وذكر فيه عمراته الأربع.
وحج النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة مختلف فيه:
قال يحيى بن آدم: قال زهير, وقال أبو إسحاق: حج قبل هجرته حجة.
وروى زيد بن الحباب, عن سفيان الثوري, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر, وحجة بعدما هاجر معها عمرة ... الحديث.
خرجه الترمذي, وقال: هذا حديث غريب من حديث سفيان, ثم قال: وسألت محمداً – يعني: البخاري – عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري, عن جعفر, عن أبيه, عن جابر, عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورأيت
#409#
لا يعد هذا الحديث محفوظاً, قال: وإنما يروى عن الثوري, عن أبي إسحاق, عن مجاهد مرسلاً.
قلت: هو ما حدث به سعدان بن نصر: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج: حجتين وهو بمكة قبل الهجرة, وحجة الوداع.
وخرج ابن ماجه في "سننه": عن القاسم بن محمد بن عباد بن عباد المهلبي, عن عبد الله بن داود الخريبي, عن سفيان, عن ابن أبي
#410#
ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجات: حجتين قبل أن يهاجر .... الحديث.
قال أبو القاسم السهيلي: ولا ينبغي أن يضاف إليه – يعني إلى النبي صلى الله عليه وسلم – في الحقيقة إلا حجة الوداع, وإن كان حج مع الناس إذ كان بمكة كما روى الترمذي, فلم يكن ذلك الحج على سنة الحج وكماله؛ لأنه مغلوب على أمره, وكان الحج منقولاً عن وقته, ثم قال: فقد ذكر أنهم كانوا ينقلونه على حسب الشهور الشمسية ويؤخرونه في كل سنة أحد عشر يوماً, وهذا هو الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج من المدينة حتى كانت مكة دار إسلام, وقد كان صلى الله عليه وسلم أراد أن يحج مقفله من تبوك وذلك بإثره فتح مكة بيسير, ثم ذكر أن بقايا المشركين يحجون ويطوفون عراة, وأخر الحج حتى نبذ إلى كل ذي عهد عهده, وذلك في السنة التاسعة, ثم حج صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة بعد إمحاء رسوم الشرك, وانحسام سير الجاهلية, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» انتهى.
#411#
قلت: ووقعت حجته صه وسلمه علي في ذي الحجة لاستدارة الزمان, في ذلك الوقت كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, وكان ذو الحجة وقتئذ في تموز على ما ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" بعد ذكره قول الحسن: كان موته صلى الله عليه وسلم في أيلول, فقال: إذا تقرر أن كل دور في ثلاث وستين سنة كان في ستمائة وستين عاماً: عشرون دوراً, فإلى سنة ثلاث وسبعمائة من وقت موته صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرون دوراً إلى ربيع الأول منها كان وقوع تشرين الأول وبعض أيلول في صفر, وكان آب في المحرم, وكان أكثر تموز في ذي الحجة, فحجة الوداع كانت في تموز.
وأما عمره صلى الله عليه وسلم: فثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة, وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة, وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة, وعمرة مع حجته.
#412#
وقال إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربي: حدثنا هوذة – يعني ابن خليفة – حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار, حدثنا عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحصر, وعمرة الثانية حين تواطئوا على عمرة قابل, والثالثة من الجعرانة, والرابعة التي مع حجته.
خرجه الترمذي عن ابن قتيبة, عن داود, بنحوه.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن هوذة بن خليفة, وأحمد بن عبد الله بن يونس, وشهاب بن عباد العبدي, قالوا: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار, فذكره.
#413#
وقال يونس بن بكير, حدثنا عمر بن ذر, عن مجاهد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر كلها في ذي القعدة.
ويروى: أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في رمضان. وجاء: أنه اعتمر في شوال أيضاً.
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن الصباح, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها: قالت: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: عمرة في شوال, وعمرتين في ذي القعدة.
#414#
وخرجه أبو داود ولفظه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر
#415#
عمرتين [عمرة] في ذي القعدة, وعمرة في شوال.
وفي "الصحيح" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب, فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك, وقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله صلىالله عليه وسلم عمرة قط إلا وهو شاهده, وما اعتمر في رجب قط.
قال جابر رضي الله عنه في حديثه: فقدم المدينة بشر كثير يلتمس أن يأتم
#416#
برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله.
وفي رواية [سنان] بن أبي سنان التي قدمنا ذكرها عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: فأقبل الناس حجاجاً حتى نزلوا الشجرة وما حولها.
وقد قدمنا قول أبي زرعة الرازي وغيره في عدد الناس الذين شهدوا حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال جابر رضي الله عنه: فخرجنا معه.
قال أبو عبد الله ابن القيم: كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرة بين أربعة أسفار: سفر هجرته, وسفر للجهاد وهو أكثرها, وسفر للعمرة, وسفر للحج.
قلت: وسفره في تجارة خديجة رضي الله عنها, وسفره مع عمه أبي طالب, وكذلك مع عمه الزبير كما قدمناه.
وكان من عادته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في المسير أن يتخلف في الساقة.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن شوكر, حدثنا إسماعيل ابن
#417#
عليه, حدثنا الحجاج بن أبي عثمان, عن أبي الزبير: أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حدثهم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم.
وقد جاء مطولاً من طريق محمد بن عمرو زنيج التميمي الرازي قال: حدثنا أبو زهير, حدثنا الحجاج بن أبي عثمان الصواف عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين غزوة بنفسه, شهدت منها تسع عشرة غزوة, وغبت عن اثنتين, فبينا أنا معه في بعض غزواته إذ أعيا ناضحي تحت الليل فبرك, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخرنا في أخريات الناس فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم فانتهى وأنا أقول: والهف أمتاه, وما زال لنا ناضح سوء, فقال: «من هذا؟!», قلت: أنا جابر, بأبي وأمي يا رسول الله, قال: «ما شأنك؟», قلت: أعيا ناضحي, فقال: «أمعك عصا؟», قلت: نعم, فضربه, ثم بعثه, ثم أناخه ووطئ على ذراعه, وقال: «اركب», فركبت وسايرته, فجعل جملي يسبقه, فاستغفر لي تلك الليلة خمساً وعشرين مرة, فقال لي: «ما ترك عبد الله من الولد؟» – يعني: أباه - قلت: تسع نسوة, قال: «أترك عليه ديناً؟», قلت: نعم, [قال]:
#418#
«فإذا قدمت المدينة فقاطعهم فإن أبوا فإذا حضر جداد نخلكم فآذني» وقال لي: «هل تزوجت؟», قلت: نعم, قال: «بمن؟», قلت: بفلانة ابنة فلان بأيم كانت في المدينة, قال: «فهلا فتاة تلاعبها وتلاعبك», فقلت: يا رسول الله, كن عندي نسوة خرق – يعني: أخواته – فكرهت أن آتيهن بامرأة خرقاء, فقلت: هذه أجمع لأمري, قال: «قد أصبت ورشدت, بعني جملك», قلت: نعم بخمس أواق من ذهب, قال: «قد أخذناه», فلما قدم المدينة أتيته بالجمل, فقال: «يا بلال, أعطه خمس أواق من ذهب يستعين به في دين عبد الله وزده ثلاثاً, وازدد عليه جمله», قال: «هل قاطعت غرماء عبد الله؟», قلت: لا يا رسول الله, قال: «أترك وفاء؟» قلت: لا, قال: «لا عليك, إذا حضر جداد نخلكم فآذني» فآذنته, فجاء فدعا لنا, فجددنا, فاستوفى كل غريم كان يطلب تمراً وفاء, وبقي لنا ما كنا نجد وأكثر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ارفعوا ولا تكيلوا» فأكلنا منه زماناً.
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم لحجته لخمس ليال بقين من ذي القعدة, قالت عائشة رضي الله عنها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج. وقيل: كان خروجه لست بقين من ذي القعدة. وجزم به ابن حزم وغيره.
واختلف أي يوم كان:
فقال ابن حزم: كان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس. وفي "الطبقات
#419#
الكبرى" لابن سعد: أن ذلك كان يوم السبت. وقال ابن القيم: والظاهر أنه كان يوم السبت.
ووجدت بخط شيخه شيخ الإسلام: الصواب أن خروجه كان يوم السبت.
وقيل لخمس بقين من ذي القعدة بناء على أن الشهر يكون تاماً كما جرت به العادة في مثل ذلك, وعلى هذا تتفق الروايات. انتهى.
وقبل خروجه صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة أبا دجانة سماك بن خرشة بن لوذان الأنصاري. وقيل: استعمل سباع بن عرفطة الغفاري.
وفي "الطبقات" لابن سعد: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة مغتسلاً متدهناً مترجلاً متجرداً في ثوبين صحاريين إزار ورداء.
وفيها أيضاً: وأخرج معه نساؤه كلهن في الهوادج.
قال مسلم في "صحيحه": حدثني هارون بن عبد الله, حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير: أن علياً الأزدي, أخبره: أن ابن عمر علمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجاً إلى سفر كبر ثلاثاً, ثم قال: «سبحان الذي سخر لنا
#420#
هذا, وما كنا له مقرنين, وإنا إلى ربنا لمنقلبون, اللهم نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى, ومن العمل ما ترضى, اللهم هون علينا سفرنا هذا, واطو عنا بعده, اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل, اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر, وكآبة المنقلب, وسوء المنظر في المال والأهل» وإذا رجع قالهن, وزاد فيهن: «آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون».
وله شاهد من حديث عبد الله بن سرجس.
قال جابر رضي الله عنه: حتى أتينا ذا الحليفة.
الحليفة: تصغير حلفة – بفتح اللام وكسرها –واحدة الحلفا بالإسكان: النبت المعروف, وذو الحليفة ماء لبني جشم على أربعة أميال من المدينة. وقيل: ستة أميال فيما جزم به أبو عبيد البكري, وحكى قولاً آخر أنها: على سبعة أميال من المدينة.
قال جابر رضي الله عنه: فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر, فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع؟ قال: «غتسلي واستثفري بثوب وأحرمي».
"استثفري" من قولهم: استثفر الرجل بثوبه, إذا اتزر به, ثم رد طرف إزاره من بين رجليه, فغرزه في حجزته من ورائه, وأصله من ثفر الدابة وهو الذي يشد تحت ذنبها.
#421#
وقيل: من الثفر الذي هو حياء السبعة فاستعير لغيرها.
وحديث نفاس أسماء بمحمد بن أبي بكر روي من طرق, منها ما خرجه مسلم أيضاً في "صحيحه", فقال: حدثنا هناد وزهير وعثمان.
وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": فحدثناه عثمان بن محمد, قالوا – واللفظ لعثمان -: حدثنا عبدة بن سليمان, عن عبيد الله بن عمر, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: نفست أسماء بنت عميس رضي الله عنها بالشجرة.
(وفي) لفظ مسلم: نفست أسماء بمحمد بن أبي بكر بالشجرة, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يأمرها أن تغتسل وتهل. وخرجه أبو داود, وابن ماجه, وغيرهما.
الشجرة: سمرة كانت بذي الحليفة كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزلها إذا خرج من المدينة.
#422#
وقال يعقوب بن شيبة: وهو حديث مديني رجاله ثقات.
رواه سليمان بن بلال, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد, عن أبيه, عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لم يروه هكذا فيما علمناه غير سليمان بن بلال, وهو منقطع من وجهين:
أحدهما: أن القاسم لم يدرك أباه محمد بن أبي بكر؛ لأن محمداً قتل في عهد علي بمصر قديماً.
والوجه الثاني: أن محمد بن أبي بكر لم يدرك أباه أبا بكر, وذاك أنه ولد في السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي سنة عشر من الهجرة في أيام بقيت من ذي القعدة.
قلت: والحديث عند سليمان بن بلال – أيضاً – عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر من غير انقطاع, وقد تقدم.
وخرجه يعقوب في "المسند" – أيضاً – من حديث القاسم مرسلاً, قال: فحدثناه عبد الله بن مسلمة بن قعنب, قال: قرأت على
#423#
مالك بن أنس, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن أسماء – أو – أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء, فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «مرها فلتغتسل, ثم لتهل بالحج».
تابعه أحمد بن عبد الله بن يونس, عن مالك فيما حدث به أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": عن ابن يونس.
قال يعقوب بن شيبة: وقرأت على الحارث بن مسكين: أخبركم ابن وهب, قال: وأخبرني عبد الله بن عمر ومالك بن أنس, عن عبد الرحمن ابن القاسم, عن أبيه, أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء, فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «مرها فلتغتسل ثم تهل» إلا أن عبد الله بن عمر قال: بذي الحليفة.
#424#
قال: وقرأت على الحارث: أخبركم ابن وهب, أخبرني عبد الله بن عمر, قال: وحدثني نافع بمثل ذلك.
وحدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه": عن إسحاق بن محمد الفروي, حدثنا عبد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر: أن أبا بكر خرج حاجاً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أسماء بنت عميس .... الحديث.
وهو عند الفروي, عن عبد الله بن عمر, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, كما مر.
وحدث به عبد الكريم الجزري, عن سعيد بن المسيب, قال: ولدت أسماء ابنة عميس بذي الحليفة, فأراد أبو بكر أن يردها, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: «لتغتسل .....» الحديث.
#425#
وصح من حديث موسى بن عقبة, عن سالم (بن) عبد الله بن عمر, عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى وهو في معرسه من ذي الحليفة في بطن الوادي فقيل: إنك ببطحاء مباركة, قال موسى: وقد أناخ بنا سالم بالمناخ من المسجد الذي كان عبد الله ينيخ به يتحرى معرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي, بينه وبين القبلة وسطا من ذلك.
رواه عن موسى بن عقبة: إسماعيل بن جعفر وغيره.
وبذي الحليفة انتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه ومعهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
قال الواقدي: حدثني خالد بن إلياس, عن يحيى بن عبد الرحمن ابن حاطب, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن, عن أم سلمة رضي الله عنها قالت لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع حج بنسائه جميعاً في حجته تلك في الهوادج, قالت: فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة ليلاً, ومعنا عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان.
قال أبو داود في "سننه": حدثنا النفيلي, حدثنا عبد العزيز بن
#426#
محمد, عن زيد بن أسلم, عن ابن لأبي واقد الليثي, عن أبيه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع: «هذه ثم ظهور الحصر».
ورواه أحمد بن حنبل, عن سعيد بن منصور, عن عبد العزيز بن محمد, عن زيد بن أسلم, عن واقد بن أبي واقد, عن أبيه به.
قال ابن الأثير في "النهاية": أي إنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الحصر, جمع حصير.
#427#
قال جابر رضي الله عنه: فصلى ركعتين في المسجد. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا المسجد قيل: هو المسجد الكبير الذي هو اليوم بذي الحليفة، وكان فيه عقود في قبلته, ومنارة في ركنه الغربي الشمالي فتهدم على طول الزمان, وهو مبني في موضع الشجرة التي كانت هناك, وبها سمي مسجد الشجرة, وفي قبلة هذا المسجد مسجد آخر أصغر منه, ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه أيضاً, وبين المسجدين قدر رمية سهم أو أزيد قليلاً.
وقول جابر: فصلى ركعتين. كانت صلاته تلك العصر على ما قيل.
وقد جاء فيما رواه حفص بن عمرو الربالي, حدثنا محمد بن عمر الواقدي, حدثنا حارثة بن أبي عمران, حدثنا محمد بن يحيى بن حيان, عن ابن محيريز, عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً في سفر أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين.
#428#
ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة بات بها, فكانت صلاته بها العصر والمغرب والعشاء والصبح.
صح عن أبي قلابة, ومحمد بن المنكدر, وإبراهيم بن ميسرة, وهذا لفظ أبي قلابة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعاً, وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين. قال: وأحسبه قال: بات بها حتى أصبح.
#429#
$[قصر الصلاة في السفر]$
ورواه الهيثم بن حميد, عن ثور بن يزيد, عن أنس بن مالك, قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربع ركعات, ثم خرج حاجا, فصلى بنا العصر بذي الحليفة ركعتين لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة في حجته إلى حين رجوعه إلى المدينة.
قال عمرو بن مرزوق: حدثنا شعبة, عن يحيى بن أبي إسحاق, عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وحججنا معه, فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى يرجع, قال: قلت: كم أقمتم بمكة؟ قال: عشراً.
وقال محمد بن عبد الله الشافعي: حدثنا إبراهيم بن الهيثم, حدثنا الخليل بن زكريا, حدثنا الربيع بن صبيح, عن الحسن, عن
#430#
عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا ركعتين في الطريق وبمكة وبمنى حتى رجعنا إلى المغرب, وذكر الحديث في حجه مع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم ففعلوا مثل ذلك.
#431#
$[الطيب عند الإحرام والغسل والتجرد]$
وطيبته عائشة رضي الله عنها تلك الليلة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك, وطاف على نسائة تلك الليلة ثم اغتسل, وصلى بها الصبح.
صح عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم, ولحله قبل أن يطوف بالبيت. متفق عليه من حديث مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها.
تابعه سفيان بن عيينة, عن عبد الرحمن.
وهو عند سفيان – أيضاً – عن الزهري, وعثمان بن عروة, عن عروة, عن عائشة.
وفي حديث عثمان عن أبيه: فقلت لها: بأي الطيب؟ فقالت: بأطيب الطيب.
وفي "معجم الطبراني الأوسط": من حديث منصور بن زاذان, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب فيه مسك عند إحرامه قبل أن يحرم, ويوم النحر
#432#
قبل أن يطوف بالبيت.
وذكر الطبراني: أنه لم يروه عن منصور إلا هشيم.
وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": وحدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا الحسن بن عبيد الله, حدثنا إبراهيم, عن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
تابعه الثوري عن الحسن بن عبيد الله كذلك.
خالفه منصور, والأعمش, وعطاء بن السائب, والحكم, وحماد بن أبي سليمان, وغيرهم, فرووه عن إبراهيم بن الأسود, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب.
#433#
تابعه عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه كذلك. وله طرق.
وخرج الترمذي من حديث خارجة بن زيد بن ثابت, عن أبيه رضي الله عنه أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل.
وقال: هذا حديث حسن غريب.
وخرجه الدارمي في "مسنده".
وقال البيهقي في "سننه الصغرى": وروينا عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه.
وخرج الدارقطني في "سننه": من حديث زكريا بن عدي, حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن عبد الله بن محمد بن عقيل,, عن عروة, عن
#434#
عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان, ودهنه بزيت غير كثير .... الحديث.
حدث به أحمد في "مسنده": عن زكريا بن عدي بطوله.
#435#
$[الإحرام عقب الصلاة]$
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غسله لبس إزاره ورداءه, ثم صلى الظهر ركعتين بمسجد ذي الحليفة, ثم أحرم دبر الصلاة.
وعند الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم عند صلاة بذي الحليفة من يوم خروجه من المدينة.
والجمهور على خلافه: أنه أحرم في اليوم الثاني من خروجه من المدينة, وهو الصحيح؛ لأنه بات ليلة خرج غير محرم ليجتمع الناس إليه, وأتاه تلك الليلة آت من ربه عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك, وقل: عمرة في حجة.
روي عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة.
خرجه الترمذي لخصيف, وقال: هذا حديث حسن غريب.
وخرجه الدارمي في "مسنده", ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم دبر الصلاة.
#436#
وخرج الدارمي أيضاً: من حديث النضر, أخبرنا أشعث, عن الحسن, عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم وأهل في دبر الصلاة.
#437#
$[التنظف عند الإحرام]$
وفي رواية سنان بن أبي سنان التي ذكرناها عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرهم أن يتهيؤوا للإحرام بحلق العانة ونتف الإبط وقص الشارب والأظافير, وغسل رؤوسهم, ثم الغسل بعد, والتجرد في ثوبين, فقال بعضهم: يا رسول الله, من لم يكن له رداء؟ قال: «فليضع عمامته على عاتقه فهي بمنزلة الرداء» ثم صلى بهم الظهر, وفرض الحج حيث انصرف من صلاته.
#438#
$[إشعار الهدي وتقليده]$
وحيئنذ بذي الحليفة قلد النبي صلى الله عليه وسلم بدنته وأشعرها.
خرج أحمد بن حنبل في "مسنده" من حديث شعبة, قال قتادة: سمعت أبا حسان, يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة, ثم دعا ببدنته, أو أتي ببدنته, فأشعر صفحة سنامها الأيمن, ثم سلت الدم عنها, وقلدها نعلين, ثم أتي براحلته, فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهلّ بالحج.
وخرجه الترمذي في "جامعه": من حديث هشام بن أبي عبد الله
#439#
الدستوائي, عن قتادة, عن أبي حسان, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد نعلين وأشعر الهدي في الشق الأيمن بذي الحليفة وأماط عنه الدم.
والحديث في "صحيح مسلم" من حديث هشام (وشعبة, عن قتادة، بنحوه.
وحدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع, عن هشام) الدستوائي مختصراً, ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد نعلين.
#440#
وروى بقيته في باب من "المصنف" بالإسناد المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر الهدي في السنام الأيمن وأماط عنه الدم.
وخرجه كنحو رواية الترمذي: أبو داود والنسائي وابن ماجه.
قال أبو داود: وهذا – يعني الإشعار – من سنن أهل البصرة الذي تفردوا به.
والحديث في "معجم الطبراني": شعبة, عن قتادة.
وأبو حسان هذا هو مسلم بن عبد الله الأحرد الأعرج البصري.
وقال أبو عمر ابن عبد البر في كتابه "التمهيد": ورأيت في كتاب ابن علية, عن أبيه, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن أبي حسان الأعرج, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر بدنة من الجانب
#441#
الأيسر, ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين.
وهذا عندي منكر في حديث ابن عباس, والمعروف فيه ما ذكر أبو داود: الجانب الأيمن, لا يصح في حديث ابن عباس غير ذلك إلا أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يشعر بدنه من الجانب الأيسر. قاله أبو عمر.
#442#
$[ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفرداً]$
وقد اختلف في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان بالحج مفرداً, أو بالحج والعمرة قارناً, أم غير ذلك؟
وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد: واختلف علينا فيما أهل به – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – فأهل المدينة يقولون: أهل بالحج مفرداً, وفي رواية غيرهم: أنه قد قرن مع حجته عمرة, وقال بعضهم: دخل مكة متمتعاً بعمرة ثم أضاف إليها حجة, وفي كل رواية, والله أعلم.
وقال البيهقي في "معارف السنن": أخبرنا أبو سعيد – محمد بن موسى – في "مختصر الحج الكبير", حدثنا أبو العباس الأصم, أخبرنا الربيع بن سليمان, أخبرنا الشافعي رحمه الله قال: إذا أراد الرجل أن يحرم كان ممن حج أو لم يحج, فواسع له أن يهل بعمرة, وواسع له أن يهل بحج وعمرة, وواسع له أن يفرد, وأحب إلي له أن بفرد؛ لأن الثابت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد.
وسيأتي ذكر الإفراد في حجة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر هذا رضي الله عنه [إن شاء الله تعالى].
وقد صح عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
#443#
بالحج مفرداً. وفي لفظ لمسلم: أهل بالحج مفرداً.
وخرج الترمذي في "جامعه": عن قتيبة, عن عبد الله بن نافع الصائغ, عن عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج, وأفرد أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
وخرجه مطولاً الدارقطني في "سننه": من طريق عبد الله بن نافع, عن عبد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج, فأفرد, ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج, ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج, ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم, واستخلف أبو بكر فبعث عمر فأفرد الحج, ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فأفرد الحج, وتوفي أبو بكر واستخلف عمر فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج, ثم خرج عمر بسنته كلها فأفرد الحج, ثم توفي عمر واستخلف عثمان فأفرد الحج, ثم حصر فأقام عبد الله بن عباس للناس فأفرد الحج.
#444#
وروى أبو مصعب أحمد بن أبي بكر, وخالد بن مخلد, وزيد بن الحباب, وعبد الله بن مسلمة القعنبي, والشافعي, ويحيى بن سليمان بن نضلة, ويحيى بن يحيى, وإسماعيل بن أبي أويس, عن خاله مالك بن أنس – واللفظ لابن مخلد – عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلىوسلم عليه أفرد الحج.
تابعه سفيان بن عيينة, عن عبد الرحمن بن القاسم, رواه عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان ومالك معاً.
وقال الإمام أحمد: حدثني إسحاق بن عيسى, حدثني المنكدر بن
#445#
محمد, عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن, عن القاسم, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
وخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
ورواه بحر بن نصر بن سابق الخولاني, عن (ابن) وهب, عن ابن أبي الزناد, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها مثله.
وهو عند ابن وهب, عن ابن أبي الزناد – أيضاً – عن علقمة, عن أمه, عن عائشة.
تابعه أحمد بن عبدة الضبي, وعبد العزيز بن محمد الدراوردي, ومالك بن أنس, عن علقمة وهو ابن أبي علقمة وهو ابن بلال مولى عائشة.
وفي لفظ في حديث ابن وهب: أن عائشة رضي الله عنها, قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عام حجة الوداع من أحب إن يرجع بعمرة قبل الحج فليفعل, وإن رسول الله صلىالله عليه وسلم أفرد الحج ولم يعتمر.
ورواه سليمان [بن داود] بن علي بن عبد الله بن عباس – أبو أيوب الهاشمي – عن عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن أبيه, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
وجاء من حديث مالك – أيضاً – فيما رواه عنه عبد الأعلى بن حماد
#446#
النرسي, عن أبي الأسود محمد بن نوفل – وكان يتيماً في حجر عروة بن الزبير – عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها مثله.
وخرجه البخاري في "صحيحه": عن عبد الله بن يوسف, عن مالك نحوه.
وجاء الإفراد – أيضاً – من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما فيما رواه حبيش بن مبشر, عن يحيى بن أيوب, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
ورواه عبد الله بن عيسى الفروي, عن رجل, عن مالك, عن نافع, عن ابن عمر مثله.
وهذا إسناده مقلوب من قبل أبي علقمة الفروي هذا.
قال ابن القيم: وأما الذي نقل عنهم إفراد الحج فهم ثلاثة: عائشة, وابن عمر, وجابر.
قلت: والبراء بن عازب كما قدمناه.
#447#
$[ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم قارناً]$
وأما الأحاديث الواردة بالقران, فجاءت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وأنس بن مالك, وعمران بن الحصين, وغيرهم.
أما حديث علي فله علة: روى الحكم بن عتيبة ومسلم البطين, عن علي بن حسين, عن مروان بن الحكم, قال: شهدت عثمان نهى أن يجمع بين عمرة وحج فلبى علي بعمرة وحج معاً, فقال عثمان: أنهى عنها وتلبي بها, فقال: لم أكن لأدع سنة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس.
اللفظ للحكم رواه شعبة عنه.
ورواه الأعمش, عن مسلم: خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" من الطريقين, قال يعقوب: ولم نصب هذا الحديث مرفوعاً عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الطريق, وقد روي القران عن علي من غير وجه من فعله.
وأما حديث أبي طلحة فخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده", فقال:
#448#
حدثنا أبو معاوية, حدثنا حجاج, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس, أخبرني أبو طلحة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة.
ورواه مسدد ويحيى بن يحيى, عن أبي معاوية.
وحدث به ابن ماجه في "سننه": عن علي بن محمد, عن أبي معاوية ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن الحج والعمرة.
ورواه إسحاق بن راهويه: أخبرنا أبو خالد الأحمر, أخبرنا [الحجاج] بن أرطاة, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس, عن أبي طلحة رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة.
تابعهما زكريا بن أبي زائدة, عن حجاج.
وهذان الطريقان فيهما الحجاج بن أرطاة – أبو أرطاة النخعي الكوفي – وهو ضعيف جداً.
قال أبو حاتم ابن حبان: تركه ابن المبارك, ويحيى القطان, وابن مهدي, ويحيى بن معين, وأحمد بن حنبل.
#449#
وأما حديث أنس, فخرجه الترمذي من حديث حميد, عن أنس رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك بعمرة وحجة» وقال: حسن صحيح.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": عن قتادة, عن أنس.
ورواه إسماعيل بن أبي زياد, عن داود بن أبي هند, عن أنس ابن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى بالحج والعمرة جميعاً.
غريب من حديث داود بن أبي هند, عن أنس بن مالك, تفرد به إسماعيل بن أبي زياد عنه. قاله الدارقطني.
وقد أنكر ابن عمر على أنس رضي الله عنه روايته تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج والعمرة جميعا فيما ذكره البيهقي.
والرواية بذلك جاءت من حديث أبي عبد الله بحر بن نصر بن سابق, حدثنا بشر بن بكر, حدثنا سعيد بن عبد العزيز, عن زيد بن أسلم, قال: أتى ابن عمر رجل, فقال: بم أهلّ النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بالحج, فلما كان العام القابل أتاه فقال: بم أهلّ النبي؟ قال: أما أتيتني عام أول؟ قال:
#450#
بلي, ولكن أنس بن مالك يقول: قرن, قال: إن أنس بن مالك كان يتولج على النساء وهن مكشفات الرؤوس – يعني لصغره – وأنا تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيبني لعابها سمعته يلبي بالحج.
حدث به غويث الخضر بن محمد بن غوث التنوخي العكاوي, عن بحر.
وله علة أيضاً وهي: أن أبا قلابة رواه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتهم يصرخون بهما جميعاً.
قال يعقوب بن شيبة: حدثني سليمان بن حرب, قال: الصحيح رواية أبي قلابة.
وقد جمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة, وإنما سمع أنس بن مالك أولئك دون النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو نحوه.
وأما حديث عمران بن الحصين رضي الله عنهما فخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث سالم بن نوح, عن عمر بن عامر, عن
#451#
قتادة, عن مطرف بن عبد الله بن الشخير, عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما، قال: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حج وعمرة.
لم يروه عن عمر إلا سالم فيما ذكره الطبراني, وسالم بن نوح ضُعف.
قال البيهقي: قد رجح الشافعي رضي الله عنه أخبار الإفراد على أخبار القران بما يكون ترجيحاً عند أهل العلم بالحديث. انتهى.
#452#
#453#
$[ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعاً]$
وأما الرواية بالتمتع, فصحت من حديث الليث بن سعد, حدثني عقيل بن خالد, عن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج, وأهدى, فساق معه الهدي من ذي الحليفة, وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأهل بالعمرة إلى الحج, فكان من الناس من أهدى فساق الهدي, ومنهم من لم يهد, فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى, فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه, ومن لم يكن منكم أهدى, فليطف بالبيت وبالصفا والمروة, وليقصر وليحلل, ثم ليهل بالحج وليهد, فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» .... وذكر الحديث.
#454#
حدث به مسلم في "صحيحه": عن عبد الملك بن شعيب بن الليث, عن أبيه, عن جده.
وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق في أول الأمر.
قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن سعد, عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش, أنه قال: ما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحرامه لا حجا ولا عمرة.
ورواه أيضاً عن إبراهيم, عن سعيد, عن جابر.
وروى أيضاً عن سفيان, عن ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة أنهما سمعا طاوساً يقول: خرج النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمي حجاً ولا عمرة ينتظر القضاء, قال: فنزل عليه القضاء وهو يطوف بين الصفا والمروة فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة, وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي, ولكني لبدت رأسي وسقت هديي وليس لي محل إلا محل هديي ... » الحديث.
#455#
وقد صرح الشافعي رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بما ذكر في الحديث قيل, أقام هو مفرداً صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: أخبرنا أبو سعيد, حدثنا أبو العباس, أخبرنا الربيع, حدثنا الشافعي, قال: الإفراد والقران والتمتع حسن كله, وقد روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» فذهب المكيون إلى اختيار التمتع, وهذا أوجه, لولا أنه يحتمل أنه قال هذا لتكره الناس الإحلال حين أمرهم به وأقام هو مفرداً صلى الله عليه وسلم, فلما احتمل هذا اخترت الإفراد؛ لأنه الذي عزم له عليه, وهذان الوجهان معاً أحب إلي من القران.
قال البيهقي: وقال في "مختصر الحج الصغير": والتمتع أحب إلي انتهى.
#456#
$[الجمع بين الأحاديث]$
وقال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" – بعد أن خرج أحاديث الإفراد والقران والتمتع -: والفصل بين الجمع في هذه الأخبار أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أهل بالعمرة حيث أحرم كذلك, قاله مالك, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يهل بالعمرة وحدها حتى بلغ سرف, أمر أصحابه بما ذكرنا في خبر أفلح بن حميد – يعني عن القاسم بن محمد – عن عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله
#457#
صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج, وحرم الحج حتى نزلنا بسرف, فخرج النبي صلىه عليه وسلم إلى أصحابه, فقال: «من لم يكن معه هدي وأحب أن يجعلها عمرة, فليفعل, ومن كان معه الهدي فلا», قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه .... الحديث.
قال ابن حبان: فمنهم من أفرد حينئذ, ومنهم من أقام على عمرته ولم يحل, فأهل صلى الله عليه وسلم بهما معاً حينئذ إلى أن دخل مكة وكذلك أصحابه الذين ساقوا معه الهدي, فكل خبر روي في قران النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ذلك حيث رأوه يهل بهما بعد إدخاله الحج على العمرة إلى أن دخل مكة, فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة وطاف وسعى, أمر ثانياً من لم يكن ساق الهدي, وكان قد أهل بعمرة أن يتمتع ويحل, وكان يتلهف صلى الله عليه وسلم على ما فاته من الإهلال, حيث كان ساق الهدي, حتى إن بعض أصحابه ممن لم يسق الهدي لم يكونوا يحلون حيث رأوا المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يحل, حتى كان من أمره ما وصفنا من دخوله صلى الله عليه وسلم على عائشة وهو غضبان, فلما كان يوم التروية, وأحرم المتمتعون, خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى وهو يهل بالحج مفرداً, إذ العمرة التي قد أهل بها في أول الأمر قد انقضت عند دخوله مكة بطوافه بالبيت وسعيه بين الصفا والمروة, فحكى ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج؛ أرادا من خروجه إلى منى من مكة من غير أن يكون بين هذه الأخبار تضاد أو
#458#
تهاتر. انتهى.
#459#
$[التلبيد]$
قوله: وقبل أن يهل النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه. كما صح من حديث الزهري, عن سالم, عن أبيه رضي الله عنه [قال]: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبداً.
وله شاهد من حديث أخته حفصه – أم المؤمنين - وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
و"التلبيد": أن يجعل في الشعر شيئاً من صمغ أو خطمي ونحوه, ليجتمع ويتلبد, ولا ينتشر فيشعث.
حدث أبو داود في "سننه": عن القواريري, عن عبد الأعلى, عن محمد بن إسحاق, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالعسل.
#460#
$[الجمع راكباً مقتباً]$
قال جابر رضي الله عنه: ثم ركب القصواء.
جاء من حديث عثمان بن سعد الكاتب – وهو ضعيف – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يودعه بركعتين.
و(القصواء): المذكورة في حديث جابر رضي الله عنه هي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم, وهي بفتح القاف وبالمد.
وفي رواية العذري: (قصوى) وزان: (حبلى), وعد خطأ.
وهذه الناقة كان أبو بكر رضي الله عنه اشتراها وأخرى معها من نعم بني الحريش بثمانمائة درهم, فاشترى النبي صلىلمله عليه و من أبي بكر رضي الله عنه القصواء بأربعمائة درهم وهاجر عليها, وحين قدومه المدينة كانت رباعية.
