نظرات في أشرطة قصص من التاريخ للدكتور طارق سويدان/إعداد : أبي عبدالله الذهبي
نظرات في أشرطة قصص من التاريخ للدكتور طارق سويدان ( 1 ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد
نزولاً عند رغبة أحد الإخوة الأفاضل و رغبة مني في تبيان الحق ، ومنعاً من قيام جدال عقيم حول شخصية معينة ، أحببت أن أشارك بهذه المقالات ؛ و التي هي بعنوان : ( نظرات في أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي للدكتور : طارق سويدان ) ، والتي سأتناول التعليق على هذه الأشرطة مبيناً ما وقع فيه الدكتور من أخطاء أثناء تناوله لموضوع الحديث الذي جرى بين الصحابة ، و ذلك يعلم الله مني أن لا رغبة لي في تتبع العثرات والزلات ، لكن هي أعراض صحابة كرام ، و سيرة سلف عظام ، عز عليّ أن أراها تعرض بهذه الصورة المشوّه الغير مقصودة ، خاصة وأن تلك الأحداث التي جرت ، إنما وقعت في أفضل عصر عرفته البشرية ألا وهو العصر الذهبي كما يسميه أهل الاختصاص ، عصر الخلافة الراشدة ، راجياً من الله أن تكون خالصة لوجهه الكريم ، كما وأنه سأعتمد في بعض الأحيان على التعليقات التي كتبها الأخ خالد الغيث في رسالته : وقفات هادئة مع أشرطة قصص من التاريخ الإسلامي ، والله من وراء القصد .
الشريط الأول : العهد الزاهر .. نشأة ابن الزبير .
قبل أن أبدأ بالتعليق على ما قاله المحاضر ، أود أن أبين منهج أهل السنة في تناول الأحداث التي وقعت بين الصحابة الكرام ، و موقفهم من تلك الأحداث ، وقد تناولت هذا الموضوع بشكل مفصل في مقالة مستقلة ، ولم أحب أن أعيدها هنا حتى لا يطول بنا المقام و نخرج عن صلب الموضع ، لذا سأحيل القارئ الكريم إلى تلك المقالة ، ليقرأها و يعرف منهج أهل السنة في تناول تلك الأحداث ، والمقالة هي :
(عبد الله بن سبأ الحلـ 9 ــقة )
(1/1)
قال المحاضر وفقه الله : ( و لعل من أوثق المراجع في هذه الفترة ما كتبه الإمام العظيم الطبري رحمه الله ) .
قلت : و هذه المقولة لا يسلم له بها ؛ لماذا ؟ لأن الطبري رحمه الله لم يشترط في تأليفه لكتابه تاريخ الأمم و الملوك الصحة في جميع ما يذكر ، بل جمع الغث و السمين في كتابه كما يقال ، و قد نبه رحمه الله إلى ذلك بقوله ، كما في مقدمة كتابه : و ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرط أني راسمه فيه ، إنما هو على ما روّيت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه و الآثار التي أنا مسندها إلى رواتها ، فإن كانوا ثقاة فاقبل قولهم ، و إن كانوا ضعافاً فرد قولهم ، و العهدة ليست علّي . مقدمة تاريخ الطبري : (1/ 25 ) .
فهو هنا – أي الطبري - يرجعنا إلى الرواة و أنه أخذها منهم ، و أنه لم يتعهد بنقل الصحيح ، و إنما تعهد لك بنقل اسم من حدثه هذه الرواية ، و أنت انظر فيها ، إن كانت صحيحة فاقبلها ، و إن كانت غير ذلك فردها .
فالنقل من المصادر التاريخية دون نقد أو تمحيص آفة كثير من البحوث ، و سببه عدم مراعاة المنهج العملي في التعامل مع النصوص التاريخية . راجع للأهمية مقدمة ابن خلدون (1/6 ) و ما بعدها ، حيث تحدث عن هذه الآفة وبين النتائج التي تترتب على النقل دون تمحيص .
ذكر المحاضر وفقه الله : ( أن الذين يكتبون في الوقت الحاضر يعتمدون على ما يكتبه جرجي زيدان ، وأن جرجي زيدان هذا قد اعتمد على روايات الواقدي الذي حرف و شوه صورة تاريخنا الإسلامي ) .
قلت : ذكر المحاضر للواقدي لا يعني أنه الوحيد الذي شوه و زيف التاريخ الإسلامي ، بل إن هناك عدد من الإخباريين مما عرفوا بالدس و التزييف ، أمثال : أبي مخنف ( لوط بن يحيى ) و محمد بن السائب الكلبي ، و نصر بن مزاحم ، و غيرهم الكثير .
(1/2)
بل إن الواقدي هذا إذا قسناه بما فعله أبي مخنف من تحريف و كذب في تاريخ أمتنا ، لوجدنا البون شاسعاً ، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال عن الواقدي هذا : أما جمهور المصنفين في الأخبار و التواريخ و السير و الفتن من رجال الجرح و التعديل ، منهم من هو في نفسه متهم ، أو غير حافظ كأبي مخنف لوط بن يحيى ، و هشام بن محمد بن السائب الكلبي ، و إسحاق بن بشر ، و أمثالهم من الكذابين ، بل الواقدي خير من ملء الأرض من مثل هؤلاء ، و قد علم ما قيل فيه . الرد على البكري (ص 1/77 ) .
إذاً فمقولة المحاضر لا يسلم له بها على إطلاقها ، فكان الواجب عليه أن يذكر الأخطر ثم الأخف .
ثم ننتقل بعدها إلى الحديث عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، فقد أفاض المحاضر وفقه الله في الحديث عن نشأة ابن الزبير ، و جمع الغث والسمين مما ذكر في ترجمته ، و بغض النظر عن ذلك ، فإنه – أي المحاضر – قد أغلظ في الحديث عن الخليفة عبد الملك بن مروان بقوله : ( و كان كما يصفه عدو من أعدائه والذي كان بينه و بينه المعارك الطاحنة ، عبد الملك بن مروان ) .
قلت : متى عرف المسلمون الأوائل الحقد والعداوات حتى يقال إن عبد الملك بن مروان كان عدواً لابن الزبير ؟! فكان من الأفضل للمحاضر أن يستخدم كلمة أخرى أفضل من كلمة ( عدو ) للتعبير بها عن العلاقة التي كانت بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان .
ذكر المحاضر وفقه الله في أثناء حديثه عن ولادة ابن الزبير رواية وإن كانت ضعيفة السند و معضلة ، لكن لها شواهد تتقوى بها ، لكن الذي أود التعليق عليه هو أن المحاضر استخدم بعض المصطلحات التي لا تناسب ، كقوله : ( وأخذوا يسيرون في مظاهرة عجيبة !!!!! ) .
(1/3)
قلت : إن دراسة التاريخ الإسلامي لابد له من فقه خاص به ، مع المراعاة في استخدام الألفاظ والكلمات حتى و لو كان ذلك بهدف النقد العلمي والتاريخي ، لأن بعض هذه الألفاظ تخل بالعدالة . فمتى عرف الصحابة الكرام المظاهرات حتى يسيروا بها في شوارع المدينة ؟!
ننتقل بعد هذا إلى الحديث عن بداية فتنة مقتل عثمان ، حيث ذكر المحاضر وفقه الله في نفس الشريط ، أن الفتنة بدأها عبد الله بن سبأ ، و كان معظم الروايات التي استدل بها و ما سيأتي بعدها عن طريق سيف بن عمر التميمي ، و لا غبار على فعله هذا ، إذ أن أغلب الذين كتبوا عن ابن سبأ حصروا أخباره من طريق سيف بن عمر ، لكن الصحيح أن لابن سبأ هذا ذكر في غيرها من المصادر المتقدمة من أمثال كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر ، و تاريخ الإسلام للذهبي ، و غيرها . راجع للأهمية المقالة التالية :
(عبد الله بن سبأ الحلـ 5 ــقة )
والذي أنتقده على المحاضر أنه لو أشار إلى الروايات التي ذكرت ابن سبأ من غير طريق سيف ، لكان أفضل . فكان هذا الصنيع من المحاضر قصور منه في البحث عن الروايات الأخرى التي ذكرت ابن سبأ .
ثم إن المحاضر وفقه الله أكمل أحداث الفتنة عن طريق نفس الإخباري سيف ، و ذكر ما حدث من أمور في البصرة و ما جرى بين الثائرين و بين عثمان رضي الله عنه وانتهى الشريط الأول عند رحيل الوفد .
و قد تناول الأخ خالد الغيث هذه الأحداث بالنقد في كتابه : استشهاد عثمان و وقعة الجمل ( ص 61-69 ) حيث اتضح عدم صحة معظم ما أورده المحاضر عن تلك الأحداث ؛ لاعتماده على مجرد النقل من روايات ضعيفة .
و لنا لقاء آخر في حلقة أخرى مع الشريط الثاني بإذن الله تعالى .
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
أحبتي في الله انتهينا في الحلقة الماضية من الحديث والتعليق على الشريط الأول من أشرطة الدكتور طارق السويدان : قصص من التاريخ الإسلامي .
واليوم إن شاء الله سأكمل ما بدأت به ، لكن أود أن أنبه إلى أمر مهم ، و هو أن الكلام والتعليق والنقد الذي أقوم به ، لا ينصب على المحاضر نفسه ، و لم أقصد تجريحه ، وإنما هو مجرد نقد للأشرطة لا غير ، فلا يظن ظان أنه جاء الدور على الدكتور طارق سويدان كما قاله البعض .
و لو كنت أود تجريح المحاضر وفقه الله ، لكنت قد توقفت على كل كلمة قالها في الشريط الأول ، و لحملتها أكثر مما تحتمل من معنى – كما يفعل البعض - ، بل قد تجاوزت عن الكثير مما ذكر في ترجمة ابن الزبير و أثناء طرحه لموضوع بداية الأحداث التي أدت إلى مقتل عثمان رضي الله عنه ، و لم أتناولها بالنقد ، مكتفياً بالتعليق على بعض الأمور ، حتى نصل إلى أصل الموضوع و هو الذي زل فيه المحاضر و تناوله بصورة غير صحيحة ، ألا و هو أحداث الفتنة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه . فقط للعلم والله الموفق .
الشريط الثاني : مقتل عثمان رضي الله عنه ..
تحدث المحاضر وفقه الله في هذا الشريط عن دور ابن سبأ في إذكاء نار الفتنة بين صفوف المسلمين ، و كان جملة ما أورده من روايات ، من طريق سيف بن عمر ، حيث يقول : ( يقول سيف بن عمر الضبي الذي أرّخ لهذه المسألة تأريخاً وثيقاً .. ) .
(1/5)
قلت : وسيف بن عمر هذا الذي يقول عنه المحاضر أنه أرخ للأحداث تأريخاً وثيقاً ، كلام فيه نظر ، و يمكن أن يعرف ذلك من خلال معرفة منهج سيف في تناوله لأحداث الفتنة ، قد فصلت القول فيه و في مروياته في مقال مستقل ، و كان خلاصة ما خرجت به : أن مروياته في الفتنة لا تؤخذ كلها على علاتها ، بل تدقق و تنقح و يؤخذ ما يجد له ما يعضده و يؤيده من روايات أخرى ، فإن لم نجد ما يعضدها ، ينظر فيها ، فإن كانت تسير و تتفق مع سيرة الصحب الكرام ، قبلت استئناساً ، وإن كانت خلاف ذلك ، ردت ، ومعظم مروياته ضعيفة ، انظر : http://www.alkahf.net/html/Forum3/HTML/000094.html .
ذكر المحاضر وفقه الله ضمن حديثه عن مسير أهل الفتنة نحو المدينة ، أنهم – أي أهل الفتنة - عند وصولهم إلى أطراف المدينة : ( أرسلوا أحدهم يستطلع لهم الأمر هل أهل المدينة أيضاً عندهم نقمة على عثمان .. ثم ذكر المحاضر : أن بعض الصحابة عندهم ملاحظات على عثمان مثل ملاحظات هؤلاء ، و لكن ليست في أمر الدين وإنما بعض الملاحظات في طريقة الحكم ، و من الذين كانوا عندهم ملاحظات شديدة على عثمان ، عمار بن ياسر رضي الله عنه ) .
