ج3.من[قصة أصحاب الفيل
وأمر إهلاكهم]
وقصة الفيل مشهورة معروفة، ذكرها الله تعالى مجملة في كتابه الجليل في قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} .. .. السورة، وورد تفصيلها في الآثار ، وصرّح بها المفسرون، وذكرها أرباب السير.
قال أبو الوليد الأزرقي: وقد ذكر الله عز وجل الفيل وما صنع بأصحابه، فقال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} إلى آخر السورة، ولو لم ينطق القرآن به لكان في الأخبار المتواطئة والأشعار المتظاهرة في الجاهلية والإسلام؛ حجة وبيان لشهرته، وما كان العرب تؤرخ به، فكان يؤرخون في كتبهم من سنة الفيل، وفيها ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو محمد بن قتيبة: أجمع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، عاين ذلك حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وحسان بن ثابت رضي الله عنهم وكل هؤلاء عاشوا في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة.
وذكر نحوه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة"، لكنه جعل مكان "حسان" "نوفل بن معاوية" يعني: ابن عروة الدؤلي.
وقالت الشعراء في ذلك عن عيان الأمر ومشاهدته، منهم: نفيل بن حبيب وهو: ابن عبد الله بن جزء بن عامر بن رابية بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن خلف بن أفتل، وهو: "خثعم الخثعمي" وهو جاهلي، وكانت الحبشة أخذته في طريقها إلى مكة ليدلها، فاحتال وهرب -يعني: ليلة عزمهم على دخول مكة- وشاهد ما حل بالحبشة فقال:
ألا ردي ركائبنا ردينا ... نعمناكم على الهجران عينا فإنك لو رأيت ولن تراه ... لدى جنب المحصب ما رأينا
زاد غيره:
إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة تلقى علينا
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن علي للحبشاء دينا
وقال أمية بن أبي الصلت - وذلك على أحد القولين-:
إن آيات ربنا بينات ... ما يماري فيهن إلا الكفور
زاد غيره:
خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور ثم يجلو النهار رب رحيم ... بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
في أبيات أخر لم يذكرها ابن قتيبة:
وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
أنت حبست الفيل بالمغمس ... حبسته كأنه مكردس
من بعد ما هم بشر مخلس ... بمحبس تزهق فيه الأنفس
#9#
وقت ثياب ربنا لم تدنس ... يا واهب الحي الجميع الأخمس
وما لهم من طارف وأنفس ... وجاره مثل الجوار الكنس
أنت لنا في كل أمر مضرس ... وفي هنات أخذت بالأنفس
وحدث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان بمكة.
تابعه جماعة، منهم: سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق.
وقصة الفيل وقعت لنا مفرقة في عدة آثار جمعتها على سياقة حديث واحد، فكانت فيما روينا، وبلغنا من ذلك:
أن ملك "اليمن": "ذا شناتر"، وهو "لخيعة" فيما قاله أبو بكر بن دريد وقال غيره: "لخنيعة"، وهو المشهور، ومعنى "ذي شناتر" أي: صاحب الغوطة فيما يقال، و"ذو شناتر" هو الذي ملك بعد "عمرو بن تبان أسعد بن كليكرب بن زيد"، وهو "تبع الأول" في قول، وكان "ذو شناتر"
#10#
فظا غليظا قتالا، وكان لا يسمع بغلام قد نشأ من أبناء المقاول إلا بعث إليه فأفسده لكي لا يملكوا؛ لأنهم لم يكونوا يملكون من نكح، وأنه نشأ غلام منهم يقال له: "ذو نواس" واسمه: "زرعة" ولما تهود تسمى "يوسف"، وهو: ابن تبان أسعد أخو حسان بن عمرو ابني أبي كرب تبان أسعد، فأدخل عليهم "بنوف" وهو موضع باليمن، ومع ذى نواس سكين لطيفة خبأها لقتل "ذي شناتر"، فلما دنا منه يريده على الفاحشة شق بطنه واحتز رأسه.
فلما بلغ "حمير" ما فعل "ذو نواس" قالوا: ما نرى أحدا أحق بهذا الأمر ممن أراحنا منه، فملكوا "ذو نواس" وهو صاحب الأخدود الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وانتقل "ذو نواس" إلى دين اليهود وفارق عبادة الأوثان، وقتل غالب من كان على دين عيسى عليه السلام وبلغه عن أهل "نجران": أن رجلا جاءهم من قبل "آل جفنة" ملوك "غسان"، فدعاهم للنصرانية فأجابوه ودخلوا فيها، وعلمهم ذلك الرجل إياها فسار "ذو نواس" إليهم بنفسه فآذاهم واحتفر لهم أخاديد في الأرض، وملأها جمرا، وعرضهم عليها، فمن تابعه على دينه خلى عنه، ومن أقام على النصرانية قذفه فيها، حتى أتي بامرأة معها صبي لها ابن سبعة أشهر، فعرضها على النار فكأنها تلكأت، فقال لها صبيها: يا أمه، امضي
#11#
على دينك، فإنه لا نار بعدها، فرمى بالمرأة وابنها في النار، ثم كف بعد أن قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، منهم "عبد الله بن الثامر" رأسهم وإمامهم.
ونجا جماعة من القتل منهم رجل من "اليمن" يقال له: "دوس ذو ثعلبان"، فركب في البحر إلى ملك الحبشة، وهو على النصرانية، فخبره بما فعل [ذو] "نواس" بأهل دينه، فكتب ملك الحبشة إلى "قيصر" يعلمه ذلك، ويستأذنه في التوجه إلى "اليمن"، فكتب إليه يأمره بأن يصير إليها.
وقيل: [خرج] "ذو ثعلبان" على فرس فارا، فسلك الرمل ومضى على وجهه، حتى أتى قيصر ملك الروم وشكى إليه ما جرى على قومه من "ذي نواس"، فاعتذر ببعد بلاده، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة أن يسير إلى اليمن. وأعلمه أنه سيظهر عليها، وأمره أن يولي "ذا ثعلبان" أمر قومه، ويقيم فيمن معه باليمن، فأقبل ملك الحبشة في سبعين ألفا، فجمع لهم "ذو نواس" وحاربهم فهزموه وقتلوا بشرا كثيرا من أصحابه، ومضى منهزما، حتى أتى البحر فاقتحم فيه، فكان آخر العهد به، ذكره بنحوه ابن قتيبة.
وذكر غيره أن ملك الحبشة لما أمره قيصر بالتوجه إلى اليمن أرسل
#12#
ملك الحبشة سبعين ألفا مع "ذي ثعلبان" وأمر عليهم ابن عم له يقال له: "أرياط"، وأمره أن يقتل كل من باليمن على دين اليهودية.
وفي رواية: قال له النجاشي: إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها، فركب "أرياط" في البحر، وسار في سبعين ألف رجل، فسمع بهم "ذو نواس" فجمع لهم، وحاربهم، وحصل بينهم مقتلة، وكانت دائرة على "ذي نواس" وأصحابه.
فقتل منهم بشر كثير، ومضى "ذو نواس" منهزما وهم في أثره، حتى أتى البحر فاقتحمه بفرسه، وقال: "والله للغرق أفضل من أسر السودان"، فغرق، فكان آخر العهد به، ثم قام مكانه "ذو جدن الحميري" واسمه: "علس بن الحارث بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف"، فقاتلوه، فهزموه أيضا، حتى ألجأوه إلى البحر فاقتحم فيه، فغرق ومن تبعه من أصحابه، واستولى "أرياط" على اليمن -سائرها فيما قيل- وأقام باليمن سنتين في سلطانه، ثم نازعه في الأمر "أبو يكسوم أبرهة بن الصباح"، وكان أحد قواد الحبشة، وجمع وحاربه، فظفر بـ "أرياط" وقتله "أبرهة" بيده لما تبارزا.
#13#
وقيل: أرسل "أبرهة" إلى "أرياط" بعد أن تقارب جيشاهما: أبرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف جنده إليه، فأرسل إليه "أرياط": أنصفت.
فخرج إليه "أبرهة" -وكان قصيرا لحيما- وخلفه غلام له [يقال] له: "عتودة"، يمنع ظهره، وبرز "أرياط" وكان طويلا عظيما جميلا، فلما التقيا رفع "أرياط" الحربة فضرب "أبرهة" يريد يافوخه، فوقعت على جبهة "أبرهة" فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ فبذلك سمي "أبرهة الأشرم"، وحمل غلامه على "أرياط" من خلف "أبرهة"، فقتله، وانصرف جند "أرياط" إلى "أبرهة"، فاجتمعوا عليه، واستولى على ملك "اليمن" وودى "أرياط".
فبلغ النجاشي ذلك فغضب لقتل ابن عمه، وحلف بالمسيح: لأطأن أرضه: سهلها وجبلها برجلي، ولأجرن ناصيته بيدي، ولأهرقن دمه بكفي. فبلغ أبرهة ذلك فعمد إلى ناصيته فجزها ووضعها في حق عاج، وملأ جرابين: أحدهما من تراب السهل، والآخر من تراب الجبل، ودعا بالحجام فحجمه، وجعل دمه في قارورة وختم عليه وعلى الحق العاج بالمسك، وكتب إلى النجاشي يعتذر إليه ويقول:
#14#
إن ابن عمك خالف سيرتك في العدل، وإنما كان "أرياط" عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك، فكل طاعته لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه، وقد بلغني ما حلفت عليه، وقد بعثت إليك بجرابين من تراب السهل والجبل، فطأهما برجلك، وجز ناصيتي بيدك، وأهرق دمي بكفك، وبر يمينك، وأطف غضبك عني، فإنما أنا عبد من عبيدك.
فأعجب النجاشي عقل أبرهة، وأقره على مكانه، وبقي إلى زمان كسرى "نوشروان"، ونظر يوما إلى حجاج اليمن يتجهزون أيام الموسم للحج إلى بيت الله الحرام، فسأل: أين يذهب الناس؟ فقالوا: يحجون بيت الله بمكة. قال: وما هو؟ قالوا: من حجارة. قال: وما كسوته؟ قالوا: ما يأتي من هاهنا الوصائل. قال: والمسيح، لأبنين لكم خيرا منه.
وفي رواية فقال: أنا أكفيكم هذا السفر البعيد ببيعة أبنيها، تحجون إليها. فبنى كنيسة بـ "صنعاء" يقال لها: "القليس" بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة، وفصص حيطانها بصنوف الجوهر.
قيل: إنه نقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من قصر بلقيس، وكان منها على فراسخ.
جعل "أبرهة" الرجال صفا نسقا يناول بعضهم بعضا الحجارة والآلة، حتى نقل ما كان يحتاج إليه، وكان أراد أن يرفع من شأنها حتى يشرف منها على "عدن"، فبناها بناء مربعا مستوي التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعا، وكبسه من داخل عشرة أذرع في السماء، فكان يصعد إليه بدرج الرخام، وجعل حوله سورا بينه وبين "القليس" مائتا
#15#
ذراع، مطيف به من كل جانب، وبنى ذلك بحجارة مطابقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة، وفصل بناء ذلك، فجعل البناء عشرين ذراعا في السماء من حجارة يسميها أهل اليمن "الجروب"، ثم فصل ما بين حجارة "الجروب" بحجارة مثلثة تشبه الشرف، مداخلة بعضها ببعض: حجرا أخضر، وحجرا أحمر، وحجرا أبيض، وحجرا أصفر، وحجرا أسود، فيما بين كل سافين خشب ساسم مدور الرأس، غلظ الخشبة حضن الرجل، ناتئة على البناء، ثم فصل بإفريز من رخام منقوش، طوله في السماء ذراعان.
وكان الرخام ناتئا على البناء ذراعا، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق من حجارة نقم جبل صنعاء المشرف عليها، ثم وضع فوقها حجارة صفراء لها بريق، ثم وضع فوقها حجارة بيضاء لها بريق.
وكان هذا ظاهر حائط "القليس".
وكان عرض حائط "القليس" ستة أذرع.
وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولا في أربعة أذرع عرضا.
وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه؛ طوله ثمانون ذراعا في أربعين ذراعا، مغلق العمل بالساج المنقوش ومسامير بالذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعا عن يمنيه وعن يساره، وعقود مضروبة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع تعشي عين من نظر إليها من بطن القبة، وتؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة.
وكان تحت الرخام منبر من خشب اللبخ -وهو عندهم: الأبنوس- مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبا وفضة.
وكان في القبة سلاسل فضة.
وكان في القبة أو في البيت خشبة منقوشة طولها ستون ذراعا يقال
#16#
لها: "كعيب"، وخشبة من ساج نحوها يقال لها: "امرأة كعيب" كانوا يتبركون بهما في الجاهلية وكان يقال لكعيب: "الأحوذي" وهو بلسانهم: الحر.
ونصب في "القليس" عند المذبح درة عظيمة تضيء في الليل كالسراج، وجعل فيه صلبانا من ذهب وفضة مرصعة بجواهر ويواقيت مختلفة، وجعل للقليس حجابا وسدنة.
وكان يوقد فيه بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسود حتى يغيب البناء.
وكان من سيرة "أبرهة" في بنائه أنه أخذ العمال أخذا شديدا أنه آلى أن تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده.
وروي: أنه تخلف رجل من العمال حتى طلعت الشمس، وكان له أم عجوز، فذهب بها معه لتستوهبه من "أبرهة"، فأتته وهو بارز للناس، فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه، فقال: "لا أكذب نفسي ولا أفسد عمالي علي" فأمر بقطع يده، فقالت له أمه: "اضرب بمعولك ساعي بهر اليوم لك وغدا لغيرك". فقال: "أدنوها". فقال لها: "إن هذا الملك يكون لغيري؟" قالت: "نعم". وكان "أبرهة" قد أجمع أن يبني "القليس" حتى يظهر على ظهره فيرى منه "بحر عدن" فقال: لا أبني حجرا على حجر بعد يومي هذا. وأعفى الناس عن العمل.
#17#
ومعنى "ساعي بهر" تقول اضرب بمعولك ما كان حديدا.
ولما فرغ أبرهة من بناء "القليس" أمر الناس فحجوه، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيها رجال يتعبدون ويتألهون ونسكوا له، وكان "نفيل الخثعمي" يورض له ما يكره، فأمهل، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرك، فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته، وجمع جيفا فألقاها فيه -وقيل: فعل ذلك رجلان من "خثعم" وقيل: فعل ذلك رجل من "فقيم"- فاتهم "أبرهة" بذلك قريشا، وحلف ليهدمن الكعبة.