ويقال لها: القصواء والجدعاء والعضباء, وسيأتي ذكرها بزيادة – إن شاء الله تعالى – عند ذكر دواب النبي صلى الله عليه وسلم.
#461#
وكان ركوب النبي صلى الله عليه وسلم إياها حين أهل بالحج من عند الشجرة, وهي السمرة التي كانت بذي الحليفة وذكرناها قبل.
صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره.
وكان حينئذ على ناقته رحل وهو أصغر من القتب ما يساوي خمسة دراهم.
صح عن أنس رضي الله عنه أنه حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته.
علقه البخاري في "صحيحه", فقال: وقال محمد بن أبي بكر هو المقدمي, حدثنا يزيد بن زريع, عن عزرة بن ثابت, عن ثمامة بن عبد الله, عن أنس.
وحدث به ابن حبان في "صحيحه": عن الحسن بن سفيان وأبي يعلى الموصلي, قالا: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ... فذكره.
وقوله: وكانت زاملته. أي: يحمل عليها طعامه ومتاعه.
وجاء من حديث سفيان الثوري, عن الربيع – يعني ابن صبيح – عن [يزيد بن] أبان, عن أنس رضي الله عنه قال: حج النبي صلىه وسلملي على رحل رث
#462#
وقطيفة ما يسرني أنها لي بأربع دراهم, ثم قال: «اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة».
#463#
$[كثرة الناس في حجة الوداع]$
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش, وعن يمينه مثل ذلك, وعن يساره مثل ذلك, ومن خلفه مثل ذلك.
قوله: مد بصري. أي: منتهى امتداد نظري. ورواه بعضهم: مدى بصري. قال القاضي عياض: والأول أعرف. انتهى.
وقال ابن قتيبة, وصاحب "البارع": لا يقال مد البصر.
قال النووي رحمه الله: ليس بمنكر, بل هما لغتان, المدى أشهر. انتهى.
وممن حكى "مد" مشدد: الزمخشري, والجوهري, وغيرهما.
وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم, فركب راحلته, وخرج الناس من بين ماش وراكب, فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيداء, قال جابر: فجعلت أنظر إلى الناس يميناً وشمالاً وأمامي وخلفي ما أرى إلا سوادين بين راكب وماش فما دخلني من السرور يومئذ لما رأيت من كثرة أهل الإسلام يعدل عندي حجتي مع رسول الله صلىالله عليه وسلم .
#464#
وخرج أبو داود في "سننه": من طريق روح, عن أشعث, عن الحسن, عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر, ثم ركب راحلته, فلما علا على جبل البيداء أهل.
وخرجه النسائي: من حديث النضر بن شميل, عن أشعث بمعناه, ومن حديث محمد بن عبد الله الأنصاري, عن أشعث أتم منه.
راحلته المذكورة في هذه الرواية هي القصواء المصرح بها في رواية جعفر بن محمد.
وورد أنه صلى الله عليه وسلم مرة ركب بغلة في حجته هذه.
خرج الطبراني في "معجمه الأوسط" فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة, حدثنا يحيى بن عثمان الحمصي, حدثنا أبي, حدثنا أبو ضمرة – محمد بن سليمان – حدثنا راشد بن سعد, عن أبي أمامة, قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بغلة شهباء يقود به خالد بن الوليد رضي الله عنه.
لم يروه عن راشد بن سعد إلا أبو ضمرة – محمد بن سليمان – تفرد به [يحيى بن] عثمان بن سعيد.
#465#
$[تلبيته صلى الله عليه وسلم]$
قال جابر رضي الله عنه: ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن, وهو يعرف تأويله, وما عمل به من شيء عملنا به, فأهل بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».
في قوله: "فأهل بالتوحيد": إشارة إلى مخالفة ما كان أهل الجاهلية يقولونه في تلبيتها من لفظ الشرك.
فقد ثبت من حديث عكرمة بن عمار, حدثنا أبو زميل, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك [لك] قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلكم قد قد» فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك, يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.
فهذا والله أعلم مراد جابر بقوله: فأهل بالتوحيد.
وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: فلبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتج الناس, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي إذا لقي راكباً, أو صعد أكمة, أو هبط وادياً, وفي أدبار
#466#
المكتوبات ومن آخر الليل.
وكانت تلبيته صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك, [لبيك] لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».
وكان يكثر من قول: «لبيك ذا المعارج لبيك» حتى قدم مكة.
وحديث تلبية النبي صلى الله عليه وسلم روي – أيضاً – من حديث الزهري, عن سالم, عن أبيه, نحو حديث جابر.
وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره.
وقال هدية بن عبد الوهاب المروزي – أبو صالح -: حدثنا النضر بن شميل والفضل بن موسى, قالا: أخبرنا جعفر بن سليمان, عن هشام بن حسان, عن ابن سيرين, عن أخيه يحيى بن سيرين, عن أنس بن سيرين, عن أنس بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي «لبيك حجاً حقاً تعبداً ورقاً».
#467#
وقال القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد البصري المالكي: حدثنا أبو عمران موسى بن هارون بن عبد الله البزار, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا مالك بن أنس, حدثنا نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانت تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».
قال القاضي: قال أبو عمران: لم يرو أبو الربيع عن مالك إلا هذا الحديث.
#468#
وقال الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم, عن ابن جريج, عن حميد الأعرج, عن مجاهد أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك» قال: حتى إذا كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها: «لبيك إن العيش عيش الآخرة».
قال ابن جريج: وحسبت أن ذلك يوم عرفة.
وحدث محمد بن أبي بكر المقدمي, عن عبد الرحمن بن مهدي, عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة, عن عبد الله بن الفضل, عن عبد الرحمن الأعرج حدثه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: «لبيك إله الحق».
وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تلبيته: «لبيك إله الحق لبيك».
وخرجه النسائي, وابن ماجه, والدارقطني.
#469#
وجاء عن محمد بن المنكدر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من التلبية.
#470#
$[الجمع في إهلاله صلى الله عليه وسلم في عقيب الصلاة وركوبه وإضحاء راحلته به]$
وقال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد, عن صالح بن محمد بن زائدة, عن عمارة بن خزيمة بن ثابت, عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى رضوانه والجنة, واستعفاه برحمته من النار.
تابعه عبد الله بن عبد الله الأموي وغيره عن صالح.
وخرجه الدارقطني في "سننه": من طريق يعقوب بن حميد, حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي ... فذكره, ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه, واستعاذ برحمته من النار.
قال صالح: سمعت القاسم بن محمد, يقول: كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم.
#471#
وكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في مصلاه, ثم حين ركوبه على ناقته, ثم لما استقلت به على شرف البيداء وهو أمام ذي الحليفة إلى جهة مكة في طريقها.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني خصيف بن عبد الرحمن الجزري, عن سعيد بن جبير, قال: قلت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: عجباً لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب, فقال: إني لأعلم الناس بذلك, إنها إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة, فمن هنالك اختلفوا, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً, فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه, فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه, ثم ركب, فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك ذلك منه أقوام, وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً, فسمعوه حيت استقلت به ناقته يهل, فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته, ثم مضى فلما علا على شرف البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام, فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا على شرف البيداء, وايم الله لقد أوجب في مصلاه, وأهل حين استوت به ناقته, وأهل حين علا على شرف البيداء.
قال: فمن أخذ بقول ابن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه.
#472#
وخرجه أبو داود بنحوه, وكذلك البيهقي في كتابه "المعارف", وقال: هذا جمع حسن إلا أن خصيفاً الجزري ليس بالقوي عند أهل العلم بالحديث.
وقد رواه الواقدي بإسناد له, عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا أن الواقدي ضعيف. انتهى.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا عبد السلام, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم دبر الصلاة.
وثبت من حديث موسى بن عقبة, عن سالم, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند مسجد ذي الحليفة.
خرجه البخاري, ومسلم, وأبو داود, والترمذي, والنسائي.
#473#
$[رفع الصوت بالتلبية]$
قال جابر رضي الله عنه: فأهل الناس بهذا الذي يهلون به.
إهلال المحرم: رفع صوته بالتلبية ليوجب حجه وعمرته, أو أحدهما بالتلبية عن نفسه, ولما لبى النبي صلىوسلم عليه رفع صوته بالتلبية وأمر أصحابه رضي الله عنهم أن يرفعوا أصواتهم بها كما أمره الله عز وجل.
وروى مالك بن أنس في "الموطأ": عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم, عن عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشام, عن خلاد بن السائب, عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: مر أصحابك أو من معك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال».
تابعه سفيان بن عبد الله بن أبي بكر.
وحدث به ابن جريج, عن عبد الله بن أبي بكر كتابة.
قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": قال أبو بكر – يعني الحميدي – في حديث السائب بن خلاد, عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية».
#474#
قال: قال سفيان: كان ابن جريج كتمني حديثاً, فلما قدم علينا عبد الله بن أبي بكر لم أخبره, فلما خرج إلى المدينة حدثته, فقال: يا أعور تخبئ عنا الأحاديث فإذا ذهب أهلها أخبرتنا بها, لا أرويه عنك, أو تريد أن أرويه عنك؟! فكتب إلى عبد الله بن أبي بكر فيه, فكتب به عبد الله بن أبي بكر, وكان ابن جريج يحدث به من كتابه: كتب إلي عبد الله بن أبي بكر.
وهذا الحديث حدث به عن سفيان, عن عبد الله بن أبي بكر عبد الرازق في
"جامعه" وأبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه".
ورواه الشافعي في "مسنده" عن مالك بنحو ما تقدم عنه.
وخرجه أبو داود لمالك, والترمذي والنسائي وابن ماجه لسفيان بن عيينة.
#475#
قال الترمذي: حديث خلاد, عن أبيه: صحيح.
وخرجه الإمام أحمد والدارمي في مسنديهما, والدارقطني في "سننه".
قال الترمذي: وروى بعضهم هذا الحديث: عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد, عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح, والصحيح هو خلاد بن السائب, عن أبيه.
قلت: حدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده", فقال: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن أبي عدي, أنبأنا سفيان بن سعيد, عن عبد الله بن أبي بكر, عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعار الحج».
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع, حدثنا سفيان, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد الجهني .... فذكره بنحوه.
#476#
وحدث به ابن ماجه في "سننه": عن علي بن محمد, عن وكيع, وابن سعد في "الطبقات": عن محمد بن عبد الله الأسدي, عن سفيان, بنحوه.
وقال الطبراني: حدثنا حفص بن عمر الرقي, حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان, عن عبد الله بن أبي لبيد, أخبرني مطلب بن عبد الله بن حنطب, عن خلاد بن السائب, عن أبيه, عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالإهلال, فإنه من شعار الحج».
ورواه يوسف بن موسى القطان, عن قبيصة.
تابعه معاوية بن هشام, عن سفيان كذلك.
قال الحافظ أبو بكر الخطيب: وهذا الحديث إنما قال سفيان الثوري فيه: عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد, وذكر السائب أبي خلاد فيه وهم.
#477#
وقد رواه وكيع, عن سفيان على الصواب – أي كما ذكرناه – قال: وكذلك رواه جماعة عن وكيع منهم أحمد بن حنبل في "مسنده", وكذا رواه موسى بن عقبة, عن عبد الله بن أبي لبيد الزهري. انتهى.
وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى" من حديث محمد بن يحيى الذهلي, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا الثوري, عن [ابن] أبي لبيد, عن المطلب بن حنطب, عن أبيه ... فذكره.
خالفه عبد بن حميد فرواه في "مسنده": عن عبد الرزاق, عن سفيان, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, عن خلاد بن السائب, عن زيد بن خالد الجهني, مرفوعاً به, كرواية وكيع على الصواب.
قال البيهقي: وكذلك – أي كرواية الذهلي, عن عبد الرزاق – رواه شعبة, عن عبد الله بن أبي لبيد. انتهى.
وروي عن سفيان الثوري, عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم, عن خلاد, عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه عبد الملك ولا السائب.
قاله المزي في "الأطراف", ثم قال: ورواه أسامة بن زيد الليثي, عن عبد الله بن أبي لبيد, وغيره, عن المطلب بن عبد الله عن أبي هريرة. انتهى.
ورواه يعقوب بن حميد, فقال: حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح, حدثنا محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن
#478#
عبد الله بن حنطب, عن إبراهيم بن خلاد بن سويد, عن أبيه – إن شاء الله – قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد, كن عجاجاً ثجاجاُ.
ورواه أبو بكر ابن أبي عاصم, عن يعقوب.
ومن هذه الطريق بهذا اللفظ خرجه الإمام أحمد في "مسنده".فقال: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي لبيد, عن المطلب بن عبد الله بن حنطب, عن السائب بن خلاد: أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كن عجاجاً ثجاجاُ.
والعج: التلبية, والثج: نحر البدن.
وهذه الطريق مجودة وأولى من التي قبلها.
#479#
وقال الإمام أحمد – أيضاً -: حدثنا عبد الصمد, حدثنا عبد الرحمن – يعني ابن عبد الله بن دينار – حدثنا أبو حازم, عن جعفر بن عباس, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن أعلن التلبية».
وقال ابن سعد في "الطبقات": حدثنا الهيثم بن خارجة, حدثنا يحيى بن حمزة, عن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي كثير: أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارفع صوتك بالإهلال فإنه شعار الحج.
#480#
$[الزيادة على تلبيته صلى الله عليه وسلم المعهودة]$
قال جابر رضي الله عنه: فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته.
قوله: شيئاً منه. أي من الإهلال, فكان الناس يزيدون في التلبية وينقصون فلا ينكر عليهم, وهو صلى الله عليه وسلم ملازم تلبيته التي قدمناها.
خرج أحمد في "مسنده", وأبو داود في "سننه": عن أحمد, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا جعفر, حدثنا أبي: عن جابر بن عبد الله قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر, قال: والناس يزيدون: ذا المعارج, ونحوه من الكلام, والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً.
وصح عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك».
قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا: لبيك لبيك لبيك وسعديك, والخير بيديك لبيك, والرغباء إليك والعمل.
#481#
وعن ابن شهاب, عن سالم بن عبد الله, وكان عبد الله يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك وسعديك, والخير في يديك لبيك والرغباء إليك والعمل.
وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه كان يزيد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن, لبيك مرهوباً منك ومرغوباً إليك.
وقال عبد الرزاق في "جامعه": أخبرنا معمر, عن إسماعيل بن أمية, عن عبد الرحمن الأعرج, قال: بلغني أنه كان من إهلال النبي صلى الله عليه وسلم: «لبيك إله الحق لبيك».
وقد خرجه موصولاً أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه", فقال: حدثنا وكيع, عن عبد العزيز بن أبي سلمة, عن عبد الله بن الفضل, عن الأعرج, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في تلبيته: «لبيك إله الحق لبيك»:
وخرج البيهقي في كتابه "معارف السنن": من حديث هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغنا الروحاء حتى سمعنا عامة الناس قد بحت أصواتهم من التلبية.
#482#
وخرجه – أيضاً – من حديث عمر بن صهبان, عن أبي الزناد, عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبلغ الروحاء حتى تبح الأصوات.
قال: وعمر بن صهبان ضعيف, ومشهور عن أبي حازم: حتى تبح حلوقهم من التلبية, وذكره ابن المنذر.
والروحاء: قرية جامعة من عمل الفرع على ليلتين من المدينة بينهما نحو أربعين ميلاً.
قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج, لسنا نعرف العمرة.
فيه دليل لمن قال: بترجيح الإفراد أحد الأنواع على غيره.
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا أتينا البيت معه صلى الله عليه وسلم.
ثم وقائع قبل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وأمور حدثت:
منها ما ذكر في "الطبقات" لابن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى – أي من ذي الحليفة في حجته – يسير المنازل ويؤم أصحابه رضي الله عنهم في الصلوات في مساجد له قد بناها الناس وعرفوا مواضعها.
#483#
قلت: ممن حررها وعرف مواضع غالبها, وكان يتحرى الصلاة بها إذا مر عليها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ومنها ما رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه", فقال: حدثنا ابن فضيل, عن يزيد, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون, فإذا لقينا الركب سدلنا ثيابنا من فوق رءوسنا على وجوهنا فإذا جاوزونا رفعناها.
وخرجه مسدد في "مسنده" فقال: حدثنا أبو عوانة, عن يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون, فإذا مر بنا ركب سدلنا الثوب من فوق رءوسنا سدلاً, فإذا جاوزنا رفعناه.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده", ومن طريقه خرجه أبو داود في "سننه" فقال: حدثنا أحمد بن حنبل, حدثنا هشيم, أخبرنا يزيد بن أبي زياد, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا جازوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها
#484#
على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه.
وذكر الترمذي في "العلل" عن يحيى بن سعيد كان شعبة ينكر أن يكون سمع مجاهد من عائشة, وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل, عن أبيه, عن شعبة أنه كان ينكر ذلك.
وقال ابن أبي حاتم: روى عن عائشة مرسلاً.
#485#
$[أكل المحرم ما صاده الحلال]$
ومنها ما خرجه الطبراني في "معجمه الكبير": فقال: حدثنا إدريس بن جعفر العطار, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن عمير بن سلمة الضمري, عن البهزي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة, حتى إذا كان ببعض وادي الروحاء وجدوا حماراً وحشياً فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقروه حتى يأتي صاحبه» فأتى البهزي – وكان صاحبه – فقال: يا رسول الله, شأنكم بهذا الحمار. فأمر أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمه في الرفاق وهم محرمون ثم مررنا حتى إذا كنا بالأثاية إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يقف عنده حتى يجيز عنه الناس.
وخرجه النسائي, عن محمد بن سلمة المرادي, والحارث بن مسكين, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن مالك, عن يحيى بن سعيد.
تابعه يحيى بن بكير وغيره, عن مالك.
#486#
ورواه عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب "الأطعمة", فقال: حدثناه الزهراني أبو الربيع, حدثنا حماد – وهو ابن زيد – حدثنا يحيى بن سعيد.. فذكره.
وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا ابن الجنيد, حدثنا قتيبة, حدثنا بكر بن مضر, عن ابن الهاد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن عمير بن سلمة الضمري, قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض أثناء الروحاء وهو حرم إذا حمار معقور, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه فيوشك صاحبه أن يأتيه» فجاء رجل من بهز هو الذي عقر الحمار, فقال: يا رسول الله, شأنكم بهذا الحمار, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه فقسمه بين الناس.
وخرجه الحاكم "مستدركه": من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن يزيد بن عبد الله بن الهاد, عن محمد بن إبراهيم التيمي ... فذكره.
تابعه الليث بن سعد, ونافع بن يزيد – أبو يزيد – المصري.
#487#
ورواه هشيم, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن رجل من بني ضمرة, فلم يسم عميراً.
ورواه بشر بن بكر, عن الأوزاعي, حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي, عن عيسى بن طلحة, قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب الروحاء, وهم محرمون, فإذا هم بحمار عقير ... وذكر الحديث مرسلاً بطوله.
وقد روي عن عمير بن سلمة نفسه دون ذكر البهزي في السند.
وحدث به مختصراً نحوه: ابن ماجه في "سننه" عن هشام بن عمار, عن سفيان بن عيينة, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم التيمي, عن عيسى بن طلحة, عن أبيه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه حمار وحش وأمره أن يفرقه في الرفاق وهم محرمون.
تابعه عثمان بن سعيد الدارمي فرواه في "الأطعمة" عن هشام بن عمار, بنحوه قال: وأحسبه أراد أن يختصره فأخطأ فيه.
قلت: هو كما ظنه؛ لأن سفيان رواه مرة هكذا مختصراً, ومرة بتمامه, فرواه عنه مختصراً: هشام بن عمار كما تقدم, وإسحاق بن
#488#
إسماعيل الأيلي بنحوه مختصراً.
ورواه كاملاً عن سفيان: الشافعي, فقال: حدثنا سفيان, حدثنا يحيى بن سعيد, عن محمد بن إبراهيم, عن عيسى بن طلحة, عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بصفاح الروحاء, فإذا نحن بحمار وحش عقير, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا لرجل أصابه يوشك أن يأتيكم» فجاء رجل من بني سليم, فقال: يا رسول الله, هذا حمار أصبته بالأمس, فشأنكم به, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يقسمه في الرفاق, ثم خرجنا حتى إذا كنا بالأثاية إذا نحن بظبي حاقف, فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يقف عنده حتى يجوز الناس.
وهذه الرواية فيها الوهم في قوله: عن عيسى بن طلحة, عن أبيه.
[قال]: والرواية الأولى المختصرة فيها وهمان: أحدهما هذا,
#489#
والثاني: أن طلحة بن عبيد الله هو المأمور بتفرقة الحمار الوحشي في الرفاق, وليس كذلك, بل المأمور بذلك أبو بكر رضي الله عنه, كما صرح به في عدة طرق حتى في طريق سفيان من رواية الشافعي, كما تقدم.
ورواه مالك بن أنس, وحماد بن زيد, ويزيد بن هارون وغيرهم, عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عيسى بن طلحة، عن عمير بن سلمة الضمري كما تقدم.
والبهزي: هو زيد بن كعب البهزي السلمي.
قال الحافظ أبو الحجاج المزي في كتابه "التهذيب": وهو صاحب الظبي الحاقف.
وقال في كتابه "الأطراف": وهو صاحب الظبي الحاقف الذي رماه بسهم فوجد فيه سهمه, وكان يسكن الروحاء بين مكة والمدينة.
قلت: بل هو صاحب الحمار الوحشي العقير, كما هو مصرح به في ألفاظ طرق الحديث, حتى فيما خرجه الحافظ المزي في "التهذيب" بعيد قوله: وهو صاحب الظبي الحاقف. من طريق الطبراني التي تقدمت, وهي: حتى إذا كان ببعض وادي الروحاء وجدوا حمار وحش .... فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أقروه حتى يأتي صاحبه» فأتى البهزي وكان صاحبه .... الحديث.
#490#
وما أحسن ما ذكره الحافظ [أبو بكر] ابن أبي خيثمة في "تاريخه", فقال: والبهزي الذي مر بظبي حاقف وهم محرمون.
وتنبه له ابن نقطة فقال في "إكماله": والبهزي صاحب الحمار العقير.
وأظن المزي – والله أعلم – قلد أبا عمر ابن عبد البر, فإنه قال في "الاستيعاب": زيد بن كعب البهزي ثم السلمي صاحب الظبي الحاقف وكان صائده. انتهى.
والحاقف: المنحني, وقال أبو الحسين ابن فارس في "مجمله": هو الذي انحنى وتثنى في نومه.
#491#
$[علاج النبي صلى الله عليه وسلم للصبي المريض]$
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن صالح الجعفي, حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي, حدثنا معاوية بن يحيى الصدفي, عن الزهري, عن خارجة بن زيد بن ثابت, أن أسامة بن زيد حدثه, قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي حج فيها, فلما هبطنا بطن الروحاء عارضت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة تحمل صبياً لها, فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير على راحلته, ثم قالت: يا رسول الله, هذا ابني فلان, والذي بعثك بالحق ما أبقى من خفق واحد من لدن أن ولدته إلى ساعتي هذه, فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحلة, فوقف ثم أكسع إليها, فبسط إليها يده, وقال: «هاتيه» فوضعته على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه, فجعله بينه وبين واسطة الرحل, ثم تفل في فيه, وقال: «اخرج يا عدو الله فإني رسول الله» ثم ناولها إياه فقال: «خذيه فلن ترين منه شيئاً تكرهينه بعد هذا إن شاء الله», فأخذته ثم انصرفت. قال: ثم مضينا فحججنا, قال: فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلنا بالروحاء قال أسامة: إذا تلك المرأة قد استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مصلية,
#492#
فوضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قالت: يا رسول الله, أنا المرأة أم الصبي الذي لقيتك به معداك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما فعل ابنك؟» قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت منه شيئاً يريبني إلى يومي هذا.
#493#
$[من دلائل النبوة]$
قال أسامة: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أسيم» – قال الزهري: كان بذلك يدعوه يرخمه – «ناولني ذراعها» قال أسامة: فأخذت الذراع فناولته إياها فأكلها, ثم فال: «يا أسيم, ناولني الذراع» فناولته إياها, ثم قال «يا أسيم, ناولني الذراع», فقلت: يا رسول الله, إنك قلت: «ناولني الذراع» فناولتكها, ثم قلت: «ناولني الذراع» فناولتك الذراع الآخر, وإنما للشاة ذراعان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو لم تراجعني وأهويت إليها ما زلت تجد فيها ذراعاً ما قلت لك» ثم قال: «يا أسيم, اخرج فانظر هل ترى لي رجماً من الأرض» فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال أسامة: فخرجت فمشيت حتى حسرت فلم أقطع اليأس, ولم أر شيئاً أرى أنه يواري أحداً, فرجعت إليه فقلت: يا رسول الله, والذي بعثك بالحق لقد ملأ الناس ما بين الصدين, وما رأيت من شيء يواري أحداً, فقال: «أما رأيت شجراً ورجماً» قلت: بلى قد رأيت – يعني نخلات إلى جانبهن رجماً من حجارة – قال: «فانطلق إلى النخلات فقل لهن: يقول لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلففن بعضكن إلى بعض حتى تكن سترة لمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم» فخرجت حتى أتيت النخلات فقلت لهن الذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أسامة: فوالذي بعثه بالحق لكأني أنظر إلى قفزهن بعرقهن وترابهن حتى لصق بعضهن إلى بعض, فكن كأنهن نخلة واحدة, ثم أتيت الرجم, فقلت للحجارة الذي أمرني به, قال: فوالذي بعثه بالحق لكأني أنظر إلى قفزاتهن حجراً حجراً حتى لصقن بالنخلات, وعلا بعضهن بعضاً, حتى كأنهن جدار, فرجعت إليه صلى الله عليه وسلم
#494#
فأخبرته بذلك, فقال: «خذ الإداوة» قال: وخرج فمشينا حتى إذا دنوت منهن فسبقته فوضعت له الإداوة, ثم انصرفت, فقضى من حاجة, ثم أقبل إلى الإداوة بيده فلقيته, فأخذتها منه ثم مضينا, فلما دخل الخباء قال: «يا أسيم, انطلق إلى الحجارة وإلى النخلات, فقل لهن: يأمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعدن إلى ما كنتن عليه, وقل للحجارة: يأمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعدن رجماً كما كنتن [وإلى النخلات أن تعدن كما كنتن]», فأتيت النخلات, فقلت لهن الذي أمرني به, فوالذي بعثه بالحق, لكأني أنظر إلى قفزهن وترابهن حتى عادت كل نخلة منها في موضعها, قال: ثم قلت للحجارة ذلك, فوالذي بعثه بالحق لكأني أنظر [إلى] قفزهن حجراً حجراً حتى أتين مكانهن الذي عرفته رجماً كما كن, فانصرفت إليه, فقلت: يا رسول الله, قد أتيت النخلات, وقلت لهن الذي أمرتني به, ففعلن ما أمرتهن, وقلت للحجارة, ففعلت ذلك حتى عادت رجماً كما كانت.
وحدث به أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل, حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا عبد الرحيم بن حماد, عن معاوية بن يحيى الصدفي, أخبرني الزهري ... فذكره بنحوه.
#495#
ويروى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح يوم الأحد بملل, ثم راح فعشى بسرف السيالة, وصلى بسرف المغرب والعشاء, وسار منها, فصلى الصبح بعرق الظبية بين الروحاء والسيالة في المسجد الذي عن يمنة الطريق, ثم نزل الروحاء فإذا حمار عقير.. وذكرت قصة البهزي, قالت: ثم راح من الروحاء, فصلى العصر بالمنصرف, وصلى المغرب والعشاء بالمعشى, وتعشى به, وصلى الصبح بالأثاية, وأصبح بالعرج.
ملل: موضع معروف بقرب المدينة.
وسرف السيالة: موضع غير سرف التي بقرب مكة. وسميت سيالة: إما لكثرة السيول بها, وإما لكثرة السيال بها, وهو ضرب من [الشجر] شجر العضاه له شوك.
وعرق الظبية: جبلها, والظبية بضم الظاء المعجمة, وقيل بفتحها, بعدها موحدة ساكنة ثم ياء آخر الحروف مخففة مفتوحة ثم هاء, موضع على ثلاثة أميال من الروحاء.
والأثاية: بضم الهمزة, بعدها ثاء مثلثة, وبالمثناة تحت بعد الألف وهي فيما ذكره أبو عبيد البكري: بئر دون العرج بميلين عليها مسجد
#496#
للنبي صلى الله عليه وسلم ويالأثاية: أبيات وشجر أراك, وهناك منتهى حد الحجاز.
قاله البكري في "المعجم".
ومن الوقائع أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى العرج – وهي قرية من عمل الفرع من أعمال المدينة على طريق مكة من المدينة – نزل بها [ونزل] أبو بكر رضي الله عنه فأتاه غلامه وقد أضل بعيره فضربه بسبب ذلك.
قال الواقدي: حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد, عن عيسى بن معمر, عن عباد بن عبد الله, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالعرج جلس بفناء منزله, فجاءته عائشة رضي الله عنها فجلست إلى جنبه, فجاء أبو بكر رضي الله عنه فجلس إلى جنبه الآخر, وجاءت أسماء فجلست إلى جنب أبي بكر, فأقبل غلام أبي بكر متسربلاً, فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ فقال: أضلني, فقام إليه أبو بكر فجعل يضربه ويقول: بعيراً واحداً يضل منك! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: «ألا ترون إلى المحرم ما يصنع؟!» وما ينهاه.
وخرجه أبو داود عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: خرجنا مع
#497#
رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجاً حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا, فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست إلى جنب أبي بكر وكانت زمالة أبي بكر رضي الله عنه وزمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة مع غلام لأبي بكر فجلس أبو بكر رضي الله عنه ينتظر أن يطلع عليه [أحد], فطلع وليس معه بعيره, فقال له: أين بعيرك؟! قال: أضللته البارحة, فقال أبو بكر: بعيراً واحداً تضله؟! قال: فطفق يضربه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع».
[قال ابن أبي رزمة – أحد رواته -: فلم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع»] وتبسم.
خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن إدريس, أخبرنا ابن إسحاق, عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه بنحوه.
وخرجه ابن ماجه.
وقد قيل: إن اسم غلام أبي بكر هذا: عقبة, وأضل البعير بالأثاية, والله أعلم.
وروي أنه لما بلغ آل فضالة الأسلميين أن زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت حملوا إليه حفنة من حيس فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
#498#
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «هلم يا أبا بكر, فقد جاء الله بغداء طيب», وجعل أبو بكر رضي الله عنه يغتاظ على الغلام, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هون عليك يا أبا بكر, فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا معك», وقد كان الغلام حريصاً على ألا يضل بعيره, وهذا حلف ما كان معه, ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله وأبو بكر ومن كان يأكل معه حتى شبعوا, فأقبل صفوان بن المعطل رضي الله عنه وكان على ساقة الناس, والبعير معه وعليه الزمالة, فأقبل حتى أناخ على باب منزل النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «انظر هل تفقد شيئاً من متاعك؟», فقام فنظر, فقال: ما فقدت إلا قعباً كنا نشرب فيه, فقال الغلام: هذا القعب معي, فقال أبو بكر لصفوان: أدى الله عنك الأمانة.
وقال أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية: حدثنا محمد بن شجاع الثلجي, حدثنا محمد بن عمر الواقدي, قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد رضي الله عنهما بزاملة تحمل زاداً يؤمان رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني: يوم ضلت زاملته في حجة الوداع – حتى يجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند باب منزله قد أتى الله بزاملته, فقال سعد: يا رسول الله, بلغنا أنا زاملتك ضلت الغداة, وهذه زاملة مكانها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد جاء الله بزاملتنا, فارجعا بزاملتكما, بارك الله عليكما, أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟», فقال سعد: يا رسول الله, المنة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم, والله يا رسول الله للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الذي تدع, فقال: «صدقتم يا أبا ثابت, [أبشر] فقد أفلحت, إن الأخلاق بيد الله عز وجل فمن أراد
#499#
أن يمنحه منها خلقاً صالحاُ منحه, ولقد منحك الله خلقاً صالحاُ», فقال: سعد: الحمد لله, هو فعل ذلك.
هكذا ذكره الواقدي في "سيره".
وحدث يونس بن بكير, عن ابن إسحاق, حدثنا هشام بن عروة ويحيى بن عباد بن عبد الله [بن] الزبير, عن أبيه, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كانت يد النبي صلى الله عليه وسلم (في مال أبي بكر, ويد أبي بكر رضي الله عنه واحدة حين حجا.
ولما انصرف صلى الله عليه وسلم) من العرج نزل السقياء ثم أصبح بالأبواء, فقضى بين اثنين اختصما في صيد:
خرج أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين": من حديث محمد بن عباد المكي, ويحيى بن موسى البلخي – ويعرف بالخت – يزيد كل واحد منهما على صاحبه الكلمة والكلمتين: أن محمد بن سليمان بن مسمول المكي حدثهم: سمعت القاسم بن مخول بن يزيد البهزي ثم السلمي يقول: سمعت أبي – وكان قد أدرك الجاهلية والإسلام –
#500#
يقول: نصبت حبائل بالأبواء, فوقع في حبل منها ظبي, فأفلت مني, فخرجت في أثره, فوجدت رجلاً قد أخذه, فتنازعنا فيه, فتساوقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجدناه نازلاً بالأبواء تحت شجرة مستظلاً بنطع, فاختصمنا إليه, ففصله بيننا شطرين ... الحديث.
#501#
$[حجامة المحرم]$
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى لحي جمل – وهو ماء بين طيبة ومكة, قيل: هو إلى طيبة أقرب, وقيل: هو عقبة الجحفة – احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك.
قال أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا ابن عيينة, عن يحيى بن سعيد, عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم على ذؤابته بمكان يدعى لحي جمل.
الذؤابة: هي وسط الرأس.
وقد جاء مفسراً في رواية يحيى بن بكير, عن مالك, عن يحيى بن سعيد, عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في رأسه وهو محرم, وهو يومئذ بلحي جمل.
وصح من حديث علقمة بن أبي علقمة, عن عبد الرحمن الأعرج, عن ابن بحينة رضي الله عنه قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلحي جمل في وسط رأسه.
وله شاهد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
#502#
ووسط الرأس أحد المواضع العشرة التي جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فيها.
والثاني منها: (اليافوخ) وهو مقدم الرأس.
والثالث: تحت الذؤابة في القمحدوة وهي مؤخر قذال الرأس.
والرابع: في النقرة, نقرة القفا, وهي وقبته.
والخامس: في الأخدعين, وهما عرقان خفيان في صفحتي الرقبة مما يلي القفا.
والسادس: في الكاهل, وهو مقدم أعلى الظهر, وقال بعضهم: هو العظم الناتئ بين الكتفين تحت الكتد الذي فوق الكتفين في مغرز العنق.
والسابع: تحت كتفه اليسرى.
والثامن: بين وركيه, وهما في العجز, عظمان, كأنهما كتفان أسفلهما فوق عالي الفخذين بمنزلة الكتفين فوق اليدين, قاله أبو عبيد.
والتاسع: فوق الركبة.