قلت : لم أجد في هذا الموضوع بعد طول بحث في المصادر والمراجع إلا روايات تاريخية تحمل في طياتها غثاً و سميناً ، قد خطم بعضها بأسانيد ، وأخرى لا خطام لها ولا زمام ، ولم أجد من أغنى فيها بحثاً إلا لماماً ، و موضوع كهذا لا يمكن الاعتماد على روايات تسرح في أعراض الصحابة كما تشاء و تمرح ، و عليه فلا مكان في مثل هذا الموضوع إلا للروايات الصحيحة .
(1/6)
بل إن الثابت تاريخياً أن عمار رضي الله عنه كان قد وقف ضد أهل الفتنة في منعهم الماء عن عثمان ، فقد أخرج المحب الطبري في الرياض النضرة ( 3/84) رواية عن أبي الزناد عن أبي هريرة : أن عثمان لما حوصر ومُنع الماء ، قال لهم عمار – أي قال لأهل الفتنة - : سبحان الله قد اشترى بئر رومة ، و تمنعونه ماءها ، خلو سبيل الماء ، ثم جاء إلى علي و سأله إنفاذ الماء إليه ، فأمر براوية الماء . وقال المحب الطبري معلقاً : و هذا يدل على رضائه عنه – أي رضا عمار عن عثمان رضي الله عهما - .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد سرده لبعض الأحداث التي جرت من رجوع أهل الفتنة مرة أخرى إلى المدينة و تطويقها ، و طلبهم من عثمان أن يخلع نفسه ، وأن عثمان استشار كبار الصحابة في هذا الأمر فقال المحاضر : ( عندها عثمان رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم ، ما تقولون إذا كان الرأي عندكم هو أن أترك الخلافة و تخمد الفتنة أتركها ، فجميع الصحابة ، علي و طلحة و ... أجمعوا على عدم تركه للخلافة ، و قال ابن عباس قولته المشهورة : يا أمير المؤمنين لاتنزع قميصاً قمصك الله إياه ، أو كلما غضب قوم على خليفتهم عزلوه .. ) .
قلت : الثابت أن الذي قال تلك المقولة هو ابن عمر حيث كان المغيرة بن الأخنس قد أشار على عثمان بخلع نفسه ، فرد ابن عمر عليه بقولته تلك ، و نصحه بأن لا يخلع نفسه و قال له : فلا أرى لك أن تخلع قميصاً قمصكه الله فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم أو أميرهم قتلوه . طبقات ابن سعد (3/66) بإسناد صحيح و رجاله رجال الشيخين ، و تاريخ خليفة (ص170) بإسناد حسن .
(1/7)
ذكر المحاضر وفقه الله : ( أن عثمان رضي الله عنه لما رأى أن أهل المدينة لا يقدرون على فعل شيء والمدينة بيد أهل الفتنة ، كَتَبَ كُتُباً سرية وأرسلها مع الرسل بالسر إلى الأمصار .. إلى أن قال : فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق .. وأول من تحرك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فبعث جيشاً سريعاً .. ) .
قلت : هذا الخبر لا يصح منه شيء ، لأن منهج عثمان رضي الله عنه كان الصبر و الكف عن القتال امتثالاً لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم له ، لهذا وضع مصلحة الرعية في المقام الأول ، فعندما عرض عليه معاوية أن يبعث إليه بجيش يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياه قال رضي الله عنه : أنا لا أقتر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند يساكنهم ، و أضيّق على أهل الهجرة و النصرة ، فقال له معاوية : والله يا أمير المؤمنين لتغتالنّ أو لتغزينّ . فقال عثمان : حسبي الله ونعم الوكيل . الطبري (4/345) .
ذكر المحاضر وفقه الله ، بعد أن سرد أحداثاً كثيرة جميعها من طريق سيف بن عمر - وأغلبها ضيف - ذكر محاولة أهل الفتنة قتل عثمان رضي الله عنه ، حيث قال : ( ثم كان آخر من دخل عليه محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فدخل عليه ، وأول ما رآه عثمان قال : ويلك أعلى الله تغضب ، هل لي إليك جرم أخذت حق الله منك فتغضب ، فلما واجهه عثمان بهذا تراجع محمد بن أبي بكر و خرج .. ) .
(1/8)
قلت : كلام المحاضر هذا فيه الصحيح والسقيم ، فمسألة اشتراك محمد بن أبي بكر في الفتنة ضد عثمان ، و اتهامه بقتله رضي الله عنه . فهذا قد اضطربت الروايات فيه ، ولم يثبت . نعم هناك روايات تقول إنه كان معهم ؛ لكن هذه الروايات ليس لها سند صحيح، و أصح ما قيل في هذه المسألة ما ثبت عن الحسن البصري رحمه الله و هو شاهد عيان كان عمره وقتها أربع عشرة سنة ، عندما سُئل أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين و الأنصار ؟ فقال : لا كانوا أعلاجاً من أهل مصر . تاريخ خليفة (ص 176) بسند صحيح .
و قد فصلت القول في هذه المسألة في مقال مستقل حول براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان رضي الله عنه ، انظر : http://209.39.13.51:81/sahat?13@50.HYCba7bKgh4^5@.ee77e5d .
ذكر الحاضر بعد أن سرد أحداث مقتل عثمان رضي الله عنه من طريق سيف بن عمر ، أن مروان بن الحكم هو الذي صلى عليه ، فقال : ( فخرج معهم الصبيان والنساء ولم يسمحوا لأهل المدينة أن يخرجوا في دفنه ، فصلى عليه مروان بن الحكم و كان أقربهم إليه نسباً ) .
قلت : إن الثابت تاريخياً أن مروان بن الحكم و غيره من الصحابة أخرجوا من دار عثمان محمولين لما أصابهما من الجراح يوم الدار ، فقد أخرج ابن عبد البر عن كنانة مولى صفية بنت حيي بن أخطب قال : شهدت مقتل عثمان ، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شبان قريش ملطخين بالدم محمولين ، كانوا يدرؤون عن عثمان رضي الله عنه : الحسن بن علي ، و عبد الله بن الزبير ، و محمد بن حاطب ، و مروان بن الحكم . الاستيعاب لابن عبد البر (3/1387) ، و التاريخ الكبير للبخاري (7/237) . و هذا يجعل اشتراكه في الصلاة على عثمان أمراً مشكوكاً فيه .
كما وأن المحاضر ذكر أن عُمْر عثمان رضي الله عنه يوم مقتله كان : ( ثلاث و ثمانين سنة ) .
(1/9)
قلت : بل إن الصحيح في هذا الأمر هو ما حكاه الذهبي في تاريخ الإسلام (ص481 ) : أنه قتل و هو ابن اثنتين و ثمانين سنة و هو الصحيح .
و لنا لقاء آخر بإذن الله تعالى مع الشريط الثالث .
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الثاني ، و كان هو عبارة عن مفتاح الموضوع الذي نحنن بصدد التعليق عليه ، ألا و هو الأحداث التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه ، و هنا مكمن الخطر و الأرض الزلقة التي زل فيها الكثير إلا من رحم ، فسبحان الله .
الشريط الثالث : توسع الفتنة وانتشارها ..
ذكر المحاضر وفقه الله بعد أن سرد بعض الأحداث التي تلت مقتل عثمان من محاولة الثوار السعي و الضغط على طلحة والزبيرو علي لقبول البيعة ، و أن الرفض جاء من الجميع ، فقال : ( و ظلت المحاولات خمسة أيام .. و ذكر طلب الثوار من أهل المدينة أن يبايعوا أحداً وإلا قتلوا علي و طلحة الزبير .. الخ ) .
قلت : وهذا الخبر من مبالغات الإخباريين ، حيث أن الثابت تاريخياً أن بيعة علي رضي الله عنه كانت في نفس اليوم الذي قتل فيه عثمان رضي الله عنه ، و دليله ما ذكره ابن سعد في طبقاته أن بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة كانت يوم الجمعة سنة خمس و ثلاثين و ذكر من جملة الصحابة الذين بايعوا طلحة و الزبير و جمع من الصحابة ممن كان في المدينة . الطبقات ( 3/31 ) .
ذكر المسعودي أن علياً بويع في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه يعني البيعة الخاصة ، ثم قال إنه بويع البيعة العامة بعد مقتل عثمان بأربعة أيام . مروج الذهب للمسعودي (ص358) .
(1/10)
قال المحاضر وفقه الله : ( أن طلحة والزبير رفضا بيعة علي إلا بأخذ الثأر من قتلة عثمان ، وأن أهل الفتنة أجبروهم على البيعة و ذكر الطريقة التي أحضروا فيها إلى المسجد من أجل البيعة كرهاً .. قال طلحة إنما أبايع كرهاً .. فقدم يده ليبايع و كانت يده مشلولة فقال أحد الجلوس : أول يد تبايع يد شلاء هذا أمر لا يتم .. الخ ) .
قلت : إن الصحيح الثابت في بيعة علي رضي الله عنه ما قاله محمد بن الحنفية : كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه فقام فدخل منزله ، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن هذا الرجل قد قتل و لا بد للناس من إمام و لا نجد اليوم أحد أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة و لا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعلوا ، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا : لا والله ! ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإنَّ بيعتي لا تكون خفياً و لا تكون إلا عن رضا المسلمين ، قال سالم بن أبي الجعد : فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يُشغب عليه ، و أبى هو إلا المسجد ، فلما دخل المهاجرون و الأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس .
و هناك رواية ثانية عن أبي بشير العابدي يقول فيها : إن المهاجرين و الأنصار و فيهم طلحة و الزبير أتوا علياً فقالوا له : إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، و قد طال الأمر . فقال لهم : إنكم اختلفتم إليَّ و أتيتم و إني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم ، و إلا فلا حاجة لي فيه . فقالوا : ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله . فبايعوه في المسجد .
(1/11)
و رواية ثالثة أخرى تفيد أن طلحة و الزبير قالا : يا علي ابسط يدك ، فبايعه طلحة و الزبير و هذا بعد مقتل عثمان لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة – و المقصود من هذه البيعة هي البيعة العامة ، لأن عثمان رضي الله عنه قتل يوم الثاني عشر من ذي الحجة ، و كانت بيعة علي في نفس اليوم الذي قتل فيه عثمان - .
و هناك رواية رابعة أخرى عن عوف بن أبي جميلة العبدي قال : أمّا أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول : إن علياً جاء فقال لطلحة : ابسط يدك يا طلحة لأبايعك فقال طلحة : أنت أحق و أنت أمير المؤمنين فابسط يدك فبسط عليّ يده فبايعه . كلها عند الطبري في تاريخه ( 4/427-428) و (4/434) . و كذلك في فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/573) .
و ذكر اليعقوبي في تاريخه : أن طلحة و الزبير بايعا علياً وكان أول من بايعه و صفق على يده يد طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه . تاريخ اليعقوبي (1/178) .
يقول الحافظ الذهبي في شأن البيعة : لما قتل عثمان سعى الناس إلى علي و قالوا : لابد للناس من إمام فحضر طلحة و الزبير و سعد بن أبي وقاص و الأعيان ، و كان أول من بايعه طلحة ثم سائر الناس. دول الإسلام للذهبي (1/28 ) .
و أما الروايات المخالفة التي نقلها الإمام الطبري فمنها من يقول بأن طلحة و الزبير بايعا كرها ، حيث روى من طريق الزهري قال : بايع الناس علي ابن أبي طالب فأرسل إلى الزبير و طلحة فدعاهما إلى البيعة فتلكّأ طلحة فقام الأشتر و سل سيفه و قال : والله لتبايعن أو لأضربن بهما بين عينيك فقال طلحة : و أين المهرب عنه ! فبايعه و بايعه الزبير و الناس . و هناك روايات أخرى تبين أنهما بايعا و السيف فوق عنقيهما . تاريخ الطبري (4/429) و (4/431) و (4/435) . فهذه الروايات كلها لا تصح لأنها من روايات الواقدي و أبي مخنف الكذاب .