وقيل في سبب ذلك: ما حدث به أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" عن محمد بن حميد، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق: أن "أبرهة الحبشي" كان قد توج "محمد بن خزاعي" وأمره على "مضر"، وأمره أن يدعو الناس إلى حج "القليس"، فسار حتى إذا كان ببعض أرض "بني كنانة" رماه "عروة بن عياض" بسهم فقتله، فهرب أخوه "قيس بن خزاعي" فلحق بـ "أبرهة"، فأخبره، فحلف ليغزون "بني كنانة" ويهدم الكعبة، وساق القصة.
وقيل في سببها غير ذلك.
فلما أجمع "أبرهة" لذلك بلغ "ذا نفر" ما قصد "أبرهة" من هدم الكعبة، وكان "ذو نفر" من أشراف اليمن وملوكهم، فدعا قومه ومن
#18#
أجابه إلى حرب "أبرهة"، وعرض له وقاتله، فهزمه "أبرهة" ثم أسر وحمل إلى "أبرهة"، فأراد قتله فقال "ذو نفر": أيها الملك، لا تقتلني، فعسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي. فتركه وحبسه عنده في وثاق، وكان "أبرهة" رجلا حليما.
وقد قيل: إن "أبرهة" لما عزم على ما أراد من هدم الكعبة قال له "هشام بن المغيرة": إنه قد رام ذلك غيرك من الملوك، فما وصلوا إليه؛ لأن له ربا يمنعه.أمممم
وبلغ "النجاشي" هذه القصة فبعث إلى "أبرهة" "الأسود بن مفصود بن الحارث" وبعث معه ثلاثة عشر فيلا فيها فيل للنجاشي اسمه "محمود"، فخرج "أبرهة" في أربعين، فاستقبله "خثعم" في قبيلتيهما ومن تبعهما من قبائل العرب وعليهم "نفيل بن حبيب الخثعمي"، فحاربوه فهزمهم وأسر منهم طائفة، منهم "نفيل"، وأمر بضرب أعناق الأسرى، فضربت غير اثنين من "خثعم" أحدهما "نفيل"، فقالا لأبرهة، نحن من أدل العرب فاستبقنا ندلك. ففعل، فقال أحدهما للآخر: كفى بنا عارا أن ننطلق بهذا الأسود إلى بيت الله تعالى فيهدمه. فأخذا به على "الطائف"، فلما أشرف على "وادي وج" من "الطائف" خرج إليه "أبو عروة مسعود بن معتب بن مالك بن كعب الثقفي" وأعلمه أنها ليست طريقه.
قيل: خرج "مسعود بن معتب" في رجال "ثقيف" إلى "أبرهة" فقالوا: أيها الملك، إنا نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون لك، ليس عندنا
#19#
خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد -يعنون: "اللات"- إنما تريد الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه.
فتجاوز عنهم، فبعثوا معه "أبا رغال" يدله على الطريق إلى مكة، فخرج "أبرهة" ومعه "أبو رغال" حتى أنزله "المغمس"، فلما أنزل به مات "أبو رغال" هنالك، فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذي يرجم الناس "بالمغمس".
قلت: والقبر الذي يرجمه الناس اليوم بمكة في طريق "كداء" من المغسلة، ويعرف اليوم بقبر أبي لهب وليس به، والله أعلم، بل هو قبر "أبي رغال" على ما ذكره لي بعض محدثي مكة في "سنن أبي داود" من طريق ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى "الطائف" فمررنا بقبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه"، فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن.
#20#
وله شاهد من حديث ابن عباس.
وقيل: لما توجه "أبرهة" إلى مكة نزل على حد الحرم - قيل: كان نزوله بـ "المغمس" وهو بالضم وكسر الميم الثانية مع التضعيف، وهو على ثلثي فرسخ من مكة- وأرسل "أبرهة" "الأسود بن مفصود" على خيله من "المغمس" إلى "مكة" فاستاق السوائم كلها وأموال أهل "تهامة" من قريش وغيرهم، وكان فيما ساق مائتا ناقة لعبد المطلب.
وقال أبرهة لأحد أصحابه -وهو: "حناطة الحميري"-: سل عن سيد أهل البلد وشريفهم، وقل له: "إنا لم نأت لحربكم، إنما جئنا لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم"، فإن هو لم يرد حربي فأتني به.
فلما دخل "حناطة" مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فدل على "عبد المطلب بن هاشم"، فجاءه فأخبره بما قال أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا البيت بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم -أو كما قال-، فإن يمنعه فهو بيته وحرمته، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.
فقال له "حناطة": فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه "عبد المطلب" ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن "ذي نفر" -وكان له صديقا- حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له "ذو نفر": وما غناء رجل
#21#
أسير بيد ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا، ما عندي غناء في شيء مما نزل بكم، إلا أن "أنيسا" سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي.
فبعث "ذو نفر" إلى "أنيس" فقال له: إن "عبد المطلب" سيد قريش وصاحب عين مكة يطعم الناس الطعام بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير؛ فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.
فكلم "أنيس" "أبرهة" فقال: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فليكلمك في حاجته.
قال: فأذن له "أبرهة".
وكان "عبد المطلب" أوسم الناس وأجمله وأعظمه، فلما رآه
#22#
"أبرهة" أجله وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل "أبرهة" عن سريره فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك. فقال: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي.
فلما قال له ذلك؛ قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه.
فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه.
قال: ما كان ليمتنع مني.
قال: أنت وذلك.
وفي رواية: أن عبد المطلب قال لأبرهة: إن لهذا البيت ربا سيمنعه، قد رام هدمه ما لا يحصى من الملوك، فرجعوا بين قتيل وأسير.
فرد "أبرهة" على "عبد المطلب" إبله وانصرف، فاجتمع إليه أشراف قومه وقالوا: يا عبد المطلب، اجعل له مالا نجمع له ليرجع عن هدم البيت. فقال: اطمئنوا، فوالله لا يصل إليه أبدا.
وقال عبد المطلب:
قلت والأشرم يردي خيله ... إن ذا الأشرم غر بالحرم
كاده تبع فيمن جندت ... حمير والحي من آل قدم
#23#
فانثنى عنه وفي أوداجه ... جارح أمسك عنه بالكظم
نحن أهل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد إبرهم
يعبد الله وفينا شيمة ... صلة القربى وإيفاء الذمم
إن للبيت لربا مانعا ... من يرده بأثام يصطلم
ومشى عبد المطلب إلى باب الكعبة، وأخذ بحلقتها ثم قال: يا رب، لا أرجو لهم سواكا، يا رب فامنع منهم حماكا، إن عدو البيت من عاداكا، امنعهم أن يخربوا قراكا. وقال أيضا:
لاهم إن المرء يمنع رحله ... وحلاله، فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
#24#
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدا لك
وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
لاهم أخز الأسود بن مفصود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد
بين "حراء" و "ثبير" فالبيد ... يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود ... أخفره يا رب وأنت محمود
#25#
ثم علا "عبد المطلب" جبل "أبي قبيس" هو و"حكيم بن حزام" ونفر من سادات قريش، وهرب الناس فلحقوا برؤوس الجبال.
وأم "أبرهة" البيت مدلجا بسحر، وقدم الفيلة وكانت ثلاثة عشر فيلا، وفيهم الفيل الكبير فيل النجاشي، وكان أكبر فيل رآه الناس كالجبل العظيم، واسمه بلسان الحبشة: "محمود" وكنيته: "أبو الحجاج" فيما ذكره الثعالبي، واسم سائسه: "أنيس" كما تقدم.
فلما انتهى الفيل إلى طرف الحرم قيل له: "إنك في بلد الله الحرام". فبرك، فكانوا يضربون رأسه بالطبرزين -وهو فاس السرج- فيقوم، فإذا أخذوا به يمينا وشمالا هرول، وإذا وجّهوه إلى طرف الحرم برك، فجعلوا يقسمون بالله إنهم رادوه إلى "اليمن"، فيحرك لهم،
#26#
أذنيه، كأنه يأخذ عليهم بذلك عهدا، فإذا أقسموا له قام يهرول، فيردونه إلى مكة فيبرك، فيحلفون له، فيحرك لهم أذنيه كالمؤكد عليهم القسم، ففعلوا ذلك مرارا ولم يزل أبرهة وقومه بين تردد الفيل يومهم ذلك، حتى أمسوا وباتوا بأخبث ليلة، فلما كان اليوم الثاني فعلوا ذلك، حتى كان مع طلوع الشمس نظروا إلى طير أمثال اليحاميم سود قد أقبلت من نحو البحر، وهي التي أخبر الله تعالى عنها: {طيرا أبابيل} و "أبابيل" أي: جماعات في تفرقة.
وقال موسى بن إسماعيل التبوذكي: حدثنا أبان -يعني: ابن يزيد العطار-، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} قال: عصبا عصبا.
تابعه حماد بن سلمة عن عاصم.
وقال روح، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} قال: شتى.
وقال عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} يقول:
#27#
يتبع بعضها بعضا وقال بعضهم: لا واحد للأبابيل.
وقيل في واحدها: "أبيل" قياسا لا سماعا.
وقيل: واحدها "إبول" مثل عجول وعجاجيل. ذكر هذا أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين".
كانت هذه الطير من البحر أمثال اليحاميم سوداء كالخطاطيف والبلسان.
وحدث يونس بن بكير، عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عباس في قوله تعالى: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} قال: طير لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وحدث أيضا قيس بن الربيع، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عبيد بن عمير: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} قال: طير أقبلت من البحر كأنها رجال الهند، {ترميهم بحجارة من سجيل} أصغرها مثل رؤوس الرجال، وأعظمها: مثل الإبل البزل، وما رمت أصابت وما أصابت قتلت.
وقال سعيد بن منصور: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير الليثي قال: لما أراد الله تعالى أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنها الخطاطيف
#28#
بلق، كل طير معه ثلاثة أحجار مجزعة، في منقاره حجر وحجران في رجليه، ثم جاءت حتى حفت على رؤوسهم، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها فما من حجر وقع منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، إن وقع على رأسه خرج من دبره، وإن وقع على شيء من جسده خرج من جانب آخر.
قال: وبعث الله عز وجل ريحا شديدة فضربت أرجلها فزادها شدة فأهلكوا جميعا.
وقال إسحاق بن الحسن الحربي: حدثنا محمد الصلت، حدثنا أبو كدينة، عن حصين عن عكرمة: {طيرا أبابيل} قال: طير خرجت لها رؤوس كرؤوس السباع، لم تزل ترميهم بالحجارة حتى جدرت جلودهم، فما رؤي الجدري قبل يومئذ، وما رؤيت الطير قبل يومئذ، وذكر بقيته.
ورواه سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عكرمة في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} يقول: كانت طيرا نشأت من قبل البحر، لها مثل رؤوس السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده، فأثرت جلودهم أمثال الجدري، فإنه لأول ما رؤي الجدري.
وقد جاءت صفة الطير أيضا فيما رواه أبو اليمان، عن الجراح، عمن حدثه، عن كعب قال: يخرج "يأجوج" و"مأجوج" وليس لهم ملك ولا سلطان.. وذكر الحديث.
#29#
وفيه قال: فيدعوه عيسى عليه السلام، فيرسل الله عليهم الأبابيل، أعناقها كأعناق البخت، ومسكنها في الهواء، وتبيض في الهواء، ويمكث بيضها في الهواء قبل أن يفرخ، فإذا انفقس - تهوي في الهواء وتطير، حتى ترتفع إلى أمكنتها التي سقطت منها.
قال: فتحمل أجسامهم فتقذفها في أخدود، وذكر بقيته.
ولما رأى "أبرهة" وقومه هذه الطير وكانوا تلك الليلة نظروا إلى النجوم كالحة إليهم تكاد تكلمهم من اقترابها منهم، ففزعوا من ذلك واستشعروا العذاب، فأقبلت الطير، فعجبوا من كثرتها ولم يعرفوها، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، كالحمص أو العدس، مختمة، فيها نضح حمرة.
قيل: إن شكلها كان كهيئة الحمص والعدس، وإنما كانت ضخاما.
قال السهيلي: ويعني بمماثلة الحجارة للحمص أنها على شكلها، والله أعلم؛ لأنه قد روي أنها كانت ضخاما تكسر الرؤوس. انتهى.
وقد حكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال: كانت مثل رؤوس الإبل، ومثل مبارك الإبل، ومثل قبضة الرجل.
وجاء عن ابن عباس أنه رأى عند "أم هانئ" من هذه الحجارة نحو قفيز، وكانت مثل بعر الغنم، مخططة بالحمرة.
#30#
وهذه الحجارة أرسلت كما أخبر تعالى: {من سجيل}، و"السجيل" مختلف فيه، فقيل: هو من "سنك" و"كل" بالفارسية، و"السنك": الحجر و"الكل": الطير.
قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال بعض المفسرين: "سجيل" كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو "سنج" و"جيل"، يعني بـ"السنج": الحجر، و"الجيل" الطين.
يقول: الحجارة التي أرسلت عليهم من هذين الجنسين.
وقيل: أولها حجر وآخرها طين. قاله مجاهد.
وقيل: هو الآجر. قاله الضحاك.
وقيل: "السجيل": حجارة كالمدر، و"المدر": قطع الطين اليابس.
وقيل: هو طين طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء: حكاه "الفراء".
وقيل: هو الشديد الصلب من الحجارة. قاله أبو عبيدة.
وأنشد لابن مقبل:
"ضربا تواصت به الأبطال سجينا" ...
ورده ابن قتيبة كون هذا بالنون من "سجنت" أي: حبست، وذاك باللام.
وقيل: "السجل" بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض، ومنه نزلت الحجارة. قاله عكرمة.
وقيل: هو اسم للسماء الدنيا. قاله ابن زيد.
وقيل: من "سجل" بمعنى: كتب، أي: ما كتب الله لهم أن يعذبوا، به، وهو اختيار أبي إسحاق الزجاج.
#31#
وقيل: من "أسجلته" أي: أرسلته، فكأنها مرسلة عليهم، ذكره الزجاج.
قال بعضهم: هذه الحجارة التي أرسلت على قوم لوط أرسلها الله تعالى مع هذه الطير. انتهى.
وفي قول الله عز وجل {وما هي من الظالمين ببعيد} الإشارة إلى ذلك وإلى إرسالها على من يشاء الله تعالى بعد.