والعاشر: على ظهر القدم. فهذا ما بلغنا من المواضع التي احتجم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#503#
$[ما قيل في دخوله صلىالله عليه وسلم الحمام وبطلانه]$
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجحفة دخل حماماً بها فيما ذكره بعضهم:
وهذا غير صحيح, وقد ذكرته لئلا يغتر به, وإنما يروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما من فعله فيما خرجه أبو إسحاق إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في كتاب "الطهارة" له, فقال: حدثنا بشر بن السري, عن يعقوب بن محمد بن طلحة, عن أبيه, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه دخل حماماً بالجحفة وهو محرم.
وقال الشافعي: أخبرنا ابن أبي يحيى, عن أيوب بن أبي تميمة, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل حماماً بالجحفة, وهو محرم, وقال: ما يعبأ الله بأوساخنا شيئاً.
وحدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن ابن علية, عن أيوب.
وأما ما قال سليمان بن سلمة الخبائري: حدثنا سليمان بن ناشرة: سمعت محمد بن زياد يقول: كان ثوبان – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – جاء إلي فكان يدخل الحمام, فقلت: وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخل
#504#
الحمام؟! فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام, ثم يتنور.
خرجه أبو بكر الخرائطي في كتابه: "مساوئ الأخلاق" فقال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الوزان, حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري ... فذكره.
وخرجه البيهقي في "سننه الكبرى": من حديث يعقوب بن سفيان, حدثنا سليمان بن سلمة الحمصي, حدثنا سليمان بن ناشرة الألهاني .... فذكره بنحوه.
وهذا حديث غير صحيح, والخبائري كذاب.
وجاء حديث مسلسل بدخول الحمام والجلوس في الوزن إلى الزهري, عن أنس بن مالك مرفوعاً مسلسلاً.
وهذا حديث موضوع مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة والتابعين.
وقد قال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: لم يثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حماماً قط.
ذكره عنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم.
أخبرنا الشيخ عماد الدين أبو بكر بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم المقدسي, أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الحسين الأنصاري في شعبان سنة ثلاثين وسبعمائة, أخبرنا أبو عمرو عثمان بن علي القرشي في صفر سنة إحدى وخمسين وستمائة, أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني, أخبرنا أبو الخطاب نصر بن أحمد القارئ –
#505#
بقراءتي عليه ببغداد سنة أربع وتسعين وأربعمائة في صفر, وفي هذه السنة توفي, أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه, حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخلدي, حدثنا الحسن بن علي بن شبيب, حدثنا سليمان بن سلمة بن عبد الجبار الحمصي, حدثنا سليمان بن ناشرة الألهاني, سمعت محمد بن زياد الألهاني يقول: كان ثوبان – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – جاراً لنا, وكان يدخل الحمام, فقلت له: أتدخل الحمام وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام يتنور.
وأنبأنا به الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب, أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم – قراءة عليه وأنا حاضر – وأبو محمد عيسى بن عبد الرحمن المطعم – قراءة عليه مرتين آخرهما وأنا أسمع في رمضان سنة سبع عشرة وسبعمائة – قالا: أخبرنا جعفر بن علي الحوراني – سماعاً – والحسن بن إبراهيم بن دينار – إجازة – قالا: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني, سماعاً ... فذكره.
وقال أبو بكر بن السني أحمد في كتابه "رياضة المتعلمين": أخبرني أبو عروبة, حدثنا عباد بن يعقوب, حدثنا يحيى بن يعلي, حدثنا
#506#
محمد بن عبيد الله بن أبي رافع, عن أبيه, عن جده أبي رافع رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على موضع, فقال: «نعم موضع الحمام هذا», فبني فيه حمام.
#507#
$[مرور النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان]$
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مر بوادي عسفان, وعسفان قرية جامعة على نحو أربعة برد من مكة, ويسمى الآن مدرج عثمان، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ما خرجه وكيع بن الجراح في كتابه "الزهد" فقال: عن زمعة بن صالح, عن سلمة بن وهرام, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي عسفان فقال: «يا أبا بكر, أي واد هذا؟», فقال: وادي عسفان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد مر به هود وصالح ونوح عليهم السلام على بكرات حمر, خطمها الليف, أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون, يحجون البيت العتيق».
وحدث به الإمام أحمد في كتابه "الزهد" فقال: حدثنا وكيع, حدثنا زمعة. ... فذكره, ولفظه قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج, قال: «يا أبا بكر, أي واد هذا؟», قال: وادي عسفان, قال: «لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات حمر, خطمها الليف أزرهم العباء, وأرديتهم النمار يلبون, يحجون البيت».
#508#
وخرجه في "مسنده" أيضاً.
وفي "كتاب المناسك" لسعيد بن أبي عروبة الذي يرويه عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي عنه, عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتى على ماء بين مكة والمدينة يقال له: عسفان, فقال: «إن موسى عليه السلام أتى على هذا الوادي وهو يلبي يقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك, عبدك ذا لديك, وابن عبديك, ومر به يونس عليه السلام على جمل أحمر مخطوم عليه عباءة يقول: لبيك اللهم لبيك عبدك ذا لديك, وابن عبديك, ومر به عيسى عليه السلام على ناقة حمراء عليه عباءة قطوانية يقول: لبيك اللهم لبيك, [لبيك] عبدك ذا لديك, وابن أمتك لعبديك».
وقال أحمد في كتاب "الزهد" – أيضاً -: حدثنا هشيم, أخبرنا داود بن أبي هند, عن أبي العالية: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق فقال: «أي واد هذا؟», قالوا: وادي الأزرق, قال: «كأني أنظر إلى موسى عليه السلام وهو هابط من الثنية وله جؤار إلى الله عز وجل بالتلبية» ثم أتى على ثنية هرشى, فقال: «أي ثنية هذه؟», قالوا ثنية هرشى, قال: «كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعداء, عليه جبة من
#509#
صوف خطام ناقته خلبة,وهو يلبي».
هرشى: من قرى الجحفة.
#510#
$[مرور النبي صلى الله عليه وسلم بالمشاة]$
ولما مضى النبي صلى الله عليه وسلم من عسفان وكان بالغميم – وهو موضع بين مكة والمدينة يضاف إليه كراع, فيقال: كراع الغميم, والكراع جانب مستطيل من الحرة شبيهاً بالكراع – فلما كان بالغميم اعترض له فيما يروى المشاة, فصفوا صفوفا وشكوا إليه المشي، فقال: «استعينوا بالنسلان» ففعلوا ذلك فوجدوا فيه راحة.
والنسلان: الإسراع في المشي وهو دون العدو.
#511#
$[مرور النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وسرف]$
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بمر الظهران يوم الإثنين, فغربت له الشمس بسرف.
وسمي مر الظهران؛ لأنه في عرق من الوادي من غير لون الأرض شبه الميم الممدودة بعدها راء, خلقت كذلك. قاله السهيلي.
وقال أبو عبيد البكري في "معجمه": وقال أبو غسان: سميت بذلك لأن في بطن الوادي بين مر ونخلة كتاباً يعرف من الأرض أبيض هجاء مر إلا أن الميم غير موصولة بالراء.
[وذكر أبو عبيد قبل عن كثير عزة؛ إنها سميت بذلك لمرارتها وذكر أن بينها وبين البيت ستة عشر ميلاً].
وذكره غيره أنها على بريد من مكة إلى جهة المدينة.
وسرف: هو ماء بين التنعيم وبطن مر, وهو إلى التنعيم أقرب.
وفي سرف حاضت عائشة رضي الله عنها:
صح من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت – وفي رواية:
#512#
حضت – فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي, فقال: «ما يبكيك؟» قلت: لوددت والله أني لم أحج العام, قال: «لعلك نفست؟» قلت: نعم, قال: «فإن ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم, فافعلي ما يفعل الحاج, غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري».
وروي الليث بن سعد, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: أقبلنا [مهلين] مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد, وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عركت ... الحديث.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو المغيرة, حدثنا الأوزاعي, حدثني أبو عبيد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف, وقد نفست وأنا منكسة فقال لي: «أنفست؟» قلت: نعم يا رسول الله, ولا أحسب النساء خلقن إلا للشر.
فقال: «لا, ولكنه شيء ابتلي به نساء بني آدم».
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ثوبي الإحرام عند التنعيم حين دخل مكة.
#513#
وحدث به أبو داود في "المراسيل": عن محمد بن المصفى الحمصي, عن الوليد, عن معاوية – وهو ابن سلام – [و] عن محمد بن عبيد المحاربي, عن ابن عياش, عن سعيد بن يوسف, كلاهما عن يحيى بن أبي كثير, عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم غير ثوبيه بالتنعيم. زاد المحاربي: وهو محرم.
والتنعيم بين مكة وسرف عند طرف الحرم على فرسخين من مكة نحو المدينة, وهو من الحل, وسمي التنعيم؛ لأن عن يمينه جبلاً يقال له: نعيم, وعن شماله جبل يقال له: ناعم, والوادي يقال له: نعمان, وهو غير نعمان الذي وراء عرفة الذي أخذ الله فيه ميثاق بني آدم.
#514#
$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم ذي طوى ومبيته بها]$
ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذا طوى, وهو واد بمكة في صوب طريق العمرة المعتاد, ومسجد عائشة ويعرف اليوم بآبار الزاهر, فبات بها ليلة.
ثبت من حديث عبد الرزاق, عن معمر, عن الزهري, عن علي بن حسين, عن عمرو بن عثمان, عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قلت: يا رسول الله, أين تنزل غداً؟ - وذلك في حجته حين دنونا من مكة -, فقال: «وهل ترك لنا عقيل منزلاً؟».
وكان مبيت النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى ليلة الرابع من ذي الحجة, وصلى [بها] الصبح, ثم اغتسل من يومه.
صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وقدم مكة – تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – لأربع ليال خلون من ذي الحجة.
وثبت من حديث أيوب, عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية, ثم يبيت بذي طوى, ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
تابعه عبيد الله بن عمر, عن نافع.
#515#
ورواه موسى بن عقبة, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل ذا طوى.
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم لدخوله مكة بفخ.
خرجه الترمذي لعبد الرحمن,, وقال: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يغتسل لدخوله مكة. انتهى.
وفخ [كان به] نخيلات يسيرة متفرقة, وهو من الحرم, ودفن به عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقيل: دفن بذي طوى, وقيل بسرف, وقيل بالمحصب.
#516#
$[دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة والمسجد الحرام]$
ولما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح بذي طوى نهض فدخل مكة من يومه من أعلاها من ثنية كداء, بالفتح والمد, وهي التي تشرف على الحجون, وينحدر منها إلى المقابر, وتسمى اليوم: عقبة باب المعلاة.
ثم سار حتى دخل المسجد الحرام بعد ارتفاع الضحى من باب [بني] عبد مناف, وتسميه الناس: باب بني شيبة, وتسميه عوام الناس: باب السلام.
خرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث مروان بن أبي مروان العثماني, حدثنا عبد الله بن نافع, حدثنا مالك بن أنس, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلنا معه من باب بني عبد مناف وهو الذي يسميه الناس: باب بني شيبة, وخرجنا معه إلى المدينة من باب الحزورة, وهو باب الحناطين.
#517#
والمراد بباب بني شيبة وباب الحناطين: جهتهما لا البابين أنفسهما؛ لأنهما لم يكونا إلا في خلافة المهدي العباسي.
وقال نعيم بن حماد: حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا محمد بن إسحاق, عن أبي جعفر, عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مكة بعد ارتفاع الضحى, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته, ثم دخل المسجد, فبدأ بالحجر فاستلمه, وفاضت عيناه بالبكاء, ثم رمل ثلاثا، ومشى أربعا حتى فرغ، فلما فرغ قبل الحجر، ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه.
وفي رواية سنان بن أبي سنان، عن محمد بن علي بن حسين، عن جابر رضي الله عنه قال: حتى قدم مكة – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فكان مدخله من قبل الأبطح من الثنية، ثم أقبل حتى أناخ على باب المسجد، والباب الذي يسميه الناس: باب بني شيبة، ثم مضى حتى يستقبل الكعبة، ثم حمد الله تعالى، وصلى على أبيه إبراهيم صلى الله عليهما وسلم.
#518#
$[ما يقال عند رؤية البيت]$
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت رفع يديه وقال ما خرجه الشافعي في "مسنده" فقال: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا».
هذا منقطع.
وخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"، فقال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل من أهل الشام، عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وزد من حجه واعتمره تشريفا وتعظيما وتكبيرا وبرا».
هذا الرجل هو أبو سعيد عبد القدوس بن حبيب الكلاعي الشامي المتروك.
وقد صرح به فيما رواه عبد الرزاق بن همام في "جامعه"، فقال: أخبرنا الثوري، أخبرنا أبو سعيد – يعني عبد القدوس - أنه رأى مكحولا
#519#
يحدث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت كبر ورفع يديه ثم قال: «اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام» ثم يقول: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، وزد من شرفه وكرمه ممن حجة واعتمره تشريفا وتعظيما وتكريما».
وحدث به أبو الوليد الأزرقي في "أخبار مكة": عن جده، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: حدثت عن مكحول أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى البيت رفع يديه.. وذكر الحديث.
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير": عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نظر [إلى] البيت، قال: «اللهم زد بيتك هذا تشريفا، وتعظيما، وتكريما، وبرا ومهابة».
وروى سفيان الثوري، عن حبيب، عن طاوس، قال: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم البيت رفع يديه فوقع زمام ناقته فأخذه بشماله ورفع يده اليمنى.
وخرجه عبد الرزاق في "جامعه" عن الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم البيت رفع يديه... وذكره فلم يذكر طاوسا.
#520#
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي قزعة الباهلي، عن مهاجر المكي، قال: سئل جابر بن عبد الله رضي الله عنه أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت؟ فقال: قد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نفعله.
وحدث به – أيضا – عن أبي أسامة، عن شعبة، عن أبي قزعة بنحوه.
وأبو قزعة اسمه: سويد بن حجير الباهلي البصري.
وفي بعض طرق هذا قال: قد حججنا مع رسول الله صلىالله عليه وسلم فلم نكن نفعله.
#521#
$[ما يقال عند استلام الحجر الأسود]$
رجعنا إلى حديث جابر رضي الله عنه.
قال: حتى إذا أتينا البيت معه صلى الله عليه وسلم استلم الركن.
في لفظ عن جابر رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخل المسجد فاستلم الحجر.
وفي رواية سنان بن أبي سنان، عن محمد بن علي بن حسين، عن جابر رضي الله عنه قال: ثم مضى – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – إلى الركن الذي يليه الحجر، فاستلمه وكبر، ثم قال: «اللهم وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك» قال جابر: وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. ثم طاف سبوعا، وختم باستلام الحجر.
#522#
$[تحية المسجد الحرام]$
لم يركع النبي صلى الله عليه وسلم تحية المسجد، فإن تحية المسجد الحرام الطواف كما جاءت به الأحاديث:
قال يزيد بن هارون، أخبرنا القاسم بن أبي أيوب - يعني الأسدي الأعرج – عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله عز وجل {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} فالطواف قبل الصلاة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله عز وجل قد أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير».
وروى الحميدي المرفوع منه، فقال: حدثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الطواف بالبيت صلاة ولكن الله عز وجل أحل فيه المنطق، فمن نطق [فيه] فلا ينطق إلا بخير».
خرجه الدارمي في "مسنده" بنحوه، والبيهقي في "المعارف" للحميدي، وقال: رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه، وروي
#523#
عنه موقوفا، والموقوف أصح. انتهى.
وكان ابتداء فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد استلام الحجر، ثم الطواف كما صرح به جابر رضي الله عنه في حديثه هذا.
وروي عن ابن عمر، وعائشة، وغيرهما.
وحدث الشافعي: عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة لم يلو ولم يعرج حتى طاف بالبيت.
هذا مرسل.
#524#
$[صفة استلام النبي صلى الله عليه وسلم الحجر، وما يقال عنده]$
وأما صفة استلام النبي صلى الله عليه وسلم الحجر: فورد فيه أحاديث كثيرة؛ منها ما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت عمر رضي الله عنه قبل الحجر، وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك.
وخرج أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين في كتابه "الترغيب في فضائل الأعمال" من حديث عبد السلام بن صالح: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: حججنا مع عمر رضي الله عنه أول حجة حجها من إمارته، فلما دخل المسجد الحرام دنا من الحجر فقبله واستلمه، وقال: أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك واستلمك ما قبلتك ولا استلمتك. فقال له علي رضي الله عنه: بلى يا أمير المؤمنين، إنه ليضر وينفع، ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله عز وجل لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول، قال الله عز وجل: {وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} فلما أقروا أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق، ثم ألقمه في في
#525#
هذا الحجر وله عينان ولسان وشفتان يشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين الله عز وجل في هذا المكان، فقال عمر رضي الله عنه: لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن.
وحدث به – أيضا – ابن شاهين: من طريق محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، عن عبد العزيز بن عبد الصمد العمي، عن أبي هارون، بنحوه.
وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند تقبيل الحجر ما قاله عمر.
قال سليمان بن بلال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عيسى بن طلحة، قال: حدثني رجل أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف الركن، فقال: «والله إني لأعلم أنك حجر وما تضر ولا تنفع» ثم قبله، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فوقف عليه، فقال: والله [إني لأعلم] أنك حجر ما تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك [ثم قبله، ثم حج عمر رضي الله عنه فوقف عليه، فقال: والله إني أعلم أنك حجر ما تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك].
#526#
خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" فقال: حدثنا خالد بن مخلد القطواني، حدثنا سليمان بن بلال .. فذكره.
وقال: حديث مديني صالح الإسناد، رواه سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عيسى بن طلحة، حدثني رجل، وهو إن كان لم يسم الرجل فعلى حال قد حسنه يقول: حدثني وبقوله إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر. ثم كانت الحكاية بعد عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يتبين في الحديث الذي ذكر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما الرجل الذي لم يسم عيسى بن طلحة.
وقال البيهقي في "المعارف": وروينا عن الزبير بن عربي أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.
وقال أيضا: وروينا عن نافع أنه رأى ابن عمر رضي الله عنهما استلم الحجر بيده وقبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
وهو في "صحيح مسلم".
#527#
$[تقبيل الحجر أو مسحه أو الإشارة إليه]$
واستلام الحجر يصدق على تقبيله ومسحه والإشارة إليه بشيء كالمحيي أخاه بالإشارة، والأفعال الثلاثة جاء فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم: قبل الحجر مرة، ومرة مسحه بيده وقبله كما قدمناه من حديث عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، ومرة كان في طوافه كلما حازاه أشار إليه واستلمه بمحجنه كما روى أبو داود من حديث يزيد بن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة – وهو يشتكي – فطاف على راحلته كلما أتى الركن استلم الركن بمحجن .. الحديث.
وهو في "صحيح البخاري": من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر.
وفي "الصحيحين": من حديث ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. الحديث.
وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده": من حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، وجعل يستلم الحجر بمحجنه .. الحديث.
#528#
وله شاهد من حديث قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي وعائشة, وغيرهما.
وقال عباس بن محمد الدوري: حدثنا يونس بن محمد المؤدب, حدثنا محمد بن مهزم, عن معروف بن خربوذ, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعاً يستلم بمحجن ويقبل طرف المحجن, ويطوف بين الصفا والمروة على ناقته, والناس يزدحمون عليه, فقال الناس: ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا؛ فإن الناس يقتل بعضهم بعضاً عليه.
وحدث بنحوه أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي: عن هارون بن إسحاق, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثني جدي يزيد بن مملك, حدثني أبو الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجنه.
المحجن: عصاة في طرقها انعقاف, وهي كالصولجان يلتقط بها الراكب ما سقط منه.
#529#
$[وجود أخرى في استلام الحجر الأسود وتقبيله]$
وقد ورد حالة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم في استلام الحجر, وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر بعد طوافه أيضاً, ثم وضع يديه عليه, ومسح بهما وجهه, وقد تقدمت الرواية بذلك.
وورد حالة أخرى وهي ما قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد, حدثنا جعفر بن عمارة بن ثوبان, قال: رأيت محمد بن عباد قبل الحجر وسجد عليه, فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت [عبد الله بن] عباس قبله وسجد عليه, وقال رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه, وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك.
#530#
وقال ابن السكن: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد الآدمي المقرئ البغدادي, حدثنا محمد بن عمر بن أبي مذعور, حدثنا أبو عاصم, حدثنا جعفر بن عبد الله الحميدي - رجل من يني حميد من قريش – قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر, ثم سجد عليه فقلت: ما هذا؟ فقال: رأيت خالك عبد الله بن عباس قبله ثم سجد عليه, ثم قال: رأيت عمر بن الخطاب قبله ثم سجد عليه, ثم قال: والله إني لأعلم أنك حجر, ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلته.
وقال البيهقي في "المعارف": ورويناه عن جعفر بن عبد الله القرشي, عن محمد بن عباد بن جعفر: أنه رأى ابن عباس رضي الله عنهما قبله وسجد عليه, قال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه, ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا.
وخرجه الدارقطني في كتابه "الأفراد" من طريق أبي داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي, قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر الأسود وسجد عليه, ثم قال: إني رأيت خالد ابن عباس قبله وسجد عليه, وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه, وقال عمر حين قبله: إني لأقبلك وأنا أعلم أنك حجر, ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك.
تابعه أبو عاصم النبيل, عن جعفر.
#531#
قال الدارقطني: وهذا حديث غريب من حديث محمد بن عباد بن جعفر المخزومي, عن عبد الله بن عباس, عن عمر بن الخطاب.
تفرد به جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي عنه.
وخرجه الدارمي في "مسنده", والحاكم في "مستدركه" وقال صحيح الإسناد.
وخرجه البيهقي مرة من طريق الشافعي, عن مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن محمد بن عباد مختصراً موقوفاً لم يذكر فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك.
وخرج الدارقطني في "سننه": من حديث ابن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي حسين, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع شفتيه على الحجر طويلاً يبكي.
قال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا أبو جعفر الدقيقي، حدثنا يعلى بن عبيد, عن محمد بن عون قال أبو سعيد: وهو الخراساني – عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الحجر واستلمه ووضع شفتيه عليه, فبكى بكاء طويلاً, ثم التفت
#532#
فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلفه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا حفص ههنا تسكب العبرات».
وخرجه الحاكم في "مستدركه" مصححاً له, وأنى له الصحة وفي إسناده محمد بن عون الخراساني المتروك!.
فهذه أحواله صلى الله عليه وسلم التي بلغتنا في استلام الحجر.
وروى أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد من حديث علي بن غراب, أخبرنا عبد الله بن مسلم بن هرمز, أخبرنا مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه.
علي بن غراب وشيخه عبد الله واهيان.
وخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله.
وقد حدث به عبد الله بن مسلمة القعنبي, وأحمد بن محمد بن الوليد
#533#
الأزرقي, عن عيسى بن يونس السبيعي, حدثنا عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ويضع خده عليه.
وهذا المرسل أشبه, لكن حدث به عبد بن حميد في "مسنده" عن أبي نعيم, عن إسرائيل بن يونس, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد, عن ابن عباس كذلك.
وحدث به الدارقطني في "سننه": عن محمد بن مخلد, قال: حدثنا الرمادي, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا إسرائيل, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, ووكيع, قالا: حدثنا سفيان, عن إبراهيم بن عبد الأعلى, عن سويد بن
#534#
غفلة, عن عمر رضي الله عنه أنه قبل الحجر، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بك حفيا.
تابعه إسرائيل ومحمد بن طلحة وآخرون، عن إبراهيم نحوه.
ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع ولفظه عن سويد بن غفلة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر والتزمه، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بك حفيا.
وذكر أبو نعيم في "الحلية": أن وكيعاً تفرد به, عن الثوري, وليس كذلك, بل تابعه ابن مهدي كما تقدم.
وذكر أبو نعيم أن الحسين بن حفص رواه عن الثوري, عن رجل, عن إبراهيم: لما دخل القرامطة – لعنهم الله تعالى – إلى مكة – شرفها الله تعالى – سنة سبع عشرة وثلاثمائة, فقلعوا الحجر الأسود, وحملوه معهم إلى بلادهم الأحساء – وهي بالفتح والمد – مدينة بالبحرين, التي أول من عمرها وحصنها وجعلها قصبة هجر أبو طاهر القرمطي, ولم يزل عندهم, وبذل لهم ألوف كثيرة من الدنانير على أن يردوه فلم يفعلوا, وبقي عندهم إلى سنة خمس وثلاثين
#535#
وثلاثمائة, فتوسط الشريف أبو علي عمر بن يحيى العلوي بين الخليفة المطيع لله أبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله وبينهم, إلى أن أجابوا إلى رده وجاءوا به إلى الكوفة وعلقوه على الإسطوانة السابعة من أساطين الجامع.
وقيل: إن بعض القرامطة – لعنهم الله – قال لرجل من أهل العلم بالكوفة وقد رآه بالجامع يتمسح به: ما يؤمنكم أن نكون غيبنا ذلك الحجر وجئنا بغيره, فقال له: إن لنا فيه علامة, وهو أنا إذا طرحناه في الماء لا يرسب, ثم جاء بماء فطرحوه فيه فطفا على وجهه.
والقرامطة منسوبون إلى رجل من سواد الكوفة يقال له: قرمط – بكسر القاف – وقيل حمدان بن قرمط.
#536#
$[ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم من الأركان إلا اليمانيين]$
ولم يستلم صلى الله عليه وسلم [من الأركان] إلا اليمانيين.
صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين. مختصرا.
وفي لفظ: عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه رضي الله عنه قال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين.
وفي حديث عبيد الله بن عمر, عن نافع, عن ابن عمر أنه قال: ما تركت استلام الركنين اليمانيين والحجر الأسود في شدة ولا زحام منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما.
الركنان اليمانيان: أحدهما الذي فيه الحجر الأسود, كما يقال له مع الركن, والثاني الذي بينهما الباب: العراقيان, ويقال للركنين الذين يليان الحجر: الشاميان, ولليماني والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة: الغربيان.
#537#
ويدل على ما ذكرناه من أن الركنين اليمانيين أحدهما الذي فيه الحجر الأسود ما روي عن عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني.
وروى الشافعي من حديث موسى بن عبيدة الربذي, عن محمد بن كعب القرظي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يمسح على الركن اليماني والحجر, وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت الله أن يكون شيء منه مهجوراً, وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
خرجه البيهقي في "المعارف" من طريق الشافعي, وقال: قال الشافعي: الذي فعل ابن عباس أحب إلي؛ لأنه كان يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر يدل على أن منها مهجوراً, وكيف يهجر ما يطاف به, ولو كان ترك استلامهما هجراناً لهما, كان ترك استلام ما بين الأركان هجراناً لها.
وصح أن معاوية فعل كفعل ابن الزبير, كان يستلم الأركان كلها فاعترض عليه ابن عباس فقال: إنه لا يستلم هذان الركنان.
#538#
وفي لفظ قال له ابن عباس: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني والحجر.
وجاء عن عبد الله بن مسلم بن هرمز, عن مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني ويقبله ويضع خده عليه.
قال ابن عباس: عند الركن اليماني ملك منذ خلق الله السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة يقول: آمين آمين, فقولوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. خرجه ابن شاهين في كتابه "الترغيب".
وقال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا يونس بن محمد, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثنا ياسين الزيات, عن عبد الله بن حميد, عن إبراهيم النخعي, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مررت بالركن اليماني قط, إلا وجدت جبريل عليه السلام قائماً عنده».
وخرجه أيضاً من طريق يزيد بن أبي حكيم, عن الحكم بن أبان,
#539#
عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أتيت الركن اليماني قط, إلا وجدت جبريل قائماً عنده يقول: يا محمد استلم».
وخرج أبو نعيم في "الحلية" فقال: حدثنا أبو عمرو بن حمدان, حدثنا ابن شيرويه, حدثنا إسحاق بن راهويه, حدثنا عيسى بن يونس, حدثنا المثنى بن الصباح, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه قال: انطلقت مع عبد الله بن عمرو إلى البيت, فلما جئنا دبر الكعبة قلت له: ألا تتعوذ, فقال: أعوذ بالله من النار, ثم مضى حتى إذا استلم الحجر قام بين الركن والباب, فوضع صدره ووجهه, وبسط ذراعيه,, ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل.
وخرجه أبو داود وابن ماجه بنحوه.
#540#
$[الرمل في الطواف]$
قال جابر رضي الله عنه: فرمل ثلاثاًَ ومشى أربعاً.
وفي لفظ عن جابر قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر بثلاثة أشواط.
وفي رواية عن سفيان الثوري, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه, ثم مشى على يمينه, فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً .... الحديث.
خرجه مسلم والترمذي والنسائي.
وله شاهد من حديث ابن عمر وغيره.
وفي لفظ لابن عمر: أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع.
و"الرمل" و"الخبب": واحد, وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا دون الوثوب والعدو, ويقال له الهرولة, لكن قال الأزهري [في] الرمل في الطواف: وهو الجمن والإسراع, ولذلك قيل للخفيف من الشعر: رمل.
وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: ثم طاف – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – أسبوعاً وختم باستلام
#541#
الحجر, وتعوذ في الشوط السابع, ثم وقف حيال الباب من دبر الكعبة وألصق وجهه بالكعبة, ثم بسط يديه [عليها] ثم قال: «اللهم إن البيت بيتك, وأنا عبدك وهذا مقام العائذ بك من النار, اللهم من قبلك الروح والفرج».
#542#
$[الوضوء قبل الطواف]$
وكان صلى الله عليه وسلم قد توضأ قبل طوافه.
وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف .... الحديث.
#543#
$[الاضطباع في الطواف]$
وكان في طوافه قد اضطبع بردائه, وخرج الدارمي في "مسنده" من حديث عبد الحميد, عن ابن يعلى, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف مضطبعاً.
وخرجه الترمذي من حديث عبد الحميد ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعاً وعليه برد, وقال: هذا حديث حسن صحيح, وعبد الحميد هو ابن جبير بن شيبة, عن ابن يعلى, عن أبيه وهو يعلى بن أمية.
وخرجه ابن ماجه.
وهو في "مسند أحمد" ولفظه عن يعلى قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت مضطبعاً ببرد له حضرمي.
وخرجه أبو داود, عن يعلى قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً ببرد أخضر.
والاضطباع: جعل وسط الثوب تحت الإبط الأيمن وطرفيه على الكتف اليسرى.
#544#
وقال صاحب "المحكم": واضطبع بثوبه: أدخله من تحت يده اليمني فألقاه على منكبه الأيسر.
وفي "المجمل" نحوه.
#545#
$[دعاء الطواف]$
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في طوافه ما بين الركنين. ما قال أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج, عن يحيى بن عبيد, عن أبيه, عن عبد الله بن السائب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن والحجر: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
وخرجه أبو داود, عن مسدد, عن عيسى بن يونس, عن ابن جريج يسنده إلى عبد الله بن السائب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الطواف ما بين الركنين: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
وفي لفظ لأبي داود أيضاً: بين الركن والمقام.
وخرجه النسائي ليحيى بن سعيد, عن ابن جريج وعنده: بين الركن اليماني والحجر.
وهذا اللفظ خرجه أبو حاتم ابن حبان.
ورواه أبو عبد الله – الحسين بن إسماعيل المحاملي – في كتاب "الدعاء" من حديث يحيى بن عبيد – مولى السائب – أن أباه أخبره,
#546#
أن عبد الله بن السائب أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والحجر الأسود: «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار».
وخرجه أحمد في "مسنده" والحاكم في "مستدركه".
ورواه الشافعي وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي, عن سعيد بن سالم القداح, عن ابن جريج, عن يحيى بن عبيد نحوه.
ورواه أبو عاصم الضحاك وعبد الرزاق, عن ابن جريج.
وحدث به المفضل بن محمد الجندي, عن علي بن زياد اللججي, حدثنا موسى بن طارق قال: ذكر ابن جريج قال: أخبرني يحيى بن عبيد ..... فذكره.
وقال أبو الوليد – محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي – في كتابه "أخبار مكة": حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان – هو ابن ساج – قال: وأخبرني ياسين قال: أخبرني أبو بكر بن محمد, عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بالركن اليماني
#547#
قال: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والذل والفقر, ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة, ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ....» وذكر بقيته.
وقال أيضاً: حدثني جدي, عن سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن جعفر بن محمد, عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حاذى ميزاب الكعبة وهو في الطواف يقول: «اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب».
#548#
$[الشرب في الطواف]$
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم شرب في الطواف, قال عباس بن محمد الدوري: حدثنا مالك بن إسماعيل, أخبرنا عبد السلام بن حرب, عن عاصم, عن الشعبي, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب ماء في الطواف.
هذا حديث غريب لا يثبت, والصحيح المشهور حديث شعبة وسفيان الثوري والفزاري وغيرهم, عن عاصم, عن الشعبي, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم.
والحديث له طرق منها: أن هشيماً رواه أيضاً عن عاصم وتفرد [به] بروايته أيضاً عن المغيرة بن مقسم الضبي, كلاهما عن الشعبي.
وهذا الطواف الذي طافه النبي صلى الله عليه وسلم هو لقدومه, وهو طواف القدوم, ويقال له أيضاً: طواف القادم, والورود والوارد والتحية.
#549#
$[ما جاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ماشياً أو راكباً]$
وقد اختلف في طوافه صلى الله عليه وسلم هذا, هل كان على قدميه أو كان راكباً.
ففي "صحيح مسلم" من حديث ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة؛ ليراه الناس؛ وليشرف, وليسألوه, فإن الناس غشوه.
وفيه أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس.
وله شاهد من حديث ابن عباس وتقدم.
وذكر أبو عيسى الترمذي في "جامعه" بعد روايته حديث ابن عباس الذي قدمناه: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن, فقال: وفي الباب عن جابر وأبي الطفيل وأم سلمة.
قلت: وقدامة بن عبد الله الكلابي وعائشة وغيرهما.
خرج أبو محمد – دعلج بن أحمد بن دعلج – في كتابه "مسند
#550#
المقلين" من حديث عكرمة بن عمار, عن ضمضم بن جوس, عن عبد الله بن حنظلة ابن الراهب رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقة, لا ضرب ولا طرد, ولا [إليك] إليك.
قال الشافعي فيما رواه عنه البيهقي في "المعارف": أما سبعه الذي طافه لمقدمه فعلى قدميه؛ لأن جابراً يحكي عنه فيه أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة, فلا يجوز أن يكون جابر يحكي عنه الطواف ماشياً وراكباً في سبع واحد, وقد حفظ أن سبعه الذي ركب فيه في طوافه يوم النحر.
قال البيهقي – وذكر الحديث الذي أتاه أبو بكر [وأبو زكريا] وأبو سعيد – قال: وأخبرنا أبو العباس, أخبرنا الربيع, أخبرنا الشافعي, أخبرنا ابن عيينة, عن [ابن] طاوس, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يهجروا بالإفاضة [وأفاض] في نسائه ليلاً على راحلته يستلم الركن بمحجنه, أحسبه قال: ويقبل طرف المحجن.
هذا مرسل.
#551#
قال البيهقي: والذي روي عنه أنه طاف بين الصفا والمروة راكباً, فإنما أراد – والله أعلم – في سعيه بعد طواف القدوم, وأما بعد طواف الإفاضة فلم يحفظ عنه أنه طاف بينهما.