(1/12)
قلت أيضاً : إن قيام المحاضر وفقه الله بنقل تلك الروايات من كتاب البداية النهاية لابن كثير جعله يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه غيره ممن تحدث في هذه الأمور ، و قيام المحاضر نفسه بالتحذير من الواقدي ، و من مروياته ، حيث إن ابن كثير رحمه الله قد اعتمد على كتاب تاريخ الطبري خاصة في أحداث تلك الفترة ، فاختار أتم الروايات في الموضوع دون الاعتماد على الصحيح ، مع حذف أسانيدها ، وهذا باعترافه هو ، فلو أن المحاضر وفقه الله رجع إلى تاريخ الطبري لاستطاع أن يعرف أن هذه الرواية و غيرها مروية من طريق الواقدي و الأخرى من طريق أبي مخنف ، الذي اعتمد عليه المحاضر في أحداث معركة صفين و ما تلاها من أحداث حتى مقتل الحسين .
والشيء بالشيء يذكر فإنه قد ورد اعتراض من أحد الإخوة ، قائلاً لماذا لا يتم التحذير من كتاب البداية النهاية لابن كثير .. الخ ما ذكر .
قلت : إن الإنسان الذي لا يستطيع أن يميز بين الغث والسمين ، و بين الصحيح والسقيم ، فلا يقرب من هذه الكتب بل عليه بالكتب المختصرة التي بينت بعض الصحيح و تناولت تلك الأحداث بشيء من الحيادية و الموضوعية ، لكن طالب العلم المتخصص والقادر على دراسة الأسانيد والمتون و تمييزها من الأصيل والدخيل ، فيكون واجب عليه أن يقرأ في تلك الكتب و ينقحها بقدر المستطاع حتى يخرج لنا بتلك الصورة الصحيحة النقية الناصعة عن تاريخ أمتنا الإسلامية .
(1/13)
و قد ظهرت بعض الدراسات التي تناولت هذه الأمور ، مثل : كتاب : مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري للدكتور يحيى بن إبراهيم اليحيى ، و كتاب استشهاد عثمان و وقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر للدكتور : خالد الغيث ، وهناك رسالة بعنوان : مرويات ابن إسحاق في تاريخ الطبري لم تطبع بعد ، كما وأن هناك كتاب نفيس غاية في الأهمية بعنوان : أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري للدكتور محمد نور ولي ، وإنك لتصعق حين ترى الكم الهائل من الروايات المزيفة والموضوعة التي دسها الرافضة في تاريخنا الإسلامي .
نعود إلى إيراد الحقيقة حول ما ذكره المحاضر وفقه الله عن بيعة علي رضي الله عنه .
يقول ابن العربي عنها – أي عن طريقة بيعة طلحة لعلي كما تصورها الروايات الضعيفة - : فإن قال طلحة : بايعته و اللج على عنقي ، قلنا اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في القفا لغة قفي ، كما يجعل في الهوى هوي ، و تلك لغة هذيل لا قريش فكانت كذبة لم تدبر. العواصم من القواصم (ص148) .
و قول من قال : بايع علياً يد شلاّء – أي يد طلحة - والله لا يتم هذا الأمر . قال ابن العربي عن ذلك : و أما من قال يد شلاء و أمر لا يتم ، فإن يداً شلت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر و يتوقى بها من كل مكروه . و قد تم الأمر على وجهه ، و نفذ القدر بعد ذلك على حكمه و جهلَ المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه . نفس المصدر (ص148-149) .
قال المحاضر وفقه الله : ( وتتابع الناس بالمبايعة ولم يبايع إلا نفر قليل لم يبايعوا .. – ثم ذكر خطبة علي و قال بعدها : بايع كل الناس إلا مجموعة من الصحابة اعتزلوا و تخلفوا ، على رأسهم سعد بن أبي وقاص و عبد الله عمر .. الخ ) .
(1/14)
قلت : و في رواية الطبري عن محمد بن الحنفية قال : بايعت الأنصار علياً إلا نفير يسير . تاريخ الطبري (4/429) . و هم سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و غيرهم ، قلت : هذا غير صحيح فإن حضورهم لعلي و اعتذارهم عن الوقوف معه في حرب أهل الشام أو فيما يدور بينه وبين المسلمين من القتال في العراق ، لدليل واضح على أن في أعناقهم بيعة تلزمهم بطاعته حين اعتذروا ، و لو كان الأمر خلاف ذلك لتركوه يخرج دون أن يذهبوا إليه و يعتذروا له ، فهم حينئذ غير ملزمين بطاعته .
و يبرر الباقلاني موقف الصحابة الذين تأخروا عن نصرة علي فيقول في هذا الصدد : فإن قال قائل : فإن
كانت إمامة علي من الصحة و الثبوت بحيث وصفتم ، فما تقولون في تأخر سعد و ابن عمر و ابن مسلمة
و أسامة و غيرهم عن نصرته و الدخول في طاعته ؟ قيل له : ليس في جميع القاعدين ممن أسمينا أو ضربنا عن ذكره من طعن في إمامته و اعتقد فسادها ، و إنما قعدوا عن نصرته على حرب المسلمين لتخوفهم من ذلك و تجنب الإثم فيه . انظر هذا الخبر في :التمهيد في الرد على الملحدة (ص233-234) .
و يذكر ابن العربي : أن قوماً قالوا تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد و ابن مسلمة و ابن عمر
و أسامة ، فيرد عليهم بقوله : قلنا أما بيعته فلم يتخلف عنها ، و أما نصرته فتخلف عنها قوم ؛ منهم من ذكرتم ؛ لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد و أعمل نظره و أصاب قدره . العواصم من القواصم (ص 150) .
و خلاصة القول لئن كانت بعض الروايات تستثني من البيعة بعض الصحابة فإن ذلك لا يقدح في خلافة علي رضي الله عنه .
ذكر المحاضر وفقه الله أن كبار الصحابة ( الذين لم يبايعوا ومن الذين بايعوا مكرهين .. ذهبوا إلى علي رضي الله عنه .. فقالوا : إنا قد اشترطنا إقامة الحدود .. الخ ) .
(1/15)
قتلت : هذا الخبر على الرغم من ضعف سنده ، فإن في متنه مقالاً ، و في ذلك يقول ابن العربي : فإن قيل بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان ، قلنا : هذا لا يصح في شرط البيعة . العواصم من القواصم (ص 150) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن طلحة الزبير طلبا من علي أن يسمح لهم بالاستعانة بقوة من خارج المدينة من أجل أخذ الثأر من القتلة .
قتلت : و هذا الخبر لا يصح منه شيء ؛ لأن طلحة والزبير رضي الله عنهما كانا حريصين على إصلاح ذات البين وإطفاء الفتنة ومنع إراقة المزيد من دماء المسلمين .
ذكر المحاضر وفقه الله ، ( أن علي رضي الله عنه بدأ بتغيير الولاة الذي كان قد ولاهم عثمان على الأمصار ، وأن ابن عباس رض الله عنهما قد اعترض عليه و نصحه بعدم فعل ذلك ، وأن علي أصر على تنفيذ هذا القرار ، فكانت هذه أكبر غلطة اتخذها علي كما يقول ذلك أهل السير و المؤرخين ) .
قلت : إن علياً رضي الله عنه إمام مجتهد له أن يعزل عمال عثمان إذا رأى المصلحة في ذلك ، و قد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو المعصوم خالد بن سعيد بن أبي العاص على صنعاء و عمرو بن العاص على عمان ، فعزلهما الصديق من بعده ، و ولى الصديق خالد بن الوليد و المثنى بن حارثة ، فعزلهما الفاروق من بعده ، و ولى الفاروق عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فعزلهما عثمان من بعده . تاريخ خليفة (ص97،102،122-123،155،178) و تاريخ الطبري (3/343) (4/241) .
و هكذا فعل علي لما رأى المصلحة في ذلك ؛ فهل ينتقد عاقل الصديق و الفاروق و ذا النورين في عزلهم هؤلاء العمال الأكفاء ! .
أما القول بأنه عزل جميع عمال عثمان ، هذا غير صحيح فالعزل لم يتحقق إلا في معاوية في الشام و خالد بن أبي العاص في مكة ، و أبي موسى الأشعري في الكوفة ، على أنه أقره بعد ذلك . تاريخ الطبري (4/442) و تاريخ خليفة (ص201) .
(1/16)
و أما البصرة فإن واليها خرج من نفسه ، و في اليمن أخذ أميرها يعلي بن مُنية – ذكر المحاضر أن اسمه يعلي بن أمية و هذا وهم - مال جباية اليمن و قدم مكة بعد مقتل عثمان و انضم إلى طلحة و الزبير و حضر معهم موقعة الجمل ، و ابن أبي السرح خرج إلى فلسطين و مكث هناك حتى مات بعد أن تغلب ابن أبي حذيفة على مصر . تاريخ الطبري (4/421) و (4/450) .
و هكذا فإن أميري اليمن و البصرة عزلا أنفسهما و أمير مصر عزله المتغلب عليها و أمير الكوفة أقره على منصبه فلم يرد العزل إلا في حق معاوية والي الشام و خالد والي مكة .
و أما القول بأنه عزلهم قبل أن تأتيه بيعة أهل الأمصار ، قلت : إن تولية الإمام للعمال على الأمصار غير مشروط بوصول بيعة أهلها له ، فمتى بايع أهل الحل و العقد ، لزمت بيعته جميع البلدان النائية عن مركز الخلافة ، و لو كانت تولية الخليفة العمال على الأمصار متوقفة على وصول بيعة أهلها له ما تمت بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه تصرف بإرسال جيش أسامة و محاربة المرتدين قبل وصول بيعة أهل مكة و الطائف و غيرها من البلاد ، و كذلك فعل الفاروق و ذي النورين فإنهما تصرفا في أمور المسلمين أيضاً قبل وصول بيعة الأمصار إليهما .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك سلسلة من الروايات من طريق سيف بن عمر ، و معظمها ضعيف ، و كان من بين ما ذكر المحاضر أن معاوية رفض البيعة لعلي ، وأنه أرسل رسالة بيد شخصين .. الخ ، ثم قال : فعرف الناس أن معاوية يرفض البيعة لأنه ختم عليها بختمه .. ومعناها أن معاوية لا يقر بالخلافة لعلي ) .
قلت : و هذا الخبر لا يصح منه شيء ، فمعاوية رضي الله عنه يقر بفضل علي ، وأحقيته بالخلافة ، و حقيقة الأمر أن معاوية كان عاتباً على علي بسبب تأجيله إقامة الحدود على قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، و لكن هذا العتب لم يدفع معاوية إلى الانتقاص من علي بل على العكس فقد كان يصرح لمن حوله بأن علياً أفضل منه .
(1/17)
وهو ما أخرجه يحيى بن سليمان الجحفي بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع علياً ، أم أنت مثله ؟ فقال : لا والله إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني ، و لكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ، وأنا ابن عمه ، والطالب بدمه فأتوه ، فقولوا له : يدفع إلىّ قتلة عثمان ، وأسلم له ، فأتوا علياً فكلموه ، فلم يدفعهم إليه .. ) . سير أعلام النبلاء للذهبي (3/140) ، الفتح (13/92) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن طلحة والزبير رضي الله عنهما قد خرجا إلى الشام .
قلت : بل الثابت أن طلحة الزبير رضي الله عنهما استأذنا علياً في العمرة فأذن لهما ، و في مكة التقيا بأم المؤمنين عائشة .
ذكر المحاضر وفقه الله رواية من طريق سيف بن عمر أن عبد الله بن عمر استأذن أم كلثوم بنت علي برغبته في الذهاب إلى مكة .. ثم ساق خبراً طويلاً يبين خوف علي من قيام ابن عمر من الذهاب إلى الشام وأنه أرسل من يبحث عنه و يرده .. الخ ) .