وقد وقع بعض ذلك أيضا: قال الإمام السيف أبو العباس أحمد ابن المجد عيسى ابن موفق الدين المقدسي فيما وجدته بخطه: أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي قراءة عليه، أخبرنا علي بن جعفر السرواني الصوفي بمكة، سمعت الموازيني يقول: قال لي رجل من الحاج: مررت بديار قوم لوط وأخذت حجرا مما رجموا به، وطرحته في مخلاة، ودخلت مصر فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى، وكان في سفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجي ووضعته في روزنة في البيت، فدعا الحدث الذي كان في السفل صبيا إلى عنده، واجتمع به فسقط الحجر على الحدث من الروزنة فقتله.
فكما أرسلت الحجارة على قوم لوط ترسل على غيرهم من الظالمين، كأصحاب الفيل أرسلت الحجارة مع الطير فرفرفت على رأس "أبرهة" ومن معه، وأظلت عسكرهم، ثم قذفت بالحجارة عليهم وهبت ريح شديدة، فضربت الحجارة، فزادتها صعوبة وقوة، وكان الحجر إذا وقع على رأس الرجل منهم خرج من دبره، وإذا سقط على بطنه خرج من ناحية ظهره، وليس كلهم أصابت.
#32#
وجاء عن أبي العلاء هلال بن خباب العبدي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين، فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك إنسان جلده إلا تساقط لحمه.
وقد ذكر حصين، عن عكرمة: أنه انطلق فلهم حتى أتوا الوادي.
قال حصين: قال عمرو بن ميمون: ما در الوادي قبل ذلك بخمس عشرة سنة، فأرسل الله عليهم السيل فغرقهم.
رواه محمد بن الصلت، عن أبي كدينة، عن حصين.
وفي رواية ذكرها سنيد بن داود المصيصي الحافظ في "تفسيره": إن الطير جعلت تجيء فتصف على رؤوسهم -يعني: ثم تقذف بالحجارة- فما من حجر يصيب عظما أو لحما إلا ثقبه، حتى ينتهي إلى الأرض، وكلما ذهب فرق من الطير جاء فرق آخر، فأصبحوا هلكى هامدين إلا الذين لم تصبهم الحجارة، وهلكت الفيلة كلها سوى "محمود" فإنه سلم، وانصرف يهرول، وولى "أبرهة" هاربا بمن بقي معه وهم يسائلون عن "نفيل" ليدلهم على الطريق إلى "اليمن"، فقال "نفيل بن حبيب" حين رأى ما أنزل الله تعالى بهم من نقمته:
#33#
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب
وقال "نفيل" أيضا:
(ألا ردي ركائبنا ردينا)
الأبيات، وقد تقدمت.
ثم إن القوم الذين سلموا من القتل خرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل، وأصيب "أبرهة" في جسده، وخرجوا به معهم فجعل "أبرهة" يسقط عضوا عضوا، حتى بلغ "صنعاء" وهو مثل الفرخ، وقد انصدع صدره عن قلبه وجعله الله مثلة في الناس، فكان لا يأتي على قوم إلا سقط منه عضو وسال مخه، فيقولون: "من فعل هذا بربنا؟" فيقول لهم: "فعله بي رب البيت، فعله بي رب الحجاز".
فبعث الله عز وجل صاعقة كان فيها صوت كل شيء، فتقطعت كبده، وهم يبصرون.
ذكره سنيد في "تفسيره".
و"سنيد" لقب واسمه: "الحسين"، تكلم فيه، صدقه أبو حاتم وروى عنه أبو زرعة وجماعة، توفي سنة ست وعشرين ومائتين.
وقد جاء أن "أبرهة" لما رجع إلى "اليمن" وقد سقط لحمه قال لأهل اليمن: أنا النذير العريان، فيما ذكره هشام ابن الكلبي في "الجمهرة".
#34#
وذكر بعضهم: أن وزير "أبرهة" انفلت وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه.
وروي عن حكيم بن جعفر، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة أنه قال: أول يوم رأوا بأرض العرب الحصبة والجدري والشجر المر -مثل: الحرمل والحنظل وغيره- إنما كان هذا عام الفيل، من تلك الحجارة التي رميت بها الحبشة.
ورواه جماعة عن ابن إسحاق، منهم يونس بن بكير الشيباني.
ثم خرج عبد المطلب وأصحابه إلى القوم وهم صرعى، فملأ أيديهم من المال، وأرسل إلى قريش فجاؤوا وغنموا ما شاء الله، وأنشأ عبد المطلب مرتجلا:
أنت منعت الحبش والأفيالا
وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا
وكل أمر منهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
#35#
وقال أبو قيس صيفي بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي يخاطب قريشا:
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالرمل تمسي ورجله ... على القاذفات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساق وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله مل حبش غير عصائب
ثم إن الله عز وجل أرسل سيلا فاحتمل الهلكى فألقاهم في البحر، وعظمت "قريش" في أعين العرب وسموهم "آل الله"، وازداد عبد المطلب شرفا.
ولما أهلك الله عز وجل "أبرهة" ومزق ملكه أقفر ما كان حول تلك الكنيسة التي بناها وأراد صرف الحج إليها، وكثرت حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، فتحاماها الناس، ولم يستطع أحد أن يأخذ شيئا مما كان فيها من صلبان الذهب والفضة المرصعة
#36#
بالجواهر وأصناف اليواقيت، وبقيت كذلك إلى زمن أبي العباس السفاح، فذكر له أمرها وما يتهيب من جنها، فلم يرعه ذلك، وبعث إليها من خربها وأخذ ما كان فيها.
وقد قيل: إن الله تعالى لم يهلك الحبشة ويمنعهم من البيت من أجل قريش، فإنهم كانوا عباد أوثان، والحبشة كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرا بليغا لا صنع للبشر فيه، ودفع عن بيته الحرام إلا آية ودلالة وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة، الداعي إلى كرامة البيت وحجه وتعظيم شعائره.
وقال الإمام الفقيه أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي رحمه الله في كتابه "أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن" قال: وفي أمر الفيل آية بينة؛ لأنه لا يجوز في نظر العقول أن يأتي طير من اليم بحجارة من سجيل يحملها بأرجله حتى يهلك بها أمة من الأمم إلا بتسخير وإرسال، ولم يكن لقريش في ذلك الوقت كتاب، وإنما كانوا يعبدون الأوثان، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم زنادقة، والحبشة من أهل الكتاب، يدل على ذلك قول عبد المطلب:
#37#
لاهم إن المرء يمنع رحله ... وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم ... غدوا محالك
و"قريش" هم الجانون، و"السودان" هم المظلومون بما جني على بيعتهم باليمن، فجاؤوا منتصرين، فعلم أن إهلالكم لم يكن إلا لكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرف مكانه؛ إيضاحا لنبوته، وتبيينا لفضيلته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": وآية الرسول صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل.
ثم قال: فكانت آيته صلى الله عليه وسلم في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله؛ لصيانة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري عليه السبي: حملا ووليدا.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا من بين عابد صنم، أو متدين وثن، أو قائل بالزندقة، ومانع من الرجعة.
ولكن لما أراد الله من ظهور الإسلام؛ تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة أن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.
قال: فإن قيل: كيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكا ولم يمنع "الحجاج" من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها، فقال فيها على ما حكي عنه:
#38#
كيف تراه ساطعا غباره ... والله فيما يزعمون جاره
وقال راميها بالمنجنيق:
قطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد كل مسجد
قيل: فعل "الحجاج" كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة، فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها، فصار الهدم آية أخرى بعد أن كان المنع آية، فلذلك ما اختلف حكمهما في الحالين، والله أعلم.
وذكر معنى السؤال والجواب الحافظ أبو سليمان الخطابي، فقال: وقد سأل بعض الملحدين عن هذا فقال: لم كان حبس الفيل في زمان الجاهلية عنها ومنعه منها ومن الإفساد والإلحاد فيها، ولم يمنع "الحجاج بن يوسف" في زمان الإسلام عنها، وقد نصب المنجنيق على الكعبة وأضرمها بالنار وسفك فيها الدم، وقتل "عبد الله بن الزبير" وأصحابه في المسجد، وكيف لم يحبس عنها القرامطة، وقد سلبوا الكعبة ونزعوا حليها وقلعوا الحجر، وقتلوا العالم من الحاج وخيار المسلمين بحضرة الكعبة؟
فأجاب عن مسألته بعض العلماء: بأن حبس الفيل عنها في الجاهلية
#39#
كان علما لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنويها بذكر آياته إذ كانوا عمار البيت وسكان الوادي، فكان ذلك الصنيع إرهاصا للنبوة وحجة عليهم في إثباتها، فلو لم يقع الحبس عنها والذب عن حريمها لكان في ذلك أمران:
أحدهما: فناء أهل الحرم، وهم الآباء والأسلاف لعامة المسلمين، ولكافة من قام به الدين.
والآخر: أن الله تعالى: أراد [أن يقيم] به الحجة عليهم في إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله مقدمة لكونها وظهورها فيهم، فكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذ، وكانوا قوما عربا أهل جاهلية، ليست لهم بصيرة في العلم ولا تقدمة في الحكمة، وإنما كانوا يعرفون من الأمور ما كان دركه من جهة الحس والمشاهدة، فلو لم يجر الأمر في ذلك على الوجه الذي جرى لم يكن يبقى في أيديهم شيء من دلائل النبوة تقوم به الحجة عليهم في ذلك الزمان، فأما وقد أظهر الله الدين ورفع أعلامه وشرح أدلته وأكثر أنصاره فلم يكن ما حدث عليها من ذلك الصنيع أمرا يضر بالدين أو يقدح في بصائر المسلمين، وإنما كان ما حدث منه امتحانا من الله تعالى لعباده ليبلو في ذلك صبرهم واجتهادهم، ولينيلهم من كرامته ومغفرته ما هو أهل التفضل به، والله يفعل ما يشاء وله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
ذكره الخطابي في كتابه "معالم السنن".
#40#
$[ذكر الموضع الذي هلك فيه الحبشة]$
وكان الموضع الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل وأنزل الله بهم بأسه في "وادي محسر"، وهو ما بين موقف "المزدلفة" مما يلي "منى" لا من "المزدلفة" ولا من "منى" بل هو برزخ بينهما، وقيل بعضه من "منى" وبعضه من "مزدلفة".
وفي "الصحيحين" ما يدل على أنه من "منى"، والله أعلم.
وعرفه صاحبنا الحافظ الشريف أبو الطيب الحسني في "تاريخ مكة" بأن قال: محسر واد عند المكان الذي يقال له "المهلل"؛ لأن الناس إذا وصلوا إليه في حجهم هللوا وأسرعوا السير في الوادي المتصل به.
والمهلل المشار إليه مكان مرتفع عنده بركتان معطلتان بلحف قرب جبل عال، ويتصل بهما آثار حائط، ويكون ذلك كله على يمين الذاهب إلى "عرفة" ويسار الذاهب إلى "منى". انتهى.
و"محسر" بكسر السين المغفلة المشددة، سمي بذلك؛ لأن الفيل استحسر فيه، أي: أعيى، وانقطع عن التوجه إلى البيت؛ وعلى هذا
#41#
القول جماعة -سلف وخلف- منهم: سليمان بن خليل، والمحب الطبري، وفيه نظر، لما تقدم أن الفيل لم يدخل الحرم.
وورد أن الفيل حصل له ذلك لما أتاه "نفيل بن حبيب" وقال له في أذنه: "يا محمود، إنك في بلاد الله، فارجع"، فربض مكانه.
وهذا يدل على ما قاله أبو محمد بن قتيبة في "كتاب طبائع الحيوان" من أن لسان الفيل مقلوب طرفه إلى داخل. قال: والهند تقول: لولا أن لسانه مقلوب لتكلم، وليس لشيء من ذكور الحيوان ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل.
وقيل: تميز الفيل عن غيره بالخرطوم، والنابين، والرأس، والأذنين، وعظم الجثة، واكتناز المفاصل: حتى لا يسلس للوقوع إلى الأرض، وإن وقع لا يقدر على القيام.
وقيل إن في الفيلة صنفا يبرك كما يبرك الجمل.
وذكر السهيلي أن الفيل على عظم خلقه يفرق من الهر، وينفر منه، وقد احتيل على بعض الفيلة في الحروب، فأطلق لها الهررة، فذعرت، وولت، وكان سببا لهزيمة أصحابها، ونسبت هذه الحيلة إلى "هارون بن موسى" حين غزا بلاد الهند. انتهى.
والفيل يعمر، قيل إن فيلا عاش أربعمائة سنة.
#42#
وقال أبو حسان الزيادي: رأيت فيلا أيام أبي جعفر، قيل إنه سجد لسابور ذي الأكتاف، ولأبي جعفر.
قلت: وقد حدثني الرئيس الفاضل الطبيب الكاتب أبو عبد الله محمد ابن أبي إسحاق إبراهيم بن الضريس الحموي قدم علينا دمشق أنه كان جالسا مع "تمرلنك" الطاغية ضاعف الله عليه العذاب، وكان في يوم عيد من أعياد الفرس، فأتى عليه أمين الفيلة ومعه الفيلة، فيهم فيل مقدم عليها، فسجد قال: فقال لي "تمرلنك": أتعرف هذا؟ فقلت: فيل.
فضحك، وقال: نعم، هو فيل، ولكنه سجد للسلطان محمود بن سبكتكين، وسجد لي، وبين ذلك مدة طويلة.
فتعجبت من ذلك واستعظمته، والفيل ينظر إلي ويسمع كلامنا، ففهم الفيل -والله أعلم- أني أنكرت ذلك ففتح فاه وكشف عن أسنانه، فإذا
#43#
هو لم يبق في فيه سن، و"تمرلنك" -ضاعف الله عليه العذاب- ضحك وقال لي: انظر إليه، فإنه يعلمك أن الذي قلته صحيح، وأن من كبره لم يبق فيه سن.
قلت: وبين الملك "محمود" هذا ملك السامانية وبين "تمرلنك" -ضاعف الله عليه العذاب- نيف وأربع مائة.
وإن ثبت هذا فلعله من الأفيال التي غنمها الملك "أبو القاسم محمود" لما غزا بلاد الهند في سنة تسع وأربع مائة، ففي سنة عشر وأربع مائة ورد كتابه من "الهند" يذكر فيه الفتح، وأنه استعرض من الأفيال ثلاثمائة وستة وخمسين فيلا، وأنه دخل مدينة وجد بها ألف قصر مشيد وألف بيت للأصنام، ومبلغ ما في الصنم من الذهب يقارب مائة ألف دينار، ومن الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم.