والذي يدل عليه ما تقدم من الآثار أنه طاف طواف القدوم ماشياً، وسعى بين الصفا والمروة في بعض أعداده ماشياً, فلما كثر عليه الناس ركب في باقيه, ثم لما طاف طواف الإفاضة طاف بالبيت راكباً, والله أعلم.
#552#
$[صلاة ركعتي الطواف خلف المقام وما يقرأ فيهما]$
قال جابر رضي الله عنه: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} فجعل المقام بينه وبين البيت.
وفي رواية: فصلى ركعتين.
قراءته صلى الله عليه وسلم لهذه الآية الشريفة بياناَ لتفسيرها, وامتثالاً لأمر الله عز وجل بفعله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الصلاة هي ركعتا الطواف, جعل المقام بينه وبين البيت وصلاهما.
صح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً, وصلى خلف المقام ركعتين .... الحديث.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين, ولكن هذا في طوافه يوم النحر راكباً, والله أعلم, وتقدمت الإشارة إليه.
قال جعفر بن محمد راوي حديث جابر: فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفي رواية: ولا أعلمه ذكره عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم [أم لا] أنه كان يقرأ في الركعتين: {قل هو الله أحد}
#553#
و{قل يا أيها الكافرون}.
وفي رواية عن جعفر قال: أبي يقول: قرأ فيهما بالتوحيد: {قل يا أيها الكافرون}, {قل هو الله أحد}.
وروي عن مالك, عن جعفر, عن أبيه, عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عند المقام ركعتين وقرأ فيهما فاتحة الكتاب و{قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.
وخرجه الترمذي من حديث عبد العزيز بن عمران, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.
ثم روى من حديث وكيع, عن سفيان, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أنه كان يستحب أن يقرأ في ركعتي الطواف بـ: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.
قال الترمذي: وهذا أصح من حديث عبد العزيز بن عمران, ثم ضعف عبد العزيز هذا.
قلت: والحديث عند وكيع أيضاً, عن موسى بن عبيدة, عن يعقوب بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.
#554#
حدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن وكيع.
وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: فلما قضى أسبوعه – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – صلى خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم ركعتين, فقرأ فيهما: {قل يا أيها الكافرون}, و{قل هو الله أحد}.
#555#
$[شرب ماء زمزم والدعاء عنده]$
ثم أتى زمرم فاستقى دلواً وهو مستقبل الكعبة, فلما وضع على فيه قال: »اللهم إني أسألك علماً نافعاً, ورزقاً واسعاً, وشفاء من كل سقم» ثم قال لأصحابه: «ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر».
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا, فلما انتهى إليه قال: «أبدأ بما بدأ الله تبارك وتعالى به».
ونحو هذا في حديث جابر من رواية حاتم بن إسماعيل التي جعلناها أصلاً في هذا الفصل.
وخرج الحافظ أبو نعيم في كتابه "حلية الأولياء" من حديث عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي: حدثنا الحارث بن عمران الجعفري, عن محمد بن سوقه, عن محمد بن المنكدر, عن جابر رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام, وهو يدعو ويقول: اللهم اغفر لفلان ابن فلان, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟» قال: رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام, فقال: «ارجع فقد غفر لصاحبك».
كذا رواه عبد الرحمن, عن الحارث, عن محمد, عن محمد, عن جابر, وإنما يعرف من حديث الحارث, عن محمد, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قاله أبو نعيم.
#556#
$[الخروج من باب الصفا للسعي]$.
وخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصفا من بابه المعروف اليوم, وكان يقال له قديماً باب [بني] عدي بن كعب, ويقال له اليوم باب بني مخزوم: حدث أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي, عن الزنجي, عن ابن جريج قال: قال عطاء: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني مخزوم إلى الصفا.
وقال أبو الحسين بن جبير في "التذكرة": وباب الصفا يقابل الركن الأسود في البلاط الذي من الجنوب إلى الشرق, وفي وسط البلاط المقابل للباب ساريتان يقابلان الركن المذكور, فيهما نقوش: أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين – أصلحه الله – بإقامة هاتين الأسطوانتين علماً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا ليتأس به حاج بيت الله وعماره. وذكر بقيته.
#557#
$[ما يقال عند الدنو من الصفا والمروة]$
قال جابر رضي الله عنه: فلما دنا – يعني النبي صلى الله عليه وسلم – من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} «أبدأ بما بدأ الله عز وجل به».
قراءته صلى الله عليه وسلم هذه الآية الشريفة عند دنوه من الصفا من قبيل قراءته صلى الله عليه وسلم عند المقام: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.
وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد, وهو يريد الصفا, فقال: «نبدأ بما بدأ الله به».
قال جابر: فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت, فاستقبل القبلة, فوحد الله عز وجل وكبره وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك, قال مثل هذا ثلاث مرات.
وفي رواية عنه لم يذكر فيها إلا التهليل الأخير إلى قوله: «وهزم الأحزاب وحده».
وفي رواية عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثاً ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير» يصنع ذلك ثلاث مرات, ويدعو, ويصنع على المروة مثل ذلك.
وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن
#558#
جابر رضي الله عنه قال: وكان قيامه صلى الله عليه وسلم على الصفا قدر ما يقرأ الإنسان البقرة.
وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قام على الصدع الذي في الصفا, فقيل له: ها هنا يا أبا عبد الرحمن قال: هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة.
خرجه البيهقي.
وهو في "معجم الطبراني الكبير" من حديث علي بن هاشم, عن إسماعيل بن مسلم, عن يزيد بن الوليد, عن إبراهيم, عن علقمة, عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
#559#
$[السعي بين الصفا والمروة]$
قال جابر رضي الله عنه: ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة, ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
وفي رواية عنه [أنه صلى الله عليه وسلم] كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى.
وفي رواية: فرمل حتى يخرج منه.
وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: ثم هبط [رسول الله] صلى الله عليه وسلم, فمشى حتى بلغ المكان الذي يهبط فيه صدور قدميه, وترتفع فيه أعقابهما, فسعى سعياً وهو يقول: «الله أكبر, الله أكبر, اللهم اغفر وارحم, وتجاوز عما تعلم, إنك أنت الأعز الأكرم, لا إله إلا أنت» حتى بلغ المكان الذي ترتفع فيه صدور قدميه وتهبط فيه أعقابهما, فمشى مشياً, حتى أتى المروة فوقف عليها, كما وقف على الصفا, وقال كما قال على الصفا, حتى قضى سبعة أشواط.
#560#
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث عبد الوارث بن سعيد, حدثنا ابن أبي سليم, عن أبي إسحاق, عن علقمة, عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سعى في بطن المسيل قال: «اللهم اغفر وارحم, وأنت الأعز الأكرم».
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أبي إسحاق إلا ليث, تفرد به عبد الوارث.
وقال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل: حدثنا محمد بن إدريس الشافعي, حدثنا عبد الله بن المؤمل, عن ابن محيص, عن عطاء بن أبي رباح, عن صفية بنت شيبة, عن حبيبة بنت أبي تجراة رضي الله عنها قالت: لما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسعى في بطن الوادي وهو يقول: «اسعوا فإن الله عز وجل قد كتب عليكم السعي» حتى إن ثوبه يديره من شدة السعي.
تابعه عبد الله بن نبيه, عن جدته صفية بنحوه.
وابن محيص هو عمر بن عبد الرحمن بن محيص.
#561#
ورواه عن ابن المؤمل: حميد بن عبد الرحمن, وسريج بن النعمان ومعاذ بن هانئ, ويونس بن محمد المؤدب وغيرهم.
ومنهم أبو نعيم الفضل بن دكين, فقال العباس بن محمد: حدثنا أبو نعيم, حدثنا عبد الله بن المؤمل, عن عمر بن عبد الرحمن السهمي, عن حفصة بنت شيبة, عن حبيبة بنت أبي بجراة قال: قال عباس: هكذا قال أبو نعيم: بجراة, فقلت: تجراة, فقال: أما الذي أحفظ الساعة: بجراة امرأة من أهل اليمن, قالت: لما سعى النبي صلى الله عليه وسلم دخلنا دار أبي حسين في نسوة من قريش, فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسعى في بطن الوادي وهو يقول: «اسعوا فإن الله عز وجل قد كتب عليكم السعي» حتى إن ثوبه يديره من شدة السعي.
تجراة بالمثناة من فوق, وما عداه تصحيف.
وحفصة في هذا السند وهم, وابن محيص عمر بن عبد الرحمن إنما رواه عن عطاء, عن صفية, كما مر آنفاً.
ورواه محمد بن بشر العبدي عن ابن المؤمل, عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين, يعني النوفلي, عن عطاء عن حبيبة بنت أبي تجراة،, فلم يذكر صفية.
وقال حنبل بن إسحاق: حدثنا أبو غسان, حدثنا إسرائيل, عن صالح
#562#
ابن رستم, عن هزيل, عن صفية [عن] أم ولد شيبة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى في الوادي, وسمعته يقول: «لا تقطع البطحاء إلا شدا».
تابعه هشام الدستوائي, عن بديل بن ميسرة العقيلي كذلك.
خالفهما حماد بن زيد, فرواه عن بديل, عن المغيرة بن حكيم, عن صفية, عن أم ولد شيبة.
وجاء عن منصور بن صفية, عن أمه, عن برة بنت أبي تجراة بنحوه.
وهو عند ابن المبارك, عن معروف بن مشكان, عن منصور بن عبد الرحمن, عن أمه صفية, عن نسوة من بني عبد الدار اللائي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم .... فذكره.
ورواه معمر, عن واصل مولى أبي عيينة, عن موسى بن عبيدة الربذي, عن صفية بنت شيبة, أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: «كتب عليكم السعي فاسعوا».
ورواه موسى بن إسحاق, عن خالد بن يزيد العمري, عن خيرة بنت محمد السباعية, عن حبيبة بنت أبي تجراة بنحوه.
#563#
وفي سند هذا الحديث اضطراب أيضاً سوى ما ذكرناه.
وقال مهران بن أبي عمر الرازي: حدثنا سفيان بن سعيد الثوري, حدثنا المثنى بن الصباح, عن المغيرة بن حكيم, صفية بنت شيبة, عن تملك قالت: نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة وهو يقول: «أيها الناس إن الله عز وجل كتب عليكم السعي فاسعوا».
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو عبد الرحمن – عبد الله بن أبي زياد القطواني – حدثنا زيد بن الحباب, أخبرني حرب – أبو سفيان المنقري حدثني محمد بن علي أبو جعفر, حدثني عمي, عن أبي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة, في المسعى كاشفاً عن ثوبه, قد بلغ إلى ركبتيه.
#564#
وفي قول جابر رضي الله عنه: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى, حتى إذا صعدت مشى, وفي الرواية الأخرى: كان إذا نزل من الصفا مشى, حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى.
في هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ماشياً.
وخرج مسلم في "صحيحه" أيضاً: من حديث أبي الزبير, أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت, وبين الصفا والمروة؛ ليراه الناس, وليشرف لهم ويسألوه, فإن الناس غشوه.
وخرجه أحمد وأبو داود والنسائي, وتقدم بعض شواهده.
وظاهر هذا أن بين الروايتين تعارضاً, وليس كذلك, بل مشى في بعض أعداد سبوعه وركب في باقيها, كما تقدم من قول البيهقي رحمه الله تعالى, والأحاديث تشهد بصحة ذلك.
منها: ما خرج مسلم في "صحيحه" عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكباً أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة, قال: صدقوا وكذبوا, قال: قلت: ما قولك صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد صلى الله عليه وسلم, حتى خرج العواتق من البيوت, قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه, فلما أكثروا عليه ركب, والمشي والسعي أفضل.
#565#
وخرجه أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا سريج ويونس, قالا: حدثنا حماد – يعني ابن سلمة – عن أبي عاصم الغنوي, عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بالبيت, وأن ذلك سنة .... الحديث, وفيه: قلت: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة وأن ذلك سنة, قال: صدقوا, إن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي, فسابقه فسبقه إبراهيم عليه السلام, ثم ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة, فعرض له شيطان – قال يونس: الشيطان – فرماه بسبع حصيات, حتى ذهب, ثم عرض له عند الجمرة الوسطى, فرماه بسبع حصيات, قال: قد تله للجبين, قال يونس: ثم تله للجبين, وعلى إسماعيل قميص أبيض, وقال: يا أبه, إنه ليس لي ثوب تكفني فيه غيره, فاخلعه حتى تكفني فيه, فعالجه لخلعه, فنودي من خلفه: {إن يا إبراهيم . قد صدقتك الرؤيا} فالتفت إبراهيم, فإذا هو بكبش أبيض, أقرن أعين, قال ابن عباس: لقد رأيتنا نتبع ذلك الضرب من الكباش, قال: ثم ذهب به جبريل إلى الجمرة القصوى, فعرض له الشيطان, فرماه بسبع حصيات حتى ذهب, ثم ذهب به جبريل إلى منى, قال: هذا منى, قال يونس: هذا مناخ الناس. ثم أتى به جمعاً فقال: هذا المشعر الحرام, ثم ذهب به إلى عرفات.
قال ابن عباس: هل تدري لم سميت عرفة؟ قال: لا. قال: لإبراهيم عرفت, قال يونس: هل عرفت؟ قال: نعم, قال ابن عباس: فمن ثم سميت عرفة.
#566#
قال: هل تدري كيف كانت التلبية؟ قلت: فكيف كانت؟ قال: إن إبراهيم لما أمر أن يؤذن بالناس في الحج خفضت له الجبال رؤوسها, ورفعت له القرى, فأذن بالناس بالحج.
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت, لم أسق الهدي, وجعلتها عمرة, فمن كان منكم ليس معه هدي, فليحل وليجعلها عمرة»: وفي رواية من حديث أبي شهاب, عن عطاء, عن جابر أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه, وقد أهلوا بالحج مفرداً, فقال لهم: «أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت, وبين الصفا والمروة, وقصروا, ثم أقيموا حلالاً, حتى إذا كان يوم التروية, فأهلوا بالحج, واجعلوا التي قدمتم بها متعة» فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: «افعلوا ما أمرتكم, فلولا أني سقت الهدي, لفعلت مثل الذي أمرتكم, ولكن لا يحل مني حرام, حتى يبلغ الهدي محله».
أبو شهاب هو موسى بن نافع الحناط الأكبر الهذلي. قال عثمان بن أبي شيبة: هو الأسدي, قال البخاري في "صحيحه": ليس له مسند إلا هذا. انتهى.
#567#
وله شاهد من حديث ابن عباس والبراء وأبي سعيد وأنس وأبي الربيع – سبرة الجهني – وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر رضي الله عنهم, وغيرهم.
قال أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا داود – يعني ابن رشيد – حدثنا أبو حفص – هو الأبار – عن منصور, عن مجاهد, عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم, فطافوا بالبيت, وسعوا بين الصفا والمروة, وأمرهم أن يحلوا, قالوا: الإحلال كله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم» وإنهم تركوه, فدخل مغضباً علي فقلت: ما يغضبك يا رسول الله؟ قال: «إني آمرهم بالأمر, فيرددون فيه, ولو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت, لكنت رجلاً من القوم».
#568#
$[فسخ الحج إلى العمرة]$
وذكر الإمام أحمد أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بفسخ الحج إلى العمرة أحد عشر من الصحابة.
وقيل: رواه أربعة عشر, وأحاديثهم صحيحة.
ومن ذلك: ما قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا وهيب, حدثنا أيوب, عن السدوسي, سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة مهلين بالحج, فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة, إلا من كان معه الهدي, قال: فلبست القمص, وسطعت المجامر, ونكحت النساء.
#569#
$[دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمحلقين]$
وحينئذ دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً, وللمقصرين مرة, كما دعا لهم يوم الحديبية.
وثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «اللهم ارحم المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين».
رواه مالك, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال عبيد الله: حدثني نافع أنه قال في الرابعة: «والمقصرين» وفيه الدعاء لهم بالرحمة.
وفي حديث أبي هريرة الصحيح أيضاً أنه دعا لهم بالمغفرة, فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين؟ قالها ثلاثاً, قال: «والمقصرين».
#570#
وجاء [من] حديث أبي غسان, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن حبشي بن جنادة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلقين» قيل: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: «اللهم اغفر للمحلقين» قال في الثالثة والرابعة: «وللمقصرين».
رواه قيس بن الربيع, عن أبي إسحاق مثله, قاله أبو نعيم في "معرفة الصحابة".
وثبت من حديث شعبة, عن يحيى بن الحصين, عن جدته رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثاً, وللمقصرين مرة [خرجه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله, لم ظاهرت للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين] واحدة قال: «لأنهم لم يسألوا».
خرجه ابن ماجه.
قال جابر رضي الله عنه: فقام سراقة بن جعشم رضي الله عنه.
مما وقع منسوباً إلى جده؛ لأنه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي أبو سفيان من مشاهير الصحابة.
وقد ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "التلقيح" في الباب الذي
#571#
ذكر فيه الأسماء المفردة, فعد اسمه فرداً, وليس كذلك, بل في الصحابة جماعة كل منهم اسمه سراقة, والعجب أن أبا الفرج – رحمه الله وإيانا – ذكر قبل ذلك فيمن اسمه سراقة من الصحابة سراقة بن مالك هذا مع ستة من الصحابة كل منهم اسمه سراقة, لكنه قلد غيره في ذلك حسبما ذكره أول الباب.
وسراقة بن مالك بن جعشم هذا كان ينزل قديداً, وقيل: إنه سكن مكة.
قال أبو عمر ابن عبد البر وغيره: مات في صدر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة أربع وعشرين. قال: وقيل: إنه مات بعد عثمان رضي الله عنهما.
روى له جماعة سوى مسلم, ولم يذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه "المدخل إلى معرفة رجال الصحيحين" فيوهم هذا أن البخاري لم يرو له شيئاً, وقد خرج له في الهجرة عن يحيى بن بكير, عن الليث عن عقيل, قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي, وهو ابن أخي سراقة بن جعشم, أن أباه أخبره أنه سمع سراقة يقول: جاءنا رسل كفار قريش .... الحديث, وقد قدمناه في الهجرة, ولم يذكر الحاكم أيضاً عبد الرحمن بن مالك ولا أباه في "المدخل" المذكور, والله أعلم.
قال جابر رضي الله عنه فقال – يعني سراقة -: يا رسول الله ألعامنا هذا, أم
#572#
للأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى فقال: «دخلت العمرة في الحج مرتين مرتين, لا, بل لأبد أبد».
وفي رواية: «لا, بل لأبد أبد» مرتين كررها.
وفي رواية: «دخلت العمرة في الحج لأبد الأبد».
وأما ما خرجه الإمام أحمد عن بلال بن الحارث المزني قلت: يا رسول الله, فسخ الحج لنا خاصة, أم للناس عامة, قال: «بل لنا خاصة».
#573#
فهذا حديث لا يثبت, قاله أحمد, وذكر أنه ليس يصح فيه حديث.
#574#
وروي عن أبي ذر موقوفاً.
#575#
وحديث بلال هذا أخرجه أبو داود, وغيره من الأحاديث يعارضه, وعامتها صحيحة.
قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة وهشام بن حجير سمعوا طاوساً يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة, ينتظر القضاء, فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة, فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي، أن يجعلها عمرة وقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي, ولكن لبدت رأسي, وسقت هديي, فليس لي محل دون محل بدني» فقام إليه سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله, اقض لنا قضاء
#576#
قوم كأنما ولدوا اليوم, أعمرتنا هذه لعامنا هذا, أم للأبد؟ قال: «[لا] بل للأبد, دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
وقال الدارمي في "مسنده": أخبرنا جعفر بن عون, حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز, عن الربيع بن سبرة, أن أباه حدثه أنهم ساروا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا عسفان, فقال له رجل من بني مدلج يقال له مالك بن سراقة أو سراقة بن مالك: اقض لنا قضاء قوم ولدوا اليوم, قال: «إن الله أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة, فإذا أنتم قدمتم فمن تطوف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل, إلا من كان معه هدي».
تابعه محمد بن بشر العبدي, حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ... فذكره بنحوه.
وخرجه أحمد في "مسنده" عن عبد الرزاق, عن معمر, عن عبد العزيز بن عمر.
وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه":عن أبي نعيم الفضل بن دكين، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان ... فذكره بنحوه.
#577#
$[النهي عن متعة النساء]$
وحدث به مطولاً منجاب بن الحارث, أخبرنا علي بن مسهر, عن عبد العزيز – يعني ابن عمر بن عبد العزيز, عن الربيع بن سبرة الجهني, عن أبيه: أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, حتى إذا كانوا بعسفان، قام إليه رجل من بني مدلج بقاتل له سراقة ابن مالك – أو مالك بن سراقة - فقال: يا رسول الله، اقض لنا قضاء قوم كأننا ولدنا اليوم، فقال: «إن الله قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة، فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمرة فليحل، إلا من كان معه هدي».
قال: فلما أحللنا قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استمتعوا من هذه النساء» - والاستمتاع عندنا التزويج – فذكرنا ذلك للنساء، فأبين إلا أن يضربن بيننا وبينهن أجلا، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «افعلوا» فغدوت أنا وابن عم لي، ومعه برد ومعي برد، وأنا أشب منه، وبرده أجود من بردي، فأتينا امرأة من أهل مكة، فعرضنا عليها ذلك، فأعجبها شبابي، وأعجبها برده، فقالت: برد كبرد، فكان الأجل بيني وبينها عشرة، فبت عندها تلك الليلة، ثم أصبحت، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بين الركن
#578#
والباب وهو يقول: «يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا».
والمحفوظ في قصة المتعة والبردين، أنها كانت في زمن فتح مكة، كما رواه عمارة بن غزية، واللفظ له، وعبد العزيز بن الربيع وسبرة كلاهما، عن الربيع بن سبرة أن أباه غزا مع رسول الله صلىه عليه وسلم قال: فأقمنا به خمس عشرة ثلاثين بين يوم وليلة، فأذن لنا رسول الله صلىه عليه وسلم في متعة النساء، وساق القصة بنحوها، وفي آخرها: فلم أخرج حتى حرمها رسول الله صلىالله عليه وسلم .
وحديث سبرة بن معبد الجهني المذكور قبل، وحديث جابر هذا، يفهم منهما أن سراقة سأله عن هذا مرتين؛ لأن رواية طاوس الأولى قال فيها: هو بين الصفا والمروة، وهذا الحديث: حتى بلغوا عسفان، فقال له رجل من بني مدلج.. وذكره.
$[كم وقع الأمر بفسخ الحج إلى العمرة]$
والأمر بفسخ الحج إلى العمرة وقع ثلاث مرار:
المرة الأولى على التخيير بين الأنساك الثلاثة.
صح عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل» قالت عائشة رضي الله عنها: وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة.
خرجه مسلم والحميدي في "مسنده" وهو في "صحيح البخاري" بنحوه.
والمرة الثانية بسرف وهي فوق رتبة التخيير في الأولى.
روى سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذي القعدة، لا نرى إلا أنه الحج، فلما كنا بسرف أو قريبا منها، مر النبي صلىالله عليه وسلم من لم يكن معه هدي يجعلها عمرة .. الحديث.
وحدث به سفيان أيضا: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة [رضي الله عنها] نحوه أيضا: حتى إذا كنا بسرف، أو قريبا منها.
وهذه اللفظة تعضد أن سؤال سراقة للنبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان مرتين؛ لأن عسفان قربية من سرف، بينهما نحو ثلاثة برد ونيف.
والمرة الثالثة: أمرهم بذلك أمرا حتما، كما تقدم.
$[قدوم علي ببدن النبي صلى الله عليه وسلم]$
قال جابر رضي الله عنه: وقدم علي رضي الله عنه ببدن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر ابن إسحاق أن عليا رضي الله عنه لما أقبل من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعهد ذلك الرجل، فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل، فقال: ويلك، ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك، قبل أن ينتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: «أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله أو في سبيل الله».
قال جابر: فوجد – يعني عليا - فاطمة رضي الله عنها ممن حل، ولبست ثيابا
صبيغا – وفي رواية: ثياب صبيغ – واكتحلت، فأنكر ذلك عليها فقالت: أبي أمرني بهذا، قال: فكان علي يقول: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا - وفي رواية: أحرشه على فاطمة – للذي صنعت، مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت».
وفي رواية سنان بن أبي سنان، عن محمد بن علي بن حسين، عن جابر رضي الله عنه قال: وأقبل علي رضي الله عنه من اليمن معه هدي قد ساقه للنبي صلى الله عليه وسلم وساق النبي صلىالله عليه وسلم معه هديا من المدينة، قال: فدخل على فاطمة عليها السلام، حين قدم، فوجد عليها [ثيابا] صبيغا، فقال: ألم تكونوا حجاجا؟ قالت: بلي، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحل، فأتى رسول الله فذكر ذلك له، فقال: «نعم، أنا أمرتهم أن يحلوا إلا من كان معه هدي».
وقال أبو الحسن الدارقطني: حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن أسد الهروي، حدثني جعفر بن أبي عثمان الطيالسي، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا حجاج بن محمد، حدثني يونس بن أبي إسحاق، [عن أبي إسحاق]، عن البراء، حدثني علي بن أبي طالب أن فاطمة عليها السلام أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تحل، فحلت ونضحت البيت
بنضوح.
قال جعفر: كان أحمد بن حنبل قال لي: أيش عند صاحبك عن حجاج، فذكرت له هذا الحديث، فقال: وددت أني سمعته من حجاج بأربعمائة من حديثه.
تفرد به حجاج، عن يونس، ويونس عن أبيه، فيما ذكره الدارقطني في كتابه "الأفراد".
ففاطمة رضوان الله عليها ممن حل.
وكذلك نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله عنها، فإنها لم تحل؛ لتعذر الحل عليها بحيضها.
$[تعذر الحل على عائشة لعذرها]$
ثبت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، فقدمنا مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل، حتى يحل بنحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه»، قالت: فحضت، فلم أزل حائضا، حتى كان يوم عرفة .. الحديث.
ويفسره ما روى الليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت، حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: قلنا: حل ماذا؟ قال: «الحل كله» قال: فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي، فقال: «وما شأنك؟» فقالت: شأني أني فد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج» ففعلت، ووقفت المواسم، حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم قال: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي
أني لم أطف بالبيت حتى حججت، فقال: «اذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم»، وذلك ليلة الحصبة.
خرجه مسلم في "صحيحه" من حديث الليث.
ورواه مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء، عن أبي الزبير نحوه، وزاد فيه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً, إذا هويت شيئاً تابعها.
قال جابر رضي الله عنه: يعني: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «ماذا قلت حين فرضت الحج؟» قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: «فإن معي الهدي فلا تحل»:
وروى ابن جريج قال عطاء: قال جابر رضي الله عنه: أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أن يقيم على إحرامه.
وصح من حديث سليم بن حيان: سمعت مروان الأصفر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم علي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن, فقال: «بم أهللت؟» قال: بما أهلَّ به النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «لولا أني معي الهدي لأحللت».
قال جابر رضي الله عنه: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي رضي الله عنه من اليمن, والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة.
قال: فحلَّ الناس كلهم وقصروا, إلا النبي صلىالله عليه وسلم ومن كان معه هدي.
صح عن مالك, عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما, عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يا رسول الله, ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟
قال: «إني لبدت رأسي وقلدت هديي, فلا أحل حتى أنحر».
أكثر الناس كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم هدي وكانت معهم فاطمة وحفصة وسائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم, والنبي صلى الله عليه وسلم كان معه الهدي, فلم يحل, وكذلك من كان كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير رضي الله عنهم لم يحلوا من أجل الهدي.=
ج6. [منزل النبي صلى
الله عليه وسلم من مكة لما قضى طوافه وسعيه]
قال جابر رضي الله عنه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى.
لم يذكر في حديث جابر أين نزل النبي صلى الله عليه وسلم من مكة لما قضى طوافه وسعيه.
وقد روي عن أم هانئ رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله, (ألا تنزل بيوت مكة, فأبى ذلك واضطرب بالأبطح قبة ولم يدخل بيتاً, ولم يظله.
وفي "الطبقات الكبرى" لابن سعد: ثم سعى – يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – بين الصفا والمروة على راحلته من فوره ذلك, وكان قد اضطرب بالأبطح فرجع إلى منزله.
وثبت عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء, فقال: «بم أهللت؟» قلت: بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «هل سقتَ مِن هَدْي؟» قلت: لا، قال: «فطف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ» فطفت بالبيت وبالصفا والمروة, ثم أتيت امرأة من قومي، فمشطتني وغسلت رأسي - الحديث.
#6#
وعن ابن أبي جُحَيفة, عن أبيه رضي الله [عنه] قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم, قال: فخرج بلال بوضوئه فمن ناضح ونائل, قال فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه .... الحديث بطوله.
قال ابن حزم: وأقام صلى الله عليه وسلم يوم الأحد المذكور – يعني يوم دخوله مكة – والإثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس, وهو يوم التروية. انتهى.
وفي يوم من تلك الأيام التي أقام صلى الله عليه وسلم فيها بمكة عاد – فيما ذكره بعضهم – سعد بن أبي وقاص من وجع أشفى منه على الموت, واستأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية بماله.
صح من حديث يحيى بن قزعة, حدثنا إبراهيم, عن الزهري, عن عامر بن سعد بن مالك, عن أبيه قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع
#7#
– يعني من وجع أشفيت منه على الموت – فقلت: يا رسول الله, بلغ بي من الوجع ما ترى, وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة, أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» قال: أفأتصدق بشطره؟ قال: «الثلث يا سعد, والثلث كثير, وإنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس, ولست بنافق نفقة تبتغي بها وجه الله, إلا آجرك الله بها, حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك» قلت: يا رسول الله, أخلف بعد أصحابي، فقال: «إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله, إلا ازددت درجة ورفعة, ولعلك تخلف حتى ينتفع بك أقوام, ويضر بك آخرون».
الحديث متفق عليه من حديث الزهري, ورواه عنه جماعة: منهم مالك, وعبد العزيز بن أبي سلمة, ويونس, ومعمر, فكلهم قالوا في حديثهم: عام حجة الوداع.
وقال أبو مسلم عبد الله بن وهب القرشي في "مسنده": حدثني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس, ويونس بن يزيد أن ابن شهاب
#8#
حدثهم, عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أخبره, عن سعد بن أبي وقاص, قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع من وجع اشتد بي, قال: قلت: يا رسول الله, قد بلغ بي من الوجع ما ترى, وأنا ذو مال ... وذكر الحديث, وهو أول حديث في "المسند".
وقد خالفهم ابن عيينة, فقال فيما رواه ابن أبي عمر عنه, عن الزهري, عن عامر بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه رضي الله عنه قال: مرضت عام الفتح مرضاً أشفيت منه على الموت ... وذكر الحديث.
تابعه زكريا بن يحيى المروزي, عن سفيان كذلك.
وحدث به الحميدي, عن سفيان, فلم يذكر وقتاً, إلا أن في روايته قال: مرضت بمكة مرضاً أشفيت منه على الموت.
#9#
ورواه محمد بن كثير, عن سفيان, عن سعد بن إبراهيم, عن عامر بن سعد, عن سعد رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض بمكة, فقلت: لي مال أوصي بمالي كله .... الحديث.
تابعه أبو نعيم الفضل بن دكين, عن سفيان ورواه أبو داود الحفري - عمر بن سعد - عن سفيان, عن سعد بن إبراهيم, عن عامر بن سعد, عن سعد قال: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ... : وذكر الحديث, ولم يذكر مكاناً ولا زماناً.
وكذلك جاء في رواية زائدة, عن عبد الملك بن عمير, عن مصعب بن سعد, عن سعد قال: عادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أوصي بمالي كله؟ فقال «لا» .... الحديث.
تابعه كذلك سماك بن حرب, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: مرضت, فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت, فأبى, قلت: فالنصف, فأبى .... الحديث.
والصحيح إن شاء الله تعالى في هذه القصة أنها كانت بمكة عام حجة الوداع, كما بين في طرق للحديث ونسب الأئمة سفيان إلى الوهم في روايته أن القصة كانت زمن الفتح.
#10#
وللحديث طرق غير ما تقدم.
منها: ما حدث به أيوب بن أبي تميمة السختياني, عن عمرو بن سعيد, عن حميد بن عبد الرحمن الحميري, عن ثلاثة من ولد سعد, كلهم يحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة ... الحديث.
ورواه المكي بن إبراهيم, عن الجعيد, عن عائشة بنت سعد, عن أبيها قال: اشتكيت بمكة ..... الحديث.
وجزم بأن هذه القصة كانت في حجة الوداع جماعة منهم: الواقدي في "تاريخه" الذي رواه عنه ابنه محمد, وكاتبه محمد بن سعد, ومحمد بن السائب الكلبي.
وحدث الواقدي عن سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني, فوضع يده بين ثديي, فوجدت بردها على فؤادي,
#11#
فقال: «إنك رجل مفئود, فأت الحارث بن كلدة أخا ثقيف, فإنه رجل يتطبب, فمره فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن، ثم ليدلك بهن».
وحدث به أبو بكر بن السني في كتابه "رياضة المتعلمين" عن أبي عروبة, حدثنا عمرو بن هشام, حدثنا سفيان [عن] ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: قال سعد بن أبي وقاص: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يعودني, فوضع يده على بدني, فوجدت بردها في فؤادي, فقال «إنك رجل مفئود, فأت الحارث بن كلدة, فإنه رجل يتطبب».
ورواه الحافظ أبو نعيم في كتابه "الطب" فقال: حدثنا محمد بن [أحمد بن] حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان, حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا سفيان ... فذكره كذلك.
وحدث به أيضاً في الكتاب مرة أخرى بهذا الإسناد مطولاً, كرواية الواقدي.
وروينا من حديث أبي أحمد بشر بن مطر الواسطي, حدثنا سفيان بن عيينة ... فذكره بنحوه.
#12#
وخرج أبو نعيم في كتاب "الطب" من طريق محمد بن سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه قال: مرض سعد بن أبي وقاص, وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أراني إلا لما بي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن يشفيك الله, حتى يضر بك قوماً, وينفع بك آخرين» ثم قال للحارث بن كلدة الثقفي: «عالج سعداً مما به» قال: «والله إني لأرجو أن يكون شفاؤه مما معه في رحله, هل معكم من هذه التمرة العجوة شيء؟» قالوا: نعم, قال: فصنع له الفريقة, خلط له التمر بالحلبة, ثم أوسعها سمناً, ثم أحساها إياه, فكأنما نشط من عقال.
تابعه سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق, عن إسماعيل بن
#13#
محمد بن سعد, عن أبيه, عن سعد أنه مرض بمكة, فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أدعوا له طبيباً», فدعا له الحارث بن كلدة الثقفي, فنظر إليه, فقال: ليس عليه بأس, فاتخذوا له فريقة بشيء من تمر – عجوة وحلبة يطبخان – فتحساها, فبرأ.
الفريقة: تمر يطبخ بأشياء للمداواة, قاله الزبيدي, وهو بفتح الفاء وكسر الراء وإسكان الياء آخر الحروف, وفتح القاف بعدها هاء الثأنيث, والله تعالى أعلم.
وذكر ابن الكلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعداً دعا له الحارث بن كلدة الثقفي, وكان متطبباً, فلما أن نظر إليه قال: إني لأظن شفاءه بعض زاده، فاطلبوا له تمر عجوة, فأتوا بها, فجعل منها دواء, فسقاه فبرأ, قال: وخرج سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: يحتمل قوله: وخرج سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون خرج معه لما انصرف من حجه متوجهاً إلى المدينة, ويحتمل أن يكون خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم التروية متوجهين إلى منى, والله أعلم.