قلت : و هذا خبر فيه تحريف و كذب ؛ إذ أن حقيقة الأمر هي ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى ابن عمر قال : ( لما بويع لعلي أتاني فقال : إنك امرؤ محبب في أهل الشام ، فإني قد استعملتك فسر إليهم ، قال : فذكرت القرابة و ذكرت الصهر ، فقلت : أما بعد فوالله لا أبايعك – أي على قبول ولاية الشام ؛ لأن مدار الرواية على ذلك - ، قال فتركني و خرج .. ) المصنف (7/472) . و مما سبق يلاحظ أن تهجم علي بن أبي طالب على عبدا لله بن عمر يعد من الأخبار المكذوبة على الصحابة رضوان الله عليهم .
ثم ذكر المحاضر وفقه الله بعض الأحداث المتعلقة بخروج طلحة والزبيرو عائشة إلى البصرة و جميع هذه الأخبار من طريق سيف بن عمر ، و جل ما ذكر المحاضر إما ضعيف وإما ليس له ما يعضده .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد تلك الأحداث ما يلي : ( قدم يعلي بن أمية بأموال اليمن .. فكان عوناً لهم في التجهز والخروج لقتال قتلة عثمان .. الخ ) .
(1/18)
قلت : إن السبب الحقيقي لخروج جيش مكة إلى البصرة ليس من أجل الحرب ، بل من أجل الإصلاح بين الناس حين اضطرب أمرهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، و ليس من أجل المطالبة بدم عثمان ، و دليل ذلك حديث الحوأب ، ففي أثناء الطريق إلى البصرة مر الجيش على منطقة يقال لها الحوأب ، فنبحت كلابها فلما سمعت عائشة هذا النباح ، طرأ عليها حديثاً فقالت ما هذه المنطقة ؟ قالوا هذه الحوأب ، فتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث روى أحمد و ابن حبان و الحاكم عن قيس بن حازم أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب ، فقالت : ما أظنني إلا راجعة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : أيتكن تنبح عليها كلاب الحواب . فقال لها الزبير : ترجعين ؟! – أي لا ترجعي لأنهم يحترمونك – عسى الله أن يصلح بك بين الناس . هذا لفظ شعبة ، أما لفظ يحيى فقال : لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلاً ، فنبحت الكلاب فقالت : أي ماء هذا ؟ قالوا : ماء الحوأب ، قالت : ما أظنني إلا راجعة فقال بعض من كان معها : بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله ذات بينهم . قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ذات يوم : كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب . السلسلة الصحيحة (1/846) .
و قد تخطى المحاضر وفقه الله هذا الحديث ولم يتطرق له لا من قريب ولا من بعيد ، لأنه أخذ بروايات سيف بن عمر التي تبين أن أصحاب الجمل خرجوا من أجل الحرب لا من أجل الإصلاح . و لو تطرق إليه لوقع في التناقض .
و انتهى الشريط بأن قرر علي رضي الله عنه التوجه نحو الكوفة بدلاً من البصرة لأن عدد جيشه أقل من جيش مكة .
ولنا لقاء آخر مع الشريط الرابع بإذن الله تعالى .
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
(1/19)
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الثالث ، و اتضح لنا أن جل ما استند إليه المحاضر وفقه الله من روايات و إما ضعيفة إما ليس لها ما يعضدها ، واليوم إن شاء الله نكمل المشوار .
الشريط الرابع : أحداث البصرة و ما شملته من مواقف ..
ذكر المحاضر وفقه الله عدداً من الروايات من طريق سيف بن عمر تتحدث عن الأحداث التي جرت في البصرة ، من مراسلات و اتفاقات و حروب بين حكيم بن جبلة و جيش مكة إلى غيرها من أمور .
قلت : - رحمك الله - إن اتهام أصحاب الجمل بأنهم ما خرجوا إلى البصرة إلا للمطالبة بدم عثمان ، وأنهم لم يبايعوا علياً إلا مكرهين ، فهذه الاتهامات الموجهة لأصحاب الجمل لم يصح منها شيء ، و قد سبق الرد عليها في حلقة ماضية .
تحدث المحاضر وفقه الله أن أصحاب الجمل بعد أن استولوا على البصرة قاموا بإرسال الرسل إلى الأمصار يحثونهم على الاقتداء بهم .
قلت : - رحمك الله - و هذا الخبر غير صحيح ؛ لأن أصحاب الجمل رضوان الله عليهم أجمعين قد خرجوا للإصلاح بين الناس كما هو مبين بالروايات الصحيحة في حلقة مضت ، و ليس لإشعال الفتنة وإراقة دماء المسلمين .
ذكر المحاضر وفقه الله أن الوفد الذي ذهب إلى دار عثمان بن حنيف ، قاموا بضربه و نتف شعر لحيته .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله - و هذا الخبر ضعيف جداً مروي من طريق أبي مخنف الكذاب ، ولم يروى من طريق صحيح يعوّل عليه ، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم يُنزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة .
و قد نص الفقهاء على أنه لا يجوز التعذيب بما هو محرم شرعاً ، و هذه القاعدة تجدها أيها القارئ الكريم في أي من الكتب الفقهية باب الحدود والتعزيرات .
فكيف يقدم الصحابة رضوان الله عليهم على فعل ما هو محرم ؟!!
ذكر المحاضر وفقه الله أن علياً رضي الله عنه خرج من المدينة في إثر أصحاب الجمل ، وأنه أراد أن يلحق بهم .
(1/20)
قلت : - رحمك الله - هذا الأمر لم يحدث بل الصحيح أنه خرج من المدينة عاقداً العزم على التوجه إلى الكوفة ليكون قريباً من أهل الشام ، و لم يخرج في أعقاب أصحاب الجمل .
وانتهى الشريط الرابع بالاتفاق على الصلح بين جيش علي و أصحاب الجمل بفضل سفارة القعقاع بن عمرو المباركة ، وبالجملة فإن مادة هذا الشريط ضعيفة جداً لا تصلح و ليس لها ما يعضدها من روايات سوى بعض الروايات التي ذَكَرَتْ اعتزال أبو موسى الأشعري للقتال ، و عن قيام الحسن وعمار بن ياسر بطلب المساعدة من أهل الكوفة ، هذا فقط وإلا فالباقي لا يصلح لأن يستشهد به فضلاً عن جعله مادة للرواية و موضوعاً يصف أحداثاً وقعت في تلك الفترة العزيزة على قلوبنا .
و كنت قد كتبت مقالاً منذ فترة تحدثت فيه عن الصورة التقريبية لتلك الأحداث – أحداث البصرة - في ضوء الروايات الصحيحة ، انظر : (عبد الله بن سبأ الحلـ 11 ــقة )
والله الموفق ، و لنا لقاء آخر في حلقة أخرى بإذن الله تعالى ..
أخوكم : أبو عبد الله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الرابع و اتضح عدم صلاحية مادته لأن تكون عنواناً لمحاضرة أو درس ، أو حتى من أجل أن يستخلص منها الدروس والعبر ؛ و ذلك لضعف مروياتها ، واليوم إن شاء الله نكمل ما بدأناه .
الشريط الخامس : موقعة الجمل – آراء الصحابة ..
ذكر المحاضر وفقه الله عدداً من الروايات التي تحدثت عن أحداث معركة الجمل من طريق سيف بن عمر ، و جل هذه الروايات ضعيف لا يستند إلى دليل ، فقد ذكر المحاضر أنه بعد أن اشتبك القتال أرسل علي إلى كبار قادة جيش الجمل .. فقال علي لطلحة : لعمري لقد أعدتما سلاحاً و رجالاً .. فقال طلحة ألبت علينا بعد أن ألبتم على عثمان .. الخ .
(1/21)
قلت : - رحمك الله – هذه الرواية ضعيفة لا يصلح الاستدلال بها فهي تعارض ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ، كما وأنها تخالف الروايات الصحيحة التي تنص على أن أصحاب الجمل ما خرجوا إلا للإصلاح ، فكيف ينسجم هذا الفعل منهم مع الهدف الذي خرجوا من مكة إلى البصرة من أجله ؛ ألا وهو للإصلاح بين الناس ؟!! و تعارض ما ثبت من براءة الصحابة و بالأخص علي من دم عثمان رضي الله عنهما .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن وصول رسول علي إلى عبد الله بن الزبير ، و دار بينهم حديث انتهى إلى أن مضى ابن الزبير رافضاً الصلح .. الخ .
قلت : - رحمك الله – هذا الفعل من ابن الزبير يرده ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ، و لما ثبت من أن قدوم أصحاب الجمل من أجل الإصلاح لا من أجل الأخذ بالثأر من قتلة عثمان .
و روى ابن عساكر وابن كثير أن الزبير رضي الله عنه لما عزم عل الرجوع إلى المدينة عرض له ابنه عبد الله فقال : مالك ؟ قال : ذكرّني علي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم و إني راجع ، فقال له ابنه : و هل جئت للقتال ؟ إنما جئت تصلح بين الناس ، و يصلح الله هذا الأمر . تاريخ دمشق (18/410) و البداية و النهاية (7/242) . و هذا يرد على تلك المزاعم .
ذكر المحاضر وفقه الله أن الزبير رضي الله عنه عندما رجع اعترضه ولده عبد الله و دار بينهما هذا حوار ( .. يا أبتي جمعت الناس وتفر ؟ فقال : إليك عني .. هنا أدرك عبد الله أن والده سيفر !! فقال له : لعلك أخافتك سيوف بني عبد المطلب .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – هذه الرواية فيها افتراء كبير على الزبير و على ولده رضي الله عنهما ، و هذا الفعل منهما يخالف ما ثبت من عدالتهما ، و هذا الحوار فيه نعرة جاهلية ، والصحابة الكرام منزهون عن هذه الأفعال .
(1/22)
ثم ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً من الروايات الضعيفة في أحادث المعركة جلها من طريق سيف بن عمر و أبي مخنف الكذاب ، و تحدثت عن بطولة عبد الله ابن الزبير و قتاله مع الأشتر النخعي .
قلت – رحمك الله - هذه الرواية ضعيفة ، والصحيح أن الذي تقاتل مع الأشتر و قال : اقتلوني و مالكاً هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد كما قال الطبري (4/520) و ابن أبي شيبة (15/228) .
ذكر المحاضر بعد ذلك أحداثاً كثيرة تصف إصرار ابن الزبير و علي رضي الله عنهما على القتال إلى غيرها من الأمور .
قلت : - رحمك الله – هذا الفعل من الاثنين يعارضه ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم .
ذكر المحاضر وفقه الله أنه بعد أن توقف القتال قام محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر بأمر من علي رضي الله عنهم أجمعين بالرحيل بعائشة إلى البصرة ، فكانت في دار عبد الله بن خلف .. الخ .
قلت : - رحمك الله – الثابت أن عائشة رضي الله عنها نزلت في دار عبد الله بن بديل ، و هو أصح ما جاء في هذا الموضوع .
فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح أن عبد الله بن بديل قال لعائشة : يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلت ما تأمريني ، فقلت الزم علياً ؟ فسكتت فقال : اعقروا الجمل فعقروه قال : فنزلت أنا و أخوها محمد و احتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي علي ، فأمر به علي فأدخل في بيت عبد الله بن بديل . المصنف (15/285) و أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن المعركة كانت في خمسة جمادى الآخرة سنة ستة و ثلاثين هجرية .
قلت – رحمك الله – الثابت الصحيح في هذه المسألة ما أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه ( ص 184، 185 ) أن الفريقين التقيا يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ستة وثلاثين ، و كانت الوقعة يوم الجمعة . و هذا الإسناد أصح ما ورد في تحديد تاريخ هذه الوقعة .
(1/23)
ذكر المحاضر وفقه الله في ( شريط الرابع : أحداث البصرة ) : ( أن عدد جيش أصحاب الجمل ثلاثون ألفاً ، بينما كان عدد جيش علي عشرة آلاف .. ) ، و ذكر في ( الشريط الخامس ) أن عدد قتلى المعركة بلغ : ( عشرة آلاف قتيل ، خمسة آلاف من كل جيش ، و كان أكثرهم من الصحابة والتابعين .. الخ ) .