قلت: هذه الغنيمة عظيمة لما كان فيها من الجواهر والذهب والفضة والأفيال، وغير ذلك.
و"محمود" هذا غزا "الهند" مرات، منها في سنة ثمان عشرة وأربعمائة التي كسر فيها الصنم الذي كانوا يأتون إليه من الأقطار البعيدة، وكان له ألف خادم وأكثر، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية مشهورة، فقتل من أهله خمسين ألفا، وبذل له أهل "الهند" مالا عظيما على أن لا يكسره فأبى، وكسره فوجد عليه من الجواهر والذهب ما زاد على ما بذلوه له أضعافا كثيرة، فرحمه [الله] وأكرم مثواه، كانت وفاته في "ربيع الأول" وقيل: في "جمادى الآخر"، سنة إحدى وعشرين وأربع مائة، وله من العمر ستون سنة، وقيل: أكثر.
#44#
قلت: قدوم الفيل مكة وهلاك أصحاب الفيل فيما ذكره النقاش في تفسيره في أول "المحرم" سنة اثنين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
قال الذهبي: صوابه: من تاريخ الإسكندر، وهو المقدوني، وليس هو الإسكندر ذي القرنين، ذا متقدم مؤمن، و"المقدوني" كافر، وزر له "أرسطو".
قاله في كتاب "بلبل الروض".
وذكر ابن الجوزي في "الوفا" أن ذلك كان يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من "المحرم"، وهو قول محمد بن موسى الخوارزمي، زاد ابن الجوزي: وكان أول "المحرم" تلك السنة يوم الجمعة، وذلك لمضي اثنين وأربعين سنة من ملك كسرى "نوشروان".
وقيل: لخمس ليال خلون من "المحرم".
وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: كان قدوم الفيل [في] النصف من "المحرم"، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة.
وفي عام المولد الشريف كان أيضا "يوم جبلة"، وهو يوم مشهور من أعظم أيام العرب.
و"جبلة": هضبة حمراء طويلة لها شعب عظيم واسع، وهي من "نجد".
وقيل: "جبلة": جبل ضخم على مقربة من "أضاخ" بين "الشريف" ماء لبني تميم وبين "السرف" ماء لبني كلاب.
#45#
وسبب "يوم جبلة" أن "لقيط بن زرارة" جمع قبائل بني تميم طرا، إلا بني سعد، وجمع بني أسد قاطبة وبني عبس طرا، إلا بني بدر، واستنجد بـ "النعمان بن المنذر" وبـ "الجون الكندي" صاحب "هجر"، فأمده "النعمان" بأخيه لأمه "حسان بن وبرة الكلبي"، وأمده بابنيه: "معاوية" و"عمرو"، فغزا بهذا الجمع بني عامر، وكانوا قد تحصنوا من ذلك الجمع بـ "جبلة" وأدخلوا العيال والذراري في شعبها ليقاتلوهم من وجه واحد، وقد عقلوا إبلهم أياما قبل ذلك لا ترعى، فصبحهم القوم من واردات، فلما دخلوا عليهم الشعب حلوا عقل الإبل، فأقبلت طالبة المراعي لا يردها شيء، فظنت بنو تميم أنه قد تدهدأ عليهم، ومرت تخبط ما لقيته، فكان سبب ظفر بني عامر على ذلك الجمع وقتل رئيسهم "لقيط بن زرارة" يومئذ.
#46#
&[ارتجاس الإيوان، وخمود النيران، وقصة سطيح وعبد المسيح، والهواتف، وغيرهم ليلة المولد الشريف]&
وليلة مولده الشريف وانفجار النور ظهرت عجائب وأمور، منها:
ما قال أبو بكر عبد الله ابن أبي الدنيا -رحمة الله عليه- في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا علي بن حرب الطائي، أخبرني أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، حدثنا مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه -وأتت له خمسون ومائة سنة- قال: لما كانت [الليلة التي] ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة "ساوة"، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى "الموبذان" إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت "دجلة" وانتشرت في بلادها.
#47#
فلما أصبح "كسرى" أفزعه ما رأى، فصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم، فلما اجتمعوا عنده، قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟
قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك، فبينا هم على ذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فقال "الموبذان"، وأنا -أصلح الله الملك- قد رأيت في هذه الليلة [رؤيا] ثم قص عليه رؤياه في الإبل.. فقال: أي شيء يكون هذا يا "موبذان"؟
قال: حدث يكون من ناحية العرب -وكان أعلمهم في أنفسهم.
فكتب عند ذلك: من "كسرى" ملك الملوك، إلى "النعمان بن المنذر"، أما بعد؛ فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
فوجه إليه بـ "عبد المسيح بن حيان بن بقيلة الغساني"، فلما قدم عليه قال: هل لك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: لا (خبروني) عنه، أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبروه بما رأى، قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له: "سطيح".
قال: فأته فاسأله عما سألتك وائتني بجوابه.
فركب "عبد المسيح" حتى قدم على "سطيح" وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه، فلم يحر إليه "سطيح" جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
#48#
أصم أم يسمع غطريف اليمن
أم فاز فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
وكاشف الكربة في الوجه الغضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن جحن
أزرق نهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري للوسن
يجوب في الأرض علنداه شجن
ترفعني و(وجن) وتهوي بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
#49#
كأنما حثحث من حضني ثكن
حتى أتى عاري الجآجئ و(القطن)
تلفه في الريح بوغاء الدمن
فلما سمع "سطيح" شعره قال: "عبد المسيح"، على جمل مشيح، جاء إلى "سطيح"، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا "الموبذان": رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت "دجلة" وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لـ "سطيح" شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى "سطيح" مكانه، وسار "عبد المسيح" إلى رحله يقول:
#50#
شمر فإنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وشابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر مجذور
فلما قدم "عبد المسيح" على "كسرى" أخبره بقول "سطيح" فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يكون أمور، قال: فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
#51#
تابعه الحافظ أبو بكر عبد الله ابن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة"، وأبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان"، والإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرئ، فرووه بنحوه عن علي بن حرب، عن يعلى، وهو من أفراده.
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه"، وأبو بكر البيهقي، وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما "دلائل النبوة"، وأبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" وفي "الأربعين الطوال في دلائل النبوة" من طرائق "هواتف الجنان" للخرائطي.
وقوله في الشعر الأول: "غطريف اليمن": "الغطريف" في هذا: "السيد"، وفي غير هذا: البازي الذي أخذ من وكره صغيرا. قاله أبو عبيد الهروي.
و"فاز": يقال فاز يفوز: إذا مات، وروي "فاد" بالدال المهملة، وهو بمعنى "فاز"، يقال: فاد يفود؛ إذا مات.
#52#
و"ازلم" محذوف، من "ازلأم" -بالهمزة-، ويقال: "ازلام" بالمد إذا ولى مسرعا.
و"الشأو": الغاية والسبق.
و"العنن" هنا: اعتراض الموت، يقال: "عن لي كذا": أي: عرض.
ومعنى: "فازلم به شأو العنن" أي: ذهب به غاية الموت ذهابا سريعا.
و"الفاصل": الحاكم المبين، يقال: "فصل الحاكم بين الخصمين يفصل -بالكسر- فصلا وفصولا": قضى. و"فصل القائل القول": أحكمه.
و"الخطة": الحالة.
و"الوجه الغضن": الذي فيه تكسر وتجعد واسترخاء، من الكرب الذي أصابه.
و"الأزرق": أراد به النمر، وهم أبدا يصفونه بالزرقة؛ لزرقة عينيه.
وقال أبو القاسم بن عساكر: أراه أورق، والورقة: رمدة في لون الإبل. انتهى.
ومنهم من جعل الأزرق صفة البعير ولونه.
و"نهم الناب" روي هذا الحرف هكذا بالنون، وفسر بأنه حديد الناب، وروي "مهم الناب" بالميم بدل النون، وهو المشهور في الرواية فيما ذكره بعض المتأخرين، ولم يذكر أبو عبيد الهروي في "الغريبين" غيره.
لكن حكي عن أبي منصور الأزهري ما سنذكره، فقال أبو عبيد: قوله: "مهم الناب" أي: حديد الناب.
وقال الأزهري: هكذا روي هذا الحرف، وأظنه: "مهو الناب"
#53#
بالواو، يقال: "سيف مهو" أي: حديد. انتهى.
وروي "مهمى الناب"، و"ممهى الناب" مقلوب من الأول، وكلاهما معناه: المحدد.
و"صرر الأذن": الذي نصب أذنه وسواها.
و"الفضفاض": الواسع، و"بدن فضفاض" أي: كثير اللحم، ويكني بالرداء عن لابسه، والمراد به: سعة الصدر. قاله أبو القاسم بن عساكر.
و"القيل": الملك.
و"الوسن" من السنة وهي النعاس، يبدأ في الرأس، فإذا صار إلى القلب فهو النوم. حكاه أبو عبيد الهروي عن ابن عرفة.
وقوله: "يسري" للوسن، أراد به رؤيا "كسرى" و"الموبذان"، وروي: "رسول قيل العجم كسرى ذي الوسن" أي: صاحب الرؤيا.
و"يجوب": يقطع، يقال: "هو جواب ليل" إذا كان قطاعا للبلاد سيرا فيها، يقال: "جبت البلاد أجوبها جوبا" إذا قطعتها.
و"العلنداة": الصلبة القوية من النوق.
و"الشجن": الناقة المتداخلة الخلق، كأنها شجرة متشجنة، أي متصلة الأغصان ملتفتها.
وروي "وعلنداة شزن" بالفتح محركة، وروي "شزن" بضم الشين المعجمة والزاي، ومعناهما: الشدة والغلظة، وقيل: بالفتح: الغلظة، وبالضم: الجانب والناحية.
#54#
و"الشزن" بالفتح أيضا: النشاط. قال أبو عبيد الهروي: وأسمعنيه بعض أهل الأدب: "علنداة شزن"، قال: "والشزن": المعيي من الحفا، يقال: "شزن البعير يشزن". قال: ويكون الذي يمشي في شق. قال: ويقال: "بات فلان على شزن" أي: قلق، يتقلب من جنب إلى جنب.
و"الوجن" بضمتين جمع "وجين"، وهو المنقاد من الأرض في غلظ، وتخفف الجيم فتسكن، وروي بالفتح، قال الأزهري: "الوجن" الأرض الغليظة الصلبة، وهي "الوجن" أيضا.
وقوله: "وتهوي بي وجن" أي: تسرع بي فيها، ويروى: (وجناء تهوي من وجن) فهو على هذا صفة للناقة، و"وجن" صفة للأرض، أي: لم يزل هذا البعير أو هذه الناقة التي هذا صفته ترفعني مرة في هذه الأرض بهذه الصفة وتخفضني مرة أخرى.
و"الجآجئ" جمع "جؤجو" وهو عظام الصدر.
و"القطن" بفتح القاف وكسر الطاء المهملة يليها نون جمع "قطنة" بالفتح ثم بكسر تاليه، وهي: لحمة بين الوركين. ذكره ابن دريد في "الجمهرة"، وأنشد شاهدا له:
(حتى أتى عاري الجآجئ والقطن) ...
#55#
ورواه بعضهم "العطن" بعين وطاء مهملتين مفتوحتين، فيكون على هذا من قولهم: "رجل واسع العطن" إذا كان رحب الذراع.
و"القطن" بالقاف وكسر الطاء هو المعروف، وهو: ما بين الوركين من أسفل الظهر من اللحم.
و"العاري" في قوله: "عاري الجآجئ والقطن" العاري: الذي ذهب لحمه وشحمه، فكأنه من شدة سيره وتعبه ذهب شحمه ولحمه من هذين المكانين.
و"البوغاء" دقائق التراب الطائر في الهواء.
و"الدمن" جمع "دمنة"، وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض. وقيل: "الدمن" ما تدمن -أي: تجمع- من أبوال الإبل وأبعارها. ومنه اشتق اسم "الدمنة" وهي: المنزل.
وقوله: "تلفه في الريح بوغاء الدمن" كأنه من باب المقلوب، أي: تلفه الريح في بوغاء الدمن، ويشهد لذلك ما في الرواية الأخرى:
(تلفه في الريح ببوغاء الدمن)
ويروى أيضا:
(تلوحه في اللوح بوغاء الدمن)
ومعنى "يلوحه": يغيره، يقال منه: "لاحه ولوحه": إذا غير لونه.
و"اللوح" بالضم: الهواء بين السماء والأرض، فمعناه على هذا: أن الهواء والتراب يغيران لونه.
و"حثحث": أي: حث واستعجل، والحث: السرعة. ويروى
#56#
(حثحث) مبني لما لم يسم فاعله. بمعنى: حث، والحث: الاستعجال والتحريض والحض.
و"ثكن": اسم جبل من جبال الحجاز.
وقوله: "على جمل مشيح": "المشيح": الجاد في أمره في لغة هذيل. وفي رواية: "طليح" أي: يعيي، ويقال: "بعير طلح وطليح": إذا أعيى، و"أطلحته أنا إطلاحا".
و"ارتجاس الإيوان": صوته لما سقط منه ما سقط، من قولهم: "رعد مرتجس" و"مرتجز" إذا سمعت له صوتا، وسمي البحر "رجاسا" لصوت موجه.
و"الإيوان": بيت له ثلاثة جدران فقط، ويستر أعلى المكان الخالي من الجدار بما يقي من الشمس، بكسر أوله، ويفتح، والكسر أفصح؛ لأن "الإيوان" فارسي معرب، والمعرب كلما كان من العجمة أبعد كان أفصح.
و"الهراوة": العصى، وفسرت أيضا بالقضيب، ويعني سطيح بـ "صاحب الهراوة" النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يمسك القضيب كثيرا، وكانت العصا تحمل بين يديه للصلاة إليها، وتحمل معه عند قضاء حاجته لخدش الأرض بها إذا كانت صلبة لمكان بوله، ولغير ذلك.
و"فاض وادي السماوة" أي: كثر ماؤه.
و"السماوة": مفازة بين الشام والعراق، وسماوة كل شيء:
#57#
شخصه، وبذلك سميت السماوة؛ لأنها منازل ثمود، وفيها إلى الآن أشخاص منازلهم وآثارهم.
وقوله في الشعر "شمير" هو الشديد التشمر، وكنى به هنا عن الجد والاجتهاد.