وقبل يوم التروية بيوم – وهو السابع من ذي الحجة – خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس, وأخبرهم بمناسكهم.
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس قبل يوم التروية بيوم, وأخبرهم مناسكهم. خرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد.
#14#
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر, حدثني هشام بن عمارة, عن عبد الرحمن بن أبي سعيد, عن عمارة بن حارثة, عن عمرو بن يثربي الضمري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر, ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة والغد من يوم النحر بعد الظهر.
وكان توجهه صلى الله عليه وسلم إلى منى يوم الخميس ضحى, وقيل بعد الزوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قبل يوم التروية كان قد صلى بمنزله الذي أقام فيه بالمسلمين بظاهر مكة أربعة أيام, يقصر الصلاة, أولها يوم الأحد.
وقال أبو محمد بن حزم في كتابه "سيرة حجة الوداع": ولما ذكرنا أيضاً من أن يوم عرفة كان في ذلك الشهر يوم الجمعة, وكان نهوضه صلى الله عليه وسلم إلى منى بلا خلاف قبل يوم عرفة بليلة واحدة, فكان إذا يوم الخميس بلا شك. انتهى.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا موسى بن إسماعيل, حدثنا الوليد بن مسلم, عن عثمان بن أبي العاتكة, عن علي بن يزيد, عن القاسم, عن أبي أمامة, عمن أبصر النبي صلى الله عليه وسلم سائراً إلى منى, وبيد بلال عود عليه ثوب أو شيء يظله من الشمس, كان هذا يوم التروية, والله أعلم.
#15#
ويوم التروية هو اليوم الثامن من عشر ذي الحجة.
قال الزهري: سمي يوم التروية؛ لأنهم كانوا يتروون من الماء, فإن عرفات لم يكن بها ماء.
وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمي بذلك؛ لأن إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأى ليلة التروية في منامه الأمر بذبح ابنه, فلما أصبح روّى يومه أجمع, أي فكر في أمر الرؤيا, أمن الله أو من الشيطان, فسمي بذلك.
واليوم السابع قبله يسمى يوم الزينة.
ومنى على طريق عرفات من مكة, وهي شعب طوله دون الميلين, وعرضه دون رمية السهم, وهي عن مكة فرسخ, وفي نسختي بـ "الإيضاح" لأبي زكريا النواوي رحمة الله عليه, وهي نسخة معتمدة بخط أبي عبد الله محمد بن سامة, وقوبلت على أصل المصنف, وتداولها المحدثون, وقع فيها قوله: "واعلم أن بين مكة ومنى فرسخين. لكن كانت بخط كاتبها: فرسخاً, فأصلحت: فرسخين, وصحح فوقها, وفي هذا الإصلاح والتصحيح نظر, فإن مسافة ما بين مكة ومنى قد رأيناها ولله الحمد, وربما هي دون فرسخ الذي هو ثلاثة أميال, والله أعلم.
قال مصنف كتاب "صورة الأرض": وبينه – أي بين مكة ومنى – ثلاثة أميال.
وهكذا ذكره ياقوت الحموي في "المشترك".
#16#
ومنى ذكر, قاله ابن السراج اللغوي, فيصرف حينئذ.
قال أبو دهبل الجمحي في تذكيره:
سقى منى ثم رواه وساكنه ... ومن ثوى فيه واهي الودق منبعق.
وقد يؤنث فيمنع – يعني الصرف – أنشد البكري للعرجي:
ليؤمنا بمنى إذ نحن ننزلها ... أشد من يومنا بالعرج أو ملل
وقال أبو بكر محمد بن القاسم بن الأنباري في كتابه "المذكر والمؤنث": وقال الفراء: الغالب على منى التذكير والإجراء.
قال جابر رضي الله عنه: فأهلوا بالحج.
وفي رواية فأهللنا بالحج, فهذه الرواية الثانية توضح أن جابراً رضي الله عنه كان ممن لم يكن معه هدي, وكان حلالاً فأهل مع الناس بالحج.
ويعضده ما خرجه البخاري في "صحيحه" تعليقاً من حديث عطاء, عن جابر رضي الله عنه قال: قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فأحللنا يوم التروية, وجعلنا مكة بظهر, لبينا بالحج. وقال أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه: أهللنا من البطحاء.
#17#
وهي مسافة ما بين المحصب ومكة, قال البكري: وليس الصفا منها.
وذكر ياقوت في "معجم البلدان" أن الأبطح يضاف إلى مكة, وإلى منى؛ لأن مسافته منهما واحدة, وربما كان إلى منى أقرب, وهو المحصب, وهي خيف بني كنانة.
قال جابر رضي الله عنه: وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها.
وفي رواية: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.
وفي رواية: والصبح بدل الفجر.
ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس, وأمر بقبة من شعر تضرب.
وفي رواية فضربت له بنمرة.
نمرة: الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف, قاله الأزرقي وغيره.
قال ابن القيم: وهي قرية شرقي عرفات, وهي خراب اليوم.
وخرج الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى بنا رسول الله صلىالله عليه وسلم بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم غدا إلى عرفات.
#18#
وخرج أبو داود نحوه.
وهو في "معجم الطبراني الأوسط": من حديث عبثر بن القاسم, عن الأعمش, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم التروية بمنى الظهر والعصر.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلا عبثر.
قلت: وأبو إسحاق الفزاري, فيما رواه أبو حفص – عمر بن الحسن بن نصر القاضي – حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله, حدثنا أبو إسحاق الفزاري, عن الأعمش ... فذكره.
وخرجه أبو داود عن الأعمش, عن الحكم بن عتيبة, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلى رسول [الله] صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية, والفجر يوم عرفة بمنى.
#19#
وخرجه الترمذي للأعمش بمعناه, وقال: قال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أشياء, وعدها, وقال: ليس هذا الحديث مما عده شعبة فيما سمعه الحكم من مقسم. انتهى.
فعلى هذا يكون الحديث منقطعاً, والله أعلم.
وقال الشافعي – فيما حكاه عنه البيهقي في "المعارف" -: راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم التروية بعد الزوال إلى منى, فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح, ثم غدا إلى عرفة, فقائل يقول: حين طلعت الشمس على ثبير, وقائل يقول: حين أسفر.
ثبير: جبل عظيم بالمزدلفة, مشرف على الجبال التي حوله, على يسار الذاهب إلى منى.
وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم تلك قصراً.
صح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين.
وقال حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط, وآمنه بمنى ركعتين.
#20#
وله شاهد من حديث أنس وابن مسعود.
#21#
$[أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحية في مسجد الخيف]$
وقال ابن جريج: حدثنا أبو الزبير أن مجاهداً أخبره أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود حدث عن أبيه قال: بينما نحن في مسجد الخيف ليلة عرفة التي قبل يوم عرفة, إذ سمعنا حس الحية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فدخلت في شق حجر, فأتى بسعفة, فأضرم فيها ناراً, فأدخلنا عوداً, فقلعنا عنها بعض الحجر, فلم نجدها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «دعوها, فقد وقاها الله شركم, ووقاكم شرها».
والحديث مخرج في "الصحيحين" من حديث الأعمش, حدثني إبراهيم, عن الأسود, عن عبد الله رضي الله عنه قال: بينا نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى, إذ نزلت عليه: {والمرسلات} وإنه ليتلوها, وإني لأتلقاها من فيه, وإن فاه لرطب بها, إذ وثبت علينا حية, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها, فذهبت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقيت شركم, كما وقيتم شرها».
#22#
رواه عن الأعمش: جرير, وحفص بن غياث, وسليمان بن قرم, وأبو معاوية محمد بن خازم.
تابعه عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه.
وهو عند الأعمش أيضاً, عن إبراهيم, عن علقمة بن قيس, عن ابن مسعود.
تابعه منصور, عن إبراهيم, رواه إسرائيل عن الأعمش ومنصور.
قال مسدد: حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج, حدثني أبو الزبير أن مجاهداً أخبره أن أبا عبيدة بن عبد الله أخبره, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ح.
وقال خلف بن سالم: حدثنا يحيى, عن ابن جريج, أخبرني أبو الزبير, عن مجاهد, عن أبي عبيدة, عن أبيه كلاهما قال: قال: بينما نحن في مسجد الخيف ليلة عرفة التي قبل يوم عرفة, إذ سمعنا حس الحية, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا» فدخلت في شق حجر, فأتي بسعفة, فأضرم فيها نار, وأدخلنا عوداً, فقلعنا عنها بعض الحجر, فلم نجدها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها, فقد وقاها شركم ووقاكم شرها».
#23#
وقال خلف: «فقد وقاها الله شركم, كما وقاكم شرها», وقال أحدهما: فأتي بسعفة, فأضرم فيها ناراً.
وحدث به النسائي عن عمرو بن علي, عن يحيى بنحوه.
ورواه عبد الله بن إدريس, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, عن مجاهد, عن أبي عبيدة بن عبد الله, عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف ... وذكر مثله.
حدث به يعقوب بن شيبة في "مسنده" عن الثلاثة كذلك, وقال: قال ابن المديني: إسناده ليس بالمتصل؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.
وحدث به يعقوب أيضاً في "المسند": عن محمد بن عبد الله بن نمير, حدثنا حفص بن غياث, حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ليلة عرفة, فخرجت حية فقال: «اقتلوا, اقتلوا» فسبقتنا.
خرجه البخاري من طريق حفص وأبي معاوية, وسليمان بن قرم وجرير عن الأعمش.
ورواه مسلم من طريق حفص وجرير, وأبي معاوية.
#24#
تابعهم زيد بن أبي أنيسة, عن الأعمش.
(م) حدثنا أبو كريب, حدثنا حفص, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, عن ابن مسعود وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتل حية بمنى: ح.
#25#
$[نزول المرسلات على النبي صلى الله عليه وسلم]$
حدثنا محمود, حدثنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه: {والمرسلات} .... الحديث.
حدثنا عبدة بن عبد الله, حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن منصور بهذا.
تابعه أحمد بن سليمان, عن يحيى بن آدم.
وهو عند إسرائيل عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله مثله.
وتابعه أسود بن عامر, عن إسرائيل.
وقال حفص وأبو معاوية وسليمان بن قرم, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود.
وقال يحيى بن حماد: وأخبرنا أبو عوانة, عن مغيرة, عن إبراهيم,
#26#
عن علقمة, عن عبد الله.
وقال ابن إسحاق: عن عبد الرحمن بن الأسود, عن أبيه, عن عبد الله.
حدثنا قتيبة, حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن الأسود, قال: قال عبد الله: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار إذ نزلت والمرسلات فتلقيناها من فيه, وإن فاه لرطب بها .... الحديث.
ورواه المسعودي, عن الأعمش, عن أبي وائل, عن عبد الله.
ورواه عبد الله بن إدريس, عن الأعمش, عن أبي رزين, عن زر بن حبيش, عن عبد الله.
وكذلك رواه جرير أيضاً, عن الأعمش.
ورواه عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي, عن أبيه, عن ابن مسعود, علقه البخاري عنه.
(م) حدثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم, عن أبي معاوية, وحدثنا قتيبة, وعثمان, عن جرير, وحدثنا عمر بن حفص, حدثنا أبي, كلهم عن الأعمش .... فذكره بنحوه.
#27#
رواه خلف بن سالم, وزهير بن حرب, عن جرير, ومحمد بن عبد الله بن نمير, عن أبي معاوية.
وحدث به خلف بن سالم, عن يحيى بن آدم, أخبرنا إسرائيل, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله.
ورواه الأسود بن عامر, عن إسرائيل, عن منصور, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله.
تابعه شيبان, عن منصور.
قال كاتبه: هذه ملحقة وأثبتها في الأصل, غير مخرج لها, وغير مصحح عليها.
#28#
$[صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عنزة]$
قال محمد بن عبد الله الشافعي: حدثني محمد بن خالد الآجري, حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني: أخبرنا شريك, عن عبد الله, عن أبي إسحاق, عن أبي جحيفة قال: أمنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى, فركز عنزة, فصلى إليها.
#29#
$[من صلى في رحله ثم أتى مسجد جماعة فليصل معهم]$
وقال الترمذي في "جامعه": حدثنا أحمد بن منيع, حدثنا هشيم, أخبرنا يعلى بن عطاء, حدثنا جابر بن يزيد بن الأسود, عن أبيه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجه, فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف, فلما قضى صلاته وانحرف, إذا هو برجلين في القوم لم يصليا معه, فقال: «علي بهما» فجيء بهما ترعد فرائصهما, فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا: يا رسول الله, إنا قد كنا صلينا في رحالنا قال: «فلا تفعلا, إذا صليتما في رحالكما, ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم, فإنها لكما نافلة».
حديث حسن صحيح, قاله الترمذي.
وخرجه أبو حاتم – محمد بن حبان – في "صحيحه" لهشيم, وسيأتي إن شاء الله تعالى.
تابعه حماد بن سلمة وشعبة وسعيد بن زيد وسفيان وهشام بن حسان وأبو عوانة عن يعلى.
#30#
وقال أحمد بن الوليد الفحام: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا شعبة, أخبرني يعلى بن عطاء, سمعت جابر بن يزيد, عن الأسود السوائي يحدث, عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح, فإذا رجلان قاعدان حين صلى النبي صلى الله عليهوسلم في ناحية المسجد, ولم يصليا, فدعا بهما, فجيء بهما ترتعد فرائصهما. ... وذكر الحديث.
وزاد غير مسلم: ثم قال الناس يأخذون بيده صلى الله عليه وسلم يمسحون بها وجوههم, قال: فأخذت بيده صلى الله عليه وسلم, فمسحت بها وجهي, فوجدتها أبرد من الثلج وأطيب ريحاً من المسك.
وقد تقدم مختصراً دون القصة من رواية البخاري في "تاريخه الكبير".
وقال يحيى بن عبد الحميد: حدثنا شريك, عن يعلى, عن عطاء, عن جابر بن يزيد, عن أبيه أن أحد الرجلين اللذين صليا في رحالهما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: استغفر لي. قال: «غفر الله لكما» وأخذ بيده فوضعها على صدره, فوجدت بردها في ظهري, قال: فما شممت ريحاً قط أطيب من يده صلى الله عليه وسلم, ولقد كانت يده أبرد من الثلج.
#31#
والحديث من الأفراد, فذكر البيهقي في كتابه "المعارف" أن يزيد بن الأسود ليس له [راو] غير ابنه, ولا لجابر بن يزيد راو غير يعلى بن عطاء, ويعلى بن عطاء لم يحتج به بعض الحفاظ, وكان يحيى بن معين وجماعة من الأئمة يوثقونه, انتهى قول البيهقي.
وعن يعلى اشتهر الحديث فرواه هشيم, كما قدمناه, وتابعه سفيان الثوري وشعبة وهشام بن حسان وحماد بن سلمة وغيرهم, فرووه عن يعلى نحوه.
والحديث عند أبي داود في "سننه" من طريق شعبة, عن يعلى, وهو طائفي نزل واسط, ومات بها سنة عشرين ومائة.
ورواه أبو غسان نصر بن منصور البصري – وكان صاحب سنة, مات يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة إحدى وستين ومائتين – فقال: حدثنا أبو النعمان, حدثنا سعيد بن زيد, عن يعلى بن عطاء ... فذكره [بنحوه].
وقال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه, حدثنا أبي, حدثنا أبو خالد الأحمر – سليمان بن حيان – ح.
#32#
وحدثنا القاسم بن زكريا, حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو خالد الأحمر, عن حجاج, عن يعلى بن عطاء, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين في مسجد الخيف, في أخريات الناس, فأمر بهما, فجيء بهما ترعد فرائصهما, فقال: «ما منعكما من الصلاة معنا؟» قالا: صلينا في رحالنا, قال: «أفلا صليتم معنا فتكون تطوعاً, وصلاتكم الأولى هي الفريضة».
هكذا رواه الحجاج, عن يعلى بن عطاء, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو, وخالف الناس في إسناده.
ورواه شعبة وأبو عوانة وهشيم وإبراهيم بن ذي حماية والثوري وهشام بن حسان, عن يعلى بن عطاء, عن جابر بن يزيد بن الأسود السوائي, عن أبيه.
قال الطبراني: وهذان الرجلان هما أبو الخريف وأخوه.
قال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي: حدثنا أبو
#33#
الأشعث, حدثنا محمد بن بكر, حدثنا عمر بن قيس, عن صعصعة بن أبي الخريف سمعت أبي يحدث عن جدي قال: أقبلت أنا وأخي والنبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس بالخيف من منى في صلاة الغداة, وقد صلينا الصبح في منازلنا, فتخلفنا حتى فرغ من صلاته, فلما انصرف قال: «علي بهذين الرجلين» فأتي بنا, فقال: «ما منعكما أن تصليا مع الناس؟» قالا: كنا صلينا في رحالنا, فوجدناكم تصلون, فكففنا حتى صليتم قال: «فإذا صلى أحدكم في رحله, فوجد الناس يصلون, فليصل بصلاتهم, وليجعل صلاته في بيته نافلة».
تابعه محمد بن محمود بن محمد السراج, عن أحمد بن المقدام.
وفي سنده اضطراب: فخرجه الطبراني في "معجمه": ابن أبي الخريف, فقال: حدثنا الحسين بن السميدع الأنطاكي, حدثنا موسى بن أيوب النصيبي, حدثنا عبد العزيز بن الزبير, عن عمر بن قيس, عن صعصعة بن السوائي, عن ابن أبي الخريف, عن أبيه, عن جده قال: أتيت أنا وأخي رسول الله صلى الله عليهوسلم وهو في مسجد الخيف يصلي, وقد صلينا المكتوبة في البيت, فلم نصل معهم .... الحديث.
وحدث به أبو عمرو – عثمان بن السماك – عن علي بن إبراهيم الواسطي, حدثنا الحارث بن منصور, حدثنا عمر بن قيس, عن
#34#
صعصعة, عن أبي الخريف, عن أبيه, عن عمه وجده, قالا: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فصلينا في منازلنا بمنى, ثم أتينا المسجد فأصبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون, فقمنا حتى فرغوا, فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «علي بهذين, ما منعكما أن تصليا؟» قالا: يا رسول الله, صلينا في رحالنا .... الحديث.
وأبو الخريف بفتح الخاء المعجمة, وكسر الراء.
وقد ذكر أبو بشر الدولابي في كتابه "الكنى" أبا الخريف عبيد الله بن ربيعة السوائي الراوي, عن يزيد بن عامر السوائي الصحابي, [ذكره بفتح الحاء المهملة وكسر الراء].
وذكره أبو محمد عبد الله بن علي الجارودي بالخاء المعجمة.
وقال معن بن عيسى: حدثني سعيد بن السائب الطائفي, عن نوح بن صعصعة, عن يزيد بن عامر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جئت للصلاة فوجدت الناس في الصلاة, فصل معهم, وإن كنت قد صليت تكون تلك نافلة وهذه مكتوبة».
قال جابر رضي الله عنه: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام, كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.
#35#
وقع في هذا زيادة من رواية حفص بن غياث, عن جعفر بن محمد, وهي ما قال مسلم في "صحيحه" عقب هذا الحديث الطويل: وحدثنا عمر بن حفص بن غياث, حدثني أبي, حدثنا جعفر بن محمد, حدثني أبي أتيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وساق الحديث بنحو حديث حاتم بن إسماعيل, وزاد في الحديث: وكانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري, فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام, لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه, وتكون منزلته ثم, فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات, فنزل هكذا.
رواه مسلم مختصراً.
وأبو سيارة آخر من ولي أمر الإفاضة بالناس من المزدلفة وعليه قام الإسلام, واسمه عميلة بن الأعزل العدواني, وتقدم ذكر نسبه.
كان مسيره صلى الله عليه وسلم على طريق ضب, وضب طريق مختصر من المزدلفة إلى عرفة وهو في أصل المأزمين عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة. قاله أبو الوليد الأزرقي, وقال: وقد ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم سلكها حين غدا من منى إلى عرفة, قال ذلك بعض المكيين. انتهى.
وأما صنيع قريش في الجاهلية فكانت تقف قبل دخولها عرفات
#36#
بالمشعر الحرام, وهو قزح الآتي ذكره إن شاء الله تعالى .
وكان سائر العرب يتجاوزون [المزدلفة] إلى عرفات, ولا يقفون بالمشعر, وكانت قريش ومن دان دينها يسمون الحمس.
وقد صح عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: أضللت بعيراً لي يوم عرفة, فخرجت أطلبه بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس بعرفة, فقلت: هذا من الحمس, فما شأنه هاهنا.
متفق عليه من حديث سفيان – هو ابن عيينة – عن عمرو بن دينار, عن محمد بن جبير بن مطعم, عن أبيه.
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد المقدسي رحمه الله في كتابه "دلائل النبوة" فيما وجدته بخطه عقب حديث جبير الذي قدمناه قال: وهذا قبل النبوة, وكان الله عز وجل قد وفقه صلى الله عليه وسلم بأن وقف بعرفة مع الحاج, وكانت قريش تسمى الحمس, وكانوا يقفون في الحرم,
#37#
ولا يخرجون منه, فلذلك تعجب منه جبير بن مطعم, بكونه لم يقف مع قومه, فلما جاء الإسلام ظن بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف مع قريش, فأوحى الله عز وجل إليه: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} فوقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفه في حجته. انتهى.
وكانت قريش أيضاً تدفع يوم عرفة قبل غروب الشمس, ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس, فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم أولاً وآخراً.
وقال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج, عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب, ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حين تكون كأنها عمائم الرجال [في وجوههم], وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس, وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك».
هذا مرسل.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" مرفوعاً – وسيأتي إن شاء الله تعالى .
#38#
وقال الشافعي: أخبرنا سفيان, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس, ومن المزدلفة بعد أن تطلع, ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير, فأخر الله هذه وقدم هذه.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط": من حديث محمد بن يزيد بن خنيس, حدثنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من منى, فلما انبعثت به راحلته وعليها قطيفة قد اشتريت بأربعة دراهم, فقال: «اللهم اجعلها حجة مبرورة لا رياء فيها ولا سمعة».
من أفراد محمد بن يزيد بن خنيس.
قال جابر رضي الله عنه: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة, فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها.
وفي رواية: فنزلها.
وخرج أبو سعيد المفضل بن محمد بن إبراهيم الجندي في كتابه:
#39#
"فضائل مكة" شرفها الله تعالى فقال: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج قال: سئل عطاء عن نزول النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فقال: بنمرة، وهو منزل الخلفاء إلى الصخرة الساقطة بأصل الجبل، عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة، وكان يلقي عليها ثوبا يستظل به صلى الله عليه وسلم كثيرا.
تابعه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي, عن مسلم.
#40#
$[إهلال الصحابة]$
وكانت الصحابة رضي الله عنهم في مسيرهم ذلك يلبي بعض ويكبر بعض.
كما ثبت عن مالك, عن محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة, كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فكان يهل منا المهل, فلا ينكر عليه, ويكبر المكبر منا, فلا ينكر عليه. متفق عليه من حديث مالك. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من منى, فمنا من يكبر ومنا من يلبي.
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا زاغت الشمس أمر صلى الله عليه وسلم بالقصواء فرحلت له, فأتى بطن الوادي.
هذا المكان من أرض عرفة بين مكة وعرفات, وليست عرنة من عرفات عند الجمهور, إلا مالكاً فقال: هي من عرفات.
وقال سالم بن عبد الله بن عمر: كتب عبد الملك إلى الحجاج ألا تخالف ابن عمر في الحج, فجاء ابن عمر وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس فصاح عند سرادق الحجاج فخرج [و] عليه ملحفة
#41#
معصفرة, فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: الرواح إن كنت تريد السنة, قال: هذه الساعة؟ قال: نعم ..... الحديث.
#42#
$[خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة]$
قال جابر رضي الله عنه: فخطب الناس.
قال الإمام أحمد في "مسنده" حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة, حتى أتى عرفة, فنزل بنمرة, وهي منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة, حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً فجمع بين الظهر والعصر, ثم خطب الناس ... الحديث.
وقد تقدم عن عمرو بن يثربي الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة بعرفة – حين زاغت الشمس – على راحلته قبل الصلاة, والأول المعروف.
ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الخطبة, كان على راحلته القصواء, ليكون أبلغ في البلاغ.
وهذه الخطبة هي الخطبة العظيمة المشتملة على تمهيد قواعد الإسلام, وتغيير قواعد الكفر, ووضع أمور الجاهلية, وتحريم الظلم
#43#
وإرشاد الأمة وتحذيرهم من اتباع الشيطان.
وقد سمع هذه الخطبة, ورواها الجم الغفير من الصحابة, بعضهم كاملة وبعضهم روى غالبها, وبعضهم طرفاً منها, وبعضهم لم يسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهم صحابياً آخر عنها, فسمعها منه, وكل منهم أدى ما سمع رضي الله عنهم.
#44#
$[تحريم الدماء والأموال]$
قال جابر رضي الله عنه: وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم, كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».
هكذا في حديث جابر جاء مختصرا.
وفي حديث غيره أنه صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً, أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم, فيسألكم عن أعمالكم, وقد بلغت, فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها».
وسيأتي إن شاء الله تعالى من طريق كاملاً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية جابر في هذا الحديث: «ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع, ودماء الجاهلية موضوعة, وإن أول دم أضع من دمائها دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد, فقتلته هذيل».
وذكر ابن إسحاق في رواية إبراهيم بن سعد عنه أنه كان مسترضعاً في بني ليث.
#45#
وفي غير حديث جابر قال: فهو أول ما بدأ به.
وجاء من رواية حماد بن سلمة: دم آدم بن ربيعة.
وحكاه أبو محمد بن حزم عن النسابين وصححه الزبير بن بكار وغيره, وذكره ابن الكلبي في "جمهرة النسب": آدم بن ربيعة بن الحارث, هو ابن عبد المطلب, وعده الدارقطني تصحيفاً.
وقيل: اسم ابن ربيعة هذا إياس, وقيل: حارثة, وقيل: تمام.
#46#
وجاء في رواية مكي بن إبراهيم, عن موسى بن عبيدة, عن عبد الله بن دينار, عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة, فاجتمع إليه ما شاء الله من المسلمين, فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل, ثم قال: «يا أيها الناس, كل دم كان في الجاهلية فهو هدر وأول دم أهدر دم الحارث بن ربيعة بن الحارث, كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل» .... الحديث.
وسبب قتل هذا أنه حصل بين بني سعد وبين بني ليث بن بكر – وقيل: بينهم وبين هذيل – حرب, وابن ربيعة هذا صغير حينئذ يحبو أمام البيوت, فأصابه حجر غائر أو سهم غرب من يد رجل من هذيل فقتله.
ووقع في بعض الروايات: دم ربيعة بن الحارث.
قال أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن قرقول في كتابه "المطالع": وهو خطأ وإنما هو ابن ربيعة. انتهى.
#47#
وقال البيهقي: من قال دم ربيعة فإنما أراد دماً وليه ربيعة, والمقتول ابن له صغير. انتهى.
وهذا تأويل أبي عبيد.
ووقع في كلام ابن حزم في تأليفه في "حجة الوداع" دم أبي ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب.
#48#
$[تحريم الربا]$
قال جابر رضي الله عنه – يعني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: «وأول ربا أضع رباناً رباً عباس بن عبد المطلب, فإنه موضوع كله».
قيل: إنما بدأ صلى الله عليه وسلم بإبطال الدم والربا من أهله وقرابته ليعلم أن ليس في الدين محاباة.
وفي رواية غير جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل ذكر ربا العباس: «وإن كل ربا موضوع, ولكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون, قضى الله أنه لا رباً».
وفي رواية عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أما بعد أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً, ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم, فاحذروه على دينكم, أيها الناس {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}, وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض, وإن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهراً منها أربعة حرم, ثلاثة متوالية ورجب مضر, الذي بين جمادى وشعبان».
#49#
$[وصاة النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء]$
قال جابر رضي الله عنه – يعني قال صلى الله عليه وسلم -: «فاتقوا الله في النساء, فإنكم أخذتموهن بأمان الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله, ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه, فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح, ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
وفي رواية ابن عباس: «أما بعد, أيها الناس, فإن لكم على نسائكم حقاً, ولهن عليكم حقاً, لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذن في بيوتكم أحداً تكرهونه, وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة, فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع, وتضربوهن ضرباً غير مبرح, فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف, واستوصوا بالنساء, فإنهن عندكم عوان, لا يملكن لأنفسهن شيئاً».
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي, حدثنا سفيان, عن عاصم بن عبيد الله, عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب, عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «أرقاكم أرقاكم, أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون, وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله, ولا تعذبوهم».
#50#
قال جابر رضي الله عنه – يعني قال صلى الله عليه وسلم -: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به, كتاب الله عز وجل» – وفي رواية ابن عباس: «وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, أيها الناس, اسمعوا قولي واعقلوه, تعلمن أن كل مسلم أخو المسلم, وأن المسلمين إخوة, لا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفسه,ولا تظلموا أنفسكم, اللهم هل بلغت».
قال جابر: يعني قال صلى الله عليه وسلم: «وأنتم تسألون» وفي رواية: «مسئولون عني, فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أن قد بلغت وأديت ونصحت, فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: «اللهم اشهد, اللهم اشهد» ثلاث مرات.
قوله: "وينكتها" روي بالموحدة بعد الكاف, لعله من قولهم نكبت الكنانة إذا ألقيت ما فيها, أو من النكب وهو الميل, يقال: نكب عن الشيء ينكب إذا مال, وهذا أشبه, وروي بالمثناة بعد الكاف, قال القاضي عياض: وهو بعيد, قبل صوابه بموحدة. انتهى, ولعله بالمثناة أقرب من الموحدة لغة.
قال صاحب "البارع": قال الأصمعي: ضربه فنكته, أي ألقاه على
#51#
رأسه, ووقع منتكثاُ, قال الشاعر:
منتكت الرأس فيه جائفة ... جياشة لا تردها الفتل
وذكر الزبيدي في "مختصر العين" نحوه.:
وهذه الخطبة خرجها كاملة أبو القاسم الطبراني في كتابه "العشرة" فقال: حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي البصري, حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثني أبي, عن ثور بن زيد الديلي, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «يا أيها الناس, اسمعوا قولي, أما إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف, أيها الناس, إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى يوم تلقون ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وإنكم ستلقون ربكم, فيسألكم عن أعمالكم, وقد بلغت, فمن كانت عنده [أمانة] فليؤدها إلى من ائتمنه, وإن كل ربا موضوع, لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون, ألا وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله, وإن كل دم في الجاهلية موضوع, وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب, كان مسترضعاً في بني ليث, فقتلته هذيل, فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية, أما بعد, أيها الناس, فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم, ولكنه إن
#52#
يطع فيما سوى ذلك مما تحتقرون من أعمالكم فقد رضي, فاحذروه أيها الناس على دينكم, وإن النسيء زيادة في الكفر» ... وذكر الحديث.
تابعه أبو الفضل – محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث – حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي ... فذكره بنحوه.
وموضع هذه الخطبة بعرنة, ولم تكن من الموقف كما بيناه, ثم وقف صلى الله عليه وسلم بعرفة, وخطب خطبة أخرى على ناقته أيضاً متطاولا في الركابين؛ ليسمع الناس.
روي عن العداء بن خالد بن هوذة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائماً في الركابين.
خرجه أبو داود من حديث أبي عمرو – عبد المجيد بن أبي يزيد وهب العقيلي – عن العداء به.
ورواه محمد بن مهزم الشعاب البصري العبدي, عن عبد المجيد العقيلي مطولاً, وذكر فيه الخطبة.
وروى إبراهيم بن سعد, عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني يحيى ابن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه عباد قال: كان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو على عرفة – ربيعة بن أمية بن خلف
#53#
قال: يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل أيها الناس, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هل تدرون أي شهر هذا؟» فيقولون شهر الحرام, فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم, كحرمة شهركم هذا» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيها الناس, هل تدرون أي بلد هذا؟» فيصرخ به, فيقولون: البلد الحرام, قال: فيقول: «فإن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة بلدكم هذا», قال: «أيها الناس, هل تدرون أي يوم هذا؟» فقال لهم فقالوا: يوم الحج الأكبر, قال: «إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم, كحرمة يومكم هذا».
#54#
وهو في "معجم الطبراني الكبير" من حديث وهب بن جرير, حدثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق, حدثنا عبد الله بن أبي نجيح, قال: قال عطاء: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم يومئذ في أصحابه [يومئذ] غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيساً فذبحه عن نفسه, فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة, أمر ربيعة بن أمية بن خلف رضي الله عنه فقام تحت يدي ناقته صلى الله عليه وسلم – وكان رجلاً صيتاً – فقال: «اصرخ: أيها الناس, أتدرون أي شهر هذا؟» فصرخ, فقال الناس: الشهر الحرام. فقال: «اصرخ: أتدرون أي بلد هذا؟» قالوا: البلد الحرام. قال: «اصرخ: هل تدرون أي يوم هذا؟» قالوا: الحج الأكبر. فقال: «اصرخ فقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا, وكحرمة بلدكم هذا, وكحرمة يومكم هذا».
#55#
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجه, وقال حين وقف بعرفة: «هذا الموقف وكل عرفة موقف» وقال حين وقف على قزح: «هذا الموقف وكل مزدلفة موقف».
وقال محمد بن إبراهيم بن أبان: حدثنا ليث بن حماد الصفار, حدثنا حماد بن زيد, عن المجالد, عن الشعبي, عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: «إن هذا الدين عزيز منيع, ظاهر على من ناوأه, لا يضر فيه من فارقه أو خالفه, حتى يهلك اثنا عشر كلهم» فلفظ الناس, فقلت لأبي: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «كلهم من قريش».
وهو في "صحيح مسلم" من حديث أبي معاوية, حدثنا داود, عن الشعبي بنحوه.
تابعه ابن عون, عن الشعبي.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث سليمان بن أبي هوذة, عن عمرو بن أبي قيس, عن فرات القزاز, عن عبيد الله بن عباد, عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: دخلت أنا وأبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بنا, فلما سلم ألوى الناس بأيديهم يميناً وشمالاً, فأبصرهم صلى الله عليه وسلم
#56#
فقال: «ما لكم تفتلون أيديكم يميناً وشمالاً, كأنها أذناب خيل الشمس! إذا سلم أحدكم فليسلم على من يمينه وعلى من يساره» قال: فجلسنا معه فقال: «لا يزال الإسلام ظاهراً, حتى يكون اثنا عشر أميراً وخليفة, كلهم من قريش».
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن فرات القزاز إلا عمرو ابن أبي قيس.
قلت: هو في "صحيح مسلم" من حديث إسرائيل, عن فرات بنحوه مختصراً.
تابعه مسعر, عن عبيد الله وهو ابن القبطية.
وروى إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق, حدثني ليث بن أبي سليم, عن شهر بن حوشب الأشعري, عن عمرو بن خارجة قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة له, ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة, فبلغته, ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن لعابها ليقع على رأسي, قال: فسمعته وهو يقول: يا أيها الناس, إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه, لا وصية لوارث, ومن تولى قوماً
#57#
بغير إذن مواليه, فإن عليه لعنة الله وغضبه, لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً, الولد للفراش, وللعاهر الحجر».