قلت – رحمك الله - كان عدد جيش علي في أصح الروايات كما عند الطبري من طريق محمد بن الحنفية تسعة آلاف و سبعمائة رجل تقريباً . تاريخ الطبري (4/506) .
فإذا علمنا أن الغلبة في معركة الجمل كانت لمعسكر علي رضي الله عنه ، فإنه من المرجح أن تعداد جيش أهل البصرة كان قريباً من تعداد جيش علي رضي الله عنه .
و أما عن عدد قتلى معركة الجمل فقد بالغ المؤرخون في ذكرهم فمن مقلل و من مكثر على حسب ميل
الناس و أهوائهم . لكن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل فقد كان ضئيلاً جداً للأسباب التالية :-
1- قصر مدة القتال . حيث أخرج ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن القتال نشب بعد الظهر ، فما غربت
الشمس و حول الجمل أحد ممن كان يذب عنه . أورده الحافظ في الفتح (13/62) .
2- الطبيعة الدفاعية للقتال . حيث كان كل فريق يدافع عن نفسه ليس إلا .
3- تحرج كل فريق من القتال لما يعلمون من عظم حرمة دم المسلم .
4- قياساً بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك - ثلاثة آلاف شهيد - تاريخ الطبري (3/402) ، و معركة القادسية - ثمانية آلاف و خمسمائة شهيد - تاريخ الطبري (3/564) ، و هي التي استمرت عدة أيام ، فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جداً ؛ هذا مع الأخذ بالاعتبار شراسة تلك المعارك و حدتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم .
5- أورد خليفة بن خياط بياناً بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل ، فكانوا قريباً من المائة . تاريخ خليفة (ص187-190) .
فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين و ليس مائة ، فإن هذا يعني أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين .
(1/24)
و هذا هو الراجح للأسباب و الحيثيات السابقة . أنظر حول هذا الموضوع كتاب : استشهاد عثمان و وقعة الجمل لخالد الغيث (ص214-215) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً من الروايات التي تحدثت عن استعداد علي للتوجه نحو الشام ، ثم ذكر عدد جيش علي بأنه : ( مائة و عشرين ألف مقاتل .. ) ، وأن جيش الشام كان : ( .. تسعين ألف مقاتل .. ) .
قلت : - رحمك الله – إن العدد التقريبي لجيش علي رضي الله عنه هو ما قدرته الروايات ما بين خمسين ألفاً و مائة و خمسين ألفاً مقاتل . تاريخ خليفة (ص193) بسند حسن .
في حين كان عدد جيش الشام كما قدرته بعض الروايات الضعيفة بستين ألفاً أو سبعين ألفاً أو مائة وعشرين ألفاً . الذهبي تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين – (ص545) بدون سند و تاريخ خليفة (ص193) بسند فيه مجاهيل و البداية و النهاية لابن كثير (7/275) بدون سند ، أنظر : عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري (ص465) .
ذكر المحاضر وفقه الله أن جيش معاوية احتل مناطق الماء و حدث نوع من القتال الصوري بين الجيشين من أجل السيطرة على الماء .
قلت : - رحمك الله – وإن كان هذا الخبر يذكر في كتب التاريخ ، لكن تلك الرواية التي استشهدت بها ضعيفة من طريق أبي مخنف الكذاب .
(1/25)
على أن هناك رواية أخرى ترد القتال من أصله أخرجها عبد الله بن الإمام أحمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو المغيرة الخولاني - ثقة - حدثنا صفوان بن عمرو - ثقة - حدثني أبو الصلت سليم الحضرمي - ذكره ابن أبي حاتم و لم يذكر فيه جرحاً و لا تعديلاً ، الجرح و التعديل (4/212) . و لو وقف على توثيق له لنسفت هذه الرواية روايات أبي مخنف الكذاب من أصلها - ، قال : حلنا بين أهل العراق و بين الماء ، فأتانا فارس ، ثم حسر فإذا هو الأشعث بن قيس فقال : الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ! هبوا أنكم قتلتم أهل العراق ، فمن للبعوث و الذراري ؟ أم هبوا أنا قتلناكم ، فمن للبعوث و الذراري ؟ إن الله يقول :{ و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط الخامس ، و كان من جملة ما خرجنا به أن أغلب مادة هذا الشريط غير صالحة للعرض بسبب ضعف أسانيدها و مخالفتها لما هو أصح وأثبت منها ، واليوم نكمل المشوار ..
الشريط السادس : معركة صفين و ما نتج عنها ..
ذكر المحاضر وفيه الله في بداية الشريط عدداً من الروايات الضعيفة تتحدث عن أحداث هذه المعركة الأليمة ، وقال : ( .. وظل هذا الأمر طيلة شهر ذي الحجة حتى أن المؤرخين يقولون : أن معركة صفين حدثت فيها أكثر من تسعين جولة و وقعة .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – إن الذي قاله المؤرخون حول عدد هذه الجولات في تلك المعركة أكثر من سبعين جولة ووقعة . انظر : فتح الباري لابن حجر (13/92) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن تجدد المراسلات بين علي و معاوية ، قال : ( .. و خلال هذا الشهر أرسل علي رضي الله عنه الرسل مرة أخرى فأسل عدي بن حاتم و يزيد بن قيس .. الخ ) .
(1/26)
قلت : - رحمك الله – إن هذه الرواية ضعيفة من طريق أبي مخنف و ابن الكلبي ، ولا يجوز الاستشهاد بها ، لأن فيها تعريض بعدي بن حاتم و اتهام له بأن له يداً في قتل عثمان رضي الله عنه ، بل إن الثابت الصحيح ما أخرجه ابن عساكر رحمه الله في تاريخه عن قيس بن أبي حازم أن الذين قتلوا عثمان ليس فيهم من الصحابة أحد . ترجمة عثمان (ص408) ، وأخرج أيضاً بسنده أن عدي بن حاتم تحول من الكوفة وقال لا أقيم في بلد يشتم فيه عثمان رضي الله عنه . ترجمة عثمان ( ص 518) . فوا عجباً كيف يستنكر سبه ثم يُتهم بقتله ؟!!
و يقول ابن كثير في ذلك : ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى بينهم و بين علي – يقصد المراسلات - ، و في صحة ذلك عنهم و عنه نظر . البداية والنهاية (7/259) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك خطبة طويلة لعي رضي الله عنه يحضهم فيها على القتال ، إلى غير ذلك من الأمور .
قلت : - رحمك الله – تلك الرواية ضعيفة من طريق أبي مخنف الكذاب ونصر بن مزاحم ، و لا يرفع بها رأس .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً كبيراً من الروايات الضعيفة من طريق أبي مخنف ، استشهد بها على أحداث معركة صفين ، ولا يصح منها شيء ، ولم أحب أن أفصل القول فيها أنه ليس لها ما يعضدها . و كنت قد فصلت القول في أحداث تلك المعركة في ضوء ما وصلنا من روايات صحيحة ، في عدد من المقالات ، انظر : (الأحداث التي تلت حرب الجمل الحلـ 2 ــقة)
(الأحداث التي تلت حرب الجمل الحلـ 3 ــقة)
(الأحداث التي تلت حرب الجمل الحلـ 4 ــقة)
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك الطريقة التي توقف فيها القتال و رفع المصاحف .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت في هذا الحادثة ضعيف لا تقوم به حجة ، إذ أنها من طريق أبي مخنف الكذاب .
ذكر المحاضر وفقه الله أن علي رضي الله عنه لم يقبل الصلح و لم يقتنع برفع جيش الشام للمصاحف بل أصر على مواصلة القتال .. الخ .
(1/27)
قتل : -رحمك الله – إن الثابت الصحيح أن علياً رضي الله عنه قبل الصلح من تلقاء نفسه ، و هو القائل حينما أرسل له معاوية رضي الله عنه المصحف قائلاً له : بيننا و بينكم كتاب الله فقال علي : أنا أولى بذلك بيننا كتاب الله . المسند ( 3/485) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك أن علياً رضي الله عنه أجبر على قبول التحكيم و الصلح وهو غير راض .
قلت : – رحمك الله – إن القصة الحقيقية لحادثة رفع المصاحف هي ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي وائل قال : كنا بصفين فلما استحر القتل بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية أرسل إلى علي بمصحف و ادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك ، فجاء به رجل فقال : بيننا و بينكم كتاب الله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم و هم معرضون }
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط السادس من سلسلة قصص من التاريخ الإسلامي للدكتور طارق سويدان ، و اتضح أن مادة هذا الشريط ضعيفة للغاية و هي في مجموعها لا تصلح لأن تكون موضوعاً لمحاضرة تصف أحداث معركة صفين ، واليوم نكمل ما بدأناه ..
الشريط السابع : مقتل الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ..
ابتدأ المحاضر وفقه الله الشريط بأن قال : ( .. بعد أن بويع لمعاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين في الشام .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – إن هذا الزعم الذي قتله لم يثبت ، و معاوية رضي الله عنه لم يبايع بالخلافة إلا بعد أن قتل علي و تنازل له الحسن علن الخلافة ، و قد تم الرد على هذه المزاعم في الحلقة الماضية ، وليس هنا داع للإعادة .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدد من الروايات التي تصف أحوال الدولة الإسلامية في تلك الفترة ، .. الخ ) .
(1/28)
قلت : - رحمك الله – إن جل ما استشهدت به في وصف أحوال الدولة ضعيف لا تقوم به حجة ، سبب كون أبي مخنف الكذاب قد تفرد به دون غيره من الرواة ، بل إنه ليس لها ما يعضدها .
ذكر المحاضر وفقه الله ( .. أن علي رضي الله عنه قام بعزل قيس بن سعد عن ولاية مصر بسبب ضعفه و عدم استطاعته السيطرة على الأوضاع هناك ، فقام بإرسال الأشتر الذي مات في الطريق عن طريق شربه لعسل مسموم ، وقول معاوية إن لله جنداً من عسل .. و أسل محمد بن أبي بكر .. الخ ) .
(1/29)
قلت : - رحمك الله - إن أطول رواية وصلت إلينا تحدثت عن هذا الأمر ، هي ما أخرجها عبد الرزاق في مصنفه (5/458-460) و الطبري في تاريخه (4/552-553) و الكندي في ولاة مصر (ص44-45) . عن معمر عن الزهري مرسلاً عن عبد الله بن يوسف - ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ (ت 218هـ ) التقريب (ص320) - ، عن يونس بن زيد – ثقة ، إلا أن روايته عن الزهري وهماً قليلاً و في غير الزهري خطأ . أخرج له الستة (ت 159هـ ) ، الكاشف للذهبي ( 3/305) - ، عن الزهري قال : كانت مصر من حين علي عليها قيس بن سعد بن عبادة و كان صاحب راية الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و كان من ذوي الرأي و البأس و كان معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص جاهدين على أن يخرجاه من مصر ليغلبا عليها ، فكان قد امتنع فيها بالدهاء و المكايدة ، فلم يقدرا عليه ، و لا على أن يفتحا مصر ، كاد معاوية قيس بن سعد من قبل علي ، و كان معاوية يحدث رجلاً من ذوي الرأي من قريش يقول : ما ابتدعت مكايدة قط كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيساً من قبل علي و هو بالعراق حين امتنع مني قيس . قلت لأهل الشام : لا تسبوا قيس بن سعد ، و لا تدعوا إلى غزوه ، فإنه لنا شيعة ، يأتينا كيس نصيحته سراً - أي أنه لنا حليف يراسلنا و ينصحنا سراً - . ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا ، يجري عليهم أعطياتهم و أرزاقهم و يؤمن سربهم ، و يحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم ، لا يستنكرونه في شيء ، قال معاوية : و هممت أن أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق فيسمع بذلك جواسيس علي عندي و بالعراق ، فبلغ ذلك علياً و نماه إليه محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر بن أبي طالب ، فلما بلغ ذلك علياً اتهم قيساً و كتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا - و أهل خربتا يومئذ عشرة آلاف - فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم ، و كتب إلى علي : إنهم وجوه أهل مصر و أشرافهم و أهل الحفظ منهم ، و قد رضوا مني أن أؤمن
(1/30)
سربهم ، و أجري عليهم أعطياتهم و أرزاقهم ، و قد علمت أن هواهم مع معاوية ، فلست مكايدهم بأمر أهون عليّ و عليك من الذي أفعل بهم و لو أني غزوتهم كانوا لي قرنا و هم أسود العرب ، و منهم بسر بن أبي أرطاة و مسلمة بن مخلد و معاوية بن حديج فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم . فأبى علي إلا قتالهم ، و أبى قيس أن يقاتلهم . فكتب قيس إلى علي : إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك ، و ابعث إليه غيري ، فبعث علي الأشتر أميراً إلى مصر حتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه فبلغ حديثهم معاوية و عمرواً ، فقال عمرو : إن لله جنداً من عسل – ذكر المحاضر وفقه الله أن الذي قال تلك المقولة هو معاوية - . فلما بلغ علياً وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميراً على مصر .