ومعنى "أفرطهم" أي: تركهم وزال عنهم.
وقوله: "فإن ذا الدهر أطوار" أي: فإن هذا الدهر حالات تختلف.
و"دهارير": تصاريف الزمان الدهر، ونوائبه.
و"صولهم": حملتهم.
و"المهاصير": جمع "مهصر"، يوصف به الأسد؛ لأنه يهصر الفريسة، أي يعطفها، مأخوذ من "الهصر" وهو: عطفك الشيء الرطب خاصة نحو العود والغصن، وفسر بعضهم "المهاصير" أنها التي تكسر كلما ظفرت به.
و"الصرح": القصر.
وقوله: "أولاد علات" أي: من أمهات شتى؛ لأن أباهم "آدم" وطبائعهم وأهواؤهم وأغراضهم مختلفة.
وقوله: "وهم بنو الأم" أي: يعطف بعضهم على بعض إذا رأوا غنى ومالا؛ لأن بني الأم بعضهم على بعض أعطف من أولاد الأب؛ لكون الأم أعطف على الأولاد من الأب، وقيل في قول هارون لموسى -عليهما السلام: {يبنؤم} قيل: إنه استعطفه ليرق عليه، وإن كانا من أب وأم.
#58#
و"كسرى" المذكور في هذا الحديث هو: كسرى نوشروان ابن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد بن بهرام ابن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير -و"أردشير" قيده الدارقطني بالراء، وقيده غيره بالزاي- بن بابك بن ساسان، المذكور في شعر "عبد المسيح" في قوله:
(إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم)
والإيوان المذكور منسوب إلى "كسرى" هذا؛ بناه في نيف وعشرين سنة، وقيل: إن الذي بناه سابور بن هرمز ذو الأكتاف. ذكره ابن قتيبة.
وزعم المسعودي أن "سابور ذا الأكتاف" بناه ولم يكمله، فأتمه "أبرويز بن هرمز".
#59#
و"الإيوان" المذكور بالمدائن، وهي مدينة صغيرة بالجانب الغربي من "دجلة".
وكانت "المدائن" قبل تشتمل على سبع مدائن، بين كل من السبع والأخرى مسافة، وكل معمور بالناس، إلى أن فتح المسلمون تلك المدن واختطت "البصرة" و"الكوفة" فانتقل الناس إليهما من مدن المدائن، ولم يزل يضعف أمرها إلى أن صارت "المدائن" بليدة صغيرة في الجانب الغربي من "دجلة" كما تقدم، وهي جاهلية، آثارها عظيمة ومعالمها قائمة، وهي من "بغداد" على سبعة فراسخ.
وفي الجانب الشرقي من المدائن الإيوان الذي بها، ليس للأكاسرة أثر ولا بنية له.
وطوله مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، وهو مبني من الآجر الكبار والجص بناء محكما، وغلظ الأزج خمس آجرات، وطول كل شرفة من الشرف خمسة عشر ذراعا.
ذكر "ابن خرداذبه": أنه ما بني بالجص والآجر أبهى منه.
ومن عجيب ما يحكى من عظم بنائه أن شرفة منه هدمت وجعلت أساسا لسور بغداد.
#60#
ولما بنى "المنصور" بغداد أحب أن ينقضه ويبني بنقضه، فاستشار "خالد بن برمك" فنهاه وقال: "هو آية الإسلام، ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزيل أمره إلا نبي، وهو مصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمؤنة في نقضه أكثر من الارتفاق به". فقال له: "أبيت إلا ميلا إلى العجم".
فهدمت منه ثلمة بلغت النفقة عليها مالا كثيرا فأمسك، فقال له خالد: "أنا الآن أشير عليك بهدمه لئلا يتحدث بعجزك عنه"، فلم يفعل، وتركه.
ذكر هذا الزمخشري في "ربيع الأبرار".
وهذه القصة خرجها الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه" من طريق أبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، حدثنا
#61#
أبو الحسن عبد الواحد بن محمد الحصيني، حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: لما صارت الخلافة إلى "المنصور" هم بنقض إيوان المدائن، فاستشار جماعة من أصحابه، فكلهم أشار بمثل ما هم به، وكان معه كاتب من الفرس، فاستشاره في ذلك، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من تلك القرية -يعني: المدينة- وكان له بها مثل ذلك المنزل ولأصحابه مثل تلك الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاؤوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره، فغلبوه وأخذوه من يده قسرا قهرا، ثم قتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأرض فينظر إلى تلك المدينة وإلى هذا الإيوان، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الإيوان، فلا يشك أنه بأمر الله تعالى وأنه هو الذي أيده وكان معه ومع أصحابه، وفي تركه فخر لكم.
فاستغشه "المنصور" واتهمه لقرابته من القوم، ثم بعث في نقض الإيوان، فنقض منه الشيء اليسير، ثم كتب إليه أنه يغرم في نقضه أكثر مما يسترجع منه، وأن هذا تلف الأموال وذهابها.
فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إليه، فقال له: قد كنت أشرت بشيء لم تقبل مني، فأما الآن فإني آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه، والصواب أن تبلغ به الماء. ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال، فأمر بالإمساك عنه.
ثم روى بإسناده عن أبي العباس المبرد، أخبرني القاسم بن سهل النوشجاني أن ستر باب الإيوان أحرقه المسلمون لما افتتحوا المدائن،
#62#
فأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهب، فبيع المثقال بعدة دراهم، فبلغ ذلك عشرة آلاف درهم.
وقيل: كان بساط كسرى ستين ذراعا في مثلها مربعا، وكان منسوجا بالذهب مرصعا باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر التي لم ير مثلها مصورا فيه جميع ممالك كسرى وسائر بلاده، فإذا جلس على الكرسي رأى جميع بلاده، فلما غنمه المسلمون حمل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، واقتسمه المسلمون، فخرج لعلي رضي الله عنه قطعة منه مقدار شبر، فباعها بعشرين ألف دينار، وليست بأجود القطع.
وخرج الخطيب أيضا من طريق محمد بن أحمد [بن] البراء، حدثنا القاسم بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن السائب بن الأقرع: أنه كان جالسا في إيوان كسرى، قال: فنظر إلى تمثال يشير بأصبعه إلى موضع. قال: فوقع في روعي أنه يشير إلى كنز، قال: فاحتفرت الموضع فاستخرجت كنزا عظيما، فكتبت إلى عمر رضي الله عنه أخبره، وكتبت أن هذا شيء أفاءه الله عز وجل علي دون المسلمين. قال: فكتب إليه عمر: إنك أمير من أمراء [المسلمين]، فاقسمه بين المسلمين.
وخرجه أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي في كتابه "الروضة الصغيرة" بسنده المذكور.
و"السائب بن الأقرع بن جابر الثقفي" هذا له رؤية، وهو ابن عم عثمان بن أبي العاص، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه قبض الأخماس
#63#
من غنائم أموال الفرس، وورد المدائن واليا عليها.
وكان آخر الملوك الذين ملكوا من نسل "كسرى" المذكور: "يزدجرد بن شهريار - الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابا- بن أبرويز بن هرمز بن كسرى نوشروان".
وكان "يزدجرد" هذا كسرى زمانه قتل في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين، وبه انقضت دولة الأكاسرة وولت أيامهم، وكان هذا خاتمتهم.
وقوله: "وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام".
"فارس" اسم علم لطائفة من العجم، كان دينهم دين الصابئة، ثم صاروا مجوسا يعبدون النار.
و"بلاد فارس" مشتملة على خمس كور: فأوسعها وأكثرها مدنا ونواحي: "كورة إصطخر"، ويليها "أردشير خرة" ومدينتها "جور"، و"كورة دارابجرد"، و"كورة الرجان"، و"كورة سابور".
#64#
وكان لهذه الخمس كور بيوت نيران كثيرة للمجوس، فالذي بلغني من مشهورها بيت نار "فرة" و"شرخشين" الذي بـ "باب سابور"، و"حينيد كلوسن". بباب سابور المحاذي لـ "باب ساسان"، وبيت يعرف بـ "حفتة"، وبيت معروف بـ "كلازن" و"بيت ناريجرة" وكان من البيوت المعظمة عندهم، وبه تحلف المجوس تغليظا لأيمانهم، وهذا البيت ينسب إلى دارا ابن دارا الملك المشهور الذي بنى دار ابجراد، وبيت عند بركة "جور" ويسمى "بارين"، وكان مكتوبا عليه فيما ذكره مصنف كتاب "صورة الأرض"، وكان في أوائل المائة الرابعة أنه حدثه من قرأ عليه بالفهلوية أنه أنفق عليه ثلاثون ألف ألف.
وكان لبيوت النار التي ذكرنا ولغيرها: قوام وسدنة يقومون عليها، وينتابون إيقادها، فلم يخمد لها لهب في ليل ولا نهار مدة عبادة المجوس للنار، وذلك ألف عام إلى ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها خمدت كلها في جميع البيوت الموجودة ليلتئذ أي: ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تقد.
و"الموبذان": بفتح الباء الموحدة وكسرها، عالم الفرس وقاضيهم.
و"عبد المسيح" هو: ابن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني النصراني، صاحب القصر الأبيض بـ "الحيرة" الذي يقال له: "قصر بني بقيلة".
#65#
و"بقيلة" لقب، واسمه: ثعلبة -وقيل: الحارث- بن سبين بن زيد بن سعد بن عدي بن نمر بن صوفة بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأزد.
وإنما دعي "الحارث" "بقيلة"؛ لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا له: "ما أنت إلا بقيلة" فدعي بذلك.
و"عبد المسيح" هذا هو الذي صالح خالد بن الوليد رضي الله عنه على "الحيرة"، وكان ملكها يومئذ "الموبذان" من قبل "كسرى"، ملكه إياها حين مات النعمان بن المنذر.
حدث هشام بن محمد بن السائب بن الكلبي عن لوط أبي مخنف وشرقي بن قطامي، عن الكلبي قال: لما أقبل خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق يريد "الحيرة"، قال: فبعثوا إليه "عبد المسيح الغساني"، فقال له خالد: كم أتت لك؟ قال: خمسون وثلاثمائة سنة. قال: ومعه سم ساعة يقلبه في يده، فقال له خالد: ما هذا معك؟ قال: هذا سم. قال: ما تصنع به؟ قال: أتيتك، فإن يكن عندك ما يسرني ويوافق أهل بلدي قبلته وحمدت الله، وإن تكن الأخرى لم أكن أول من ساق الذل إلى أهل بلده فآكل هذا السم فأستريح من
#66#
الدنيا، فإنما بقي من عمري اليسير. قال خالد: هاته. فأخذه من يده ووضعه في راحته ثم قال: "بسم الله، وبالله رب الأرض والسماء، بسم الذي لا يضر مع اسمه داء"، ثم أكله، فتجلته غشية، ثم عرق، فأفاق وكأنما نشط من عقال. فانصرف إلى قومه، فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة، فلم يضره، صالحوهم.
وقد رويت هذه القصة مطولة، وهي: أن خالدا رضي الله عنه لما نزل على "الحيرة" وتحصن منه أهلها أرسل إليهم: ابعثوا لي رجلا من عقلائكم وذوي أسنانكم.
فبعثوا إليه "عبد المسيح بن بقيلة"، فأقبل يمشي حتى دنا من "خالد" فقال: أنعم صباحا أيها الملك.
قال: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، فمن أين أقصى أثرك أيها الشيخ. قال: من ظهر أبي.
قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي.
قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض.
قال ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل - لا عقلت؟ قال: إي والله وأقيد.
قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد.
قال خالد رضي الله عنه: ما رأيت كاليوم قط أن أسأله عن الشيء وينحو عن غيره.
#67#
قال: ما أنبأتك إلا عما سألت: فنس عما بدا لك.
قال: أعرب أنتم أم نبط؟
قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا.
قال: فحرب أنتم أم سلم؟
قال: بل سلم.
قال: فما هذه الحصون؟
قال: بنيناها لسفيه نحذر منه حتى يجيء الحليم ينهاه.
قال: كم أتى لك؟
قال: خمسون وثلاثمائة سنة.
قال: فما أدركت؟
قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل "الحيرة" تضع مكتلها على رأسها لا تزود إلا رغيفا واحدا حتى تأتي الشام، ثم قد أصبحت اليوم خرابا، وذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد.
قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه، فقال له خالد: ما هذا في كفك؟
قال: السم.
قال: وما تصنع به؟
قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله تعالى وقبلته، وإن تكن الأخرى لم أكن أول من ساق الذل إلى قومه، أشربه وأستريح من الحياة، فإنما بقي من عمري اليسير.
#68#
قال خالد: هاته. فأخذه، وقال: "بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء"، ثم أكله فتجللته غشية ثم ضرب بيده على صورته. وفي رواية ثم ضرب بذقنه صدره طويلا، ثم عرق وأفاق رضي الله عنه، فكأنما نشط من عقال.
فانصرف "عبد المسيح" إلى قومه، فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع له.
فصالحوهم على "الحيرة"، وأعطوا خالدا رضي الله عنه الجزية مائة ألف درهم.
فصالحهم خالد، وكتب لهم كتابا، فكانت أول جزية في الإسلام، وكان ذلك اثنتي عشرة من الهجرة بعد فراغ قتال أهل الردة.
وكان "عبد المسيح" هذا شاعرا معمرا، عاش سبعمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة.
قال أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون في كتابه "تذكرة المحاضرة وتبصرة المحاورة": وذكر أن بعض مشايخ أهل
#69#
"الحيرة" خرج إلى ظهرها (يحيط) ديرا، فلما حفر موضع الأساس وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله، فإذا رجل على سرير من زجاج عند رأسه كتابة: أنا "عبد المسيح بن بقيلة":
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بلغ المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أحفل بمعضلة كئود
وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
و"سطيح" اسمه: الربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي بن ذئب بن عمرو بن حارثة بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأسيد، من "غسان".
كذا يقول الكلبي وغيره، وتقدم عن ابن إسحاق ما يخالفه.
وقيل اسم "سطيح": عرف. وقيل غير ذلك.
قال أبو حاتم السجستاني: سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره
#70#
قالوا: وكان من بعد "لقمان بن عاد": "سطيح"، ولد في زمان سيل العرم. قيل: وأنذر سيل العرم، وعاش إلى ملك "ذي نواس" وذلك نحو من ثلاثين قرنا، وكان مسكنه "البحرين"، وزعمت "عبد القيس" أنه منهم، وتزعم "الأزد" أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون: هو من "الأزد"، ولا يدرى ممن هو، غير أن ولده يقولون: إنه من "الأزد".