ورواه سفيان الثوري [عن ليث], عن شهر بن حوشب أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: وإن لعاب ناقته ليسيل على فخذي .... الحديث.
ورواه سعيد بن منصور, عن هشيم, حدثنا طلحة أبو محمد مولى باهلة, حدثنا قتادة, عن شهر بن حوشب, عن عمرو بن خارجة الأشعري بنحو الحديث الأول.
ورواه شبابة, عن مغيرة بن مسلم وورقاء, عن مطر, عن شهر بن حوشب, عن عمرو بن خارجة بنحوه.
وخرجه أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" من حديث هشام الدستوائي, عن قتادة, عن شهر بن حوشب, عن عبد الرحمن بن غنم, عن عمرو بن خارجة قال: كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم, وهي تقصع بجرتها, ولعابها يرتش بين كتفي, فسمعته يقول: «إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه, ولا يجوز لوارث وصية, والولد للفراش,
#58#
وللعاهر الحجر, ومن ادعى إلى غير أبيه أو ادعى إلى غير مواليه رغبة عنهم, [فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً».
زاد في سنده عبد الرحمن بن غنم].
وهكذا رواه أبو مسلم الكجي, حدثنا أبو بكر الهذلي, عن شهر بن حوشب, عن عبد الرحمن بن خارجة مثله.
ورواه موسى بن هارون, حدثنا قتيبة, حدثنا أبو عوانة, عن قتادة كذلك.
[ورواه محمد بن المنهال, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة كذلك].
#59#
ورواه ابن سعد في "الطبقات", عن عبد الوهاب بن عطاء, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة كذلك.
ورواه محمد بن سليمان الباغندي الكبير, حدثنا عبيد الله بن موسى, أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن قتادة, عن عمرو بن خارجة. فأسقط شهراً وابن غنم,
ورواه عتبة بن عبد الله المروزي, عن عبد الله بن المبارك, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن قتادة, عن عمرو منقطعاً نحوه. والحديث له طرق وفيه اضطراب.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا سعيد بن سليمان, حدثنا عبد الله بن المبارك, عن سلمة بن نبيط, عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم عرفة على جمل أحمر.
وخرجه النسائي في "سننه" عن محمد بن آدم, عن ابن المبارك, عن سلمة بن نبيط, عن رجل من الحي, عن أبيه نبيط, به.
#60#
وحدث به أيضاً, عن عمرو بن علي, عن يحيي, عن سفيان, عن سلمة كذلك.
وهو عند أبي داود في "سننه" عن عبد الله بن داود, عن سلمة كذلك.
وخرجه ابن ماجه في "سننه", عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن وكيع, عن سلمة بن نبيط, عن أبيه به, كما رواه ابن سعد فيما تقدم.
وقال ابن سعد: أخبرنا خلف بن الوليد الأزدي, حدثنا يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة, حدثني أبو مالك الأشجعي, حدثني نبيط بن شريط الأشجعي قال: إني لرديف أبي في حجة الوداع إذ تكلم النبي صلى الله عليه وسلم, فقمت على عجز الراحلة, ووضعت رجلي على عاتقي أبي, فسمعته يقول: «أي يوم أحرم؟» قالوا: هذا اليوم, قال: «فأي شهر أحرم؟» قالوا: هذا الشهر, قال: «فأي بلد أحرم؟» قالوا: هذا البلد, قال: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا, هل بلغت؟» قالوا: اللهم نعم, قال: «اللهم اشهد, اللهم اشهد, اللهم اشهد» وأظن هذه كانت يوم النحر, والله أعلم.
ويقوي ذلك ما رواه النسائي في "سننه": عن أيوب بن محمد الوزان, عن مروان بن معاوية الفزاري, عن أبي مالك الأشجعي,
#61#
حدثنا نبيط بن شريط قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى, فحمد الله وأثنى عليه ... الحديث.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا عفان بن مسلم, حدثنا قتادة, عن عبد الرحمن بن حرملة, عن يحيى بن هند, عن حرملة بن عمرو قال: حججت حجة الوداع مردفي عمي سنان بن سنة, فلما وقفنا بعرفات رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع إحدى إصبعيه على الأخرى, فقلت لعمي: ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يقول: «ارموا الجمرة بمثل حصا الخذف».
#62#
وقال جابر رضي الله عنه: ثم أذن, ثم أقام, وفي رواية: ثم أذن بلال بنداء واحد وإقامة, فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر, ولم يصل بينهما شيئاً:
قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد وغيره, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن جابر بن عبد الله في حجة الإسلام قال: فراح النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموقف بعرفة, فخطب الناس الخطبة الأولى, ثم أذن بلال, ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية, ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان, ثم أقام بلال فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر. هذا مما تفرد به ابن أبي يحيى, قاله البيهقي.
وابن أبي يحيى هذا إبراهيم بن محمد أحد الأعلام, كان الشافعي إذا حدث عنه يقول: "حدثني من لا أتهم", ومع هذا فلا يحتج بخبره هذا الذي تفرد به.
لكن قال البيهقي: ومعناه موجود في الحديث الثابت عن حاتم بن إسماعيل, عن جعفر – يعني به حديث جابر الذي نحن فيه – قال: فإنه
#63#
ذكر في حديثه ركوب النبي صلى الله عليه وسلم بعدما زاغت الشمس وخطبته, قال: ثم أذن بلال, ثم أقام فصلى الظهر, ثم أقام فصلى العصر, ولم يصل بينهما شيئاً.
"بطن عرنة": بين مكة وعرفات, بمكان يعرف بمسجد إبراهيم, وقد وهم من نسبه إلى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام, إنما هذا المسجد بني على مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن عرنة في الدولة العباسية, بناه إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي. وكانت صلاة النبي صلى الله عليهوسلم المشار إليها سراً, وهو المشهور.
روي عن ابن جريج أن ابن هشام جهر بالقراءة بعرفة, فسبح به سالم بن عبد الله فسكت. وفيه دليل على أن المسافر لا يصلي جمعة؛ لأن ذلك اليوم كان يوم الجمعة.
ويروى عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز, عن الحسن بن مسلم بن يناق قال: وافق يوم الجمعة يوم التروية في زمان رسول الله صلى عليه وسلم , فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة, فأمر الناس أن يروحوا إلى منى وراح فصلى [بمنى] الظهر.
قال البيهقي: هذا منقطع.
قلت: ولا يصح سنده من قبل رواية إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي, عن عبد العزيز.
#64#
قال البيهقي: وحديث عمر بن الخطاب أن يوم الجمعة وافق يوم عرفة, والنبي صلى الله عليه وسلم بعرفات, حديث موصول ثابت, فهو أولى من هذا.
قال جابر رضي الله عنه: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف, فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات.
وفي رواية: إلى الصخيرات: وقال إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي الكوفي الصدوق الذي تابع أبا بكر بن أبي شيبة على روايته الحديث عن حاتم بن إسماعيل: إلى الشجيرات.
قال جابر رضي الله عنه: وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة.
حبل المشاة: كناية عن مجتمعهم وصفهم, شبههم بحبل الرمل المستطيل.
والصخرات: في ذيل الجبل الذي يقال له جبل الرحمة بوسط أرض عرفات ويقال له أيضاً إلال وزان هلال, وفي "المجمل": وإلال على
#65#
فعال موضع بمكة.
وفي "مختصر العين" للزبيدي: والإلال جبل بعرفات.
وقال أبو عبيد البكري في "معجم البلدان" جبل صغير من رمل عن يمين الإمام بعرفة.
وقال: وفي "البارع": الإل جبل رمل بعرفات, هكذا ذكره بلفظ المفرد على وزن فعل.
وفي "معجم البلدان" لياقوت: ألال بالفتح وزان حمام, ثم ذكره أيضاً بالكسر وزان هلال, وقال: قيل: جبل رمل بعرفات, عليه يقوم الإمام, وقيل عن يمين الإمام, وقيل هو جبل عرفة نفسه سمي إلالاً, لأن الحجيج إذا رأوه ألوا – أي اجتهدوا – ليدركوا الموقف. انتهى.
قلت: أل الرجل في السير يَوَلُّ ألا: أسرع.
وقال أبو الوليد الأزرقي: وموقف النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة بين الأجبل النبعة والنبيعة والنابت, وموقفه منها على النابت وهي الظراب التي تكتنف موضع الإمام, والنابت عند النشزة التي خلف موقف الإمام, وموقف النبي صلى الله عليه وسلم على مضرس من الجبل النابت, مضرس بين أحجار هناك نابتة في جبل الذي يقال له إلال بعرفة عن يسار طريق الطائف وعن
#66#
يمين الإمام, وله يقول نابغة بن ذبيان:
بمصطحبات من لصاف وثبرة ... يزرن إلالاً سيرهن التدافع
وقال أبو داود في "المراسيل": حدثنا أحمد بن حنبل, حدثنا روح, حدثنا ابن جريج, حدثني زبان بن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل يوم عرفة عند الصخرة المقابلة منازل الأمراء يوم عرفة التي بالأرض في أسفل الجبل وستر آلهاً بثوب عليه.
زبان لم يرو عنه سوى ابن جريج فيما أعلم.
وثبت عن جابر رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين وقف عند الصخرات: «وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف».
#67#
وخرج الترمذي من حديث زيد بن علي, عن أبيه, عن عبيد الله بن أبي رافع, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: «هذا عرفة وهو الموقف, [وعرفة] كلها موقف» الحديث.
وخرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" بطوله وسيأتي إن شاء الله تعالى , وقد تقدم نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا محمد بن عمر, حدثنا صالح بن خوات, عن يزيد بن رومان,, عن حبيب بن عمير, عن عدي عن خبيب بن خماشة الخطمي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [بعرفة]: «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة, والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر».
يزيد بن رومان أبو روح هذا روى عن صالح بن خوات,
#68#
وروى عنه صالح بن خوات, لكنه غير الأول, فالراوي عن يزيد حفيد شيخه؛ لأن شيخه صالح بن خوات بن جبير الأنصاري روى عن أبيه وسهل بن أبي حثمة, والراوي عن يزيد هنا صالح بن خوات بن صالح بن خوات بن جبير, روى أيضاً عن محمد بن يحيى بن حبان والله أعلم.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن عبد الله بن صفوان, عن يزيد بن شيبان, قال: كنا وقوفاً في مكان بعيد يباعده من الموقف فأتانا ابن مربع فقال: إني [رسول] رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول: «كونوا على مشاعركم, [فإنكم] على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام».
ورواه أحمد بن شيبان الرملي, عن سفيان, عن عمرو, عن عبد الله بن صفوان, عن يزيد بن شيبان بنحوه.
تابعه كذلك سعدان بن نصر بن منصور, عن سفيان.
وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه لسفيان, عن عمرو ابن دينار, عن عمرو بن عبد الله بن صفوان, عن يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع الأنصاري رضي الله عنه, ونحن وقوف بالموقف مكاناً يباعده
#69#
عمرو فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يقول: «كونوا على مشاعركم, فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام».
وهذا لفظ الترمذي, وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث سفيان بن عيينة, عن عمرو, وابن مربع اسمه يزيد بن مربع الأنصاري, وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد.
وكذلك ذكره أبو بكر – أحمد بن عبد الله البرقي – في كتابه "التاريخ" أن له حديثاً, وساقه عن الحميدي, عن سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, وسمي ابن مربع يزيد, كما سماه الترمذي.
وذكره البخاري في "تاريخه الكبير" في من اسمه زيد في الصحابة.
#70#
وسماه البغوي في "معجم الصحابة": عبد الله, وقال: ويقال زيد بن مربع, وقال: بلغني أن عبد الله بن مربع قتل يوم جسر أبي عبيد شهيداً في خلافة عمر رضي الله عنه.
وقال الحارث بن أبي أسامة: [حدثنا روح], حدثنا ابن عون, حدثنا أبو رملة, عن مخنف بن سليم الغامدي قال: كنا وقوفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات, فسمعته يقول: «يا أيها الناس إن على أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة, هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تسمونها الرجبية».
وعلقه البخاري في "تاريخه الكبير" فقال: قال أبو عاصم, عن ابن عون, عن أبي رملة, عن مخنف بن سليم, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أهل بيت أضحية وعتيرة».
#71#
وقال الطبراني: حدثنا إسحاق, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرني عبد الكريم, عن حبيب بن مخنف العنبري, عن أبيه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة وهو يقول: «تعرفونها؟» فلا أدري ما رجعوا إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على كل أهل بيت أن يذبحوا شاة في كل رجب, وفي كل أضحى شاة».
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: حدثنا سعيد بن بشير القرشي, حدثني عبد الله بن حكيم الكناني – رجل من أهل اليمن من مواليهم – عن بشر بن قدامة الضبابي رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفات مع الناس على ناقة حمراء قصواء تحته قطيفة بولانية, وهو يقول: «اللهم حجة غير رياء ولا هباء ولا سمعة» والناس يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عرفات: جمع عرفة تقديراً, وإعرابه كمسلمات, ويجوز منع التنوين مع بقاء الكسرة جراً ونصباً, وقد يمنع من التنوين والكسرة.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حد عرفة من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى أجبال عرفة, إلى وصيق, إلى ملتقى وصيق ووادي عرنة, رواه الأزرقي – أبو الوليد محمد بن عبد الله – عن جده, حدثنا محمد بن
#72#
عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما فذكره.
وقيل: حد عرفات هو ما جاوز وادي عرنة إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين ابن عامر, قاله الشافعي.
وذكر نحوه مصنف كتاب "صورة الأرض" فقال: وعرفة ما بين وادي عرنة إلى حائط بني عامر إلى ما أقبل على الصحراء التي تكون بها موقف الإمام وإلى طريق حضن, وبحائط بني عامر نخيل, وكذلك في غربي عرفة.
وحكى أبو زكريا النووي رحمه الله فقال: وقال بعض أصحابنا: لعرفات أربعة حدود؛ أحدهما ينتهي إلى جادة طريق المشرق, والثاني إلى حافات الجبل الذي وراء أرض عرفات, والثالث إلى البساتين التي تلي قرية عرفات, وهذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا وقف بأرض عرفات, والرابع: ينتهي إلى وادي عرنة. انتهى.
#73#
$[دعاؤه صلى الله عليه وسلم يوم عرفة]$
وفي هذا الموقف يوم عرفة دعا النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه.
قال أبو سعيد المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة" زادها الله شرفاً: حدثنا محمد بن يوسف وإبراهيم بن محمد القاضي, قالا: حدثنا أبو قرة, قال: قال ابن جريج: أخبرت عن حسين بن عبد الله, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يدعو ويداه على صدره كاستطعام المسكين.
قلت: حسين هذا هو ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس الهاشمي المدني, ضعفه ابن معين وغيره.
وحدث أبو داود في (المراسيل): عن محمود بن خالد, عن عمر – يعني ابن عبد الواحد – عن الأوزاعي, عن سليمان بن موسى قال: لم يحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه الرفع كله إلا في ثلاثة مواطن: الاستسقاء والاستنصار, وعشية عرفة, [ثم] كان بعد رفع دون رفع.
#74#
وخرج النسائي في "سننه" من حديث عبد الملك هو ابن أبي سليمان العرزمي, عن عطاء – هو ابن أبي رباح – قال أسامة رضي الله عنه: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات, فرفع يديه فمالت ناقته, فسقط خطامها, فتناول الخطام بإحدى يديه, وهو رافع يده الأخرى.
وقال محمود بن غيلان في "تاريخه": حدثنا الفضل بن موسى, حدثنا الأعمش, عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة على راحلته رافعاً يديه يدعو, وقع زمام الناقة من يده, فتناولها بأصبعه, فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الابتهال وهذا التضرع.
وحينئذ أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء والابتهال والتضرع والسؤال والتهليل والتحميد والثناء والتمجيد, وندب الناس إلى ذلك وحضهم عليه وبين فضله, وأرشدهم إليه.
خرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة, وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" والحسين المحاملي في كتابه "الدعاء" بنحوه.
#75#
وخرجه أيضاً الترمذي والمحاملي واللفظ له من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الدعاء يوم عرفة ....» الحديث, وهو مرسل.
وخرج أبو بكر بن أبي الدنيا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عامة دعائي ودعاء الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».
وخرجه أبو القاسم الطبراني في "فضل يوم عرفة" بنحوه.
وخرج الترمذي من حديث الأغر بن الصباح, عن خليفة بن حصين, عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أكثر ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في الموقف: «اللهم لك الحمد كالذي نقول وخير مما نقول, [اللهم] لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي, وإليك مآبي, ولك رب تراثي, اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر، وشتات الأمر, اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح».
وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه, وليس إسناده بالقوي.
#76#
وخرجه الحسين بن إسماعيل المحاملي في كتاب "الدعاء" ولفظه: عن علي رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: «اللهم رب الحمد, لك الحمد كما نقول وخير مما نقول, لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي, وإليك مآبي وإليك ثوابي, أعوذ بك من عذاب القبر, ووسوسة الصدر, وشتات الأمر, اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح, وأعوذ بك من شر ما تجيء به الرياح».
وخرجه أيضاً من حديث موسى بن عبيدة, عن أخيه عبد الله بن عبيدة, عن علي رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, يحيي ويميت, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير, اللهم اجعل في سمعي نوراً, وفي بصري نوراً, وفي قلبي نوراً, اللهم اغفر لي ذنبي ويسر [لي] أمري واشرح لي صدري, اللهم إني أعوذ بك من وسواس الصدر, ومن شتات الأمر, ومن عذاب القبر, اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار, وشر ما تهب به الرياح, وشر بوائق الدهر».
#77#
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم هناك أيضاً: ما أخبرنا به التقي عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أحمد بن عثمان السلعوس – بقراءتي عليه – أخبرنا والدي في آخرين, قالوا: أخبرنا عمر بن غدير ح.
وقراءة على المعمرة الكبيرة – زينب بنت محمد بن عثمان – عن ابن غدير المذكور, وعلي بن أحمد المقدسي إجازة مطلقة, قالا: أخبرنا القاضي عبد الصمد بن محمد قراءة عليه قال الأول وأنا حاضر والثاني وأنا أسمع: أخبرنا علي بن المسلم, أخبرنا الحسن بن طلاب, أخبرنا أبو الحسين – محمد بن أحمد بن محمد الغساني – حدثنا إبراهيم بن محمد يعني الهمداني الأنماطي ببغداد, حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني, حدثنا موسى بن إسماعيل المنقري, حدثنا يحيى بن صالح – يعني الأيلي – عن إسماعيل بن أمية عن عطاء – هو ابن أبي رباح – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجة الوداع: «اللهم إنك تسمع كلامي, وترى مكاني, وتعلم سريرتي وعلانيتي, ولا يخفى عليك شيء من أمري, وأنا البائس الفقير, المستغيث المستجير, الوجل المشفق, المقر المعترف بذنبه, أسألك مسألة المسكين, وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل, وأدعوك دعاء
#78#
الخائف الضرير من خضعت لك رقبته, وفاضت لك عبرته, وذل لك جسده, ورغم لك أنفه, اللهم لا تجعلني بدعائك شقياً, وكن بي رءوفاً رحيماً يا خير المسئولين, ويا خير المعطين».
خرجه الطبراني في "معجمه الصغير" وفي مصنفه في "فضل يوم عرفة" من حديث يحيى بن بكير, حدثنا [يحيى بن صالح الأيلي ... فذكره بنحوه.
#79#
$[مطلب عظيم فيه بشارة عظيمة لهذه الأمة]$
أخبرنا المسند الكبير الشهاب عبد الرحمن بن محمد الفارقي, أخبرنا] يحيى بن محمد المقدسي سماعاً وسليمان بن حمزة الحاكم إجازة, قالا: أنبأنا الحسن بن يحيى المخزومي, زاد الحاكم فقال: وأنبأنا محمد بن علي الحراني, قالا: أخبرنا عبد الله بن رفاعة السعدي, أخبرنا علي بن الحسن القاضي, أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن زريق الكوفي, حدثنا إسماعيل بن يعقوب بن الجراب إملاء, حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا عبد القاهر بن السري, حدثني ابن لكنانة بن العباس بن مرداس, عن أبيه, عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة
#80#
والرحمة, وأكثر الدعاء فأجابه: «إني قد فعلت, إلا ظلم بعضهم لبعض, إلا ذنوبهم فيما بيني وبينهم, قد غفرت لهم», قال: «أي رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيراً منه مظلمته فتغفر لهذا الظالم» فلم يجبه تلك العشية, فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء, فأجابه: «إني قد غفرت لهم».
#81#
وحدث به الطبراني في "المعجم": عن علي بن عبد العزيز وأبي مسلم الكشي ومعاذ بن المثنى ومحمد بن يعقوب بن سودة البغدادي، قالوا: حدثنا أبو الوليد الطيالسي, وعن معاذ بن المثنى أيضاً وعيسى بن إبراهيم البركي, قالوا: حدثنا عبد القاهر بن السري ... فذكره, وفي آخره: فأجابه: «إني قد غفرت لهم». قال: ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله, إنك قد تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها! فقال: «تبسمت من عدو الله إبليس, إنه لما علم أن الله قد استجاب لي أخذ يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه».
قال جابر رضي الله عنه: فلم يزل صلى الله عليه وسلم واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً, حتى غاب القرص.
خرج الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" من حديث عبد الوارث بن سعيد, عن ابن جريج, عن محمد بن قيس, عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: «أما بعد فإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من هذا الموضع إذا كانت الشمس
#82#
على رؤوس الجبال, كأنها عمائم الرجال في وجوهها, وإنما ندفع بعد أن تغيب, وكانوا يدفعون من المشعر الحرام إذا كانت الشمس منبسطة».
ذكره الحاكم في ترجمة المسور, وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.
والحديث له علتان؛ لأن الصواب عن محمد بن قيس بن مخرمة دون ذكر المسور, فهو مرسل, كما قدمناه من رواية الشافعي, عن الزنجي, عن ابن جريج, عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة». .. الحديث.
وهكذا خرجه أبو سعيد – المفضل بن محمد الجندي – في كتابه "فضائل مكة" شرفها الله تعالى, فقال: حدثنا سعيد, حدثنا سفيان: عن ابن جريج, عن محمد بن قيس (عن قيس بن مخرمة) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكره مرسلاً, وهو أشهر.
والعلة الثانية: ما قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا يحيى بن أبي زائدة, عن ابن جريج قال: أخبرت عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعرفة ... فذكره بنحوه.
وقول جابر رضي الله عنه: فلم يزل واقفاً:
#83#
في وقوفه هذا, أرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن, وهو فيما صح من حديث سالم أبي النضر, عن عمر مولى عبد الله بن عباس, عن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم, وقال بعضهم: ليس بصائم, فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه.
وجاءت القصة أيضاً عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها, وذلك فيما صح من حديث بكير بن الأشج, عن كريب مولى ابن عباس, عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: إن الناس شكوا في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فأرسلت إليه ميمونة رضي الله عنها بحلاب اللبن وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث عصمة بن سليمان الخزاز, حدثنا شريك, عن جابر, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما
#84#
[قال]: أتي رسول الله صلى عليه وسلم بلبن يوم عرفه فشربه وسقى الذي عن يمينه.
وقال ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا خالد بن النضر بن عمرو بالبصرة, حدثنا عبد الواحد بن غياث, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا أيوب, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برمان يوم عرفة فأكل, قال: وحدثتني أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن يوم عرفة فشربه.
#85#
$[نزول قوله تعالى : {اليوم أكملت لكم دينكم}]$
وهناك أيضاً أنزلت عليه الآية العظيمة قول الله عز وجل: {اليوم أكملت لكم دينكم} خرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث يعقوب بن إبراهيم بن سعد, حدثني أبي, عن محمد بن إسحاق, عن عمر بن موسى بن وجيه, عن قتادة, عن الحسن, عن سمرة رضي الله عنه قال: نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة يوم جمعة. ويروى في بعض ألفاظه: عشية عرفة.
وقال يحيى بن عبد الحميد الحماني: حدثنا قيس بن الربيع, عن إسماعيل بن سلمان, عن أبي عمر البزار, عن ابن الحنفية, عن علي رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة: {اليوم أكملت لكم دينكم}.
خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" عن الحماني وقال: وهذا إسناد
#86#
ضعيف, وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح عن عمر بن الخطاب وغيره, وإنما ذكرنا هذا الحديث على وهاه وضعفه, ليعرف مخرجه وطريقه.
كان يحيى بن معين يتكلم في إسماعيل بن سلمان هذا, قال: يقال له الأزرق, يروي عن أبي عمر البزار, غير معروف, وضعفه جداً, قال يعقوب: وقيس بن الربيع سيء الحفظ, مختلط الحديث, وهو صدوق, قد حمل الناس عنه. انتهى.
وصح عن طارق بن شهاب, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت, لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}, فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم, وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. متفق عليه من حديث إدريس بن يزيد الأودي وسفيان الثوري ومسعر وغيرهم عن قيس بن مسلم, عن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجلي الأحمسي الكوفي, معدود في الصحابة.
قال غندر: حدثنا شعبة, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم, وغزوت في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثلاثاً وثلاثين, أو ثلاثاً وأربعين, من غزوة إلى سرية.
#87#
تابعه عمرو بن مرزوق, عن شعبة مختصراً.
ولحديث طارق بن شهاب, عن عمر في نزول الآية طرق غير ما ذكرنا.
وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن يحيى, حدثنا عمرو بن محمد الناقد, حدثنا زيد بن الحباب, أخبرني رجاء بن أبي سلمة أبو المقدام, عن عبادة بن نسي, عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب, عن كعب الأحبار قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لأعرف قوماً لو نزلت عليهم هذه الآية نظروا أي يوم نزلت فيه فاتخذوه عيداً فقال عمر: أية آية؟ فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم} إلى آخر الآية, فقال عمر: إني لأعرف في أي يوم نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} في يوم جمعة يوم عرفة, وهما لنا عيدان.
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب إلا عبادة بن نسي, ولا عن عبادة إلا رجاء بن أبي سلمة, تفرد به زيد بن الحباب. انتهى.
وهذه الرواية أفصحت أن السائل لعمر كان كعب الأحبار.
#88#
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ هذه الآية: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} إلى آخر الآية, وعنده يهودي فقال: لو أنزلت علينا هذه الآية لاتخذنا يومها عيداً, فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: جمعة ويوم عرفة.
وقد ذكر بعض المفسرين عن ابن عباس رضي الله عنهما في يوم نزول الآية الشريفة قال: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وللنصارى، وللمجوس، ولم يجتمع أعياد لأهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروى سيف بن عمر، عن داود بن أبي هند، عن عامر أنه قال في هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} قال: قالت اليهود: إنا لنعجب من العرب: كيف لم يحفظوا هذا اليوم فيتخذونه عيدا، فقال عمر رضي الله عنه: أشد ما حفظوه، نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، وقف نبي الله صلى الله عليه وسلم موقف إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وصد المشركون عن البيت، واضمحل الشرك، وهدمت منار الجاهلية.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات": عن إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم عليه السلام واضمحل الشرك، وهدمت منار الجاهلية،
#89#
ولم يطف بالبيت عريان.
تابعه سعيد بن منصور، عن إسماعيل.
وروى محمد بن فضيل بن غزوان من حديث هارون بن عنترة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه قال: لما نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} بكى عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله، كنا في زيادة من ديننا، فلما أن كمل فليس بعد الإكمال إلا النقصان قال: «صدقت».
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته فمات وهو محرم.
صح من حديث أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا وقصه بعيره ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا».
تابعة أيوب السختياني، وعمرو بن دينار، والحكم بن عتيبة وعبد الكريم الجزري، وعطاء بن السائب وفضيل بن عمرو ومطر الوراق عن سعيد .
#90#
وطرقه جمة إلى عمرو بن دينار، فممن رواه عن عمرو: أبان بن صالح، وأبان بن يزيد العطار، وأشعث بن سوار وحجاج بن أرطأة، وعبد الله بن على بن الأزرق، وابن أبي ليلى، وعمر بن علي السلمي البصري – قاضي البصرة – وأبو أمية – عمرو بن الحارث المصري – وقيس بن سعد المكي الحبشي وغيرهم.
ورواه عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن سعيد بن جبير بنحوه.
تابعه شبيان عن منصور كذلك.
ورواه شيخ ليس بالمشهور فيما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "المزيد في متصل الأسانيد" يقال له محمد بن هارون الختلي، عن عبيد الله بن موسى، فأدخل بين منصور وبين سعيد بن جبير سلمة بن كهيل.
ورواه جرير بن عبد الحميد وعبيدة بن حميد، عن منصور، عن الحكم – يعني ابن عتيبة – عن سعيد بن جبير.
وفي ذلك الموقف كان الناس يزدحمون عليه حتى يصرفوا عنه.
قال الشافعي: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، أخبرني حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية: «[لبيك] اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» قال: حتى إذا كان ذات يوم والناس
#91#
يصرفون عنه، كأنه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيها: «لبيك إن العيش عيش الآخرة».
قال ابن جريج: وأحسب أن ذلك كان يوم عرفة.
وفي ذلك الموقف أيضا سأل أهل نجد النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر من أمر الحج، والله أعلم.
خرج الترمذي من حديث سفيان –وهو الثوري- عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، فسألوه فأمر مناديا فنادى: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه.
وخرجه عن ابن [أبي] عمر، عن سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري نحوه بمعناه.
قال: وقال ابن أبي عمر: قال سفيان بن عيينة، وهذا أجود حديث رواه سفيان الثوري، قال: وقد روى شعبة عن بكير بن عطاء نحو حديث الثوري، قال: وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعا يقول –وذكر أنه ذكر هذا الحديث – فقال: هذا الحديث أم المناسك. قلت: وحديث شعبة عن بكير، رواه حفص بن عمر الحوضي وحماد بن مسعدة وسهل بن يوسف وغندر وعبد الرحمن بن زياد،
#92#
والنصر بن شميل ويزيد بن هارون وأبو عامر العقدي وأبو عبيدة الحداد وغيرهم عن شعبة. ورواه يحيى بن آدم وأمية بن خالد، عن شعبة وسفيان، عن بكير.
وخرج هذا الحديث أبو داود وزاد في آخره: وأردف رجلا ينادي بهن. وهو في "مسند أحمد بن حنبل" و"سنن النسائي" وابن ماجه والدارقطني.
وخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحهما. وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وألزم الدارقطني الشيخين إخراجه في الصحيح.
وقال أبو بكر – محمد بن جعفر الخرائطي – في كتابه – "مساوئ الأخلاق": حدثنا القنطري، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن سعيد بن نشيط أن قرة بن هبيرة العامري قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فلما كان عام حجة الوداع نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقة قصيرة قال:
#93#
«يا قرة» فقال الناس: يا قرة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف قلت لي حين أتيتني تسلم؟» قال: قلت: يا رسول الله، كان لنا أرباب وربات من دون الله ندعوهم فلا يجيبونا ونسألهم فلا يعطونا، فلما بعثك الله أجبناك وتركناهم، ثم أدبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من رزق لبا».
وفي آخر الحديث قصة لقرة مع عمرو بن العاص رضي الله عنه.
تابعه يحيى بن بكير عن الليث .
ورواه أبو بكر بن أبي عاصم فقال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا شيخ بالساحل، عن رجل من بني قشير يقال له قرة بن هبيرة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنه كان ربات وأرباب نعبدهن من دون الله تعالى، فبعثك الله عز وجل فدعوناهن فلم يجبن، سألناهن فلم يعطين، وجئناك فهدانا الله بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح من رزق لبا» فقال: يا رسول الله، اكسني ثوبين من ثيابك قد لبستهما، فكساه، فلما كان بالموقف من عرفات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعد علي ما قلت» فأعاد عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من رزق لبا، قد أفلح من رزق لبا».
#94#
تابعة الحسن بن محمد بن سليمان الشطوي، عن هشام، وقال أبو عاصم خشيش بن أصرم في كتاب "الاستقامة" [حدثنا حبان بن هلال]ا، حدثنا همام. ح.
وخرجه دعلج في "مسند المقلين" من تأليفه واللفظ له من حديث همام بن يحيى، عن محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه قال: انطلقت إلى الكوفة أجلب بغالا، فأتيت السوق ولم تقم، فقلت لصاحبي: ادخل بنا المسجد حتى نجلس فيه، قال: والمسجد يومئذ في أصحاب التمر، قال: فدخلنا، فإذا رجل من قيس يقال له: ابن المنتفق، وهو يقول: وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فطلبته بمكة، فقيل لي: هو بمنى، فطلبته بمنى، فقيل لي: هو بعرفة، فأتيت عرفة فزاحمتهم عليه، فقالوا لي: إليك عن طريق رسول الله صلالله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوا الرجل أرب ماله» فزاحمتهم عليه، حتى خلصت إليه، فأخذت بخطام راحلته أو بزمام راحلته، حتى اختلفت أعناق راحلتيهما، فما وزعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو قال: ما غير علي – فقلت: يا رسول الله، شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار ويدخلني الجنة، فرفع رأسه إلى السماء، ثم أقبل علي فقال: «لئن كنت أقصرت المسألة، لقد عظمت وأطولت، فاعقل عني إذا، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم شهر رمضان، وما تحب أن يفعله الناس بك فافعله بهم، وما تكره أن يأتي إليك الناس فدع الناس منه، خل سبيل الراحلة».
#95#
وخرج الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد، عن الشعبي، عن جبشي بن جنادة السلولي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو واقف بعرفة فأتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه، فسأله إياه فأعطاه، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، من سأل الناس ليثري به ماله كان خموشا – يعني في وجهه – يوم القيامة ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر».
ورواه عبد الله بن نمير، عن مجالد نحوه.
ورواه جابر الجعفي، عن الشعبي نحوه مختصرا، قاله أبو نعيم.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثني كثير – يعني ابن زيد – عن المطلب بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان واقفا بعرفات فنظر حين تدلت - يعني الشمس – مثل الترس للغروب، فبكى واشتد بكاؤه، فقال له رجل عنده: يا أبا عبد الرحمن قد وقفت معي مرارا لم تصنع هذا. فقال: ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
#96#
واقف بمكاني هذا؛ فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من دنياكم فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى».
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه "فضائل مكة" زادها الله شرفا: حدثني أبو جعفر – أحمد بن خالد البرذعي – في المسجد الحرام، حدثنا علي بن الموفق البغدادي، حدثنا شبوية المروزي، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم عرفة، قال: فكادت الشمس أن تؤوب، فقال يا بلال: «أنصت لي الناس» فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنصت الناس، فقال: «يا معاشر الناس، أتاني جبرائيل آنفا، فأقرأني من ربي عز وجل السلام وقال لي: إن الله عز وجل قد غفر لأهل عرفات، ما خلا التباعات، أفيضوا باسم الله»، ثم جاء إلى المزدلفة فقام قوم يكسرون له الحجارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التقطوا من الأرض ولا تنبهوا النوام غدا إلى المشعر» وأخذ في الدعاء، فأطال، ثم قال: «يا بلال، أنصت الناس» فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصت الناس فقال: «يا معاشر الناس، أتاني جبريل عليه السلام آنفا، فأقرأني من ربي عز وجل السلام، وقال: إن الله عز وجل قد غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التباعات» فقال عمر بن
#97#
الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، هذا لنا خاص، فقال: «هذا لكم ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة» فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب.
وفي الباب عن ابن عمر وعبادة بن الصامت، ولا يثبت.
قال جابر رضي الله عنه وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق القصواء بالزمام - وفي رواية باللجام – حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله.
المورك بكسر الراء، وفتحها بعضهم، كالموركة شبه مصدغة تجعل تحت الورك، وقيل: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب.
(كان النبي صلى الله عليه وسلم حبس الناس بالإفاضة قليلا قبل أن يردف أسامة لأجله، والله أعلم).
قال البخاري في "تاريخه الكبير": حدثنا موسى، حدثنا حماد، عن هشام، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الإفاضة بعض التأخير من أجل أسامة بن زيد، ذهب يقضى حاجته، فلما جاء، جاء غلام أفطس أسود، فقال أهل اليمن: ما حبسنا بالإفاضة اليوم إلا من أجل هذا.
#98#
قال عروة: إنما كفرت اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أسامة رضي الله عنه.
ورواه ابن سعد فقال: حدثنا يزيد, حدثنا حماد بن سلمة, عن هشام ... فذكره وزاد: قال يزيد بن هارون: يعني ردتهم أيام أبي بكر رضي الله عنه.
هذه الصفة التي وصف بها أسامة في هذا الحديث موافق لما خرجه الدارقطني في "سننه" من حديث إبراهيم بن سعد, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل قائف ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان, فقال: «هذه أقدام بعضها من بعض» قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعجبه فأخبر به عائشة.
قال إبراهيم بن سعد: وكان زيد أحمر أشقر أبيض, وكان أسامة مثل الليل.
وقال أبو داود في "سننه": روي هذا الحديث من طريق سفيان, عن الزهري بنحوه, سمعت أحمد بن صالح يقول: كان أسامة أسود شديد السواد مثل القار, وكان زيد أبيض مثل القطن.
وذكر ابن الجوزي في كتابه "التلقيح" في ترجمة زيد بن حارثة, فقال: ذكر صفته, كان قصيراً, آدم شديد الأدمة, في أنفه فطس. انتهى.
قال جابر رضي الله عنه: ويقول صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة, السكينة»:
#99#
قال الطبراني في "معجمه الكبير": حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا محمد بن نعيم الواسطي, حدثنا حماد بن زيد, عن كثير بن شنظير, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما كان بدء الإيضاع من أهل البادية, كانوا يقفون حافتي الناس, وقد تعلقوا القسي والجعاب, فإذا نفروا تقعقعت, لقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن ذفري ناقته لتمس حاركها وهو يقول: «يا أيها الناس عليكم بالسكينة, يا أيها الناس عليكم بالسكينة».
الذفري: من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعير, وهما ذفريان, قاله ابن فارس في "المجمل".
وقال سعيد بن جبير: حدثني ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فسمع النبي صلى الله عليه وسلم, وراءه زجراً شديداً وضرباً للإبل, فأشار صلى الله عليه وسلم بسوطه إليهم, وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة, فإن البر ليس بالإيضاع».
الإيضاع: الإسراع, وقال الفراء: هو مثل الخبب.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا مؤمل بن إسماعيل, حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن الحكم, عن مقسم,
#100#
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وأمرهم بالسكينة, وأردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما وقال: «يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار, فإن البر ليس بإيجاف الإبل والخيل» فما رأيت ناقة رافعة يديها حتى بلغت جمعا، ثم أردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما من جمع إلى منى وهو يقول: «يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار, فإن البر ليس بإيجاف الإبل والخيل» فما رأيت ناقة رافعة يديها عادية حتى بلغت منى.
تابعه المسعودي, عن الحكم نحوه.
الإيجاف: في السير كالعنق, وهو سير من سير الدواب طويل, وقال ابن القطاع في "أفعاله": العنق دون الإسراع.
وروى يحيى بن سلمة بن كهيل, عن أبيه, عن الحسن العرني, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فقال: «يا أيها الناس, إنه ليس البر في إيجاف الإبل ولا إيضاع الخيل, ولكن سيراً جميلاً، لا توطئوا ضعيفاً ولا تؤذوا مسلماً».
الحسن العرني ثقة, لكنه لم يسمع من ابن عباس كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وقال عبد الرزاق بن همام في "جامعه": أخبرنا ابن جريج, أخبرني
#101#
عبد الملك بن عبد الله قال: رأيت أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبا سلمة بن سفيان واقفين على الجبل على بطن عرنة فوقفنا معهما, فلما دفع الإمام دفعا وقالا:
إليك تعدو قلقاً وضينها ... مخالفاً دين النصارى دينها
ويكبران بين ذلك حتى فاتانا بعرفة وهما يقولانها فسألت مولى لأبي بكر حينئذ معهم, فزعم أنه سمع أبا بكر يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها إذا دفع.
وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني, حدثنا سعيد بن سلمان, عن أبي الربيع السمان, حدثنا عاصم بن عبيد الله, عن سالم, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفات وهو يقول:
«إليك تعدو قلقاً وضينها ... مخالفاً دين النصارى دينها».
#102#
لم يرو هذا الحديث عن عاصم إلا أبو الربيع السمان, قاله الطبراني.
والوضين: الحزام.
وكانت إفاضة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق المأزمين وهو بين العلمين, وذلك غير طريقه التي دخل عرفة منها, والمأزمان شعب بين جبلين يفضي آخره إلى بطن عرنة.
قال جابر رضي الله عنه: كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد الجبل.
هو المستطيل من الرمل, وتقدم.
وقال هشام بن عروة, عن أبيه قال: سئل أسامة رضي الله عنه – وأنا جالس – كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العتق فإذا وجد فجوة نص.
والعنق دون الإسراع كما تقدم, والنص فوق العنق, من قولهم: نص الدابة؛ أي: حثها.
وذكر بعضهم أن النص تحريك الناقة حتى تستخرج أقصى سيرها.
#103#
قال جابر رضي الله عنه: حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين, ولم يسبح بينهما شيئاً, ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع الفجر, فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة.
المزدلفة: هي جمع أيضاً, وكلها من المحرم, وحدها ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر, وليس الحدان منها.
وصح عن [حديث] أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة.
وروى إبراهيم بن عقبة, عن كريب مولى ابن عباس أنه سأل أسامة بن زيد رضي الله عنهم قال: أخبرني عشية ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم, كيف فعلتم أو صنعتم؟ قال: جئنا الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمعرس, فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته, ثم بال – وما قال: أهراق الماء – ثم دعاء بالوضوء فتوضأ وضوءاً ليس بالسابغ جداً, قلت: يا رسول الله, الصلاة, قال: «الصلاة أمامك» قال: فركبت حتى قدمنا المزدلفة, فأقام المغرب, ثم أناخ والناس في منازلهم, فلم يحلوا [بفتح الياء وضم الحاء, أي فلم يحلوا أحمالهم] حتى أقام العشاء الآخرة فصلى, ثم حل الناس.
وأصله في "الصحيحين": من حديث مالك بن أنس, عن موسى بن عقبة, عن كريب.
#104#
تابعه يحيى بن سعيد الأنصاري وحماد بن زيد وغيرهما, عن موسى.
ورواه حاتم بن إسماعيل, عن موسى بن عقبة, [عن إبراهيم بن عقبة, عن كريب.
قال أبو القاسم البغوي: لا أعلم أن أحداً حدث بهذا الحديث عن موسى بن عقبة], عن إبراهيم بن عقبة غير حاتم بن إسماعيل إلا أن موسى قد سمع هذا الحديث من كريب نفسه.
ذكره عنه أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد" قال: وذكر إبراهيم بن عقبة خطأ.
قلت: إبراهيم بن عقبة رواه عن كريب متابعة لأخيه موسى.
#105#
حدث بذلك مسلم في "صحيحه" عن أبي بكر وأبي كريب كلاهما عن ابن المبارك, وعن إسحاق بن يحيى بن آدم, عن زهير, كلاهما: عن إبراهيم بن عقبة, عن كريب.
تابعهما أخوهما محمد بن عقبة فيما رواه مسلم أيضاً, عن إسحاق, عن وكيع, عن سفيان, عن محمد بن عقبة.
وهو عند وكيع, عن سفيان, عن إبراهيم بن عقبة فيما خرجه النسائي.
وللحديث طرق منها: ما رواه أبو الوليد الأزرقي, عن جده, أخبرنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج, أخبرني موسى بن عقبة, عن كريب مولى ابن عباس, سمعت أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة, فلما جئنا الشعب – أو إلى الشعب – نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأهراق الماء, ثم توضأ فلم يتم الوضوء ... وذكر الحديث.
وحدث به أيضاً, عن جده, عن سفيان بن عيينة, عن إبراهيم بن عقبة وابن أبي حرملة وهو محمد, عن كريب مختصراً.
وقال أبو بكر - أحمد بن يوسف بن خلاد النصيبي – حدثنا أبو محمد عبيد بن شريك, حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم, حدثنا محمد بن
#106#
جعفر, حدثني محمد بن أبي حرملة, حدثني كريب مولى ابن عباس, عن أسامة بن زيد أنه قال: ردفت النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة, فلما بلغ الشعب الأيسر الذي بين عرفة والمزدلفة أناخ به فبال, فصببت عليه من الإداوة, فتوضأ وضوءاً خفيفاً, فقلت: الصلاة, قال: «الصلاة أمامك» فركب حتى أتى المزدلفة ضحى بها.
خرجه مسلم في "صحيحه" لابن أبي حرملة بنحوه.
وهذا الشعب الذي بال فيه النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: شعب الإذخر على يسرة الطريق بين المأزمين.
وقال أبو الوليد الأزرقي: سألت جدي عن الشعب الذي بال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة حين أفاض من عرفة, قال: هو الشعب الكبير الذي بين مأزمي عرفة عن يسار المقبل من عرفة, يريد المزدلفة في أقصى المأزم مما يلي نمرة, وبين يدي هذا الشعب الميل ومن هذا الميل سقاية زبيدة التي في أول المزدلفة مثل الميل عنده دونها إلى المزدلفة قليلاً وفي أقصى هذا الشعب صخرة كبيرة, وهي الصخرة التي لم أزل أسمع من أدركت من أهل العلم يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بال خلفها استتر بها, ثم لم تزل أئمة الحج تدخل هذا الشعب فتبول فيه وتتوضأ إلى اليوم.
قال أبو محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي: أحسب أن جد أبي الوليد أوهم؛ وذلك أن أبا يحيى بن أبي ميسرة أخبرني أنه الشعب الذي في بطن المأزم عن يمينك وأنت مقبل
#107#
من عرفة بين الجبلين إذا أفضت من مضيق المأزمين, وهو أقرب وأوصل بالطريق؛ لأن الشعب الذي ذكره جد أبي الوليد الأزرقي يبعد عن الطريق.
وروى الإمام أحمد عن ابن سيرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات, فلما كان حين راح رحت معه, حتى أتى الإمام فصلى معه الأولى والعصر, ثم وقف وأنا وأصحاب لي, حتى أفاض الإمام فأفضنا معه, حتى انتهى إلى المضيق دون المأزمين فأناخ وأنخنا, ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة, ولكنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته فهو يحب أن يقضي حاجته.
وقبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة لقيه خال سويد بن حجير, واسمه فيما قيل: صخر بن القعقاع الباهلي, وقيل: سعد بن الأخرم, وقيل: ابن المنتفق, فسأله: ما يقربني من الجنة.
وهو ما رواه معلى بن أسد, عن قزعة بن سويد, عن أبيه سويد بن حجير, عن خاله قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عرفة والمزدلفة, قال: فأخذت بخطام ناقته, فقلت: ماذا يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ فقال: «أما والله لئن أوجزت المسألة لقد أعظمت وطولت, أقم الصلاة المكتوبة, وأد الزكاة المفروضة واحجج البيت, وما أحببت
#108#
أن يفعله بك الناس فافعله بهم, وما كرهت أن يفعله الناس بك فدع الناس منه، خل عن خطام الناقة».
وروى الواقدي عن محمد بن مسلم الجوسق المخزومي مولاهم, عن عثيم بن كثير بن كليب الجهني, عن أبيه, عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته وقد دفع من عرفة إلى جمع والنار توقد بالمزدلفة وهو يؤمها حتى نزل قريباً منها.
وفي تلك الليلة – عند غيبوبة القمر – أذن النبي صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله أن يتقدموا إلى منى قبل طلوع الفجر, وأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
وخرج الترمذي من حديث وكيع, عن المسعودي, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ضعفة أهله وقال: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».
حديث ابن عباس رضي الله عنهما حديث حسن صحيح, قاله الترمذي.
#109#
ورواه الأعمش, عن الحكم, [عن مقسم, عن ابن عباس], وهو معروف من حديث الأعمش, قاله يحيى بن معين.
وخرج أبو داود من حديث سلمة بن كهيل, عن الحسن العرني, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني [عبد] المطلب على حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: «أبيني – [أي بني] – لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».
قال أبو داود: اللطح: الضرب اللين.
وفي "المجمل": اللطح: الضرب ببطن الكف.
والحديث في "سنن النسائي" وابن ماجه, وهو منقطع, فإن الحسن العرني – وإن كان ثقة, وقد احتج به مسلم واستشهد به البخاري – لم يسمع من ابن عباس شيئاً, قاله الإمام أحمد بن حنبل فيما رواه عنه ابنه عبد الله, رواه عنه كتابة ابن أبي حاتم في كتابه "المراسيل".
وذكره نحوه يحيى بن معين فقال: يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس.
#110#
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن منصور, عن سلمة بن كهيل,. عن الحسن العرني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أو عن الحسن عن ابن عباس ... فذكره بنحوه.
وقد جاءت رواية مصرحة بسماع الحسن من ابن عباس, قال عبد الرزاق بن همام في "جامعه": قال الثوري: عن سلمة بن كهيل, عن الحسن العرني قال: سمعت ابن عباس يقول: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب. وذكره بنحوه.
وصح من حديث عبيد الله بن أبي يزيد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله.
ورواه عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث بي من جمع بسحر مع ثقله.
وجمع: تقدم أنه اسم للمزدلفة؛ لاجتماع الناس بها, وقيل: لاجتماع آدم وحواء بها لما أهبطا.
وفي الصحيحين من حديث القاسم, عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس, وأقمنا نحن حتى أصبحنا, ثم دفعنا بدفعه, فلأن أكون
#111#
استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به.
وروى الشافعي, عن داود بن عبد الرحمن العطار وعبد العزيز بن محمد الدراوردي, عن هشام بن عروة, عن أبيه قال: دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة يوم النحر, فأمرها أن تجعل الإفاضة من جمع حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح, وكان يومها, فأحب أن توافقه, وفي رواية: أن توافيه.
وخرجه أبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر, ثم مضت فأفاضت, وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها.
وفي المزدلفة سأل عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن حجه
فيما خرجه الترمذي من حديث سفيان, عن داود بن أبي هند وإسماعيل بن أبي خالد وزكريا بن أبي زائدة, عن الشعبي, عن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليهوسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة, فقلت: يا رسول الله, إني جئت من جبلي طيء, أكللت راحلتي وأتعبت نفسي, ووالله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه, فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد صلاتنا هذه, فوقف معنا حتى ندفع, وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً, فقد تم حجه وقضى تفثه».
#112#
هذا حديث حسن صحيح. قاله الترمذي.
وصححه الإمام أحمد.
وألزم الدارقطني البخاري ومسلماً إخراجه.
وهو في "معجم الطبراني الأوسط" من طريق إسماعيل بن أبي خالد.
وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي, عن عروة بن مضرس الطائي رضي الله عنه أنه حج على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يدرك الناس إلا وهم بجمع, قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله, أتعبت نفسي.. وذكر الحديث.
وهو عند أبي معاوية وعلي بن عاصم ويعلى بن عبيد, ويزيد بن هارون, عن إسماعيل بن أبي خالد بنحوه.
#113#
تابعه سيار [بن أبي سيار] وأبو يزيد – داود بن يزيد الأودي – وزبيد اليامي وعبد الله بن أبي السفر ومطرف وغيرهم, عن الشعبي نحوه.
وفي بعض طرقه فيما رواه إبراهيم بن محمد الشافعي, عن ابن عيينة, عن داود بن يزيد, عن الشعبي, عن عروة, قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى الصبح, فقال: «أفرخ روعك».
#114#
وفي لفظ آخر عن عروة قال: يا رسول الله, طويت الجبلين ولقيت شدة فقال: «أفرخ روعك, من أدرك إفاضتنا هذه فقد أدرك الحج».
قوله: «أفرخ روعك» هو من الأمثال من قولهم: أفرخ الروع: أمن, قاله الزبيدي في "مختصر العين".
وقيل: هو من قولهم: فرخ الأمر وأفرخ أي: انجلى وانكشف بعد الاشتباه, كما ينكشف ما في البيضة إذا انشق عن الفرخ, وذكر في معناه غير هذا.
وقد جاءت رواية مصرحة أن عروة ذهب إلى عرفات ليلاً والناس في المزدلفة وأتى إليهم بها.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو نعيم, حدثنا زكريا بن أبي زائدة, عن عامر, حدثني عروة بن مضرس بن أوس بن
#115#
حارثة بن لام رضي الله عنه أنه حج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدرك الناس إلا ليلاً وهم بجمع, فانطلق إلى عرفات ليلاً فأفاض منها, ثم رجع إلى جمع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعملت نفسي وأنصبت راحلتي فهل لي من حج؟ قال: «من صلى معنا الغداة بجمع, ووقف معنا حتى يفيض, وقد أفاض من عرفات قبل ذلك ليلاً ونهاراً, فقد تم حجه وقضى تفثه».
قال جابر رضي الله عنه: "ثم ركب القصواء, حتى أتى المشعر الحرام – وفي رواية: حتى وقف على المشعر الحرام – فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده, فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً":
المشعر الحرام: هو جبل صغير آخر المزدلفة وليس من منى وهو قزح, وقد بني عليه بناء من جهة المزدلفة بدرج يرقى فيها إلى أعلاه حسبما شاهدته, ولله الحمد.
وقد تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين وقف على قزح: «هذا الموقف وكل مزدلفة موقف».
قال جابر رضي الله عنه: فدفع قبل أن تطلع الشمس.
#116#
خرج الترمذي من حديث الأعمش, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض قبل طلوع الشمس, وحسنه الترمذي.
وله شاهد من حديث عمر وسلمان رضي الله عنهما.
قال جابر رضي الله عنه: وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنه, وكان رجلاً حسن الشعر, أبيض وسيماً, فلما دفع النبي صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين, فطفق الفضل ينظر إليهن, فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده [على وجه الفضل, فصرف وجهه إلى الشق الآخر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده] من الشق الآخر على وجه الفضل.
خرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث خالد بن خداش, حدثنا سكين بن عبد العزيز, عن أبيه, عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل رديف النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن, وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه, وجعل الفتى يلاحظ إليهن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له».
وروينا من حديث أبي بكر الشافعي، حدثنا أبو أحمد الشطوي
#117#
– محمد بن محمد – حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو عبيدة، حدثنا سكين بن عبد العزيز سمعت أبي يقول: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان الفضل بن عباس رضي الله عنه رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، قال فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يغطي وجهه مرارا، ويستر وجهه بيده، وجعل الفتى يلاحظ النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن أخي، هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له».
تابعهما أبو عمر الحوضي، عن سكين.
وقال أيضا: حدثنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان، حدثنا أيوب بن محمد الوزان، حدثني الوليد بن الوليد، حدثنا عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن الفضل بن عباس رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فجاء رجل من أهل اليمن يسأله عن بعض الأمر وخلفه امرأة ضخمة حسناء، قال: فجعلت أنظره نظرا، ففطن بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهوى بمخصرة فوكزني بها وقال: «يا ابن أخي، هذا يوم من حفظ عينيه من النظر ولسانه أن يتكلم بما لا يحل له غفر له إلى من [كذا] عام قابل من هذا».
#118#
وقال كريب: قلت يعني لأسامة بن زيد: أخبرني كيف فعلتم حين أصبحتم قال: ردفه الفضل بن عباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي.
قال جابر رضي الله عنه: حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا:
روى بكير بن مسمار عن عبد الله بن خراش بن أمية الكعبي، عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر.
محسر بضم أوله وفتح الحاء، وشد السين المهملتين بعدها راء، واد بين يدي موقف المزدلفة مما يلي منى، وليس هو من الموقف ولا من منى.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" حدثنا محبوب القواريري، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: لما بلغنا وادي محسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا حصا الجمار من وادي محسر».
#119#
وفي رواية عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع وهو كاف ناقته وهو يقول: «أيها عليكم بالسكينة» فلما جاء محسر قال: «عليكم بحصا الخذف».
وخرج يعقوب بن شيبة في "مسنده" من حديث مسلم بن خالد الزنجي، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة وهو مردف أسامة بن زيد رضي الله عنه فقال: «هذا الموقف وكل عرفة موقف» ثم دفع يسير العنق، والناس يضربون وهو يلتفت يمينا وشمالا ويقول: «السكينة أيها الناس، السكينة أيها الناس». حتى جاء إلى المزدلفة، فجمع بين الصلاتين، ثم وقف بالمزدلفة، فأردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما فوقف على قزح، فقال: «هذا الموقف وكل مزدلفة موقف» ثم دفع يسير العنق والناس يضربون يمينا وشمالا، وهو صلى الله عليه وسلم يلتفت ويقول: «السكينة أيها الناس، السكينة أيها الناس» فلما وقف على محسر قرع راحلته فخبت حتى خرج من الوادي، ثم سار مسيره حتى رمى جمرة العقبة، ثم دخل المنحر، فقال، «هذا المنحر وكل منى منحر» ثم جاءت امرأة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الله على عباده في الحج، أفأحج عنه؟ فقال: «حجي عن أبيك».
#120#
وخرجه أحمد في "مسنده" والترمذي في "جامعه" وصححه، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه بنحوه.
ورواه يعقوب بن شيبة من طريق سليمان بن بلال وحاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن الحارث مختصرا.
ورواه من طريق المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه تاما،
قال يعقوب: حديث مديني حسن الإسناد، غير أن عبد الرحمن بن الحارث يروي أحاديث مناكير. انتهى.
عبد الرحمن هذا هو ابن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي.
وخرج الحديث أيضا يعقوب بن شيبة من طريق عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي، عن أبيه علي، فلم يذكر عبيد الله بن أبي رافع، وعلي بن حسين لم يلق علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاله يعقوب بن شيبة.
وقال: يحيى بن عبد الله بن سالم ليس بالمشهور المعتمد عليه انتهى.
#121#
وفي رواية أبي الزبير التي قدمناها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأخذ حصى الجمار من محسر.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا إسماعيل بن علية، عن عوف، عن زيد بن الحصين، حدثنا أبو العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: «القط لي حصيات» قال: فلقطت له حصيات مثل حصا الخذف فقال: «بمثل هذا فارموا».
وحدث به النسائي في "سننه" عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، عن ابن علية، وعن أبي قدامة –واسمه عبيد الله بن سعيد السرخسي – عن يحيى، وهو ابن سعيد القطان، كلاهما عن عوف، عن زياد بن حصين بنحوه.
وزياد هو الصواب.
وخرجه ابن ماجه من حديث أبي أسامة، عن عوف وصححه ابن حبان والحاكم.
وحدث به عبد الرزاق في "جامعه" عن إسماعيل بن عبد الله -هو
#122#
ابن علية-، وابن المبارك وغيرها، عن عوف العبدي، عن زياد بن الحصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن الفضل رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غداة العقبة: «هات، القط لي» فلقطت له حصيات هن حصا الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: «نعم أمثال هؤلاء، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث حماد بن زيد، عن المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، حدثتني أم جندب رضي الله عنها أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الجمرة وهو يقول: «يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وارموا مثل حصا الخذف».
تفرد به حماد.
وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن سفيان بن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي، عن أمه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقتل بعضكم بعضا» وذكر الحديث بنحوه.
#123#
وحدث به عبد الرزاق في "جامعه" عن معمر وغير واحد، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي، عن أمه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو يقول: «يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، إذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذف».
وحدث به علي بن مسهر وغيره عن يزيد بن أبي زياد ولفظه: عن أمه أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم استبطن الوادي فرمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
وخرجه أبو داود في "سننه" فقال: حدثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ووهب بن بيان قالا: حدثنا عبيدة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أمه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكبا ورأيت بين أصابعه حجرا فرمى ورمى الناس.
وخرج أبو نعيم في "معرفة الصحابة" من حديث سعيد بن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني عبد الرحمن بن حرملة، حدثني
#124#
يحيى بن هند، عن والدي حرملة بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وعمي مردفي، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واضع أصبعيه إحداهما على الأخرى، قال: قلت: ماذا يقول؟ قال: يقول: «ارموا بمثل حصا الخذف».
وخرجه أبو نعيم أيضا من طريق ضرار بن صرد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن يحيى بن هند، عن حرملة بن عمرو قال: كنت مع عمي سنان بن سنة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقلت لعمي: ما يقول؟ قال: يقول: «ارموا الجمار بمثل حصا الخذف».
ورواه بشر بن المفضل وعبد الله المديني – والد علي – ووهيب بن خالد وإبراهيم بن سويد، عن عبد الرحمن بن حرملة نحوه.
#125#
وفي طريقه هذه سألته الخثعمية عن الحج عن أبيها كما مر في حديث عبد الرحمن بن الحارث المخزومي.
قال البخاري في "صحيحه": حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سليمان بن يسار، أخبرني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق – يعني الفضل – ينظر إليها وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف يده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها، فقالت: يا رسول، إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: «نعم».
تابعه مالك والأوزاعي وسفيان بن عيينة وعبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهري بنحوه.
ورواه أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، حدثني سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس عن الفضل أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج، وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال: «حجي عنه».
#126#
وقال النسائي في "سننه الكبرى": أخبرنا أحمد بن سليمان، حدثنا يزيد، أخبرنا هشام، عن محمد، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إن أمي عجوز كبيرة، وإن حملتها لم تستمسك، وإن ربطتها خشيت أن أقتلها، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلمو: «أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه؟» قال نعم، قال: «فحج عن أمك».
تابعه عبد الأعلى عن هشام يعني: ابن حسان
ورواه النسائي أيضا عن أبي داود الحراني، عن الوليد بن نافع، عن شعبة، عن يحيى بن أبي إسحاق به.
وسليمان بن يسار لم يدرك الفضل بن عباس، لأن الفضل توفي زمن عمر رضي الله عنه بناحية الأردن في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة.
وجاء في رواية عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس. مكان: الفضل. وهو ما قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، حدثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن أبي إسحاق قال: [قال] سليمان بن يسار: حدثني عبيد الله بن العباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث.
#127#
ورواه علي بن عاصم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس.
قال: قلنا ليحيى: إن محمدا – يعني ابن سيرين – حدث عنك أنك حدثت بهذا الحديث عن سليمان بن يسار، عن الفضل بن عباس فقال: ما حفظته إلا عن عبيد الله بن عباس، فهذا أشبه؛ لأن عبيد الله بن عباس، بقي إلى زمن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وقال محمد بن عمر الواقدي: روى أيوب السختياني هذا الحديث، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس.
قلت: قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا معن بن عيسى، حدثنا مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عمن أخبره، عن عبيد الله بن عباس .. فذكره.
وجاء في رواية عبيد الله أو الفضل على الشك.
قال أبو بكر بن [أبي] خيثمة في "التاريخ" أيضا: فحدثنا أبي، حدثنا ابن علية، عن يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا سليمان بن يسار، حدثني أحد ابني العباس – إما عبيد الله وإما الفضل – أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن أمي – أو إن أبي - ثم ذكر الحديث.
#128#
خرجه النسائي في "سنة الكبرى" فقال: أخبرنا مجاهد بن موسى، عن هشيم، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم إن أبي أدركه الحج، وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته، وإن شددته خشيت أن يموت، أفأحج عنه؟
قال: «أرأيت لو كان عليه دين قضيته أكان مجزءا؟» قال: نعم قال: «فحج عن أبيك».
خالفه ابن سيرين كما في روايته عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن الفضل.
(ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد" أنه يقوى في الظن أن حديث يحيى بن أبي إسحاق هذا، وحديث الزهري الذي قدمناه واحد، وحديث الزهري أصح. انتهى.
والزهري حافظ، أتقن أثبت من يحيى بن أبي إسحاق، لاسيما وقد رواه ابن سيرين، كما قدمناه عن يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن الفضل)، فهذا مما يقوي الظن أن الحديثين واحد.
وقد ذكر ابن أبي خيثمة أن القصة كانت غداة النحر لا شك فيه. وعبد الله بن عباس قد قدم إلى منى. يعني: في ضعفة أهل النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عن مصعب أن عبيد الله بن عباس كان أصغر سنا من عبد الله، قال فالفضل لا شك فيه، كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
#129#
فحديث بني العباس واحد – والله أعلم - لكن القصة غير واحدة، لما روي من حديث جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير [عن عبد الله بن الزبير] رضي الله عنهما قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب, وأدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزئ أحج عنه؟ قال: «أنت أكبر ولده؟» قال: نعم, قال: «أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟» قال: نعم, قال: «فحج عنه».
خرجه النسائي في "سننه الكبرى" عن إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا جرير ... فذكره.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بنحوه.
وخرج النسائي [أيضاً] من طريق وكيع فقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا وكيع, حدثنا شعبة, عن النعمان بن سالم, عن عمرو بن أوس, عن أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة والظعن, فقال: «حج عن أبيك واعتمر».
تابعه خالد بن الحارث, عن شعبة.
#130#
وخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه.
ومن طريقه خرجه البيهقي في "معارف السنن" وفي "سننه الصغرى".
وقال في "المعارف": وقد روينا عن أحمد بن حنبل أنه قال: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجود من هذا, ولا أصح منه.
وأبو رزين هذا: لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي, ويقال له لقيط بن صبرة, وإليه ذهب يحيى بن معين والبخاري فجعلاه واحداً, وجعلهما اثنين علي بن المديني ومحمد بن سعد وغيرهما.
وقد جاء في هذه القصة روايتان عن ابن عباس مختلفتان يقوى في الظن أنهما ثنتان.
#131#
وذلك ما رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن محمد بن كريب, عن أبيه, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني حصين بن عوف، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أبي شيخ كبير عليه حجة الإسلام, لا يستطيع أن يسافر إلا معروضاً فما ترى, قال: فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «حج عن أبيك».
كذا قال ابن عباس: عن حصين بن عوف.
وحدث به ابن ماجه في "سننه" عن محمد بن عبد الله بن نمير, عن أبي خالد الأحمر, عن محمد بن كريب بنحوه.
وقال ابن أبي خيثمة أيضاً: حدثنا محمد بن عيسى الوابشي, حدثنا أبو الأحوص, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج, أفأحج مكانه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم, حج عن أبيك».
لم يذكر عكرمة في حديثه حصين بن عوف, جعل الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم, قاله ابن أبي خيثمة.
#132#
وقال الشافعي: أخبرنا مالك, عن أيوب, عن ابن سيرين أن رجلاً جعل على نفسه أن لا يبلغ أحد من ولده الحلب فيحلب ويشرب ويسقيه إلا حج وحج به معه, فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأخبره الخبر فقال: إن أبي قد كبر ولا يستطيع أن يحج, أفأحج عنه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم».
قال الشافعي – وذكر مالك أو غيره – عن أيوب, عن ابن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, إن أمي عجوز كبيرة لا نستطيع أن نركبها على البعير, وإن ربطتها خفت أن تموت, أفأحج عنها؟ قال: «نعم».
ورواه ابن وهب وغيره عن مالك فيما ذكره البيهقي.
#133#
$[التلبية إلى رمي جمرة العقبة]$
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي في سيره حتى رمى جمرة العقبة التي تعرف بقارعة الوادي.
صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة رضي الله عنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة, ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى, قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث مسدد, حدثنا يحيى بن سعيد, عن عبد الملك, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة, وردفه أسامة بن زيد, فجالت به الناقة, وهو رافع يديه لا يجاوزان رأسه, ثم سار على هيئته إلى جمع وردفه الفضل, فما زال يلبي حتى رمى [الجمرة.
وروى ابن جريج عن عطاء, أخبرني ابن عباس أن الفضل بن عباس رضي الله عنهم أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى] جمرة العقبة.
#134#
تابعه مطر, عن عطاء, عن ابن عباس, وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم التلبية حتى رمى الجمرة القصوى يوم النحر.
عطاء هذا هو ابن أبي رباح المكي الذي لقي ابن عباس وسمع منه, وليس بالخراساني, لأنه لم يلقه, وإنما كان يرسل الرواية عنه, قاله الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه "المزيد".
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا ابن الأصبهاني, أخبرنا حفص بن غياث, عن جعفر بن محمد يعني ابن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب, عن أبيه محمد بن علي – يعني ابن حسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب – عن علي بن حسين – يعني ابن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب – عن ابن عباس – يعني عبد الله بن عباس بن عبد المطلب – عن الفضل – يعني ابن العباس بن عبد المطلب – أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة, ورماها بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة تكبيرة.
وحدث عبد الرزاق في "جامعه" عن معمر, عن أيوب, عن عكرمة,
#135#
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة.
وهو عند عبد الرزاق أيضاً عن الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس.
تابعه أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي, عن الثوري. وله شاهد من حديث ابن مسعود وغيره.
وروى يزيد بن زريع وعبد الأعلى ومحمد بن سلمة وأبو تميلة وإبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق واللفظ لإبراهيم, حدثني أبان بن صالح, عن عكرمة قال: دفعت مع حسين بن علي إلى المزدلفة, فلم أزل أسمعه يقول: لبيك لبيك, حتى انتهى إلى الجمرة, فقيل له: ما هذا الإهلال يا أبا عبد الله, فإني لا أرى الناس يصنعون هذا، قال: إني سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يهل حتى انتهى إلى الجمرة, وحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حتى انتهى إلى الجمرة.
خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" من حديث الجماعة المذكورين عن ابن إسحاق.
#136#
قال يعقوب: حديث صالح الإسناد, يرجع إلى أهل الحجاز, قال: ولا نحفظه عن علي رضي الله عنه إلا من هذا الطريق.
قال جابر رضي الله عنه: ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج – وفي رواية: تخرجك – على الجمرة الكبرى, حتى إذا أتى الجمرة التي عند الشجرة – وفي رواية: عندها الشجرة – فرماها بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة منها حصا الخذف, رمى من بطن الوادي الجمرات الثلاثة.
الجمرة المذكورة في هذا الحديث, جمرة العقبة التي عند الشجرة. ويقال لها: الجمرة الكبرى, وهي في آخر منى مما يلي مكة, وليست هذه العقبة التي تنسب إليها الجمرة من منى.
والجمرة الأولى والوسطى هما معاً فوق مسجد الخيف إلى ما يلي مكة, وجمرات منى الثلاث بين كل جمرتين غلوة سهم.
وصح عن عبد الرحمن بن يزيد أنه حج مع ابن مسعود رضي الله عنه, فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات, وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه, ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ: قال عبد الرحمن: فاستبطن الوادي, حتى إذا حاذى
#137#
بالشجرة اعترضها, فرمى سبع حصيات, يكبر مع كل حصاة, ثم قال: من هاهنا – والذي لا إله غيره – قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أن ابن مسعود أتى جمرة العقبة, فاستبطن الوادي، فاستعرضها فرماها من يطن الوادي بسبع حصيات .... الحديث.
وفي رواية خرجها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" قال: حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد, عن أبيه قال: أفضت مع عبد الله رضي الله عنه, فرمى سبع حصيات, يكبر مع كل حصاة, واستبطن الوادي حتى إذا فرغ قال: اللهم اجعله حجاً مبروراً وذنباً مغفوراً, ثم قال: هكذا رأيت الذي نزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم صنع.
قال البيهقي في قوله: يكبر مع كل حصاة: وفي ذلك دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قطع التلبية بأول حصاة, ثم كان يكبر مع كل حصاة.
وخرج الدارقطني في "سننه" من حديث أبي خالد الأحمر, عن
#138#
محمد بن إسحاق, عن عبد الرحمن بن القاسم, عن أبيه, عن عائشة رضي الله عنها قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم النحر حين صلى الظهر, ثم رجع فمكث بمنى ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس, كل جمرة بسبع حصيات, يكبر مع كل حصاة, ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع, ثم يرمي الثالثة ولا يقف عندها.
وخرجه أبو داود في "سننه" وأحمد في "مسنده" وابن حبان والحاكم في "صحيحيهما".
وخرج الدارقطني في "سننه" من حديث سعيد بن بحر القراطيسي, عن عثمان بن عمر, عن يونس, عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي المسجد – مسجد منى - يرميها بسبع حصيات, يكبر كلما رمى بحصاة, ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل البيت رافعاً يديه يدعو وكان يطيل الوقوف, ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات, يكبر كلما رمى بحصاة, ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي, فيقف مستقبل البيت رافعاً يديه يدعو ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات, يكبر كلما رمى بحصاة, ثم ينصرف ولا يقف عندها.
قال الزهري: سمعت سالم بن عبد الله يحدث بهذا عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: كان ابن عمر يفعله.
#139#
خرجه البخاري في "صحيحه" لعثمان, وسيأتي إن شاء الله تعالى .
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم, عن زيد بن أبي أنيسة, عن يحيى بن الحصين, عن أم الحصين جدته رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فرأيت أسامة وبلالاً, وأحدهما أخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم, والآخر رافع ثوبه يستره من الحر, حتى رمى جمرة العقبة.
وخرجه مسلم في "صحيحه" وأبو داود في "سننه" عن أحمد بن حنبل.
وأبو عبد الرحيم: اسمه خالد بن أبي يزيد, وهو خال محمد بن سلمة الراوي عنه.
وفي رواية عن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فرأيته حين رمى جمرة العقبة, وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة, أحدهما يقود به راحلته, والآخر رافع ثوبه على رأس النبي صلى عليه وسلم يظلله من الشمس.
#140#
وقد جاء في طريق أن بلالاً رضي الله عنه كان القائد, وأسامة رضي الله عنه رافع الثوب.
قال عبد الله بن جعفر الرقي: حدثنا عبيد الله بن عمرو, عن زيد ابن أبي أنيسة, عن يحيى بن الحصين, عن جدته أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, فرأيت بلالاً وأسامة رضي الله عنهما, وبلال يقود خطام راحلته, والآخر رافعاً ثوبه يستره به من الحر حتى رمى جمرة العقبة, ثم انصرف وقد جعل ثوبه تحت إبطه الأيمن على عاتقه الأيسر, فرأيت تحت غضروف كتفه الأيمن كهيئة جمع, فوقف على الناس, فقال قولا كثيراً, فكان مما قال: «إن أمر عليكم عبد أسود مجدع, يقودكم بكتاب الله, فاسمعوا له وأطيعوا».
خرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" للرقي.
#141#
وخرجه أبو نعيم مختصراً في "معرفة الصحابة" من حديث زهير, حدثنا أبو إسحاق, عن يحيى بن الحصين, عن جدته أم الحصين رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, وهو على رحله وراحلته, وحصين في حجري, وقد أدخل ثوبه من تحت إبطه.
رواه إسرائيل وأبو الأحوص وغيرهما, عن أبي إسحاق ولم يقولوا: وحصين في حجري. تفرد بن زهير, قاله أبو نعيم.
والحديث له طرق: منها ما رواه عبيد الله بن موسى القواريري وأبو غسان مالك بن إسماعيل وعبد الله بن رجاء واللفظ له قالوا: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن يحيى بن حصين, عن جدته أم حصين رضي الله عنها قالت: أنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس بمنى قد التحف بثوبه, وإن عضلة عضده ترتج وهو يقول: «إذا استعمل عليكم عبد حبشي مجدع, فأقام فيكم كتاب الله, فاسمعوا وأطيعوا».
والحديث عند زهير وأبي الأحوص وغيرهما, عن أبي إسحاق بنحوه. (ورواه أبو بكر بن عياش, عن أبي إسحاق), عن يحيى بن الحصين والعيزار بن حريث, عن أم الحصين بمعناه.
ورواه شعبة, عن يحيى بن حصين, عن جدته أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات .... وذكر نحوه.
#142#
ورواه أبو نعيم – الفضل بن دكين – عن يونس بن إسحاق, عن العيزار ابن حريث: سمعت الأحمسية – يعني أم الحصين – تقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع, عليه برد قد التحف به من تحت إبطه وأنا أنظر إلى عضلة ساقه ترتج وهو يقول: «أيها الناس, اتقوا الله وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع, فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله».
وخرج الشافعي والدارمي في مسنديهما, واللفظ للدارمي من حديث أيمن بن نابل, عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار على ناقة صهباء ليس ثم ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
وفي بعض طرقه من رواية يحيى بن عبد الحميد الحماني, حدثنا ابن المبارك, عن أيمن بن نابل, حدثني قدامة بن عبد الله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وهو يرمي الجمرة على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك [إليك].
ورواه عاصم بن علي, حدثنا أخي الحسن بن علي, حدثنا أيمن بن نابل مثله. ورواه إسحاق بن راهويه, أخبرنا وكيع, حدثنا أيمن ... فذكر مثله.
#143#
ورواه سعيد بن منصور, حدثنا علي بن ثابت, عن أيمن بن نابل مثله.
وحدث به أحمد بن حنبل في "مسنده" عن أبي أحمد – محمد بن عبد الله الزبيري – حدثنا أيمن بن نابل, حدثني قدامة بن عبد الله الكلابي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة – جمرة العقبة – من بطن الوادي يوم النحر على ناقة له صهباء لا ضرب ولاطرد ولا إليك إليك .
رواه جماعة عن أيمن منهم: سيفان الثوري, وعبد الرزاق, وهمام, وله طرق, وقد ألزم الدارقطني الشيخين إخراجه في "الصحيح".
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري, حدثنا ابن جريج, أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر يقول:
«لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه».
#144#
وهو في "صحيح مسلم" عن عيسى بن يونس – هو ابن أبي إسحاق السبيعي – عن ابن جريج.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبار, حدثنا علي بن حجر المروزي, حدثنا الهيثم بن حميد, حدثنا المطعم بن المقدام, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته يوم النحر يقول: «لتأخذ أمتي مناسكها, فإني لا أدري أحج بعد عامي هذا».
تفرد به علي بن حجر, قاله الطبراني.
وخرج النسائي من طريق يزيد بن أبي زياد, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أمه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكباً, ورأيت بين أصابعه حجراً فرمى ورمى الناس .... الحديث.
#145#
$[معجزة]$
وخرجه ابن ماجه في "سننه" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن يزيد بن أبي زياد, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أم جندب رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر, ثم انصرف وتبعته امرأة من خثعم ومعها صبي لها به بلاء, فقالت: يا رسول, إن هذا ابني وبقية أهلي وإن به بلاء لا يتكلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بشيء من ماء» فأتي بماء فغسل يديه ومضمض فاه, ثم أعطاه, فقال: «اسقيه منه, وصبي عليه منه, واستشفي الله له», قالت: فلقيت المرأة, فقلت: لو وهبت لي منه, فقالت: إنما هو لهذا المبتلى، قالت: فلقيت المرأة من الحول, فسألتها عن الغلام, فقالت: برئ وعقل عقلاً ليس كعقول الناس.
وحدث به أحمد بن حنبل فقال: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا يزيد – يعني بن عطاء – عن يزيد- يعني ابن أبي زياد – عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي – حدثتني أمي أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي وخلفه إنسان يستره من الناس أن يصيبوه بالحجارة وهو يقول: «أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضاً, وإذا رميتم فارموا بمثل حصا الخذف» ثم أقبل فأتته امرأة بابن لها, فقالت:
#146#
يا رسول الله, إن ابني هذا ذاهب العقل, فادع له, قال: «ائتيني بماء في تور من حجارة» فتفل فيه وغسل فيه وجهه, ثم دعا فيه, ثم قال: «اذهبي فاغسليه به, واستشفي الله» فقلت لها: هبي لي منه قليلاً لابني هذا, فأخذت منه قليلاً بأصابعي, فمسحت به شفة ابني, فكان من أبرأ الناس, فسألت المرأة بعد ما فعل ابنها؟ قالت: برئ أحسن برء.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا خالد بن عبد الله, عن يزيد بن أبي زياد, عن سليمان بن عمرو بن الأحوص, عن أمه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس حتى رمى جمرة العقبة, ورأيته رمى جمرة العقبة من بطن الوادي.
#147#
$[وقت الرمي ورفع ما يقبل من الأحجار]$
وكان رمي النبي صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة ضحى.
رواه ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر الضحى, وبعد ذلك عند زوال الشمس.
خرجه أبو داود في "سننه" والدارمي في "مسنده".
وقال عبد الرزاق في "جامعه": أخبرنا إبراهيم بن يزيد, عن أبي الزبير, عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر على راحلته ضحى, وكان يرمي بعد ذلك إذا زالت الشمس.
خرج الطبراني من حديث يزيد بن سنان, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري, عن أبيه رضي الله عنه قلنا: يا رسول الله, ما هذه الجمار التي نرمي كل سنة, فنحسب أنها تنقص؟ فقال: «ما تقبل منها رفع, ولولا ذلك رأيتموها [مثل] الجبال».
تفرد به يزيد بن سنان.
#148#
وخرجه أبو سعيد – المفضل بن محمد الجندي – في كتابه "أخبار مكة" فقال: حدثنا سعيد, حدثنا سفيان, عن سليمان بن أبي المغيرة العبسي, عن عبد الرحمن بن أبي نعم, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: الحصا قربان, فمن تقبل منه رفع. هذا موقوف.
وحدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن عيينة كذلك.
وقال المفضل الجندي: حدثنا سفيان, عن ابن جريج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تقبل الله حج امرئ إلا رفع له حصاه.
حدثنا سعيد, حدثنا سفيان, [عن فطر, عن أبي العباس], عن أبي الطفيل, سألت ابن عباس رضي الله عنهما قلت: ما بال هذه الجمار ترمى في الجاهلية والإسلام, فكيف لا تسد الطريق؟ قال: إنه والله ما تقبل من امرئ حجه إلا رفع له حصاه.
وقال: حدثنا سعيد, حدثنا سفيان, عن فطر وابن أبي حسين, عن
#149#
أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما رمى الناس الجمار في الجاهلية والإسلام, فكيف لا تسد الطريق, قال: ما تقبل منه رفع, ولولا ذلك كان أعظم من ثبير.
حدث به كذلك ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن عيينة, عن فطر.
وقال المفضل: حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سعيد بن عبد العزيز التنوخي, سمعت عطاء الخراساني يقول: يغفر للحجاج بكل حصاة من حصا الجمار كبيرة من الكبائر.
#150#
$[النحر والمنحر]$
قال جابر رضي الله عنه: ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر.
هذا المنحر, قيل: هو منحر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي ذبح فيه الكبش, وهو الذي تنحر فيه الخلفاء. وقد رأيت مسجداً لطيفاً عند الجمرة الوسطى على يسار الذاهب إلى مكة, قيل لي هو مسجد بني علي منحر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال جابر رضي الله عنه: فنحر ثلاثاً وستين بيده, ثم أعطى علياً رضي الله عنه فنحر ماعزاً وأشركه في هديه, ثم أمر من كل بدنة ببضعة, فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
وفي رواية سنان بن أبي سنان, عن [محمد] بن علي بن حسين, عن جابر رضي الله عنه قال: - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – لعلي رضي الله عنه: «بم كان إهلالك يا علي؟», قال: يا رسول الله لم يأتني الخبر, فقلت: اللهم إهلال كإهلال نبيك صلى الله عليه وسلم، فأشركه في بدنه، فنحر رسول الله بيده سبعا وستين، ونحر علي ثلاثاً وثلاثين, ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة فطبخت في مرجل فحسوا من المرق وأكلا من اللحم.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث وهب بن بقية, أخبرنا خالد, عن أبن أبي ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن
#151#
عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة, فنحر منها ستين بدنة, وأمر رجلاً من أصحابه فنحر منها أربعين, وأمره فأخذ من كل بدنة بضعة فينظمن في خيط فطبخن في قدر فأكل منها وحسا.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" من طريق زهير بن معاوية, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن الحكم.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني رجل, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد بن جبر, عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة, نحر منها ثلاثين بدنة بيده, ثم أمر علياً رضي الله عنه فنحر ما بقي منها, وقال له: «اقسم لحومها وجلالها وجلودها بين الناس, ولا تعطين جزاراً منها شيئاً, وخذ لنا من كل بعير حذية من لحم, ثم اجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحسوا من مرقها» ففعل.
كان الهدي مائة وجميعه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما أشرك فيه علياً.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن أيوب في "المغازي": حدثنا إبراهيم بن سعد, عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني عبد الله بن
#152#
أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث علياً إلى نجران فلقيه بمكة وقد أحرم ... الحديث, وفيه: فلما فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق فطف بالبيت, وحل كما حل أصحابك» قال: يا رسول الله, إني قد قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم, قال: «فهل معك من هدي؟» قال: لا, فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه, وثبت على إحرامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرغا من الحج ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي عنهما.
الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي ثلاث وثلاثون بدنة والباقي قدم به علي رضي الله عنه من اليمن, وكان صلى الله عليه وسلم متطوعاً بهديه.
قال البيهقي: قال الشافعي: وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تطوع؛ لأنه كان مفرداً لا هدي عليه. انتهى.
وخرج الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج, حجتين قبل أن يهاجر, وحجة بعدما هاجر ومعها عمرة, فساق ثلاثاً وثلاثين بدنة.
وجاء علي رضي الله عنه من اليمن ببقيتها, فيه جمل لأبي لهب في أنفه برة من فضة, فنحرها, وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة فطبخت وشرب من مرقها.
وخرجه ابن ماجه وقال: فيها جمل لأبي جهل.
#153#
وقال الدارقطني: حدثنا أبو القاسم عبد الوهاب بن عيسى بن أبي حية حدثنا محمد بن عمرو بن أبي مذعور, حدثنا النضر بن شميل, أخبرنا إسرائيل, عن عبد الكريم, عن مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن علي رضي الله عنه قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة, فيها جمل أبي جهل مزموم ببرة من فضة, فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ستين بيده وأعطى علياً أربعين وقال: «تصدق بجلالها, ولا تعط الجزار منها شيئاً».
وحدث هشيم, عن ابن أبي ليلى, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة, فيها جمل لأبي جهل.
ذكر ابن أبي خيثمة أن يحيى بن معين سئل عن حديث هشيم هذا فقال: لم يسمعه هشيم.
لكن خرج الطبراني في "معجمه الكبير": من حديث محمد بن سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية جمل أبي جهل بن هشام عليه خشاش من ذهب وهو الزمام, وما فعل ذلك إلا ليغيظ قريشاً.
#154#
تابعه إبراهيم بن سعد فيما خرجه أحمد بن حنبل من طريقه, عن ابن إسحاق.
وخرجه أبو داود من طريق محمد بن سلمة ويزيد بن زريع, عن ابن إسحاق المعنى [قال]: قال عبد الله بن أبي نجيح, حدثني مجاهد, عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً [كان] لأبي جهل في رأسه برة فضة – وفي رواية ابن سلمة برة من ذهب – زاد ابن سلمة: يغيظ بذلك المشركين.
قال أبو داود: قال النضر: البرة حلقة الأنف, وهذا هو المشهور.
وخرج الطبراني من حديث محمد بن سلمة, عن خصيف, عن عطاء, عن جابر رضي الله عنه قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة مقلدة.
ورواه عتاب بن بشير, عن خصيف, تفردا به عنه.
وكان الذي نحره النبي صلى الله عليه وسلم من هديه عدد سني عمره على الصحيح, كما في حديث جابر الذي في "الصحيح" لمسلم.
وأما حديث مقسم, عن ابن عباس: فنحر منها ستين بدنة, وفي حديث أنس المتفق عليه: نحر بيده سبع بدن قياماً. فيجمع بينهما
#155#
وبين حديث جابر أن كلا من الرواة شاهد شيئاً فحدث به, وأما رواية سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي عن جابر: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبعاً وستين. فهذه زيادة ذكرها سنان بن أبي سنان, عن محمد بن علي بن حسين, ولم يذكرها جعفر بن محمد بن علي بن حسين, عن أبيه.
وسنان بن أبي سنان ثقة, فتقبل زيادته إن ثبت الإسناد إليه, ويكون حينئذ الذي نحره النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبعاًَ وستين, والله أعلم.
وفي "سنن أبي داود" بإسناد ضعيف عن علي رضي الله عنه قال: لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه فنحر ثلاثين بيده, وأمرني فنحرت سائرها, وكانت البدن لما نحرت قائمة معقولة يدها اليسرى.
صح عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها, قال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
وجاء عن عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها.
حدث به أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه" فقال: حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج, عن ابن سابط فذكره, وهو مرسل.
وخرجه أبو داود في "سننه" من طريق ابن جريج, عن ابن سابط, ومن
#156#
طريقه أيضاً عن أبي الزبير, عن جابر, فقال أبو داود: وحدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا خالد الأحمر, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, عن جابر, وأخبرني عبد الرحمن بن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .... فذكر الحديث.
وخرج أحمد في "مسنده" من حديث عبد الله بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر, ثم يوم القر» وقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بدنات أو ست ينحرهن, فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها, فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفهمها, فسألت من يليني: ما قال؟ قالوا: قال: «من شاء اقتطع».
وخرجه أبو داود والنسائي والحاكم في "مستدركه" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ويوم القر: الحادي عشر؛ لأنهم يستقرون فيه بمنى, وهكذا ورد مفسراً في بعض طرق الحديث من رواية أبي عاصم الضحاك بن مخلد, عن ثور – يعني ابن يزيد – عن راشد بن سعد, عن عبد الله بن لحي, عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأيام عند الله عز وجل يوم النحر, ثم يوم القر, يستقر فيه الناس, وهو الذي يلي يوم النحر» قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بدنات خمس أو ست, فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ, فلما وجبت جنوبها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
#157#
كلمة خفية لم أتقنها, فقلت للذي إلى جنبي ما قال؟ قال: «من شاء اقتطع».
وفي الصحيحين من حديث أبي قلابة, عن أنس رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم, فلما دخل مكة أمرهم أن يحلوا, ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياماً, وضحى بالمدينة بكبشين أملحين.
وثبت عن مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن علياً رضي الله عنه, حدثه قال: أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة, فأمرني بلحومها فقسمتها, ثم أمرني بجلالها فقسمتها, ثم بجلودها فقسمتها.
وفي رواية عن مجاهد, عن ابن أبي ليلى، عن علي رضي الله عنه أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه, وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها, وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً قال: نحن نعطيه من عندنا.
وفي رواية ثابتة [أيضاً] من هذه الطريق عن علي رضي الله عنه أنه أخبر ابن أبي ليلى أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يقوم على بدنه وأمره أن يقسم بدنه كلها, لحومها وجلودها وجلالها في المساكين ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً.
#158#
والحديث متفق عليه, وهو في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث مجاهد, عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن علي رضي الله عنه.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا عبد الله بن المبارك, عن حرملة بن عمران, عن عبد الله بن الحارث الأزدي, عن غرفة بن الحارث قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأتى بالبدن فقال: «ادعوا لي أبا الحسن» فدعي علي رضي الله عنه فقال: «خذ بأسفل الحربة» وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلاها, ثم طعنا بها البدن, فلما فرغ ركب البغلة وأردف علياً رضي الله عنه.
هذا من الأفراد لا يروى إلا بهذا الإسناد, تفرد به ابن مهدي فيما ذكره الطبراني في "معجمه الأوسط".
وخرجه أبو داود عن محمد بن حاتم بن ميمون, عن عبد الرحمن ابن مهدي.
ورواه ابن علي بن السكن في كتابه "الصحابة" عن محمد بن عبد الرحمن السرخسي, عن مسلم بن الحجاج, عن محمد بن حاتم
#159#
عن ميمون مثله.
ولم يخرجه مسلم في "الصحيح". وخرج أبو داود من حديث يونس, عن ابن شهاب, عن عمرة ابنة عبد الرحمن, عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن آل محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة.
وخرجه النسائي وابن ماجه.
وخرجوا أيضاً واللفظ لأبي داود من حديث الوليد, عن الأوزاعي, عن يحيى بن أبي سلمة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن.
وقال حاتم بن الليث: حدثنا عبيد الله بن موسى, أخبرنا بحر, عن الزهري, عن عروة, عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر في حجة الوداع عن نسائه البقر, قالت عائشة: فأتيت بنصيبي.
ولما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أعلمهم أن منى كلها منحر.
قال عبد الله بن وهب: أخبرني أسامة بن زيد, أن عطاء بن أبي رباح, حدثه أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل عرفة موقف, وكل المزدلفة موقف, وكل منى منحر, وكل فجاج مكة طريق ومنحر».
#160#
خرجه البيهقي في "المعارف" لابن وهب.
وهو في "صحيح مسلم" و"مسند أحمد" و"سنن أبي داود" و"ابن ماجه" بنحوه. وله شاهد من حديث علي.
وقال أبو جعفر الوراق: حدثنا إبراهيم بن سعد, عن ابن إسحاق, حدثني عبيد الله بن أبي نجيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفة قال: «هذا الموقف» للجبل الذي وقف عليه «وكل عرفة موقف» وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: «هذا الموقف وكل المزدلفة موقف» ثم لما نحر بالمنحر قال: «هذا المنحر وكل منى منحر».
وهناك أرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ادخار لحوم الأضحية فوق ثلاث.
قال موسى بن هارون الحمال: حدثنا يحيى الحماني, أخبرنا خالد بن عبد الله, عن خالد, عن أبي قلابة, عن أبي المليح, عن نبيشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنا كنا نهيناكم عن لحوم الأضحية فوق ثلاثة أيام كي تسعكم, فقد جاء الله عز وجل بالسعة فكلوا وادخروا وانحروا, وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل».
#161#
ورواه يزيد بن زريع, حدثنا خالد الحذاء, عن أبي المليح, [عن نبيشة في رجل من قومه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرفعه بنحوه.
وكذلك رواه الشافعي وإسحاق بن راهويه – واللفظ له – أخبرنا الثقفي – هو عبد الوهاب – حدثنا خالد الحذاء, عن أبي المليح.
ورواه سعيد بن منصور وسريج بن يونس, واللفظ له, عن هشيم، أخبرنا خالد, عن أبي المليح, عن نبيشة الهذلي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب» فلم يذكروا أبا قلابة.
وقد جاءت الرواية الثابتة أن الحذاء سمع الحديث من أبي قلابة أولاً عن أبي المليح], ثم لقي أبا المليح فحدثه به.
قال مسلم في "صحيحه" بعد أن روى عن سريج حديث هشيم, كما قدمناه قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير, حدثنا إسماعيل – يعني ابن علية – حدثنا خالد الحذاء, حدثني أبو قلابة, عن أبي المليح, عن نبيشة, قال خالد: فلقيت أبا المليح فسألته فحدثني به, فذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث هشيم وزاد: وذكر الله.
#162#
تابعه الحسن بن سفيان, عن ابن نمير.
وخرجه النسائي في "سننه" من حديث هشيم وإسماعيل ابن علية, عن خالد بن أبي المليح كذلك.
وله شاهد من حديث جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب, وسعد بن أبي وقاص, وأوس بن الحدثان, وبديل بن ورقاء, وبشر بن سحيم, وبلال بن رباح, وجابر, وحمزة بن عمرو الأسلمي, وعبد الله بن [حذافة, وعبد الله بن عمرو بن العاص, وأبوه عمرو، وأبو هريرة, وكعب بن مالك, وعائشة رضي الله عنهم.
#163#
$[رواية علي رضي الله عنه]$
قال ابن أبي] خيثمة في "تاريخه" والإمام أحمد في "مسنده" واللفظ له: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي, عن ابن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي سلمة, عن مسعود بن الحكم الأنصاري, ثم الزرقي, عن أمه أنها حدثته قالت: لكأني أنظر إلى علي [بن أبي طالب] رضي الله عنه وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء حين وقف على شعب الأنصار في حجة الوداع وهو يقول: أيها الناس, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ليست بأيام صيام, إنما هي أيام أكل وشرب وذكر».
وحدث به النسائي في "سننه" عن عبيد الله بن سعد, عن عمه, عن أبيه, عن ابن إسحاق, عن عبد الله بن أبي سلمة, عن مسعود بن الحكم به.
وعن إسحاق بن إبراهيم, عن عبدة بن سليمان, عن ابن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن أبي سلمة, ولا أراني إلا سمعته منه ... فذكر نحوه.
وعن قتيبة, عن ليث, عن ابن الهاد, عن عبد الله بن أبي سلمة,
#164#
عن عمرو بن سليم الزرقي, عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا نحن بعلي ... فذكره.
وعن عمران بن بكار, عن أحمد بن خالد, عن ابن إسحاق, عن حكيم بن حكيم, عن مسعود بن الحكم, عن أمه به.
وعن عيسى بن حماد, عن ليث بن سعد, عن يحيى بن سعيد, عن يوسف بن مسعود بن الحكم, عن جدته أنها قالت: بينما نحن بمنى. فذكر نحوه.
وعن أحمد بن الهيثم, عن حرملة بن يحيى, عن ابن وهب, عن عمرو بن الحارث, عن بكير بن الأشج, عن سليمان بن يسار, عن مسعود بن الحكم, عن أمه به, إلا أن فيه قالت: قالت أختي: هذا علي, وقلت أنا: بل هو فلان.
وقال النسائي: وبلغني عن ابن وهب, عن مخرمة بن بكير, عن أبيه, عن سليمان بن يسار, عن الحكم الزرقي, عن أمه, أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فسمعوا راكباً, ولم يسمه.
قال النسائي: ما علمت أحداً تابع مخرمة على قوله "الحكم", (والصواب مسعود بن الحكم).
#165#
وخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الأعلى, عن محمد بن إسحاق, عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف, عن مسعود بن الحكم, عن أمه أنها حدثته قالت: كأني أنظر إلى علي رضي الله عنه على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء في شعب الأنصار وهو يقول: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال]: «إنها ليست أيام صيام, إنها أيام أكل وشرب أيام منى».
وحدث به أبو زرعة الدمشقي, عن أحمد بن خالد الوهبي, عن ابن إسحاق.
خالفهما إبراهيم بن سعد, كما تقدم في "مسند أحمد" وغيره, فرواه عن ابن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي سلمة .... الحديث.
وعبد الله بن أبي سلمة إنما يرويه عن عمرو بن سليم الزرقي, عن أمه,كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا يحيي, حدثنا يحيى ابن سعيد, عن يوسف بن مسعود – يعني ابن الحكم – عن جدته أن رجلاً مر بهم على بعيره يوضعه بمنى في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب, فسألت عنه فقالوا: علي بن أبي طالب.
#166#
تابعه معاوية بن صالح, عن يحيى بن سعيد الأنصاري.
وقال أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا المفضل بن فضالة, حدثني يزيد بن عبد الله, عن عبد الله بن أبي سلمة, عن عمرو بن سليم الزرقي, عن أمه قالت: كنا بمنى فإذا صائح يصيح: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصومن فإنها أيام أكل وشرب» قالت: فرفعت أطناب الفسطاط فإذا الصائح علي بن أبي طالب.
ورواه أيضاً من طريق سعيد بن سلمة, عن أبي الحسام المديني, حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد, عن عمرو بن سليم, عن أمه بنحوه.
تابعهما الدراوردي فيما رواه عنه الشافعي.
وجاء عن زهير بن حرب, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا موسى بن عبيدة الربذي, عن منذر بن أبي الجهم الأسلمي, عن عمر بن خلدة الأنصاري, عن أمه, عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه فنادى أيام منى: إنها أيام أكل وشرب وبعال.
وله طرق إلى علي رضي الله عنه منها: ما رواه يعلى بن شبيب, عن جعفر بن محمد بن علي, عن أبيه, عن جده, عن علي رضي الله عنه في النهي عن صوم أيام منى.
#167#
خالفه أبو ضمرة فرواه عن جعفر, عن أبيه, عن جابر, كذلك قاله يعيش بن الجهم عنه, وغيره يرويه عن أبي ضمرة مرسلاً.
وكذلك رواه أصحاب جعفر بن محمد, عن جعفر, عن أبيه مرسلاً, وهو أشبه بالصواب.
قاله الدارقطني.
وستأتي الرواية المرسلة قريباً – إن شاء الله تعالى – من طريق سليمان بن بلال, عن جعفر.
#168#
$[رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه]$
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا محمد بن أبي حميد المدني, حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص, عن أبيه, عن جده رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي منى, إنها أيام أكل وشرب, ولا صوم فيها. يعني أيام التشريق.
تابعه محمد بن بكر, عن ابن أبي حميد بنحوه.
#169#
$[رواية أوس بن الحدثان رضي الله عنه]$
وقال مسلم في "صحيحه": وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن سابق, حدثنا إبراهيم بن طهمان, [عن] أبي الزبير, عن ابن كعب بن مالك, عن أبيه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق فينادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, وأيام منى أيام أكل وشرب.
تابعه عبد الملك بن عمرو, عن إبراهيم بن طهمان.
#170#
$[رواية بديل بن ورقاء رضي الله عنه]$
وقال يحيى بن معين: حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: بلغني عن محمد بن يحيى بن حبان يحدث عن أم الحارث بنت عياش بن أبي ربيعة أنها رأت بديل بن ورقاء على جمل يطوف على أهل المنازل بمنى يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا هذه الأيام, فإنما هي أيام أكل وشرب».
تابعه مروان بن شجاع ومصعب بن سلام وشعيب بن إسحاق وعبد المجيد, عن ابن جريج نحوه.
ورواه القعنبي, حدثنا سليمان بن بلال, عن جعفر بن محمد, عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء ينادي أيام منى: إنها أيام أكل وشرب, وهو على جمل أورق.
ورواه عبد الله بن عتاب الزفتي, حدثنا هارون – يعني ابن سعيد الأيلي, حدثنا أنس – وهو ابن عياض – حدثنا جعفر, عن أبيه أن رسول الهش صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء على جمل أورق ينادي أيام منى:
#171#
إنها أيام أكل وشرب.
وخرجه الدارقطني في "سننه": من حديث سعيد بن سلام العطار, حدثنا عبد الله بن بديل الخزاعي, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة, ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق, وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال».
#172#
$[رواية بشر بن سحيم رضي الله عنه]$
وقال يوسف القاضي: حدثنا عبد الواحد بن غياث, حدثنا حماد بن سلمة, عن عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن بشر بن سحيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ينادي بمنى في أيام التشريق: «أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, وأنها أيام أكل وشرب».
وهو عند حماد بن زيد, عن عمرو.
وحدث به أحمد بن سعيد الدارمي, عن حبان – هو ابن هلال البصري – حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير, عن بشر بن سحيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن ينادي في أيام التشريق: «أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن, وأنها أيام أكل وشرب».
تابعه محمد بن عبيد بن حسان وقتيبة والقواريري وأبو الربيع الزهراني وسليمان بن حرب إلا أنه قال: عن حماد بن زيد, عن عمرو, عن نافع بن جبير, عن بشر بن سحيم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أو أمر رجلاً أن ينادي ... وذكر الحديث.
#173#
ورواه قتيبة مرة أخرى عن حماد, عن عمرو, عن نافع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً. وهذا مرسل.
ورواه ابن أبي عمرو وغيره, عن سفيان, عن عمرو بن دينار بنحوه إلى قوله: فنادى بمنى .... وذكر الحديث.
ورواه ابن المبارك, عن هشام صاحب الدستوائي, عن عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير بن مطعم, عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً من غفار يقال له: بشر بن سحيم ينادي في أيام التشريق «أن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن, وأن هذه أيام أكل وشرب».
ورواه ابن أبي عمرو, عن سفيان, عن عمرو بن دينار بنحوه.
ورواه ابن أبي عدي, عن شعبة, عن عمرو بن دينار, عن نافع بن جبير, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشر بن سحيم الأنصاري فنادى بمنى.
وذكر الحديث أحمد بن حنبل فقال: حدثنا محمد، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم أن رسول
#174#
الله صلى الله عليه وسلم أمره فنادى ..... وذكر الحديث.
تابعه النضر بن شميل والحكم بن عبد الله وأبو عامر العقدي, عن شعبة مثله.
ورواه مسعر والثوري وحجاج بن أرطأة, عن حبيب, عن نافع, عن بشر.
ورواه عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع, عن سفيان, عن حبيب, عن نافع بن جبير.
وحدث به ابن ماجه في "سننه": عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد كلاهما عن وكيع.
#175#
وحدث به النسائي في "سننه": عن محمد بن بشار, عن عبد الرحمن, عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عن نافع بن جبير، عن بشر بن سحيم خطب النبي صلى الله عليه وسلم في أيام الحج فقال: «إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة, وإنها أيام أكل وشرب».
وخالفهم المسعودي [عبد الرحمن بن] عبد الله, فرواه عن حبيب, عن نافع بن جبير, عن بشر بن سحيم, عن علي رضي الله عنه قال: نادي منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق إنها أيام أكل وشرب .... الحديث.
[والصواب ما رواه الثوري وغيره, كما تقدم من غير ذكر علي رضي الله عنه, وممن ذكر أن ذلك الصواب الدارقطني في "العلل".
ورواه جرير, عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت, عن رجل, عن بشر بن سحيم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: «هذه أيام أكل وشرب».
وله طرق غير ما ذكرنا.
#176#
$[رواية بلال رضي الله عنه]$
وروى محمد بن بكر البرساني, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن عكرمة, عن ابن عباس, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب, والمنادي يومئذ بلال رضي الله عنه.
استغربه أبو نعيم من حديث قتادة وعكرمة, وقال: ولا أعلم رواه إلا محمد بن بكر, عن سعيد.
قاله في "الحلية".
#177#
$[رواية حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه]$
وقال إسحاق بن راهويه: أخبرنا عبدة, حدثنا سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن سليمان بن يسار, عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يتتبع رحال الناس بمنى أيام التشريق ويقول: ألا لا تصوموا هذه الأيام, فإنها أيام أكل وشرب, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم.
قال قتادة: بلغنا أن المنادي كان بلالاً.
#178#