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (11/146) بسند صحيح عن محمد بن سيرين أن معاوية رضي الله عنه لما عجز عن مكايدة قيس بن سعد بن عبادة بعث بكتابه الأول إلى علي ، قال : فقال له أهل الكوفة : عدو الله قيس بن سعد فاعزله ، فقال علي : ويحكم أنا والله أعلم ، هي إحدى فعلاته ، فأبوا إلا غزله فعزله .
و أخرج الكندي أيضاً روايةً عن عبد الكريم بن الحارث - ثقة عابد (ت136هـ) – قال : لما ثقل مكان قيس على معاوية كتب إلى بعض بني أمية بالمدينة : أن جزى الله قيس بن سعد خيراً ، فإنه كف عن إخواننا من أهل مصر الذين قاتلوا في دم عثمان ، و اكتموا ذلك فإني أخاف أن يعزله علي إن بلغه ما بينه و بين شيعتنا ، حتى بلغ علياً فقال من معه من رؤساء أهل العراق و أهل المدينة : بَدّلَ قيس و تحول ، فقال علي : ويحكم ! إنه لم يفعل ، فدعوني . قالوا : لتعزلنه فإنه قد بدل . فلم يزالوا به حتى كتب إليه : إني قد احتجت إلى قربك ، فاستخلف على عملك و أقدم . ولاة مصر (ص45-46) و فيها المدائني و هو ثقة ، أنظر : التقريب (ص263) و بقية رجالها ثقات إلا أنها مرسلة .
(1/31)
و هذه أرجح رواية عندي لأمور منها :-
1- أنها من رواية مصري ثقة و هو أعلم بقطره من غيره .
2- أخرجها مؤرخ مصري .
3 - خلوها من الغرائب .
4- متنها يتفق مع سيرة أولئك الرجال .
5- بينت تردد علي في عزل قيس حتى ألح عليه الناس فاستبقاه عنده ، و هكذا القائد لا يفرط بالقيادات الحاذقة في وقت المحن .
و إن ولاية قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما على مصر من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر مجمع عليه . أما ما ذُكر من تفاصيل و غرائب الأمور التي لم تحدث إلا في مخيلة و عقل أبي مخنف الكذاب ، فلم أقف لها على متابع و كل من ترجم لقيس بن سعد لم يذكر هذه التفاصيل ، و حتى مؤرخو مصر المعتبرين لم يذكروا ذلك - انظر ترجمة قيس بن سعد في : طبقات ابن سعد (6/52-53) و سير أعلام النبلاء (3/102-112) و الإصابة (5/473-475) و فتوح مصر (ص458) ، و ولاة مصر (ص440) - . و هذا مما يؤكد لنا تفرد أبو مخنف بهذه الروايات .
أما رواية أبي مخنف فكما قلنا أنه انفرد بها و هي إن سلمت منه ، لم تسلم من تلميذه ابن الكلبي . و في متنها من الغرائب ما يكفي لردها .
و أما ما في رواية الزهري و عبد الكريم بن الحارث فهي من باب المعاريض و المعاريض مندوحة عن الكذب . و قد بوب البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باباً بهذا العنوان ، الفتح (10/609 ) .
حيث لا يعقل أن يصدر عن الصحابة كذب ، و هذا من الذي لا يعقله عاقل أن يصدر من معاوية؛ ذلك أن العرب كانوا يعدون الكذب من أقبح الصفات التي يتنزه عنها الرجال الكرام .
و هذه قصة أبي سفيان - و هو يومئذ على الشرك - فيما أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح (1/42) في قصة سؤال هرقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول أبو سفيان : فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه .
(1/32)
فهذه منزلة الكذب عند العرب ، و عند المسلمين أشد و أخزى ، و لا يقول قائل : هذه خدعة ، و الحرب خدعة ، فإن الخدعة ليس معناها الكذب كما هو معلوم من كلام العرب ، و معاوية رضي الله عنه أحذق من أن يفعل هذا .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك الأوضاع في باقي أقاليم الدولة الإسلامية مثل البصرة ومكة واليمن .. الخ
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت ضعيف و ليس له ما يعضده ، فكان السكوت عنها أفضل .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك بعض الأحداث ، وانتهى إلى مقتل علي رضي الله عنه .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت ضعيف و بالأخص ما يتعلق بمقتل علي رضي الله عنه حيث أن أغلبها من طريق أبي مخنف الكذاب .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن بيعة الحسن و واستعداده لقتال أهل الشام ، ثم تفكيره في الصلح .. وأنه اشترط بعض الشروط ، و من بين تلك الشروط أن يكون الأمر من بعد معاوية للحسن مرة أخرى .. الخ .
قلت : - رحمك الله – ذكرك لتلك الشروط و من ضمنها طلب الحسن لأن تكون الخلافة له من بعده ، ليست صحيحة ، حيث أنها تتنافى مع قوة و كرم الحسن ؛ فكيف يتنازل عن الخلافة حقناً لدماء الأمة و ابتغاء مرضاة الله ، ثم يوافق على أن يكون تابعاً يتطلب أسباب الدنيا و تشرأب عنقه للخلافة مرة أخرى ؟!
و الدليل على هذا ما ذكره جبير بن نفير قال : قلت للحسن بن علي إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة ، فقال كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت و يحاربون من حاربت ، فتركتها ابتغاء وجه الله ، ثم أبتزها بأتياس أهل الحجاز . البلاذري في أنساب الأشراف (3/49) و طبقات ابن سعد ، الطبقة الخامسة ( ص 258) بسند جيد .
تحدث المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن أحوال الدولة الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه ، .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما استشهدت به في هذا الموضوع ضيف .
(1/33)
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك بعض الأحداث التي تخللت خلافة معاوية رضي الله عنه مثل خروج الخوارج ، و موت الحسن مسموماً و مبايعة يزيد بولاية العهد .. الخ .
قلت : -رحمك الله – إن أغلب تلك الروايات التي ذكرتها أثناء حديثك عن تلك الأحداث ضعيف جداً لا تقوم به حجة .
ذكر المحاضر وفقه الله قبل أن يختم الشريط بأن معاوية قد أخطأ في عدد من الأمور .. و ذكر من بين تلك الأخطاء قتله لحجر بن عدي .. و ذكر أن سبب قتل معاوية لحجر بن عدي أنه خرج في ثورة ابن الأشعث .. الخ .
(1/34)
قلت : - رحمك الله – سبب قتل معاوية لحجر بن عدي ليس لأنه خرج مع ابن الأشعث ، - مع العلم بأن ابن الأشعث هذا خرج على عبد الملك بن مروان في فترة خلافته ، و بين عبد الملك و معاوية سنوات كثيرة ، و لعل المحاضر اختلط عليه اسم سعيد بن جبير ، لأنه هو الذي خرج مع ابن الأشعث ضد عبد الملك بن مروان - أما عن سبب قتله ، فقد ذكر ابن العربي في العواصم بأن الأصل في قتل الإمام ، أنه قَتْلٌ بالحق فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل . و لكن حجراً فيما يقال : رأى من زياد أموراً منكرة ، حيث أن زياد بن أبيه كان في خلافة علي والياً من ولاته ، و كان حجر بن عدي من أولياء زياد و أنصاره ، و لم يكن ينكر عليه شيئاً ، فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعاً بعاطفة التحزب و التشيع . و كان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد . فقام حجر و حصب زياد و هو يخطب على المنبر ، حيث أن زياد قد أطال في الخطبة فقام حجر و نادى : الصلاة ! فمضى زياد في خطبته فحصبه حجر و حصبه آخرون معه و أراد أن يقيم الخلق للفتنة ، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله ، و عد ذلك من الفساد في الأرض . فلمعاوية العذر ، و قد كلمته عائشة في أمره حين حج ، فقال لها : دعيني و حجراً حتى نلتقي عند الله ، و أنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين . العواصم من القواصم (ص 219-220) .
وانتهى الشريط على هذا الحال ، و بالجملة فإن مادة هذا الشريط في أغلبها ضعيف لا يصلح للعرض أو أن يستشهد به في تفصيل الأحداث التي تلت معركة صفين ، والله الموفق .
أخوكم : أبو عبد لله الذهبي ..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
(1/35)
انتهينا في الحلقة الماضية من التعليق على الشريط السابع ، و خرجنا بنتيجة و هي أن جل مادة الشريط والتي استشهد بها المحاضر وفقه الله في وصف أحوال الدولة الإسلامية في خلافة علي ومعاوية رضي الله عنهما ضعيفة و ليس لها ما يعضدها سوى القليل والذي لا يشكل شيء بجانب ما ذكر المحاضر من روايات أبي مخنف الطويلة .. واليوم نصل إلى نهاية مشوارنا مع هذه الأشرطة .. فأسأل الله أن تكون هذه الوقفات خالصة لوجهه الكريم ..
الشريط الثامن : مقتل الحسين رضي الله عنه ..
ذكر المحاضر وفقه الله في بداية الشريط بعض الروايات التي تتحدث عن حياة يزيد بن معاوية رحمه الله قبل توليه الخلافة .. ثم ذكر وفاة معاوية و مبايعة يزيد بالخلافة و خبر الرسالة التي أرسلها إلى والي الدينة يطلب فيها أن يأخذ البيعة من الحسين وابن الزبير .. إلى أن خرجا من المدينة .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن أغلب ما ذكرت من روايات ضعيف و واه ليس له ما يعضده ، بل إن أغلبه من طريق أبي مخنف الكذاب .
تحدث المحاضر وفقه الله بعد ذلك عن بداية مراسلات أهل الكوفة للحسين من أجل الخروج إليهم .. فأرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليمهد له القدوم .. الخ .
قلت : - رحمك الله – تلك روايات ضعيفة و أباطيل سخيفة سطرها الرافضة قاتلهم الله و روجوا لها ، فتلقفها أهل السنة وخاصة في زمننا الحاضر دون تمحيص ، فأخذوا يحيكونها و يزخرفونها يضيفون عليها و يدبجونها بحوارات و أحداث كلها كذب صراح فقط من أجل أن يبينوا للناس تلك الطريقة التي قتل فيها آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان لِما ذكر الحاضر بعض الشواهد لكن ليس لها أي دخل فيما ذكر أبو مخنف من أحداث .
(1/36)
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك محاولات كبار الصحابة إقناع الحسين عن الخروج إلى الكوفة .. و ذكر أن من بين الذي نصحوه ابن الزبير .. فذكر المحاضر وفقه الله أن ابن الزبير ذهب إلى الحسين وحثه على الخروج ، فكان هو الوحيد الذي كان يحثه على الخروج و يقول : أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن حقيقة الأمر في موقف ابن الزبير رضي الله عنه مثل باقي كبار الصحابة الذين نصحوا الحسين بعدم الخروج ، والحجة في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد حسن قال : لقي عبد الله بن الزبير الحسين بن علي بمكة فقال : يا أبا عبد الله بلغني أنك تريد العراق ، قال : أجل ، فلا تفعل ، فإنهم قتلة أبيك ، الطاعنين بطن أخيك ، وإن أتيتهم قتلوك . المصنف (7/477) .