ذكره أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه".
وقد تقدم أن "طريفة بنت الحر" الكاهنة تفلت في فيه يوم ماتت، فورث منها الكهانة هو و"شق".
قال أبو نعيم في "الدلائل": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن [بنت] شرحبيل، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي قال: أتى
#71#
رجل ابن عباس رضي الله عنهما فقال: بلغنا أنك تذكر "سطيحا" (وتزعم)، أن الله خلقه لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه؟ قال: نعم، إن الله عز وجل خلق "سطيحا الغساني" لحما على وضم، ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفان، وكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمه، فأتي به مكة، فخرج إليه أربعة من قريش: "عبد شمس" و "هاشم" ابنا "عبد مناف بن قصي"، و"الأحوص بن فهر" و"عقيل بن أبي وقاص"، فانتموا إلى غير نسبهم، وقالوا: نحن أناس من "جمح" أتيناك، بلغنا قدومك، فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية وصعدة ردينية، فوضعت على باب البيت الحرام؛ لينظروا هل يراها "سطيح" أم لا، فقال: يا عقيل، ناولني يدك. فناوله يده، فقال: يا عقيل، والعالم الخفية، والغافر الخطية، والذمة الوفية، والكعبة المبنية، إنك لجاء بالهدية: الصفيحة الهندية والصعدة الردينية.
قالوا: صدقت يا "سطيح".
فقال: والآت بالفرح، وقوس قزح، وسائر القرح، واللطيم المنبطح، والنخل والرطب والبلح، إن الغراب حيث مر سنح. فأخبر
#72#
أن القوم ليسوا من "جمح" وأن نسبهم من قريش ذي البطح. قالوا: صدقت يا "سطيح"، نحن أهل البيت الحرام، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا وما يكون بعده (فقدان أن) يكون عندك في ذلك علم.
قال: الآن (صدقتم)، خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر العرب، في زمان الهرم، (سواء) بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشأ من عقبكم (ذوو فهم)، يطلبون أنواع العلم، فيكسرون الصنم، (يكفون) الردم، يقتلون العجم، يطلبون الغنم.
قالوا: يا "سطيح"، فمن يكون أولئك؟
فقال لهم: والبيت ذي الأركان، والأمن والسكان، لينشؤون من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، وينكرون عبادة الشيطان، ويوحدون الرحمن، وينشرون دين الديان، يشرفون البنيان.
قالوا: يا "سطيح"، من نسل من يكون أولئك؟ فقال: وأشرف الأشراف، (والعصي) للأسراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف الأضعاف، لينشؤون الآلاف من عبد شمس وعبد مناف، نشوءا يكون فيهم اختلاف.
#73#
قالوا: يا سوءتا "سطيح"، فما تخبرنا من العلم بأمرهم؟ ومن أي بلد يخرج أولئك؟
فقال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد، فتى يهدي إلى الرشد، يرفض "يغوث" و"الفند"، يبرأ من عبادة الصدد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله محمودا، من الأرض مفقودا، في السماء مشهودا، ثم يلي أمره "الصديق"، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف مجرب غطريف، ويترك قول العنيف، قد ضاف المضيف وأحكم التحنيف.
ثم ذكر "عثمان" ومقتله وما يكون بعده من أيام الخلفاء وما بعد ذلك من الفتن والملاحم.
وخرج ابن عساكر في "تاريخه" أن ملكا سأل "سطيحا" عن نسب غلام اختلف فيه، فأجابه على الجلية من أمره في كلام طويل مليح فصيح. فقال له الملك: يا "سطيح"، ألا تخبرني عن علمك هذا؟ فقال: إن علمي ليس مني، ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته من أخ لي جني قد سمع الوحي بطور سني.
#74#
فقال له: أرأيت حال هذا الجني، أهو معك لا يفارقك؟
قال: إنه ليزول حيث أزول، ولا أسكن إلا بما يقول.
وروي نحوه عن وهب بن منبه أنه قال لسطيح: أنى لك هذا العلم؟
فقال: لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله موسى عليه السلام فهو يؤدي إلي من ذلك ما يؤديه.
ومن أخباره أيضا: ما قال الحافظ أبو بكر البرقاني: أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي عون، حدثنا أبو عمار الحسين بن حرب، أخبرنا الشقيقي علي بن الحسين، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي سلمة -أظنه: السراج- عن يحيى بن أبي كثير: أن رجلين خرجا في سفر، ففقد أحدهما صاحبه، فلما رجع اجتمع أهل بيت هذا وأهل بيت هذا، حتى كاد يكون بينهما شيء. فقال ذو النهى منهم: هل لكم أن نبعث إلى "سطيح" رجلا منا نسأله عن شأن صاحبنا؟ فقال بعضهم لبعض: أرأيتم إن أخبرنا "سطيح" أنه قتل صاحبنا فكنا نقتله بقوله؟ وإن قال لم يقتله ندعه بقوله؟ فقالوا: نعم.
فقالوا: تعالوا حتى نعتلم علامة ثم نسأله عن علامتنا، فإن أخرجها لنا سألناه عن شأن صاحبنا. فأخذوا بدنة فنحروها ووضعوا من لحمها فاصطادوا عليه نسرا، وأخذوا من ريشه عشر ريشات وقالوا: هذه علامتنا، فأتوه، فلما رأوا سطيحا، قال: إن شئتم أخبرتكم بالذي جئتم تسألوني عنه، وإن شئتم فسلوا.
فقالوا: أخبرنا فيم جئناك؟
قال: إنكم سرتم إلي شهرا، ونحرتم على رأس شهر بكرا، واصطدتم على لحمه نسرا، وأخذتم من ريشه عشرا، وقلتم: "قتل عامر عمرا"، ما قتله إلا ذو أنياب قسرا.
#75#
قال: فرجع القوم يطلبون صاحبهم، فإذا به قد قتله الأسد.
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "مساوئ الأخلاق": أنشدني أبو سهل الرازي لسطيح الكاهن:
عليكم بتقوى الله في السر والجهر ... ولا تلبسوا أصدق الأمانة بالغدر
وكونوا لجار الجنب حصنا وجنة ... إذا ما عرته النائبات من الدهر
وأخبار "سطيح" كثيرة، وقد جمعها غير واحد، ومنها: أنه كان إذا غضب انتفخ، وأن جمجمته كانت إذا مست باليد أثرت فيها؛ للين عظمها.
والمشهور: أنه كان كاهنا وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن نعته ومبعثه بأخبار كثيرة.
وروي: أنه عاش سبعمائة سنة، وأنه أدرك الإسلام فلم يسلم. قاله القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري فيما رواه ابن عساكر.
والحديث الذي سقناه يدل على أنه لم يدرك الإسلام، وهو الصحيح؛ لأن "عبد المسيح" قال في هذا الحديث: ثم قضى "سطيح" مكانه، وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء يسير. والله أعلم.
وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق.
#76#
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان": وعجيب ما يحكى عن الكهان مما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدل منه بواضح البرهان: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبيد الله بن العلاء، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه، أن نفرا من قريش، منهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث،كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا، وكانوا يعظمونه وينحرون له الجزر، ثم يأكلون ويشربون الخمر، ويعكفون عليه، فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوبا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتموا له وعظموا ذلك!!
فقال عثمان بن الحويرث: ماله قد أكثر التنكيس! إن هذا لأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عثمان يقول:
#77#
أيا صنم العيد الذي صف حوله ... صناديد وفد من بعيد ومن قرب
تكوست مقلوبا فما ذاك قل لنا ... أذاك سفيه أو تكوست للعتب
فإن كان من ذنب أتينا فإننا ... نبوء بإقرار ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوبا تكوست صاغرا ... فما أنت في الأوثان بالسيد الرب
قال: وأخذوا الصنم، فردوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول:
تردى لمولود أنارت بنوره ... جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب
وخرت له الأوثان طرا وأرعدت ... قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
#78#
ونار جميع الفرس باخت وأظلمت ... وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب
وصدت عن الكهان بالغيب جنها ... فلا مخبر عنهم بحق ولا كذب
فيا لقصي ارجعوا عن ضلالكم ... وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب
فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض.
فقالوا: أجل.
فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد أخطئوا المحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به، لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين.
قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم، وذكر الحديث.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبيد الله بن العلاء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
#79#
جدته: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كان زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يذكران: أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع "أبرهة" من مكة، قالا: فلما دخلنا عليه قال لنا: اصدقاني أيها القرشيان، هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه، فضرب عليه بالقداح فسلم ونحرت عنه جمال كثيرة؟ قلنا: نعم. قال: فهل لكما علم به، ما فعل؟ قلنا: تزوج امرأة يقال لها: "آمنة بنت وهب"، تركها حاملا وخرج.
قال: فهل تعلمان ولد أم لا؟ قال ورقة بن نوفل: أخبرك أيها الملك، إني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به ونعبده، إذ سمعت من جوفه هاتفا وهو يقول:
ولد النبي فذلت الأملاك ... ونأى الضلال وأدبر الإشراك
ثم انتكس الصنم على رأسه. فقال زيد بن عمرو بن نفيل: عندي كخبره أيها الملك. قال: هات، قال: إني في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه خرجت من عند أهلي، وهم يذكرون حمل "آمنة"، حتى أتيت جبل "أبي قبيس" أريد الخلوة فيه لأمر رابني، إذ رأيت رجلا ينزل من السماء له جناحان أخضران، فوقف على جبل "أبي قبيس"، ثم أشرف على مكة فقال: "ذل الشيطان وبطلت الأوثان وولد الأمين"، ثم نشر ثوبا معه وأهوى به نحو المشرق والمغرب، فرأيته قد جلل ما تحت السماء، وسطع نور كاد أن يخطف بصري وهالني ما رأيت، وخفق الهاتف بجناحه حتى سقط على الكعبة، فسطع له نور أشرقت له "تهامة" وقال: زكت الأرض وأدت ربيعها، وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة، فسقطت كلها.
#80#
قال النجاشي: ويحكما، أخبركما عما أصابني، إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبتي وقت خلوتي، إذ خرج علي من الأرض عنق ورأس وهو يقول: حل الويل بأصحاب الفيل، رمتهم طير أبابيل بحجارة من سجيل، هلك الأشرم المعتدي المجرم، ولد النبي الأمي الحرمي المكي، من أجابه سعد، ومن أباه عند، ثم دخل الأرض فغاب، فذهبت أصيح، فلم أطق الكلام ورمت القيام، فقرعت القبة بيدي، فسمع ذلك أهلي، فجاؤوني، فقلت: احجبوا عني الحبشة. فحجبوهم عني، ثم أطلق عن لساني ورجلي.
وخرج أبو محمد دعلج بن أحمد بن دعلج في "مسند المقلين" من حديث وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق، حدثني صالح بن إبراهيم، [عن يحيى] بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، حدثني من شئت من رجال قومي، عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أسمع ما أرى وأعقل، إذ أشرف يهودي على أطمة، فصرخ بأعلى صوته: "يا معشر يهود"، فاجتمعوا إليه، فقالوا: ما شأنك، فقال: طلع
#81#
الليلة نجم "أحمد" الذي ولد به.
سئل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: كم كان عمر "حسان" مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ فقال: ابن ستين سنة وقدمها النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع "حسان" اليهودي يقول ما يقول وهو ابن سبع سنين، والله أعلم.
وخرج أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" من حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم ونحن يومئذ في (هدنة الهدم)، فسمعت "يوشع اليهودي" يقول: أظل خروج نبي يقال له: "أحمد"، يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي -كالمستهزئ به-: ما صفته؟
قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره.
#82#
قال: فرجعت إلى قومي بني [خدرة] وأنا يومئذ أتعجب مما يقول "يوشع"، فأسمع رجلا فينا يقول: و"يوشع" يقول هذا وحده! كل يهود "يثرب" تقول هذا.
قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعا، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر لم يطلع إلا لخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا "أحمد" وهذه مهاجره.
وخرج أبو نعيم أيضا من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده، اسمه: "أحمد"، ومهاجره إلى طيبة، يثرب، الحديث.
وجاء عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الديباج، عن أمه، عن أبيها قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حبر كان بمكة: يولد الليلة مولود في بلادكم، هذا المولود النبي الذي يوصف بأن يعظمه موسى وهارون، يقتل أمتهما، فإن أخطأكم فبشروا أهل "الطائف" وأهل "أيلة". قال: فولد صلى الله عليه وسلم في آخر تلك الليلة، فخرج الحبر حتى دخل الحجر وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن موسى حق، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قاف لموسى حق، فإني مؤمن به.
ثم فقد فلم يقدر عليه.
#83#
"أم الديباج": فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنها
وخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثني حاتم بن الليث الجوهري، حدثني سليمان بن عبد العزيز الزهري، حدثني أبي عبد العزيز بن عمران، عن عمه محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هتفت الجن على "أبي قبيس" وعلى الجبل الذي بـ "الحجون" الذي بأصله المقبرة، وكانت تئد فيه قريش بناتها، فقال الذي عليه:
فأقسم ما أنثى من الناس أنجبت ... ولا ولدت أنثى من الناس واحدة
كما ولدت زهرية ذات مفخر ... مجنبة لؤم القبائل ماجده
وقد ولدت خير القبائل أحمدا ... فأكرم مولود وأكرم والده
وقال الذي على "أبي قبيس":
يا ساكني البطحاء لا تغلطوا ... وميزوا الأمر بعقل مضي
#84#
إن بني زهرة من سركم ... في غابر الأمر وعند البدي
واحدة منكم فهاتوا لنا ... فيمن مضى في الناس أو من بقي
واحدة من غيرهم مثلها ... جنينها مثل النبي التقي
وحدث أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن عقبة بن مكرم، قال: [أنبأنا المسيب بن شريك قال] حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان بـ "مر الظهران" راهب من الرهبان يدعى "عيصا" من أهل الشام، وكان مختفرا بـ "العاصي بن وائل"، وكان الله عز وجل قد آتاه علما كثيرا، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول: "إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة تدين له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه فاتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه
#85#
فخالفه أخطأ حاجته، وتالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن، ولا حللت أرض البؤس والخوف والجوع إلا في طلبه".
وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول: لا، ويكتم ذلك؛ للذي قد علم أنه لاق من قومه؛ مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يفضي إليه من الأذى يوما.
فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب، حتى أتى "عيصا"، فوقف في أصل صومعته ثم نادى: "يا عيصا"، فناداه: من هذا؟ فقال: "أنا عبد الله". فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين.
قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود. قال: فما سميته؟ قال: محمدا.
قال: والله، لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه، منها: أن نجمه طلع البارحة، وأنه: ولد اليوم، وأن: اسمه "محمد"؛ انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه ابنك.
قال: فما يدريك أنه ابني، ولعله أن يولد يومنا هذا مولودون عدة؟!
قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله عز وجل ليشبه علمه على العلماء؛ لأنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع.
فيشتكي أياما ثلاثا، يظهر به الوجع ثلاثا، ثم يعافى، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد حسده أحد قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، وإن يعش حتى تبدو معالمه، ثم يظهر لك من قومك ما لا يحتمله إلا على
#86#
صبر على ذلك، فاحفظ لسانك، ودارئ عنه.
قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره أو قصر لم يبلغ السبعين [يموت] في وتر دونها من الستين، في إحدى وستين، أو ثلاث وستين، الستون أعمار رجل من أمته.
وفي هذا دليل لمن قال: "إن عبد الله توفي بعد أن ولد ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن صح.
#87#
$ذكر رنة إبليس - لعنه الله - ليلة المولد الشريف، ومنعه وجنوده من السموات$
وفي "تفسير بقي بن مخلد" فيما حكاه السهيلي وأبو الربيع بن سالم وغيرهما: أن إبليس رن أربع رنات:
رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب.
وروى أبو نعيم في "الحلية" من حديث أبي الربيع، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد قال: رن إبليس -لعنه الله- أربعا: حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعث على فترة من الرسل، وحين أنزلت: {الحمد لله رب العالمين} وأنزلت بالمدينة، وكان يقال: الرنة والنخرة من الشيطان، فلعن من رن أو نخر.
#88#
وهذا مشهور عن مجاهد من قوله، كما خرجه ابن الأنباري في كتابه "الرد" عن أبيه، حدثني (أبو عبيد الله) الوراق، حدثنا أبو داود، حدثنا شيبان، عن منصور، عن مجاهد قال: إن إبليس -لعنه الله- رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط من الجنة، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت فاتحة الكتاب وأنزلت بالمدينة.
وقول مجاهد عن الفاتحة: "وأنزلت بالمدينة" يروى أيضا عن أبي هريرة وعطاء بن يسار والزهري.
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم: نزلت بمكة.
وهو قول قتادة وأبي العالية والحسن والأكثرين.
وهو الأصح.
وقال أبو الحسن الواحدي في كتابه "أسباب النزول". وعند مجاهد: "أن الفاتحة" مدنية.
#89#
قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة، وهذه نادرة من مجاهد؛ لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه.
قلت: لم ينفرد به كما ذكرناه، والله أعلم.
وروي عن محمد بن كثير الكوفي، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: رن إبليس ثلاث رنات: رنة حين أهبط آدم عليه السلام من الجنة، ورنة حين ولد عيسى ابن مريم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب.
وجاء: إن إبليس لما خلق نخر:
قال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان، (عن) عمرو بن دينار، سمعت رجلا من أهل الأرض يقول: سمعت أبد الله بن إياس يقول: إن الله عز وجل لما خلق إبليس نخر.
قلت: "نخر" مأخوذ من قولهم: "نخر الحمار نخيرا" مد نفسه في خياشيمه.
ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الجن لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى صلى الله عليه وسلم منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد
#90#
محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها.
وجاء عن وهب بن منبه قال: كان إبليس يصعد إلى السموات كلهن ويتقلب فيهن كيف شاء، لا يمنع منذ أخرج آدم عليه السلام من الجنة، إلى أن رفع عيسى عليه السلام، فحجب حينئذ عن أربع سموات، فصار يتردد في ثلاث سموات، فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث، فصار محجوبا يسترق هو وجنوده ويقذفون بالكواكب.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال: كان هشام بن عروة، يحدث عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقال القوم: والله ما نعلمه. قال: الله أكبر، أما إذا خطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم، ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات، كأنهن عرف فرس، لا يرضع لليلتين، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه، فمنعه الرضاع.
فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه "محمدا" صلى الله عليه وسلم.
#91#
فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتهم حديث اليهودي؟ وهل بلغكم مولد هذا الغلام؟
فانطلقوا حتى جاؤوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال: فاذهبوا معي حتى أنظر إليه.
فخرجوا به حتى أدخلوه على أمه، فقال: أخرجي إلينا ابنك. فأخرجته وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا: ويلك، مالك؟ قال: ذهبت -والله- النبوة من بني إسرائيل، أفرحتم به يا معشر قريش؟! والله، ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها المشرق والمغرب.. وذكر بقيته.
تابعه محمد بن يحيى الذهلي، عن أبي غسان.
وخرجه الحاكم في "مستدركه".
وهو عند ابن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد - هو: ابن عبد الله بن أبي سيف القرشي- عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره، عن هشام بن عروة بنحوه، وفيه: "به شامة بين كتفيه سوداء صفراء، فيها شعرات متواترات"، وذكر بقيته.
قيل: هذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد بخاتم النبوة الذي بين كتفيه.
وقيل: وضع الخاتم وقت شرح صدره صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى بعد.
#92#
&ولادته صلى الله عليه وسلم مختونا والخلاف فيه&
وكذلك الخلاف جار في ختان النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البيهقي في
#93#
"الدلائل" من طريق أبي أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي بمصر، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، قال فأعجب جده عبد المطلب وحظي عنده وقال: "ليكونن لابني هذا شأن"، فكان له شأن.
وخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق الخبائري بنحوه.
و"الخبائري" وشيخه "يونس": واهيان، لا يقوم بهما حجة، لكن تابع الخبائري محمد بن سعد فقال في "الطبقات الكبرى": حدثنا يونس بن عطاء المكي، حدثنا الحكم بن أبان العبدي، فذكره.
وذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام" رواية ابن سعد هذه ثم قال: تابعه سليمان بن سلمة الخبائري، لكن أدخل فيه بين "يونس" و"الحكم": عثمان بن ربيعة الصدائي. انتهى.
قلت: وهذا وهم، دخل عليه من قوله: "يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة"، فتصحف "عن عثمان بن ربيعة"، والله أعلم، وقد تقدم على الصواب.
#94#
وأخبرنا أبو محمد سلمان بن عبد الحميد السلامي بقراءتي عليه، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن عثمان، أخبرنا عمر بن عبد المنعم الطائي. ح.
وأخبرتنا المعمرة اليقظة أم محمد زينب بنت محمد بن عثمان بقراءتي عليها، عن الطائي المذكور، وأبي الحسن علي بن البخاري إجازة مطلقة، قالا: أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد قراءة عليه، قال الأول: وأنا شاهد، والثاني: وأنا أسمع، أخبر علي بن المسلم، أخبرنا الحسين بن طلاب، أخبرنا محمد بن أحمد الصيداوي، حدثنا عمر بن موسى بالمصيصة، حدثنا جعفر بن عبد الواحد، قال: قال لنا صفوان بن هبيرة.
ومحمد بن بكر البرساني، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
لم يذكر "العباس" في هذا الإسناد.
وفيه "جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان الهاشمي القاضي": رماه بالوضع الدارقطني والبرقاني, وغيرهما، وكان يسرق الأحاديث؟
#95#
وخرج أبو نعيم من حديث أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي -وقد تكلم فيه-، حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثنا خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ولد صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
"خالد بن سلمة" إن لم يكن "الفأفأ" المخزومي فلا أعرفه، و"الفأفأ" تكلم في معتقده.
وهذا الحديث لا يثبت كالذي قبله، فإن الراوي عن "خالد بن سلمة" هو "موسى بن محمد بن عطاء أبو طاهر المقدسي" أحد المتروكين، رمي بالوضع والسرقة.
وخرج جماعة منهم الحافظ أبو بكر البغدادي الخطيب في "تاريخه" من طريق القاضي أبي بكر محمد بن عمر بن سلم الجعابي الحافظ، حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج البغدادي بالأبلة، حدثنا سفيان بن محمد المصيصي ح.
وخرج أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" من طريق الحسين بن
#96#
عبد الله العوفي بالبصرة، حدثنا محمد بن أحمد الكرخي، حدثنا سفيان بن محمد المصيصي، حدثنا هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على الله أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد".
"المصيصي" هذا أحد السراق للحديث، المتكلم فيهم، لا يحتج بخبره، لاسيما وقد انفرد بهذا الحديث، قال الخطيب أبو بكر البغدادي في "تاريخه" بعد روايته هذا الحديث: لم يروه فيما يقال عن "يونس" غير "هشيم"، وتفرد به "سفيان بن محمد"، انتهى.
وأما ما رواه أبو القاسم بن عساكر من طريق القاضي أبي عمر محمد بن الحسين البسطامي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الجارود الرقي، أخبرنا الحسن بن عرفة، أخبرنا هشيم بن بشير، عن يونس، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد".
فهذا ربما يخفى على غير المتوغل في هذا الشأن فيظنه متابعة للمصيصي على روايته عن هشيم، وليس كذلك، فإن ابن الجارود سرقه فيما ذكره ابن عساكر وألصقه بابن عرفة، وحدث عنه به، والله أعلم.
#97#
ورواه ابن عساكر أيضا من طريق أبي بكر محمد بن أحمد الأسفاطي، حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله البرجاني ونوح بن محمد بن نوح، قالا: حدثنا الحسن بن عرفة، فذكره.
وخرجه الحافظ أبو نعيم في "الحلية" من طريق نوح بن محمد الأبلي، عن الحسن بن عرفة، وهذا شبه الموضوع.
وقال أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون بن ثابت الصباحي حدثنا علي بن محمد الفارسي، حدثنا محمد بن كثير الكوفي، حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا.
وهذا لا يثبت أيضا، فابن كثير هو: "أبو إسحاق القرشي" واه جدا، تكلم فيه قتيبة بن سعيد وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو عبد الله البخاري وغيرهم.
#98#
وشيخه "إسماعيل بن مسلم"؟ أظنه والله أعلم المكي الراوي عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، وقد ضعفه ابن المبارك وسفيان بن عيينة ويحيى القطان وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهم.
وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في "معجزات النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: ومنها: أن صفية بنت عبد المطلب قالت: أردت أن أعرف أذكر هو أم أنثى؟ فرأيته مختونا.
وهذا لا يصح أيضا، ولا له إسناد يعرف به.
قال أبو عبد الله ابن القيم: وقد زعم بعضهم أن الأحاديث (التي) في هذا الباب متواترة، وفيه نظر.
#99#
قلت: هو: الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، قال الذهبي في كتابه "الميزان" في ترجمة الحاكم أبي عبد الله: (من شقاشقه قوله: أجمعت الأمة أن القتبي كذاب، وقوله في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مسرورا قد تواتر هذا، وقوله إن عليا وصي).
فأما صدقه في نفسه ومعرفته بهذا الشأن فأمر مجمع عليه، مات سنة خمس وأربعمائة. انتهى.
وهذا أحد الأقوال في ختانه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن جبريل عليه السلام ختنه يوم شق قلبه.
قال جعفر بن محمد بن نصير الخلدي: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني، حدثنا مسلمة بن محارب بن سليم بن زياد عن أبيه، عن أبي
#100#
بكرة رضي الله عنه: أن جبريل عليه السلام ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه.
خرجه أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه".
ومن طريقة خرجه أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه".
وهذا مع كونه موقوفا لا يثبت إسناده، و"المدائني" لين.
وقيل: إن جده "عبد المطلب" ختنه:
قال أبو عمر ابن عبد البر: حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن أحمد قراءة مني عليه، أن محمد بن عيسى حدثه، حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن عطاء الخراساني، عن
#101#
عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدبة، وسماه محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد ممن لقيت إلا عن ابن أبي السري، والله أعلم.
حديث غريب موقوف كالذي قبله.
قال بعض العلماء: وهذا الحديث -يعني: حديث ابن عباس- على ما فيه أشبه بالصواب، حكاه عنه الحافظ أبو محمد الدمياطي.
وجاء عن عبد الله بن حبيب، عن عبد الرحمن بن موسى، عن خلف بن ياسين، عن أبيه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الخميس؛ فقال: "أول يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى"، قال: بأبي أنت وأمي، فأخبرني عن من صام يوم الاثنين، قال: "ذلك يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى أيضا، وهو يوم ولدت فيه، ويوم ختنت فيه، ويوم بعثت فيه" الحديث.
#102#
وهو حديث مع إعضاله منكر جدا.
و"خلف" وأبوه "ياسين بن معاذ الزيات" يرويان الموضوعات.
وقد صنف الصاحب العلامة كمال الدين أبو القاسم كمال الدين عمر بن أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي الحلبي بن العديم كتابا بين فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب، ورد فيه على من جزم بأنه ولد مختونا.
قال فيه: ولو ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا فليس هذا من خصائصه، فإن كثيرا من الناس يولد غير محتاج إلى ختان.
ثم قال: وكانت العرب لا تعتد بصورة الختان من غير ختان، وترى الفضيلة في الختان نفسه وتفخر به.
قال: وقد بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من صمم العرب، وخصه
#103#
بصفات الكمال من الخُلق والخَلق والنسب، فكيف يجوز أن يكون ما ذكره من كونه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مما تميز به النبي صلى الله عليه وسلم وتخصص؟!
وقيل: إن الختان من الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها خليله صلى الله عليه وسلم، فأتمهن وأكملهن، وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الختان من الفطرة، ومن المعلوم أن الابتلاء به مع الصبر عليه مما يضاعف ثواب المبتلى به وأجره، والأليق بحال النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسلب هذه الفضيلة، وأن يكرمه الله عز وجل بها كما أكرم خليله عليه السلام، فإن خصائصه صلى الله عليه وسلم أعظم من خصائص غيره من النبيين وأعلى، انتهى.
وجنح ابن العديم إلى تقوية أن جبريل عليه السلام ختنه صلى الله عليه وسلم.
والأقوال الثلاثة التي قدمناها ليس لشيء منها حديث ثابت يعضده، والله أعلم.
وتوقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في ذلك، قال المروذي: سئل أبو عبد الله: هل ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا؟ قال: الله أعلم. ثم قال: لا أدري.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي قدمناه ما يدل على أن عبد المطلب عق عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، ولكن لا يثبت أيضا.
#104#
قال الخلال: أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم: سمعت أحمد يحدث بحديث الهيثم بن جميل، عن عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه.
قال أحمد: عبد الله بن المحرر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه": منكر، وضعف عبد الله بن محرر.
وذكر هذا أبو داود في "مسائله" عن أحمد بنحو ما رواه عنه هنا أبو المثنى.
قال عبد الرزاق في "جامعه": أخبرنا عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، عق عن نفسه بعدما جاءته النبوة.
#105#
قال عبد الله: إنما تركوا ابن المحرر لهذا الحديث.
وقال الخلال أيضا: أخبرنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا إبراهيم بن جميل، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن رجل من آل أنس، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما جاءته النبوة.
الرجل الذي من آل أنس هو: "ثمامة بن عبد الله بن أنس" كما صرح به في رواية أبي المثنى العنبري المتقدمة.
وصرح به أيضا فيما قال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن مسعود، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما بعث نبيا.
والمشهور: أن عبد المطلب ذبح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل للناس مأدبة في اليوم السابع من ميلاده، كما تقدم.
#106#
&تسميته صلى الله عليه وسلم "محمدا"، وذكر ما روي في أسمائه الشريفة&
#107#
وحدث بكر بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم البخاري، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن النضر، حدثنا عيسى بن موسى غنجار، عن خارجة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه عبد المطلب بكبش، وسماه محمدا، فقيل له: يا أبا الحارث، ما حملك على أن تسميه محمدا ولم تسمه باسم آبائه؟ فقال: أردت أن يحمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض.
وفي الأثر الذي خرجه البيهقي من حديث معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة، وذكر الأثر، وتقدم طرف منه، وفيه: فلما كان اليوم السابع ذبح عنه -يعني: عبد المطلب- ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب،
#108#
أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته؟ قال: سميته "محمدا"، قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض.
قيل: سماه جده عبد المطلب "محمدا" صلى الله عليه وسلم لرؤيا رآها، وهي: أنه رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، فإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه "محمدا" صلى الله عليه وسلم، مع ما حدثته به أمه حين قيل لها: إنه قد حملت سيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه "محمدا".
ذكره أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، عن علي بن أبي طالب القيرواني العابر في كتابه "البستان".
وذكره أبو الربيع بن سالم.
وهذا الذي ذكروه رواه أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "دلائل النبوة". فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن
#109#
أحمد بن أبي يحيى، حدثنا سعيد بن عثمان، حدثنا علي بن قتيبة الخراساني، حدثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده، سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال:
لبينا أنا نائم في الحجر، إذ رأيت رؤيا هالتني، ففزعت منها فزعا شديدا، فرأيت كاهنة قريش وعلي نمط خز يضرب منكبي، فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغير وأنا يومئذ سيد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون، هل رابه من حدثان الدهر شيء؟ فقلت لها: بلى - وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته، ولم أفعل؛ لأني كبير قومي- فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش
#110#
يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها قبسا، وقلت: لمن النصيب؟ قالوا: لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها.
فانتبهت مذعورا فزعا، قال: فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك من يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس، ثم قالت لأبي طالب: لعلك أن تكون هذا المولود.
فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، ويقول: كانت الشجرة -والله أعلم- أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، حدثني قيس مولى عبد الواحد، عن سالم، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أمرت "آمنة" وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه "أحمد".
وقد تقدم أنها حين حملت به صلى الله عليه وسلم أتيت فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، وفيه: فإذا وقع فسميه "محمدا".
#111#
قال بعضهم: ألهم الله تعالى قومه أن يسموه "محمدا" صلى الله عليه وسلم لما فيه من الصفات المحمودة ليطابق الاسم المسمى في الصورة والمعنى، وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم الشريف في كتابه العزيز في قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، وقال عز وجل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، وقال عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}.
وقد وافق كل عالم من مؤمني أهل الكتاب أن هذا الاسم سمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة صريحا، وقد ورد مجيئه في زبور داود كذلك.
$[مطلب في ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم وكنيته][1]$
وللنبي صلى الله عليه وسلم أسماء أخر قد تجاوزت المئين، وكثرة الأسماء من باب جلالة المسمى وعظمته وفضله، مع أن فضل نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام- لم يكن ليحيط بمعانيه اسم واحد، بل أسماء كثيرة لا تحصى، كما أن فضله لا يحصى، والآتي من أسمائه دال على ما يأتي من فضله، ملائما لجلالة قدره صلى الله عليه وسلم.
#112#
قال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في مصنفيه: "أحكام القرآن" و"شرح جامع أبي عيسى الترمذي": إن الله عز وجل حظظ النبي صلى الله عليه وسلم يحظظه، وعدد له أسماءه، والشيء إذا عظم قدره عظمت أسماؤه.
وقال بعض الصوفية: لله عز وجل ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، فأما أسماء الله تعالى فهذا العدد حقير فيها، قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بسبعة أبحر مثله مددا.
وأما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلم أحصها إلا من جهة الورود الظاهر بصيغة الأسماء البينة فوعيت منها جملة، الحاضر منها سبعة وستون اسما، ثم ذكرها ابن العربي في الكتابين المذكورين.
وذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة وتسعين اسما.
#113#
وذكر ابن دحية أن أسماءه صلى الله عليه وسلم إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن العظيم والحديث النبوي بلغت الثلاثمائة، ذكره في كتابه "المستوفى في أسماء المصطفى صلى الله عليه وسلم".
ونحن نبدأ -بعون الله وتوفيقه- ببعض أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم الواردة في القرآن، ثم في الكتب المتقدمة، ثم في الأحاديث النبوية، ونتبعها بمعانيها مقتضبة - إن شاء [الله] تعالى.
ففي القرآن العظيم جملة من أسمائه الشريفة، فمنها:
"محمد"، "أحمد"، و"نور" و"سراج منير"، و"منذر"، و"نذير"، و"مبشر"، و"بشير"، و"شاهد"، و"شهيد" و"هاد"، و"رحمة للعالمين"، و"عزيز"، و"حريص على هداية الأمة"، و"رؤوف"، و"رحيم"، و"داع"، و"كريم"، و"مذكر"، و"مبين"، و"صاحب"، و"ولي"، و"مرسل"، و"رسول"، و"مصدق"، و"قدم الصدق"، و"عبد"، و"مطاع"، و"نعمة الله"، و"العروة الوثقى"، و"الصراط المستقيم"، و"النجم الثاقب"، و"النبي الأمي"، و"المزمل"، و"المدثر"، و "رسول الله"، و"عبد الله"، و"داعي الله"، و"أول المسلمين"، و"أول المؤمنين"، و"خاتم النبيين".
وأما أسماؤه صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة فكـ:
"المتوكل"، و"حرز الأميين"، و"عظيم"، و"مأذ"، و "أحمد"،
#114#
و"حمطايا"، و"خير البرية"، و"صاحب القضيب"، و"فارقليط"، و"روح الحق"، و"مقيم السنة"، و"إكليل محمود"، و"الجبار"، و"مشفح"، و"المنحمنا".
ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي ذكرناه في صفته في التوراة اسمه: "المتوكل" و"حرز الأميين".
وورد في بعض طرقه اسمه بـ "المختار" أيضا، رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي الضحى، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: وذكر نعت النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب: "عبدي المتوكل"، و"المختار"، وذكر الحديث.
وجاء في أول سفر من التوراة عن إسماعيل: "وستلد عظيما لأمة عظيمة".
وورد أن اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة أيضا بـ: "مأدمأد" وقد حكيناه في أوائل
#115#
الكتاب عن الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة.
وجاء أن اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة أيضا: "أحمد" و"حمطايا" ويقال: "حمياطا".
ويروى: أن عيسى عليه السلام قال: إني أذهب ويأتيكم خير البرية، فآمنوا به فإني مؤمن به.
وفي ترجمة من الإنجيل: أن عيسى عليه السلام قال: إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى [الله] فيعطيكم بارقليط آخر يكون معكم الدهر كله.
فهذا تصريح بأن الله سبحانه سيبعث إليهم من يقوم مقامه وينوب في تبليغ رسالات الله منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب النبوة الخاتمة، قاله ابن ظفر.
وقد قدمنا عن إنجيل يوحنا أن فيه: البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة.
#116#
وفي موضع آخر من الإنجيل: ابن البشر ذاهب، والبارقليط من بعده يحيي لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل.
وفي موضع آخر: إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكنكم لا تستطيعون حمله، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي.
ويروى: أن داود عليه السلام قال: اللهم ابعث لنا محمدا مقيم السنة بعد الفترة.
وفي ترجمة من زبور داود عليه السلام ما ترجمه أهل الكتاب: وقال داود عليه السلام: اللهم ابعث جاعل السنة يجيء يعلم الناس أنه بشر.
وفيما ترجموه من مزامير داود: أن الله عز وجل أظهر من صهيون إكليلا محمودا.
قالوا: أراد بـ "الإكليل" محمدا صلى الله عليه وسلم، و"صهيون": مكة عند أهل الكتاب.
#117#
وقيل: "الإكليل" ضربه الله مثلا للرئاسة والإمامة، و"محمود" هو: محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيها أيضا: أيضا: تقلد الجبار بسيفك، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك.
ووقع في بعض كتب الأنبياء تسميته صلى الله عليه وسلم بـ "المقدس" وفي ترجمة عن كتاب إشعيا: "مشقح" وهو بالعبرانية، وقيل: بالسريانية، ويقال له بها: المنحمنا.
جاء في الإنجيل الذي عن يوحنا: أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت لهم صنائع لم يصنعها أحد لم يكن لهم ذنب، ولكن من الآن بطروا، فلا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس، لأنهم أبغضوني مجافا، فلو جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط، فهو شهيد علي،
#118#
وأنتم أيضا؛ لأنكم قديما كنتم معي، هذا قولي لكم: لكي لا تشكوا إذا جاء.
وأما الأحاديث الواردة بتعداد أسمائه صلى الله عليه وسلم فكثيرة جدا منها:
ما قال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد في كتابه "أسباب الأسماء": حدثنا محمد بن علي النقاش: أن أبا بشر النعمان بن مدرك الرسعني، حدثهم قال: حدثنا أبو عثمان محمد بن إدريس الشافعي حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب والعاقب الذي لا نبي عبده".
وقد خرجه الشيخان في "صحيحهما" من حديث الزهري، ولفظ البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
#119#
تابعه ابن المقرئ عن سفيان.
وتابعه سفيان بن حسين بن حسن الواسطي، وشعيب بن أبي حمزة، وعقيل، ومالك بن أنس، ومحمد بن الوليد الزبيدي، ومعمر بن راشد، ويونس بن يزيد عن الزهري، وألفاظهم متقاربة.
#120#
وهو عند محمد بن صالح بن دينار المدني التمار عن الزهري مطول، خرجه الحافظ أبو نعيم في "الدلائل"، من حديث أحمد بن صالح قال: وجدت في كتاب بالمدينة عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عمر بن عوف، عن محمد بن صالح التمار، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قال أبو جهل ابن هشام -حين قدم مكة منصرفه عن حمزة-: يا معشر قريش، إن محمدا قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا، فاحذروا أن تمروا طريقه وأن تقاربوه؛ فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة، ما رأيته قط ولا أحد من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة، وهو عدو استعان بعدو.
فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم، والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ولا أصدق موعودا من أخيكم الذي طردتم، فإذا فعلتم فكونوا أكف الناس عنه.
قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه، فإن ابني قيلة
#121#
إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجمتموهم خير كنانة، أو يخرجوا محمدا من بين أظهركم فيكون وحيدا مطرودا، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل ذلك في المذلة إلا سواء، وسأكفيكم حدهم. وقال:
سأمنح جانبا مني غليظا ... على ما كان من قرب وبعد
رجال الخزرجية أهل ذل ... إذا ما كان هزل بعد جد
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله، لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون، إني رحمة، بعثني الله عز وجل ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
ابنا قيلة هما: الأنصار، الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة البهلول بن مازن الزاد بن الأزد، وهو درأ بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان.
و"قيلة" أمهما، نسبا إليها، وهي: قيلة بنت كاهل بن عذرة، من "قضاعة".
قال هشام ابن الكلبي النساب: يقولون: هي عذرة. انتهى.
وقيل: هي قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو بن عامر.
#122#
والحديث هو عند الزهري أيضا، عن عثمان بن أبي سليمان، عن جبير مختصر.
تابعه نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، رواه جعفر بن أبي وحشية وأبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، عن نافع نحوه.
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال: أن نافع بن جبير بن مطعم قال: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لي: أتحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان جبير بن مطعم يعدها؟ قلت: نعم، هي ست: محمد، وأحمد، وخاتم وحاشر، وعاقب، وماح.
فأما حاشر: فبعث مع الساعة نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وأما عاقب: فإنه أعقب الأنبياء.
وأما ماح: فإن الله عز وجل محى به سيئات من اتبعه.
سقط من هذا الإسناد "عتبة بن مسلم" ولا بد منه.
#123#
وخرجه البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير" فقال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير: أنه دخل على عبد الملك بن مروان قال: تدري أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم رضي الله عنه يعدها؟ قال: نعم، هي ست: محمد رسول الله، وأحمد، وخاتم، وحاشر، والعاقب، وماح، فأما الحاشر: فبعث مع الساعة -يعني: بين يدي الساعة بين يدي عذاب شديد، والعاقب: عاقب الأنبياء، وماح: محى الله سيئات من اتبعه.
تابعه يعقوب بن سفيان الفسوي، فرواه في "تاريخه" عن أبي صالح، حدثنا الليث. فذكره.
ومن طريق يعقوب: خرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي داود، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا آدم وأبو صالح وابن بكير قالوا: حدثنا الليث، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير بن
#124#
مطعم: أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: تحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم يعدها؟ فقال نافع: هي ست: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماح: فأما حاشر: فبعث مع الساعة نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وأما العاقب: فإنه عقب الأنبياء. وأما ماح فإن الله عز وجل محى به السيئات؛ سيئات من اتبعه صلى الله عليه وسلم.