وإن الرواية التي استشهدت بها ضعيفة من طريق أبي مخنف الكذاب .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك أحداث خروج الحسين بن علي رضي الله عنه و وصوله أطراف الكوفة و أحداث معركة كربلاء .. الخ .
قلت : - سامحك الله و غفر لك – إن جميع ما ذكرت من أحداث ، والتي ابتدأت من خروج الحسين إلى مقتله ضعيف ، جاء ذلك من طريق أبي مخنف الكذاب ، ولعل المحاضر وفقه الله اعتمد على كتاب بعنوان : استشهاد الحسين للإمام الطبري ، وهو كتاب مليء بالروايات الضعيفة والموضوعة ، تتحدث عن مقتل الحسين وعن أحداث تلك المعركة الأليمة .
وأنت بفعلك هذا – سامحك الله - قد أثرت أشجاناً و أموراً كانت قد نسيت و طويت بين أهل السنة ، فهم يعلمون أن للرافضة دور في تزييف التاريخ و تشويهه ، لكن عندما تقوم أنت بطرح هذا الموضع بهذه الصورة المشوهة دون نقد أو تمحيص ، فتلك مصيبة والله .
وقد يقول قائل : إذا كانت تلك الصورة غير صحيحة ، إذاً فما هي الصورة الحقيقية لأحداث تلك المعركة و كيف قتل الحسين ؟
(1/37)
قلت : مقتل الحسين رضي الله عنه.. ذلك الفتق الذي لا يرتق و الثلمة التي لم تسد و الصدع الذي لم يرأب ، إنه جرح الأمة الإسلامية في فلذة كبدها و التي لا تزال تتألم من المرارة و الحسرة منه ، إنه مقتل الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما في لحظة من أحرج اللحظات و أصعبها على أمة الإسلام و المسلمين .
قال الطبري (5/343) : إن ابن الزبير و الحسين لما دعيا إلى البيعة ليزيد أبيا و خرجا من ليلتهما إلى مكة ، فلقيهما ابن عباس و ابن عمر جائيين من مكة فسألاهما ما وراءكما ؟ قالا : موت معاوية و البيعة ليزيد ، فقال لهما ابن عمر : اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين . أما ابن عمر فقدم المدينة فأقام أياماً فانتظر حتى جائت البيعة من البلدان فتقدم و بايع و بايع ابن عباس .
و عندما قرر الحسين رضي الله عنه الذهاب إلى العراق ، بعد أن كثرت عليه المراسلات و هو في مكة ، تدعوه بالخروج إليهم حاول بعض أصحابه منعه من ذلك ، أمثال ابن عمر و ابن الزبير رضي الله عنهما .
و هنا تجدر الإشارة و الرد على مزاعم الإخباريين حول تحريض ابن الزبير للحسين بن علي رضوان الله عنهم أجمعين على الخروج على يزيد بن معاوية . و أن ابن الزبير ضاق من وجود الحسين بمكة ، و أنه كان يطمع بالخلافة ، و أن يخلو له الجو كما يقولون ، و أن تخلو له الساحة و الميدان .
و حقيقة الأمر أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان من جملة الصحابة والتابعين الذين نصحوا الحسين رضي الله عنه بعدم الخروج . و قد ذكرت قبل قليل الدليل على ذلك .
(1/38)
فلما ذهب رضي الله عنه و كان قد أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إليهم ، و تابعته طائفة ، ثم قدم عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، فقاموا مع ابن زياد و تخلوا عن مسلم و قتل رضي الله عنه ، فلما بلغ الحسين ذلك ، و أراد الرجوع وافته سرية عمر بن سعد و طلبوا منه أن يستأسر لهم ، فأبى و طلب أن يردوه إلى يزيد ابن عمه ، حتى يضع يده في يده ، أو يرجع من حيث جاء أو يلحق بالثغور ، فامتنعوا من إجابته إلى ذلك بغياً و ظلماً و عدواناً ، و كان من أشدهم تحريضاً عليه شمر بن ذي الجوشن حيث لحق بالحسين و وقع القتال بينهم حتى أكرم الله الحسين و عدد من أهل بيته بالشهادة رضي الله عنهم و أرضاهم . من رسالة بعنوان رأس الحسين لشيخ الإسلام (ص200) ضمن كتاب استشهاد الحسين للإمام الطبري . و هو كتاب مملوء بالروايات الضعيفة و الموضوعة .
و لم يختلف المؤرخون بل و الناس فيما عرض لهم و عرض عليهم من مسائل التاريخ مثلما اختلفوا في مقتل الحسين رضي الله عنه ، من بدايتها حتى نهايتها من الدوافع الأولية إلى الخديعة و خيانة الأعراب .
و النظرة التاريخية الفاحصة بعيداً عن الشطط أو الإغراق أو المغالاة تجعلنا في حيرة و أي حيرة ، لأن كل فريق له رأيه و له حجته فيما انتهى إليه ، و علينا أن ندعو لهم و نستغفر الله لنا ولهم .
و في يقيني أن أمر النزاع بين الحسين و يزيد يجب الإمساك عن الخوض فيه ، لأن هذا أفضل من الكلام في ما لا نعلم ، و صفوة القول أن الحسين قد أفضى إلى ربه شهيداً مجاهداً ، رضي الله عنه و أرضاه و ألحقنا بالصالحين في دار المقامة .
و عن هذا الصراع الدموي الأليم العنيف بين الحسين و يزيد أقول : يفصل الله بينهم يوم القيامة ، فإني لا أجرؤ بما توافر لدي من آراء و أبحاث و مراجع على القول بغير هذا : عفا الله عنا و عنهم .
(1/39)
و عن حياة الإمام الحسين رضي الله عنه قال ابن عبد البر في الاستيعاب : قتل الحسين يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين ، بموضع يقال له كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة و عليه جبة خز دكناء ، و هو ابن ست و خمسين سنة ، قاله نسابة قريش الزبير بن بكار ، و مولده لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة ، و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيها قصرت الصلاة و تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة رضي الله عنه . الاستيعاب (1/393) و انظر التذكرة للقرطبي (2/645) و نسب قريش للزبير بن بكار (ص24) .
ثم يقول ابن حجر : و قد صنف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغث و السمين ، و الصحيح و السقيم ، و قد صح عن إبراهيم النخعي أنه كان يقول : لو كنت فيمن قاتل الحسين ثم دخلت الجنة لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . الإصابة (2/81) .
و اختلفت الأقوال في يوم قتله ، فالبعض قال يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و الأصح الأول . و اتفق على أنه قتل يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى و ستين ، و كذا قال الجمهور ، و شذ من قال غير ذلك ، و كان يوم الجمعة هو يوم عاشوراء . الإصابة (2/76-81) و العقد الفريد لابن عبد ربه (4/356) و هو يؤيد الإجماع .
و قال الحافظ في الفتح : كان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر ، و قتل يوم عاشوراء سنة إحدى و ستين بكربلاء من أرض العراق ، و كان أهل الكوفة لما مات معاوية و استخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته فخرج الحسين إليهم ، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة ، فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة و رهبة ، و قتل ابن عمه مسلم بن عقيل و كان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس ، ثم جهز إليه عسكراً فقاتلوه إلى أن قتل هو و جماعة من أهل بيته . فتح الباري (7/120) . و تاريخ خليفة (ص234) .
(1/40)
روى الحاكم عن أم الفضل بنت الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا - يعني الحسين - فقلت : هذا ؟ فقال نعم ، و أتاني بتربة من تربته حمراء . السلسلة الصحيحة (2/464) و هو في صحيح الجامع ، رقم (61) .
و روى أحمد عن عائشة أو أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد دخل عليّ البيت مَلَكٌ لم يدخل علي قبلها ، فقال لي : إن ابنك هذا حسين مقتول ، و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها . السلسلة الصحيحة (2/465) .
و روى أحمد عن ابن عباس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ذات يوم بنصف النهار أشعث أغبر بيده قارورة فيها دم ، فقلت : بأبي أنت و أمي ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه ، و لم أزل ألتقطه منذ اليوم . فأحصي ذلك الوقت ، فوجد قتل ذلك الوقت . مشكاة المصابيح للتبريزي بتحقيق الشيخ الألباني (6172) . و مسند أحمد (1/283) و الذي يقول فأحصينا .. هو راوي الخبر عن ابن عباس ، هو أبو عمر عمار بن أبي عمار مولى بني هشام ، صدوق من كبار التابعين (ت 120هـ ) ، التقريب (ص 408) .
و قد قتل معه كما يروي الحسن البصري ستة عشر رجلاً من آل البيت ما على الأرض يومئذ لهم شبه ، فقتل من أولاد علي رضي الله عنه العباس و عبد الله و جعفر و عثمان و أبو بكر ، و هؤلاء اخوته لأبيه . هؤلاء جميعهم أبناء علي من أم البنين بنت حرام أم خالد ، ما عدا أبو بكر فهو من ليلى بنت مسعود بن خالد . انظر تراجمهم في : تاريخ خليفة (ص234) .
و قتل معه من ولده ، عبد الله و علي . عبد الله أمه أم الرباب ، و أما علي فأمه ليلى بنت أبي مرة . انظر : تاريخ خليفة (ص234) .
و من ولد أخيه الحسن ، القاسم و أبو بكر و عبد الله . و هم أبناء الحسن بن علي ، انظر : تاريخ خليفة (ص234) و البداية و النهاية (8/189) .
(1/41)
و من ولد عبد الله بن جعفر ، محمد و عون . محمد أمه الخوصا بنت خصف ، و أما عون فأمه زينب العقيلية بنت علي ، انظر : تاريخ خليفة (ص234) .
و من ولد عقيل ، عبد الرحمن و جعفر و عبد الله و مسلم . هم أبناء عقيل بن أبي طالب ، انظر : تاريخ خليفة (ص234) و البداية و النهاية (8/189) .
يقول الذهبي عن ذلك : و يدخل فيهم من نسل فاطمة و غيرهم ، لأن الرافضة رووا أحاديث و أعداد مهولة في من قتل مع الجيش من نسل فاطمة فقط ، حيث ذكر فطر بن خليفة أن عدد من قتل من نسل فاطمة سبعة عشر رجلاً ، و لاشك أن هذا العدد مبالغ فيه كثير جداً . انظر : تاريخ الإسلام للذهبي – حوادث سنة 61هـ – (ص21) و تاريخ خليفة (ص235) و المعجم الكبير (3/104 و 119) ، و فطر هذا من غلاة الشيعة .
ثم إن ابن ذي الجوشن حمل رأس الحسين و أرسله إلى ابن زياد . أخرج البخاري عن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي ، فجعل ينكت و قال في حسنه شيئاً ، فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، و كان مخضوباً بالوسمة . البخاري مع الفتح (7/119) ، و الوسمة هي نبات يخضب به الوجه و يميل إلى السواد .
و عند الترمذي و ابن حبان من طريق حفصة بنت سيرين عن أنس قال : كنت عند ابن زياد فجيء براس الحسين فجعل يقول بقضيب في أنفه و يقول ما رأيت مثل هذا حسناً يُذكر ، قلت : أما إنه كان أشبههم رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح سنن الترمذي (3/325) و الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (9/59-60) .
و للطبراني في المعجم الكبير (5/206) و (3/125) من حديث زيد بن أرقم ، فجعل قضيباً في يده ، في عينه و أنفه فقلت : ارفع قضيبك فقد رأيت فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه . و زاد البزار من وجه آخر عن أنس قال : فقلت له إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث تضع قضيبك ، قال : فانقبض . أورده الحافظ في الفتح (7/121) .
(1/42)
و قد اختلطت - كما أسلفت - الروايات الحقيقية بالمكذوبة التي افتراها الرافضة الحمقى و روج لها الإخباريين بأسلوب يهدر كل القيم و المثل .
نعم هناك روايات كتاب الأغاني ، - و الذي يسمى بالنهر المسموم - ، ذلك النهر الذي عب منه كل مثقفينا ، وكل من تناول جانباً من تاريخنا ، كابراً عن كابر ، فَضَّلوا و أضلوا .
و هذا الذي ذكرته هو المشهور و المتفق عليه بين العلماء في مقتله رضي الله عنه و قد رويت زيادات بعضها صحيح و بعضها ضعيف و بعضها كذب موضوع ، و المصنفون من أهل الحديث في سائر المنقولات ، أعلم و أصدق بلا نزاع بين أهل العلم ؛ لأنهم يسندون ما ينقلونه عن الثقات ، أو يرسلونه عمن يكون مرسله مقارب الصحة ، بخلاف الإخباريين ؛ فإن كثيراً مما يسندونه ، يسندونه عن كذّاب أو مجهول ، أمّا ما يرسلونه ، فظلمات بعضها فوق بعض .
و أما أهل الأهواء و نحوهم فيعتمدون على نقل لا يعرف له قائل أصلاً ، لا ثقة و لا ضعيف و أهون شيء عندهم الكذب المختلق ، و أعلم من فيهم لا يرجع فيما ينقله إلى عمدة بل إلى سماعات عن المجاهيل
و الكذابين ، و روايات عن أهل الإفك المبين .
هذه هي حقيقة الفاجعة ، و أصلها و فصلها ، و كفى ، و هذه هي قضية يزيد و مقتل الحسين ، إما أن تذكر كلها بتفاصيلها ، و إما أن تبقى طي الكتمان ، أما أن يجتزأ الكلام ، و يختزل بهذه الصورة الشائعة على الألسن - قتل يزيد الحسين - فهذا فيه تدليس و تزييف .
و كنت قد كتبت مقالاً تحدثت فيه عن أسباب خروج الحسين بن علي رضي الله عنه ، انظر :
(سؤال عن أسباب خروج الحسين و بن الزبير رضي الله عنهم على أمير المؤمنين يزيد بن معاوية)
ذكر المحاضر وفقه الله : ( .. ثم إن ابن زياد أرسل رأس الحسين رضي الله عنه إلى يزيد .. الخ ) .
(1/43)
قلت : - رحمك الله - قد ثبت أن القصة التي يذكرون فيها حمل رأس الحسين إلى يزيد و نكته بالقضيب ، كذبٌ مفترى ، و إن كان الحمل إلى ابن زياد و هو الناكت بالقضيب ، هي الأصح و الأثبت ، و لم ينقل بإسناد معروف أن الرأس حمل إلى قدام يزيد . و لم أرَ في قصة حمل رأس الحسين إلى يزيد إلا إسناداً منقطعاً ؛ و قد عارضه من الروايات ما هو أثبت منها و أظهر ، نقلوا فيها أن يزيد لما بلغه مقتل الحسين أظهر التألم من ذلك . و قال : لعن الله أهل العراق ، لقد كنت أرضى من طاعتهم بدون هذا . و الله أعلم بسريرته . فهذا و نحوه مما نقلوه بالأسانيد التي هي أصح و أثبت من ذلك الإسناد المنقطع المجهول .
فالمقصود هنا أن نقل رأس الحسين إلى الشام لا أصل له في زمن يزيد ، و إنما الثابت هو نقله إلى أمير العراق ابن زياد بالكوفة .
و وقوع المحاضر في هذا الخطأ يرجع إلى منشأ الاختلاف في موضع رأس الحسين رضي الله عنه عند عامة الناس ، و هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين – والتي أقيمت في عصور التخلف الفكري والعقدي – و كلها تدعي وجود رأس الحسين ، و إذا أردنا التحقيق في مكان الرأس فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة كربلاء ، و قد قام الأخ محمد بن عبد الهادي الشيباني بدراسة الموضوع دراسة علمية حديثية ، توصل من خلالها إلى أن المشاهد الموجودة في كل من دمشق و الرقة و عسقلان و القاهرة و كربلاء ، والتي تزعم بأن الرأس مقبور فيها ، لم يثبت بأدنى دليل على وجود الرأس بها ، و أن الرأس مدفون في المدينة في مقبرة البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها ، و هو الصحيح المشهور والذي رجحه كل من شيخ الإسلام ابن تيمية والقرطبي والحافظ أبو يعلى والزبير بن بكار ، و ابن الجوزي و ابن أبي الدنيا ، و غيرهم .
(1/44)
و بذلك يكون رأس الحسين مقبوراً بجانب أمه فاطمة رضي الله عنها ، و هو الموافق لما ثبت في الروايات من حسن تعامل يزيد مع آل الحسين ، ثم هو الأقرب إلى الواقع الذي يملي على يزيد إرساله – أي الرأس – إلى المدينة ليقبر بجانب أمه رضي الله عنها ، و للمزيد حول هذا الموضوع راجع رسالته موقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية للأخ محمد بن عبدالهادي الشيباني ( ص306-325 ) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد أن سرد أحداث مقتل الحسين .. قصة علي بن الحسين – زين العابدين مع هشام بن عبد الملك ، فقال : ( .. حيث أنه في يوم من أيام هشام بن عبد الملك جاء هشام إلى مكة يحج .. الخ ) .
قلت : - رحمك الله – لماذا يوم من أيام هشام ؟! و ليس يوم من خلافة هشام ؟ هل معنى كلامك هذا أن خلفاء الدولة الأموية غير معترف بخلافتهم ؟!
لكن الظاهر أن المحاضر وفقه الله قد نقل تلك القصة من كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي ، والسيوطي رحمه الله معروف عنه ميله للعلويين ، و إذا نظرنا إلى تصنيف كتابه المذكور ، نجد الآتي ، ذكر السيوطي الخلفاء الراشدين و كان يترضى عليهم ، و لما وصل إلى عصر خلفاء الدولة الأموية بدأ يقول : أيام يزيد بن معاوية لعنه الله !! أيام مروان بن الحكم .. أيام عبد الملك بن مروان .. الخ . و هذا الذي ترجح لدي .
ذكر المحاضر بعد ذلك الآتي : ( .. واستقرت الأمور ليزيد سوى ابن الزبير ، حيث أنه لما وصلت الأخبار بمقتل الحسين ثار و بدأ يأخذ البيعة لنفسه ، فبدأ الناس يبايعون ابن الزبير .. الخ ) .
(1/45)
قلت : - رحمك الله - إن الثابت الصحيح في هذه المسألة أنه في سنة أربع و ستين دعا ابن الزبير إلى نفسه ، و ذلك بعد موت يزيد بن معاوية ، فبويع في رجب لسبع خلون من نفس السنة ، و لم يكن يدعو إليها ولا يُدعا لها حتى مات يزيد ، و إنما كان ابن الزبير يدعو قبل ذلك إلى أن تكون شورى بين الأمة ، فلما كان بعد ثلاثة أشهر من وفاة يزيد بن معاوية ، دعا إلى بيعة نفسه فبويع له . تاريخ خليفة (ص257) .
ذكر المحاضر وفقه الله بعد ذلك عدداً من الروايات الضعيفة التي تصف أحداث وقعة الحرة و عن أسباب خروجهم ، و موقف يزيد بن معاوية من أهل المدينة .. و موقف مسلم بن عقبة من أهل المدينة و عن استباحة المدينة و قتل الكثير من أهلها .. إلى غيرها من الأمور .. الخ .
قلت : - رحمك الله – إن جل ما ذكرت ضعيف لم يثبت ، و أغلبه من طريق أبي مخنف الكذاب ، و أما عن أسباب خروج أهل المدينة و خلعهم ليزيد ، فقد كتب مقالاً في هذا الشأن تحدثت فيه عن هذه الأسباب ، راجعه الأهمية : (سؤال عن أسباب خروج الحسين و بن الزبير رضي الله عنهم على أمير المؤمنين يزيد بن معاوية)
أما عن قصة الحرة و حادثة الاستباحة ، فلي عليها بعض التعليقات :-
(1/46)
أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه أبو داود و ابن ماجة عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنت يا أبا ذر و موتاً يصيب الناس حتى يقوم البيت بالوصيف - يعني القبر - قلت : ما خار الله لي و رسوله ، أو قال : الله و رسوله أعلم ، قال : تصبر ، قال : كيف أنت و جوعاً يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ؟ قال : الله أعلم ، أو : ما خار الله لي و رسوله ، قال : عليك بالعفة . ثم قال : كيف أنت و قتلاً يصيب الناس حتى تُعْرَقَ حجارة الزيت بالدم ؟ قلت : ما خار الله لي و رسوله ، قال : الحق بمن أنت منه . قال : قلت يا رسول الله أفلا آخذ بسيفي فأضرب به من فعل ذلك ؟ قال : شاركت القوم إذاً ، و لكن ادخل بيتك . قلت : يا رسول الله ، فإن دُخل بيتي ؟ قال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق رداءك على وجهك ، فيبوء بإثمه و إثمك ، فيكون من أصحاب النار . صحيح سنن ابن ماجة (2/355) و أبو داود (4/458-459) و سنن ابن ماجة (2/1308) .
لما وصلت أخبار مقتل الحسين ثارت مكة مع ابن الزبير ، و لما وصلت الأخبار إلى أهل المدينة بثورة أهل مكة ثارت هي الأخرى و استطاعوا السيطرة عليها و عزل واليها من قبل يزيد ، و ولوا بدلاً عنه عبد الله بن غسيل الملائكة حنظلة رضي الله عنه . طبقات ابن سعد (5/66) .
أخرج البخاري عن عباد بن تميم ، عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال : لما كان زمن الحرة أتاه أت فقال له : إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت ، فقال : لا أبايع على هذا أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح البخاري مع الفتح (6/136) .
(1/47)
و أخرج مسلم عن نافع قال : حين كان من أمر خلع يزيد ما كان ، جاء ابن عمر و دخل على ابن مطيع ، فقال ابن مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ، قال صلى الله عليه وسلم : من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية . صحيح مسلم برقم (4770) .
و روى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه و ولده فقال : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ، و إنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله و رسوله ، و إني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله و رسوله ثم ينصب له القتال ، و إني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني و بينه . البخاري مع الفتح (13/74) .
(1/48)
و يروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع - كان داعية لابن الزبير - مشى من المدينة هو و أصحابه إلى محمد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم ، فقال ابن مطيع : إن يزيد يشرب الخمر و يترك الصلاة و يتعدى حكم الكتاب ، فقال محمد ما رأيت منه ما تذكرون ، قد حضرته و أقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة ، قالوا : ذلك كان منه تصنعاً لك ، قال : و ما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع ؟ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر ، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه ، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا ، قالوا : إنه عندنا لحق و إن لم نكن رأيناه ، فقال لهم : أبى الله ذلك على أهل الشهادة ، و لست من أمركم في شيء ، فقالوا : لعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك ، فنحن نوليك أمرنا قال : ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعاً ولا متبوعاً ، قالوا : فقد قاتلت مع أبيك ، قال : جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه ، فقالوا : فمر ابنيك القاسم و أبا القاسم بالقتال معنا ، قال : لو أمرتهما لقاتلت ، قالوا : فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال ، قال : سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه ، إذاً ما نصحت لله في عباده ، قالوا : إذاً نكرهك قال : إذاً آمر الناس بتقوى الله و ألاّ يرضوا المخلوق بسخط الخالق ، و خرج إلى مكة . البداية و النهاية (8/233) و تاريخ الإسلام – حوادث سنة 61-80هـ – (ص274) بسند حسن .
(1/49)
أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند إلى جويرية بن أسماء ، قال : سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له : إن لك من أهل المدينة يوماً فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته . فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة و جماعة فأكرمهم و أجازهم ، فرجع فحرض الناس على يزيد و عابه و دعاهم إلى خلع يزيد ، فأجابوه فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة ، فهابهم أهل الشام و كرهوا قتالهم ، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير ، و ذلك أن بني حارثة أدخلوا قوماً من الشاميين من جانب الخندق ، فترك أهل المدينة القتال و دخلوا المدينة خوفاً على أهلهم ، فكانت الهزيمة و قتل من قتل ، و بايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم و أموالهم و أهلهم بما شاء . تاريخ دمشق (58/104-105) .
و أخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال : جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة{و لو دُخِلَت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها }
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق