ج1.وج2.التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي التلويح/إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي بن قليج
ج1.التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
التلويح/إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري علاء الدين المصري (حوالي 690 - 762)
حول
الكتاب: الكتاب من الكتب الأصول في شرح البخاري فكل من جاء بعده اعتمد عليه، حتى
إن ابن الملقن لا يكاد يغادر من كلام مغلطاي شيئًا.
حول المؤلف: مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري الحنفي الحكري علاء الدين أبو عبد
الله، الحافظ المحدث، مولده فيما ذكره الحافظ تقي الدين ابن رافع في سنة تسعين،
وفيما ذكره الصلاح الصفدي بعد التسعين وستمائة، وسأله شيخنا الحافظ زين الدين
العراقي عن مولده فقال له: إنَّه في سنة تسع وثمانين.
كان أبوه في صباه يرسله ليتعلم الرمي، فيخالفه ويذهب إلى مجالس أهل العلم
وحِلَقِهم فيحضرها، وقد انهمك في التعلم والاشتغال حتى صار متقدِّمًا في فنون
العلم.
شيوخه: تلقى العلامة العلم عن عدد كبير جدًا من علماء عصره ومشاهيره، وكان جل طلبه
في العشر الثاني بعد السبعمائة فأكثر.
فمن شيوخه:
1 - تاج الدين أحمد بن علي بن دقيق العيد أخي تقي الدين.
2 - الحسن بن عمر الكردي.
3 - أحمد بن الشجاع الهاشمي.
4 - محمد بن محمد بن عيسى الطباخ.
فتح الدين بن سيد الناس، وبه تخرَّج.
تلامذته:
سمع منه وتلقى عنه العلم جماعات منهم: 1 - ابنُه جمال الدين أبو بكر عبد الله بن
مغلطاي.
2 - شرف الدين موسى الأنصاري الشافعي قاضي حلب.
3 - زين الدين العثماني المراغي نزيل المدينة وقاضيها وخطيبها.
4 - عمر بن علي بن الملقن المعروف بابن النحوي. وبه تخرَّج.
مناصبه:
درَّس بمدارس متعددة بالقاهرة، فتولى تدريس الحديث بالمدرسة الظاهرية بعد وفاة
شيخه ابن سيد الناس.
ودرَّس بجامع القلعة مدَّة، كما درَّس بالجامع الصالحي، والمدرسة المجدية،
والمدرسة النجمية وغيرها من المدارس والمساجد.
ولمغلطاي تصانيف كثيرة زادت على المئة، منها:
1 ـ «إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال» للمزي.
2 ـ مختصر الإكمال اقتصر فيه على الاعتراضات على المزي في نحو مجلدين.
3 ـ «التلويح في شرح الجامع الصحيح»، شرح على صحيح البخاري.
(1/1)
4 ـ
«الإعلام بشرح سنته عليه الصلاة والسلام» وهو شرح ابن ماجه في خمسة مجلدات، ولكنه
لم يكمل.
5 ـ «شرح أبي داود» ولم يتم.
6 ـ «إصلاح ابن الصلاح»: فيه تعقبات على علوم الحديث لابن الصلاح.
7 ـ «الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم عليه الصلاة والسلام».
8 ـ «الإشارة إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتاريخ من بعده من الخلفاء»:
وهو تلخيص لكتابه الزهر الباسم بحذف الشواهد، وإضافة شيءٍ من تاريخ الخلفاء.
9 ـ «زوائد ابن حبان على الصحيحين».
10 ـ «ترتيب المهمات على الروضة في الفروع» للأسنوي على أبواب الفقه.
11 ـ «منارة الإسلام» ترتيب كتاب «بيان الوهم والإيهام» مضافًا إليه كتاب «الأحكام
الكبرى» لابن القطان.
12 ـ «ذيل على المؤتلف والمختلف» لابن نقطة.
13 ـ «ذيل على المشتبه» لابن نقطة.
14 ـ «ذيل على كتاب الضعفاء» لابن الجوزي.
15 ـ «الواضح المبين في من استشهد من المحبين».
16 - «التلويح إلى شرح الجامع الصحيح» في عشرين مجلدًا كما ذكر ابن حجر في «الدرر
الكامنة».
وفاته:
توفي بالقاهرة بحارة حلب ودفن بالريدانية وصلَّى عليه القاضي عز الدين بن جماعة.
عملنا: تم تنضيد الكتاب من نسخة الخطية والمقابلة وتقويم النص بالمراجعات الأولية
في المرحلة الأولى من العمل.
بطاقة المخطوط
اسم المخطوط: التلويح إلى شرح الجامع الصحيح
المؤلف: مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري علاء الدين المصري
الشهرة: مغلطاي
سنة الوفاة: 762
الناسخ: الخليل بن أحمد الخطي
عدد الأجزاء: 4
القسم الأول من الكتاب هو قسم مبتور الأول من الجزء الأول من نسخة متقنة، مصدرها
إحدى مكتبات باكستان، في (241) لوحة يبدأ من أثناء شرح حديث ابن عباس (493) في
(باب سترة الإمام سترة من خلفه) وتنتهي بشرح حديث ابن عمر (957) وبعده باب الخطبة
بعد العيد.
(1/2)
عدد
الأسطر: 25
تاريخ النسخ القرن الثامن تقديرًا
====
القسم الثاني من الكتاب تتمة الجزء السابق وهو في هذه النسخة الجزء الخامس منها،
مصدرها المتحف البريطاني (14160)، في (151) لوحة يبدأ من باب الخطبة بعد العيد
(957) وتنتهي بشرح حديث السيدة عائشة (1264) من باب الثياب البيض للكفن.
عدد الأسطر: 21
الناسخ: الخليل بن أحمد الخطبي بن عادل
تاريخ النسخ القرن الثامن تقديرًا
====
القسم الثالث من الكتاب وهو الجزء التاسع من النسخة السابقة ذاتها، مصدرها المتحف
البريطاني (14160)، في (165) لوحة يبدأ من أواخر كتاب الصوم في باب حق الضيف في
الصوم أول شرح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (1974) وتنتهي بشرح حديث أبي هريرة
(2305) من باب وكالة الشاهد والغائب جائزة.
عدد الأسطر: 21
الناسخ: الخليل بن أحمد الخطبي بن عادل
تاريخ النسخ: 767
====
القسم الرابع من الكتاب وهو الجزء الحادي عشر والثاني عشر من نسخة ثالثة، مصدرها
تركيا، في (328) لوحة يبدأ من أثناء كتاب الصلح أول باب ليس الكاذب الذي يصلح بين
الناس قبل شرح حديثي أبي هريرة وزيد بن خالد (2697) وتنتهي بشرح حديث أسامة (3473)
من أحاديث الأنبياء.
عدد الأسطر: 21
الناسخ: إبراهيم بن محمد العباسي
تاريخ النسخ: 767
====
القسم الخامس من الكتاب وهو آخر الجزء الثالث عشر من النسخة السابقة، مصدرها وزارة
الأوقاف ببغداد، في (24) لوحة يبدأ من أثناء كتاب التفسير أثناء شرح باب {فإن خفتم
فرجالًا أو ركبانًا فإذا أمنتم فاذكروا الله} شرح حديث ابن عباس (4538) إلى حديث
ابن عمر (4546)، ومن حديث أبي هريرة (5757) إلى حديث أنس (5869)، وفيها سقوطات بين
الأوراق كبيرة.
عدد الأسطر: 21
الناسخ: إبراهيم بن محمد العباسي
تاريخ النسخ: 767
(1/3)
كتاب
الصلاة]
باب سترة الإمام سترة من خلفه
493 - (أَتان) بالكسر لغةً ثانيةً في الأَتَانِ وهي الحمارُ وذكره ابنُ عُدَيْسٍ
في «الْمُثَنَّى»، وفي «الْمُحْكَمِ»: الأتانُ الحِمَارةَ، والْمَأْتُوناءُ اسمٌ
للجَمْعِ، واسْتَأْتَنَ الحمارُ صارَ أَتانًا، والأَتَانُ المرأة الرعناء على
التشبيه بالأتان، وفي «الواعي»: الأتان الأنثى من الحُمُرِ، وَفِي «الصِّحَاحِ»:
ولا تَقُل أتانة.
قال الْمَدِينِيُّ في «المغيث»: إنما استدركَ الحمارَ الأتانَ ليُعْلَمَ أنَّ
الأنثى من الحُمُرِ لا تقطع الصلاة، فلذلك لا تقطعها المرأة.
قال ابنُ قُرْقُولٍ: جاء في بعض الحديث <أَتَانَة> ضبطَ الأَصِيلي<
حِمَارٌ أتانٌ> على النَّعْتِ أو البدل مُنَوَّنَيْن وَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ،
وَجَاءَ عَلَى أَتَانٍ، فالأولى الجمع بينهما.
قال سراج بن عبد الملك: أتانٌ وَصْفٌ للحمارِ، ومعناه: صُلبٌ قويٌّ مأخوذ من
الأتان وهي الحجارة الصُّلْبَةُ، قال: وقد يكون بدلَ غلطٍ، قال: وقد يكون بدل
البعض من الكلِّ لأن الحمار يشمل الذكر والأنثى كالبعير.
قال ابن سراج: وقد يكون (عَلَى حِمَارِ أتانٍ) على الإضافة، أي على حمارٍ أنثى،
وكذا وجدتُه مضبوطًا في بعض الأصول، وعنْ يونس وغيره: أتانٌ وأتانةٌ وعجوزةٌ
وفرشةٌ وعقربة وَدِمَشْقَة في دمشق.
قوله: (وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلاَمَ) ذكر في «الْمُوعِبِ»:
إذا دنا الصبيُّ للفطام قيل: ناهز وقد نهز والجارية ناهِزَة.
وقال ابن دريد: ناهز الأربعين داناها، وقد اختلف في سنِّهِ يوم وفاة سيدنا رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقيل: خمس عشرة وصَوَّبَه أحمد بن حنبل، وقيل:
ثلاث عشرة، وقيل: عشر سنين وفيه بعدٌ، وقيل غير ذلك.
(1/1)
وقال
عياضٌ: اختلفوا في سترة الإمام: بنفسها سترة لمن خلفه؟ أو هي سُتْرَةٌ له خاصة وهو
سترةٌ لمن خلفه؟ بالاتفاق أنهم مصلون إلى سُتْرَةٍ، قال: حديثُ سُتْرَة المأموم
سترة إمامِه فليس يضر المرورُ بين يدي المأموم؛ لأن المأموم تعلَّقَتْ صلاته بصلاة
إمامه، قال: ولا خلاف أن السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن من المرور بين
يديه، وأما في موضع يأمن فعند مالك قولان، وهي عند الشافعي مشروعة مطلقًا لعموم
الأحاديث ولأنها تصون البصر، فإن كان في الفضاء هل يصلي إلى سُتْرَةٍ؟ فأجازه ابن
القاسم لحديث عبد الله هذا.
وقال مُطَرِّفٌ وابنُ الْمَاجِشُون: لا بُدَّ من السُّتْرَةِ، وذكر عن عُرْوةَ
وعطاءٍ وسالمٍ والقاسمِ والشَّعْبِيِّ والحسن أنهم كانوا يصلون في الفضاء إلى غير
سُتْرَةٍ.
وزعم ابنُ القَصَّارِ أنَّ منْ قال إن الحمار يقطع الصلاة، قال: إن مرور حمار عبد
الله كان خلف الإمام بين يدي بعض الصف. انتهى.
ولعمري هو كلام جيد لولا ما سبق من عند البَزَّارِ من أنَّ ذلك كان بين يدي النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
فإن قيل: روى أَبُو دَاودَ عن مولًى ليزيدَ بن نِمْرَانَ، عَنْ يَزِيدَ قَالَ:
رَأَيْتُ رَجُلًا بِتَبُوكَ مُقْعَدًا، فَقَالَ: مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ يُصَلِّي،
فَقَالَ: «قَطَعَ عَلَيْنَا صَلَاته، قَطَعَ اللهُ أَثَرَهُ» قال: فَمَا مَشَيْتُ
عليهما بَعْدُ.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِيهِ قالَ: نزلْتُ بِتَبُوكَ فَإِذَا رجلٌ
مُقْعَدٌ
(1/2)
فَسَأَلْتُهُ
فقال نَزَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِتَبُوكَ إِلَى نَخْلَةٍ
فَقَالَ: «هَذِهِ قِبْلَتُنَا» ثُمَّ صَلَّى إِلَيْهَا، فَأَقْبَلْتُ وَأَنَا
غُلَامٌ أَسْعَى حَتَّى مَرَرْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَقَالَ: «قَطَعَ
صَلَاتَنَا قَطَعَ اللهُ أَثَرَهُ» فَمَا قُمْتُ عَلَيْهَمَا إِلَى يَوْمِي هَذَا.
قلنا: هذان الحديثان غير صحيحين، الأول فيه رجل مجهول، والثاني زَعَمَ ابنُ
القَطَّانِ وغيره أنه في غاية الضعف ونكارة المتن، وزعم الحَازِميُّ أنه على تقدير
الصحة يكون منسوخًا بحديث ابن عباس؛ لأن حجة الوداع بعد تبوك.
وممن ذهب إلى أن الصلاة لا يقطعها شيء عثمانُ وعليٌّ وعائشةُ وابنُ عباس ٍوابنُ
الْمُسَيَّبِ وعروة والشعبيُّ وعُبَيْدَة، وإليه ذهب أبو حنيفة وسفيان وأهل الكوفة
ومالك وأهل المدينة والشافعي وأصحابه وأكثر أهل الحجاز وبه قال أحمد وإسحاق.
وعند أبي داود بسندٍ ضَعَّفَهُ الخَطَّابِيُّ وغيره: عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ
أَتَانَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي بَادِيَةٍ فَصَلَّى
فِي صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ، وَحِمَارٌ لَنَا وَكَلْبَةٌ
يَعْبَثَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا بَالَى ذَلِكَ.
وعند الدَّارَقُطْني: فَصَلَّى لَنَا العصرَ فما بالى بِهِمَا ولا ردَّهُمَا.
وعنده عن أنسٍ، وقَالَ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي
سَمِعْتُ أَنَّ الْحِمَارَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: «لَا يَقْطَعُ
الصَّلَاةَ شَيْءٌ».
قال: اختلف في إسناده والصوابُ مُرْسَلٌ عنْ عُمَرَ بنِ الخطاب.
(1/3)
494
- حَدَّثَنا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنا عبد الله بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا عُبَيْدُ
اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ العِيدِ أَمَرَ بِالحَرْبَةِ، فَتُوضَعُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ
ذَلِكَ فِي السَّفَرِ» فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الْأُمَرَاءُ.
وفي لفظ: «تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا».
وفي لفظ قدامة: «يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَومَ النَّحْرِ».
قال الجَيَّانيُّ: لم أسمع هذا منسوبًا لأحد من الرواة. انتهى.
ذكر خَلَفٌ في كتاب «الأطراف» وأبو نُعَيْمٍ الأَصْبَهانيُّ في «المستخرجِ» أنه
إسحاقُ بنُ مَنْصُور الكَوْسَج. [خ 494]
495 - وحديثُ أبي جُحَيفَةَ تقدَّمَ في الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الأَحْمَرِ.
(بَابُ قَدْرُ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ المُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ؟)
496 - حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي
حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ قالَ: «كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَبَيْنَ الجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ». [خ 496]
497 - حَدَّثَنا المَكِّيُّ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ
قَالَ: «كَانَ جِدَارُ المَسْجِدِ عِنْدَ المِنْبَرِ مَا كَادَتِ الشَّاةُ
تَجُوزُهَا». [خ 497]
وعند أبي داود: «كانَ بينَ الْمُصَلَّى والقِبْلَةِ قَدْرُ مَمَرِّ الشَّاةِ».
وكأنَّ البخاريَّ لَمَحَ أن في حديث سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ القائل فيه أبو
داود اخْتُلِفَ في إسناده: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إذَا
صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ
عَلَيْهِ صَلَاتَهُ».
(1/4)
وعندَ
ابنِ أَبِي شَيْبَةَ بسندٍ صحيحِ عنْ أَبِي سعيدٍ يرفعه: «إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا».
وعنْ عَبْدِ اللهِ بسند فيه لَيْث: «لَا تُصَلِّيَنَّ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ فَجْوَةٌ، تَقَدَّمْ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوِ اسْتَتِرْ بِسَارِيَةٍ».
وعنِ ابنِ عُمَرَ بسندٍ فيه ضَعْفٌ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى
سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا كَيْلَا يَمُرَّ الشَّيْطَانُ أَمَامَهُ».
فأراد أنْ يُبَيِّنَ مقدار ما يكون بينهما.
وزَعَمَ القرطبيُّ أن بعض المشايخ حمل حديثَ مَمَرِّ الشاةِ على ما إذا كان
قائمًا، وحديثَ بلالٍ أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما صلَّى في الكعبة
جعل بينه ويبن القبلة قريبًا من ثلاثة أذرع: على ما إذا ركع أو سجد، قال: ولم
يحدَّ مالك في ذلك حَدًّا إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ويتمكن من دَفْعِ منْ
مَرَّ بين يديه، وقَيَّدَهُ بعضُ الناس بشبرٍ، وآخرون بثلاثة أذرع وبه قال الشافعي
وأحمد، وآخرون بستة أذرع.
ذكر السَّفَاقُسيُّ قال أبو إسحاقَ رأيتُ عبد الله بنَ مُغَفَّلٍ يصلي وبينه وبين
القبلة ستة أذرع، وفي نسخة: «ثلاث أذرع»، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صححه نحوه،
والصَّلاةُ إلى الراية وإلى العَنَزَةِ والسُّتْرَةِ بمكةَ تقدَّمَ ذكرها.
(بَابُ الصَّلاَةِ إِلَى الأُسْطُوَانَةِ)
قَالَ عُمَرُ: «الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنَ المُتَحَدِّثِينَ
إِلَيْهَا»، وَرَأَى عُمَرُ رَجُلًا يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ
فَأَدْنَاهُ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقَالَ: صَلِّ إِلَيْهَا.
هذا الرجل هو قُرَّةُ أَبُو مُعَاويةَ بنُ قُرَّةَ روى ذلك عنه أنه قال: «رآني عمر
وأنا أصلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانتَيْنِ فأخذَ بِقَفَايَ فَأَدْنَانِي منَ
السُّتْرَةِ وقالَ: صَلِّ إِلَيْهَا».
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: إنما كره عمر ذلك لأجل انقطاع الصفوف.
(1/5)
502
- حَدَّثَنا المَكِّيُّ، حَدَّثَنا يَزِيدُ قَالَ: «كُنْتُ آتِي مَعَ سَلَمَةَ
بْنِ الأَكْوَعِ فَيُصَلِّي عِنْدَ الأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ المُصْحَفِ،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَ هَذِهِ
الأُسْطُوَانَةِ، قَالَ: فَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَتَحَرَّى الصَّلاَةَ عِنْدَهَا». [خ 502]
وعند مسلم: «يُصَلِّي وراءَ الصندوقِ» وفي رواية: «كَانَ يَتَحَرَّى مَكَانَ
الْمُصْحَفِ يُسَبِّحُ فِيهِ».
503 - حَدَّثَنا قَبِيصَةُ حَدَّثَنا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ عَنْ
أَنَسٍ قالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ كِبَارَ أَصْحَابِ محمد صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ المَغْرِبِ» وَزَادَ شُعْبَةُ، عَنْ
عَمْرٍو عَنْ أَنَسٍ: «حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
[خ 503]
هذه الزيادة ذكرها البخاريُّ مُسْنَدَةً في بابِ كَمْ بَيْنَ الأَذَانِ
وَالإِقَامَةِ بزيادة: «حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ المَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ».
قال البخاريُّ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ: عَنْ سعيدٍ، لَمْ
يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلَّا قَلِيلٌ.
حديث عثمان ذكره الإسماعيلي في «صحيحه» وأبو داود هذا هو الحَفْرِيُّ واسمه عمر بن
سعيد وعند الإسماعيلي في «صحيحه»:
«قامَ كبارُ الصحابةِ فَابْتَدَرُوا السَّواري».
وعند مسلم: «إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا
السَّوَارِيَ، فرَكَعَوُا رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ
لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ
مَنْ يُصَلِّيْهَا».
(1/6)
وفي
لفظ: «كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ».
قال المختارُ بنُ فُلْفُل: قلتُ لأنس أكان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
صلَّاهما؟ قال: «كان يرانا نُصَلِّيها فَلَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا».
والحديث الذي خَرَّجَه أبو عبد الله ليس فيه تصريحٌ بالصَّلاةِ عند السَّواري.
وقد اختلف العلماء في الصلاة بين السواري فكرهه أنس وقال: «كُنَّا نَتَّقِيْه على
عهد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ»، وفي لفظ: «كُنَّا نُنْهَى عَنِ
الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوارِي وَنُطْرَدُ عَنْهُمَا» صَحَّحَهُما الحاكمُ، وقال
ابن مسعود: «لَا تَصُفُّوا بَيْنَ الْأَسَاطِينِ». وكرهه حذيفةُ وإبراهيم، قَالَ
القُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا كُرِهَتِ الصلاةُ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ؛ لأنَّه رُوِيَ في
الحديث أَنَّها مُصَلَّى الجن المؤمنين، وأجازه الحسن ومحمد وابن سيرين، وكان ابنُ
جُبَيْرٍ وإبراهيمُ التيميُّ وسُويد بنُ غَفْلَة يَؤُمُّونَ قوهم بَيْنَ
الْأَسَاطِينِ، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك: لا بأس بذلك لِتَضَيُّقِ المسجد،
وقال ابن جبير: وليس النهي عن تقطيع الصفوف إذا ضاق المسجد وإنما نُهِيَ عنه إذا
كان المسجد واسعًا، وقَالَ الدَّاودِيُّ: في هذا الحديث أنَّ الفَذَّ لا يصلي إلى
سُتْرَةٍ.
(باب الصلاة بين السَّوَاري)
يأتي في الحج إن شاء الله تعالى، والصلاة إلى الراحلة تقدم في الصلاة على الفراش،
والركعتين قبل المغرب يأتي في التطوع.
(بَابٌ يَرُدُّ المُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ)
وَرَدَّ ابنُ عُمَرَ فِي التَّشَهُّدِ وَفِي الكَعْبَةِ، وَقَالَ: إِنْ أَبَى
إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ فَقَاتِلْهُ. قال أبو محمد الإشبيلي في كتابه «الجمع بين
الصحيحين» كذا وقع: (وَفِي الكَعْبَةِ).
(1/7)
وَقالَ
ابنُ قُرْقُولك وردَّ ابن عمر في التشهد وفي الركعة، قال القَابِسِيُّ: (وَفِي
الرَّكْعَةِ) بدلًا: منَ (الكَعْبَةِ) أشبه، وكذا وقع في بعض الأصول:
(الرَّكْعَةِ)، والظاهر أنه: (وَفِي الكَعْبَةِ) وهو الصواب لما في «كتاب الصلاة»
لِأَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ عنْ صالحِ بنِ
كَيْسَانَ قال: رأيْتُ ابنَ عُمَرَ يُصَلِّي في الكعبةِ فَلَا يَدَعُ أَحَدًا
يَمُرُّ بَيَنَ يَدَيْهِ يُبَادِرُهُ، قال: يَرُدُّهُ.
حَدَّثَنَا فِطْرُ بنُ خَلِيْفَةَ، حَدَّثَنا عَمْرو بنُ دينارٍ قالَ: «مَرَرْتُ
بابنِ عُمَرَ بَعْدَمَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ حَتَّى أَنْظُرَ ما يَصْنَعُ
فارتفعَ مِنْ مكانِهِ، فَدَفَعَ في صَدْري».
وقال ابنُ أبي شَيْبَةَ: حدَّثَنَا ابن فُضَيْلٍ، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ قَالَ: «مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ ابنِ عُمَرَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ،
فَارْتَفَعَ مِنْ قُعُودِهِ، ثُمَّ دَفَعَ فِي صَدْرِي»، وفي «كتاب الصلاة»
لِأَبِي نُعَيْمٍ: «فَانْتَهَرَنِي بِتَسْبِيحِهِ».
وفي حديث يزيد الفقير: «صليتُ إلى جنبِ ابنِ عُمَرَ بمكةَ فلم أَرَ رجلًا أكره أن
يُمَرَّ بين يديه منه».
(1/8)
509
- حَدَّثَنا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنا يُونُسُ، عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ فِي
يَوْمِ جُمُعَةٍ يُصَلِّي إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ
شَابٌّ مِنْ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ
أَبُوسَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ، فَنَظَرَ الشَّابُّ فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلَّا
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ فَدَفَعَهُ أَبُوسَعِيدٍ أَشَدَّ مِنَ
الأُولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا
إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى
مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَالَكَ وَلِابنِ أَخِيكَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ:
سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا صَلَّى
أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ
بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ
شَيْطَانٌ». [خ 509]
وفي لفظ: «إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ وَهُوَ يُصَلِّي
فَلْيَمْنَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيَمْنَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَليُقَاتِلْهُ». وعند
مسلم: «فَلْيَدْفَعْ فِي نَحْرِهِ، وَلْيَدْرَأْهُ مَا اسْتَطَاعَ».
وعند ابنِ مَاجَه: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ،
وَلْيَدْنُ مِنْهَا، وَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ جَاءَ
أَحَدٌ يَمُرُّ فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ».
وعند النَّسَائيِّ: «فَأَرَادَ ابنٌ لِمَرْوانَ أنْ يَمُرَّ بين يديه» قال ابن
الجوزي في «التلقيح»: هو داودُ بنُ مروانَ بنِ الحكمِ، وأمه: أمُّ أَبَانَ بنت
عثمان بن عفان.
(1/9)
وفي
«صحيح ابن حبان»: «فَلْيَدْنُ مِنْهَا -يعني السُّتْرَةَ- فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
يَمُرُّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا».
وعند أبي داود من طريق مُجَالِدٍ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَؤوا مَا
اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»
أَخْبَرَنَا الإمامُ الْمُسْنِدُ عبدُ الله بنُ عليِّ بنِ عمرَ الْحِمْيَرِيُّ،
أَخْبَرَنَا الإمامُ أبو عبد الله محمدُ بنُ عبد الرحمن بنِ أحمد بن عِمْرَانَ
الأنصاري قرأه عليه عن الإمام أبي جَعْفَرٍ محمد بن أحمد بن نَصْر الصَّيْدَلَاني،
أَخْبَرَنَا أبو منصور محمودُ بنُ إسماعيلَ الصيرفيُّ قراءة عليه وأنا حاضر،
أَخْبَرَنَا أبو بكر بن شاذان الأعرج، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ محمد بْنِ فَوْرَكٍ الْقَبَّابُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ
اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بنِ عبدِ السَّلام التَّيْمِيُّ،
أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ بجميع «كتاب الصلاة» تأليفه
قال: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بنُ عَامِرٍ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ قَالَ:
«بَيْنَمَا أَبُو سَعِيدٍ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ
الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَدَرأَهُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَفَعَهُ
ولَكَمَهُ».
(1/10)
وفي
«المصنف» لابن أبي شيبة: حَدَّثَنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ ابنِ
سِيرِينَ قَالَ: «كَانَ أَبُو سَعِيدٍ قَائِمًا يُصَلِّي، فَجَاءَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَنَعَهُ
وَأَبَى إِلَّا أَنْ يَجِيءَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَطَرَحَهُ، فَقِيلَ لَهُ:
تَصْنَعُ هَذَا بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ أَبَى إِلَّا أَنْ
آخُذَهُ بِشَعْرِهِ لَأَخَذْتُ» (1).
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ جمعَ البخاريُّ بين الحديثين وذكر لفظ سليمان بن المغيرة
وليس في حديث يونس ذكر السترة.
وفيه الإطلاق للدافع إذا مر في غير سترة بسترة.
وفي حديث سليمان دفعه إذا كان المصلي إلى سترة، وفي هذا تَجُوُّزٌ، قال: وتابع
يونس سليمان بن حيَّان عن حُمَيْدٍ في مسند منه
وأرسله خالد الواسطي عن يونس عن حميد عن أبي سعيد لم يذكرْ أبا صالح.
وعند ابن التين: قال أبو سعيد لمروان قد كنت نهيته فأبى أن ينتهي.
ذكر أبو زكريا عن بعض الشافعية أن المصلي إذا لم يستقبل شيئًا أو تباعد عن
السُّتْرَةِ، فإنْ مرَّ أحدٌ وراء موضع السجود لم يُكْرَه، وإن أراد المرور في
موضع السجود كُرِهَ وليس للمصلي أن يقاتله؛ لأنَّه قَصَّرَ حيث لم يَسْتُر أو
يَقْرُب من السُّتْرَةِ.
وقيل: له إذا صلى إلى غير سترة أن يدفع من مَرَّ بين يديه.
وقال مالك: لا يردُّهُ وهو ساجد (2)، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: فِإن لم يجد مساغًا إلا
مروره بين يديه ويَشُقُّ الصبرُ إلى فراغه، والمصلي يجد مَنْدُوحَةً عن ذلك الموضع
فإنْ صلى إلى غير سُترة وللمارِّ مندوحة أثم المار، وقيل: يأثمان جميعًا؛ لأنَّ
المارَّ ارتكب محظورًا والمصلي عرض نفسه لذلك وهي مسألة عقلية.
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (2930)
(2) التمهيد (4/ 489)،والإستذكار (6/ 164)
(1/11)
وقال
الدَّاروني في قوله: (لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ) يريد الأمر عددًا، وهذا في
الإمام والفذِّ يدل على ذلك حديث ابن عباس وغيره.
وزعم ابن العربي أن الناس اختلفوا في وجوب وضع السترة بين يدي المصلي على ثلاثة
أقوال:
الأول: أنه واجب فإن لم يجد وضع خطًا، وبه قال أحمد كأنه اعتمد حديث ابن عمر الذي
صححه الحاكم: «لَاتُصَلُّوا إِلَّا إِلَى سُتْرَةٍ، وَلَا تَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ
بَيْنَ يَدَيْكَ».
وعند أبي نعيم في «كتاب الصلاة»: حَدَّثَنا سليمان أظنه عن حميد بن هلال قال عمر
بن الخطاب: «لو يعلمُ الْمُصَلِّي ما يَنْقُصُ منْ صَلَاتِه مَا صَلَّى إِلَّا
إِلى شَيءٍ يَسْتُرُهُ منَ النَّاسِ».
وعند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: «إِنَّهُ لَيَقْطَعُ نِصْفَ صَلَاةِ الْمَرْءِ
مُرُورُ الْمَرْءِ بَيْنَ يَدَيْهِ».
وحديثُ أَبِي عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْروِ بنِ حُرَيْثٍ، عَنْ جَدِّهِ
حُرَيْثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ
وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ
فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» خَرَّجه ابن
حِبَّان في «صحيحه» وذكر عبدُ الحق: أنَّ ابن المديني وأحمد بن حنبل صححاه.
وفي «علل الخلال» قال أحمد: الخط ضعيف، وإنما أرى أن من صلى في فضاء أجزأه، قيل
له: بأي حديث؟ قال: بحديث ليس بذاك شعبة عن الحكم عن يحيى بن الجزار عن صهيب رجل
من أهل البصرة عن ابن عباس: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلَّى في
فضاءٍ ليسَ بينَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ» ورواه الحكم عن يحيى عن ابن عباس لم يذكر
صُهَيْبًا، وقال أبو حاتم الرازي في «العلل»: هذا زاد رجلًا وهذا نقص رجلًا
وكلاهما صحيح.
(1/12)
وقَالَ
الدَّارَقُطْني حديث أبي هريرة روي عنه من طرق ولا يصح ولا يثبت، قال ابن عيينة:
لم يجد شيئًا يشد به هذا الحديث ولم يجئ إلا من هذا الوجه، وكان إسماعيل بن أمية
إذا حدَّث به قال:
عندكم شيء تَشُدُّونه به، وأَشَارَ الشَّافِعِيُّ أيضًا إِلى ضَعْفِهِ بقوله في
«سُنَنِ حرملة»: ولا يخطُّ المصلي بين يديه خطًّا إلا أن يكون ذلك في حديثٍ ثابتٍ
يُتَّبَعُ.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: ولا بأسَ به -يعني بالحديث- في مثل هذا الحكم.
وقَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سُئِلَ عَنْ وَصْفِ
الْخَطِّ غَيْرَ مَرَّةٍ فَقَالَ: هَكَذَا عَرْضًا مِثْلَ الْهِلَالِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: سمعتُ مُسَدَّدًا يقول: قَالَ ابنُ دَاوُدَ: الْخَطُّ
بِالطُّولِ.
قال ابنُ عُيَيْنَةَ: رأيت شريكًا صلى بنا في جنازة العصر فوضع قلنسوته بينَ يديه
يعني في فريضة حضرت.
قال ابن العربي: قال بعضهم يكون منصوبًا كهيئة مُحَارِبِينا، ومنهم من قال: يكون
طولًا.
واختلفوا فمنهم من قال يكون طولًا من المشرق إلى المغرب، ومنهم من قال من الشمال
إلى الجنوب وهذا الحديث لو صحَّ قلنا به إلا أنَّه معلولٌ فلا معنى للنصب فيه.
وقال لي أبو الوفاء بنُ عَقِيْل وأبو سعيد البَرْدَاني شيخنا مذهب أحمد، كان أحمد
يرى أن ضعيف الأثر خير من قوي النظر.
وقال أبو عمر في «التمهيد»: قال أبو حنيفة ومالك والليث الخط ليس شيئًا وهو باطلٌ،
وكان الشافعي يقول به بالعراق وأي ذلك بمصر.
قال ابن العربي: واستحبَّ السترة أبو حنيفة ومالك والشافعي، وعن مالك جواز تركها.
انتهى.
فإن لم يجد المصلي ما يستر به يفعل بما حكى ابن أبي شيبة في «مسنده» بسند صحيح عن
مالك قال: «كَانَ ابنُ عُمَرَ، إِذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ
سَوَارِي الْمَسْجِدِ، قَالَ لِي: وَلِّ ظَهْرَكَ».
(1/13)
وعَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: يَسْتُرُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِذَا كَانَ جَالِسًا وَهُوَ
يُصَلِّي، وقاله الحسن وإبراهيم، وأخبرنا ابن سيرين: فإذا كانت لديه سترة كيف يكون
قيامه خلفها، روى أبو داود من حديث أبي عُبَيْدَةَ الوليدِ بن كامل وفيه ضعفٌ:
أنَّ الْمِقْدَادَ بنَ الأسودِ قال: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَى عُودٍ وَلَا عَمُودٍ وَلَا شَجَرَةٍ إِلَّا
جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ وَلَا يَصْمُدُ لَهُ
صَمْدًا».
قوله: (فَلْيَدْفَعْهُ) قال أبو زكريا: هذا أمرٌ نَدْبٌ متأكدٌ، ولا أعلم أحدا من
الفقهاء أوجبه.
وقال عياض: وأجمعوا أنه لا يلزمه مقاتلته بالسلاح ولا ما يؤدي إلى هلاكه، فإن دفعه
بما يجوز فَهَلَكَ من ذلك فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل تجب ديته أم يكون
هَدْرًا؟ فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان في مذهب مالك، قال ابن شعبان: عليه الدية
في ماله كاملة، وقيل: هي على عاقلته، وقيل: هَدْرٌ، ذكره ابن التين.
قال عياضٌ: واتفقوا على أنه لا يجوز له المشي إليه من موضعه ليردَّه وإنما
يُدَافِعُهُ ويردُّه من موقفه؛ لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره بين يديه،
وإنما أُبِيْحَ له قَدْرُ ما يناله من موقفه، وإنما يردُّه إذا كان بعيدًا منه
بالإشارة والتسبيح، واتفقوا على أنه إذا مَرَّ لا يردُّه لئلا يصير مرورًا ثانيًا
إلا شيئًا رُوِيَ عن بعض السلف أنه يرده واختلفوا إذا جاء بين يديه وأدركه
هل يرده أم لا؟.
فقال ابن مسعود: يردُّه ورُوِيَ ذلك عن الحسن وسالم.
وقال أَشْهَبُ: يردُّه بإشارة ولا يمشي إليه؛ لأنَّ مشيه أشد من مروره، فإن مشى
إليه وردَّه لم تفسد صلاته.
وقال بعضهم في قوله: (فَلْيُقَاتِلْهُ) أي: فَلْيَلْعَنْهُ، قال تعالى: {قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] أي: لُعِنُوا، وأنكر بعضهم.
(1/14)
قَالَ
القُرْطُبِيُّ: ويحتمل أن يكون معناه الحامل له على ذلك الشيطان، يُؤَيِّدُهُ حديث
ابن عمر من عند مسلم: «لَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ أَبَى
فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ»، وعند ابن ماجه: «فإنَّ مَعَهَ
العُدي»، وفي «الأوسط»: «فَرُدَّهُ، فَإِنْ عَادَ فَرُدَّهُ، فَإِنْ عَادَ
فَرُدَّهُ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ
الشَّيْطَانُ»، وقيل: فِعلُ الشيطان لشغل قلب المصلي كما يخطر الشيطان بين المرء
ونفسه.
وأَنْبَؤُونَا عن الشيخ أبي محمد بن أبي حمزة أنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» ومقاتلة الشيطان بالأفعال اليسيرة
كالاستعاذة والرقية وشبهها، إذ العمل اليسير من أجل الضرورة جائز في الصلاةِ، فإذا
قاتله قتالًا شديدًا أخرجه عن حدِّ الصلاة، فقد رجع المصلي شيطانًا آخر بل أشد
منه، وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي أو هو من أجل المارِّ؟ قال: والظاهر
أنه من أجل المارِّ، وإن كان ليس في الحديث من أين، لكن من خارج وهو قوله عن
المار: (لَأَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يمرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ)
وقال في حق المصلي: (إِنَّ الصَّلَاةَ لَا يَقْطَعُهَا شَيْءٌ). انتهى كلامه.
ويحدثنا فيه قول عمر وابن مسعود الذي أسلفناه من نقص صلاة المصلي.
وأجمعوا أنه لا يجوز للمصلي أن يرَى نفسًا تذهب وهو قادر على سلامتها يتركها
ويصلي، فإن فعل فهو آثمٌ، وأُمِرَ المصلي أولا بالدفع لاحتمال أن يكون ساهيًا أو
لم يرَ المصلي أو لم يتبين له أنه يصلي أو فعله عامدًا فإن رجع حصل المقصود، فإن
لم يرجع قُوتِل.
وحكى السَّفَاقُسيُّ عن أبي حنيفة بطلان الصلاة بالدفع وهو قول الشافعي في القديم.
وقال ابن المنذر: يدفع في نحره أول مرة، ويقاتله في الثانية وهي المدافعة. انتهى.
(1/15)
قد
ذكرنا قبل أن المقاتلة إنما تكون بعد الثالثة، وقيل: يؤاخذه على ذلك بعد إتمام
الصلاة، ويُؤَنِّبُهُ.
وقيل: يدفعه دفعًا أشد من الردِّ مُنْكِرًا عليه.
وفي «التمهيد»: العملُ القليلُ في الصلاةِ جائزٌ، نحو قتل الْبُرْغُوثِ، وحكِّ
الجسد، وقتل العقربِ بما خفَّ من الضرب ما لم تكن المتابعة والطول والمشي إلى
الْفُرَجِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا وَدَرْءِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُصَلِّي وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَكْثُرْ فَإِنْ كَثُرَ أَفْسَدَ.
وضَمَّنَ عمر بن عبد العزيز رجلًا دفع آخر وهو يصلي فكسر أنفه دية ما جنى على
أنفه.
والصحيح عندنا أن الصلاة لا يقطعها ما يمر بين يدي المصلي بوجه من الوجوه ولو كان
خنزيرًا، وإنما يقطعها ما يفسدها من الحدث وغيره مما جاءت به الشريعة، قال الثوري:
يمر الرجل بين يديَّ يتبختر فأمنعه ويمر
الضعيف فأتركه.
قال ابن العربي: قال بعض الناس وغلط إذا صلى إلى غير سترة فلا يدع أحدًا يمر بين
يديه بمقدار رمية سهم، وقيل: رمية حجر، وقيل: رمية رمح، وقيل: بمقدار المطاعنة،
وقيل: بمقدار المضاربة بالسيف.
قال أبو بكر: وحريم المصلي سواء وضع بين يديه سترة أو لم يضعها هي بمقدار ما
يستقلُّ قائمًا وساجدًا وراكعًا، لا يستحق من الأرض كلها سواها، وسوى ذَلك لغيره.
(بَابُ إِثْمِ المَارِّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي)
(1/16)
510
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي
النَّضْرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ، أَرْسَلَهُ إِلَى
أَبِي جُهَيْمٍ يَسْأَلُهُ: مَاذَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فِي المَارِّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي، فَقَالَ أَبُو جُهَيْمٍ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ
يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ منَ الإثمِ، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ
خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ
أَدْرِي، قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا، أَوْ سَنَةً. [خ 510]
هذا خرَّجَه الستة في كتبهم، وعند ابن ماجهْ: حَدَّثَنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ،
حدَّثَنَا ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ بُسْرٍ قَالَ: أَرْسَلُونِي
إِلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي،
فَأَخْبَرَنِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَأَنْ
يَقُومَ أَرْبَعِينَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» قَالَ
سُفْيَانُ: فَلَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَوْ شَهْرًا، أَوْ صَبَاحًا، أَوْ
سَاعَةً.
وفي «مسند البزار»: حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ به
وفيه: أَرْسَلَنِي أَبُو جُهَيْمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ فَقَالَ: «لَأَنْ
يَقُومَ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».
قال أبو عمر في «التمهيد»: رواه ابن عيينة مقلوبًا، والقول عندنا قول مالك ومن
تابعه.
(1/17)
وقال
ابن القطان: إن في حديث البزار خُطِّئ فيه ابن عيينة وليس خطؤه بمتعين لاحتمال أن
يكون أبو جُهَيْمٍ بعث بُسْرًا إلى زيد، وزيد بعثه إلى أبي جُهَيْم يَسْتَثْبِتُ
كل واحد ما عند الآخر، فأخبر كل منهما محفوظه فشك أحدهما وجزم الآخر، واجتمع ذلك
كله عند أبي النضر.
وفي صحيح أبي حاتم ابن حبان عن أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ مَا لَهُ فِي أَنْ يَمرَّ بَيْنَ يَدَيْ
أَخِيهِ مُعْتَرِضًا في الصلاةِ، كانَ لأَنْ يقيمَ مِئَةَ عَامٍ خيرٌ لهُ مِنَ
الْخُطْوَةِ الَّتِي خَطَا».
قال الطحاويُّ: وهذا عندنا متأخر عن حديث أبي جهيم وأولى الأشياء بنا أن نظنه
بالله تعالى الزيادة في الوعيد للعاصي المار بين يدي المصلي لا التخفيف.
وعند أبي القاسم في «الأوسط» عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «إنَّ الذي يمرُّ بينَ
يدي الْمُصَلِّي عمدًا يَتَمَنَّى يوم القيامة أنه شجرةٌ يابسة».
وفي «المصنف» عن عبد الحميد عامل عمر بن عبد العزيز قال صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «لو يعلمُ المارُّ بينَ يَدَي الْمُصَلِّي ما عليه لأحبَّ أنْ تنكسرَ
فخذه، ولا يمرَّ بين يديه».
وقال ابن مسعود: المارُّ بين
يدي المصلي أنقص من الممر عليه، وكان إذا مرَّ أحدٌ بين يديه التزمه حتى يردَّه.
وعند ابن بَطَّالٍ قال عمر: لكان يقوم حولًا خيرٌ له من مروره.
وقال كعبُ الأَحْبَارُ: لكان أن يُخْسَفَ به خيرٌ له من أن يمرَّ بين يديه.
قال القاضي ابن العربي: روي (خَيْرًا له) على أنه الخبر، وبالضم على أنه اسم كان.
(بَابُ اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي صَلاَتِهِ وَهُوَ
يُصَلِّي)
(1/18)
وَكَرِهَ
عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُصَلِّي، وَإِنَّمَا هَذَا إِذَا
اشْتَغَلَ بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ إِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَقْطَعُ صَلاَةَ الرَّجُلِ. قوله:
(وَإِنَّمَا هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ) هو من كلام البخاريِّ.
وفي «كتاب الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ الدُّكَيْنِيِّ حَدَّثَنا مِسْعَرٌ قال: أراني
أول من سمعه من القاسم قال: ضرب عمر رجلين أحدهما مستقبل والآخر يصلي.
وحَدَّثَنَا سفيان، حَدَّثَنا رجلٌ عن سعيدِ بن جُبَيْرٍ: أنه كره أن يصلي وبين
يديه مُخَنَّثٌ مُحْدِثٌ.
وحَدَّثَنَا سفيانُ، عن أَشْعَثَ بن أبي الشَّعْثَاءِ عن ابن جُبَيْرٍ قال: إذا
كانوا يذكرون الله تعالى فلا بأس.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أجاز الكوفيون والثوري والأوزاعي بالصلاة خلف المتحدثين،
وكرهه ابن مسعود، وكان ابن عمر لا يستقبل من يتكلم إلا بعد الجمعة.
وعن مالك: لا بأس أن يصلي إلى ظهر الرجل، وأما إلى جنبه فلا، ورُوِيَ عنه التخفيف
في ذلك، قال: لا يُصَلِّ إلى المتحلقين؛ لأن بعضهم يستقبله، قال: وأرجو أن يكون
واسعًا، وحديث عائشة تقدم ذكره في الصلاة على الفراش.
وقوله هنا: (وَعَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ
عَائِشَةَ نَحْوَهُ) خَرَّجَه مُسْنَدًا بعدُ عن عمرَ بن حَفْصٍ عن أبيه عن
الأعمش، ووجه مطابقته بهذا الباب فيما ذكره ابن المنار قال: لأنه يدل على المقصود
بطريق الأولى وإن لم يكن تصريح بأنها كانت مستقبلته فلعلها كانت منحرفة أو
مستديرة. انتهى.
(1/19)
الحديث
فيه كاعتِرَاضِ الجنَازَةِ، والجنازة إذا كانت معترضة تكون عَلَى قفاها، وقد ورد
أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، فإذا كان كذلك فهو ناظر إلى وجهها لاسيما على قول
من قال: كانا على السرير، وقد ورد في «مسند ابن سَنْجر» قال صلى عليه وسلم:
«إِنِّي نُهِيْتُ أَنْ أُصَلِّيَ إلى النِّيَامِ والْمُتَحَدِّثين» وهو عند ابن
ماجه بسند ضعيف: «نهى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنْ تُصَلِّيَ خلفَ
الْمُتَحَدِّثِ والنَّائِمِ».
وَكَرِهَ مالكٌ الصلاة إلى النائم إلا أن يكون دونه سترة، وأجازه غيره للحديث وهو
الصحيح، والأبواب الثلاثة التي بَعْدُ تقدمت في الصلاة على الفراش.
وقوله في باب من قال: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيءٌ» وكأنه احترز بهذا من أن
الحديث الذي ذكره ليس فيه ما بَوَّبَ له إنما فيه قول الزهري: (لَا يَقْطَعُهَا
شَيْءٌ) فلهذا قال: (من قال) أي يعني الأمة لا أنه في تغير الحديث لفظًا، أو اعتمد
ما ذكرناه بعدُ من عند الدَّارَقُطْني وغيره [7/ أ].
قال البخاري: حَدَّثَنا إسحاق، حَدَّثَنا يعقوبُ بنُ إبراهيمَ بنِ سعد، قَالَ
أَبُو نُعَيْمٍ الحافظ: إسحاق هذا هو الكَوْسَجُ. انتهى.
ورأيت في بعض الأصول: <حَدَّثَنَا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ> فَيُنْظَرُ:
ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ الصَّلاةَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيءٌ، رُوي ذلك عن
عثمان وعلي وحذيفة وابن عمر والشعبي وعُروة وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة
والشافعي وأبي ثور وغيرهم.
(1/20)
وعن
أحمد لا يقطعُ الصلاة إلا الكلبَ الأسود، قال: وفي قلبي من المرأة والحمار شيءٌ،
كأنه اعتمد ما في مسلم من حديثِ عبدِ الله بنِ الصَّامتِ عن أبي ذَرٍّ يرفعه:
«إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْ أحدكم مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فَإِنَّهُ
يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْمَرْأَةُ والحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ قُلْتُ: فَمَا
بَالُ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ؟ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: الْكَلبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ».
وعن أبي هريرة مرفوعًا: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ
وَالْكَلْبُ».
وعند أبي داود بسندٍ صحيحٍ عن ابن عباس مرفوعًا: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ
الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ الحَائِضُ» قال: رَفَعَهُ شُعْبَةُ ووقَفَهُ سعيد وهشام
وهمام على ابن عباس. انتهى كلامه.
وفيه نظر لما ذكره ابنُ حَزْمٍ.
وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان قال: شعبة عن قتادة سمع جابرًا عن ابن عباس
فذكره موقوفًا.
ومن طريق حجاج بن منهال: أنبأنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس
به موقوفًا، وقال هذان إسنادان لا يوجد أصح منهما.
وعند أبي جابر بن خلف: «أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي فَمَرَّتْ شَاةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَاعَاهَا إِلَى الْقِبْلَةِ حَتَّى
أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِالْقِبْلَةِ» وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري.
وعند أبي شيبة بسند صحيح: «فَذَهَبَ جَدْيٌ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ
يَتَّقِيهِ». وفي لفظ: «فَجَعَلَ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ حَتَّى نَرَى
الْجَدْيَ».
(1/21)
وعند
ابن ماجه: «ذُكِرَ عند ابن عباس ما يقطع الصلاة، فذكروا الْكَلْبَ، وَالْحِمَارَ،
فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْجَدْيِ؟ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي يَوْمًا، فَذَهَبَ جَدْيٌ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَبَادَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْقِبْلَةَ».
وعند أبي داود من حديث مُعَاذٍ بن هشامٍ عن أبيه عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَحْسَبُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى غَيْرِ سُتْرَةٍ فَإِنَّهُ
يَقْطَعُ صَلَاتَهُ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْيَهُودِيُّ
وَالْمَجُوسِيُّ وَالْمَرْأَةُ، وَيُجْزِئُ عَنْهُ إِذَا مَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ
عَلَى قَذْفَةٍ بِحَجَرٍ».
قَالَ أَبُودَاوُدَ: فِي نَفْسِي مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ شَيْءٌ، كُنْتُ أُذَاكِرُ
بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرَهُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا جَاءَ بِهِ عَنْ هِشَامٍ وَلَا
نعْرِفُهُ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ هِشَامٍ، وَأَحْسَبُ
الْوَهْمَ مِنَ ابنِ أَبِي سَمِينَةَ، وَالْمُنْكَرُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَجُوسِيِّ،
وَفِيهِ عَلَى قَذْفَةٍ بِحَجَرٍ، وَذِكْرُ الْخِنْزِيرِ، وَفِيه نَكَارَةٌ،
وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنِ ابنِ أَبِي سَمِينَةَ وَأَحْسَبُهُ
وَهِمَ لِأَنَّهُ كَانَ يُحَدَّثَنَا مِنْ حِفْظِهِ.
قال ابن القطان: ليس في سنده مُتَكَلَّمٌ فيه، غير أن عليه باديةً وهي الشكُّ في
رفعه، فلا يجوز أن يقال إنه مرفوع، وقد جاء هذا الخبر بذكر أربعة فقط عن ابن عباس
موقوفًا بسند صحيح.
(1/22)
قال
البزاز حدَّثَنَا ابن مُثَنًّى، حَدَّثَنا عَبد الأعلى، حَدَّثَنا سَعِيد، عَن
قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ؟ قَالَ:
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الْكَلْبُ الأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ، قَالَ:
قُلْتُ: قَدْ كَانَ يَذْكُرُ الثَّالِث قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: الْحِمَارُ،
قَالَ: رُوَيْدَكَ الْحِمَارُ، قُلْتُ: قَدْ كَانَ يَذْكُرُ الرَّابِعَ، قَالَ:
مَا هُوَ؟ قُلْتُ: الْعِلْجُ الْكَافِرُ. قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لا يَمُرَّ
بَيْنَ يَدَيْكَ كَافِرٌ، ولا مُسْلِمٌ فَافْعَلْ. انتهى كلامه.
ولقائل أن يقول إن اللفظين الآخرين ليسا في نفس الحديث إنما قال: اصبر ولم يبين له
بعد الصبر ما الأمر؟.
وفي «العِلَل» لابن أبي حاتم سُئِلَ أبو زرعة على حديث رواه عُبَيْس بن ميمون عن
ابنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمة عن أبي هريرة يرفعه: «يَقْطَعُ الصَّلاَةَ
الكَلْبُ، وَالحِمَارُ، وَالمَرْأَةُ، واليَهُودِيُّ، والنَّصْرانِيُّ،
وَالمَجُوسِيُّ، وَالخِنْزيرُ» فقال: هذا حديث منكر، وهو عند مسلم: «يقطعُ الصلاةَ
المرأةُ والكلبُ والحمارُ».
وكذا رواه ابن مُغَفَّلٍ عند ابن ماجه بسند صحيح، ومن حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عن أبي داود «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صَلَّى إِلَى جِدَارٍ فَجَاءَتْ بَهْمَةٌ تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا
زَالَ يُدَارِئُهَا حَتَّى لَصَقَ بَطْنَهُ بِالْجِدَارِ، فَمَرَّتْ مِنْ
وَرَائِهِ».
وبنحوه رواه جابر عند أبي القاسم في «الأوسط» بزيادة: «لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ
شَيْءٌ، وَادْرَؤوا مَا اسْتَطَعْتُمْ». وعنده من حديث أنس: «بادر النبيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَقْذَةً أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ».
(1/23)
وروينا
في «كتاب فوائد الثقفي» عنه: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ،
وَالْحِمَارُ».
وعند الطبرانيِّ من حديث علي مرفوعًا: «لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ شَيْءٌ إِلَّا
الْحَدَثُ».
وعند أبي نُعَيْمِ بنِ دُكَيْن عن الحكم: «كانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي فَأَرَادَتْ شاةٌ أنْ تمرَّ بينَ يَدَيْهِ، فَحَالَ بَيْنَهَا وبينَ
القِبْلَةِ».
وعند الدَّارَقُطْني بسند ضعيف عن أبي أُمامة مرفوعًا: «لاَ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ
شَيْءٌ».
وعنده أيضًا بسندٍ جيدٍ عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأبا بكر
وعمر قالوا: «لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمُسْلِمِ شَيْءٌ، وَادْرَؤوا مَا
اسْتَطَعْتُمْ».
وعنده بسندٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عمر أنه قال: كان يقال: «لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ
الْمُسْلِمِ شَيْءٌ».
وعند الحاكم على شرط مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: «الْهِرَّةُ لَا تَقْطَعُ
الصَّلَاةَ، لِأَنَّهَا مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ».
وفي مراسيل أبي داود بسندٍ فيه ضَعْفٌ: «أَنَّ قِطًّا أَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ
يَدَيِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَحَبَسَهُ بِرِجْلِهِ».
وعند ابن ماجه بسند فيه ضعفٌ عن أم سلمة قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ أُمِّ سَلَمَةَ فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
عَبْدُ اللهِ، أَوْ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ بِيَدِهِ، فَرَجَعَ،
فَمَرَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: بِيَدِهِ هَكَذَا، فَمَضَتْ،
فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: هُنَّ
أَغْلَبُ».
(1/24)
قَالَ
البَيْهَقِيُّ: قال الشَّافعيُّ في الجواب عن حديث أبي ذرٍّ لا يجوز إذ روى حديثَ
واحدٍ وكان مخالفًا هذه الأحاديث، وكان كل واحد منها أثبت منه ومعها ظاهرُ القرآن
العظيم أن يترك إن كان ثابتًا إلا بأن يكون منسوخًا انتهى بحديثين في هذا أن أبا
هريرة أيضًا رواه وكذا غيره فلم يبق فردًا والله أعلم.
قال الشافعيُّ: ونحن لا نعلم المنسوخ حتى نعلم الآخر، ولسنا نعلم الآخر أو يردَّ
بأن يكون غير محفوظ وهذا عندنا غير محفوظ؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
صلَّى وعائشة بينه وبين القبلة، وصلَّى وهو حامل أُمَامةَ، فلو كان ذلك يقطع
الصلاة لم يفعل واحدًا من الأمرين، وصلَّى إلى غير سترة، وكل واحدٍ من هذين
الحديثين يردُّ ذاك الحديث، وقد قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى} [الأنعام: 164] والله أعلم يدلُّ على أنه لا يُبطل عملَ رجلٍ عملُ رجلٍ
غيرِه وأن يكون سعى كلٌّ لنفسه وعليها، فلما كان هذا كذا لم يجز أن يكون مرور رجل
يقطع صلاة غيره، أو هو ليقطع عن الذكر لا أنها تفسد الصلاة، والذي يدلُّ على صحة
هذا التأويل أنَّ ابن عباس أحدُ رواةِ الحديث قطع الصلاة بذلك، وروي عنه أنه حمله
على الكراهة.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: روى سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قِيلَ لِابنِ عَبَّاسٍ:
أَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ، وَالْكَلْبُ، وَالْحِمَارُ؟ فَقَالَ:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطِّيِّبُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
[فاطر: 10] فَمَا يَقْطَعُ هَذَا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: روينا عن عائشة أنها قالت: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ
شَيْءٌ». انتهى كلامه.
وفيه نظر لما روينا في كتاب أبي نُعَيْمٍ الدُّكَيْنِيِّ بسند صحيح متصل قال:
حَدَّثَنا يونس عن مجاهد عن عائشة قالت: «لَا يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمُسْلِمِ إلا
الهرُّ الأَسْودُ والكلبُ البَهِيْم».
(1/25)
قال
وحكى ابن عُيَيْنَةَ عن ليثٍ عن طاوس عن ابن عباس قال: «ادْرَؤوا مَا
اسْتَطَعْتُمْ عَنْ صَلَاتِكُمْ وأشدُّ ما يَبْقَى عليها الكلاب».
وحدَّثَنَا ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد قال: الكلب الأسود البهيم شيطان
وهو يقطع الصلاة. وعن ابن طاوس قال: كان أبي يشدد في الكلاب، وثنا ابن عيينة عن
أيوب عن بكر المزني: أَنَّ ابنَ عُمَرَ أَعَادَ رَكْعَةَ الصَّلَاةِ مِنْ جِرْوٍ
مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وقال الطحاويُّ: أجمعوا أن مرور بني آدمَ بعضِهم ببعضٍ لا يقطع الصلاة، رُوِيَ ذلك
عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من غيرِ وجه من حديث عائشة وأم سلمة
وميمونة: أنه كان يصلي وكلُّ واحدة منهن معترضة بينه وبين القبلة وكلها ثابتة.
وقد رُوِيَ عن الرسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ردَّ المصلي مَنْ مرَّ بين
يديه، فدلَّ ذلك على ثبوت نسخٍ عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أو أنه على وجه
الكراهة.
وقال في «المشكل»: وأما حديث المطلب ابن أبي وداعة -يعني المذكور- وعند أبي داود
بسند فيه مجهول: رأيتُ النبي صلى الله
عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سَهْم والناس يمرون بين يديه، وليس بينه وبين
الطواف سترة، فليس مخالفًا لما روي من النهي عن المرور بين يدي المصلي، إنما هو في
الصلاة إلى الكعبة ومعاينتها، والنهي عن المرور بين يدي المصلي إنما هو فيمن يتحرى
الصلاة إلى الكعبة إذا غاب عنها وبينهما فرسان.
وروينا عن ابن شاهين في «كتاب الناسخ والمنسوخ» تأليفه أنه قال: حديث المطلب ناسخٌ
لحديث النهي، وقد ذكر النسائي في «سننه» بسند منقطع عن العباس: «رأيتُ النبيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ بِحِذَائِهِ فِي حَاشِيَةِ الْمَقَامِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الطُّوَّافِ أَحَدٌ» حديثا الباب تقدَّما.
(بَابُ إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِهِ)
(1/26)
516
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَامِرِ بْنِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ
أَبِي قَتَادَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَلِأَبِي العَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ
فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا». [خ 516]
وعند مسلم: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَؤُمُّ النَّاسَ
وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ» الحديثَ.
وفي أحاديث «الموطأ» للدارقطني: قال ابن نافعٍ وعَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ
والقعنبيُّ في روايةِ إسحاقَ عنه وإبراهيمُ بنُ وَهْبٍ وابنُ بُكَيْرٍ وابن القاسم
وأيوب بن صالح عن مالك ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، وقال: محمد بن الحسن
ولأبي العاص بن الربيع مثل قول معن وأبي مصعب.
وفي «التمهيد»: رَوَاهُ يَحْيَى وَلِأَبِي الْعَاصِي بْنِ رَبِيعَةَ بَهَاءِ
التَّأْنِيثِ، وتابعه الشافعيُّ وَمُطَرِّفٌ وَابنُ نَافِعٍ، والصواب إن شاء الله
أصلحه ابن وضاح في رواية يحيى، قال عياض: وقال الأَصِيلي: وهو ابن ربيع بن ربيعة،
فنسب إلى جده، قال عياض: وهذا غير معروف، ونسبه عند أهل الأخبار والأنساب باتفاقهم
أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، واسمه هشيم، وقيل لقيط
وقيل مقسم، وقال: الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه اسمه القاسم وهو أكثر في اسمه.
قال أبو عمرو: الأكثر لقيط ويعرف بجرو البطحاء، وربيعةُ عَمُّه وأم أبي العاص
هَدْلَة، وقيل: هند بنت خويلد أخت خديجة رضي الله عنها لأبيها وأمها، قال: وذكر
أشهب عن مالك أن ذلك كان من رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في صلاة
النافلة، وأن مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة.
(1/27)
قال
أبو عمر: وحسبك بتفسير مالك، ومن الدليل على صحة ما قاله مالك في ذلك: إني لا أعلم
خلافًا أن مثل هذا العمل في الصلاة مكروه، وفي هذا ما يوضح أن الحديث إما أن يكون
كان في النافلة كما روي عن مالك، وإما أن يكون منسوخًا، وقد قال بعض أهل العلم: إن
فاعلًا لو فعل مثل ذلك لم أر عليه إعادة من أجل هذا الحديث
وإن كنت لا أحبُّ لأحد فعله.
وقد كان أحمد بن حنبل يجيزُ بعض هذا، قال الأَثْرَمُ: سُئِلَ أحمد أَيَأْخذُ
الرجلُ ولدَه وهو يصلي؟.
قال: نعم، واحتج بحديث أبي قتادة، قال أبو عمر: لو ثبت أن هذا الحديث غير منسوخ ما
جاز لأحدٍ أن يقول إني لا أحبُّ فعل مثل ذلك، وفي كراهة الجمهور كذلك في الفريضة
دليلٌ على ما ذكرنا، وقد روى أشهب وابن نافع عن مالك أن ذلك جائزٌ على حال الضرورة
إذا لم يجد من يكفيه ذلك، فأما إن وجد من يكفيه ذلك فلا أرى ذلك ولا أرى ذلك على
حُبِّ الرجل ولده فلم يخص في هذه الرواية فريضةً من نافلة وحمله على الضرورة.
قال أبو عمرَ: وقد أجمع العلماء على أن العمل الكثير في الصلاة يفسدها، وقد ذكر
أبو داود من طريق محمد بن إسحاق أنه كان في صلاة الفريضة -الظهر أو العصر- فَمَنْ
قَبِلَ زِيَادَتَهُ وَتَفْسِيرَهُ جَعَلَ حَدِيثَهُ هَذَا أَصْلًا فِي جَوَازِ
الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ عَوَّلَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُونَ
لِلْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ.
قال أبو عمر: وحَمْلُهُ أُمَامَةَ محمولٌ عند أهل العلم أنها كانت عليها ثياب
طاهرة وأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمِنَ منها ما يحدث للصبيان من البول
وغيره، وجائز أن يعلم ما لا يعلمه غيره. انتهى.
(1/28)
وأسلفنا
من عِنْدَ مُسْلِمٍ من غير رواية ابن إسحاق: «يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ
أَبِي الْعَاصِي» وعند أبي داود: «بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ جُلُوسٌ
نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، خَرَجَ عَلَيْنَا وَهُوَ
حَامِلٌ أُمَامَةَ فَصَلَّى وَهِيَ عَلَى عَاتِقِهِ، يَضَعُهَا إِذَا رَكَعَ،
وَيُعِيدُهَا إِذَا قَامَ، حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا» وحديث
مَخْرَمَةَ: «رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي لِلنَّاسِ
وَأُمَامَةُ عَلَى عُنُقِهِ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا» وَلِأَن الْغَالِب فِي
إِمَامَة رَسُول الله كَانَت فِي الْفَريضة دون النوافل.
وفي كتاب «النسب» للزُّبَيْرِ بنِ بَكَّارٍ عن عَمْرو بن سُلَيْم أَن ذَلِك كَانَ
فِي صَلَاة الصُّبْح ...
قال ابن بطال وغيره: وروى ابن القاسم عن مالك أن ذلك كان في ... وروى أشهب وابن
نافع عنه أن هذا كان للضرورة، وروى عنه التنِّيسي أن هذا ... نظر لعدم عرفان التاريخ,
وادعى بعض المالكية أن هذا مخصوص به صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ... وفيه نظر إذا
لم يأت بيان ذلك، وزعم الخطابي أن هذا كان بغير قصد لكنها لتعلقها به لطول إلفها
به صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلم يدفعها فإذا قام بقيت معه. انتهى ......
والصحيح: «فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا» ...... أبي داود:
«خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ
وَهِيَ عَلَى عَاتِقِهِ، يَضَعُهَا إِذَا رَكَعَ، وَيُعِيدُهَا إِذَا قَامَ» وفيه:
«حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، أَخَذَهَا فَوَضَعَهَا، ثُمَّ رَكَعَ
وَسَجَدَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ سُجُودِهِ، ثُمَّ قَامَ، أَخَذَهَا فَرَدَّهَا
فِي مَكَانِهَا، فَمَا زَالَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ حَتَّى
فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ».
(1/29)
الصحيح
إن شاء الله تعالى أن هذه الأفعال وإن تعددت فهي غير متوالية في ... ركن من أركان
الصلاة ويحمل منه ذلك على بيان التشريع والجواز في حمل الحيوان
الطاهر، وأن ثياب الأطفال وأجسادهم طاهرة حتى يتحقق نجاستها، وأن دخولهم المساجد
جائز، وأن الحديث الوارد في النهي عن ذلك غير صحيح على ما بيناه قبل، واسْتُدِلَّ
بهذا أيضًا على أن صغار النساء يحدث، قَالَ القُرْطُبِيُّ: حكم من لا يُشْتَهَى
منهن بخلاف حكم من يُشْتَهَى.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أدخلَ البخاريُّ هذا الحديث هنا ليدل أن حمل المصلي الجارية
على العنق لا يضر صلاته؛ لأن حملها أشد من مرورها بين يديه فلما لم يضر حملها كذلك
لا يضر مرورها.
(بابُ الصَّلَاةِ عَلَى فِرَاشِ حَائِضٍ)
517 – حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ
الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الهَادِ، أَخْبَرَتْنِي
خَالَتِي مَيْمُونَةُ قَالَتْ: «كَانَ فِرَاشِي حِيَالَ مُصَلَّى النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَرُبَّمَا وَقَعَ ثَوْبُهُ عَلَيَّ وَأَنَا عَلَى
فِرَاشِي» وَأَنَا حَائِضٌ، وعنده في لفظ: «يُصَلِّي وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ
نَائِمَةٌ، فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَنِي ثَوْبُهُ» قال: وَزَادَ مُسَدَّدٌ وكان يصلي
على الخمرة. [خ 517]
حديث مُسَدَّدٌ ذكره البخاريُّ مسندًا في باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض المرأة بين
المصلي وقبلته فيها دليل على أن النهي إنما هو عن المرور لا عن القعود للمصلي بين
يدي المصلي، واستدل العلماء على أن المرور لا يضر بدليل جواز القعود.
وقولها: (حِيَالَ) يعني حِذَاء، وقد صرح به في باب إذا أصاب ثوب المصلى امرأته
بقولها: (وَأَنَا حِذَاهُ) وكذا تجاه ووجاه وكله بمعنى المقابلة والموازنة.
(1/30)
قال
الجوهري: قعد بِحِيَالِه، وحِيَالَه: بالكسر أي بإزائه وأصله الواو.
(بَابٌ هَلْ يَغْمِزُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ)
تقدم في باب الصلاة على الفراش، وبَاب هلْ تَطْرَحُ المَرْأَةُ عَنِ الْمُصَلِّي
شَيْئًا مِنَ الأَذَى تقدم في الطهارة في باب إذا أُلقي على ظهر المصلي قذرٌ أو
جيفة وقال ابن بطال ذكر هذا الباب هنا يقرب معناه من الأبواب المتقدمة وذلك أن
المرأة إذا تناولت ما طرح على ظهر المصلي من الأذى فإنها لا تقصد إلى أخذ ذلك من
ورائه، إلا كما تقصد إلى أخذه من ورائه إنما تتناوله من أي الجهات أمكنها تناوله
وسهل عليها طرحه، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها فليس بدونه.
(بَابُ مَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَفَضْلِهَا)
وَقَوْلُهُ تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا} [النساء: 103] مُوَقَّتًا: وَقَّتَهُ عَلَيْهِمْ.
روى إسماعيل في كتابه «أحكام القرآن العظيم»: عند ذكر هذه الآية الكريمة من طريق
حُمْرَانَ عن عُثْمَانَ رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال:
«مَنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَيْهِ حَقًّا يقينًا وَاجِبًا مَكْتُوبًا دخلَ
الجنَّةَ» وعن عكرمة عن ابن عباس: {كِتَابا مَوْقُوتًا}: موجبًا، وكذلك
رواه من طريق أبي رجاء عن الحسن بن أبي الحسن، ومن طريق ليث عن مجاهد، ومن طريق
معمر عن أبي جعفر: وَقَّتَهُ عليهم.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: رُويناه عن البخاري بالتشديد وهو في اللغة بالتخفيف، ويدلُّ
على صحته (مَوْقُوتًا) إذ لو كان مشددًا لكان (مُوَقَّتًا) تقول: وقَّته فهو
مَوْقُوتٌ إذا بيَّن للفعل وقتًا يفعل فيه، فقال: والمواقيت جمع ميقاتٍ، وهو الوقت
المضروب للفعل والموضع. انتهى.
(1/31)
قال
أبو المعاني في «الكتاب المنتهى»: كلُّ ما جُعِلَ له حين وغاية فهو مُوَقَّتٌ،
ووقَّتَه ليومِ كذا أي: أَجَّلَه، وَفِي «الصِّحَاحِ»: قال الله تعالى: {وَإِذَا
الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وَ: {وُقِّتَتْ} مخففة وفي «الجامع» و
«المحكم»: وقتٌ مُوْقوتٌ، ومَوْقُوتٌ محدودٌ، وفي نوادر أبي علي هارون بن زكريا
الهَجَري: قال القَرْديُّ: أيقتوا موقتًا آتيكم فيه.
521 - 522 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى
مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أَخَّرَ
الصَّلاَةَ يَوْمًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ المُغِيرَةَ
بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ
عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
ثُمَّ صَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى،
فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «بِهَذَا
أُمِرْتُ». فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ، أَوَ أَنَّ
جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَقُوتَ
الصَّلاَةِ؟ قَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ
يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ. [خ 521 - 522]
(1/32)
قَالَ
عُرْوَةُ: وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي العَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ
تَظْهَرَ»، وفي لفظ: «لَمْ يَظْهَرِ الفَيْءُ مِنْ حُجْرَتِهَا»، وفي لفظ:
«وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فِي حُجْرَتِي» وذكره في عَزْوَهِ إلى عروة بلفظ: «أَخَّرَ
المُغِيرَةُ العَصْرَ، وَهُوَ أَمِيرُ الكُوفَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو
مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ، جَدُّ زَيْدِ بْنِ حَسَنٍ،
وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ الحديثَ، وفي كتاب بدء الخلق، في باب ذكر الملائكة عليهم الصلاة
والسلام فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ فَقَالَ: سَمِعْتُ
بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ» يَحْسُبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ
صَلَوَاتٍ.
قَالَ الدَّارَقُطْني: رواه أسامة بن زيد عن الزُّهْري فذكر فيه مواقيت الصلاة
الخمس وأدرجه في حديث أبي مسعود، وخالفه فيه أنس وابن أخي الزهري فَرَوَيَاه عن
الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذكر مواقيت الصلاة
بغير ِ إسناد، وحديثهما أولى بالصواب لفصلهما بين حديث أبي مسعود وغيره، ورواه
حماد وأبو ضمرة عنْ هشام عن أبيه عن رجل من الأنصار لم يسمَّ وقال أبو بكر بن حزم
عن عروة حدثني أبو مسعود أو بشير بن أبي مسعود وكلاهما قد صَحِبَ النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/33)
وفي
مُصَنَّفِ عبد الرزاق عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَأَخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ مَرَّةً، فَقَالَ لَهُ
عُرْوَةُ: حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ
الْمُغِيرَةَ ح. وفيه: فَمَا زَالَ عمرُ يُعَلِّمُ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِعَلَامَةٍ
حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا. وفيه: نَزَلَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَصَلَّى النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى عَدَّ
خَمْسَ صَلَوَاتٍ.
قال أبو عمر بن عبد البر: لم يختلفوا أن جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هبط
صبيحة الإسراء عند الزوال فعلَّم النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصلاة
ومواقيتها وهيئتها. انتهى.
قد أسلفنا الخلاف عن القزَّاز فَيُنْظَر، قال أبو عمرَ: وعنِ الحسنِ أَنَّهُ
ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ نُودِيَ أَنَّ
الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ فَفَزِعَ النَّاسُ فَاجْتَمَعُوا إِلَى نَبِيِّهِمْ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَؤُمُّ
جِبْرِيلُ مُحَمَّدًا، وَيَؤُمُّ مُحَمَّدٌ النَّاسَ، يَقْتَدِي مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بجِبْريلَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ويَقْتَدِي النَّاسُ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَا يُسْمِعُهُنَّ فِيهِنَّ قِرَاءَةً
ثُمَّ سَلَّمَ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَسَلَّمَ مُحَمَّدٌ عَلَى النَّاسِ
الحديثَ فذكر الصلوات كلها تامة.
قال أبو عمر: وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ مُهَذَّبٌ،
وبه احتجَّ من زعم أن جبريل صلَّى في اليوم الذي يلي ليلة الإسراء مرة واحدة
الصلوات كلها على ظاهر حديث مالك في ذلك وروى نحوه عن نافع بن جُبَيْر وغيره.
(1/34)
قال
أبو عمر: والآثار الصحيحة المتصلة تبين أن جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
صلَّى بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقتين وهي زيادة يجب قبولها والعمل بها
لنقل العدول لها وليس تقصير من قصر عن حفظ ذلك وَإِتْقَانِهِ وَالْإِتْيَانِ بِهِ
بحجةٍ، وإنما الحُجَّةُ في شهادةِ منْ شَهِدَ لا في قول من قَصَّرَ عن حفظ ذلك
وهذه الآثار منقطعةٌ وإنما ذكرناها لما وصفنا؛ ولأن فيها أنَّ الصلاةَ فُرِضَتْ
فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا لَا رَكْعَتَيْنِ كما قالت عائشة.
وقال بذلك جماعة وردُّوا حديث عائشة، وإن كان إسناده صحيحًا بضروب من الاعتلال، لو
صح مرسل الحسن لما كان بينه وبين الصلاة في الوقتين خلافٌ؛ لأنه لم يقل ثم لم
يُصَلِّ بعد ذلك، فأعلمهم ذكر كيفية الصلاة في وقت من الأوقات والله تعالى أعلم.
وأما تأخير عمر فَيُحْمَلُ على أنه خرج الوقت المستحق المرغوب فيه.
وقوله: (يومًا) يريد يومًا ما، لا أن ذلك كان سجيته رضي الله عنه كما كانت ملوك
بني أمية تفعل لا سيما العصر، فقد كان الوليد بن عقبة يؤخرها في زمن عثمان رضي
الله عنه، وكان ابن مسعود رضي الله عنه ينكر ذلك عليه.
وقال عطاءٌ: أَخَّرَ الوليد مرة الجمعة حتى أمسى، وكذلك كان الحجاج يفعل.
فإن قيل إن الجهل بمواقيت الصلاة لا يسعُ أحدًا فكيف جاز ذلك على عمر مع علمه
وصحبته العلماء؟.
قيل له: ليس في جهله بالسبب الموجب
لعلم المواقيت ما يدل على جهله بالمواقيت وقد يكون ذلك عنده عملًا وإتقانًا وأخذًا
عنْ علماء عصره ولا يعرف أصل ذلك.
وفي هذا الحديث دليل على أن وقت الصلاة من فرائضها وأنها لا تجزي قبل وقتها وهذا
لا خلاف فيه بين العلماء إلا شيئًا رُوِيَ عن أبي موسى الأشعري وعن بعض التابعين،
أجمع العلماء على خلافه فلم أرَ لذكره وجهًا؛ لأنه لا يصح عنهم، وصحَّ عن أبي موسى
خلافه مما وافق الجماعة فصار اتفاقًا صحيحًا.
(1/35)
وفي
موطأ ابن أبي ذيب عن ابن شهاب سمع عروة يحدث عمر عن أبي مسعود فذكر الصلاة مع
جبريل مرتين، وكذا رواية أبي بكر بن حزم رواها من جهة علي بن عبد العزيز،
حَدَّثَنا أحمد بن يونس، حَدَّثَنا أيوب عن عُتْبَةَ عنه عن عروة فذكر مجيء جبريل
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يومين، وزعم ابنُ التِّينِ أنَّ الأَصِيلي قال لم يصح
عند مالك حديث الوقتين، وإنما قال الوقتين بعمل أهل المدينة.
وذُكِرَ عن الشيخ أبي الحسن أنه قال: حديث الوقتين لم يخرجه البخاريُّ، وسأله
الترمذي لِمَ لَمْ يخرجه، وقد رواه قتيبة عن الليث فقال البخاريُّ: انفرد به
قُتَيْبَةُ، قال أبو الحسن: أراد البخاري أن قتيبة غريب رحَّال، وذكر عن الليث
شيئًا لم يذكره غيره، وأهل مصر أقعد بالليث وأعلم بحديثه ولم يوجد عندهم فاستترا
به لا أنه قد خرج فيه لثقة قتيبة عنده.
قوله: (أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ) قال الحافظ القُشَيْريُّ: قال بعض فضلاء الأدب:
كذا الرواية وهي جائزة إلا أن المشهور في الاستعمال ألست.
قوله: (فَصَلَّى) ذهب بعضهم إلى أن الفاء هنا بمعنى الواو؛ لأنه صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ إذا لم يأتم بجبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يجب أن يكون
مُصَلِّيًا معه بعده، وإذا حملت الفاء على حقيقتها وجب أن يكون مُصَلِّيًا معه
وهذا ضعيف، والفاء على أنها في التعقيب تكون بمعنى أن جبريل كلما فعل جزءًا من
الصلاة فعله النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو أولى من أن يكون بمعنى الواو،
وفي رواية: <نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ> وليس فيه
بيان أوقات الصلاة، ويُجَاب: بأن ذلك معلوم عند المخاطب فأبهمه في هذه الرواية.
(1/36)
وقوله:
(بِهَذَا أُمِرْتُ) يُرْوَى بفتح التاء وضمها، قال ابن العربيِّ: نزل جبريل صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مأمورًا مُكَلَّفًا
بتعليم النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا بأصل الصلاة، وأقوى الروايتين بفتح
التاء، يعني: أن الذي أُمِرْتُ به من الصلاة البارحة مجملًا هذا تفسيره اليوم
مُفَصَّلًا، وبهذا يتبين بطلان من يقول إن في صلاة جبريل بالنبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ جواز صلاة الْمُعلِّم بالمتعلم والمفترض خلف الْمُتَنفِّلِ.
وقوله: (فَقَالَ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ) قَالَ القُرْطُبِيُّ: ظاهرة
الإنكار؛ لأنه لم يكن عنده خبر من إمامة جبريل، إما لأنه لم يَبْلغْهُ أو بلغه
فنسيه، والأولى عندي أن حُجَّةَ عروة عليه إنما هي فيما رواه عن عائشة وذكر له
حديث جبريل مُوَطِّئًا له ومُعَلِّمًا بأن الأوقات إنما ثبت بأصلها باتفاق جبريل
للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عليها انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ، من حيث إن عروة قد بَيَّنَّا استدلاله بإمامة مسندة.
وقوله: (أَوَأَنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) قَالَ السَّفَاقُسيُّ:
هي ألف الاستفهام دخلت على الواو فكان ذلك تقريرًا.
قال أبو زكريا: الواو مفتوحة، وأن هنا تفتح وتكسر، قال صاحب «الاقتضاب»: أظهر لأنه
استفهام مستأنف إلا أنه ورد بالواو والفتح على تقدير: أَوَعلمتَ، أو حُدِّثْتُ أن
جبريل نزل، وحديث عائشة رضي الله عنه خرجه الستة في كتبهم.
قولها: (فِي حُجْرَتي) قال ابن سيده: الحُجْرَةُ من البيوت معروفةٌ سُمِّيَتْ بذلك
لمنعها المال والحجارة حائطها، واسْتَحْجَرَ القومُ واحْتَجَرُوا: اتخذوا حجرة،
وفي «المنتهى» و «الصحاح»: والحجرة حظيرة للإبل، ومنها حجرة الدار، تقول احتجرتُ
حجرةً أي: اتخذتها، والجمع حُجَر، مثلَ غرفة وغُرَف، وحُجُرَات بضم الجيم.
(1/37)
وقولها:
(قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ) ذكر أبو غالب في «الْمُوعِبِ»: يقال ظهر فلانٌ السطحَ إذا
علاه، وعن الزَّجَّاجِ في قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ}
[الكهف: 97] أي ما قدروا أن يعملوا عليه لارتفاعه وانملاسه، وفي «المنتهى»: ظهرتُ
البيتَ عَلَوْتُهُ، وأظهرتُ بفلان أَعْلَيْتُ به، وفي كتاب ابن التين وغيره: ظهر
الرجل فوق السطح إذا علا فوقه، قيل: وإنما قيل له ذلك لأنه إذا علا فوقه ظهرَ
شَخْصُهُ لمن تأمله، وقيل: معناه أن يخرج الظل من قاعة حجرتها فيذهب، وكلُّ شيء
خرج فقد ظهر؛ قال أبو ذؤيب:
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها
والتفسير الأول أقرب وأليق بظاهر الحديث؛ لأن الضمير في قوله (تظهر) إنما هو راجع
إلى الشمس، ولم يتقدم للظل ذكر في الحديث والله تعالى أعلم.
(بَابٌ: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا
مِنَ المُشْرِكِينَ} [الروم: 31])
الْمُنِيْبُ: التائب، ومفهوم الآية الكريمة أنه من لم يفهم الصلاة فهو مشرك يوضحه
قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكُ
الصَّلَاةِ» وقوله: «مَنْ تَرَكَ صلاةً مُتَعَمِّدًا حَبِطَ عَمَلُهُ وَبَرِئَتْ
مِنْهُ ذِمَّةُ اللهِ حَتَّى يُرَاجَع» إلى غير ذلك من الأحاديث.
وقد قال عمر رضي الله عنه: «لَا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة».
وكان الصديقُ إذا حضرت الصلاة قال: قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها فأطفئوها.
وفي «الموطأ»: أولُ ما ينظرُ فيه منْ عَمَلِ المرءِ الصلاة، فإنْ قُبِلَتْ منه
نُظِرَ فيما بقي من عمله، وإنْ لم تُقْبَلْ منه لم يُنْظَرْ في شيءٍ من عمله.
523 - حديث وفد عبد القيس تقدَّم في باب أداء الخمس من الإيمان. [خ 523]
524 - وحديث مبايعة جرير تقدم في الدين النصيحة.
(بَابٌ الصَّلاَةُ كَفَّارَةٌ)
(1/38)
525
– حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنا يَحْيَى عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ:
حَدَّثَنِي شَقِيقٌ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ،
فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فِي الفِتْنَةِ؟ قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ -أَوْ
عَلَيْهَا- لَجَرِيءٌ، قُلْتُ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ
وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ،
وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ». [خ 525]
قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنِ الفِتْنَةَ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ
البَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ،
إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا لَبَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَيُفْتَحُ أَمْ يُكْسَرُ؟
قَالَ: يُكْسَرُ، قَالَ: إِذًا لا يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْنَا: أَكَانَ عُمَرُ
يَعْلَمُ البَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ الغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي
حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ فَهبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ،
فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: البَابُ عُمَرُ.
وذكره في الزكاة بلفظ: «والأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عنِ الْمَنْكَرِ».
وفيه لما قال عمر: «لم يُغْلَقْ أبدًا قالَ: قُلْتُ: أَجَلْ». وفي كتاب الصوم:
«قالَ عُمَرُ: ذلِكَ أَجْدَرُ أَنْ لا يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».
الفتنة: الخبرة والإعجاب بالشيء، فَتَنَهُ يفتِنهُ فَتْنًا وفُتُونًا، وأَفْتَنَه
وأباها الأصمعيُّ فأنشد بيت رؤبة:
يُعرضن إعراضًا لدين الْمُفْتَن
فلم يعرف البيت إلا في الأرجوزة، وقال سيبويه: فتنهُ جعل فيه فتنةً، وأفتنه أوصل
الفتنةَ إليه، قال: إذا قال أفتنه فقد تعرَّضَ لفتن، وإذا قال فَتَنْتُهُ فلم
يتعرض لفتن، وحكى أبو زيد أُفْتِنَ الرجل بصيغة ما لم يسم فاعله أي فُتِنَ.
(1/39)
والفتنة:
الضلالُ والإثم، وفتن الرجل أزاله عما كان عليه قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73].
والفتنةُ: الكفر قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
[البقرة: 193].
والفتنةُ: الفضيحة، والفتنةُ: العذاب، والفِتَنُ: ما يقع بين الناس في القتال ذكره
ابنُ سِيدَهْ، وأنشد ابن عبد البر لسعيد بن المسيب:
وقامتْ تُرائي بين جَمْعٍ فأَفْتَنَتْ برؤيتها منْ راح منْ عرفات
ومن شعر أعشى همدان واسمه عبد الله قتله الحجاج، قال القَزَّازُ: لما أنشد الأصمعي
قال: هذا أُخِذَ عن مُخَنَّثٍ.
لَئِنْ فَتَنَتْنِي لَهْيَ بالأمسِ أَفْتَنَتْ ... سعيدًا فأمسى قد قَلَى كلُّ
مُسْلِمِ.
قال: وقيل الفتنة العذاب، وقيل البلية، وأصلُ ذلك كلِّه من الاختبار رواية مِنْ
فَتَنْتُ الذهبَ في النار إذا اختبرته، وفي «الغَرِيبَيْنِ»: الفتنة الغُلُوُّ في
التأويل المظلم، وقال ابن طريف: فتنتُه وأفتنته، وفَتِن بكسر التاء فُتُونًا: تحول
من حسن إلى قبيح، وفَتَنَ إِلَى النِّساء وفُتِنَ فيهن أراد الفجور بهن، وفي «الجمهرة»:
فَتَنْتُ الرجلَ أَفْتِنُه فتنًا، وأفتنته إفتانًا، وَفِي «الصِّحَاحِ»
قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: ما أنتم عليه بِفَاتِنين وأهل نجد: يقولون
بِمُفْتَنينَ من أَفْتَنْتُ، وزعم عياض أنها الابتلاء والامتحان، قال: وقد صارت في
عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختيار عن سوء ويكون في الخير والشر قال تعالى:
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
قالوا: لَمَّا رأى عمر أن الأمر كاد أن يتغير سأل عن الفتنة التي تأتي بَعْدَه
خوفًا أن يدركها مع علمه بأنه الباب، لكنه من شدة خوفه خشي أن يكون نسيَ فسأل من
يُذِّكَره.
(1/40)
وروينا
عن الشيخ أبي محمد بن أبي حمزة رحمه الله تعالى أنه قال: أما فتنة الأهل فعلى
وجوهٍ، هل يؤدي حقَّهم الواجبَ عليه؟ أم لأنه راع ومسؤول عن رعايته؟ فإن لم يأتِ
بالواجب فليس هذا مما يكفيه فعلُ الطاعات؛ لأنه لا يكفِّرها إلا إذا ما وجب عليه
كالدين، فإن كان الذي ترك من حقوقهم مندوبًا فليس بآثم فيحتاج إلى تكفير، ويبقى
وجه آخر وهو تعلق القلب بهم إن كان مفرطًا بحيث يشغله عن حقٍّ من الحقوق فليس
داخلًا تحت ما يكفَّر بالطاعات، بل يدخل تحت وعيد قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الآية [التوبة: 24]، وإن كان لم يشغله عن تَوْفِيَةِ
حقٍّ من حقوق الله تعالى فهذا والله أعلم هو الذي تكفِّره الطاعات، وهل هذا خاص
بالرجال دون النساء؟ أو من باب ذِكْر الأعلى؟ وإلا فقد قال صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «هُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ» يعني في لزوم الأحكام.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: فتنة الرجل في أهله أن يأتي من أجلهم ما لا يَحِلُّ له من
القول والعمل ما لم يبلغ كبيرة.
وقَالَ الْمُهَلَّبُ: يريد ما يُعْرَضُ له معهن من شَرٍّ أو حزن وشبهه.
وقال ابن العربيُّ: الفتنة التي تدخل على الرجال من هذه الجهات إن كانت صغيرة
كُفِّرَتْ، وإن كانت كبيرة فلا تقوم الحسنات بها قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
قال الشيخ أبو محمد: وفتنة الولد فرطُ محبتهم وشُغْلُه بهم عن كثير من الخير أو
التفريط بما يلزمه من القيام بحقوقهم، فهذه الفتنة تقتضي المحاسبة، وكذا فتنة
المال، وأما الجَارُ فهو أن يتمنى أن يكون حاله مثل حاله إن كان متسعًا قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20].
وقوله: (تَمُوْجُ كَمَوْجِ البَحْرِ) أي: تضطرب ويدفع بعضها بعضًا لِعِظَمِهَا.
(1/41)
وقوله:
(مُغْلَقًا) قال ثعلب في «الفصيح»: أغلقتُ الباب فهو مغلَق، وقال أبو الأسود
الدِّيلي يصف نفسه بالفصاحة:
وَلاَ أَقُولُ لِقِدْرِ القَوْمِ قَدْ غَلِيَتْ ... وَلاَ أَقُولُ لِبَابِ
الدَّارِ مَغْلُوقُ.
قال ابن دُرُسْتُوَيْه: والعامة تقول غلقت بغير ألف وهو خطأ، وذكره أبو علي
الدِّيَنَوري في باب ما يحذف منه العامة الألف.
قال ابنُ سِيدَه في «العويص» والجوهري
فِي «الصِّحَاح» فأغلقت، قَالَ الْجَوْهَرِي: وَهِي لُغَة رَدِيئَة متروكة.
530 - قوله: (بِدِمَشْق) فهي بكسر الدال المهملة وفتح الميم بعدها شين معجمة
ساكنة، وزعم هشام بن محمد بن السائب الكلبي في كتاب «أسماء البلدان» تأليفه أنها
سميت بذلك؛ لأنه بناها دَمَاشق بن قاني بن ملك بن أرْفَخْشَد بن سام بن نوح صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. [خ 530]
وقال أبو إسحاق الزَّجَّاجيُّ في «مختصر الزاهر»: قال أهل اللغة: اشتقاق دمشق من
قولهم: ناقةٌ دَمْشَقُ اللحم إذا كانت خفيفة اللحم، والدَّمْشَقَةُ: الخفة.
وقال أهل الأثر: سميت بِدَمَاشِق بن نمرود بن كنعان وهو الذي بناها وكان مع
إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كان دفعه نمرود إليه بعد أن نجَّى الله
تعالى إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من النار.
وقال أبو عُبَيْدٍ البكريُّ: اسمه دَمَاشَاق بن نمرود، وقال في موضع آخر: عن الحسن
بن أحمد الهمداني نزل جَيْرُون بن سعد بن عاد دمشق وبنى مدينتها فسميت باسمه
جَيْرون.
قال: وهي إرم ذات العماد، ويقال: إن بها أربع مئة ألف عمود من حجارة.
وروى أبو ذئب عن الْمَقْبُريِّ أن إِرَمَ هي دمشق.
وروينا في «تاريخ دمشق» للحافظ أبي القاسم بن عساكر عن كعبٍ: أول حائط وضع على وجه
الأرض بعد الطوفان حائط حَرَّان ودمشق.
وعن إسحاق بن أيوب: الشيطان الذي بناه كان اسمه جَيْرُون، وكان من بناء سليمان
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/42)
قال
ابنُ عَسَاكر: وقيل إن نوحًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اخْتَطَّهَا، وقيل: إن
جيرون هو بن سعد بن لقمان بن عاد، وقيل: بناها العار واسمه دمشق غلام إبراهيم
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وكان حبشيًا، وهبه له نمرود، وقيل: إن الذي بناها
بيوراسب.
531 - حديث المصلي يناجي ربه تقدم في البزاق في المسجد. [خ 531]
(بَابُ الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الحَرِّ)
533 - حَدَّثَنا أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ،
عنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنا الأَعْرَجُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ:
أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ
الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ». [خ 533]
وفي لفظ في حديث أبي هريرة: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ
أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ
وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ
مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ».
وهو حديثٌ مُخَرَّجٌ في الكتب الستة، بَيَّن ذلك أحاديث الأطراف عند ابن ماجه
بالظهر، وفي لفظ «الأوسط» للطبراني من حديث ابن لَهِيْعَةَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ» ولفظ ابن ماجه في حديث
ابن عمر: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ».
535 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنا
شُعْبَةُ، عَنِ المُهَاجِرِ أَبِي الحَسَنِ، سَمِعَ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ: أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلَّم
(1/43)
فَقَالَ:
«أَبْرِدْ أَبْرِدْ» -أَوْ قَالَ: «انْتَظِرِ انْتَظِرْ» - وَقَالَ: «شِدَّةُ
الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ
الصَّلاَةِ» حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ. [خ 535]
وقال في بابِ الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِي السَّفَرِ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ،
فَقَالَ: «أَبْرِدْ» ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَقَالَ: «أَبْرِدْ» ح، وفيه:
حَتَّى يساوي الفَيْءُ التُّلُول.
قَالَ البَيْهَقِيُّ كذا قال جماعة: «أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ» في رواية غندر: <
وَأَذَّنَ> قال: وفي هذا الدلالة على أن الأمر بالإبراد كان بعد التأذين.
وفي «صحيح أبي عَوانة»: «فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُؤَذِّنَ بِالظُّهْرِ» وفيه: بعد
قوله: «فَيْءَ التُّلُولِ»: «ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ» ح وفي لفظ:
«فَأَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ: مَهْ يَا بِلَالُ» فهذا صريح أن التأخير كان
قبل التأذين.
538 - حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ، حَدَّثَنا أَبِي، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ،
حَدَّثَنا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ
فَيْحِ جَهَنَّمَ» تَابَعَهُ يَحْيَى، وَأَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ. [خ
538]
أما حديث سفيان فَخَرَّجَه البخاريُّ في صفة الصلاة عن الفريابي عن سفيان بن سعيد،
وحديث يحيى بن سعيد خَرَّجه الإسماعيلي عن ابن خَلَّاد، حَدَّثَنا بُنْدَارُ عن
يحيى بن سعيد ولفظه: «فَوْحِ جَهَنَّمَ».
قال أحمد بن حنبل: ما أعرف أحدًا قال (فَوْحِ) غير الأعمش، ورواه أيضًا أبو
خَلْدَةَ وهو في كتابي أبي نعيم والإسماعيلي وأبو معاوية محمد بن خازم، ورواه ابن
ماجه عن أبي كُرَيْبٍ عنه.
(1/44)
وقد
روى هذا اللفظ جماعة من الصحابة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منهم قيس عن
المغيرة بن شعبة: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
صَلَاةَ الظُّهْرِ بِالْهَاجِرَةِ فَقَالَ لَنَا: أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ،
فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ» ح.
قال أبو عيسى ورواه من حديث إسحاق الأزرق عن شريك عن بنان عن قيس بن أبي حازم عنه،
سألت أبا عبد الله عن هذا الحديث فَعَدَّه محفوظًا، وقال الميموني: ذاكروا أبا عبد
الله عن هذا الحديث بأسانيد حديث المغيرة فقال: أسانيدُ جيادٌ، ثم قال: خَبَّابٌ
يقول: (فَلَمْ يُشْكِنَا) والمغيرة كما ترى يروي القصتين جميعًا زاد الخَلَّالُ في
«علله»: وكان آخر الأمرين من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الإبراد، ولِمَا
خَرَّجَه ابن حبان في «صحيحه» قال: تفرَّدَ به إسحاق بن يوسف الأزرق، ولما سَأَلَ
ابنُ أبي حاتم عن هذا الحديث أباه قال رواه أبو عوانة عن طارق عن قيس قال سمعت عمر
بن الخطاب.
قوله: (أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ) قال إني أخاف أن يكون هذا الحديث يدفع ذاك.
قلت: فأيهما أثبت؟ قال: كأنه هذا يعني: حديث عمر، قال: ولو كان عند قيس عن المغيرة
مرفوعًا لم يحتج أن يَفْتَقر إلى أن يحدث عن عمر موقوفًا. انتهى.
لقائل أن يقول على طريق الفقهاء يحتمل أن يكون قيس روى المسند
الموقوف جميعًا أو يذكر المرفوع بعد رواية الموقوف يعضده ما ذكره ابنه في موضع
آخر: سمعت أبي سألت يحيى بن معين فقلت له: حَدَّثَنا أحمد بن حنبل بحديث إسحاق
الأزرق، فذكرت حديث المغيرة وذكرتُهُ للحسن بن شاذان فحَدَّثَنَا به، وحَدَّثَنَا
أيضًا عن إسحاق عن شريك عن عمارة بن القعقاع عن أبي زُرعة عن أبي هريرة بمثله مرفوعًا،
فقال يحيى: ليس له أصل أنا نظرت في كتاب إسحاق فلم أر فيه هذا، قلت لأبي: فما قولك
في حديث عمارة الذي أنكرهُ يحيى؟.
(1/45)
قال:
هو عندي صحيح، وروينا أحمد بن حنبل بالحديثين جميعًا عن الأزرق.
قلت: فما بال يحيى نظر في كتاب إسحاق فلم يجده؟.
قال: كيف نظر في كتبه كلها؟ إنما نظر في بعض وربما كان في موضع آخر.
وأنس سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب البخاري حديثه.
وعَمْرو بنُ عَنْبَسَةَ ذكره الطبراني في «معجمه الكبير» من حديث عبادة عن أبي
أوفى عنه، ورجلٌ من الصحابة ذكره الميموني عن أحمد، وقال: أحسبه غَلَطٌ من غُنْدَر
إذ رواه عن شعبة عن الحَجَّاجِ بنِ الحَجَّاجِ عنه، ورواه جماعة عن شعبة عن الحجاج
عن أبيه عن رجلٍ، وصرح الدَّارَقُطْني بغلطه، وقال: الرجل يراه ابن مسعود.
والقاسم بن صفوان عن أبيه رواه ابن أبي شيبة في «مسنده» بسند صحيح ولفظه في «كتاب
الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: «مِنْ فَوْرِ جَهَنَّم».
وعمر بن الخطاب، قال الحافظان الطُّوسي والتِّرْمِذِيُّ: لا يصح يعني مرفوعًا،
وأبو موسى رواه أبو عبد الرحمن بسند صحيح.
وعبد الرحمن بن علقمة الثقفي ذكره أبو نعيم بسندٍ جيدِ الظاهر، وحديث عائشة رواه
ابنُ خُزَيْمَةَ في «صحيحه».
قوله: (إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ) يعني افتعل من الشدة والقوة، أي إذا قوي الحر،
وأصل اشتدَّ اشْتَدَدَ فَسُكِّنَت الدال وأدغمت في الثانية.
قوله: (وَأَبْرِدُوا) أي افعلوها في وقت البرد وهو الزمان الذي يتبين فيه شدة
انكسار الحر؛ لأنَّ شدةَ الحر يُذْهِبُ الخشوعَ، قَالَ السَّفَاقُسيُّ: أبردوا أي
ادخلوا في وقت الإبراد، مثل أظلم دخل في الظلام، وأمسى دخل في المساء وهذا بخلاف
«الحُمَّى منْ فَيْحِ جهنَّمَ فَابْردُوهَا عَنْكُمْ» تقرأ بوصل الألف؛ لأنه ثلاثي
من بردَ الماءُ حرارةَ جوفي.
(1/46)
و
(عَنِ الصَّلاةِ) قيل: عن بمعنى في، وعن تأتي بمعنى الباء، يقال: رميتُ عن القوس
وبالقوس، وقد تقدم في طرقه (فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ) وقيل: عن هنا زائدة، أي
أبردوا الصلاة، يقال: أبرد الرجل كذا إذا فعله في برد النهار، وهو اختيار ابن
العربي في «القبس شرح الموطأ لمالك بن أنس».
واخْتُلِفَ في كيفية الإبراد:
فقال أشهب: لا تؤخر الظهر إلى آخر وقتها، وقال ابن عبد الحكم: يؤخر أهل المسجد في
شدة الحر حتى يبردوا، وأجاز التأخير إلى آخر الوقت، وعن مالك فيما ذكره ابنُ
بَزِيزَةَ كره أن نصلي الظهر أول وقت، وكان يقول: هي صلاة الخوارج وأهل الأهواء،
وقال أبو الفرج عن مالك: أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا الظهر في شدة الحر.
وعن أبي حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق: يؤخرها حتى يبرد بها.
وعن الشافعي هل الإبرادُ سنةٌ أو رُخْصَةٌ؟.
قال ابنُ بَزِيزَةَ: وقال قوم من العلماء بوجوبه والجمهور على استحبابه، وفي
«الهداية»: يستحب الإبراد بها في الصيف وتقديمها في الشتاء، كأنه يشير لما رواه
النسائي من حديث خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ عن أنسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ
الْبَرْدُ عَجَّلَ».
وفي «شرح الهداية»: المستحب آخر وقت الظهر، وفي «شرح المهذب» للإبراد عند الشافعي
شروط: أن يكون الحرُّ شديدًا، والبلادُ حارةٌ، وأن يصلي في جماعة، وأن يقصدها من
بُعْدٍ، وأن لا يجد كَنًّا.
وإذا حصل الحرُّ في العصر هل يبرد بها أم لا؟.
قال ابنُ بَزِيزَةَ: المشهور نفي الإبراد بها، وتفرد أشهب بإبراده.
وهل يبرد الفذُّ أم لا؟ والظاهر أن الإبراد مخصوص بالجماعة.
وهل يبرد من في زمن الشتاء أم لا؟ فيه قولان: قال ابنُ بَزِيزَةَ الظاهرُ نفيه.
وهل يبرد بالجمعة أم لا؟ والمشهور نفيه.
واختلف العلماء في الجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث خَبَّاب: (فلَمْ يُشْكِنَا).
(1/47)
فقال
بعضهم: الإبراد رخصةٌ، والتقديم أفضل، وقال بعضهم: حديثُ خَبَّاب منسوخٌ بالإبراد،
وإلى هذا مال أبو بكر الأَثْرَم في كتابه «الناسخ والمنسوخ» وأبو جعفر الطحاويُّ،
قال أبو جعفر: وجدنا ذلك في حديثين:
أحدهما حديث المغيرة: كُنَّا نُصَلِّي بِالهَاجِرَةِ، فقال لنا صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «أَبْرِدُوا» فَبَيَّنَ هذا أن الإبراد كان بعد التهجير.
وحديث أنس: «إِذَا كَانَ الْبَرْدُ بَكَّرَ، وَإِذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ».
وحمل بعضهم حديث خبَّاب على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا على قدر الإبراد.
قال أبو عمر: في قول خباب: (فلَمْ يُشْكِنَا) يعني لم يحوجنا إلى الشكوى، وقيل: لم
يُزِلْ شكوانا.
وقال ابن العربيُّ: ليس للإبراد تحديد في الشريعة الشريفة إلا ما ورد في حديث ابن
مسعود يعني المذكور عند النسائي بسند صحيح، وإن كان عند إسحاق أَعَلَّه فغير جيد،
بَيَّنَّا ذلك في كتابنا «الإعلام» بسننه عليه الصلاة والسلام: «كانَ يُصَلِّي
الظُّهْرَ فِي الصَّيْفِ في الثَّلاثَةِ الأَقْدَامِ إلى الأَرْبَعَةِ
الأَقْدَامِ، وفي الشتاء في خَمْسَةِ أَقْدَامٍ إلى سِتَّةِ أَقْدَامٍ» وذلك بعد
طرح ظل الزوال، أما إنه وردت فيه إشارة واحدة وهي: «كُنَّا نُصَلِّي الجُمُعَةَ
وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ» فلعلَّ الإبراد كان ريثما يكون للجدار ظلٌّ يأوي
إليه المجتاز.
قال ابن سِيْدَه: فاح الحرُّ
يفيح فَيْحًا: سَطَعَ وهاجَ، وكذا فَوْحَهُ.
والفَيءُ: فيما ذكره ثعلب في «الفصيح» يكون بالعشي كما أن الظلَّ يكون بالغداة.
وأنشد:
فلا الظلُّ منْ بَرْدِ الضُّحَى نَسْتَطِيْعُهُ ولا الفَيْءُ منْ بَرْدِ العَشِي
يَذُوقُ
قال وقال أبو عُبَيْدَةُ: قالَ رُؤْبَةُ بنُ العَجَّاجِ: كل ما كانت عليه الشمس
فزالت فهو فَيءٌ وظلٌّ، وما لم يكن عليه شمس فهو ظلٌّ.
(1/48)
وفي
«المخصص»: والجمع أفياءٌ وفيوءٌ، وقد فاءَ الفيءُ فَيْئًا: تَحَوَّلَ، وهو ما كان
شمسًا فنسخه الظلُّ، والفيوء موضع الفيء جاءت على الأصل.
وقال ابن هشام في شرحه: لا حجة لثعلب في بيت حُميد بن ثور الذي أنشده؛ لأن الشاعر
إنما قصد إلى اختلاف اللفظ ولم يرد اختلاف اللفظ والمعنى؛ لأنه لما تقدم الظل كره
تكرار اللفظ فقال: الفيء، ولم يرد أن لفظ الظلِّ لا يستعمل بالعشي، والدليل على
استعمال الظل بالعشي قول امرئ القيس بن حِجْرٍ الكِنْدي:
يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي
وقال أبو علي المرزوقي: حُكِيَ عن ابن الأعرابي: الظلُّ ما نسخته الشمس، والفيء ما
نسخَ الشمسَ.
وقال القَزَّازُ: الفيء رجوع الظل من جانب المشرق إلى جانب المغرب.
و (التُّلُوْل) جمع تلٍّ، قال ابن سِيْدَه: من التراب معروف، والتل من الرمل كومة
منه وكلاهما من التل الذي هو إلقاء كل ذي جثة، والتلُّ الرابية، وفي «الجامع»
للقزَّازِ: التلُّ من التراب وهو الرابية منه يكون مكدوسًا وليس بخِلقة.
وقوله: (اشْتَكَتِ النَّارُ) يحتمل وجهين أن يكون شكت بلسان الحال كما قال عنترة:
وَشَكَا إِلَيَّ بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ
وقال الآخر:
يشكي إليَّ حملي طول السُّرى مَهْلًا فَكِلَانَا يُبْتَلَى
ويكون بلسان المقال حقيقة يدل عليه ما جاء أنها في الموقف تقاد بسبعين ألف زمام،
وأنها تخاطب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وتخاطب المؤمن بقولها:
جُزْ يا مؤمن فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي.
قَالَ الدَّاودِيُّ: وهو يدل على أن النار تفهم وتعقل، وقد جاء أنه ليس شيء أسمع
من الجنة والنار، فإن العبد إذا سأل الجنة أَمَّنَت الجنة على دعائه وكذلك النار.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: فإن قيل كيف يجمع بين الحَرِّ والبرد في النار؟ فالجواب: أن
النار عبارة عن جهنم وفيها زوايا
فيها نار، وزوايا فيها الزمهرير، وليس محلًا واحدًا يستحيل أن يجتمعا فيه. انتهى.
(1/49)
لقائل
أن يقول الذي خلق الملك من ثلج ونار قادر جمع الضدين في محل واحد، وأيضًا فالنار
من أمور الآخرة، والآخرة لا تقاس على أمر الدنيا، والله تعالى أعلم.
وقيل في قوله تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:
13] أي: لا شمسًا، ولا قمرًا؛ لأنهما عُبِدَا من دون الله تعالى.
وفي الحديث: أنهما يُكَوَّرانِ في النار يوم القيامة، وقع في بعض نسخ الأطراف لأبي
مسعود الدمشقي أن هذا الحديث في الصحيح وكأنَّهُ غير جيد؛ لأن جماعة نصُّوا على ضعفه،
ولم يذكره خَلَف ولا ابن طاهر فمَن بعدَهما في كتب الأطراف.
و (جَهَنَّم) نعوذ بالله منها قال أبو حاتم: هي مؤنثة، وقال غيره: بئرٌ جِهْنَام
بعيدة القعر، وبه سميت جهنم وقال قُطْرُب: زعم يونس أنه اسم أعجمي، وقال أبو عمر:
وجِهْنَام اسم وهو الغليظ، ويقال: البعيد القعر ذكره في «الْمُوعِبِ» في الرباعي.
وفي «الْمُحْكَمِ» سُمِّيَتْ جنهم لبعد قعرها ولم يقولوا فيها جهنام، وفي «الزاهر»
لابن الأنباري: قال أكثر النحويين هي أعجمية لا تجري للتعريف والعجمة، وقيل: إنه
عربي ولم يجر للتأنيث والتعريف.
وَفِي «الصِّحَاحِ»: لما ذكره في الرباعي قال: هو ملحق بالخماسي لتشديد الحرف
الثالث، وفي «الكتاب المغيث» لأبي موسى المديني: هي تعريب كهنام بالعبرانية.
قَالَ الدَّاودِيُّ: من أسمائها السعير ولظى وسقر والجحيم وجهنم والهاوية والحطمة
وهذه لا يدخلها إلا من كفر قال تعالى: {فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:
11] وقال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] وقال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ
نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] وقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:
5].
(بَابٌ وَقْتُ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ)
وَقَالَ جَابِرٌ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي
بِالهَاجِرَةِ».
هذا التعليق ذكره البخاريُّ مُسْنَدًا في باب وقت المغرب.
(1/50)
540
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي أَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ
زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَامَ عَلَى المِنْبَرِ، فَذَكَرَ
السَّاعَةَ، فَذَكَرَ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ
يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ، فَلاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ
مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي» فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي البُكَاءِ، وَأَكْثَرَ أَنْ
يَقُولَ: «سَلُونِي» فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، فَقَالَ:
مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ حُذَافَةُ» ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: «سَلُونِي»
فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ:
رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا،
فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ
هَذَا الحَائِطِ، فَلَمْ أَرَ كَالخَيْرِ وَالشَّرِّ». [خ 540]
ورواه عن محمد عن عبد الله وبَيَّنَه بَعْدُ فقال: محمد بن مقاتل، وعبد الله هو
ابن المبارك.
542 - وفي لفظ: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا بِالظَّهَائِرِ، فَسَجَدْنَا عَلَى
ثِيَابِنَا اتِّقَاءَ الحَرِّ».
وفي لفظ: «فِي شِدَّةِ الحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ
جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ» وقد تقدم. [خ 542]
وعند الترمذي: «حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ».
روينا في كتاب في «السنن الكبير» لِلْكَشِّيِّ: «كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ في
الشِّتَاءِ وَمَا نَدْرِي مَا مَضَى منَ النَّهَارِ أَكْثَرُ أَمْ مَا بَقِيَ».
(1/51)
قال
أبو عمر: موسى بن العلاء راويه عن أنس كأنه يصلي عند الزوال، والزوال في الصيف إذا
مالت الشمس عن كبد السماء نحو المغرب وصار الظل نحو المشرق فهو أول الزوال، والشمس
تقف في الشتاء إذا قَصُرَ النهار فانتهى أو قارب ذلك على تسعة أقدام إذا طال النهار
ثم ترجع ويرجع الظل نحو المشرق فإذا كان ذلك فهو أول الزوال في الشتاء.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ من حديث خَبَّاب: «شَكَوْنَا إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا».
قال زهير: قلت لأبي إسحاق أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجيلها؟ قال: نعم.
وفي «معرفة الصحابة» لأبي منصور البَاوَرْدِي زيادة وقال: «إِذَا زَالَتِ
الشَّمْسُ فَصَلُّوا».
وفي كتاب الْكَجِّيِّ: «شَكَوْنَا الرَّمْضَاءَ في الَهَجِيْرِ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ أيضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ
إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ».
وعند الترمذي من حديث حشف بن مالك عن أبيه عن ابن مسعود: «شَكَوْنَا إِلَى
النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا»
وقال سألت محمدًا عنه: فقال الصحيح عن ابن مسعود موقوف وكذا قاله الدَّارَقُطْني.
وعنده أيضًا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْكُمْ».
وعَنْ عَائِشَةَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلظُّهْرِ مِنْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَلاَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ مِنْ
عُمَرَ».
قال فيه حسن، وزاد في كتاب «العلل»: وهو حديث فيه اضطراب.
وعند الطبرانيِّ في «المعجم الكبير» عن زيد بن ثابت: «كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالهَاجِرِةِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
(1/52)
أخبرنا
المسند المعمر أبو علي الحسن بن عمر الكردي قراءة عليها من لفظه، أخبرنا أبو
المُنَجَّا عبد الله بن عمر بن زيد، أخبرنا أبو المعالي محمد بن محمد بن محمد،
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد السراج، أخبرنا ابن شاذان قراءة عليه، أخبرنا
أبو عمرو وعثمان بن أحمد الدقاق، أخبرنا يحيى بن جعفر، حَدَّثَنا حماد بن مسعدة،
حَدَّثَنا حبيب بن شهاب العنبري عن أبيه قال: سألت أبا هريرة عن وقت صلاة الظهر،
فقال: «إذا زالت الشمس نصف النهار وكان الفيء شراكًا فقد قامت الصلاة للظهر».
ورويناه في «كتاب الألقاب» لأبي بكر الشيرازي مرفوعًا
من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عنه قال ابن المنذر: أجمع العلماء على
أن وقت الظهر زوال الشمس، وذكره ابن بطال عن الكَرْخي عن أبي حنيفة أن الصلاة في
أول الوقت تقع نقلًا، قال: والفقهاء بأسرهم على خلاف قوله.
وقال في «شرح الهداية» هذا قول ضعيف نُقِلَ عن بعض أصحابنا وليس منقولًا عن أبي
حنيفة، والصحيح عندنا أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبًا مُوسَّعًا، وذكر القاضي عبد
الوهاب في «الكتاب الفاخر» فيما ذكره ابن بطال وغيره عن بعض الناس يجوز أن يفتتح
الظهر قبل الزوال.
وقال شمس الأئمة في «المبسوط»: لا خلاف أن أول وقت الظهر يدخل بزوال الشمس إلا
شيئًا نُقِلَ عن بعض الناس أنه يدخل إذا صار الفيء بقدر الشراك، وصلاة النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين زاغت الشمس دليلٌ على أن ذلك من وقتها.
وقَالَ الْمُهَلَّبُ: إنما خطب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعد الصلاة، وقال:
«سَلُونِي» لأنه بلغه أن قومًا من المنافقين يسألون منه ويُعَجِّزُونَه عن بعض ما
يسألونه فَتَغَيَّظَ وقال: «لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء إلاَّ أَنْبَأْتُكُم بِهِ»
وبكاء الناس خوفًا من نزول عذابٍ لغضبه كما كان ينزل على الأمم عند رَدِّهم على
أنبيائهم صلوات الله عليهم وسلامه.
(1/53)
وزعم
الوَاقِدِيُّ أنَّ عبدَ الله بنَ حُذَافةَ كان يُطْعَنُ في نَسَبِهِ فأراد أن يبين
له ذلك، فقالت له أُمُّهُ: أما خشيتَ أن تكون فارقتَ بعض ما كان تصنع الجاهلية
أكنت فاضحي عند رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فقال: والله لو ألحقني
بعبدٍ لَلحِقْتُ به.
541 - حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عنْ أَبي المِنْهَالِ،
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا بَيْنَ
السِّتِّينَ إِلَى المِئَةِ، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ،
وَالعَصْرَ وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى المَدِينَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ
وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ - وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ- وَلاَ يُبَالِي في
تَأْخِيرِ العِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، قَالَ: أو إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ،
وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قبْلَها والحديثَ بَعْدَهَا» وَقَالَ مُعَاذٌ: قَالَ
شُعْبَةُ: لَقِيتُهُ مَرَّةً، فَقَالَ: أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ. [خ 541]
وفي لفظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَانَ يُصَلِّي الهَجِيرَ الَّتِي تَدْعُونَهَا
الأُولَى، حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ ويَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ حِينَ
يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى المِئَةِ».
وعند الإسماعيلي: «لَمَّا كَانَ زَمَنُ أُخْرِجَ ابنُ زِيَادٍ وَوَثَبَ ابنُ
مَرْوَانَ بِالشَّامِ، قَالَ أَبُو الْمِنْهَالِ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أَبِي
بَرْزَةَ، وانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ فِي ظِلِّ عُلُوٍ لَهُ مِنْ
قَصَبٍ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ» فذكر الحديث.
وقوله: (الأُوْلَى) سميت بذلك لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي عليهما
الصلاة والسلام وظاهره يقتضي وقوع صلاته للظهر عند الزوال، ولابد من تأويله.
(1/54)
وقوله:
(زَاغَتْ) أي مَالَتْ، وكل شيء مال وانحرف فقد زاغ قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا
أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
قوله: (وَقَالَ مُعَاذُ ... ) إلى آخره وهو مُسْندٌ في مسلمٍ، قال: حَدَّثَنا عبيد
الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة فذكره في باب تأخير الظهر إلى العصر يأتي إن شاء
الله حديثه فمن باب الجمع في السفر.
(بَابُ وَقْتِ العَصْرِ)
وقال أبو أسامة عن هشام: (مِنْ قَعْرِ حُجْرَتِهَا) هذا التعليق أسنده
الإسماعيليُّ عن ابن ناجية وغيره عن أبي عبد الرحمن قال: حَدَّثَنا أبو أسامة عن
هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ فِي قَعْرِ حُجْرَتِي» وقد تقدَّمَ طرفٌ منه في
باب مواقيت الصلاة وكذا الحديث الذي بعد.
548 – حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ إِلَى بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ العَصْرَ». [خ 548]
قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: هذا يدخل في المسند، وقد رواه عبد الله بن المبارك عن
مالك عن إسحاق وعَتِيْق بن يعقوب جميعًا عن مالك عن إسحاق عن أنسٍ قال: «كُنَّا
نُصَلِّي العَصْرَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» فذكره مستندًا
وفي «غرائب مالك» للدارقطني من حديث ابن المبارك عن مالك عن إسحاق والزهري: «أَنَّ
رَسُوْلَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ
يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى قُبَاءٍ، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ»
وقال: لم يسنده عن مالك غير إسحاق غير ابن المبارك وهو في «الموطأ» و «صحيح
البخاري» عن إسحاق: «كُنَّا نُصَلِّي العَصْرَ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا
إِلَى قُبَاءٍ» ح قال أبو عمر: قول مالك قباء وهمٌ لا شك فيه ولم يتابعه أحد فيه
عن ابن شهاب.
(1/55)
وقال
النسائيُّ: لم يتابع مالك على قوله: (قباء) والمعروف: (العَوَالِي) وكذا قاله
الدَّارَقُطْني في آخرين: «وَإِلَى العَوَالِي» خَرَّجَهُ البخاري ومسلم وأبو داود
والنسائي وابن ماجه من حديث الزهري.
وفي لفظ: «وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِن الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ
نَحْوَه».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْعَصْرَ،
فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللهِ، إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْحَرَ جَزُورًا لَنَا، وَنُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا،
فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ، فَوَجَدْنَا الْجَزُورَ لَمْ تُنْحَرْ،
فَنُحِرَتْ، ثُمَّ قُطِّعَتْ، ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا، ثُمَّ أَكَلْنَا قَبْلَ أَنْ
تَغِيبَ الشَّمْسُ».
وعند أحمد: «كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ مُحَلِّقَةٌ».
وفي صحيح ابنِ خُزَيْمَةَ: «إِنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِيَنْ تنظر حَتَّى إِذَا
اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ شَيْطَانٍ –أَوْ عَلَى قَرْنَيِ
شَيْطَانٍ - أَوْ فِي قَرْنَيْ شَيْطَانٍ- نَقَرَهَا أَرْبَعًا).
وفي لفظ: «فَآتِي عَشِيْرَتِي وَهُمْ جُلُوْسٌ فَأَقُوْلُ: مَا يُجْلِسُكُمْ،
صَلُّوا فَقَدْ صَلَّى رَسُوْلُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وعند الدَّارَقُطْني: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ الْعَصْرَ فَيَسِيرُ الرَّاكِبُ سِتَّةَ أَمْيَالٍ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ
الشَّمْسُ» وفي لفظٍ: «وَهُمْ في نَاحِيةِ الْمَدِينةِ مَا صَلَّوا».
(1/56)
وفي
لفظٍ عند الحاكم في «المستدرك»: «كَانَ أَبْعَدُ رَجُلَيْنِ مِنَ الأَنصَارِ من
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَبُو لُبَابَةَ، وَأَبُو
عَبْسِ وَمَسْكَنُهُ فِي بَنِي حَارِثَةَ، فَكَانَا يُصَلِّيَانِ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْعَصْرَ، ثُمَّ يَأْتِيَانِ قَوْمَهُمَا
وَمَاصَلَّوْا لِتَعْجِيلِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وعند السراج في «مسنده» بسند صحيح: «يَسَيْرُ الرَّاكِبُ إِلَى قِبَاءٍ».
وفي لفظ «الأوسط»: قِيْلَ لِأَنَسٍ: مَتَى كُنْتُمْ تُصَلُّونَ الْعَصْرَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فَقَالَ: «وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ
نَقِيَّةٌ».
وفي «كتاب الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ موقوفًا: «إِذَا صَلَّيْتَ العَصْرَ ثمَّ
سِرْتَ سِتَّةَ أَمْيَالٍ إلى غُرُوْبِ الشَّمْسِ فَذَلِكَ وَقْتُها».
ولفظ عبد الله بن عمرو عند أبي الوليد الطيالسي بسند صحيح: «وقتُ العصرِ مَا لمْ
تَغْرب الشَّمْسُ».
وفي لفظ «المصنف»: «مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ».
وعندَ أبي أحمدَ العسكريِّ منْ حديثِ أَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ بسندٍ جيدٍ:
«كُنْتُ أُصَلِّي معَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ العصرَ بالمدينةِ
ثمَّ أَمْشي إِلَى ذِي الحُلَيْفَةِ فَآتِيْهِم قبلَ أنْ تَغيبَ الشَّمْسُ».
وعند الطبرانيِّ في «الكبيرِ» حديث جابر، وفي «الأوسطِ» حديث أبي مسعود وحديث
بُرَيْدَةَ ورافع يأتي ذكرهما إنِ اللهُ قَدَّرَ ذلك وشاءه.
قال ابن المنذر: اختلفوا في أول وقت العصر، فكان مالك والثوري وأحمد والشافعي
وإسحاق وأبو ثور يقولون: أول وقته إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله، ثم اختلفوا بعد:
فقال بعضهم: آخر وقت الظهر أول وقت العصر، فلو أن رجلين صلى أحدهما الظهر والآخر
العصر حين صار ظلُّ كلِّ شيء مثله لكانا مُصَلِّيَيْنِ في وقتهما، قائل هذا إسحاق
وذُكِرَ عن ابن المبارك.
(1/57)
وأما
الشافعيُّ فكان يقول: أول وقت العصر إذا جاوز ظلُّ كلِّ شيء مِثْله متى ما كان
وذلك حين ينفصل من آخر وقت الظهر.
وقد حُكِيَ عن ربيعة قول ثالث وهو أن وقت الظهر في السفر والحضر إذا زالت الشمس.
وفيه قول رابع وهو أنَّ وقت العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال، ومن صلى قبل
ذلك لم يجزِه وهو قول النعمان وفي ذلك أخبار ثابتة عن رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ. انتهى.
الذي حكاه عن أبي حنيفة محكي ذلك أيضًا عن أحمد مستدلين فيما أرى بحديث عبد الله
بن رافع عن أبيه رافعِ بن خَدِيج أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان
يأمر بتأخير هذه الصلاة يعني العصر.
قَالَ الدَّارَقُطْني: هذا حديثٌ ضعيفُ الإسناد من جهة عبد الواحد بن رافع؛ لأنه
لم يرو عن ابن رافع غيره
وقد اخْتُلِفَ في اسم ابن رافع فقيل: عبد الله, وقيل: عبد الرحمن، قال: ولا يصح عن
رافع وغيره ضِدُّ هذا وهو التعجيل بصلاة العصر والتبكير بها.
وقال الترمذيُّ: ويروى عن رافع عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في تأخير
العصر ولا يصح.
وقال ابنُ القَطَّانِ: علَّتُه الجهل بحال ابن رافع، وقال الجَوْزَقَانِيُّ: هذا
حديث منكر ضعيفُ الإسناد، أما قول الدَّارَقُطْني ففيه نظر في مواضيع:
الأول قوله: (لم يَرْو عن عبد الله بن رافع غيرُ عبد الواحد) مردودٌ بما ذكره ابن
حبان في «كتاب الثقات» روى عنه عبد العزيز بن عقبة بن مسلم ومات سنة إحدى عشرة
ومئة، وهو ابن خمس وثمانين سنة، وقال أبو سليمان بن زيد: توفي سنة إحدى ومئة، زاد
ابن قانع: ويقال سنة اثنتين، وكنيته أبو الفضل، وإن كان ابن رافع مجتهدًا به؛ لأنه
أيضًا من الثقات فلا يضرنا إن كان هو أو أخوه.
الثاني: عبد الواحد ذكره ابن حبان في «كتاب ابن حبان».
(1/58)
الثالث
قوله: (ولا يصح عن أحد من الصحابة) مردودٌ بما ذكره أبو عبد الله في «مستدركه» من
حديث الْعَبَّاسِ بْنِ ذَرِيحٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّخَعِيِّ، قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَلِيٍّ بنِ أَبِي طالبٍ فِي
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لِلْعَصْرِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ
ذَلِكَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا الْكَلْبُ يُعَلِّمُنَا بِالسُّنَّةِ، فَصَلَّى
بِنَا الْعَصْرَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا فَرَجَعْنَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كُنَّا
بهِ جُلُوسًا، فَجَثَوْنَا لِلرُّكَبِ لِنُزُولِ الشَّمْسُ بالمغربِ
نَتَرَاءَاهَا» وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
وعند ابن أبي شيبة: «كانَ يُؤَخِّرُ العصرَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ على
الحيطانِ».
وعنده أيضًا بسند لا بأس به عن جابرٍ: «صلَّى بِنَا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ العَصْرَ حينَ صارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْليْهِ قَدْرَ مَا يَسِيرُ
الرَّاكبُ إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ الْعَنَقَ».
وعند أبي علي الطُّوسي صحيحًا عن أمِّ سَلَمَةَ: «أَنْتُمْ أَشَدُّ تَعْجِيْلًا
لِلْعَصْرِ منَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وفي الصحيحين: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ
بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ» وفيه:
«فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ
يُصَلُّونَ» وهو يدلُّ على فعل العصر آخر الوقت حتى تعرج الملائكة وهم يصلون،
وبمفهوم حديث بُرَيْدَةَ: «بَكِّرُوا بِالصَّلاةِ في يَوْمِ الغَيْمِ» وهو عدم
التبكير في الصَّحْو، وهذا المفهوم حجةٌ عند الشافعيِّ.
(1/59)
وعند
عبد الرزاق: فإنَّ سليمان بن موسى أثبت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: «صَلُّوا صَلَاةَ العَصْرِ بِقَدْرِ مَا يَسِيْرُ الرَّاكِبُ إِلَى ذِي
الحُلَيْفَةِ سِتَّةَ أَمْيَالٍ». وبما في «صحيح مسلم» عن عُمارة مرفوعًا: «لَنْ
يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا
يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ».
وبما سلف من حديث ابن عمرو وهو في سنده، وبما روى ابن حزم أن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قال: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا
العَصْرَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ».
قال أبو محمد: لا يُسْنَدُ إلا من طريق الصَّلْتِ بن بِهْرام يعني الْمُوثَّقُ عند
ابن سعيد وابن مَعين وابن حِبَّان، وقال ابن عُيَيْنَةَ والبخاريُّ وأبو حاتم:
صدوق، وقال البَّزَّارُ: مشهور، وذكر أيضًا صحيحًا عن الحسن ومحمد وأبي قِلابة
أنهم كَانُوا يُمْسُونَ بِالْعَصْرِ.
ومن حديث عبد الله بن شُبْرُمَة قال: قال محمد بن الحنفية: إنما سميت العصر لتعصر،
وقاله طاوس.
ومن حديث وكيع، حَدَّثَنا إسرائيل وعلي بن صالح عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن
يزيد قال: «كَانَ عبدُ الله يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ» وفي «المصنف» صحيحًا عن ابن أبي
مُلَيْكَة: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ،
ثُمَّ أَخْرَجَ مَالًا يَقْسِمُهُ يُبَادِرُ بِهِ اللَّيْلَ».
وقالَ سَوَّارُ بْنُ شَبِيبٍ: كانَ أبو هريرةَ يُؤَخِّرُ العصرَ حَتَّى أقولَ قدِ
اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ.
وعن إبراهيم قال: كان ابن أخي الأسود مؤذنهم فكان يُعَجِّلُ العصرَ، فقال له
الأسودُ: لَتُطِيْعُنَا في أذَانِنَا أو لَنَعْتَزِلَنَّ في أذَانِنَا.
وعن إبراهيم قال: كان من قبلكم أشدَّ تأخيرًا للعصر منكم.
(1/60)
قال
وكيع: قال لي إبراهيم: لا تُقَصِّر العصرَ حتى لا تسمعَ حولك مؤذنًا، وعنه قال:
يُصَلَّى العصرُ إذا كان الظلُّ واحدًا وعشرين قدما في الشتاء والصيف.
وكان أبو الهُذَيْل يصلي العصر قَدْرَ ما تسير العِيْرُ فرسخًا إلى غروب الشمس.
قال أبو جعفر الطحاويُّ: وقد أ جمعت الصحابة على ذلك رضي الله عنهم أجمعين.
وعند أبي داود: عنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَبِي الْوَزِيرِ عنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْيَمَامِيِّ، عنْ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ
عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ قَالَ: «كَانَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ مَا دَامَتِ الشَّمْسُ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً».
وفي شرح «الهداية» روى الحسن عن أبيه حنيفة: أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء
مثله، وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر واختاره أبو جعفر الطحاوي، وفي رواية أسد بن
عمرو عن أبي حنيفة: إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى
يصيرَ ظلُّ كلِّ شيء مِثْلَيْه سوى في الزوال.
وروى الْمُعَلَّى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إذا صار الظل أقل من قامتين يخرج وقت
الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير قامتين، وصححه أبو الحسن الكرخي، وفي رواية
الحسن أيضًا إذا صار ظل كل شيء قامةً خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير
قامتين وبينهما
وقت مهمل وهو الذي يسميه الناس الصلاة بين الصلاتين، وحكى ابن قدامة في «المغني»:
عن ربيعة أن وقت الظهر والعصر إذا زالت الشمس، وعن عطاء وطاوس: إذا صار ظل كل شيء
مثله دخل وقت، وما بعده وقت لهما على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس.
(1/61)
وقال
ابنُ رَاهَوَيْه وأبو ثَور والْمُزَنِيُّ والطَّبَرِيُّ: إذا صار ظل كل شيء مثله
دخل وقت العصر، ويبقى وقت الظهر قدر ما يُصَلَّى أربع ركعات ثم يتمحص الوقت للعصر
وبه قال مالك، وفي «قنية المنية»: تأخير العصر إلى وقت اصفرار الشمس والمغرب إلى
اشتباك النجوم يكره كراهية تحريم.
وأما آخر وقت العصر:
فقال أكثر العلماء: غروب الشمس.
وقال الحسن بن زياد: يغير الشمس إلى الصفرة، حكاه عنه شمس الأئمة، وقال: والعبرة
لتغيير الفرض عندنا وهو قول الشعبي.
وقال النَّخَعِيُّ: لتغيير الوضوء.
وقال الإصْطَخْرِيُّ: إذا صار ظل كل شيء مثليه ويأثم بالتأخير ويكون قضاء ولا يدخل
وقت المغرب إلا بالغروب وما بينهما وقت مهمل.
وفي «شرح المهذب»: للعصر خمسة أوقات: فضيلة واختيار وجواز بلا كراهة ووقت عذر.
وفي «شرح الهداية»: والتأخير إلى تغيير الفرض مكروه والفعل فيه ليس بمكروه، واختلف
أصحابنا في تغيير الشمس:
قيل: يتغير الشعاع على الحيطان، وقيل: يوضع طست في أرض مستوية فإن ارتفعت الشمس
على جوانبه فقد تغيرت، وإن وقعت في جوفه لم يتغير، وقيل: إذا كانت الشمس مقدار رمح
لم يتغير ودونه تغيرت، وقيل: إن كان يمكن النظر إلى القرص من غير كُلْفَةٍ ومشقةٍ
فقد تغيرت، والصحيح تغيير القرص والله تعالى أعلم.
وقول أبي أُمَامة: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم دخلنا على أنس فوجدناه
يصلي العصر، هذا كان في ولاية عمر المدينة نيابةً؛ لأن أنسًا توفي قبل خلافة عمر،
وفِعْلُ عمرَ هذا كان على جاري عادة الأمراء في التأخير، فلما بلغه التقديم رجع
إليه وعمل به، والباب الذي بعد تقدم ما فيه قريبًا.
(بَابُ إِثْمِ مَنْ فَاتَتْهُ العَصْرُ)
(1/62)
552
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قَالَ: «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ العَصْرِ، كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ
وَمَالَهُ». [خ 552]
وفي «موطأ ابن وهب» قال مالك: تفسيرها ذهاب الوقت، وعند أبي عبد الله محمد بن يحيى
بن منده الأصبهاني: الموتر أهله وماله مَنْ وتر صلاة الوسطى في جماعة وهي صلاة
العصر، وفي «تفسير الطبري» عن سالم أن أباه كان يرى لصلاة العصر فضيلة للذي قاله
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيها
%ج 1 ص 35%
ويرى أنَّها الصلاة الوسطى، وفي مسند الكجي: «وُتِرَ أَهْلَهُ، وَمَالَهُ، وَهُوَ
قَاعِدٌ».
وفي «علل ابن أبي حاتم»: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ - وَفَوَاتُهَا أَنْ
تَدْخُلَ الشَّمْسَ صُفْرَةٌ- فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ، وَمَالَهُ» قال أبو
حاتم: التفسير من قبل نافع.
وكذا رواه النسائي عن نوفل بن معاوية كراوية ابن عمر، وزعم أبو القاسم في
«الأوسط»: أن نوفلًا رواه عن أبيه معاوية بلفظ: «لَأَنْ يُوتِرَ أَحَدُكُم
أَهْلَهُ ومَالَهُ خَيْرٌ لَهُ مَنْ أَنْ تَفُوْتَهُ صَلَاةُ العَصْرِ» وُتِرَ أي:
نقص فكأنه جعله وِتْرًا بعد أن كان كثيرًا.
قَالَ الخَطَّابِيُّ وغيره: نقص هو أهله وماله وسُلِبَهم فبقي بلا أهلٍ ولا مالٍ،
فليحذر من تفويتها كحذره من ذهاب أهله وماله.
وقال أبو عمر: معناه كالذي يُصاب بأهله وماله إصابةً يطلب بها وترًا، وهي الجناية
التي يُطْلَبُ ثَأْرُها فيجتمع عليه غَمَّان: غَمُّ المصيبة، ومقاساة طلب الثأر.
(1/63)
وقَالَ
الدَّاودِيُّ: يَتَوَجَّهُ عليه من الاسترجاع ما يَتَوَجَّه على من فقد أهله
وماله، فيتوجه عليه الندم والأسف لتفويته الصلاة، وقيل: معناه فاته من الثواب ما
يلحقه من الأسف كما يلحق من ذهب أهله وماله وهذا كله يمشي على رواية النصب وهو
الصحيح المشهور على أنه مفعول ثاني لوتر، وأضمر فيه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله عائدًا
إلى الذي فاتته الصلاة.
قال أبو زكريا: وقيل معناه وُتِرَ في أهله فلما حُذِفَ الخافض انتصب، ومن رواهما
بالرفع فعلى مالم يسمَّ فاعله، وقال بعضهم: على أنَّه بدل اشتمال، أو بدل بعضٍ،
ومعناه: انتزع منه أهله وماله وذهب بهم وهو تفسير مالك، واختلفوا في المراد بفوات
العصر في هذا الحديث، فقال ابن وهب وغيره: هو فيمن لم يصلِّها في وقتها المختار.
وقال الأَصِيلي وسُحْنُون: هو مَن تفوته بغروب الشمس، وقيل: يُفَوِّتُها إلى أنْ
تَصْفَرَّ الشمس وقد ورد مفسرًا من رواية الأوزاعي في هذا الحديث، قال: وفواتها أن
تدخل الشمس مصفرة.
ورُوِيَ عن سالم عن أبيه أنه قال: هذا فيمن فاتته ناسيًا.
وقَالَ الدَّاودِيُّ: هو في العامد، وكأنه أظهر لما في «صحيح البخاري»: «مَنْ
تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ» وهذا ظاهر في العَمْد.
وقَالَ الْمُهَلَّبُ: هو فواتها في الجماعة لما يفوته من شهود الملائكة الليلية
والنهارية، ولو كان فواتها بغيبوبةٍ أو اصفرار لبطل الاختصاص؛ لأن ذهاب الوقت كله
موجود في كل صلاة والله أعلم.
قال أبو عمر: يحتمل تخصيصه العصر أن يكون جوابًا لسائلٍ سأل عن ذلك، وعلى هذا يكون
حكم
%ج 1 ص 36%
من فاته الصبح بطلوع الشمس والعشاء بطلوع الفجر، وخُصَّت العصر لفضلها ولكونها
مشهودة، وقيل: خُصَّتْ بذلك تأكيدًا وحضًّا على المثابرة عليها؛ لأنها تأتي في وقت
اشتغال الناس، ويحتمل أنها خُصَّتْ بذلك لأنها على الصحيح أنها الصلاة الوسطى وبها
ختم الصلوات. انتهى.
قد بينا ذلك في حديث ابن عمر قبلُ.
(1/64)
(بَابُ
مَنْ تَرَكَ العَصْرَ)
553 - حَدَّثَنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنا هِشَامٌ، حَدَّثَنا
يَحْيَى عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي المَلِيحِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ
بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمِ غَيْمٍ، فَقَالَ: بَكِّرُوا بِصَلاَةِ العَصْرِ،
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ
العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ». [خ 553]
ورواه ابنُ خُزَيْمَةَ كما روى البخاري عَنْ أَبِي المَلِيحِ قال: كُنَّا مَعَ
بُرَيْدَةَ، والإسماعيلي والنسائي وأبو مُسْلم الكَجِّيُّ وأحمد بن حنبل في آخرين،
وأما ابن ماجه وابن حبان فخرجاه من جهة الإسماعيلي في تصحيفه عن يحيى فقال: عن أبي
الْمُهَاجر، وإنما هو الْمُهَلَّبُ عمُّ أبي قلابة واسمه عمرو: أخبرنا بذلك يحيى
بن عمرو، وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم، حَدَّثَنا محمد بن حِمْيَر، حَدَّثَنا
الأوزاعي عن يحيى عن أبي قلابة عن عمه عنه على الصواب.
وقال محمد بن عبد الواحد المقدسي في كتابه «علل الأقسام والأنواع» لابن حبان:
الصواب أبو الْمَلِيح عن بُرَيْدَة.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: معنى هذا مَنْ فَاتَتْهُ فَوَاتَ مُضَيِّعٍ مُتَهَاونٍ بفضل
وقتها مع قدرته على أدائها فحبط عمله في الصلاة خاصة أي: لا يحصل له أجر المصلي في
وقتها، ولا يكون له عملٌ ترفعه الملائكة صلوات الله عليهم وسلامه، وقال غيره:
تركها جاحدًا فإذا فعل ذلك فقد كفر وحبط عمله، وَرُدَّ بأن ذلك مقول في سائر
الصلوات فلا مزية إذًا يدل عليه ما ذكره أبو القاسم الجوزي في كتابه «الترغيب
والترهيب» من حديث أبي طُوَالَةَ الأنصاري عن سالم عن أبيه عن عمر قال رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا أَحْبَطَ اللهُ
عَمَلَهُ وَبَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله تعالى حَتَّى يُرَاجِعَ الله توبةً».
وقال ابنُ بَزِيزَةَ: هذا على وجه التغليظ.
(1/65)
وقَالَ
ابنُ التِّيْنِ: معناه كاد أن يحبط، وفي «القبس» لابن العربي: يوقف عنه عمله
مُدَّةً يكون فيها بمنزلة المحبط حتى يأتيه من فضل الله ما يدرك به ثواب عمله،
الثاني: أن يحبط عمله عند الموازنة بأنه إذا وضعت الحسنات والسيئات فقد بطلت حينئذ
وصار صاحبها في قسم العذاب وبقي أمر الله فإذا جاء بالفضل بعد الاقتصاص من الزائد
أو إسقاطه أو زلَّ ثواب عمله، ويحتمل أن يؤخرها عن وقتها متهاونًا بغير نسيان.
وقد أجمعوا على أن من تركها متهاونًا فلم يُصَلِّهَا أو أَخَّرَها
%ج 1 ص 37%
عن أوقاتها أنها لا تُؤْمَرُ بإعادة فروضه المتقدمة وقالوا إلا الحسن، والتَّرْكُ
المشار إليه محمول على التأخير، ويجوز أن يراد به لا يصليها مطلقًا متهاونًا بها
والله أعلم.
واختارَ جماعةٌ من العلماء في يوم الغيم تأخير الظهر وتعجيل العصر.
(بَابُ فَضْلِ صَلاَةِ العَصْرِ)
554 – حَدَّثَنا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنا
إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً
فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ
تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى
صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ} [ق:
39]، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: افْعَلُوا لاَ يَفُوتَنَّكُمْ. [خ 554]
وفي لفظ: «إِذَا نَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ فَقَالَ: أَمَا
إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ.
(1/66)
وفي
كتاب التوحيد: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا»، وفي التفسير: «فَنَظَرَ
إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ».
وعند اللَّالَكَائِيِّ عن البخاريِّ: «إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى ربِّكُمْ
وَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: ثم قرأ جرير {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الآية.
وعند الدَّارَقُطْني: وقال زيدُ بنُ أَبِي أُنَيْسَةَ: «فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ
كَمَا يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا القَمَرِ».
وقال وكيع: سَتُعَاينُونَ، وسيأتي عند البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد: «هَلْ
تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ في الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابةٍ،
قَالُوا: لاَ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ
لَيْسَ فِيهَا سَحَابةٌ قَالُوا: لاَ، قَالَ:» لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ،
إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا».
وعن أبي موسى عنده بنحوه، وعن أبي أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ: قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللهِ، أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ؟ مُخْلِيًا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
قَالَ: «نعم». قال: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: «يَا أَبَا رَزِينٍ،
أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مُخْلِيًا بِهِ» قَالَ:
فَاللهُ أَعْظَمُ وأَجَلُّ وذّلِكَ آيتُهُ فِي خَلْقِهِ».
(1/67)
وعند
ابن ماجه عن جابر: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ
لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ
فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ» ح وعن صُهَيْبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ
فذكر حديثًا فيه: «فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا
أَعَطَاهُمُ اللهُ تَعَالَى شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْه».
وفي سنن اللَّالَكَائِيِّ عن أنسٍ وأُبَيِّ بنِ كعب وكَعْبِ بنِ عُجْرَةَ سُئِلَ
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن الزيادة في كتاب الله تعالى
%ج 1 ص 38%
قال: «النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ».
وعن ابن عمر وحذيفة: «مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ
تَعَالَى غَدْوَةً وَعَشِيَّةً».
ومن حديث أبي عبيدة عن أبيه وذكر الموقف: «فَيَتَجَلَّى لَهُمْ رَبُّهُمْ» ح. قال
أبو القاسم: روى رؤية المؤمن لربهم جلَّ وعزَّ في القيامة أبو بكر وعليُّ بن أبي
طالب ومعاذُ بن جبل وابن مسعود وأبو موسى وابن عباس وابن عمر وحذيفة وأبو أمامة
وأبو هريرة وجابر وأنس وعمار بن ياسر وزيد بن ثابت وعبادة بن الصامت وبُرَيْدَةَ
بن حَصِيب وجُنَادة ابن أبي أمية وفُضَالةُ بنُ عُبَيْدٍ ورجل له صحبة من النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثم ذكر أحاديثهم بأسانيد غالبها جيدٌ.
(1/68)
وروينا
في كتاب «تثبيت النظر» لِأَبِي نُعَيْمٍ الحافظ زيادة ذكر أبي سعيد الخدري وحذيفة
وعُمَارَةَ بنِ رُوَيْبَةَ وأبي رَزِيْنٍ العُقَيْليِّ وأبي برزة، زاد الآجُرِّيُّ
في «كتاب الشريعة» وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بأبي الشيخ في «كتاب السنة
الواضحة» تأليفهما عدي بن حاتم الطائي بسند جيد، زاد محمد بن الحسين الآجري عند
الدُّوريِّ قال: سمعت أبا عُبَيْدِ بن سَلَام وذكر عنده هذه الأحاديث في الرؤية
فقال: هذه عندنا حقٌّ نقلها الناس بعضهم من بعض وكذا قاله ابن عيينة، زاد كذا
سمعناه ممن يثق به.
قال الآجُرِّيُّ: وأنا أذكر السنن الثابتة في النظر، فذكر اثنا عشر حديثًا.
قال أبو زكريا: تظاهرت الأخبار والقرآن وإجماع الصحابة فمن بعدهم على إثبات رؤية
الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، رواها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
نحو من عشرين صحابيًا، وهي مختصةٌ بالمؤمنين ممنوعةٌ عن الكفار وقيل: يراه منافقو
هذه الأمة وهذا ضعيفٌ، والصحيح أن المنافقين كالكفار باتفاق العلماء، ومنع من ذلك
المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة بناء على أن الرؤية يلزمها شروط عقلية اعتقدوها،
وأهل السنة لا يشترطون شيئًا من ذلك، والجواب مذكور في كتب المتكلمين من أهل
السنة.
وزعم ابن التين أنهم تجاوزوا العشرين صحابيًّا.
قوله: (لاَ تُضَامُونَ) بضم التاء المثناة من فوق وتخفيف الميم، قال ابن الجوزي:
وعليه أكثر الرواة، والمعنى: لا ينالكم ضَيْمٌ، والضَّيْمُ أصله الظلم، وهذا الضيم
يلحق الرائي من وجهين: أحدهما من مزاحمة الناظرين له أي: لا تزدحمون في رؤيته
فيراه بعضكم دون بعض ولا يظلم بعضكم بعضًا، الثاني: من تأخره عن مقام الناظر
المحقق وكأنَّ المتقدمين ضاموه، ورؤية الله عز وجل يستوي فيها الكلُّ بلا ضَيْمٍ
ولا ضرر ولا مشقة.
وفي رواية: «لاَ تُضَامُونَ
%ج 1 ص 39%
(1/69)
أولَا
تُضَاهُون» على الشك يعني: لا يشتبه عليكم وترتابون فيعارض بعضكم بعضًا في رؤيته،
وقيل: لا يُشَبِّهُونه في رؤيته بغيره من المرئيات.
ورُويَ: «تُضَامُّونَ» بضم التاء وتشديد الميم، وروي بفتح التاء وتشديد الميم، قال
أبو الفرج: حكاهما الزجاج وقال المعنى فيهما: لا تُضَامَمُون؛ أي: لا ينضم بعضكم
إلى بعض في وقت النظر لإشكاله وخفائه كما تفعلون عند النظر إلى الهلال.
ورُويَ «تضَارُّونَ» بالراء المشددة والتاء مضمومة ومفتوحة، قال الزجاجُ: معناهما
لا تتضارون أي: لا يضار بعضكم بعضًا بالمخالفة، وقال ابن الأنباري: هو يتفاعلون من
الضرار، أي: لا تتنازعون وتختلفون.
ورُوِيَ: «تُضَارُونَ» بضم التاء وتخفيف الراء، أي: لا يقع للمرء في رؤيته ضَيْرٌ
ما بالمخالفة والمنازعة أو الخفاء.
وروي: «تُمَارُونَ» براء مخففة يعني: تجادلون، أي: لا يدخلكم شكٌّ.
ووجه المناسبة بين الصلاتين والرؤية: أن الصلاتين من أفضل القرب فكأنه قال: دوموا
على أفضل القرب تنالوا أفضل العطاء وهو الرؤية.
وقوله: ({فَسَبِّحْ}) يريد صلِّ في هذين الوقتين.
وقال أبو القاسم الجوزي فيما رويناه عنه: إن حافظتم على هاتين الصلاتين كنتم
جُدَرَاءَ بأن تروا ربكم لتحقق إيمانكم.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ
وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ
العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ
يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
(1/70)
أخبرنا
الإمام المسند أبو البقاء صالح بن مختار بن صالح قراءةً عليه وأنا أسمع، أخبرنا
أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة، أخبرنا يحيى الثقفي، أخبرنا الإمام الحافظ
قوام السنة أبو القاسم بن محمد بن الفضل الجوزي، أخبرنا الحسن بن أحمد السمرقندي،
أخبرنا عبد الصمد العاصمي، حَدَّثَنا أبو العباس البحتري، حَدَّثَنا أبو حفص
البحتري، حَدَّثَنا يوسف بن موسى، حَدَّثَنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة فذكره وفي آخره قال: «فَحَسِبْتُ أَنَّهُم يقولونَ: فَاغْفِرْ لَهُمْ يومَ
الدِّينِ».
قوله: (يَتَعَاقَبُونَ) فيه دليل لمن قال بجواز إظهار ضمير الجمع والتثنية في
الفعل إذا تقدم، وهي لغة بني الحارث وقالوا: هو كقوله أكلوني البراغيث وعليه حمل
الأخفش ومن تابعه قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}
[الأنبياء: 3] قال سيبويه في آخرين: لا يجوز إظهار الضمير
%ج 1 ص 40%
مع تقدم الفعل ويتأولون هذا كله ويجعلون الاسم بعده بدلًا من الضمير ولا يرفعونه
بالفعل، كأنه لما قيل: وأسروا النجوى، قيل: من هم؟ قال: هم الذين ظلموا وكذا
يتعاقبون ونظائره، ومعناه تأتي طائفة بعد طائفة، ومنه: تعقيب الجيوش وهو أن يذهب
قوم ويجيء آخرون، وأما اجتماعهم في هاتين الصلاتين فهو من لطف الله تعالى بعباده
المؤمنين أن جعل اجتماع الملائكة عندهم ومفارقتهم لهم في أوقات عبادتهم واجتماعهم
على طاعة ربهم فتكون شهادتهم لهم بما شاهدوه من الخير.
قال ابن حبان في «صحيحه»: فيه بيان أن ملائكة الليل إنما تنزل والناس في صلاة
العصر، وحينئذ تصعد ملائكة النهار ضد قول من زعم أن ملائكة الليل تنزل بعد غروب
الشمس. انتهى.
وعند أكثر العلماء أن هذه الملائكة هم الحفظة فسؤاله لهم إنما هو سؤال عما أمرهم
به من حفظهم لأعمالهم وكتبهم إياهم عليهم.
(1/71)
قال
عياض: وقيل يحتمل أن يكونوا غير الحفظة فسؤاله لهم إنما هو على جهة التوبيخ لمن
قال: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] وأنه أظهر لهم ما سبق
في علمه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَالَا تَعْلَمُونَ} قَالَ القُرْطُبِيُّ: وهذه
حكمة اجتماعهم في هاتين الصلاتين، أو يكون سؤاله لهم استدعاء لشهادتهم لهم، ولذلك
قالوا: «أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»
وهذا من خفي لطفه وجميل ستره إذ لم يُطْلِعْهُم إلا على حال عبادتهم، ولم يطلعهم
على حالة شهواتهم وما يشبهها. انتهى.
هذا الذي قاله يعطي أنهم غير الحفظة؛ لأن الحفظة يَطَّلِعون على أحوالهم كلها
اللَّهمَّ إلا أن تكون الحفظة غير الكاتبين فَيَتَّجِهَ ما قاله، والظاهر أنهم
غيرهما؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث: «إِذَا مَاتَ العَبْدُ جَلَسَ كَاتِبَاهُ
عِنْدَ قَبْرِهِ يَسْتَغْفِرَانِ لهُ ويُصَلِّيَانِ عَلَيْهِ إِلَى يومِ
القِيَامَةِ» يوضحه ما روى ابن المنذر بسندٍ له عن أبي عُبَيْدَةَ بن عبد الله عن
أبيه أنه كان يقول: يتداولُ الحَارسان من ملائكة الله تعالى، حارسُ الليل وحارسُ
النهار عند طلوع الفجر.
وحَدَّثَنَا علي بن عبد العزيز، حدَّثَنَا ابن المقَّري، حَدَّثَنا مروان،
حَدَّثَنا جُوَيْبِرُ عن الضحاك في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفَجْرِ} [الإسراء:
78] قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار يشهدون أعمال بني آدم، وفي «تفسير ابن
أبي حاتم»: تشهده الملائكة والجن.
(بَابُ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العَصْرِ قَبْلَ الغُرُوبِ)
556 – حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ:
%ج 1 ص 41%
(1/72)
«إِذَا
أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ، قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ
الشَّمْسُ، فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلاَةِ
الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلاَتَهُ» رواه النسائي عن
عمرو بن منصور وأبو نعيم الحافظ عن عبد الله بن محمد بن محمد عن عبد الله بن محمد
بن النعمان كلاهما عن أبي نعيم الفضل بن دُكَيْن شيخ البخاري بلفظ: «إِذَا
أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ السَّجْدَةِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ
تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» وكذا أخرجه ابن حبان في «صحيحه» عن أبي
يَعْلَى أحمد بن علي بن المثنى، حَدَّثَنا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنا حُسَيْنُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، عن شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، ورواه أحمدُ بن مَنِيْع عن حسين بن
محمد ولفظه: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ أولَ ركْعَةٍ منْ صلاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ
أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، ومَنْ أَدْرَكَ ركعةً مِنَ
الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فقد أدركَ». [خ 556]
وعند أبي داود: «إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ
الْعَصْرِ».
(1/73)
وعند
السَّرَّاجِ: «مَنْ صَلَّى بِسَجْدَةٍ واحدةٍ منَ العصرِ قَبْلَ غروبِ الشَّمْسِ
ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ بعدَ غروبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يَفُتْهُ العَصْرَ، ومَنْ
صَلَّى سجدةً واحدةً منَ الصبحِ قَبْلَ طلوعِ الشمسِ ثمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ بعدَ
طُلُوعِهَا فَلَمْ يَفُتْهُ الصبح» وفي لفظ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ
الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَرَكْعَةً بَعْدَمَا تَطْلُعُ
الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ» وفي لفظ: «مَنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ
الصُّبْحِ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَه»، وفي لفظ: «مَنْ
أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ إليها أُخْرَى» وفي لفظ: «مَنْ
صَلَّى سَجْدَةً وَاحِدَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ صَلَّى
مَا بَقِيَ بَعْدَ الغروبِ، فَلَمْ يَفُتْهُ الْعَصْرُ» وفي لفظ: «مَنْ أَدْرَكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ سَجْدَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ
قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَجْدَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ» وفي لفظ: «مَنْ
أَدْرَكَ رَكْعَةً أَوْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ» وفي لفظ:
«ركْعَتَيْنِ» من غير تردد غير أنه موقوف، وعند ابنِ خُزَيْمَةَ كذلك مرفوع
بزيادة: «أو رَكَعْةٍ منْ صَلَاةِ الصبحِ».
وعند النسائي: «مَنْ أَدْرَكَ مِنْ صَلاةٍ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَهَا».
وعندَ الدَّارَقُطْني: «قَبْلَ أنْ يُقِيْمَ الإمامُ صُلْبَهُ فَقَدْ
أَدْرَكَهَا».
وعند ابن عدي هذه زادها يحيى بن حميد المصري ولا أعرف له غيره، وعنده أيضًا: «فقدْ
أدركَ الفضيلةَ، ويتم ما بقي» وضعفه، وعن ابن المسيب: مَنْ أدركَ سَجْدَةً فقدْ
أدركَ الركعةَ.
وعن الزهري: من أدركَ الإمامَ جالسًا قبلَ أنْ يسلمَ فقدْ أدركَ الصلاةَ
وفَضْلَها.
وفي «سنن الكَجِّيِّ»: «مَنْ أدركَ منْ صلاةٍ ركعةً فقدْ أدركها».
(1/74)
وفي
«الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: «منْ أدركَ رَكْعَتَيْنِ قبلَ أنْ تغربَ الشمسُ،
وركْعَتَيْنِ بَعْدَمَا غَابَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَفُتْهُ العصر».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «منْ أَدْرَكَ ركعةً منَ
%ج 1 ص 42%
مِنَ الصَّلَاةِ معَ الإمامِ فَقَدْ أدركَ الصَّلَاةَ».
وفي لفظ: «فَقَدْ أدركَ الصَّلَاةَ».
ورواه النسائيُّ بسندٍ صحيحٍ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ
أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا إِلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ».
وروى أبو علي الحنفي عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة عنه: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً
مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَها وليصلِّ» قال أبو عمر: لا أعلم أحدًا يرويه عن
مالك غيره.
وعند النسائي من حديث سالم مرسلًا: «فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ إِلَّا أَنَّهُ
يَقْضِي مَا فَاتَهُ».
وقال ابن الأثير في شرح «المسند» رفع عن ابن عمر في «السنن» للنسائي أيضًا فينظر.
وفي رواية عمار بن مطر عن مالك وتفرد به: «فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ
وَوَقْتَها».
قال أبو العباس القرطبي: أهل الحجاز يسمون الركعةَ سجدةً فهما عند الجمهور عبارة
عن معنى واحد وكان هذا هو مراد البخاري إذ بَوَّبَ للركعة وذكر للسجدة، وقالت
عائشة رضي الله عنها في مسلمٍ: «والسَّجْدَةُ إِنَّمَا هي الركعةُ» وقال الشافعي
في أحد قولَيْه وأبو حنيفة السجدة هنا ليست بالركعة وإنما هي على بابها مِنْ
وَضْعِ الوجه بالأرض واحْتَجَّا بذلك على قولهما أنه يكون مدركًا بتكبيرة الإحرام.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: ووجه احتجاجهم أنه لما ذكر مرة ركعة ومرة سجدة سَبَرْنَا
أوصافهما فوجدناهما في الركنية والفرضية وأول الفرض تكبيرة الإحرام فقد رآه بذلك.
وقال ابن الجوزي: المراد بالسجدة الركعة بركوعها وسجودها وكذا ذكره الخطابي وغيره.
وروى مالك عن نافع عن مولاه: إذا فَاتَتْكَ الركعةُ فقد فَاتَتْكَ السجدةُ.
(1/75)
وعند
الطحاوي في «المشكل»: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ
الصَّلاَةَ وَفَضْلَهَا.
قال: وأكثر الرواة لا يذكرون: (وَفَضْلَهَا) قال: وهو الأظهر؛ لأن معنى قوله:
(فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ) أي أدرك فضلها ولو أدركها بإدراك ركعة منها لما وجب
عليه قضاء بقيتها، وقد جعل بعض العلماء هذا المقدار مدركًا لها في الجمعة، والمغمى
عليه يفيق والحائض تطهر والكافر يسلم فهم لا يدركون الوجوب.
وقال ابنُ بَزِيزَةَ: هذه الزيادة متفرد بها.
وقال ابن الأثير: إذا أدرك أحدكم أول السجدة فإنما يريد به السجدة الأولى، وقال
النووي: أجمع المسلمون أنَّ هذا ليس على ظاهره وأنه لا يكون بالركعة مُدْرِكًا لكل
صلاة، وتقديره: أدرك حكم الصلاة أو وجوبها أو فضلها، وقَالَ القُرْطُبِيُّ: هذا
ظاهره لا يصح لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا
وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»، وروى جابر: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلاَةِ
%ج 1 ص 43%
(1/76)
رَكْعَةً
فَقَدْ أَدْرَكَ فضلَ الجماعةِ، ومنْ أدركَ الإمامَ قبلَ أنْ يسلِّمَ فقدْ أدركَ
فضلَ الجماعةِ» ردَّه أبو أحمد بكثير بن شِنْظِير، وفي «الأحكام الكبرى» لأبي محمد
الإشبيلي حديث رجل من الأنصار سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «إذا
أَتَى أَحَدُكُم المسجدَ وقدْ صَلَّوا بَعْضًا وبقيَ بعضٌ، صلَّى ما أدركَ وأتمَّ»
قَالَ القُرْطُبِيُّ: والصحيح أنه أدرك فضل الجماعة، وقيل: أدرك حكم الصلاة، أي:
يلزمه من أحكامها ما لزم الإمام من الفساد، يؤيد هذا التأويل قوله: (َمَع الإمامِ)
وهذا اللفظ يُبْطِل على داود وغيرِه قولَهم إن هذا الحديث مردود إلى إدراك الوقت
الذي يدل عليه قوله: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ
الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ العَصْرَ» وهذا ليس بصحيح من قولهم، بل الحديثان مختلفان
يفيدان فائدتين كما قررناه، ثم إذا تنزلنا على التأويل الأول وهو إدراك فضل
الجماعة، فهل يكون مضاعفًا كما يكون لمن حضرها من أولها أو يكون غير مضاعف؟
اخْتُلِفَ فيه على قولين:
وإلى التضعيف ذهب أبو هريرة وغيره من السلف، وكذلك إن وجدهم قد سَلَّمُوا عند
هؤلاء كما جاء في ظاهر حديث أبي داود عن أبي هريرة: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ
وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللهُ منَ
الأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا».
وإلى عدم التضعيف ذهب طائفة أخرى، وإلى هذا يشير قول أبي هريرة: ومنْ فَاتَتْهُ
قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
واختلفوا هل يكون مُدْرِكًا للحكم أو للفضل أو للوقت بأقلَّ من ركعة؟.
(1/77)
فذهب
مالك وجمهور الأمة وأحد قولي الشافعي: إلى أنه لا يدرك شيئًا من ذلك بأقلَّ من
ركعة متمسكين بلفظ الركعة، وبما في «صحيح ابن حبان» عن أبي هريرة: «إِذَا جِئْتُمْ
إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوها وَلَا تَعُدُّوهَا, وَمَنْ
أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ» بما تقدم.
وعند الدَّارَقُطْني: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْإِمَامُ
صُلْبَهُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا».
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي في القول الآخر إلى أنه يكون مدركًا لحكم
الصلاة.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: واتفق هؤلاء على إدراكهم العصر بتكبيرة قبل الغروب، واختلفوا
في الظهر: فعند الشافعي في قول هو مدرك بالتكبيرة لها لاشتراكهما في الوقت، وعنده
أنه بتمام القيام للظهر تكون قاضيًا لها بعد، وحمل أصحاب مالك قوله: (منْ أدْرك
رَكْعَةً منَ الْعَصْرِ) على أصحاب الأعذار كالحائض والمغمى عليه وشبهها كما سبق
من كلام الطحاوي ثم هذه الركعة التي تدركون بها الوقت هي بقدر ما يكبر فيها للإحرام
ويقرأ أم القرآن قراءة معتدلة
%ج 1 ص 44%
ويركع ويرفع ويسجد سجدتين يفصل بينهما ويطمئن في كل ذلك على قول من أوجب
الطمأنينة، وعلى قول من لا يوجب قراءة أم القرآن في كل ركعة يكفيه تكبيرة والوقوف
لها، وأَشْهَبُ لا يراعي إدراك السجدةِ بعد الركعةِ، وسبب الخلاف هل المفهوم من
اسم الركعة للشرعية أو اللغوية؟ وأما التي يدرك بها فضيلة الجماعة وحكمها بأن يكبر
لإحرامها ثم يركعُ ويُمَكِّنُ يديه من ركبتيه قبل رفع الإمام رأسه وهذا مذهب
الجمهور.
(1/78)
ورُوِيَ
عن أبي هريرة أنه لا يُعْتَدَّ بالركعة ما لم يدرك الإمام قائمًا قبل أن يركع،
ورُوِيَ معناه عن أشهب، ورُويَ عن جماعة من السلف أنه متى أحرم والإمامُ راكعٌ
أجزأه وإن لم يدرك الركوع وركع بعد الإمام، وقيل: يجزئه وإن رفع الإمام ما لم يرفع
الناس، ونقله ابنُ بَزِيزَةَ عن الشعبي قال: وإذا انتهى إلى الصف الآخر ولم يرفعوا
رؤوسهم أو بقي منهم واحدٌ لم يرفع رأسه وقد رفع الإمام رأسه فإنه يركع وقد أدرك
الصلاة؛ لأن الصف الذي هو فيه إمامه.
وقال ابن أبي ليلى وزفر والثوري: إذا كبر قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك، وإن
رفع الإمام قبل أن يضع يديه على ركبتيه فإنه لا يَعْتَدُّ بها.
وقال ابن سيرين: إذا أدرك تكبيرةً يدخل بها في وقت الصلاة، وتكبيرةً للركوع فقد
أدرك تلك الركعة.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: وقيل يجزئه إن أحرم قبل سجود الإمام.
قال ابنُ بَزِيزَةَ: وقال أبو العالية: إذا جاءَ وهم سجودٌ سجد معهم، فإذا سلم
الإمام قام فركع ركعة ولا يسجد ويعتد بتلك الركعة.
وعن ابن عمر: أنه كان إذا جاء والقوم سجود سجد معهم، فإذا رفعوا رؤوسهم سجد أخرى
ولا يَعْتَدُّ بها.
وقال ابن مسعود: إذا ركع ثم مشى فدخل في الصف قبل أن يرفعوا رؤوسهم اعْتُدَّ بها،
وإن رفعوا رؤوسهم قبل أن يصل إلى الصف فلا يُعْتَدُّ بها.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وجمهور العلماء أن من أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس
أنه يتمها إلا أبا حنيفة فإنه قال تبطل بطلوع الشمس.
قال أبو السعادات ابن الأثير: وأما تخصيص هاتين الصلاتين بالذكر دون غيرهما فعنه
جوابان:
أحدهما: أن هذا الحكم ليس خاصًا بهما بل يعمُّ جميع الصلوات عند أكثر العلماء.
(1/79)
الثاني:
أن هاتين الصلاتين طرفا النهار، والمصلي إذا صلى بعض الصلاة وطلعت الشمس أو غربت
عرف خروج الوقت فلو لم يبين صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هذا الحكم وعرف المصلي أن
صلاته تجزيه لظن فوات الصلاة وبطلانها بخروج الوقت وليس كذلك آخر أوقات الصلاة؛
ولأنه نهى عن الصلاة عند
%ج 1 ص 45%
الغروب والشروق، فلو لم يُبَيِّن لهم صحة صلاة من أدرك ركعة من هاتين الصلاتين لظن
المصلي أن صلاته فسدت بدخول هاتين الوقتين فَعَرَّفَهُم ذلك ليزول هذا الوهم.
قوله: (مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ سَجْدَةً) وفي رواية أخرى: (مَنْ أَدْرَكَ
سَجْدَةً مِنَ الصُّبْحِ) فبينهما فرق:
وذلك أن من قدَّم السجدة؛ فلأنها هي السبب الذي به الإدراك، ومن قدَّم الصبح أو
العصر قبل الركعة فلأن هذين الاسمين هما اللذان يَدُلَّان على هاتين الصلاتين
دلالة خاصة يتناول لجميع أوصافها بخلاف السجدة فإنها تدل على بعض أوصاف الصلاتين،
فقدَّمَ اللفظَ الأعمَّ الجامعَ.
(1/80)
557
- حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنِ
ابنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا
سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا
انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ
أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ، ثُمَّ
عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِينَا القُرْآنَ،
فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ
أَهْلُ الكِتَابَيْنِ: أَيْ رَبّ، أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ
قِيرَاطَيْنِ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ
عَمَلًا؟ قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ
مِنْ شَيْءٍ؟ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».
وفي كتاب الإجارة: «كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عَمَلًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ إِلَى
نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، ثم عَمِلَتِ النَّصَارَى
عَلَى قِيرَاطَيْنِ، ثمَّ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ
إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ».
وفي لفظ: «مَنْ يَعْمَلُ مِنْ غَدْوَةٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟
فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَل لِي مِنْ نِصْفِ الَّنهَارِ
إِلَى صَلَاة العَصْرِ عَلَى قِيراَطٍ، فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ
يَعْمَلُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى
قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُم هُمْ».
(1/81)
وقال
في بابِ المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد، سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وهو قائم على المنبر، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إنما أدخل البخاريُّ هذا
الحديثَ والحديثَ الذي بعده في هذا الباب لقوله: (ثُمَّ أُوتِينَا القُرْآنَ،
فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ) لِيَدُلَّ على
أنه يستحق بعمل البعض أجرَ الكلِّ مثل الذي أعطي من العصر إلى الليل آخر النهار
فمثله كالذي أعطي على ركعة أدرك وقتها أجر الصلاة كلها في آخر الوقت.
وقال ابنُ الْمُنَيِّرِ: هذا الحديث مثال لمنازل الأمم عند الله تعالى، وأن هذه
الأمة أقصرها عمرًا وأقلها
%ج 1 ص 46%
عملًا، وأعظمها ثوابًا.
ويُسْتَنْبَطُ منه للبخاريِّ بتكلف من قوله: (فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ) فدلَّ أن وقت العمل ممتد إلى غروب الشمس وأنه لا يفوت، وأقرب الأعمال
المشهور بهذا الوقت صلاة العصر، وهو من قبيل الأخذ من الإشارة لا من صريح العبارة،
فإن الحديث مثالٌ وليس المراد عملًا خاصًا بهذا الوقت، بل المراد سائر أعمال الأمة
من سائر الصلوات وغيرها من سائر العبادات في سائر مدة بقاء الأمة إلى قيام الساعة.
وقول الْمُهَلَّبِ فيه بُعْدٌ فإنه لو قال إن هذه الأمة أُعْطِيَتْ ثلاثة قراريط
لكان أشبه ولكنها ما أعطيت إلا بعض أجرة جميع النهار، نعم عملت هذه الأمة قليلًا
فأخذت كثيرًا، ثم هو أيضًا مُنْفَكٌّ عن محل الاستدلال؛ لأن عمل هذه الأمة آخر
النهار كان أفضل من عمل المتقدمين قبلها، ولا خلاف أن صلاة العصر متقدمة أفضل من
صلاتها متأخرة ثم هذا من الخصائص المستثناة عن القياس فكيف يقاس عليه؟ ألا ترى أن
صيام آخر النهار لا يقوم مقام جملته وكذلك سائر العبادات فالأولى أولى. انتهى.
قد بينا أن صلاة العصر تأخيرها أفضل من تقديمها فقولها لا خلاف غير جيد، وأما
قياسه ذلك على الصوم فغير جيد؛ لأنَّ وقت الصوم لا يُتَحَرَّى بخلاف الصلاة.
(1/82)
قوله:
(إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ) في رواية اليزيدي: <إِنَّما أَجَلُكُمْ في أَجَلِ منْ
خَلَا منَ الأُمَمِ كَمَا بينَ صَلَاةِ العَصْرِ إلى مَغَارِبِ الشَّمْسِ>.
قال أبو الفرج: إن قبل مدة هذه الأمة قد قاربت الستمئة سنة فكيف يكون زمانها أقل؟
فالجواب: أن عملها أسهل وأعمار المكلفين أقصر والساعة إليهم أقرب، قال: وتعلق
بعضهم بمضمون هذا الحديث: وهو أن مدة المسلمين من حين ولد سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى قيام الساعة ألف سنة وذلك؛ لأنه جعل النهار نصفين الأول
لليهود فكانت مدتهم ألف سنة وستمئة سنة وزيادة في قول ابن عباس رواية أبي صالح
عنه، وفي قول ابن إسحاق: ألف سنة وتسع مئة وتسع عشرة سنة وللنصارى كذلك، فجاءت مدة
النصارى التي لا يختلف الناس أنه كان بين عيسى ونبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ستمئة سنة فبقي للمسلمين ألف سنة وزيادة انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ من حيث إن الخلاف في مدة الفترة، فذكر الحاكمُ في «الإكليل» أنها مئة
وخمس وعشرون سنة وذكر أنها أربعمئة سنة، وقد ذكر السُّهَيلي أن جعفر بن عبد الواحد
الهاشمي حدث بحديث مرفوع: «إنْ أَحْسَنَتْ أمتي فَبَقَاؤُها يومٌ منْ أيامِ
الآخرةِ، وذَلِكَ ألفُ سنةٍ، وإنْ أَسَاءَتْ فَنِصْفُ يومٍ» وفي حديث
%ج 1 ص 47%
(1/83)
زِمْلٍ
الخزاعيِّ قال: «رَأَيْتُكَ يَا رَسُولَ الله عَلَى مِنْبَرٍ لَهُ سبعُ دَرَجَاتٍ،
وَإِلَى جَنْبك نَاقَةٌ عَجْفَاءٌ كَأَنَّك تَبْعَثُها، ففسر لَهُ النَّبِي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ النَّاقةَ بِقِيَام السَّاعَة الَّتِي أنذرَ بهَا، ودرجاتِ
الْمِنْبَر بمدَّة الدُّنْيَا: سَبْعَة آلَاف سنة، بعث فِي آخرهَا ألفًا» قالَ
السُّهَيلي: والحديث وإن كان ضعيف الإسناد فقد رُويَ موقوفًا على ابن عباس من طرق
صحاح قال: «الدنيا سبعةُ أيامٍ، كلُّ يومٍ ألفُ سنةٍ» وصححَ الطبريُّ هذا الأصل
وعَضَّدَه بآثار وذكر قوله: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وإنما
سَبَقْتُهَا بما سَبَقَتْ هذه هذه» وأورده من طرق كثيرة صححها.
قوله: (كَمَا بينَ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ).
قال ابن العربيُّ: يحتمل أن يريد من أول وقتها، ويحتمل أن يريد به من آخر وقتها
وهو الظاهر؛ لأنه لو كان من أجل الوقت لكان زمان المسلمين في العمل أكثر من زمان
النصارى، وظاهر الحديث يقتضي أن عمل النصارى أكثر لقولهم نحن أكثر عملًا، وكثرة
العمل في الغالب يستدعي كثرة الزمان.
قال أبو سليمان: هذا مخالف لرواية أبي موسى الآتي ذكرها في هذا الباب وأيضًا فهو مخالف
لرواية من قال: (اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ ... الحديث) فقطع
الأجرة لكل فريق من اليهود والنصارى قيراطًا قيراطًا واستوفى العمل وأبقى الأجرة.
وفيه قطع الخصومة وزوال العتب عنهم، وإبراؤهم من الذنب، واكتفى الراوي منه بذكر ما
آل الأمر إليه من الآخرة ومبلغها دون غيرها من ذكر عجزهم عن العمل.
وقولهم: (لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ) إشارة إلى تحريفهم الكتب وانقطاعهم عن
بلوغ الغاية فحرموا تمام الآخرة لامتناعهم عن تمام العمل الذي ضمنوه، فكان الصحيح
رواية سالم وأبي بردة.
(1/84)
وقَالَ
الدَّاودِيُّ: قوله: (عَجَزُوا) قاله أيضًا في النصارى، وحكى بعضهم في حديث أبي
موسى: (لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ) حكاه عن اليهود ذلك ما عملنا قال: فإن
كان وصف من مات مسلمًا من قوم موسى فلا يقال عَجَزُوا، وكذلك من مات مسلمًا من قوم
عيسى صلى الله عليهما وسلم وإن كان قاله ممن آمن ثم كفر يُعْطَى القيراط من حبط
عمله فكفر.
قوله: (ثُمَّ أُوتِينَا القُرْآنَ، فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ،
فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ) فيه تفضيل هذه الأمة وتوفير أجرها مع قلة
عملها، وإنما فضلت لقوة يقينها ومراعاة أصل دينها، فإنْ زلَّتْ فأكثر زللها في
الفروع بخلاف من كان قبلهم كقولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} [الأعراف: 138]
وكامتناعهم من أخذ الكتاب حتى نَتَقَ الجبل فوقهم و {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
فَقَاتِلَا} [المائدة: 24] واستنبط الحنفيون أبو زيد
%ج 1 ص 48%
الدبوسي في كتاب «الأسرار» وغيره من هذا أن وقت العصر إذا صار ظل كل شيء
مِثْلَيْه؛ لأنه إذا كان كذلك كان قريبًا من أول العاشرة فيكون إلى الغروب ثلاث
ساعات غير شيء يسير، ويكون النصارى عملوا أيضًا ثلاث ساعات وشيئًا يسيرًا وهو من
أول الزوال إلى أول الساعة العاشرة وهو إذا صار ظل كل شيء مثله، واعْتُرِضَ على
هذا بأمور منها:
أن النصارى لم تقله إنما قاله الفريقان اليهود والنصارى ووقتهم أكثر من وقتنا
فيستقيم قولهم أكثر عملًا. وأجيب: عن هذا الاعتراض بأن اليهود والنصارى لا يتفقان
على قول واحد، بل قالت النصارى كنا أكثر عملا وأقل عطاء وكذا اليهود باعتبار كثرة
العمل.
وقوله: كقوله تعالى حاكيًا عنهم: {وَقَالَتِ اَليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ
أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وإنما قال ذلك اليهود وحدها
والنصارى وحدها؛ لأن اليهود لا يقولون إن النصارى أبناء الله وأحباؤه وكذا النصارى.
(1/85)
وزعم
أبو الْمَعَالي الجُوَيْنِي بأن الأحكام لا تتعلق بالأحاديث التي تأتي لضرب
الأمثال فإنه موضع تَجَوُّزٍ، قال أبو بكر بن العربي: هو وإن كان موضع تَجَوُّزٍ
وتَوَسُّعٍ كما قال سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يقول إلا حقًا
بمثل أو توسع.
قال: وقوله: (منْ صَلَاةِ العَصْرِ) يحتمل أول الوقت وآخره فلا يقضي بأحد
الاحتمالين على الآخر.
وقوله: (فَغَضِبَتِ اليَهُوْدُ والنَّصَارَى) يعني: الكفار؛ لأن المسلمين لا تغضب
من حكم الله عز وجل.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ولعل قولهم نحن أكثر عملًا وأقل عطاء، أي أنَّا لا نرضى
بهذا ثم تَرَكُوا ذلك، وقالوا: (لكَ مَا عَمِلْنَا بَاطِلًا) كما في حديث أبي
موسى، واتفق الحديثان.
558 - حَدَّثَنا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدةَ، عَنْ
أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ المُسْلِمِينَ وَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى،
كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا إِلَى اللَّيْلِ،
فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ فَقَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ،
فَاسْتَأْجَرَ أَجِيْرَيْنِ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُمُ
الَّذِي شَرَطْتُ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلاَةِ العَصْرِ،
قَالُوا: لَكَ مَا عَمِلْنَا، فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا، فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ
يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الفَرِيقَيْنِ
كِلَيهمَا». [خ 558]
(1/86)
وفي
«مستخرج أبي نعيم الإسماعيلي»: «اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ عَمَلًا إِلَى
اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ، فَلَمَّا قَالُوا: لاَ حَاجَةَ لَنَا إِلَى
أُجْرَتِكَ، قالَ لَهُمْ: لاَ تَفْعَلُوا واعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُم وَخُذُوا
أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا ذلك وقالَ لِلْآخَرَيْنِ كَمَا قالَ
لهؤلاءِ» وفيه: «وَاسْتَكْمَلُوا -يعني الآخرين- أَجْرَ الفَرِيقَيْنِ والأَجْرَ
كلَّه ذَلِكَ مَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَرَكُوا مَا أَمَرَهُمُ اللهُ،
وَمَثَلُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ قَبِلُوا هَدْيَ اللهِ، وَمَا جَاءَه
رَسُولُه».
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: إنما قالت النَّصَارى نحن أكثرهم عملًا؛ لأنهم آمنوا
بموسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم. انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إن النصارى لم يؤمنوا بموسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 49%
على ذلك جماعة الإخبَارِيِّين.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: حديث ابن عمر يُحْمَلُ على من كان مسلمًا، وحديث أبي موسى
يُحْمَلُ على من بدَّلَ دينه بعد نبيه، وقَالَ الدَّاودِيُّ: إن كان إنما وَصَفَ
من مات على دين الإسلام من قَبْلِ موسى قبلَ أن يكفروا بموسى فلا يقال إنهم عجزوا،
ولذلك من مات على دين الإسلام على دين عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قبلَ أن
يكفروا فلا يقال عجزوا، وإن كان قال ذلك فيمن آمن ثم كفر فكيف يعطي القيراط من حبط
عمله بكفره؟
(1/87)
وفي
رواية أبي موسى أن الفريقين كانوا على إيمان ثم كفرَ منهم منْ كفرَ فَضَرَبَ بهم
هذا المثل، وإنما أعطى النصارى من صلاة الظهر إلى الليل مثل ما أعطي اليهود من
طلوع الشمس إلى غروبها؛ لأنهم آمنوا بموسى وعيسى فمن آمن منهم ومات على إيمانه من
الفريقين أُعْطِيَ قيراطًا قيراطًا، ومن كفر بعد نبيه ولم يؤمن وهم الذين قالوا:
(لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ) والذين قالوا: (لكَ مَا عَمِلْنَا) وعلى هذا
تتفق رواية ابن عمر وأبي موسى ويكون كل واحد قد سكت في حديثه عن بعض القصة؛ لأن من
مات على إيمانه من قوم موسى أو عيسى لا يقال عَجَزَ، ومن كفر بعد إيمانه فهو
العاجز ولا أجر له، قال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
[الزمر: 65].
وقَالَ الْمُهَلَّبُ: هذا مثلٌ ضُرِبَ للناس الذين شرع لهم دين موسى صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ ليعملوا الدهر كله بما يأمرهم وينهاهم إلى أن بعث الله تعالى عيسى
عليه السلام فأمرهم باتِّبَاعه فَأَبَوا وتبرؤوا مما جاء به، وعمل آخرون بما جاء
به عيسى على أن يعملوا باقي الدهر بما يُؤْمَرُونَ به فعملوا حتى بُعِثَ سيدنا
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فدعاهم إلى العمل بما جاء به فَأَبَوْا
وعَصَوْا، فجاء الله بالمسلمين فعملوا بما جاء به ويعملون به إلى يوم القيامة فلهم
أجر من عمل الدهر كله بعبادة الله كإتمام النهار الذي اسْتُؤْجِرَ عليه كله أول
طبقة.
(1/88)
وفي
حديث ابن عمر قدَّرَ لهم مدة أعمال اليهود لهم أجرهم إلى أن نسخ الله تعالى
شريعتهم بعيسى، وقال عند مَبْعَثِ عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: من يعمل إلى
مدة هذا الشرع وله أجر قيراط؟ فعملت النصارى إلى أن نسخ الله ذلك بمحمد صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثم قال متفضلًا على المسلمين: من يعمل بقية النهار إلى الليل
وله قيراطان؟ فقال المسلمون: نحن نعمل إلى انقطاع الدهر، فمن عمل من اليهود إلى أن
آمن بعيسى وعمل بشريعته له أجره مرتين، وكذلك النصارى إذا آمنوا بمحمد صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كما جاء في الحديث ورجل آمن بنبيه وآمن بي يعني: يؤتى أجره
مرتين، ويحتمل قولهم نحن أكثر عملًا قولَ اليهود؛ لأنهم عملوا ست ساعات ويكون
%ج 1 ص 50%
قولُ النصارى نحن أقلُّ عطاء، وإن كانوا متقاربين مع المسلمين في العمل فيكون
الحديث على العموم في اليهود وعلى الخصوص في النصارى، وقد يأتي في الكلام أخبار عن
جملة، والمراد بعضها كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح لا من العذب وقوله تعالى:
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 60] والناسي
كان يوشع بدليل قوله: {إِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} وقيل يحتمل أن كل طائفة منهما
أكثر عملًا وأقل عطاء؛ لأن النصارى عملت إلى صلاة العصر إلى وقت العصر فَيُحْمَلُ
على أنها عملت آخر وقت العصر ذكره ابن القصَّار وثَمَّ وجهٌ آخر وذلك أن نصف
النهار وقت زوال الشمس في آخر الساعة السادسة والعصر في أول العاشرة بعد مُضِي شيء
يسير منها فزادت المدة التي بين الظهر والعصر على المدة التي بين العصر إلى الليل
مقدار ما بين آخر الساعة التاسعة وأول العاشرة وإن كان ذلك القدر لا يَتَبَيَّنُهُ
كثير من الناس فهي زيادة في العمل.
(1/89)
واستدلَّ
بعض الحنفية على أن آخر وقت الظهر ممتدٌّ إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، قالوا:
وذلك أنه جعل لنا من الزمان من الدنيا في مقابلة من كان قبلنا من الأمم بقدر ما
بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وهو يدل أن بينهما أقل من ربع النهار؛ لأنه لم يبق
من الدنيا ربع الزمان لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا
وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوسْطَى، فشبه ما بقي من
الدنيا إلى قيام الساعة مع ما انقضى بقدر ما بين السبابة والوسطى من التفاوت.
قالَ السُّهَيلي: وما بينهما نصف سُبُع؛ لأن الوسطى ثلاثة أسباع كل مفصل منها
سُبُعٌ وزيادتها على السبابة نصف سبع، والدنيا على ما قدمناه عن ابن عباس سبعة
آلاف سنة، فكل سُبُعٍ ألفا سنة وفُضِّلَتِ الوسطى على السبابة بنصف الأنملة وهو
ألف سنة فيما ذكره أبو جعفر الطبري وغيره.
وزعم السُّهَيلي أن بحساب الحروف المقطعة أوائل السور تكون تسعمئة سنة وثلاث سنين،
وهل هي من مبعثه أو هجرته أو وفاته فالله أعلم؟.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: والجواب عن قول الحنفية بأن هذا الحديث قُصِدَ به ذكر
الأعمال لا بيان الأوقات، وحديث الأوقات قُصِدَ به الأوقات، وما قُصِدَ به بيان
الحكم مقدم على غيره، وأيضًا فإن هذه الأمة تلي قيام الساعة كما أن صلاة العصر تلي
المغرب وكما تلي السبابة الوسطى، ولم يرد بيان ما بقي من الدنيا؛ لأن الله تعالى
قد استأثر بعلم ذلك، وقد قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا الْمَسْؤُولُ
عَنْهَا بِأَعْلَمَ بِهَا مِنَ السَّائِلِ».
وقوله: (واسْتَكْمَلُوا أجرَ الفَرِيْقَيْنِ كِلَاهُمَا) صوابه كليهما
%ج 1 ص 51%
لأنه تأكيد للمجرور، والله تعالى أعلم.
(1/90)
وفي
«الْمُحْكَمِ» لابن سِيْدَه: والقَرَّاطُ والقيراط من الوزن معروف، وفي «أمالي»
أبي علي الهَجَري: وتقول: قُوَيْرِطٌ تصغير قيراط - الواو بعد القاف -، وفي
«الجامع» للقزَّاز: قرط فلان على العطاء إذا أعطاه قليلًا، ومنه اشتقاق القيراط
الذي يتصرف به، وأصله قَرَّاط فأبدلوا من إحدى الراءين ياءً، يدلُّ على ذلك قولهم
في الجمع: قراريط، وَفِي «الصِّحَاحِ»: والقيراط نصف دينار.
(بَابُ وَقْتِ المَغْرِبِ)
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَجْمَعُ المَرِيضُ بَيْنَ المَغْرِبِ وَالعِشَاءِ.
559 – حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ، حَدَّثَنا الوَلِيدُ، حَدَّثَنا
الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنا أَبُو النَّجَاشِيِّ مَوْلَى رَافِعِ: سَمِعَ رَافِعَ
بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: «كُنَّا نُصَلِّي المَغْرِبَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فَيَنْصَرِفُ وإنَّ أَحَدَنَا لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ» [خ
559]
وعند أبي داود صحيحًا من حديث أنس: «كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثُمَّ نَرْمِي
فَيَرَى أَحَدُنَا مَوْضِعَ نَبْلِهِ».
وعن كعب بن مالك: «كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي
الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى أَهَلِيهِمْ بِبَنِي سَلِمَةَ وَهُمْ
يُبْصِرُونَ مَوَاقِعَ النَّبْلِ حِينَ يُرْمَى بِهَا».قال أبو حاتم: الصحيح مرسل.
وعن أبي طَرِيفٍ كنتُ معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حينَ حاصرَ
الطَّائِفَ، فكانَ يُصّلِّي بِنَا صلاةَ البصرِ حَتَّى لو أنَّ رجلًا رَمَى بِسَهْمٍ
لَرَأَى مَوْضِعَ نَبْلِهِ». قال أحمد بن حنبل: صلاة البصر المغرب.
وعنده أيضًا حديث جابر بلفظ: «ثمَّ نَأْتِي بني سَلِمَةَ ونحنُ نُبْصِرُ مَوَاقِعَ
النَّبْلِ».
وعند الشافعيِّ من حديثه عن إبراهيم: «ثُمَّ نَخْرُجُ نَتَنَاضَلُ حَتَّى نَدْخُلَ
بُيُوتَ بَنِي سَلِمَةَ نَنْظُرُ إِلَى مَوَاقِعِ النَّبْلِ مِنَ الْإِسْفَارِ».
(1/91)
وعند
الدَّارَقُطْني: «لَمْ يَكُنْ يُؤَخِّرُ المغربَ لطعامٍ ولَا غيره» وقال ابن شاهين
هذا حديث غريب.
وعند النَّسَائيِّ بسند صحيح عن رجل من أَسْلَمَ: «أَنَّهُمْ كانوا يُصَلُّونَ معَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المغربَ ثُمَّ يرجعونَ إِلَى أَهْلِيْهِمْ
إِلَى أَقْصَى المدينةِ يَرْمُونَ فَيُبْصِرُونَ مَوَاقِعَ نَبْلِهِمْ».
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: «كُنَّا نُصَلِّي معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ المغربَ ثُمَّ نَنْصَرِفُ حَتَّى نَأْتِيَ السُّوقَ وَإِنَّا لَنَرَى
مَوَاضِعَ النَّبْلِ» رواه الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» من حديث صالح بن نبهان،
وعن أم حبيبة بنت أبي سفيان بنحوه ذكر أبو علي الطُّوسي في «الأحكام»، وعند ابنِ
خُزَيْمَةَ وصحيح الحاكم من حديث العباس بن عبد المطلب: «لَاتَزَالُ أُمَّتِي
عَلَى الْفِطْرَةِ مَالَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ».
وعند ابن خزيمة أيضًا عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا
أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ بنِ محمد عَلَى مِصْرَ
فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ
الصَّلَاةُ يَا عُقْبَةُ؟ أمَا سَمِعْتَ رَسُوْلَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ:
%ج 1 ص 52%
يقول: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ أَوْ عَلَى الْفِطْرَةِ مَالَمْ يُؤَخِّرُوا
الْمَغْرِبَ إِلَى أنْ يَشْتَبِكَ النُّجوم».
وفي لفظ عن أبي أيوب: «بَادِرُوا بصلاةِ المغربِ طُلُوعَ النُّجُومِ» قال أبو
زُرْعةَ: وهو أصح.
(1/92)
وعند
الدَّارَقُطْني من حديث السائب بن يزيد: «لَاتَزَالُ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ
مَا صَلَّوا المغربَ قبلَ طلوعِ النُّجُومِ» وهذه الأحاديث تدل على استحباب تعجيل
المغرب ولا خلاف بين العلماء في ذلك إلا ما حُكِيَ عن بعض الشيعة أنها تؤخر حتى
تشتبك النجوم، قال الشعبيُّ: وهي نزعةٌ يهوديةٌ فلا يُلْتَفَتُ إليها، ولا أصل لها
إلا ما لعلَّه يكونُ مأخوذًا من حديث معاذ الْمُخَرَّج عند ابن حبان: أنَّهُ كانَ
يُصَلِّي معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاةَ المغربِ ثُمَّ يرجعُ
إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بهم تلكَ الصلاةِ.
ومن حديث أبي بَصْرَةَ من عِنْدَ مُسْلِمٍ وذكرَ العصرَ قال: «وَلَا صَلَاةَ
بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ» وَالشَّاهِدُ: النَّجْمُ.
وهما يدلان على الجواز لا على الفضيلة بلا خلاف، وأما ما في «مراسيل أبي داود» عن
عبد العزيز رُفَيْعٍ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «عَجِّلُوا
بِصَلَاةِ النَّهارِ فِي يَوْمِ غَيْمٍ وَأَخِّرُوا الْمَغْرِبَ» فمراده والله
تعالى أعلم استبانة غيبوبة الشمس حتى يتمكن الوقت لانبهامه، ولهذا قال البغوي فيما
رويناه عنه في «شرح السنة»: أصح الأقوال أن لها وقتين وآخر وقتها إلى غيبوبة
الشفق، ومذهب أبي حنيفة أن وقتها ممتد إلى أن يغيب الشفق. وفي «قنية المنية» يكره
تأخير المغرب عند محمد في روايته عن أبي حنيفة ولا يكره في رواية الحسن عنه ما لم
يغب الشفق، والأصح أنه يكره إلا من عذر كالسفر ونحوه، وفي التأخير بتطويل القراءة
خلاف احتجاجًا بحديث عبد الله بن عمر: «والمغربُ مَالَمْ يَسْقُطْ نُورُ
الشَّفَقِ» وفي رواية: «نور»، وبحديث أبي هريرة: «وأولُ وقتِ المغربِ حَتَّى تغيبَ
الشمسُ، وآخِرُها حينَ يغيبُ الشفقُ».
(1/93)
وبحديث
الأعرابي السائل عن وقت الصلاة وأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلى المغرب في
اليوم الثاني حين كاد الشفق يغيب. قَالَ الدَّارَقُطْني: اعْتُبِرَتُ الأحاديث في
المواقيت فمن ذكر للمغرب الوقت الواحد فبإمامة جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
وأبو موسى وبريدة وغيرهما يَحْكُوْنَ الوقتين فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
وقوله فصار متأخرًا فيجب الأخذ به، وقال ابن المنذر في كتاب «الإقناع»: آخر وقت
المغرب أن يغيب الشفق لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا يفوت صلاة حتى يجيء
وقت الأخرى» وقال في «الإشراف»: اختلفوا في وقت المغرب فقال مالك والأوزاعي
والشافعي يقولون لا وقت لها إلا وقتًا واجبًا إذا غابت الشمس قال وفيه قول ثانٍ
وهو أن وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق هذا قول أبي حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق
%ج 1 ص 53%
وقد روينا عن طاوس أنه قال: لا تفوت المغرب والعشاء حتى الفجر، وروينا عن عطاء أنه
قال: لا تفوت المغرب والعشاء حتى النهار، وفي «مصنف عبد الرزاق» عن ابن جريج
أخبرني عبد الرحمن ابن سابط أنَّ أبا أمامة سأل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
متى غروب الشمس قال: «منْ أولِ مَا تَصْفَرُّ إلى أنْ تَغْرُبَ».
(1/94)
560
– حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: قَدِمَ الحَجَّاجُ فَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللهِ، فَقَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي
الظُّهْرَ بِالهَاجِرَةِ، وَالعَصْرَ وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، وَالمَغْرِبَ إِذَا
وَجَبَتْ، وَالعِشَاءَ أَحْيَانًا وَأَحْيَانًا، إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا
عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَؤُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحَ كَانُوا أَوْ كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ. [خ 560]
وفي رواية معاذ بن معاذ عن شُعبة: كانَ الحجَّاجُ يُؤَخِّرُ الصلوات فسألنا
جابرًا.
وفي رواية أحمد بن حنبل عن غُنْدَرٍ: قدمَ الحجاجُ المدينةَ فسألنَا جابرًا.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ظاهره أن الصبح كان يصليها بِغَلَسٍ اجتمعوا أو لم يجتمعوا
ولا يفعلُ فيها كما يفعل بالعشاء وهذا من فصيح الكلام وفيه حذفان: حُذِفَ خبر كان
وهو جائز كحذف خبر المبتدأ كقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4]
والمعنى: واللائي لم يحضن فعدتهن مثل ذلك ثلاثة أشهر، والحذف الثاني حذْفُ الجملة
التي هي الخبر لدلالة ما تقدم عليه، وحذف الجملة التي بعد (أو) مع كونها منتصبة
لها.
قال السَّفَاقُسيُّ: تقديره أو لم يكونوا مجتمعين، ويصح أن يكون كان هنا تامةً
غيرَ ناقصة، فتكونَ بمعنى الحضور والوقوع، ويكون المحذوف ما بعد (أو) خاصة.
561 – حَدَّثَنا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنا يَزِيدُ، عَنْ سَلَمَةَ
«كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المَغْرِبَ إِذَا
تَوَارَتْ بِالحِجَابِ». [خ 561]
وعند الطُّوسي: «ساعةَ تغربُ الشمسُ إذا غابَ حَاجِبُهَا». حديث ابن عباس في قصر
الصلاة.
(1/95)
النَّبْلُ:
السهام، قال ابن سِيْده: لا واحد له من لفظه، وقيل: واحدتها نَبْلة، وهي النبال
والأنبال، وفي «الكتاب الواعي» لأبي محمد عن أبي زيد: واحده نَبْلَةٌ، وفي
«المغيث» لأبي موسى: هو سهم عربي لطيف غير طويل لا كسهام النشاب، والحُسْيَان أصغر
من النبل يُرْمَى بها على القسي الكبار في مجاري الخشب.
(بَابُ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَغْرِبِ العِشَاءُ)
563 - حَدَّثَنا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنِ الحُسَيْنِ،
حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ المُزَنِيُّ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ
الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ المَغْرِبِ» قَالَ: وَتَقُولُ الأَعْرَابُ:
هِيَ العِشَاءُ، وعند الإسماعيلي عن حسين المعلم عن ابن بُرَيْدَةَ عن عبد الله
%ج 1 ص 54%
ابن الْمُغَفَّلِ: «لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ
المَغْرِبِ، فإنَّ الأعرابَ تُسَمِّيها عَتَمَةً». [خ 563]
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: وحديث أبي مسعود عند عبد الصمد يدل على أنه في صلاة
العشاء الآخرة، وكذا روى ابن عمر في العشاء الآخرة التحذير من أن تغلبهم الأعراب
على اسم صلاتهم، يعني حديث مسلم: «لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ
صَلَاتِكُمْ، أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ، وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ».وفي
رواية: «عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْعِشَاءِ، وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلَابِ
الْإِبِلِ».
وفي النسائي: «عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ هَذِهِ؛ فَإِنَّهُمْ يُعْتِمُونَ عَلَى
الْإِبِلِ».
وفي رواية: «سمعتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على المنبر يقول».
(1/96)
قَالَ
الإِسْمَاعِيْلِيُّ: فأما هارون بن عبد الله فَسَمَّى المغرب في حديثه عند عبد
الصمد، وتابع عبد الصمد أبو مَعْمَرٍ، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إنما كره ذلك؛ لأن
التسمية من الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال تعالى: {وَعَلَّمَ
آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهذا يدلُّ أنه
لا يجب أن يُقال للمغرب العشاء الأول كما تقول العامَّةُ، وينبغي أن تُفْرَدَ كلُّ
صلاةٍ باسمها ليكون بعد من الإشكال إلا العَتَمَةَ فإنه قد صحَّ في الآثار الثابتة
لها اسمان.
قوله: (لا يَغْلِبَنَّكُمْ) قال الأزهريُّ: معناه لا يَغُرَّنَّكم فِعْلُهم هذا عن
صلاتكم فَتُؤخِّرُوها، ولكن صَلُّوها إذا كان وقتها، والعشاء أول ظلام الليل وذلك
من حين يكون غيبوبة الشفق.
فلو قيل في المغرب عشاء لأدى إلى اللَّبْس بالعشاء الآخرة، والكراهة في ذلك أَلَّا
يَتَّبِع الأعراب في هذه التسمية، وقيل: إن الأعراب يسمونها العتمة؛ لكونهم يؤخرون
الحَلْبَ إلى شدة الظلام، قَالَ القُرْطُبِيُّ: لئلا يعدل بها عما سماها الله
تعالى، فهو إرشاد إلى ما هو الأولى، لا على التحريم، ولا على أنه يجوز، ألا تراه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قد قال: «ولو يَعْلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ
والصُّبْحِ» وقد أباح تسميتها بذلك أبو بكر وابن عباس فيما ذكره ابن أبي شيبة،
وقال أبو محمد المنذري: يحتمل أن يكون أحد الحديثين ناسخًا للآخر، فإنَّ التاريخ
في تقديم أحدهما على الآخر مُتَعَذِّر.
وقال النووي: يحتمل أنه خاطب بالعتمة من لا يعرف لها اسمًا غيره، فلو قال: لو
يعلمون ما في العشاء والصبح لحملوها على المغرب ففسد المعنى وفات المطلوب، واستعمل
العتمة التي لا يشكون فيها، وظواهر الشرع متظافرة على احتمال أخفِّ المفسدين لدفع
أعظمها.
(بَابُ ذِكْرِ العِشَاءِ وَالعَتَمَةِ، وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا)
(1/97)
قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَثْقَلُ
الصَّلاَةِ عَلَى المُنَافِقِينَ العِشَاءُ وَالفَجْرُ».
وَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ وَالفَجْرِ».
اللفظ الأول أسنده البخاري في فضل العشاء في جماعة، والثاني في باب الأذان
والشهادات، قال أبو عبد الله: والاختيار أن يقول العشاء لقول الله تعالى {وَمِنْ
بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] وَيُذْكَرُ
%ج 1 ص 55%
عَنْ أَبِي مُوسَى: «كُنَّا نَتَنَاوَبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عِنْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ فَأَعْتَمَ بِهَا».
هكذا التعليق ذكره البخاري مسندًا في باب فضل العشاء، وخرَّجه مسلم أيضًا، وهو
يردُّ قول من يقول إن التعليق الممرض نازل عند البخاري عن رؤيته المجزوم فيه.
وقال ابن عباس وعائشة: «أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بِالعِشَاءِ».
تعليق ابن عباس هذا ذكره البخاري مُسْنَدًا في باب النوم قبل العشاء، والتعليق عن
عائشة خرجه في باب فضل العشاء، وقال بعضهم عن عائشة: «أَعْتَمَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالعَتَمَةِ» هذا ذكره النسائي من حديث شعيب عن الزهري عن
عروة عنها.
وقال جابر: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي العِشَاءَ»
هذا يأتي في الباب بعد هذا، وقد تقدَّمَ قبله أيضًا، وقال أبو بَرْزَةَ: «كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُؤَخِّرُ العِشَاءَ» تقدم هذا مُسْنَدًا
في وقت العصر وقال أنس: «أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الْعِشَاء الْآخِرَةِ» هذا يأتي مُسْنَدًا في باب وقت العشاء إلى نصف الليل، وقال
ابن عمر وأبو أيوب وابن عباس: «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ» هذا مسندٌ في كتاب أبي داود وابن ماجه.
(1/98)
564
- حَدَّثَنا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنا يُونُسُ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، قَالَ سَالِمٌ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ قَالَ: صَلَّى لَنَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَيْلَةً صَلاَةَ العِشَاءِ، وَهِيَ
الَّتِي تَدْعُو النَّاسُ العَتَمَةَ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا،
فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِئَةِ سَنَةٍ
مِنْهَا، لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ». [خ 564]
وفي باب السمر بالعلم: «صلَّى لَنَا العِشَاءَ في آخِرِ صَلَاتِهِ فَلَمَّا
سَلَّمَ قامَ فقالَ» الحديثَ. وقال: في باب السمر في الفقه بعد العشاء: فَوَهِلَ
النَّاسُ فِي مَقَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى مَا
يَتَحَدَّثُونَ بهِ في هَذِهِ الأَحَادِيثِ، عَنْ مِئَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ
الأَرْضِ» يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَخْرِمُ، تَعَلَّقَ بعض الناس بهذا الحديث
على عدم حياة الخضر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقد اخْتُلِفَ فيه وفي اسمه فقال ابن عباس: هو ابن آدم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ لصلبه، وفي رواية الكلبي من أبي صالح عنه هو من سبط هارون صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ وكذا قاله ابن إسحاق وسماه أَرْمِيَا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: وهذا
ليس بصحيح؛ لأن أرْمِيَا كان زمن بَخْتَنَصَّر قال أبو جعفر: وقيل هو الولد الرابع
من أولاد آدم، وقال كعب: اسمه الخضر بن عامل، وقال ابن وهب: اسمه أيليا بن
مَلْكَانَ بْنِ فَالِعْ بْنِ غَابِرَ بْنِ شَالِخَ بن أَرْفشخد بْنِ سَامِ، وقال
ابن لهيعة: هو ابن فرعون موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقال عبد الله بن شوذب:
كان من ولد فارس, قال أبو جعفر: وقيل كان في أيام أفريدون [30/ أ].
%ج 1 ص 56%
(1/99)
وقيل:
كان على مقدمة ذي القرنين، واسمه أفريدون أيام إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وقيل: كان ابن خالية ووزيره، وقال مقاتل: اسمه اليسع, وقال يحيى بن سلام:
هو إلياس، وزعم ابن عباس ووهب أنه كان نبيًا مرسلًا وممن قال بنبوته أيضًا: مقاتل
وإسماعيل بن أبي زياد الشامي، وفي «الزاهر» لابن الأنباري أنه كان عبدًا صالحًا،
وقال أبو علي بن أبي موسى الحنبلي: كانَ وليًا.
قال أبو الفرج: والصحيح أنه نبيٌّ، قال أبو إسحاق الحربي: وسئل عنه هو متقادم
الموت وكذا قاله: أبو الحسين بن المنادي وابن ناصر السلامي وعلي بن موسى الرضى
والبخاري، ولما سُئِلَ عنه أحمد قال: من أحالك على غائب لم تنتصف منه أو كلامًا
هذا معناه.
واحتجَّ بعضهم بأنه لو كان حيًا لما وسعه إلا مجيئه إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كما قال في موسى، واستدلَّ أبو الفرج على عدم بقائه بقوله تعالى: {وَمَا
جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] قال: فلو دام البقاء
للخضر إلى يوم القيامة كان خُلْدًا، فإن قيل: فَهَامة بن الهيم وزرنب بن برثملا
معمران، قلنا: الحديث عن وجودهما محال، فإن قيل: فهاروت وماروت وإبليس باقون إلى
يوم القيامة، قلنا: ليسوا ببشر، ولو كانوا بشرًا ثم نص القرآن على تخليدهم لم ينكر
ذلك قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102] وهذا
للمستقبل، وهذا إبليس ثابت بقوله: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى
يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر: 37 - 38] انتهى كلامه.
وفيه نظر في مواضع:
الأول: تعمير الخضر ألف سنة أو ثلاثة آلاف سنة لا يسمى خُلْدًا.
الثاني: تعمير الهامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس ثابت بسند صحيح التزم صحته
الحاكم.
الثالث: المستقبل الذي قاله في قصة هاروت وماروت يصدق بقصتين أو ثلاث فلا دلالة
على الخلد.
(1/100)
الرابع:
كان ينبغي له أن يذكر الناس مع الذين قبله لينتظم قوله والله أعلم وآخرون في ذلك
آخرون قالَ السُّهَيلي: عن ابن عمر بن عبد البر قد تواترت الأخبار باجتماع الخضر
بسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهذا يردُّ قول من قال لو كان حيًا
لاجتمع بنبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كما قال في موسى، وهذا القول مردود
أيضًا لضعف هذا الحديث الثاني: عدم إتيانه إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ليس مؤثرًا في الحياة ولا غيرها لأنَّا عهدنا جماعة آمنوا به ولم يرَوه مع
الإمكان.
وفي «المستدرك» لأبي عبد الله من حديث عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ
أَنَسِ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَحْدَقَ بِهِ
أَصْحَابُهُ فَبَكَوْا حَوْلَهُ، وَاجْتَمَعُوا فَدَخَلَ رَجُلٌ أَشهَبُ
اللِّحْيَةِ، جَسِيمٌ صُبَيْحٌ، فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ فَبَكَى، ثُمَّ الْتَفَتَ
%ج 1 ص 57%
إِلَى الصَّحَابِةِ، فَقَالَ: «إِنَّ فِي اللهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ»
الحديث، فلما انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الصَّحابةِ لِبَعْضٍ: أَتَعْرِفُونَ هذا
الرَّجُلَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رضي الله عنهما: هذا الخضرُ أَخُو
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقالَ السُّهَيلي: روى أبو عُمَرَ من طرقٍ صحاح أن أهل بيته سمعوا وهو مسجًّى
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بينهم قائلًا يقول: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحَمَةُ
اللهِ وَبَرَكَاتُهُ إِنَّ فِي اللهِ عِوَضًا مِنْ كُلِّ تَالِفٍ, وَخَلَفًا مِنْ
كُلِّ هَالِكٍ, وَعَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، فَاصْبِرُوْا وَاحْتَسِبُوْا
إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِيْنَ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيْلُ.
قال: فكانوا يرون الخضر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. انتهى.
(1/101)
هذا
ليس معارضًا للأول؛ لأن هذا يحمل على تعزيته فاطمة وأزواجه رضي الله عنهن لأنه لا
يجوز له الدخول عليهن فَعَزَّاهُنَّ من خارج الباب، والأول على تعزيته الرجال إذ
يجوز له مخاطبتهم، وأما قول ابن أبي دحية: هذا سنة متطوع لا يلتفت إليه ولا على
الاعتماد عليه وكلام يحتاج إلى زيادة تأمل؛ لأنه لم يبد عليه في الحديث ونفي الصحة
وذلك إشهار المثبت يقدم، وقد رُوِيَ من طريق محمد بن منصور الجزَّار، حَدَّثَنا
محمد بن جعفر بن محمد وعبد الله بن ميمون القداح جميعًا عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن علي بن حسين سمعت أبي يقول: لَمَّا قُبِضَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ جَاءَتِ المُعَزِّيَةُ يَسْمَعُونَ صَوْتَه وَلَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ح فَقَالَ عَلِيٌّ: أَتَدْرُوْنَ مَنْ هَذَا، هَذَا الخَضِرُ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقال أبو زكريا النووي: الجمهور على حياته.
وروينا عن أبي الخطاب بن دحية في كتابه «مرج البحرين في أخبار المشرقين
والمغربين»: واعلموا رحمكم الله تعالى أن جميع الأخبار في حياة الخضر صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لا تصح عند العلماء بالنقل، وإنما ذكرها من رواها ولم يعرف عللها،
وذكر القشيري أن اسمه أحمد ويُكَنَّى أبا العباس. انتهى.
قال شيخنا العلامة أبو الفتح القشيري: بَلْيَا والله تعالى أعلم.
وقول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ،
فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ) قال الحربي: الفروة قطعة يابسة من
حشيش، وعن ابن الأعرابي: هي أرض بيضاء ليس فيها نبات.
قَالَ الخَطَّابِيُّ: اخضرتْ بعد إذ كانت جرداء، ويقال: أراد به الهشيم من نبات
الأرض اخضر بعد يُبْسِه وبياضه.
حديث وقت العشاء إذا اجتمع الناس تقدم قريبًا.
(1/102)
قَالَ
الدَّاودِيُّ: لا تكون الآخرة إلا ولها أولى أولها المغرب؛ لأنها تجب عند غروب
الشمس، وقيل لها العشاء على قولٍ لأنه أول ما تجتمع فيها الظلمة، وقيل للعشاء
الآخرة عشاء لاجتماع الظلمة ومنه قوله تعالى: {وَجَاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}
[يوسف: 16]
%ج 1 ص 58%
أي جاؤوه جميعًا، وقيل لها العتمة لما يجوز من تأخيرها والظلمة.
(بابُ فَضْلِ العِشَاءِ)
566 - حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ
ابنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، قَالَتْ: أَعْتَمَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَيْلَةً بِالعِشَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ
أَنْ يَفْشُوَ الإِسْلاَمُ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: نَامَ
النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ لِأَهْلِ المَسْجِدِ: «مَا
يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ غَيْرَكُمْ». [خ 566]
وفي باب النوم قبل العشاء لمن غلب: «وكَانُوا يُصَلُّونَ فِيْمَا بينَ أنْ يغيبَ
الشَّفَقُ إلى ثُلُثِ الليلِ الأولِ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: أَعْتَمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَيْلَةً
مِنَ اللَّيَالِيْ بِصَلاِةِ العِشَاءِ وَهِيَ التِي تُدْعَى الْعَتَمَةُ.
قال ابن شهاب: وذُكِرَ لي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: وَمَا
كَانَ لَكُمْ أَنْ تبْرزُوا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى
الصَّلاةِ وَذَلِكَ حِيْنَ صَاحَ عُمَرُ، قَالَ ابْن شهَاب: وَلَا يُصَلِّي
يَوْمئِذٍ إلاَّ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: وَكَانُوا يصلونَ فِيمَا بَين أَن يغيبَ
الشَّفقُ إِلَى ثلث اللَّيْل الأولِ.
وقالت أم كُلْثُوم عَن عَائِشَة: أَعْتَمَ ذَات لَيْلَة حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ
اللَّيْل، وَحَتَّى نَام أهلُ الْمَسْجِد ثمَّ خَرَجَ فصلى، وَقَالَ: «إِنَّه
لوَقْتُهَا لَوْلَا أَن يَشُقَّ عَلى أُمَّتِي».
(1/103)
وعند
النسائي: «صَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ
اللَّيْلِ».
وفي «الأوسط»: سئل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ العِشَاءِ
فَقَالَ: «إِذَا مَلَأَ اللَّيْلُ بَطْنَ كُلِّ وَادٍ».
قولها: (أَعْتَمَ ليلةً) يدل على أن غالب أحواله كان تقديمها.
وفيه جواز النوم قبلها وهو الذي بوَّبَ عليه البخاري باب النوم قبل العشاء لمن
غلب، ويحتمل أن ذلك كان شتاءً؛ لأن أبا حنيفة مذهبه في العشاء التأخير أفضل إلا في
ليالي الصيف، وفي «شرح الهداية»: تأخيرها إلى نصف الليل مباح، وقيل: تأخيرها بعد
الثلث مكروه، وفي «القنية»: تأخيرها إلى ما زاد على النصف مكروه كراهة تحريم.
وقال مالك: تعجيلها أفضل للتخفيف؛ ولأنه غالب أحوال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهو الأصلح لأئمتنا لئلا يؤدي إلى تعطيل الجماعة.
وقال ابن قدامة: يستحب تأخيرها للمنفرد والجماعة يرضون بذلك، وإنما نُقِلَ التأخير
عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرة أو مرتين لشغل حصل له.
وأما العتمة فذكر ابن سِيْدَه رحمه الله تعالى أنها ثلث الليل الأول بعد غيبوبة
الشفق، وقيل: هي وقت صلاة العشاء الآخرة، وقيل: هي بقية الليل.
وفي «المصنف»: حَدَّثَنا وَكِيعٌ، حَدَّثَنا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي فَزَارَةَ، عَنْ
مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: قُلْتُ لابنِ عُمَرَ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ
سَمَّاهَا الْعَتَمَةَ؟ قَالَ: «الشَّيْطَانُ».
(1/104)
567
- حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ العَلاَءِ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ
بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنْتُ أَنَا
وَأَصْحَابِي الَّذِينَ قَدِمُوا مَعِي فِي السَّفِينَةِ نُزُولًا فِي بَقِيعِ بُطْحَانَ،
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَتَنَاوَبُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عِنْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ
نَفَرٌ مِنْهُمْ، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَا
وَأَصْحَابِي، وَلَهُ بَعْضُ الشُّغْلِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَأَعْتَمَ
بِالصَّلاَةِ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ، قَالَ لِمَنْ
حَضَرَهُ: «عَلَى رِسْلِكُمْ، أَبْشِرُوا، أَنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكُمْ،
أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرُكُمْ -أَوْ
قَالَ-: مَا صَلَّى هَذِهِ السَّاعَةَ أَحَدٌ غَيْرُكُمْ» لا يَدْرِي أَيَّ
الكَلِمَتَيْنِ قَالَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: فَرَجَعْنَا، فَرْحَى بِمَا سَمِعْنَا
مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. [خ 567]
وعند أبي داود بسند صحيح وإنْ كانَ ابن القطَّانِ أعلَّهُ بعاصم بن حميد فغير جيد
لذكره في ثقات ابن حبان ولقول أبي الحسن الدَّارَقُطْني فيه ثقة، حَدَّثَنا
مُعَاذٌ قَالَ: تَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي صَلَاةِ
الْعَتَمَةِ حَتَّى ظَنَّ الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ فَلَمَّا خَرَجَ
قَالُوا لَهُ كَمَا قَالُوا، فَقَالَ: «أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ،
فَإِنَّكُمْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَمْ يُصَلِّهَا أُمَّةٌ
قَبْلَكُمْ».
(1/105)
قال
ابن قُرْقُول: بُطْحَان -بضم الباء- يرويه المحدثون أجمعون، وحكى أهل اللغة فيه
بَطِحَان -بفتح الباء وكسر الطاء- وكذلك قيده أبو علي القالي في تاريخه وأبو حاتم،
وقال البكري في «معجم ما استعجم»: بفتح أوله وكسر ثانيه على وزن فعلان لا يجوز
غيره، قال ابن مُقْبِلٍ يرثي عثمان رضي الله عنه:
عفا بطحان من قريشٍ فيثرب فَمُلْقَى الرجالِ منْ مِنَى فَالْمُحَصَّبِ
وقوله: (ابْهَارَّ اللَّيْلُ) أي: انتصف -بباء موحدة من تحت- وعن سيبويه: كثرت
ظلمته وابهارَّ القمرُ: كثر ضوءه ذكره في «الْمُوعِبِ»، وفي «الْمُحْكَمِ»:
ابْهَارَّ اللَّيْلُ إذا تراكب ظلمته، وقيل: إذا ذهب عامته وهو نحو من ثلثه، وفي
«الكتاب الواعي»: ابهيرار الليل طلوع نجومه إذا تنامت؛ لأن الليل إذا أقبل أقبلت
فحمته، فإذا استنارت النجوم ذهبت تلك الفحمة، وَفِي «الصِّحَاحِ»: ابْهَارَّ
اللَّيْلُ ابْهِيْرَارًا ذهب معظمه وأكثره، وابهارَّ علينا الليل أي: طال، قَالَ
الدَّاودِيُّ: قوله: انْهَارَّ اللَّيْلُ، تقول كسر منه وانهدم، ومنه قوله تعالى:
{فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109] انتهى.
وفيه نظر لما قدمناه ولعدم من قاله غيره فيما أعلم.
قال: وقوله: (مَا منْ أحدٍ منَ النَّاسِ يُصَلِّي هذهِ الساعة غيركم) وكان لا ينطق
عن الهوى وقد كان بأقاصي المدينة وبعض الأحياء من يصلي ولكنه أخبر صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أنهم صلوا
%ج 1 ص 60%
جميعًا فبشرهم بذلك. انتهى.
ذكر عن ... أن أهل الكتاب لا يصلون في ذلك الوقت وهم الذين أراد فالله أعلم، وذكر
ابن التين وغيره أن تأخره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان لأنه جهز جيشًا.
وقوله: (عَلَى رِسْلِكُمْ) بكسر الراء وفتحها والأول أفصح أي: تَأَنَّوا.
وقوله: (أَنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ) بفتح أن وكذا أنه ليس من أحد.
(بَابُ النَّوْمِ قَبْلَ العِشَاءِ لِمَنْ غُلِبَ)
569 - حديث عائشة تقدم قريبًا. [خ 569]
(1/106)
570
- 571 - حَدَّثَنا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابنُ
جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شُغِلَ عَنْهَا لَيْلَةً فَأَخَّرَهَا
حَتَّى رَقَدْنَا فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْنَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الأَرْضِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ غَيْرُكُمْ». [خ 570 - 571]
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ: لاَ يُبَالِي أَقَدَّمَهَا أَمْ أَخَّرَهَا، إِذَا كَانَ لاَ
يَخْشَى أَنْ يَغْلِبَهُ النَّوْمُ عَنْ وَقْتِهَا، وَكَانَ يَرْقُدُ قَبْلَهَا.
قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ كذا.
(1/107)
فَقَالَ:
سَمِعْتُ ابنَ عَبَّاسٍ، يَقُولُ: أَعْتَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ لَيْلَةً بِالعِشَاءِ، حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا، فَقَامَ
عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَقَالَ: الصَّلاَةَ -قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابنُ
عَبَّاسٍ-: فَخَرَجَ رسولُ اللهِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كَأَنِّي
أَنْظُرُ إِلَيْهِ الآنَ، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى
رَأْسِهِ، فَقَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ
يُصَلُّوهَا هَكَذَا» فَاسْتَثْبَتُّ عَطَاءً كَيْفَ وَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ يَدَهُ، كَمَا أَرَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ
فَبَدَّدَ لِي عَطَاءٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ شَيْئًا مِنْ تَبْدِيدٍ، ثُمَّ وَضَعَ
أَطْرَافَ أَصَابِعِهِ عَلَى قَرْنِ الرَّأْسِ، ثُمَّ ضَمَّهَا يُمِرُّهَا
كَذَلِكَ، حَتَّى مَسَّتْ إِبْهَامَيْهِ طَرَفَ الأُذُنِ، مِمَّا يَلِي الوَجْهَ
عَلَى الصُّدْغِ، وَنَاحِيَةِ اللِّحْيَةِ، لاَ يُقَصِّرُ وَلاَ يَبْطُشُ إِلَّا
كَذَلِكَ، وَقَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ
يُصَلُّوا هَكَذَا».
وقال في «التميز»: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ-
لَأَمَرْتُهُمْ بِالصَّلاَةِ بِهَذِهِ السَّاعَةِ» من حديث سفيان بن عيينة عن
عمرو، وقال أبو عبد الله: قال عمر: وحديث عطاء ليس فيه ابن عباس، وقَالَ
الإِسْمَاعِيْلِيُّ: وحديث عمرو عن عطاء مرسل.
(1/108)
وذكر
الْمُهَلَّبُ وابنُ نُعَيْمٍ الحافظ أنَّ البخاريَّ روى حديث عطاء هذا عن محمود بن
غيلان عن عبد الرزاق عن ابن جريج، وأخرجه مسلم عن ابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن
جريج عن عطاء مفردًا مفصولًا من حديث نافع بلفظ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيُّ حِينٍ
أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أُصَلِّيَ الْعِشَاءَ؟ فَقَالَ سَمِعْتُ ابنَ عَبَاسٍ ح
قُلْتُ لِعَطَاء: كَمْ ذَكَرَ لَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
أَخَّرَهَا لِيْلَتَئذٍ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ عَطَاءٌ: وأَحَبُّ إِلَيَّ
أَنْ أُصَلِّيَهَا إِمَامًا وَخِلْوًا مُؤَخَّرَةً كَمَا
%ج 1 ص 61%
صَلَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَيْلَتَئِذٍ، فَإِنْ شَقَّ
عَلَيْكَ ذَلِكَ خِلْوًا أَوْ عَلَى النَّاسِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَأَنْتَ
إِمَامُهُمْ، فَصَلِّهَا وَسَطًا، لَا مُعَجَّلَةً، وَلَا مُؤَخَّرَةً.
وعند النسائي عن إبراهيم بن الحسن ويوسف بن سعيد، حَدَّثَنا حجاج عن ابن جريج،
وحَدَّثَنَا محمد بن منصور حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْعِشَاء ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى
ذَهَبَ كَذَا مِنَ اللَّيْلِ، فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَنَادَى:
الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللهِ، رَقَدَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، فَخَرَجَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَالْمَاءُ يَقْطُرُ مِنْ رَأْسِهِ
وَهُوَ يَقُولُ: «إِنَّهُ لَلْوَقْتُ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي
لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ».
(بَابُ وَقْتِ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ)
وَقَالَ أَبُو بَرْزَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَسْتَحِبُّ تَأْخِيرَهَا.
حديث أبي برزة هذا تقدم ذكره قريبًا.
(1/109)
572
- حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحِيمِ المُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنا زَائِدَةُ، عَنْ
حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلاَةَ
العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ صَلَّى
النَّاسُ وَنَامُوا، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا». [خ 572]
وَزَادَ ابنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قال: حَدَّثَنِي
حُمَيْدٌ عنْ أَنَسٍ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ لَيْلَتَئِذٍ».
وقال في باب من جلس ينتظر الصلاة: «أَخَّرَ لَيْلَةً العِشَاءَ إِلَى شَطْرِ
اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَمَا صَلَّى».
وقَالَ في باب السمر في الفقه والخبر بعد العشاء: «أَلاَ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا
انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ» وكذا قاله في باب يستقبل الإمامُ الناس إذا سلم:
«وَإِنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلاَةَ» وقال في
اللباس: وقال يحيى بن أيوب عن حميد.
وفي «الأوسط»: فَلَمَّا فَرَغَ خَطَبَنَا، فَقَالَ: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا
وَرَقَدُوا، وَأَنْتُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ». اختلف الناس
في آخر وقت العشاء:
(1/110)
فروي
عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة آخر وقتها ثلث الليل وهو قول عمر بن عبد العزيز
ومكحول وإليه ذهب مالك لغير أصحاب الضرورات لحديث علي بن أبي طالب: «لَوْلَا أَنْ
أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِيْ لأَخَّرْتُ العِشَاءَ إِلى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَول» رواه
الطبري في «تهذيب الآثار» بسند صحيح، وقال البزار: لا نعلمه يروي عن علي إلا من
هذا الوجه بهذا الإسناد -يعني ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن عن عبيد الله بن أبي
رافع عن أبيه عن علي- إلا من هذا الوجه، ولحديث جابر في إمامة جبريل النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من «صحيح ابنِ خُزَيْمَةَ» والحاكم وابن حبان وصححه الترمذي
والطُّوسي والنسائي وابن حزم، وقال أبو عمر: متصل حسن وقال البخاري: أصح شيء في المواقيت
حديث جابر أَنَّهُ جَاءَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 62%
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِيْنَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ فَقَالَ: قمْ فَصَلِّ
العِشَاءَ، وَفِيْهِ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ، وحديث أبي موسى عِنْدَ مُسْلِمٍ:
وجاء سائلٌ يسألُ عنْ مواقيت الصلاة، وفيه: «ثُمَّ أَخَّرَ الْعِشَاءَ في اليوم
الثاني حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، وَقَالَ: الْوَقْتُ بَيْنَ
هَذَيْنِ».
وعند أبي حنيفة أن آخر وقتها مالم يطلع الفجر وهو المروي عن ابن عباس وغيره وقال
في «شرح الهداية»: هو إجماع لم يخالف فيه غير الإصْطَخْرِي وفي «القواعد» لابن
رشد: وهو قول داود مستدلين بما في «صحيح مسلم» عن أبي قتادة: «إِنَّمَا
التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ
الْأُخْرَى» وهو متأخر عن إمامة جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بيقين.
(1/111)
وفي
كتاب «الإشراف» لأبي بكر: كان النخعي يقول: آخر وقتها إلى نصف الليل -يعني وقت
الاختيار- وبه قال الثوري وأصحاب الرأي وابن المبارك وإسحاق وأبو ثور كأنهم
استدلوا بما في «صحيح أبي علي الطُّوسي» عن أبي هريرة: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ
عَلَى أُمَّتِيْ لأَخَّرْتُ صَلاةَ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ الّليْلِ»، وبما في
«صحيح ابن خزيمة» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «لَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ
السَّقِيم لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ».
وفي كتاب «القرطبي»: ذهب النخعي إلى أن آخر وقتها الربع الأول، قَالَ القُرْطُبِيُّ:
لا مستند له في ذلك، وقال جماعة بتعجيلها وهو الأفضل استدلالًا بالأخبار التي فيها
تعجيل الصلاة في أول وقتها وممن قال بذلك جماعة منهم عمر بن الخطاب وعبادة بن
الصامت وشَدَّادُ بنُ أوس ذكره أبو نعيم الفضل وغيره.
والحديث في السمر في الخبر رواه البخاري عن عبد الله بن الصَّبَّاحِ عن أبي علي
الحنفي عن قُرَّةَ عن الحسن عن أنس، ورواه مسلم وابنُ خُزَيْمَةَ والقاسم بن عمر
بن سهل الدقاق عن ابن الصَّبَّاحِ عن أبي علي الحنفي عن قُرَّةَ عن قتادة عن أنس
ووافقهم أيضًا عن أبي زيد سعيد بن الربيع وأبي داود الطيالسي، قَالَ السَّفَاقُسيُّ:
وعظ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أصحابَهُ بعد العشاء سماه البخاري سمرًا.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: رواه جابر أن شغله كان إذ ذاك يُجَهِّزُ جيشًا.
(بابُ فَضْلِ صَلَاةِ الفَجْرِ)
ذكر حديث قيس بن أبي حازم، وقد تقدم في فضل صلاة العصر ثم قال بعده.
(1/112)
574
- حَدَّثَنا هُدْبَةُ، حَدَّثَنا هَمَّامٌ، حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، عَنْ أَبِي
بَكْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ:
«مَنْ صَلَّى البَرْدَيْنِ دَخَلَ الجَنَّةَ». وَقَالَ ابنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنا
هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ
أَخْبَرَهُ بِهَذَا. [خ 574]
حَدَّثَنَا إسْحَاقُ، حَدَّثَنا حَبَّانُ
%ج 1 ص 63%
حَدَّثَنا هَمَّامٌ، حَدَّثَنا أَبُو جَمْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِثْلَهُ.
التعليق الذي علَّقه عن ابن رجاءٍ ذكره الطبراني في «معجمه» فقال: حَدَّثَنا عثمان
بن عمر الضَّبيُّ قال: قال حَدَّثَنا عبد الله بن رجاء فذكره، وفائدته عند البخاري
نسبة أبي بكر إلى أبيه أبي موسى الأشعري؛ لأن الناس اختلفوا في أبي بكر هذا من هو؟
فقَالَ الدَّارَقُطْني: قال بعض أهل العلم: هو أبو بكر بن عُمَارة بن رُؤَيْبةَ
الثقفي، وهذا الحديث محفوظ عنه، وقال البزَّار: لا نعلمه يروي عن أبي موسى إلا من
هذا الوجه وإنما يُعْرَفُ عن أبي بكر بن عمارة بن رُؤَيْبَةَ عن أبيه، ولكن هكذا
قال همام: يعنيان بذلك حديث أبي بكر بن عمارة بن رُؤَيْبَةَ الْمُخَرَّج عِنْدَ
مُسْلِمٍ بلفظ: قال عُمَارَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَقُولُ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا- يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ-» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: آنْتَ سَمِعْتَ
هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ
الرَّجُلُ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/113)
وعند
أبي القاسم الطبراني من حديث السَّرِيِّ بن إسماعيل عن الشعبي عن عمارة بن
رُؤَيْبَةَ: «لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا
وَكَانَ يُبَادِرُ بِصَلاَتِهِ قَبْلَ طُلُوْعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوْبِهَا».
قَالَ القُرْطُبِيُّ: قال كثير من العلماء البَرْدَان: الفجر والعصر، وسُمِّيا
بذلك لأنهما يُفْعَلَان في وقت البرد.
وقَالَ السَّفَاقُسيُّ عن أبي عُبَيْدٍ: المراد الصبح والعصر والمغرب وكأنه غير
جيد؛ لأن المذكور إنما هو شيء غير مُثَلَّثٍ فينظر فإنَّ السفاقسيَّ قاله ولم
يتبعه على قائله، وزعم القزَّاز أنه اجتهد في تمييز هذين الوقتين لعظيم فائدتهما
فقال: إن الله تعالى أدخلَ الجنة كلَّ من صلى تلك الصلاة ممن آمن به في أول دعوته
فلما علمنا أنه قد جعل لكلِّ أمة بعث إليها رسولا شرعة ومنهاجًا فصلاهما هو ومن
آمن به حينئذ فَبُشِّرَ بهذا الخير كلُّ من صلاهما معه في أول فريضة إلى أن نُسِخَ
ليلة الإسراء وأدخلهم الله تعالى الجنة كما بادروا إليه من الإيمان تفضلًا منه
تعالى، قال القَزَّازُ: فهذا معناه وما علمت أنَّ أحدًا سبقني إليه. انتهى.
ولم يسبق إليه فإنه يعطي أنه كان في أول الإسلام، وأبو موسى إنما سمع هذا في أواخر
الإسلام ويعطي أن الحديث منسوخ، وأبو موسى الراوي فهم منه العموم وكذا غيره؛
لأنَّه خبرُ فضلٍ لمحمد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولأمته والفضائل لا تنسخ،
وأيضًا فقد بينا من عِنْد مُسْلِمٍ: أنهما الصبح والعصر وهما على رأيه لم يكونا
بعد، وحديث الطبراني يوضحه إيضاحًا بَيِّنًا ويردُّ قوله وذكر أبو القاسم الجوزي
%ج 1 ص 64%
(1/114)
من
حديث ابن مسعود موقوفًا: «يُنَادي منادي عندَ صلاةِ الصبحِ يَا بَنِي آدَمَ،
قُومُوا فَأَطْفِئُوا مَا أَوْقَدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، ويُنَادِي عندَ العصرِ
كذلك فَيَتَطَهَّرُونَ وَيُصَلُّونَ ويَنَامُونَ ولا ذَنْبَ لهم» والله تعالى
أعلم، والذي يظهر من فضلهما إنما هو لشهود الملائكة عليهم السلام كما تقدم.
وقوله: (دَخَلَ الجنةَ) إما أن يكون خرج مخرج الغالب؛ لأنَّ الغالب من صلَّاهُمَا
وراعاهما انتهى عما ينافيهما من فحشاء ومنكر؛ لأن الصلاة تنهى عنهما أو يكون آخر
أمره دخول الجنة والله تعالى أعلم.
(بابُ وَقْتِ الفَجْرِ)
575 - حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسِ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ: أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ رسولِ
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ، قُلْتُ: كَمْ
كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً. [خ 575]
576 - حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ،
حَدَّثَنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ
سَحُورِهِمَا، قَامَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَزَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ إِلَى الصَّلاَةِ، فَصَلَّى، قُلْنَا لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا
مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ
الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. [خ 576]
(1/115)
وعند
النسائي وابن حبان: قَالَ لِيْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا
أَنَسُ إِنِّي أُرِيدُ الصِّيَامَ، أَطْعِمْنِي شَيْئًا» فَجِئْتُهُ بِتَمْرٍ
وَإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَذَّنَ بِلَالٌ، فَقَالَ يَا أَنَسُ:
«انْظُرْ رَجُلًا يَأْكُلْ مَعِي» فَدَعَوْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَجَاءَ،
فَقَالَ: إِنِّي قَدْ شَرِبْتُ شَرْبَةَ سَوِيقٍ وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ،
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ»
فَتَسَحَّرَ مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى
الصَّلَاةِ.
وفي «كتاب الإسماعيلي» قال خالد بن الحارث عن سعيد في هذا الحديث: أنسٌ عن زيدٍ،
وأصحاب سعيد يقولون عن أنسٍ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقال خالد بن
الحارث: أنسٌ القائل كم كان بينهما؟.
وفي حديث همام: قلت ليزيد كم كان بينهما؟ ويَزِيْدُ بنُ زُرَيْعٍ يقول: قلت لأنس
كم كان بينهما؟ وهما جميعًا سائغان، أن يكون أنس سأل زيدًا فأخبره، وأن يكون قتادة
أو غيره سأل أنسًا فأرسل له قدر ما كان بينهما كما أرسل أصل الخبر فلم يقل عن زيد.
وفي ترجمة البخاري لهذا الحديث في كتاب الصيام: باب قدر كم بين السحور وصلاة الصبح
فذكرُ خمسين آية تجوُّزٌ؛ لأنه لما فرغ من سحوره ركع ركعتي الفجر ثم جلس ينتظر
المؤذن لصلاة الصبح، وكان ينبغي أن يقول كم بين السحور وركعتي الفجر، وخرجه
الطحاوي من حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس وزيد بن ثابت قالا تسحرنا ح
حَدَّثَنا
%ج 1 ص 65%
إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد يقول: كنتُ
أَتَسَحرُ في أهلي ثم يكون سرعة بي أن أدرك الفجر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
حديث عائشة تقدم أوائل الصلاة.
(1/116)
لا
خلاف بين العلماء أنَّ أولَ وقت صلاة الفجر انصداع الفجر وهو البياض الثاني
المعترض في أفق السماء من جهة المشرق، وهو الفجر الصادق وسمي صادقًا لأنَّه صدقك
عن الصبح وَبَيَّنَهُ لك لا الفجر الأول الكاذب الذي يبدو ضوءه مستطيلًا ذاهبًا في
السماء كذنب السِّرْحان وهو الذئب، وقيل: الأسد ثم يَنْمَحي أثره ويصير الجو أظلم
ما كان، سُمِّيَ كاذبًا؛ لأنه يضيء ثم يَسْوَدُّ ويذهب النور فكأنه كاذب، وشُبِّهَ
بِذَنب السرحان لمعنيين أحدهما: لطوله، والثاني: لأن ضوءه يكون في الأعلى دون
الأسفل كما أن الذئب يكثر شعر ذَنَبه في أعلاه لا في أسفله، والأحكام متعلقةٌ
بالفجر الثاني دون الأول؛ لأن الأول لا يتعلق به شيء من الأحكام، روى
الدَّارَقُطْني من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ, قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ، فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ
كَذَنَبِ السَّرْحَانِ فَلَا يُحِلُّ الصَّلَاةَ وَلَا يُحَرِّمُ الطَّعَامَ,
وَأَمَّا الَّذِي يَذْهَبُ مُسْتَطِيلًا فِي الْأُفُقِ فَإِنَّهُ يُحِلُّ الصَّلَاةَ
وَيُحَرِّمُ الطَّعَامَ».
قَالَ القُرْطُبِيُّ: واخْتُلِفَ في آخر وقته: فذهب الجمهور إلى أن آخر وقته طلوع
أول جَرْمِ الشمس وهو مشهور مذهب مالك وعلى هذا لا يكون عنده وقت ضرورة ولا يأثم
تارك الصلاة إلى ذلك الوقت متعمدًا.
وروى ابن القاسم وابن عبد الحكم عنه أن آخر وقت صلاة الصبح الإسفار الأعلى، وعلى
هذا فما بعد الإسفار وقت لأصحاب الأعذار ويأثم من أَخَّرَ الصلاةَ إلى ذلك الوقت.
وعن الإصْطَخْرِيِّ: من صَلَّاها بعد الإسفار الشديد يكون قاضيًا لا مؤدِّيًا وإن
لم تطلع الشمس، واسْتُدِلَّ لهم بحديث أبي موسى أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
صلَّى بالسائلِ الفجرَ في اليوم الثاني حين انصرف منها والقائل يقول قد طلعت الشمس
أو كادت، وقالَ: «الوقتُ مَا بَيْنَ هذين».
(1/117)
وظاهره
أن آخر وقتها يخرج قبل طلوع الشمس بيسير وهو الذي يقدر بإدراك ركعة.
والجمهور استدلوا بالأحاديث التي فيها: فإذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن
الشمس، باب من أدرك من الفجر ركعة تقدم في باب من أدرك من العصر ركعة وكذا باب من
الصلاة ركعة.
(بَابُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ)
581 - حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَبِي العَالِيَةِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ
مَرْضِيُّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي
%ج 1 ص 66%
عُمَرُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ
بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَشْرُقَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ».
[خ 581]
582 - 583 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، سَمِعْتُ أَبَا العَالِيَةِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي
نَاسٌ بِهَذَا. [خ 582 - 583]
ذكر البخاري هذا الإسناد الثاني لتصريح قتادة فيه بالسماع ولمتابعة شعبة هشامًا،
وبدأ بالسند الأول لِعُلُوِّهِ، وقد ذكر الترمذيُّ عن علي بن عبد الله قال يحيى بن
سعيد: قال شعبة: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء فذكر هذا الحديث،
وحديث يونس بن متى صلوات الله عليهم وسلامه، وحديث عليٍّ القضاة ثلاثة.
وزعم أبو عيسى الترمذي أن في الباب عن علي وابن مسعود وأبي سعيد وعقبة ابن عامر
وأبي هريرة وابن عُمَرَ وسمرة بن جندب وسلمة بن الأكوع وزيد بن ثابت وعبد الله بن
عمرو ومعاذ بن عفراء وكعب بن مرة وأبي أمامة وعمرو بن عَبْسَةَ ويعلى بن أمية
ومعاوية والصَّنَابِحِيِّ ولم يسمع من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
زاد ابن عبد البر سعد بن أبي وقاص وعائشة.
وفي «المعرفة» للبيهقي: أبو ذر الغفاري.
(1/118)
وعند
أبي داود: حديث أبي قتادة، وعِنْدَ مُسْلِمٍ: حديث حفصة، وعند البيهقي: حديث أبي
الدرداء رضي الله عنهم أجمعين.
قال في «شرح الهداية»: هذا يدل على منع الابتداء للصلاة والبقاء للمنافاة ووجه
الجمع بين قوله: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ قبلَ أنْ تطلعَ الشمس)
إنَّ الشمسَ إذا طلعت يمسك عن الصلاة ويتمها نافلةً في ظاهر المذهب، أو يتمها
فرضًا بعد زوال الوقت الكراهة كما روي عن أبي يوسف، وذَكَرَ الأوقات الثلاثة التي
لا يجوز فيها الصلاة: وهي الطلوع والاستواء والغروب يكره التطوع الذي ليس له سبب
في جميع الأيام، ولو شرع فيها صحَّ شروعه وجاز أداؤها فيها.
قال وفي «المحيط»: في الرواية المشهورة الأولى قطعها وتأديتها في وقتٍ غيره مكروه.
قال: ولو قضاها في وقت مكروه جازَ وقد أساء خلافًا لزفر، وكذا ما له سبب كركعتي
الطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة؛ لأن تأخيرها مكروه، ونصَّ الكَرْخِيُّ على
أنه لا يجوز فيها صلاة الجنازة ولا سجدة التلاوة ولا يقضي فرضًا ولا يصلي تطوعًا.
وأما قول أبي محمد بن حزم: قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (مَنْ أَدْرَكَ
رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ) رواها أبو هريرة وهو متأخر الصحبة.
وفي «الهداية»: ولا بأس أن يصلي في هذين الوقتين الفوائت ويسجد للتلاوة ويصلي على
الجنازة.
وفي «الكنز»: والأوقات التي يُكْرَهُ فيها الصلاة التنفل بعد طلوع الفجر إلى
صلاتها بأكثر من ركعتي الفجر، وبعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وعند طلوع الشمس
إلى أن تبيض، وعند زوالها وسط النهار وبعد صلاة
%ج 1 ص 67%
(1/119)
العصر
إلى الغروب، وعند غروبها إلا عصر يومه، وبعد غروب الشمس إلى أن يصلي المغرب، وبعد
نصف الليل إلا أداء العشاء لا غير، ووقت الخطبة يكره التطوع، ووقت صعود الإمام على
المنبر، وبعد فراغه منها إلى أن يشرع في الصلاة عنده خلافًا لهما، وبعد شروع
الإمام في الصلاة يكره التطوع إلا في سنة الفجر وهو متأخر الصحبة.
وحديث النهي رواه عمر بن الخطاب وعمرو بن عَنْبَسَةَ وإسلامهما قديم ففيه نظر
لأمرين:
الأول: قد أسلفنا أن أبا هريرة روى المنع أيضًا فهو أدلُّ لمن يقول بالنسخ إن كان
قيل به.
الثاني: عمر بن الخطاب وإن كان إسلامه قديمًا فإنه ما برح مع النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ إلى أن توفي، ولعلَّهُ سمع الأمرين كأبي هريرة، وأما عمرو بن
عَنْبَسة فإنه وإن كان قديم الإسلام حتى رُوِيَ عنه أنه كان رابع أربعة لكنه رجع
إلى بلاد قومه قبل فرض الصلوات الخمس، ولم يقدم على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إلا أزمان الفتح فطاح ما قاله أبو محمد رحمه الله تعالى.
وقد ورد في بعض الأحاديث تصريح أن عمر روى هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بعد مجيئه، ولو لم يأت لما أمكن غيره، ولو استدرك الحنفي أيضًا بما ذكره
أبو محمد من حديث الثوري عن سعد بن إسحاق عن كعب بن عُجْرَة عن رجل من ولد كعبٍ
أنه نام عن الفجر حتى طلعت الشمس قال: فقمت أصلي فدعاني كعب فأحبسني حتى ارتفعت
الشمس وابْيَضَّتْ، قال: قُمِ الآن فصلِّ.
وفي كتاب «مصنف أبي بكر»: عن أبي العالية قال: لا تصلح الصلاة بعد العصر حتى تغيب
الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، قال: وكان عمر يضرب على ذلك.
وعن الأشتر قال: كان خالد بن الوليد يضرب الناس على الصلاة بعد العصر، وكرهها سالم
ومحمد بن سيرين، وعن ابن عمر قال: صلَّيْتُ مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلا صلاة بعد الغداة حتى تطلع الشمس.
(1/120)
وقال
أبو سعيد: تمرتان بِزُبْدٍ أحب إلي من صلاة بعد العصر.
وعن ابن مسعود: كنا نُنْهَى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها.
وقال بلال: لم يُنْهَ عن الصلاة إلا عند غروب الشمس؛ لأنها تغرب في قرن الشيطان،
ورأت عائشة قومًا يصلون عند طلوع الشمس فقالت: قعدوا حتى إذا كانت الساعة التي
تكره فيها الصلاة قاموا يصلون.
ورأى أبو مسعود رجلًا يصلي عند طلوع الشمس فنهاه، وكذا شُرَيْح، وقال الحسن: كانوا
يكرهون الصلاة عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند غروبها حتى تغيب، وحكاه ابن حزم عن
أبي بكرة.
وفي فوائد الشيخ رأى حذيفة رجلًا يصلي بعد العصر فنهاه فقال: أَوَيعذبني الله
عليها قال:
%ج 1 ص 68%
نعذبك على مخالفة السنة.
وزعم ابن العربي أن الصلاة في هذين الوقتين تُؤدى الفريضة دون النافلة عند مالك،
وعند الشافعي يؤدي فيهما الفريضة والنافلة التي لها سبب، ومذهب آخر لا يصلي فيها
بحال لا فريضة ولا نافلة ولا عند زوال الشمس.
الرابع: لا يصلي فيهما بحال وهو قول أبي حنيفة.
الخامس: يجوز بمكة دون غيرها.
قوله: (شَهِدَ عِنْدِي) معناه: بَيَّنوا لي وأعلموني به، قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18] قال الزجاج: معناه بَيَّن.
و (تُشْرِقَ) بضم التاء وكسر الراء، قال عياض: وضبطناه أيضًا بفتح التاء وضم الراء
وهو الذي ضبطه أكثر رواة بلادنا، فمن فتح التاء احتج بأن في الروايات حتى تطلع
الشمس فوجب حمل هذه على موافقتها، ومن ضمَّ التاء احتجَّ بأحاديث النهي عن الصلاة
عند طلوع الشمس وعن الصلاة إذا بدا حاجب الشمس حتى تَبْرُزَ وحين تطلع الشمس بازغة
حتى ترتفع، قال: وهذا كله يُبَيِّنُ أن المراد بالطلوع في الروايات الأخر ارتفاعها
وإشراقها وإضاءتها لا مجرد طلوع وقتها.
(1/121)
وفي
«الْمُحْكَمِ»: أشرقت الشمس أضاءت وانبسطت، وقيل: شَرَقَتْ وأَشْرَقَتْ وأضاءت،
وشَرِقَتْ بالكسر دَنَتْ للغروب، وكذا حكاه ابن القطاع في أفعاله، وزعم أنه قول
الأصمعي وابن خَالَوَيْه في كتاب ليس، وقطرب في «كتاب الأزمنة» في آخرين.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقد روي عن جماعة من السلف أنه إذا لم يَبْدُ حاجب الشمس
المطلوع ولم يبد للغروب فالصلاة حينئذ جائزة، رُوِيَ ذلك عن علي وابن مسعود وبلال
وأبي أيوب وأبي الدرداء وابن عمر وابن عباس مستدلين بقوله: «لَا يَتَحَرَّى
أَحَدُكُم الصَّلاةَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» ح وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: اختلف
العلماء في تأويل نهيه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن الصلاة بعد الصبح والعصر:
فقال أبو طلحة: المراد بذلك كل صلاة ولا يثبت ذلك عنه، وقال أبو زكريا: أجمعت
الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في هذه الأوقات، واتفقوا على جواز الفرائض
المؤداة فيها. انتهى.
ذكره ابن التين عن داود إجازةُ التنفل بعد العصر إلى الغروب.
وقوله أيضًا اتفقوا على جواز الفرائض المؤداة فيها يردُّهُ ما ذكرناه عن ابن
العربي وما نقله ابن حزم عن أبي بَكْرَةَ وكعب بن عجرة أنهما نَهَيَا عن صلاة
الفرض في هذين الوقتين، وقول ابن حزم: إن قومًا لم يروا الصلاة أصلًا في هذه
الأوقات كلها.
وأما احتجاج أصحاب الشافعي بأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قضى سنة الظهر بعد
العصر، وقاسوا عليها كل صلاة لها سبب حين قال النووي هو عمدة أصحابنا في المسألة
وليس لهم أصح دلالة فيخدش فيه ما ذكره الماوردي وغيره من أن ذلك من خصوصياته
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
%ج 1 ص 69%
وقَالَ البَيْهَقِيُّ: هذه الأخبار تشير إلى اختصاصه بإثباتها لا إلى أصل القضاء،
هذا طاوس يروي عن عائشة أنها قالت: وَهِمَ عُمَرُ إنما نهى النبيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها.
(1/122)
وقَالَ
الخَطَّابِيُّ: كان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مخصوصًا بهذا دون الخلق،
قال ابن عَقِيلٍ: لا وجه له إلا هذا الوجه.
وقَالَ الطَّبَرِيُّ: فعل ذلك تَبْيِينًا لأمته أنَّ نهيه كان على وجه الكراهة لا
التحريم.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: تواترت الأحاديث عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه
نهى عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، وكان عمر يضرب على الركعتين بعد العصر مخصوصة
به دون أمته.
وقال أبو جعفر الطحاوي: ويدلُّ على الخصوصية أنَّ أم سلمة هي التي روت صلاته
إياهما، قيل لها: أَفَنَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَانَا بعد العصر؟ قالت: لا.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: وفي حديث أم سلمة: سَمِعْتُكَ تَنْهَى عنْ هاتَيْنِ
الركعَتَيْنِ، وهو صريح بأنه بعد النهي لم يكن من ادَّعى تصحيح الآثار على مذهبه
دعوى النسخ فيه، فأتى برواية ضعيفة عن ذَكْوان عن أم سلمة في هذه القصة فقلت يا
رسول الله أَفَنَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَانَا؟ فقال: لا. واعتمد عليها في ردِّ ما
رويناه معلوم عند أهل الحديث أن هذا الحديث يرويه حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس
عن ذكوان مولى عائشة عنها. انتهى.
حبذا من ذكر أخبرنا حماد فلا يُسْأَل عن حاله، والأزرق وثَّقَهُ غير واحد وخرج
البخاري حديثه محتجًا به، وذكوان وثَّقه غير واحد وصحح حديثه.
قَالَ الدَّاودِيُّ يحتمل أن يكون النهي لئلا يجهل أحد فيصلي إذا قاربت الشمس
الغروب، وكان المنكدر يصليها، وكان عمر يضربه عليهما، وربما قاله لو علم الناس ما
تعلم لم أَنْهَ، وهذا يدل على ما قلنا، وقول معاوية ما رأيناه يصليهما، فليس كل
أحد رأى أفعاله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ومن رأى حجة على من لم ير.
ويحتمل أن يريدوا بها بعد العصر عن الصلاة إلا عند طلوع الشمس وغروبها.
(1/123)
وروى
ذكوان مولى عائشة -عند أبي داود بسند صحيح- أن عائشة حدثته أن رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يصلي بعد العصر ويَنْهَى عنه، ويُواصِلُ ويَنْهَى عنه.
وزعم النواوي: أنه لم ينظر دليل على الخصوصية. انتهى.
أي: دليل أدل من قولها: (كانَ يُصَلِّيهما ويَنْهَى عَنْهُما) مع قول من أسلفناه،
وسيأتي منه شيء آخر بعد إن شاء الله تعالى.
وزعم الشافعي في كتاب «اختلاف الحديث» وذكر الصلاة التي لها سبب وعددها ثم قال: وهذه
الصلوات وأشباهها تصلى في هذه الأوقات بالدلالة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ حيث قال:
%ج 1 ص 70%
«مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» وصلَّى ركعتين كان يصليهما
بعد الظهر شُغِلَ عنهما بعد العصر، وأمر أن لا يمنع أحد طاف بالبيت أي ساعة شاء،
ثم إجماع الناس في الصلاة على الجنائز بعد العصر والصبح.
قرأتُ على المسند العلامة أبي محمد النصري، أخبرنا الإمام صفي الدين أبو محمد عبد
الوهاب بن حسن بن الفرات عن فاطمة بنت سعد الخير، أخبرنا والدي والحافظ محمد بن
ناصر، وأخبرنا أبو النون الدبوسي قراءة عليه عن الْمَقْبُرِيِّ عن ابن ناصر قالا:
أخبرنا أبو منصور المعمري، أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر بن أبي حفص، أخبرنا
الحافظ أبو حفص بن شاهين بجميع كتاب «الناسخ والمنسوخ» تأليفه قال: حَدَّثَنا محمد
بن محمود، حَدَّثَنا علي بن مسلم، حَدَّثَنا جعفر بن عون، حَدَّثَنا موسى بن
عُبَيْدَةَ عن ثابت مولى أم سلمة قال: بَعَثَتْ عَائِشَةُ إِلِى أُمِّ سَلَمَة
فَسَأَلَتْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَلَّاهُمَا رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيْهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فَشَغَلَهُ
قَوْمٌ قَالَتْ: فَمَا صَلاَّهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ.
(1/124)
قال
أبو حفص: وحديثُ النهيِّ عن الصلاة بعد العصر رواه جماعة اختصرْتُ ذكرهم هنا،
وَهُمْ في كتاب «المناهي»: وهو المعمول عليه؛ لأن النهي قد ثبت، وقد خرج لصلاته
بعد العصر سبب أوجب ذلك، وقد أكد هذا النهي حديث رواه علي بن أبي طالب،
حَدَّثَنَاه محمد بن أبي نوح، حَدَّثَنا شعيب بن أيوب، حَدَّثَنا أسْبَاط بن محمد
وأبو نعيم عن سفيان عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ
قَالَ: «كَانَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَا يُصَلِّي صَلاةً مكتوبة
إِلا صَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ».
وذكر شيخنا الحافظ أبو الفتح القشيري حديثًا عن تميم الداري أنه كان يصليها مع
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من حديث يحيى بن بُكَيْر عن الليث عن أبي
الأسود عن عروة عنه، فَلَئِنْ صحَّ سنده خَدَشَ في قول من قال بالخصوصية.
أخبرنا أبو القطبي قراءة عليه، أخبرنا عبد اللطيف، أخبرنا اللبَّان إجازة، أخبرنا
الحداد، أخبرنا أبو نعيم، حدَّثَنَا ابن فارس، حَدَّثَنا أحمد بن عصام، حدَّثَنَا
أبُو عَاصِمٍ، أخبرني عَبْدُ اللهِ بْنُ أبيه بن أَبِي عُثْمَانَ بن عبد الله بن
خالد بن أسيد أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أنه رأى يَعْلَى
يُصَلِّي قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فقيل له، فقال: إني سَمِعْتُ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ
قَرْنَيْ شَيْطَانٍ فَأَنْ تَطْلُعَ وَأَنْتَ فِي أَمْرِ اللهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَطْلُعَ وَأَنْتَ لَاهٍ» ولئن صح هذا فيكون إذنًا عامًا والله أعلم.
(1/125)
حَدَّثَنا
مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، أَخْبَرَنِي ابنُ أَبِيْ عُمَرَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ تَحَرَّوْا
بِصَلاَتِكُمْ قَبْلَ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا». قَالَ: وَحَدَّثَنِي
ابنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا
طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا
غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ،
%ج 1 ص 71%
فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ» تَابَعَهُ عَبْدَةُ.
وفي لفظ: «لاَ يَتَحَرَّى أَحَدُكُمْ، فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلاَ
عِنْدَ غُرُوبِهَا».
وقال في باب من لم يكره الصلاة إلا بعد متابعة عبدة، هذه رواها البخاري في صفة
إبليس لعنه الله، فقال: حَدَّثَنا محمد، حَدَّثَنا عَبْدَةُ بن سليمان عن هشام،
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَإِنَّها تطلعُ بقرني شيطان».
ورواه مالك بن أنس عن هشام عن أبيه مرسلًا، قال أبو عمر: ولم يختلف على مالك في
إرساله، ورواه أيوب بن صالح وليس بالمشهور تحمل العلم ولا ممن يحتج به فرفعه،
ورواه الدَّرَاورديُّ عن هشام عن أبيه وعن سالم عن أبيه، قَالَ الدَّارَقُطْني: لم
يبلغ عليٌّ هذا.
قال ابن بطَّالٍ: غرض البخاري بموقوفِ ابنِ عمرَ ردّ قول من منع الصلاة عند استواء
الشمس وهو ظاهر. قوله: (لا أمنعُ أحدًا يُصَلِّي بليلٍ أو نهارٍ) وهو قول مالك
والليث والأوزاعي، قال مالك: ما أدركتُ أهل الفضلِ والعبادة إلا وهم يتحرون ويصلون
نصف النهار، وعن الحسن وطاوس مثله.
والذين منعوا الصلاة نصف النهار عمر وابن مسعود والحكم، وقال الكوفيون: لا
يُصْلَّى نصف النهار لا فرض ولا نفل، وقال أبو يوسف والشافعي: لا بأس بالتطوع نصف
النهار يوم الجمعة خاصةً؛ لأن جهنم -أعاذنا الله تعالى منها- لا تسجرُ يوم الجمعة.
رواه أبو داود من حديث أبي الخليل عن أبي قتادة ولم يلقه.
(1/126)
وأجاز
مكحول الصلاة نصف النهار للمسافر، وكان مسروق يصلي نصف النهار، فقيل له: إن الصلاة
في هذه الساعة تكره، فقال: ولم؟ قال: قالوا إنَّ أبواب جنهم تفتح نصف النهار،
فقال: الصلاةُ أحقُّ ما اسْتُعِيْذَ به من جهنم حين تفتح أبوابها.
وفيما أذن إليَّ جدي أبو البركات محمد بن عامر بن حسين الأجْدابيُّ وكتبه لي بخطه
عن الشيخ القدوة شهاب الدين عمر بن محمد السَّهْرَوَرْدِيِّ بجميع كتاب «عوارف
المعارف» تأليفه قال: وأما كراهة الصلاة بعد العصر والصبح فهو لموضع الترويح
لتستريحَ عُمَّالُ الله تعالى، وترتفق النفوس، وحديث أبي هريرة نهى عن بيعين وعن
لبستين يأتي في كتاب البيوع.
(بَابٌ لاَ يتَحَرَّى الصَّلاَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ)
حديث ابن عمر تقدم.
586 - حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ
الجُنْدَعِيُّ، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ،
وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ».
%ج 1 ص 72%
[خ 586]
(1/127)
وعند
النسائي: «حَتَّى تَبْزُغَ الشَّمْسُ» وعنده أيضًا عن علي: «لا تُصَلُّوْا بَعْدَ
العَصْرِ إِلاَّ أَنْ تُصَلُّوْا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ» وسنده صحيح، وإنَّ
صيغة النفي إذا دخلت على فعل في ألفاظ صاحب الشرع فالأولى حملها على نفي الفعل
الشرعي لا على نفي الفعل الجودي فيكون قوله: (لا صَلَاةَ) نفيًا للصلاة الشرعية لا
الحسية، وإنما قيل ذلك؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ الشارعَ تطلقُ ألفاظه على عُرْفِهِ وهو
الشرعي، وأيضًا فإنه إذا حُمِلَ على الفعل الحسي وهو غير منفي احتجنا إلى إضمارٍ
لتصحيح اللفظ وهو الذي يسمى دلالة الاقتضاء، وبَيَّنَّا النظر في أن اللفظ يكون
عامًا أو مجملًا أو ظاهرًا في بعض المحامل، أما إذا حملناه على نفي الحقيقة
الشرعية لم يحتج إلى إضمار فكان أولى.
587 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ،
عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ، يُحَدِّثُ عَنْ
مُعَاوِيَةَ، قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلاَةً لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا، وَلَقَدْ نَهَى
عَنْهُمَا»، يَعْنِي: الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ. [خ 587]
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: قال فيه عثمان بن عمر عن شعبة عن أبي التَّيَّاحِ عن
مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ عن معاوية، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي، فقيل: كان أبو
التياح سمعه منهما.
(1/128)
وذكر
الدَّارَقُطْني والكَلَابَاذِيُّ وابن طاهرٍ: أن محمدًا بن أبان المذكور هنا هو
البَلْخِيُّ، وقال ابن عدي: هو محمد بن أبان بن عمران بن زياد السُّلَمي الواسطي،
وقال الحياني: قال لنا الوليد الباجي هو محمد بن أبان الواسطي، وغلط الكلاباذيُّ
في ذلك؛ لأن البلخي يروي عن الكوفيين والواسطي يروي عن البصريين، وزعم أبو الحجاج
الدمشقي أنَّ الأشبهَ البلخيُّ، قال: وما ذكره ابن عدي محتمل فإن البخاري ذكر
الواسطي في تاريخه «الكبير» ولم يذكر فيه البلخي ولم يذكر ابنُ أبي أحدَ عشر في
الجمع بين الصحيحين إلا البلخي.
(بَابُ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاَةَ إِلَّا بَعْدَ العَصْرِ وَالفَجْرِ)
رَوَاهُ عُمَرُ، وَابنُ عُمَرَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ هذه كلها
تقدمت مسندة عنده، والله تعالى أعلم.
(بَابٌ مَا يُصَلَّى بَعْدَ العَصْرِ مِنَ الفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا)
وَقَالَ كُرَيْبٌ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بَعْدَ العَصْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: «شَغَلَنِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ
القَيْسِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ».
هذا التعليق أخرجه مسندًا في السهو وفي وفد عبد القيس.
عنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عنِ ابنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرو بنِ الحارثِ، عَنْ
بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، أَنَّ ابنَ عَبَّاسٍ، وَالمِسْوَرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ أَزْهَرَ أَرْسَلُوهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالُوا: اقْرَأْ عَلَيْهَا
السَّلاَمَ مِنَّا
%ج 1 ص 73%
(1/129)
جَمِيعًا،
وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ، وَقُلْ لَهَا: إِنَّا
أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينهمَا، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنْهُمَا، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ
النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَنْهمَا، قَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى
عَائِشَةَ فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي به، فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ،
فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ
سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهُمَا،
ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى العَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ وَعِنْدِي
نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ
الجَارِيَةَ، وَقُلْتُ: قُومِي بِجَنْبِهِ وَقُولِي: تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا
رَسُولَ اللهِ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ، وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا،
فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخِرِي، فَفَعَلَتِ الجَارِيَةُ، فَأَشَارَ
بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «يَا بِنْتَ أَبِي
أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِي
نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ
بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ».
وعند مسلم: «ناسٌ منْ عَبْدِ القَيْسِ بِالإِسْلاَمِ مِنْ قَوْمِهِمْ».
(1/130)
وعند
البيهقي: قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ أَكُنْ أَرَاهُ
يُصَلِّيْهِمَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ لَقَدْ صَلَّيْتَ صَلاةً لمْ أَكُنْ
أَرَاكَ تُصَلِّيْها، قَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ
الظُّهْرِ، وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ صَدَقَةٌ
شَغَلُونِي عَنْهُمَا فَهُمَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ».
وعند أحمد: قَدِمَ عَلَيَّ مَالٌ، فَشَغَلَنِي عَنْ رَكْعَتَيْنِ كُنْتُ
أَرْكَعُهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَنقْضِيهِمَا
إِذَا فَاتَتْنَا، قَالَ: «لَا».
وعند ابن ماجهْ: من حديث يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ يَتَوَضَّأُ فِي بَيْتِي لِلظُّهْرِ، وَكَانَ قَدْ
بَعَثَ سَاعِيًا، وَكَثُرَ عِنْدَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَقَدْ أَهَمَّهُ شَأْنُهُمْ،
إِذْ ضُرِبَ الْبَابُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ جَلَسَ
يَقْسِمُ مَا جَاءَ بِهِ السَّاعِي، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى الْعَصْرِ،
ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلِي فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: «شَغَلَنِي أَمْرُ
السَّاعِي أَنْ أُصَلِّيَهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ».
وعند الترمذي عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: «إِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، لِأَنَّهُ أَتَاهُ مَالٌ فَشَغَلَهُ
عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ العَصْرِ ثُمَّ لَمْ
يَعُدْ لَهُمَا». وقال: حديث حسن، قال: وقد رُوِيَ عن غير واحد عن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه صلى بعد العصر ركعتين.
وهذا خلاف ما روي أنه نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وحديث ابن عباس أصح
حيث قال: لم يَعُدْ لهما.
(1/131)
وقوله:
(كنتُ أَضْرِبُ الناسَ عليهَا) هذه الرواية الصحيحة، وفي رواية: (أَصْرِفُ) بالفاء
والصاد المهملة واختلف في الإشارة في الصلاة
%ج 1 ص 74%
فقال مالك والشافعي: لا تقطع الصلاة، وعند أبي حنيفة وأصحابه يقطع الصلاة كالكلام
مستدلين بما رواه أبو داود مرفوعًا: «مَنْ أَشَارَ إِشَارَةً تُفْهَمُ عَنْهُ
فَلْيُعِد الصَّلاَةَ».
ثم قال: هذا الحديث وهم، وعند الدَّارَقُطْني أن ابنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُصَلِّيْ
رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ فَأَنْكَرَهَا عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فألجأ الحديث
إلى أمِّ سلمة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يصليهما قبل العصر
فَشُغِلَ عنهما فَصَلَّاهُمَا قبل المغرب وأنها لم تَرَهُ صلاهما قبلُ ولا بعدُ.
590 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ،
حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ، مَا
تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ عزَّ وجلَّ، وَمَا لَقِيَ اللهَ حَتَّى ثَقُلَ
عَنِ الصَّلاَةِ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاَتِهِ قَاعِدًا - تَعْنِي
الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ- «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا، وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ، مَخَافَةَ أَنْ
يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ». [خ 590]
وفي لفظ: «مَا تَرَكَ السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ عِنْدِي قَطُّ».
وفي لفظ: «رَكْعَتَانِ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا سِرًّا وَلاَ عَلاَنِيَةً:
رَكْعَتَانِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ العَصْر».
وفي لفظ: «مَا كَانَ يَأْتِينِي فِي يَوْمٍ بَعْدَ العَصْرِ، إِلَّا صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ».
(1/132)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ: «كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا
-أَوْ نَسِيَهُمَا- فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ
إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا».
وعند الدَّارَقُطْني: «كَانَ لَا يَدَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ،
وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ».
وفي لفظ: دَخَلَ عَلَيْهَا بَعْدَ العَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ: يَا
رَسُوْلَ اللهِ أَحَدَثَ بالنَّاسِ شيءٌ؟ قَالَ: «لَا إِلاَّ أَنَّ بِلاَلًا
عَجَّلَ الإِقَامَةَ فَلَمْ أُصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ العَصْرِ فَأَناَ
أَقْضِيْهِمَا» إِلاَّ أَنْ قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَفَنقْضِيْهما إِذَا
فَاتتَانَا؟ قَالَ: «لاَ».
وفي لفظ: «كانَ يُصَلِّي الرَّكْعَتينِ ويَنْهَى عنهما».
وفي لفظ: «وَلمْ أَرَهُ عَادَ لَهُمَا».
وفي لفظ محمد بن عمرو بن عطاء عن عبد الرحمن بن أبي سفيان أَنَّ مُعَاوِيَةَ
أَرْسَلَ إليهما يَسْأَلُهَمَا عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَقَالَتْ: لَيْسَ
عِنْدِيْ صَلَّاهُمَا وَلَكِنْ أُمُّ سَلَمَة حَدَّثَتْنِي فَذَكَرَهُ.
(بَابُ الأَذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ)
حديثه تقدم في باب الصعيد الطيب، وذكر الداودي أن في باب من صلى بالناس جماعة بعد
ذهاب الوقت، وذكر الداودي أن في رواية مالك أخذ بنفسي فسماها نفسًا كما في القرآن،
وسماها النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ روحًا فدل على أن هذه النفس هي الروح،
وأنهما اسمان لها ولها اسم ثالث وهي النَّسَمة، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«إِنَّمِا نَسَمَةُ المؤْمِنُ طَائِرٌ مُعَلَّقٌ فِي الجَنَّةِ» وقد يقع اسم النفس
واسم النَّسَمَة على كلمة الإنسان فيقال
%ج 1 ص 75%
ثلاثة أنفس وكذا وكذا نفسًا، ويقال للجماعة نسمة كما يقال للناس إنسان، قال: وبارئ
النسمة.
(1/133)
596
- حَدَّثَنا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، جَاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ،
بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ،
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَاللهِ مَا صَلَّيْتُهَا»
فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلاَةِ. [خ 596]
وعند أحمد بن حنبل من حديث أبي سعيد قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ
الصَّلَاةِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى
كُفِينَا، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِلَالًا، فَأَقَامَ
صَلَاةَ الظُّهْرِ فَصَلَّاهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ
أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ، فَصَلَّاهَا كذلكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ
الْمَغْرِبَ، فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ
فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ عز وجل فِي
صَلَاةِ الْخَوْفِ {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]
وفي لفظ عند النسائي «حُبِسْنَا عَنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاء، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ».
قال بعض العلماء كأنه يريد على تقدير الصحة أن تكون العشاء فاتته عن وقتها الذي
كان يصليها فيه غالبًا.
وعند الترمذي من حديث أبي عبيدة عن أبيه «إِنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الخَنْدَقِ،
فَأَمَرَ بِلاَلًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ» الحديثَ. وعِنْدَ
مُسْلِمٍ: «وَاللهِ إِنْ صَلَّيْتُهَا».
(1/134)
وقال
حديث عبد الله ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، وفي
«المصنف»: حتى ذهب من الليل ما شاء الله.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ «حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ واصْفَرَّتْ».
وفي «مسند أحمد» من حديث ابنُ لَهِيعَةَ أَنَّ أَبَا جُمُعَةَ حَبِيبَ بْنِ
سِبَاعٍ قال: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَامَ الْأَحْزَابِ
صَلَّى الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «هَلْ عَلِمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنِّي
صَلَّيْتُ الْعَصْرَ؟». قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللهِ مَا صَلَّيْتَهَا، فَأَمَرَ
الْمُؤَذِّنَ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَعَادَ
الْمَغْرِبَ.
قال ابن شاهين: يتعين أنه ذكرها وهو في الصلاة؛ لأنه لا يعيد بعد تمامها، والله
أعلم.
وعند الشافعي الترتيب مستحب وهو قول طاوس والحسن وأبي ثور، ومذهب ابن القاسم
وسحنون أن الترتيب غير واجب ولا يشترط وكذا مذهب أهل الظاهر.
واستدلَّ بهذه الأحاديث من أوجب الترتيب وشرطه وهو أبو حنيفة وقبله النخعي والزهري
وربيعة ويحيى والليث ومالك وأحمد وإسحاق، وعن ابن عمر ما يدلُّ عليه، ويدلُّ لهم
أيضًا رواه أبو إبراهيم البَرجُمَاني عن سعيد بن عبد الرحمن الجُمَحِيِّ عن عبيد
الله عن نافع
%ج 1 ص 76%
عن ابن عمر رفعه: «منْ نَسِيَ صلاةً فلمْ يَذْكُرْهَا إلا معَ الإمامِ فَلْيُصَلِّ
معَ الإمامِ فَإِذَا فرغَ منْ صلاتِهِ فَلْيُصَلِّ التي نَسِيَ ثُمَّ ليُعِدْ
صلاتَهُ التي صلَّى معَ الإمام» قَالَ الدَّارَقُطْني: وهِمَ فيه البَرْجُمَانِيُّ
والصحيح أنه من قول ابن عمر.
(1/135)
وقال
أبو زُرْعَةَ لما سُئِلَ عنه: هذا خطأ، رواه مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفًا وهو
الصحيح، وأُخْبِرْتُ أن يحيى بن معين انتخب على البرجماني فلما بلغ هذا الحديث
جاوزه فقيل له: كيف لا تكتب هذا الحديث؟ فقال يحيى: فعل الله بي كذا وكذا إن
كتبته.
واستدلوا أيضًا بما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة قال صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلاَة» قال أبو بكر: وهو باطلٌ،
وتَأَوَّله جماعة على معنى لا نافلة لمن عليه فريضة، وقال ابن الجوزي: هذا نسمعه
على ألسنة الناس وما عرفنا له أصلًا.
وقال إبراهيم الحربيُّ: قيل لأحمد بن حنبل ما معنى قوله: صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلاَة» قال: لا أعرف هذا البتة.
قال الحربي: ولا سمعت أنا هذا الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقال
في المنافع تمسكًا بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ
أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» ووجهه
أنه جعل وقت الذكر وقتًا للفائتة، والوقت الواحد لا يتسع لفرضين إذًا، فكانت
الوقتيةُ مُؤَخَّرةً عن الفائتة ولأنه إذا أدى الوقتية مؤخرة عن الفائتة ولأنه إذا
أدى الوقتية في وقت الفائتة فقد أخر الفائتة عن وقتها وتأخرها عن وقتها حرام ولأنه
لما صار وقتًا للفائتة صار كأن الفرضين اجتمعا في وقت واحد فيراعى فيهما الترتيب
كالظهر والعصر بعرفة والمغرب والعشاء بالمزدلفة وهذا إجماع.
وأما ما استدلَّ به من لا يوجب الترتيب فما ذكره الدَّارَقُطْني من حديث بَقِيَّةَ
عن عُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَرَ, عَنْ مَكْحُولٍ, عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رفعه: «إِذَا
نَسِيَ أَحَدُكُمُ صَّلَاةَ فَذَكَرَهَا وَهُوَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ
فَلْيَبْدَأْ بِالَّتِي هُوَ فِيهَا، فَإِذَا فَرَغَ صَلَّى الَّتِي نَسِيَهَا».
(1/136)
قال
ابن العربيُّ: هذا حديثٌ جمعَ ضعيفًا، وفي «شرح الهداية»: شرع في العصر في أول
وقتها وصلى منها ركعة ثم ذكر أنه لم يصل الظهر يقطعها ويصلِّ الظهر كالمتيمم إذا
رأى الماء فإن مضى فيها يكون متطوعًا عند أبي يوسف وهو أظهر الروايتين عن أبي
حنيفة، وفي قول محمد: لا يجزئه عن التطوع وهو رواية عن أبي حنيفة، وفي قول محمد
وبه قال زفر، وقيل: يصلي ركعتين ويسلم، وعند محمد: يفسد.
وأما تضييق وقت الحاضرة فلأن جواز المكتوبة في الوقت بالكتاب والترتيب بخبر
الواحد، فإذا كان في الوقت سعة أمكن العمل بهما، وعند تضييق الوقت يتعذر
%ج 1 ص 77%
العمل بهما فالعمل بالكتاب أولى، فإذا خرج الوقت عاد الترتيب في الوقت الثاني بعد
سقوط تضييق الوقت.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقالت طائفة يبدأ بالفائتة وإن فاتت الوقتية وهو قول عطاء
والزهري ومالك والليث، واتفق مالك وأصحابه على أن حكم الأربع فما دونها حكم صلاة
واحدة يبدأ بهن وإن خرج الوقت، واختلفوا في خمس، وقال زفر: ترك صلاة شهر بعد
المتروكة لا تجوز الحاضرة، وقال ابن أبي ليلى: من ترك صلاة لا تجوز صلاة سنة بعدها
قال: من نسي صلاة ولم يعرفها يصلي خمس صلوات، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي.
وعند أبي حنيفة الكثير سِت، وفي قول محمد خمس، وقال العَتَّابيُّ الحنفيُّ: يصلي
أربع ركعات بثلاث قعدات ينوي مما عليه، وقال الأوزاعي: يصلي أربع ركعات لا يقعد
إلا في الثانية والرابعة ويسجد للسهو وينوي في أدائها مما عليه من علم الله تعالى.
(بَابُ مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، وَلاَ يُعِيدُ إِلَّا
تِلْكَ الصَّلاَةَ)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَنْ تَرَكَ صَلاَةً وَاحِدَةً عِشْرِينَ سَنَةً، لَمْ
يُعِدْ إِلَّا تِلْكَ الصَّلاَةَ.
(1/137)
وذكر
الدَّاوديُّ عن الحسن أنه قال: يعيد ما بعدها، وهذا إذا تركها ناسيًا فيعيدها وما
أدرك وقته عند مالك، فإن كان ذاكرًا لها وصلى صلوات كثيرة ففي «المدونة»: يعيدها
وحدها وشذَّ بعض الناس فقال: لا يقضي.
597 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالاَ: حَدَّثَنا
هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أنه قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ
كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}» قَالَ مُوسَى:
قَالَ هَمَّامٌ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَعْدُ: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ للذِّكْرَى}
وَقَالَ حَبَّانُ: حَدَّثَنا هَمَّامٌ، حَدَّثَنا قَتَادَةُ، حَدَّثَنا أَنَسٌ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَحْوَهُ. [خ 597]
هذا حديث خرجه الستة في كتبهم، وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ
الصَّلَاةِ، أَوْ غَفَلَ عَنْهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ اللهَ
يَقُولُ: {أَقِمِ الصَّلَاةِ لِذِكْرِي}».
وعند النسائي: «أو يَغْفُلُ عنها فإنَّ كفَّارَتَها أنْ يُصَلِّيْها إذا ذكرها».
وعند ابن ماجه: سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَغْفُلُ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ يَرْقُدُ
عَنْهَا، قَالَ: «يُصَلِّيهَا إِذَا ذَكَرَهَا».
وفي معجم أبي الحسين محمد بن أحمد بن جُمَيْعٍ الغَسَّاني، حَدَّثَنا محمد بن جعفر
بن المُستَفَاضِ، عن محمد بن أحمد بن الجنيد، حَدَّثَنا عبد الله -يعني ابن يزيد-
المقرئ، حَدَّثَنا أبو عوانة وأبو جُزَي نصر بن طريف وحماد بن سلمة وهمام بن يحيى
في آخرين عن قتادة عن أنس: «إِذَا ذَكَرَها أَوْ إِذَا اسْتَيْقَظَ» أخبرنا بذلك
المسند المعمِّرُ
%ج 1 ص 78%
(1/138)
الأصيل
أبو الفضل عبد المحسن أحمد بن محمد قراءة عليه، أخبرنا الإمام أبو حامد بن
الصابوني، أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل، أخبرنا أبو
الحسن علي بن المسلم السُّلَمِي، حَدَّثَنا أبو نصر الحسين محمد بن طلاب عنه.
وفي «صحيح الإسماعيلي» عن محمد بن عمران وأبي عبد الله الصوفي، حَدَّثَنا علي بن
الجُعَيْد، أخبرني همام عن قتادة، وقال الصوفي: سمعت أنسًا.
وقال أبو العباس الطرقي: إيراد الآية الكريمة عن قتادة فيما ذكره هُدْبَة عنه، وفي
حديث الشَّعبِيّ عنه: كُنْتُ مَعَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في سَفَرٍ
فَقَالَ: «مَنْ يَكْلَؤُنَا اللّيْلَةَ؟». فَقُلْتُ: أَنَا، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَنَامَ النَّاسُ وَنِمْتُ فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ
إِلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ عَارِيَّةٌ، وَأَجْسَادُ الْعِبَادِ
يَقْبِضُهَا إِذَا شَاءَ وَيُرْسِلُهَا إِذَا شَاءَ فَاقْضُوا حَوَائِجَكُمْ عَلَى
رِسْلِكُمْ» ح أخبرنا به المسند شرف الدين يحيى المقدسي قراءة عليه عن الإمام بهاء
الدين الشافعي أخبرنا شهدة قراءة عليها، أخبرنا ابن هَرِيسة، أخبرنا البرقاني،
أخبرنا الإسماعيلي، أخبرنا محمد بن الحسن أخبرنا أبي حَدَّثَنا عتبة عنه.
(1/139)
قَالَ
القُرْطُبِيُّ وغيره: في الحديث دليل على وجوب القضاء على النائم والناسي كثرت
الصلاة أو قلت، وهذا مذهب العلماء كافة، وحُكِيَ خلافٌ شاذٌّ عن بعض الناس فيمن
زاد على خمس صلوات أنه لا يلزمه قضاء وهو شيء لا يعبأ به، فإن ترك الصلاة عمدًا
فالجمهور على وجوب القضاء إلا شيئًا حكيَ عن داود وأبي عبد الرحمن الأشعري، قال
أبو محمد ابن حزم وممن قال بقولنا هذا عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وسعد بن أبي
وقاص وابن مسعود وسلمان والقاسم بن محمد وبديل بن ميسرة العُقَيْلي ومحمد بن سيرين
ومطرف بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وسالم بن أبي الجعد وغيرهم.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: احتج الجمهور بأمور منها: أنه قد ثبت الأمر بقضاء الناسي
والنائم من غير إثم فالعامد أولى.
الثاني: التمسك بعموم قوله: (منْ نَسِيَ صلاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا)
والعامد ذاكرٌ لتركها فيلزمه قضاؤها.
الثالث: التمسك بعموم قوله: (منْ نَسِيَ صلاةً) أي: من حصل منه نسيان، والنسيان هو
الترك سواء أكان مع ذهولٍ أو لم يكن، ودلَّ على هذا قوله تعالى {نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أي: تركوا أمره فتركهم في العذاب.
الرابع: التمسك بقوله: (منْ نَسِيَ صلاةً فَكَفَّارَتُها» والكفارة إنما تكون عن
الذنب غالبًا، والنائم والذاهل والناسي ليسوا بآثمين فتعيَّن العامد.
الخامس: قوله: تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي: ليذكرني فيها على
أحد التأويلات
%ج 1 ص 79%
السادس: أن القضاء يجب بالخطاب الأول؛ لأن خروج وقت العبادة لا يُسْقِطُ وجوبها؛
لأنها لازمة في ذمة المكلف كالديون، وإنما تسقط العبادة أو بعد شرطها ولم يحصل شيء
من ذلك وهو أحد القولين للأصوليين والفقهاء، وزعم ابن بطال أن يوم الخندق تُرِكَتْ
صلاة الظهر والعصر قصدًا للشغل بقتال العدو ثم أُعِيْدَا بعد المغرب.
(1/140)
وقوله:
(لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذلكَ) وقد قال في موضع آخر: «ليسَ فِي النَّوْمِ
تفريطٌ» وقال: «رُفِعَ عنْ أُمَّتِي الخَطَأَ والنِّسْيَانَ» فيجاب: أن مع الخطأ
قد تكون الكفارة كقتل الخطأ أو يكون لما توهموا أن في هذا الفعل كفارة بين لهم
أَلَّا كفارة، وإنما يجب القضاء فقط من غير شيء آخر.
وقوله: (إِذَا ذَكَرَهَا) تعلَّقَ به من يقول يقضي الفوائت في الوقت المنهي عن
الصلاة فيه، باب ما يكره من السمر بعد العشاء تقدم في وقت الظهر وكذا باب السمر في
الخير تقدَّم، حَدَّثنَاه قريبًا.
(بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالأَهْلِ)
(1/141)
602 - حَدَّثَنا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنا مُعْتَمِرُ، حَدَّثَنا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ، كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ، وَإِنْ أَرْبَعَةٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ» وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ، وانْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ، قَالَ: فَهُوَ أَنَا وَأَبِي وَأُمِّي -ولاَ أَدْرِي هَلْ قَالَ: وَامْرَأَتِي وَخَادِمٌ- بَيْنَ بَيْتِنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ لَبِثَ حَتَّى صُلِّيَتِ العِشَاءُ، فَجَاءَ بَعْدَمَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ -أَوْ قَالَتْ: ضَيْفِكَ- قَالَ: أَوَمَا عَشَّيْتِهِمْ؟ قَالَتْ: أَبَوْا حَتَّى تَجِيءَ، قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ، فَقَالَ يَا غُنْثَرُ فَجَدَّعَ وَسَبَّ، وَقَالَ: كُلُوا لاَ هَنِيئًا، فَقَالَ: وَاللهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا، وَايْمُ اللهِ، مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، قَالَ: شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أَوْ أَكْثَرُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِي، لَهِيَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ -يَعْنِي يَمِينَهُ- ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً، ثُمَّ
(1/142)
حَمَلَهَا
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ، وَكَانَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ، فَمَضَى الأَجَلُ، فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ
رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ، اللهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ
رَجُلٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ، أَوْ كَمَا قَالَ
%ج 1 ص 80%
[خ 602]
(الصُّفَّةُ) موضعٌ مظلل في المسجد كان للمساكين والغرباء - وهم الأوفاض - يأوون
إليه، وعدَّ منهم أبو نعيم في «الحلية» مئة ونيفًا.
قوله: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ» أصح ما في
مسلم لو حُمِلَتْ على ظاهرها فسد المعنى وذلك أَنَّ الَذِي كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ
اثْنَيْنِ إِذَا أَكَلَهُ فِي خَمْسَةٍ لمْ يَكْفِ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلاَ
يُمْسِكُ رَمَقَهُ بِخِلافِ الوَاحِدِ.
قال النووي: وللذي في مسلم له أيضًا له وجه تقديره: فليذهب بمن يتم ثلاثة أو بتمام
ثلاثة كما قال تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}
[فصلت: 10] أي في تمام أربعة أيام.
قال ابن العربي في سراج الدين: لم يقل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إن طعام
الاثنين يشبع الثلاثة إنما قال يكفي وهو غير الشبع، وكانت المواساة إذ ذاك واجبة
لشدة الحال، وأخذه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عشرة.
قال النووي: يدل أنه أتى بصنف طعامه أو نحوه؛ لأن عياله إذ ذاك كانوا قريبًا من
عدد أضيافه.
وأم رومان -بضم الراء وفتحها- قالَ السُّهَيلي: اسمها دعد، وقال غيره: زينب، وهي
من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة.
وقوله: (وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ) كذا في روايتنا، وفي رواية
أبي ذرٍّ السالفة: (وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ).
قوله: (ثمَّ رَجَعَ) وفي «صحيح الإسماعيلي» مجردًا (ثم رَكَعَ).
(1/143)
وقوله:
(حَتَّى تَعَشَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «حَتَّى
نَعِسَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وامتناع أضيافه من الأكل رفقًا به
لظنهم أنه لا يجد عشاءً فصبروا حتى يأكل معهم.
وقولها: (عَرَضُوا) قَالَ ابنُ التِّيْنِ: أي عرضوا أهل الدار فأبى الضيفان، وفي رواية:
«فَعَرَضْنَا عَلَيْهِمْ) ويروى (عُرِضُوا) بضم العين، ويروى (عَرصُوا) بصاد غير
معجمة، قال: ولا أعلم لها وجهًا. انتهى.
يُحْتَمل أن يكون من عرض بمعنى نشط، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: فكأنه يريد أن أهل
البيت نشطوا في العزيمة عليهم والله تعالى أعلم.
واختباء عبد الرحمن خوفًا من خصام أبيه؛ لأنه لم يكن في المنزل من الرجال غيره أو
لأنه أوصاه بهم.
و (الغُنْثرُ) بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة أيضًا.
قال عياض: وعن بعض الشيوخ وقَالَ الخَطَّابِيُّ وغيره: (يَا عَنْتَر) يعني: مهملة
مفتوحة وتاء مثناة من فوق مفتوحة بعد النون.
قال ابن قُرْقُول: والصحيح الأول، ومعناه: يا لئيم يا دنيء، وقيل: الثقيل الوخم،
وقيل: الجاهل من الغثارة وهي الجهل والنون زائدة، وقيل: مأخوذ من الغنثر وهو
السقوط، وأما الثاني: فقيل هو الذباب الأزرق وصفه به تحقيرًا له.
%ج 1 ص 81%
وقوله: (تَجَدَّعَ) يعني بجيم ودال مهملة مشددة دعا عليه بقطع الأنف أو الأذن أو
الشفة وهو بالأنف أخص، وقيل: معناه السَّبُّ، قَالَ القُرْطُبِيُّ: وفيه بعدٌ
لقوله: (فَجَدَّعَ وَسَبَّ).
قال ابنُ قُرْقُول وعند المروزي: (فَجَزَعَ) بالزاي، قال: وهو وهمٌ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: وكل ذلك من أبي بكر على ابنه ظنًا منه أنه فرط في حق الأضياف
فلما تبين له أن ذلك كان من الأضياف إذ بهت بقوله: (كُلُوا لَا هَنِيئًا) وحلف أن
لا يطعمه، وقيل: إنه ليس بدعاء عليهم إنما هو خبر أي: لم يَتَهَنَّوا به في وقته،
وقال السَّفَاقُسيُّ: إنما خاطب بذلك أهله لا أضيافه.
(1/144)
وفي
رواية: (قَالُوا لَا نَأْكُلُ إِلَّا بِمَحْضَرٍ منْ أَبِي بَكْرٍ) يريدون التبرك
بمؤاكلته.
وقوله: (وَايْمُ الله) ألفه ألف وصل، وقيل: قطع، وهو حلف وضع للقسم ولم يجئ في
الأسماء ألف وصل مفتوحة غيره، ويقال: أيم بفتح الهمزة وكسرها وبحذف الياء، فقالوا:
أمُ الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا: مُ الله ثم تكسر؛ لأنها صارت
حرفًا واحدًا فقالوا: مِ الله.
ويقال: مُنُ الله بضم الميم وزيادة النون المضمومة، وَمَنُ الله بفتحها، ومِنِ
الله بكسرهما، قال أبو عبيدة: والأصل فيه يمين الله ثم جمع يمين على أيمن وحلفوا
به، فقالوا: أيمن ثم كثر في كلامهم وزحف على ألسنتهم وفي «التسهيل»: أيمَن الله،
وأيمُن الله وأيمِن الله ومنَ الله بتثليث الحرفين، وم مثلها، وليست الميم بدلًا
من واو ولا أصلها «من» خلافًا لمن زعم ذلك، ولا أيمن جمع يمين خلافًا للكوفيين.
وقوله: (رَبَا) من أسفلها أكثر بالمثلثة وبالباء الموحدة، فأزال الله تعالى ذلك
النكد الذي كان حصل بما أبداه من الكرامة والبركة في ذلك الطعام فعاد ذلك النكد
سرورًا وانقلب الشيطان مدحورًا، فعند ذلك عاد أبو بكر إلى مكارم الأخلاق فأكل معهم
وطَيَّبَ قلوبهم وحصل مقصودهم، ورأى أن الحنث أولى من التمادي على اليمين.
وفيه إثبات كرامات الأولياء.
وقولها: (لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِي) قَالَ الدَّاودِيُّ: أرادت النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فأقسمت به.
وقَالَ القُرْطُبِيُّ: أقسمت لما رأت من قرة عيني ما بكرامة الله تعالى لزوجها،
ولا هنا زائدة، ويحتمل أن تكون نافية، وفيه محذوف: أي لا شيء غير ما أقول وهو قرة
عيني، قال ثعلب: تقول قَرَرْتُ به عينًا أَقَرُّ، قال ابن خَالَوَيْه: أي ضحكتُ
فخرج من عيني ماء قرور وهو البارد وهو ضد أسخن الله عينه، قال القَزَّازُ: وقال
أبو العباس ليس كما ذكر الأصمعي من أن دمعة الفرح
%ج 1 ص 82%
باردة والحزن حارة، قال: بل كل دمع حار.
(1/145)
قالوا:
ومعنى قولهم هو قرة عيني: إنما يريدون هو رضى نفسي، وحكى الْمُطَرِّزُ: سُئِلَ
ثعلب وأنا أسمع عن قول العرب قَرَّتْ عَيْنُهُ فقال اختلفوا فيه:
فقالت طائفة هو مأخوذ من القُرُور وهو الماء البارد.
وقال آخرون: قَرَّتْ من القَرار أي لا طمحت إلى ما يقرعك ويروعك وسكنت إلى رؤية
أحبابك.
قال: وقرة العين ناقة تُؤْخَذُ من المغنم قبل أن تُقْسمَ فَيُطْبَخُ لحمها ويصنع،
فيجتمع أهل العسكر عليه فيأكلون منه قبل القسمة، فإن كانوا من هذا فكأنه دعا له
بالفرحِ والغنيمة.
وفي «الكتاب الفاخر»: قال أبو عمر ومعناه أنام الله عينك، المعنى صادف سرورًا أذهب
سهره فنام.
وحكى القالي: أقر الله عينك، وأقر الله بِعَيْنَيْكَ، وفي «الغريب المصنف» و
«الإصلاح» وغيرهما: قَرِرْتُ وقَرَرْتُ قرةً وقرورًا، وفي «كتاب المثنى» لابن
عديس: وَقَرَّة وحكاها ابن سِيْدَه، وَفِي «الصِّحَاحِ»: تَقِرُّ وتَقَرُّ وأقرَّ
الله عينه أعطاه حتى يقر فلا يطمح إلى من هو فوقه.
وقوله: (إنَّمَا كانَ ذلكَ مِنَ الشَّيْطَانِ) وفي رواية: «بسم الله الأولى من
الشيطان» يعني: يمينه فأخزاه بالحنث الذي هو خير، وفي بعض الروايات: لما جاء
بالقصعة إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أكل منها.
قوله: (فَفَرَقْنَا) بالفاء المكررة وقاف من التفريق، أي: جعل كل رجل مع اثني عشر
فرقة.
وفي مسلم: «فَعَرَّفَنَا» بالعين والراء المشددة أي: جعلنا عرفاء نقباء على قومهم.
وفي البخاري ومعظم نسخ مسلم: «اثنا عشر» وفي بعض نسخ مسلم: «اثني عشر» وكلاهما
صحيح الأول على لغة من جعل المثنى بالألف في الأحوال الثلاثة قال تعالى: {إِنْ
هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] وقَالَ السَّفَاقُسيُّ: لعل ضبطه: (فَفُرِقْنَا)
بضم الفاء الثانية وترتفع اثنا عشر على أنه مبتدأ وخبره مع كل رجل منهم أناس.
(1/146)
وفي
الحديث دليل لما بوَّبَ البخاري السمر مع الضيف والأهل، وهو مبني على جواز ذلك بعد
العشاء لأسباب منها العرس وتجهيز الجيوش، وضعف وشغل مع الأهل والولد والنظر في
العلم وما أشبهه ولا يكون معارضًا بكونه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يكره
النوم قبلها والحديث بعدها، وتُحْتَمَلُ كراهته لذلك تعميمًا لا خير فيه، فقد كان
عمر فيما ذكره ابن أبي شيبة يَسْمُر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين، قال
علقمة: وأنا معهما.
وروي أن عليًّا صلى العتمة وقعد حتى أذن لصلاة الصبح، وكان ابن سيرين والقاسم
وأصحابه يتحدثون بعد العشاء.
%ج 1 ص 83%
وقال مجاهد: يكره السمر بعد العشاء إلا لمصلٍّ أو مسافر أو دارسِ علم.
قال ابن سيده: سَمَرَ يَسْمُرُ سَمَرًا وسُمورًا: لم يَنَمْ، وهُم السُمَّارُ
والسَّامرةُ، والسامر اسم للجميع، وقيل: السَّامر والسُّمَّار الذين يتحدثون
بالليل، والسَّمَرُ حديث الليل خاصة.
وفي «الجامع» للقَزَّاز: السَّمرُ أي ظل القمر؛ وإنما سمي الحديث سَمَرًا؛ لأنهم
كانوا يجلسون في ظل القمر وكثر ذلك حتى سموا الليل والنهار ابنَي سمير، أي ما
اختلف الليل والنهار، وفي «الغريبين»: السَّامر الجماعة يتحدثون ليلًا.
(بَاب بَدْء الأَذَانِ)
وَقَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ}
[المائدة: 58] وَقَوْلُهُ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}
الآية [الجمعة: 9]، يحتمل أن يكون الشيخ رحمه الله تعالى ذكر هاتين الآيتين تبركًا
أو يحتمل أن يكون أراد ما بوَّب له وهو بدء الأذان، وإن ذلك كان بالمدينة وهاتان
الآيتان مدنيتان والله أعلم، وسيأتي عن ابن عباس الأذان نزل مع الصلاة: {يَا
أَيُّهَا الذينَ آمنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}.
(1/147)
603
- حَدَّثَنا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنا
خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ذَكَرُوا النَّاقُوسَ
والنَّارَ، فَذَكَرُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى «فَأُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ
الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ». [خ 603]
وفي لفظ: قال إسماعيل بن إبراهيم فذكرته لأيوب فقال إلاَّ الإقامة، وعند الشيخ ابن
حيَّان في «كتاب الأذان» تأليفه من حديث عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عن
خَالِد، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ: كَانَتِ الصَّلَاةُ إِذَا حَضَرَتْ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سَعَى رَجُلٌ فِي
الطَّرِيقِ فَنَادَى: الصَّلَاةُ الصَّلَاةُ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ،
فَقَالُوا: لَوِ اتَّخَذْنَا نَاقُوسًا؟ فَقَالَ رَسُوْلُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «ذَلِكَ لِلنَّصَارَى» فَقَالَوا: لو اتَّخَذْنَا بُوقًا فَقَالَ:
«ذَلِكَ لِلْيَهُودِ» فَقَالَوا: لَوْ رَفَعْنَا نَارًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ذلك للمَجُوْسِ» قَالَ: فَأُمِرَ بِلَالٌ ح، وعند
الطبراني من هذه الطريق: «فَأَمَرَ بَلَالًا».
قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: ترك محمد بن إسماعيل حديث سماك بن عطية وهو متصل بقوله:
(ويوتر الإقامة إلا الإقامة) وهو ما صححه عن حماد عن سماك عن أيوب عن أبي قلابة عن
أنس، وذكرها عن أيوب يعني مرسلة، وفي «صحيح ابن منده» هذه اللفظة من قول أيوب هكذا
رواه ابن المديني عن ابن عُلَيَّة فأدرجها سليمان عن حماد
%ج 1 ص 84%
ورواه غير واحد عن حماد ولم يذكروا هذه اللفظة.
(1/148)
وفي
«مسند السراج» عنْ محمد بن رافع وإسحاق بن إبراهيم، وعن الحسن بن أبي الربيع عن
عَبْدِ الرَّزَّاقِ عن مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ بِلَالٌ يُثَنِّي الْأَذَانَ، وَيُوتِرُ الْإِقَامَةَ،
إِلَّا قَوْلَهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ» أخبرنا بذلك الإمام العلامة محمد بن
محمد المغري، أخبرتنا أم محمد سيدة ابنة موسى المارنية عن أبي روح وابن السمعاني
وابن الصفار وزينب وإسماعيل القاري على ما هو مبين في الأصل.
حَدَّثَنَا وجيه بن طاهر، أخبرنا الإسناد أبو القاسم عبد الكريم القشيري، أخبرنا
أبو حسين الخفاف، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج فذكره، ولفظ
ابنِ خُزَيْمَةَ في «صحيحه»: «قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ».
وعند البيهقي من حديث أبان بن يزيد عن قتادة عن أنس أَنَّ بِلالًا كَانَ أَذَانُهُ
مَثْنَى مَثْنَى وَإِقَامَتُهُ مَرَّةً مَرَّةً.
قال ابن أبي حاتم عن أبيه في كتاب «العلل»: ورواه عبد الملك الجُدي عن عقبة عن
قتادة وهو خطأ، إنما هو شعبة عن خالد عن أبي قلابة، واعترض بعض العلماء على هذا
الحديث فقال: هذا حديث غير مرفوع لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ وفي ذلك نظر من وجوه:
الأول: أكثر أهل العلم من المحدثين والأصوليين على أن قول البخاري: أُمْرِنا بكذا
أو نُهِينا عن كذا مسندٌ مرفوع؛ لأن الظاهر ينصرف إلى من له الأمر والنهي وهو
سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سواء أضافه إلى زمنه أو لم يضفه، لا
سيما وقد قال في نفس حديث البيهقي ذكروا الصلاة عند النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فقالوا: نَوِّرُوا نارًا، فهذا نصٌّ في أن الآمر سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا غيره، وفي لفظ: حين أتاه ابنُ زيدٍ بالرؤيا أمر بلالًا أن
يؤذن مثنى مثنى ويقيم فرادى.
(1/149)
الثاني:
لو رُجِّحَ قول من خالف ما ذكرناه بقوله: قد رأينا جماعة من الصحابة قالوا ذلك
وفتشنا عليه فوجدنا الآمر غير رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أجيب بأنه
لو سلمنا لكم ما قلتم فإن هذا لا يتأتى في هذا الخبر مطلقًا؛ لأن بلالًا لم يؤذن
لأحدٍ بعد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا مرة واحدة لِعُمَرَ، وقيل: لم
يكملها، هذا هو المشهور، فصحَّ أن الآمر له هو النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
إذ لم يتأمر عليه في الأذان غيره وإلى هذا أشار ابن القطان وغيره.
الثالث: نتنزَّلُ أن هذا الآمر هنا يحتمل أن يكون غير النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ على ما قلتم، فتقول: بأنا وجدناه مصرحًا به من طريق صحيحةٍ مُسْنَدَةٍ
تبين أن الآمر هو سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 85%
أخبرنا بذلك المعمر ملحق الأصاغر بالأكابر أبو الحسن بن الضراب، أخبرنا ابن باقا،
أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا أبو محمد بن حمد، أخبرنا القاضي أحمد بن حسين، أخبرنا أبو
بكر أحمد بن محمد بن إسحاق، أخبرنا أحمد بن شعيب، حَدَّثَنا قتيبة بن سعيد،
حَدَّثَنا عبد الوهاب عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُشْفِعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ
الْإِقَامَةَ».
وخرجه ابن حبان في «صحيحه»: عن محمد بن عبد الله بن الجنيد، حَدَّثَنا قتيبة
والحاكم عن أبي العباس بن محمد، حدَّثَنَا ابن معين، حَدَّثَنا عبد الوهاب فذكره
ثم قال: هذا حديث أسنده إمام أهل الحديث ومزكي الرواة بلا مدافعة وقد تابعه عليه
الثقة المأمون قتيبة وهو صحيح على شرطهما ولم يخرجاه بهذه السياقة.
ورواه أبو الشيخ من حديث كثير بن سُلَيْم عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا بِهِ.
(1/150)
قال:
ورواه الزهري عن أنس، وقد وجدنا له أيضًا شاهدًا صحيحًا خَرَّجه ابنُ خُزَيْمَةَ
وابن حبان وأبو عوانة في صحيحهم من حديث ابن عمر: «كَانَ الأَذَانُ عَلَى عَهْدِ
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، والإقامةُ مرةً
مرةً، قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ» وقال الحاكم صحيح الإسناد،
وقال الجوزقاني هذا حديث صحيح.
وعند البيهقي في «السنن الكبير» من حديث ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن سعيد عن
عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وأبو عوانة في «صحيحه»: من حديث الشعبي عنه ولفظه:
«أَذَّنَ مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى». وحديث أبي محذورة عند الترمذي صحيحًا: «عَلَّمَهُ
الْأَذَانُ مَثْنَى مَثْنَى وَالْإِقَامَةُ مَثْنَى مَثْنَى» وحديث أبي
جُحَيْفَةَ: «أنَّ بِلالًا كَانَ يُؤَذِّنُ مَثْنَى مَثْنَى وَيُقِيْمُ مَثْنَى
مَثْنَى» ذكره الدَّارَقُطْني من طريق البكائي عن إدريس الأودي عن عون عن أبي
جحيفة عنه، وعنده أيضًا من حديث الأسود عن بلال أنه كان يؤذن فذكره.
وعند الطحاوي من جهة سُوَيْد بن غَفَلَةَ سمعت بلالًا يؤذن ح قال الحاكم: سويدٌ لم
يدرك أذان بلال في عهد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأبي بكر. انتهى.
أما قوله: لم يدرك أذانه من أبي بكر ففيه نظر من حيث إن بعضهم قال إنَّ خروج بلال
إلى الشام كان زمن عمر فعلى هذا يكون سمع أذانه الذي قيل لم يكمله، روى ذلك من جهة
ولد سعد القرظ، وإن كان ابن المسيب روى غير ذلك فلكلِّ خبر وجه، ولو قلنا به لكان
صحيحًا متصلًا لأمرين: الأول تصريحه بسماع بلال يفعل ذلك عند الطحاوي.
الثاني: قدومه كان يوم الوفاة، وكان بلال حيئنذ يؤذن رجاعًا لا سيما إلى أن بويع
أبو بكر، وعند ابن أبي شيبة من حديث الهَجَنَّع عن علي
%ج 1 ص 86%
وسمع مؤذنه يقيم مرة فقال: اجعلها مثنى، وعن سلمة بن الأكوع وأصحاب علي وعبد الله
مثله.
(1/151)
وفي
كتاب «الطحاوي»: عن مجاهد الإقامة مرةً مرة إنما هو شيء استخفَّه الأمراء، الإقامة
مرتان.
وفي «الأسرار» لأبي زيد: أول من أفرد الإقامة، وعن عون بن أبي جُحيفَةَ نحوه، وفي
«الخلافيات» كذلك بلفظ: نقص الإقامة، قال الحاكم وهذا دليل على إفراد الإقامة فإنه
قال: نقضَ بالضاد المعجمة ونقضها تثنيتها لا إفرادها. انتهى.
قد ورد ما يبين أنه بالمهملة، قال النخعي: فيما رواه أبو معشر: فإن أذان بلال
وإقامته مثنى مثنى حتى كان هؤلاء الملوك فجعلوها واحدة.
وقد رُوِيَ عن ابن عباس بسند ضعيف قاله الجوزقاني مرفوعًا: «منْ أفردَ الإقامةَ
فليسَ مني».
(1/152)
وعند
البيهقي عن ابنِ خُزَيْمَةَ: الترجيع في الأذان مع تثنية الإقامة من جنس الخلاف
المباح، إذ قد صح كلا الأمرين، فأما تثنية الأذان والإقامة فلم يثبت الأمر بهما،
قَالَ البَيْهَقِيُّ: وفي صحة التثنية في كلمات الإقامة سوى التكبير وكلمتي
الإقامة نظر، وعند الحازمي: قالوا حديث الحذاء ظاهر في النسخ؛ لأن بلالًا أمر
بالإفراد أول ما شرع الأذان، وحديث أبي محذورة كان عام حُنَيْن، وخالفهم في ذلك
أكثر أهل العلم فرأوا أن الإقامة فرادى وإلى هذا ذهب ابن المسيب وعروة والزهري
ومالك وأهل الحجاز والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق ومن تبعهم وذهبوا في ذلك إلى
حديث أنس، قال أبو عمرو: وبقول أبي حنيفة يقول الثوري والحسن بن حي وعبيد الله بن
الحسن وجماعة التابعين والفقهاء بالعراق متوارث عندهم بالعمل قرنًا بعد قرن. قال
الأثرم عن أحمد: من أقام مثنى مثنى لم أعنفه وليس به بأس وكذلك قاله إسحاق وداود بن
حريز قالوا لأنه قد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كل ذلك وعمل به
أصحابه، وحديث ثوبان كان بلال يؤذن ح ذكره في «الخلافيات» من حديث ابن أرطأة،
وحديث سلمة بن الأكوع ذكره ابن أبي حاتم في «علله»، وحديث أبي هريرة عند
الدَّارَقُطْني من حديث خالد بن عبد الرحمن المخزومي: حَدَّثَنا كامل أبو العلاء
عن أبي صالح عنه.
وفي البيهقي بسند صحيح إلى مكحول والزهري أنهما قالا: مضت السنَّة أن الأذان مثنى
والإقامة واحدة إلا قوله: قد قامت الصلاة فإنها مرتين، قال: ورُوِيَ نحوه عن
الحسن.
وعند ابن ماجه بسند صحيح عن سعد القرظ أن أذان بلال كان مثنى مثنى وإقامته مفردة.
وعند ابن عدي في «كامله» وقد قامت الصلاة مرة.
وعند ابن ماجه أيضًا بسندٍ فيه ضعف عن أبي رافع رأيت بلالًا يؤذن بين يدي رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 87%
مثنى مثنى ويقيم واحدة.
(1/153)
604
– حَدَّثَنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
ابنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، أَنَّ عبدَ الله بْنَ عُمَرَ، كَانَ يَقُولُ:
كَانَ المُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ
الصَّلاَةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا بُوقًا مِثْلَ قَرْنِ اليَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلاَ
تَبْعَثُونَ رَجُلًا منكمْ يُنَادِي بِالصَّلاَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا بِلاَلُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ». [خ 604]
وعند الإسماعيلي: «فأذِّنْ بالصلاةِ». وعند ابن ماجه من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اسْتَشَارَ النَّاسَ لِمَا يَجْمَعُهْم للصَّلاةِ،
فَذَكَرُوا الْبُوقَ، فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ ذَكَرُوا
النَّاقُوسَ، فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى، فَنَادَى النِّدَاءَ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ،
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَطَرَقَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لَيْلًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بِلَالًا بِهِ، فَأُتِيَ بهِ قَالَ: الزُّهْرِيُّ، وَزَادَ بِلَالٌ فِي نِدَاءِ
صَلَاةِ الْغَدَاةِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأَقَرَّهَا النبيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ رَأَيْتُ
مِثْلَ الَّذِي رَأَى، وَلَكِنَّهُ سَبَقَنِي.
(1/154)
ولما
خرجه بن خزيمة «صحيحه»: أتبعه حَدَّثَنا بُنْدَار بخبر غريب غريب، فقال حدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيَّ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ
عُمَرَ، قَالَ: إنَّ بِلَالًا كَانَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بن الخطاب: قُلْ فِي
أَثَرَهَا أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «قُلْ كَمَا أَمَرَكَ عُمَرُ».
ولفظ أبي الشيخ عن محمد بن يحيى، حَدَّثَنا بندار: كان يقول أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وعند أبي القاسم من حديث أبي طلحة
عن زيد عن يونس بن زيد عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: لما أُسْرِيَ بِالنّبِي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَيْهِ الأَذَانُ فَنَزَلَتُ
بِهِ فَعَلَّمْتُهُ بِلالًا، وقال: لا يروي هذا الحديث عن الزهري إلا يونس، تَفَرَّدَ
به عن طلحة محمد بن ماهان الواسطي كأنه يشير إلى ما رويناه عن أبي القاسم الجوزي
في كتاب «الترغيب والترهيب» تأليفه: أخبرنا أبو عثمان بن حمدان، حدثني أبو عبد
الله محمد بن الحسين، حَدَّثَنا محمد بن عبد الله بن الحسن، حَدَّثَنا سَلَمَةُ بن
شَبِيْبٍ، حَدَّثَنا يونس بن موسى الشامي البصري، حَدَّثَنا الحسن بن حماد الكوفي،
حَدَّثَنا زياد بن المنذر عن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن
جده علي بن أبي طالب قال: لَمَّا أَرَادَ اللهُ تباركَ وتعالى أَنْ يُعَلِّمَ
رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْأَذَانَ أَرَاهُ جِبْرِيْلَ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فذكر حديثًا فيه فخَرَجَ مَلَكٌ مِنَ وَرَاءِ الْحِجَابِ
%ج 1 ص 88%
(1/155)
فَقَالَ
اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فسمعتُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي
أَنَا أَكْبَرُ، فَقَالَ الْمَلَكُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،
فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا،
ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَقِيلَ مِنْ
وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَرْسَلْتُ مُحَمَّدًا، ثُمَّ قَالَ
الْمَلَكُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، ح ثُمَّ أَخَذَ
الْمَلَكُ بَيَدِي فَأَمِمْتُ أَهْلَ السَّمَاءِ فِيهِمْ آدَمُ، وَنُوحٌ. قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فَيَوْمَئِذٍ: أَكْمَلَ اللهُ لِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
قال الحافظ أبو القاسم هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى.
رواه البزار عن محمد بن عثمان بن مخلد، حَدَّثَنا أبي عن زياد ابن المنذر وقال لا
نعلمه يُروى بهذا اللفظ عن علي بهذا الإسناد، وزياد فيه شعبة وقد روى عنه مروان بن
معاوية وغيره. انتهى.
(1/156)
قَالَ
الدَّارَقُطْني: زياد بن المنذر غير جيد وإنما هو منذر بن زياد، وقال أبو عبد
الرحمن السُّهَيلي وأبو علي الجيانيُّ: وأخلقْ بهذا الحديث أن يكون صحيحًا لما
يعضده ويشاكله من حديث الإسراء وإذا السُّهَيلي فبمجموعها يحصل أن معاني الصلاة أو
أكثرها قد جمعها حديث الإسراء ورواها ابن شاهين من طريق زياد عن محمد بن علي بن
حسين عن أبيه عن أبي رافع عن علي قال له النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: يَا
عَلي إِنَّ اللهَ تَعاَلى عَلَّمَنِي الصّلاةَ وَعَلَّمَنِي الأَذَانَ فذكره
مطولًا، وفي لفظ من حديث ابن الحنفية عن علي: كَانَ أَذَانُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ لما كَانَ فِي السَّمَاءِ حَضَرَتِ
الصَّلاةُ فَأَذَّنَ جِبْرِيْلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وعن زياد ابن المنذر، حدثني العلاء قال: قلت لابن الحنفية كنا نتحدث أن الأذان
رؤيا رآها رجل من الأنصار فَفَزِعَ وقال: عمدتم إلى أحسن دينكم فزعمتم أنه كان
رؤيا، هذا والله الباطل، ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما عُرِجَ
به انتهى إلى مكان من السماء وقف وبعث الله عز وجل ملكًا ما رآه أحد في السماء قبل
ذلك اليوم فعلَّمَه الأذان فذكر ح.
وعنده أيضًا حديث عائشة قالت: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«لَمَّا أُسْرِيَ بِي إلى السَّمَاءِ أَذَّنَ جِبْرِيلُ فَظَنَّتِ المَلائِكَةُ
صلَّى الله عليهم وسلم أَنَّهُ يُصَلِي بِهم فَقَدَّمَنِي فَصَلَّيْتُ بِهِمْ».
رواه عن جعفر بن محمد بن نصير، حَدَّثَنا علي بن أحمد السواق، حَدَّثَنا محمد بن
حماد بن زياد الحارثي، حَدَّثَنا عائذ بن حبيب عن هشام عن أبيه عنها، وحديث ابن
عباس قال: عُلِّمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الأذان حين أُسْرِيَ به.
رواه من حديث عبد الصمد بن علي عن أبيه.
(1/157)
وفي
كتاب أبي الشيخ من حديث إبراهيم من أبي حبيبة عن داود عن عكرمة عنه قال: الأذان
نزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مع فرض الصلاة: {يَأيُّهَا
الذِيْنَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَومِ الجُمُعةِ فَاسْعَوا إِلَى
ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] انتهى.
وهو مشكل
%ج 1 ص 89%
لأن فرض الصلاة كان بمكة شرفها الله تعالى وسورة الجمعة مدنية إجماعًا حكاه أبو
العباس في كتابه «مقامات التنزيل» اللَّهمَّ إلا أن يريد صلاة الجمعة لا مطلق الصلوات؛
لأن فريضة الجمعة إنما كانت بالمدينة والله تعالى أعلم.
وفي «سير ابن إسحاق» ذكر ابنُ هِشَامٍ، عن ابنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي
عَطَاءٌ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيَّ قَالَ: ائْتَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِلِاجْتِمَاعِ إلى
الصَّلَاةِ، فَبَيْنَا عُمَرُ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَشَبَتَيْنِ لِلنَّاقُوسِ،
إذْ رَأَى عُمَرُ فِي الْمَنَامِ: ألَا تَجْعَلُوا النَّاقُوسَ، بَلْ أَذِّنُوا
لِلصَّلَاةِ. فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِيُخْبِرَهُ
بِاَلَّذِي رَأَى، وَقَدْ جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْوَحْيُ
بِذَلِكَ، فَمَا رَاعَ عُمَرَ إلَّا بِلَالٌ يُؤَذِّنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَيْنَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ: «قَدْ سَبَقَكَ بِذَلِكَ
الْوَحْيُ».
وفي «مسند الحارث بن أبي أسامة»: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ بالصلاة جِبْرِيلُ فِي
السَّمَاءِ الدُّنيا, فَسَمِعَهُ عُمَرُ وَبِلَالٌ فَسَبَقَ عُمَرُ بِلالًا إِلى
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بها فَقَالَ النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «سَبَقَكَ بها عُمَرُ».
(1/158)
وقَالَ
الدَّاودِيُّ: رُوِيَ أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- أَتَاهُ
جِبْرِيْلُ بِالأَذَانِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ عبد الله بن زيد وعمر
بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، ذكره ابن إسحاق قال: وهو أحسن ما جاء في الأذان.
وفي كتاب أبي الشيخ من حديث عبد العزيز بن عمران عن ابن المؤمل عن ابن الرَّهِين
عن عبد الله ابن الزبير قال: أُخِذَ الأَذَانُ مِنْ أَذَانِ إِبْرَاهِيْمَ
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} الآية [الحج: 27] قال:
فَأَذَّنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
قال عياض: الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان، فأوله إثبات الذات وما يستحقه من صفات
الكمال والتنزيه، وقوله الله أكبر ثم التصريح بإثبات الوحدانية ونفي الشركة وهي
عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على جميع وظائف الدين، ثم التصريح بإثبات النبوة
والشهادة بالرسالة، ثم الدعاء إلى الصلاة والفلاح وهو الفوز والبقاء في دار
النعيم.
ثم الأذان عند أبي حنيفة سنةٌ للصلوات الخمس والجمعة دون ما سواها، وعن محمد ما
يدل على وجوبه، وعنه هو من فروض الكفاية، وعامة مشايخ الحنفيين قالوا: الأذان
والإقامة سنتان مؤكدتان.
وفي «القنية»: عن أبي حنيفة وأبي يوسف هو واجب، ومذهب الشافعي وإسحاق الأذان سنة.
وقال ابن المنذر: هو فرض في حق الجماعة في السفر والحضر، وقال مالك: يجب في
الجماعة، وقال عطاء ومجاهد وداود: هو فرض، وعن أحمد فرض كفاية.
وقد خرَّجَ ابنُ خُزَيْمَةَ في «صحيحه»: من حديث ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن
الحارث عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه قال: لمّا أَصْبَحْنَا أَتَيْنَا
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 90%
(1/159)
فَأَخْبَرْتُهُ
بِالرُّؤْيَا فَقَالَ: إِنَّ هَذهِ لَرُؤْيَا حَقٍّ فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَإِنَّهُ
أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ ما قيل لكَ فَيُنَادِي بِذَلِكَ قَالَ:
فَفَعَلْتُ فَلمَّا سَمِعَ عُمَرُ نِدَاءَ بِلالٍ بِالصَّلاةِ فَخَرَجَ إِلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا رسول اللهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الذي رَأَى،
قالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «فَلِلَّهِ الْحَمْدُ».
وفي لفظ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ أُرِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ
رَبِّهِ أَخُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ النِّدَاءَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ طَافَ بِي
هَذِهِ اللَّيْلَةَ طَائِفٌ مَرَّ بِي رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ
يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ أَتَبِيعُ هَذَا
النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ نَدْعُو بِهِ إِلَى
الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: وَمَا
هُوَ؟ قَالَ: تَقُولُ اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، فذكر الأذان، ثُمَّ
اسْتَأخرَ غير كثير، ثم قالَ مثلَما قالَ وجعلها وترًا، إلا أنَّه قالَ: قَدْ
قامتِ الصَّلاةُ قدْ قامتِ الصلاةُ، فَلَمَّا خَبَّرْتُهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَق إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقُمْ
مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ» ح فَلَمَّا قَالَ عُمَرُ رَأَيْتُ مِثْلَ
الذِيْ رَأَى قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «فَللّهِ الحَمْدُ فَذَاكَ
أَثْبَتُ».
(1/160)
قال
ابنُ خُزَيْمَةَ: فسمعت محمد بن يحيى ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان
خبرٌ أصح من هذا؛ لأن محمد بن عبد الله بن زيد سمع من أبيه، وعبد الرحمن بن أبي
ليلى لم يسمع من عبد الله بن زيد.
وفي لفظ: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَق إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى» وقال في موضع آخر: هذا
خبر صحيح من جهة النقل، ومحمد بن عبد الله سمعه من أبيه، وابن إسحاق سمعه من
التميمي، وليس هو مما دلَّسه ابن إسحاق. انتهى.
ذكر الحاكم أن عبد الله بن زيد استشهد بأحد، ثم روى بسنده إلى إبراهيم بن حمزة،
حَدَّثَنا عبد العزيز عن عبيد الله بن عمر قال: دَخَلَتِ ابْنَةُ عَبْدِ اللهِ
بْنِ زَيْدٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَتْ: أَنَا ابْنَةُ عَبْدِ
اللهِ بْنِ زَيْدٍ، شَهِدَ أَبِي بَدْرًا، وَقُتِلَ بأُحُدٍ، فَقَالَ عُمَرُ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِينَا بِمَاءٍ فَعَادَا
بَعْدُ أبوالا
قال الحاكم: فهذه الرواية الصحيحة تُصَرِّحُ بأن أحدًا من هؤلاء لم يسمع من ابن
زيد وأن الروايات كلها ... واهية ولذلك تركه الشيخان فلم يخرجاه. انتهى.
وفيه نظر من حيث إن أبا عثمان عبيد الله بن عمر ليست حاله تقتضي السماع من عمر بن
عبد العزيز، يزيد ما ذكره ابنُ خُزَيْمَةَ وغيره وضوحًا قول الواقدي عن أشياخه عن
محمد بن عبد الله بن زيد قال: توفي أبي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وصلَّى عليه
عثمان بن عفان، والحاكم نفسه لما ذكر في «الإكليل» المستشهدين بأحد لم يذكره فيهم،
وأجمع الرواة أنه كان في الفتح معه راية بن الحارث
%ج 1 ص 91%
حتى قال ابن سعد: شهد أحدًا والخندق والمشاهد كلها مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ. انتهى.
والمحفوظ عند المؤرخين أن عمر بن عبد العزيز قال هذا لما وفد عليه عاصم بن عمر بن
قتادة بن النعمان وسأله عمر عن نسبه فقال:
أنا ابن الذي سالَتْ على الخدِّ عينه ... فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسنَ الرَّدِّ
(1/161)
وقال
الأثرم: قال أبو عبد الله أنا أذهب في الأذان إلى حديث ابن إسحاق عن محمد بن
إبراهيم.
وَخَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» وفيه: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ بَعِيدٍ،
ثُمَّ قَالَ: يَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ فذكره، ولما خَرَّجَهَ أبو علي
الطُّوسي وأبو عيسى مختصرًا صححاه زاد في موضع آخر سألت محمدًا عنه فقال: هو عندي
حديث صحيح، وقال أبو سليمان الخطابي: رُوِيَ هذا الحديث بأسانيد مختلفة وهذا
الإسناد أصحها، وذكره ابن الجارود في «المنتقى»، وقَالَ البَيْهَقِيُّ: هذا خبر
موصول.
وقال أبو محمد الإشبيلي: هذا خبر صحيح، وقال ابن دحية: هو خبر متواتر الطرق، وعند
ابن ماجه فقال عبد الله بن زيد في ذلك:
أَحْمَدُ اللهَ ذَا الْجَلَالِ وذَا الْإِكْـ ... ـــرَامِ حَمْدًا عَلَى
الْأَذَانِ كَثِيرَا
إِذْ أَتَانِي بِهِ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّـ ... ــــهِ فَأَكْرِمْ بِهِ لَدَيَّ
بَشِيرَا
فِي لَيَالٍ وَالَى بِهِنَّ ثَلَاثٍ ... كُلَّمَا جَاءَ زَادَنِي تَوْقِيرَا
(1/162)
وعند
أبي داود منْ حديث أبي بشر عن أبي عُمَيْر بن أنس عن عُمومةٍ له من الأنصار قَالَ:
اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ
النَّاسَ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ فَإِذَا
رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَذُكِرَ
لَهُ الْقُنْعُ -يَعْنِي الشَّبُّورَ- فَلَمْ يُعْجِبْهُ، وَقَالَ: «هُوَ مِنْ
أَمْرِ الْيَهُودِ» فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: «هُوَ مِنْ أَمْرِ
النَّصَارَى» فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ، فَغَدَا
إلَى النبيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي
الْأَذَانَ، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ، قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ
عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنا؟» فَقَالَ: سَبَقَنِي عَبْدُ اللهِ، فَاسْتَحْيَيْتُ.
قال أبو بِشْرٍ: فحدثني أبو عُمَيْرٍ أن الأنصار تزعم أن عبد الله لولا أنه كان
مريضًا يومئذ لجعله النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مؤذنًا.
قال أبو عمر بن عبد البر: روى عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في قصة عبد
الله بن زيد في بدء الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة ومعان متقاربة وكلها
تتفق على أمره عند ذلك والأسانيد في ذلك
%ج 1 ص 92%
من وجوه صحاح، وفي موضع آخر من وجوه حِسَانٍ، ونحن نذكر أحسنها، فذكر حديث أبي
عمير هذا.
وعند أبي داود: حَدَّثَنا نصر بن المهاجر، حَدَّثَنا يزيد بن هارون عن المسعودي عن
عَمْرو بن مُرَّةَ عن أبي ليلى عن معاذ قال: أُحِيْلَتِ الصلاة ثلاثة أحوال.
انتهى.
(1/163)
قد
أسلفنا أن عبد الرحمن لم يسمع من معاذ، وقال في موضع آخر: حَدَّثَنا أصحابنا أن
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «لقدْ أَعْجَبَنِي أنْ تكونَ صلاةُ
المسلمينَ واحدةً» ح وفيه: «حتى نَقَسُوا أو كادوا أن يَنقُسُوا» الحديثَ، وفيه:
ولولا أنْ يقولَ الناسُ-أو يقولوا- لقلتُ: إِنِّي كُنْتُ يقظان غيرَ نائمٍ فقال:
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَقَد أَرَاكَ اللهُ خَيرًا».
وذكره الطحاوي في «شرحه» عن علي بن شيبة: حَدَّثَنا يحيى بن يحيى النيسابوري،
حَدَّثَنا وكيع عن الأعمش عن عمرو عنه قال: حَدَّثَنا أصحاب محمد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أن عبد الله بن زيد رأى الأذان في المنام فذكره متصلًا صحيحًا وكذا
هو عند ابنِ خُزَيْمَةَ أيضًا في «مصنف أبي شيبة»، و «كتاب الأذان» لابن حيان
فَصَحَّ إسناده على هذا. وذهب ما تخرَّصَه الحافظ المنذري حين قال: قول عبد الرحمن
حَدَّثَنا أصحابنا، إنْ أرادَ الصحابة فهو قد سمع جماعة منهم فيكون مُسْنَدًا وإلا
فهو مرسلٌ، ولهذا قال أبو محمد بن حزم: هذا إسناده في غاية الصحة من أسانيد الكوفيين،
وابن أبي ليلى أخذ عن مئة وعشرين صحابيًا، وأدرك بلالًا وعمر رضي الله عنهم.
(1/164)
وعند
الدَّارَقُطْني: كَانَ رَجُلًا يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ عَلَى جِذْمِ الحَائِطِ.
وفي «مصنف عبد الرزاق» عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي جَابِرٍ
الْبَيَاضِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ بن المسيّب، عَنْ أَبْيِ زَيْدٍ أَنَّهُ: بَيْنَا
هُوَ نَائِمٌ إِذْ رَأَى رَجُلًا مَعَهُ خَشَبَتَاهُ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ فِي
الْمَنَامِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ
يَشْتَرِيَ هَذَيْنِ الْعُودَيْنِ، يَجْعَلُهُمَا نَاقُوسًا، فَالْتَفَتَ إِلَى
صَاحِبِ الْعُودَ بِرَأْسِهِ، وَقَالَ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ
مِنْ هَذَا، فَبَلَّغَهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَمَرَهُ
بَالتَّأْذِينِ.
قال أبو عمر: لا أحفظ ذكر الخشبتين إلا في حديث أبي جابر، ومرسل مالك عن يحيى بن
سعيد، وفي مسند أبي قُرَّةَ موسى ابن طارق السَّكْسَكي من هذه الطريق فقال عبد
الله: يا رسول الله إني قطيع الصوت فقال: «عَلِّمْهُ بِلَالًا» الحديثَ قرأت على
الْمُسْنِدِ الْمُعَمِّرِ أبي زكريا يحيى بن يوسف المصري، عن العلامة ابن بنت الحميري،
عن الحافظ أحمد بن محمد وسلفه، أخبرنا أبو رجاء بندار بن محمد الخلقاني، أخبرنا
أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي بكر محمد بن علي الهمداني، أخبرنا أبو محمد عبد الله
بن محمد بن جعفر بن حيَّان الأصبهاني، حدثني محمد بن عمرو بن شهاب، حدَّثَنَا أبي،
حَدَّثَنا إسماعيل بن عمرو، حَدَّثَنا المفضل بن صَدَقَةَ عن يزيد بن أبي زياد عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن زيد قال: اهتَمَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 93%
(1/165)
بالإِذْنِ
بِالصَّلاةِ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلاةِ صَعِدَ رَجُلٌ لِيُشِيْرَ
بِيَدِهِ فَمَنْ رَآهُ جَاءَ، وَمَنْ لمْ يَرَهُ لمْ يَعْلَمْ بِالصَّلاةِ،
وَفِيْهِ: فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الفَجْرِ غَشِيَنِي النُّعَاسُ فَرَأَيْتُ
رَجُلًا عليه ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، وَأَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ
فَقَامَ عَلى سَطْحِ المَسْجِدِ فَجَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، الحديث
بطوله.
وفي لفظ عبد الرحمن عن معاذ: قَامَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ. وفي لفظ:
فَرَأَيْتُهُ عَلَى سُوْرِ المَسْجِدِ.
وذكر الغزالي أن عبد الله قال: يَا رَسُوْلَ اللهِ ائذن لي في الأَذَانِ مَرَّةً
وَاحِدَةً، قال: فأذَّنْتُ بِإِذْنِهِ، زاد الفُورانيُّ: فأذَّنْتُ الظُهْرَ.
انتهى.
قد تقدم من حديث سعيد فأمره بالتأذين، وإن كان النووي قال: هذا باطل فغير جيد لما
ذكرناه.
وفي «المعجم الأوسط» من حديث زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا
مِنَ الْأَنْصَارِ مَرَّ بِالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ حَزِينٌ
لأَمْرِ الأذانِ بالصلاةِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ نَعَسَ، فَأَتَاهُ آتٍ فِي
النَّوْمِ، فَقَالَ: عَلِمْتُ مَا حَزِنْتَ لَهُ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الْأَذَانِ،
فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ
أَخْبَرَنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ، فَأمَرَ بِلَالًا».
(1/166)
قال
الطبرانيُّ: لم يروه عن علقمة إلا أبو حنيفة، وفي كتاب المديني «معرفة الصحابة»:
من حديث سهل بن الديلمي عن عبد السلام بن مُطَهَّر، حَدَّثَنا أبو سلمة الأنصاري
عن عبد الله بن محمد بن زيد عن عبيد الله بن زيد أخي عبد الله بن زيد، قال: أراد
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يحدث في الأذان فجاءه عبد الله فأخبره
برؤياه قال: «قُمْ فَأَلْقِه عَلَى بِلَالٍ» فقال يا رسول الله: أنا أُرِيْتُه،
وأنا كنت أريد أؤذن، قال: «أَقِمْ أَنْتَ».
وذكره الدَّارَقُطْني أيضًا وأبو داود وقال ابن عبد البر: هذا أحسن إسنادًا من
حديث الإفريقي عن زياد بن نُعَيْمٍ عن زياد بن الحارث الصدائي: «مَنْ أَذَّنَ فَهُو
يُقِيْمُ». وقَالَ البَيْهَقِيُّ: حديثُ زيادٍ غير ثابت، ثم قال: وهو بعد حديث ابن
زيد، وقال الحازميُّ: حديث ابن زيد حسنٌ، وفي سنده مقالٌ، وحديث زياد أقوم إسنادًا
منه، وقال عبد الحق: إقامة ابن زيد ليست تجيء من وجه قوي فيما أعلم، وقد جاءت
أحاديث شاهدة لحديث زياد منها: حديث ابن عمر مرفوعًا: «إِنَّمَا يُقِيْمُ منْ
أَذَّنَ» قال مُهَنَّأ عن أبي عبد الله ليس بصحيح. وقال أبو حاتم: حديثٌ منكرٌ،
وعبد الله بن عباس ذكره ابن عدي وردَّه محمد بن الفضل بن عطية وحيَّان بن لج. ذكره
ابن يونس في «تاريخه» وعند البيهقي وقال: سنده صحيح عن عبد العزيز بن رُفَيْع رأيت
أبا مَحْذُورَةَ جَاءَ وَقَدْ أَذَّنَ إِنْسَانٌ قَبْلَهُ فَأَذَّنَ ثُمَّ
أَقَامَ. ورأينا أيضًا لحديث ابن زيد
%ج 1 ص 94%
شاهدًا ذكره أبو الشيخ من حديث محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن مقسم عن ابن
عباس: أول من أذن في الإسلام بلال، وأول من أقام عبد الله بن زيد ح وفي «المصنف»:
بسند ضعيف كان ابن أمِّ مَكْتُوم يُؤَذِّنُ ويقيمُ وبلالٌ، وربما أذن بلال وأقام
ابن أم مكتوم.
(1/167)
وفي
كتاب «الصلاة» لِلدُّكَيْنِيِّ قال ابن زيد: ولولا اتهامي نفسي لرأيتُ أنني لم أكن
نائمًا، قال السُّهَيلي: الحكمة في تخصيص الأذان برؤيا رجل ولم يكن بوحي؛ فلأن
سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قد أريه ليلة الإسراء فوق سبع سماوات
وهو أقوى من الوحي، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت
الصلاة تلبث الوحي حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما كان رآه في السماء فكذلك
قال: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حقٌّ إنْ شاءَ الله تعالى» وعلم حينئذٍ أنَّ مرادَ الله
تعالى بما رآه في السماء أن تكون سُنَّةً في الأرض، وقوَّى ذلك موافقة عمر مع أن
السكينة تنطق على لسان عمر، واقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الإذن على غير لسان
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما فيه من التنويه بعبده والرفع بذكره؛ فلأن
يكون ذلك على لسان غيره أَنْوَهُ وأفخم لشأنه وهو معنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا
لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].
فإن قيل: فهل أذَّنَ رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قطُّ بنفسه؟.
قلنا: روى الترمذي من طريق تدور على عُمَرَ بْنِ الرَّمَّاحِ يرفعه إلى أبي هريرة:
«أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَذَّنَ فِي سَفَرٍ وَصَلَّى
بِأَصْحَابِهِ وَهُمْ عَلَى رَوَاحِلِهِمُ السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ،
وَالبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ» فنزع الناس بهذا الحديث إلى أنه أذَّن بنفسه.
ورواه الدَّارَقُطْني بإسناد الترمذي ووافقه في إسنادٍ ومتنٍ، ولكنه قال فيه:
«فقامَ الْمُؤذِّنُ فأذَّنَ».
والمفصل يقضي على المجمل. انتهى كلامه.
(1/168)
وفيه
نظر ذكرناه مفصلًا في كتابنا «الزهر الباسم في سير أبي القاسم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ» ملخصه: أن هذا الحديث لم يخرجه الترمذي ولا الدَّارَقُطْني من حديث أبي
هريرة كما ذكره السُّهَيلي وإنما هو عندهما من حديث ابن عمر بن الرَّمَّاحِ عن
كثير بن زياد عن عمرو بن عثمان بن يعلى بن مُرَّة الثقفي عن أبيه عن جده، وقال أبو
عيسى: هذا حديث غريب تفرد به عمر بن الرَّمَّاحِ البلخي لا يُعْرَفُ إلا من حديثه
ومن هذه الطريق خَرَّجَهُ البيهقيُّ وضعَّفَهُ، وكذا ابن العربي وسكت عنه
الإشبيليُّ، وعاب ذلك عليه ابن القطان بأن عَمْرًا وأباه عثمان لا يُعْرَفُ
حالهما، ولما ذكره النووي صححه، ومن حديث يعلى خرجه أحمد بن حنبل وأحمد بن منيع
وابن أمية والطبراني في «الكبير»، و «الأوسط»، والعَدَني، وفي «الناسخ» للأثرم، و
«تاريخ» الخطيب وغيرهم فينظر.
وعند الدَّارَقُطْني بسند
%ج 1 ص 95%
لا بأس به عن أبي بكر بن مجاهد عن ابن قرارة.
حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمِ الموصِلي، حَدَّثَنا الْمُعَافَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ
هِشَامِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «أنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ فِي رَدْعَةٍ عَلَى حِمَارٍ» لا إنكار فيه لأنه سفيان.
وعلى ما في كتاب الترمذي من أذانه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان بعض الأمر
سألني عن هذا الحديث في شهور سنة عشرين وسبعمئة فكتبت في الجواب عنه جزءًا ضخمًا
ولله الحمد والمنة كان بعد استقرار أمر الأذان وشهرته فأراد على تقدير صحة الحديث
أنه يجتمع له الفضيلتان التأذين والإمامة.
وأما قول ابن التين في «صحاح» الجوهريِّ: كانوا ينقون بالنون فغير جيد؛ لأن الذي رأيت
في غير ما نسخةٍ صحيحة من «الصحاح»: كادوا بالدال وهو الصواب الذي لا مَعْدِلَ
عنه.
(1/169)
قَالَ
القُرْطُبِيُّ: وهنا أحاديث يتوهم في الجمع بينهما إشكال منها: أن عبد الله أول من
أريه وأن عمرَ رأى مثل ذلك، وذكر أصحاب «المسندات»: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ سمعه ليلة الإسراء.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: وهذا الجمع فيه ممكن وبيانه: أنهم تفاوضوا في الأذان، ويحتمل
أن يكون عبد الله وعمر كانا غائِبَيْنِ ثم أنهما قدما فوجدا المفاوضة فقال عبد
الله ما قال، وتلاه عمر، ولما رأى عمر قبول الرؤيا وصحتها قال: ألا تنادون إلى
الصلاة فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِبِلال: «قُمْ».
وأما ما رآه في السماء فلا يلزم من سماعه أن يكون مشروعًا في حقه. انتهى.
إذا ترسلت الأحاديث التي سقناها تبين فيها غير ما قال أبو العباس رحمه الله تعالى،
وقال عياض رحمه الله: ظاهر قول عمر (أوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا ينادي
بالصَّلَاةِ) ليس على صفة الأذان الشرعي، بل إخبار بحضور وقتها.
قال النووي: وهذا الذي قاله أبو الفضل مُحْتَمِلٌ أو مُتَعَيِّنٌ، فقد صحَّ في
حديث ابن زيد أنه رأى الأذان في المنام فجاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يخبره فجاء عمر فقال: رأيت مثل الذي رأى، فهذا ظاهره أنه كان في مجلس آخر فيكون
الواقع الإعلام أولًا، ثم رأى ابن زيد الأذان فشرعه النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إما بوحي وإما باجتهاد على مذهب الجمهور، وليس هو عملًا بمجرد الإيمان
هذا مما لا شك فيه، انتهى كلامه.
وفيه نظر في مواضع:
الأول: في كتاب ابن ماجه عن عبد الله فَخَرَجْتُ مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْتُ
أُلْقِيهَا عَلَيْهِ، فَسَمِعَ عُمَرُ بِالصَّوْتِ، فَخَرَجَ وَقَالَ: وَاللهِ
لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى.
وفي كتاب الطبراني: قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ طَافَ بِي اللْيلَةَ الَّتي طَافَ بِهِ.
وعند ابن ماجه: «فَأُرِيَ النِّدَاءَ تِلكَ الَّليْلَةَ عَبْدُ اللهِ وَعُمَرُ»
فهذا دليل على أن المجلس كان متحدًا
%ج 1 ص 96%
(1/170)
الثاني:
في «صحيح أبي عوانة» فَقَالَ عُمَرُ: فَأَذَّنَ بِالصلاةِ وذلكَ؛ لأَنَّه كَانَ قَبْلَ
ذِلِكَ يُؤَذِّنُونَ بَهِا، بِقَوْلِهِم: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، ذكره ابن سعد عن
سعيد بن المسيب فلا يتجه قوله: (أرادَ الإعلام) وأيضًا فمن قوله: رأيت مثل ما رأى،
وابن زيد إنما رأى الأذان، يعلم بأنه أراد الأذان الشرعي لو جلبنا من «كتاب أبي
عوانة» الذي أوضح ذلك إيضاحًا بَيِّنًا.
وفي «المصنف» لابن أبي شيبة فقال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لهما: «مُرَا
بلالًا فَلْيُؤذِّنْ» يعني عمر وعبد الله.
الثالث: قد قدمنا قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (سَبَقَكَ الوحيُّ) فلا حاجة
بنا إلى التخرص، وفي «المبسوط»: وافقهما على رؤياهما في تلك الليلة سبعة من
الصحابة، وعند الغزالي: فأتاه عليه الصلاة والسلام بضعةَ عشر رجلًا من الصحابة
يخبرون بأنهم قد رأوا مثل ذلك.
وقوله: (قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ) فيه حجة لمشروعية الأذان قائمًا، وأنه لا
يجوز قاعدًا وهو مذهب العلماء كافة إلا أبا ثور فإنه جَوَّزَه ووافقه أبو الفرح
المالكي فيما ذكره أبو الفضل، واستضعفه النواوي لوجهين: أحدهما المراد بالنداء هنا
إعلام، الثاني: المراد قم واذهب إلى موضع بارز فنادِ فيه بالصلاة، وليس فيه تعرض
للقيام في حال الأذان.
قال: ومذهبنا المشهور أنه سنةٌ، فلو أذن قاعدًا بغير عذر صح أذانه لكن فاتته
الفضيلة ولم يثبت في اشتراط القيام شيء، انتهى.
رُوينا في «كتاب أبي الشيخ» بسند لا بأس به عن وائل بن حجر قال: حقٌّ وسنةٌ
مسنونةٌ ألا يُؤَذِّنَ إلا وهو طاهر ولا يؤذن إلا وهو قائم، انتهى. قول الصحابي من
السنة كذا يدخل في المسند.
وفي «المحيط»: إن أذن لنفسه فلا بأس بأن يؤذن قاعدًا من غير عذر مراعاة لسنة
الأذان وعدم الحاجة إلى إعلام الناس، وإن أذن قاعدًا لغير عذر صحَّ وفاتته
الفضيلة، وكذا لو أذن قاعدًا مع قدرته على القيام صحَّ أذانه.
(1/171)
واخْتُلِفَ
في آخر الأذان:
ففي «المصنف» عن عبد الله محمد بن فضيل عن يزيد عن أبي صادق أنه كان يجعل آخر
الأذان لا إله إلا الله والله أكبر، وقال: هكذا كان آخر أذان بلال، حدَّثَنَا ابن
عُلَيَّة عن ابن عون عن محمد قال: كان الأذانُ للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
في آخره لا إله إلا الله والله أكبر.
وفي «كتاب أبي نعيم الدكيني»: حَدَّثَنا إسرائيل عن ثُوَيْرٍ قال: صحبتُ ابنَ عمرَ
من مكة إلى المدينة فكان مؤذننا يجعل آخر أذانه لا إله إلا الله والله أكبر، قال
ثُوَيْرٌ: وسألت أبا جعفر عن آخر الأذان فقال: لا إله إلا الله والله أكبر، قَالَ
أَبُو نُعَيْمٍ: وحَدَّثَنَا زهير عن عمران بن مسلم قال:
%ج 1 ص 97%
أرسلني سويد بن علقمة إلى مؤذننا رياح فقال: قل له يختم أذانه بلا إله إلا الله
والله أكبر فإنه أذان بلال.
وحَدَّثَنَا إسرائيل عن ثوير عن أبيه عن مؤذن عليٍّ أنه كان إذا أذَّنَ جعل آخر
أذانه لا إله إلا الله والله أكبر، ولما ذكره البيهقيُّ من هذه الطريق قال: وكذا
فعله أبو يوسف صاحب أبي حنيفة.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وحَدَّثَنَا عيسى بن المسيب عن إبراهيم قال: كان بلال يقول
آخر أذانه لا إله إلا الله والله أكبر وكذا كان يقول أبو محذورة، وبلال في السفر
وأبو محذورة في الحضر.
وأما الترجيع في الأذان فذكره مسلم في «صحيحه» من حديث أبي محذورة عَلَّمَنِي
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً
وَالإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ.
(1/172)
وخرجه
ابن الجارود في «منتقاه» وابن حبان وأبو عوانة والحاكم وابنُ خُزَيْمَةَ وقال: خبر
ثابت صحيح من جهة النقل، وقال أبو عبد الله أحمد بن حنبل فيما حكاه الأثرم: أما
أنا فلا أدفعه، وقال أبو عمر: قال الشافعي: أول الأذان الله أكبر أربع مرات، قال:
وذلك محفوظ من رواية الحفاظ الثقات في حديث عبد الله بن زيد وأبي محذورة، قال: وهي
زيادة يجب قبولها والعمل بها عندهم في آل أبي محذورة بمكة شرفها الله تعالى. وقال
أبو علي الطُّوسي والبغوي في «شرح السنة» والترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال أحمد بن سنان: هذا الحديث أصل في هذا الباب، وأشار الطحاوي في «المشكل» إلى
ثبوته.
قال أبو عمر: ذهب مالك وأصحابه إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين، قال: وقد روي
ذلك من وجوه صحاح في أذان أبي محذورة وأذان ابن زيد والعمل عندهم بالمدينة على ذلك
في آل سعد القرظ إلى زمانهم. وروى أبوبكر بن الجَهْمِ المالكي من طريق عمار بن سعد
القرظ عن أبيه أنه سمعه يقول: إن هذا الأذان أذان بلال فذكره مثنى مثنى والإقامة
واحدة وقد قامت الصلاة مرة. وكذا حديث أبي أمامة بن سهل قال: سمعت معاوية يقول:
إذا كبر المؤذن اثنتين كبر اثنتين، وإذا تشهد اثنتين تشهَّدِ اثنتين ثم التفت
فقال: هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول عند الأذان.
وفي «الأشراف» لم يختلف مالك والشافعي إلا في أول الأذان، وقال سفيان والحنفيون:
الأذان على حديث ابن زيد مربَّع من غير ترجيع، وقال طائفة: الاختلاف في هذا من جهة
المباح، وقال أحمد بن حنبل: إن رجَّع فلا بأس، وإن لم يُرجع فلا بأس وكذا قاله
%ج 1 ص 98%
إسحاق.
وأما التربيع: ففي مسلم التربيع أربع من حديث أبي محذورة في أوله، وخرجه أيضًا أبو
عوانة الإسفراييني فيما رويناه في «صحيحه» وكذلك الحاكم، وقد ذكرنا قول الشافعي إن
ذلك محفوظًا من حديث ابن زيد.
(1/173)
وأما
التثويب: فذكره ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي محذورة وأن النَبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «وإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ الصُّبْحِ قُلْتَ:
الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ».
واعترض أبو محمد الإشبيلي على هذا الحديث بقوله: هذا يرويه الحارث بن عبيد عن محمد
بن عبد الملك عن أبيه عن جده ولا يحتج بهذا الإسناد، وقال في «الأحكام الكبرى»:
الحارث يضعف.
وقال ابن القطان: لم يبين أبو محمد علته وهي الجهل بحال محمد بن عبد الملك، ولا
نعلم روى عنه إلا الحارث وهو أيضًا ضعيف. انتهى.
الحارثُ خرَّجَ مسلمٌ حديثه محتجًّا به، وقال الشارح: صدوق، وذكره ابن حبَّان في
كتاب «الثقات»، واستشهد به البخاري في موضعين من كتابه، ورواه ابنُ خُزَيْمَةَ في
«صحيحه» من غير حديث يزيد بن سنان، حَدَّثَنا أبو عاصم وأبو داود عن الحسن بن علي،
حَدَّثَنا أبو عاصم وعبد الرزاق عن ابن جريج، أخبرني عثمان بن السائب، أخبرني أبي
وأم عبد الملك ابن أبي محذورة سمعت جدي فذكر حديث الأذان، وفيه: الصلاة خير من
النوم في الصبح.
(1/174)
قال
أبو داود: حَدَّثَنا النُّفَيْليُّ، حَدَّثَنا إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن
أبي محذورة سمعت جدي عبد الملك يذكر أنه سمع أبا محذورة: ألقى عليَّ رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الأذان، وفيه: وفي الفجر الصلاة خير من النوم.
وحَدَّثَنَا محمد بن داود، حَدَّثَنا زياد -يعني بن يونس- عن نافع عن عمر
الجُمَحيِّ عن عبد الملك ابن أبي محذورة عن عبد الملك بن مُحَيْرِيزٍ عن أبي
محذورة فذكر مثل حديث ابن جريج عن عبد العزيز بن عبد الملك ومعناه، ورواه النسائي
بسند صحيح، وصححه أيضًا ابن حزم عن القلاس، حَدَّثَنا يحيى وعبد الرحمن، حَدَّثَنا
سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سَلْمَانَ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ
قَالَ: كُنْتُ أُؤَذِّنُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في صلاة
الفجر فَأَقُولُ إذا قلت في الأَذَانِ الْأَوَّلِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قال لي
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَلْحِقْ فِيْهَا الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ
النَّوْمِ».
وعند أبي عيسى من حديث أبي إسرائيل عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال
قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ أُثّوِّبَ فِي
الفَجْرِ وَنَهَانَي أَنْ أُثَوِّبَ فِي العِشَاءِ» وقال: لا نعرفه إلا من حديث
أبي إسرائيل الملائي واسمه إسماعيل بن أبي إسحاق وليس بذلك القوي، ولم يسمع من هذا
الحديث من الحكم فقال: إنما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم، وكذا ذكره أبو علي
الطُّوسي وقال البزار: لا نعلمه
%ج 1 ص 99%
رواه عن الحكم إلا أبو إسرائيل.
(1/175)
وقَالَ
البَيْهَقِيُّ في «المعرفة»: حديث بلال منقطعٌ، ابن أبي ليلى لم يلقَ بلالًا،
ورواه البزار أيضًا بسند لا بأس به إلى عبد الرحمن عن علي بن حرب الموصلي،
حَدَّثَنا أبو مسعود عبد العزيز بن الحسن الزجاج، حَدَّثَنا أبو سعد عن أبي ليلى
عن بلال وقال: لا نعلمه يروي أبي سعد إلا أبو مسعود.
وفي كتاب أبي الشيخ عن ابن إسحاق ذكره الزهري عن ابن المسيب عن عبد الله بن زيد
قال: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى صلاة الفجر فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ نَائِمٌ، فَصَرَخَ بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ
مِنَ النَّوْمِ، قال سعيد: فأُدْخِلَتْ هذه الكلمة في التأذين.
قال أبو الشيخ: وحَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنا خلف البكاء قال: قَالَ ابنُ
عُمَرَ: جَاءَ بِلالٌ فَذَكَرَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ إِذَّا أَذَّنْتَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ».
وحَدَّثَنَا إبراهيم الهاشمي، حَدَّثَنا الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنا عبد
الله بن نافع عن معمر بن عبد الرحمن عن ابن قُسَيْطٍ عن أبي هريرة: «أنَّ النبيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمَرَ بِلاَلًا أَنْ يَجْعَلَ فِي أَذَانِهِ فِي
الصُّبْحِ الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ». وفي لفظ: «وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ
مَوْتِهِ». ومن حديث صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عروة عن عائشة: «جَاءَ
بِلالُ يُؤْذِنُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِصَلاةِ الصُّبْحِ
فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ: الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ فَأُقِرَّتْ فِي
صَلاةِ الصُّبْحِ».
وفي «صحيح ابنِ خُزَيْمَةَ» عن أنس: «من السُّنَّةِ إِذَا أَذَّنَ المؤَذِّنُ فِي
صَلاةِ الفَجْرِ قَالَ: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ».
وعند الدَّارَقُطْني: قالها مرتين. وفي «كتاب الدُّكَيْنيِّ» عن الحسن وعروة: جاء
بلال فذكراه.
(1/176)
وعن
سويد بن علقمة: كان بلال يُثَوِّبُ في الفجر.
وفي «سنن البيهقي» من حديث نُعَيْمٍ النَّحَّام: نادى مُنادي رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ.
ومن حديث حفص بن عمرو بن سعد القرظ: أنه سمع أهله أنَّ بلالًا نادى الصلاة خير من
النوم فَأُقِرَّتْ في تأذين الفجرِ ثم لم يزل الأمر على ذلك. قَالَ البَيْهَقِيُّ:
هذا مرسل والطريق إليه صحيحة.
وفي «سنن الدَّارَقُطْني» من حديث العُمَرِيِّ أن عمر قال لمؤذنه: إِذَا بَلَغْتَ
الْفَلَاحِ فَقُلْ. ح وفي كتاب أبي نعيم قال إبراهيم: التثويب في الفجر من السنة،
قال: وقال في الرجل يريد أن يؤخر ويقيم قال: يرجع.
قال: وحَدَّثَنَا سفيان عمن سمع عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: ما أحدثوا بدعةً أحب
إلي من التثويب، زاد في «المصنف» في العشاء والفجر. انتهى.
إنَّ صحَّ هذا أشكل على روايته الأولى؛ لأنه هناك رواه مرفوعًا وهنا جعله بدعة ولا
يلتئمان، اللَّهمَّ إلا أن يريد بالتثويب ما ذكره ابن راهويه قال: وهو شيء أحدثه
الناس إذا استبطأ المؤذنُ القومَ قال: بين الأذان والإقامة قد قامت الصلاة
%ج 1 ص 100%
حيَّ على الصَّلاةِ، حيَّ على الفلاحِ قال ابن المنذر: وهو قول النعمان، وقال محمد
بن الحسن: كان التثويب بين الأذان والإقامة إلا أن الناس أحدثوه في الأذان وهذا
حسنٌ، وقال في الأصل: كان التثويب الأول في الفجر بعد الأذان الصلاة خير من النوم
مرتين فأحدث الناس هذا التثويب وهو اختيار علماء الكوفة وهو حسنٌ، ويوضحه ما ذكره
أبو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا إسرائيل عن حكيم بن جُبَير عن عمران بن أبي الجعد سمع
الأسود مؤذنًا يقول: الصلاة خير من النوم بعدما أحثَّ، فقال: ويحك لا تزيدن في
أذان الله شيئًا.
(1/177)
وفي
«سنن أبي داود» عن مجاهد: «كُنْتُ مَعَ ابنِ عُمَرَ فَثَوَّبَ رَجُلٌ فِي
الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ، قَالَ: اخْرُجْ بِنَا فَإِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ». وقَالَ
الدَّاودِيُّ: التثويب المنهي عنه ما أحدث الناس، أو يقول المؤذن بعد فراغه من
الأذان حي على الصلاة حي على الفلاح إلى آخر التأذين، وفي قول ابن المنذر هو قول
النعمان نظر لما حكاه قاضي خان عن ابن شجاع عن أبي حنيفة التثويب الأول في نفس
الأذان وهو الصلاة خير من النوم مرتين، والثاني فيما بين الأذان والإقامة، وعنه:
الصلاة خير من النوم بعد الأذان؛ لأنه تأول قوله: (اجْعَلْهُ في أَذَانِكَ) أي:
اجعله من جملة الأذان الذي تعلم به الناس، وفي «المحيط»: محله في أذان الفجر بعد
الفلاح، قال أبو جعفر وهو قول الثلاثة.
وفي «المحلى» قال الحسن بن وهب: يُثَوِّبُ في العتمة ولا يقول به لأنه لم يأتِ في
سنة، انتهى.
قد أسلفنا أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نهى عن ذلك؛ ولأن في كتاب الشيخ
من حديث الحكم عن عبد الرحمن عن بلال قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا
يُثَوِّبُ في شيءٍ من الصلواتِ إلا الفجر». ولكن في «المصنف»: بسند صحيح عَنْ
خَيْثَمَةَ قَالَ: «كَانُوا يُثَوِّبُونَ فِي الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ».
وعن إبراهيم بسند صحيح مثله: وكان مؤذن إبراهيم يثوب في الظهر والعصر فلا ينهاه.
وعن الشعبيِّ قال: يثوب في العشاء والفجر.
وأما حيَّ على خَيْرِ العملِ فذكر أبو محمد ابن حزم في «المحلى»: وقد صح عن ابن
عمر وأبي أمامة بن سهل بن حنيف أنهما كانا يقولان في أذانهما حي على خير العمل،
قال أبو محمد: ولا يقول به؛ لأنه لا يصح عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
انتهى.
(1/178)
ذكر
البيهقيُّ من حديث عبد الله بن محمد بن عمار، وعمار وعُمَر بن سعد بن عمر بن سعد
عن آبائهم عن أجدادهم ما يبين أن هذا كان ثم نسخ عن بلال أنه كان ينادي بالصبح
فيقول: حي على خير العمل فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يجعل مكانها
الصلاة خير من النوم وترك حي على خير العمل.
وكان علي بن الحسين يقول ذلك في أذانه ويقول:
%ج 1 ص 101%
هو الأذان الأول، قال النووي: وهو مكروه. وذكر ابن حزم عن مَعْمَرٍ عن أيوب عن
نافع عن ابن عمر أنه قال: الأذان ثلاث ثلاث، وذكره البيهقيُّ من جهة يحيى بن أبي
طالب عن عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا أنس بن مالك عن نافع الحنبلي.
وذكر أبو الخطاب الحنبلي في «شرح الهداية»: إن أذان ابن عمر يكبر أولًا ثلاثًا ثم
يقول: شهدتُ أن لا إله إلا الله ثلاثًا، شهدتُ أن محمدًا رسول الله ثلاثًا، حي على
الصلاة على الفلاح ثلاثًا، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.
وعن الحسن أنه كان يقول الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول
الله، حي على الصلاة حي على الفلاح مرتين الله أكبر الله أكبر.
وفي «القواعد» لابن رشد: أذان البصريين تربيع الأول التكبير الأول وتثليث
الشهادتين، وحي على الصلاة وحي على الفلاح يبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصلَ
حيَّ على الفلاح ثم يعيد كذلك مرة ثانية -يعني الأربع كلمات تسعًا- ثم يعيد ثالثة
قال: وبه قال الحسن البصري ومحمد بن سيرين.
قوله: (اللهُ أَكْبَرُ) ذكر ثعلب أن أهل العربية اختلفوا في معنى أكبر:
فقال أهل اللغة: معناه كبير، واحتجوا له بقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}
[الروم: 27] قالوا: معناه وهو هين عليه واحتجوا بقول الفرزدق:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزَّ
وَأَطْوَلُ
أراد دعائمه عزيزة وطويلة، واحتجوا بقول الآخر:
(1/179)
تَمَنَّى
رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ ... فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا
بِأَوْحَدِ
أراد لست فيها بواحد، واحتجوا بقول معن بن أوس المزني:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِيْ وَإِنِّي لَأَوْجَلُ ... عَلى أَيِّنَا تَعدُو
المَنِيَّةُ أَوَّلُ
أراد وإني لَوَجِلٌ، واحتجوا بقول الأحوص بن محمد:
يَا بَيتَ عَاتِكَةَ الَّتِي أَتَغَزَّلُ ... حَذَرَ الْعِدَى وَبِهِ الْفُؤَادُ
مُوَكَّلُ
إني لأَمْنَحُكِ الصُّدُوْدَ وَإِنَّنِي ... قَسَمًا إِلَيْكِ مَعَ الصُّدُوْدِ
لَأَمْيَلُ
أراد: لمائلٌ.
قال ابن الأنباري في «الكتاب الزاهر»: قال أبو العباس وقال النحويون: - يعني
الكسائي والفراء وهشامًا- معناه أكبر من كل شيء، فحذفت منْ؛ لأن أفعل خبر كما
تقول: أبوك أفضل وأخوك أعقل من غيره، واحتجوا بقول الشاعر:
إذا ما سُتورُ البيتِ أُرْخينَ لَمْ يكنْ ... سِرَاجٌ لَنَا إِلاَّ وَوَجْهُكَ
أَنْوَرُ
أراد أنور من غيره، وقال معن بن أوس:
%ج 1 ص 102%
فما بلغتْ كفُّ امرئٍ متناولٍ ... بها المجدَ إلا حيثُ ما نلتَ أطولُ
ولا بلغ الْمُهْدونَ نحوك مدحةً ... ولو صدقوا إلا الذي فيك أفضلُ
أراد أفضل من قولهم. انتهى.
هذان البيتان ليسا لمعن بن أوس ولا رأيتهما في ديوانه الذي هو بخط الخلادي،
رأيتهما ثابتين في ديوان الخنساء بخط الكراع تمدح أخاها، حتى لقد استشهد العلماء
بذلك في كلامهم هذا ابن مُعْطٍ قال في كتابه «البديع المنظوم»: براعة الاستهلال أن
تبتدئ بما يدل على المقصود بالنظم أول.
كما قالت الخنساء تطري أخًا لها:
ولا مدحةٌ إلا وذا المدح أجمل ...
فما بلغتْ كفُّ امرئٍ ... البيتين.
قال ابن الأنباريِّ: وأجاز أبو العباس (الله أكبرْ، الله أكبرْ) واحتج بأن الأذان
سُمع وقفًا لا إعراب فيه، كقولهم: (على الصلاةْ حي على الفلاحْ)، ولم يُسمع: (على
الصلاةِ) ولا (على الفلاحِ).
وقوله: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)
معناه: أعلم وأبين، قال حسان رضي الله عنه:
(1/180)
فنشهدُ
أنكَ عبدُ المليـ ... ــك أُرْسِلْتَ نورًا بدينٍ قِيَمْ
ومن ذلك قولهم: شهد الشاهد عند الحاكم، معناه: قد بيَّنَ له وأعلمه الخبر الذي
عنده، وقال أبو عُبَيْدَةَ: معناه قضى الله، قال ابن الأنباري: والذي قاله أبو
العباس أحسن مشاكلةً لكلام العرب.
وقال الزَّجَّاجيُّ: ليس كما ذكره؛ إنما حقيقة الشهادة هو تيقن الشيء وتحققه من
شهادة الشيء أي حضوره، ثم اتسع فيها بعد ذلك فاسْتُعْمِلَتْ في موضعين آخرين أحدهما
الإقرار بالشيء، والآخر البيان والإظهار.
قال ابن الأنباري: والرسول معناه في اللغة الذي يتابع أخبار الذي بعثه، أخذه من
قول العرب قد جاءت الإبل رسلًا إذا جاءت متابعة قال الأعشى:
يسقي ديارًا لنا قد أصبحت غرضًا زَوْراء أجنف عنها القود والرسل
ويقال في تثنيته: رسولان، وفي جمعه: رسل، ومن العرب من يوحده في موضع التثنية
والجمع فيقول: الرجلان رسولك والرجال رسولك قال الله تعالى: {إِنَّا رَسُولَا
رَبِّكَ} [طه: 47] وفي موضع آخر {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:
16] فالأول خرج الكلام فيه على الظاهر؛ لأنه: إخبار من موسى وهارون صلى الله
عليهما وسلم.
والثاني قال يونس وأبو عُبَيْدَةَ: وَحَّدَهُ؛ لأنه في معنى الرسالة كافةً قال:
إنا رسالة رب العالمين.
%ج 1 ص 103%
واحتج يونس بقول الشاعر:
فأبلغ أبا بكر رسولًا شريعةً فما لكَ يابنَ الحضرمي ومَا لِيا؟!
وقال آخر:
ألا من مبلغ عني خفافًا رسولًا بيتُ أهلك منتهاها
أراد رسالة شريعة، واحتج أبو عبيد بقول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بُحْتُ عندهم ... بسرٍّ ولا أرسلتهم برسولِ
وقال الفراء: إنما وحَّدَ لأنه اكتفى بالرسول من الرسولين واحتج بقول الشاعر:
أَلِكْني إليها وخيرُ الرسو ... لِ أعلَمُهم بنواحي الخَبَرْ
(1/181)
أراد
وخير الرُّسُل فاكتفى بالواحد من الجمع، قال أبو بكر: وفُصحاء العرب أهل الحجاز
ومن والاهم يقولون: (أشهد أن محمدًا رسول الله)، وجماعة من العرب يبدلون من الألف
عينًا فيقولون: (أشهد عنَّ).
أنشدنا أبو العباس أنشدنا الزُّبَير:
قال الوشاةُ لهندٍ عَنْ تُصارِمَنا ولستُ أنسى هَوى هندٍ وتنساني
وقال قيسُ بن المُلَوَّحِ المجنونُ:
أيا شِبْهَ ليلى لا تُراعي فإنني لكِ اليومَ من وحشيَّةٍ لَصديقُ
فعيناكِ عيناها وجيدُكِ جِيدُها سوى عَنَّ عظمَ الساقِ منك دقيقُ
وقال أيضًا:
وما هجرتْكِ النَّفْسُ يا ليلَ عن قِلًى قَلَتْهُ ولا عَنْ قَلَّ منكِ نصيبُها
أَتُضرَبُ ليلى عَنْ أُلِمَّ بأرضِها وما ذنبُ ليلى عَنْ طَوَى الأرضَ ذيبُها
انتهى.
هذان البيتان أنشدهما المبرِّد في «كامله» وأبو تمَّام في الحماسة الوسطى لبعضهم.
وما هجَرتْكِ النفسُ يا ميُّ أنها قَلَتْكِ ولا أنْ قلَّ منكِ نصيبُها
ولكنَّهم يا أملحَ الناس أَولغُوا بقولٍ -إذا ما جئت-: هذا حبيبُها
وعزاه الأعلم الشَّنْتَمْريُّ في «حماسته» لنُصَيْبٍ قال: ويقال هما لمعاد يعني
المجنون الملقب مدرج الريح، قال أبوبكر: وفي قولهم أشهد أن محمدًا
%ج 1 ص 104%
رسول الله ثلاثة أوجه، الوجه المجتمع عليه أن محمدًا، ويجوز: (إِن محمدًا لَرسولُ
الله) و (إن محمدًا رسول الله) على معنى أقول، ولا يجوز أن تبدل من الألف إذا
انكسرت عينًا إنما يُفْعَلُ ذلك بها إذا انفتحت.
(1/182)
قال
أبو إسحاق الزَّجَّاجيُّ: ليس ما ذكره في اشتقاق الرسول صحيحًا وإنما الرسول
الْمُرْسَلُ الْمُنَفِّذُ من أرسلت أي أنفذت وبعثت ولذلك قال تعالى: {هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [التوبة: 33] ولذلك قيل في معناه مبعوث، وإنما غلط
أبو بكر؛ لأنه رآه على فعول فتوهمه مما جاء على المبالغة ولا يكون ذلك إلا لتكرار
الفعل نحو ضروب وشبهه وليس كذلك، وإنما هو اسم لغير تكثير الفعل بمنزلة عمود وعجوز
وعتود والدليل على صحته بما قلناه قول سيبويه وجميع النحويين من البصريين
والكوفيين: أَزَيْدٌ أنت إليه رسول، قالوا: ترفع زيدًا لأن رسولًا اسم لا يجري
مَجرى الفعل، فكأنك قلت: أزيد أنت له عجوز، ولو كان من تلك الأسماء الجارية مجرى
الفعل للمبالغة لنصبت أزيدًا أنت له ضروب وكذلك ما أشبهه.
قال أبو بكر: وقوله: (حيَّ على الصَّلاةِ) قال الفراء معناها: هَلُمَّ، وفتحت
الياء من حيَّ لسكونها وسكون الياء التي قبلها، قال أبو بكر وقوله ست لغات:
حي هلًا بالتنوين.
الثاني: فتح اللام بغير تنوين.
الثالث: تسكين الهاء وفتح اللام بغير تنوين.
الرابع: فتح الهاء وسكون اللام.
الخامس حي هلن.
السادس: حي هلن قال الزجاجي: الوجه الخامس بالنون هو الأول بعينه؛ لأن التنوين
والنون سواء.
وأما (الفَلَاحُ) فذكر جماعة من أهل اللغة أن معناه هلموا إلى الفوز.
قال أبو بكر: قالوا يقال أفلح الرجل إذا فاز وأصاب خيرًا، من ذلك الحديث الذي
يروى: «استفلحي رأيك» أي فوزي برأيك، قال لبيد بن ربيعة:
اِعْقِلي إن كنت لمَّا تَعْقلي ... ولقد أفلح من كان عَقَلْ
وقال آخرون معناه البقاء أنشدنا أبو العباس:
لكلِّ همٍّ من الهموم سعَهْ والمسْيُ والصُّبْحُ لا فلاح معه
وقال لبيد:
لو كان حيٌّ مُدرِكَ الفلاحِ ... أَدْرَكَهُ مُلاعِبُ الرِّماحِ
وقال عَبيدٌ:
أفلحْ بما شئتَ فقد يُدرَكُ بالضَّعفِ وقد يُخدع الأريبُ
(1/183)
فهذا
من الفوز، وقال أصحاب البقاء معنى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[البقرة: 5] يعني هم
%ج 1 ص 105%
الباقون والفلح والإفلاح عند العرب السحور. انتهى كلامه.
وفيه نظر في مواضع:
الأول: إطلاقه أن الفلاح البقاء، وأهل اللغة يقيدونه بالبقاء في النعيم والخير،
قاله ابن سيده وصاحب «المنتهى»، و «الْمُوعِبِ» وغيرُهم.
الثاني: قوله (من ذلك الحديث الذي يروى) ليس كذلك ولا هو حديث، إنما هو من ألفاظ
الطلاق في أيام الجاهلية، ذكره من أسلفناه من اللغويين، جرى على لسان ابن مسعود
فذكره.
الثالث: ولئن سلمنا أن ابن مسعود قالها من عنده فليس اصطلاحًا أن يسمى موقوف
الصحابي حديثًا إلا على قول ضعيف.
الرابع: ليس هو بالحاء المهملة إنما هو بالجيم كذا نصَّ عليه جارُ الله في «أساس
البلاغة» وغيرُه.
الخامس: الذي أنشده أبو العباس في «الكامل»، وأبو علي في «الأمالي» وابن السيد
وابن سِيْدَهْ في «المخصص» في آخرين:
والمسيُ والصبحُ لا بقاءَ معَهْ
و (النَّاقُوسُ) قال الجُوَالِيقيُّ: ينظر فيه هل هو معرب أو عربي، وقال ابن
سِيْدَه: النَّقْسُ ضرب من النواقيس وهو الخشبة الطويلة والوسيلة القصيرة، وقول
الأسود بن يعفر:
وقد سبَأتُ لفتيانٍ ذوي كرمٍ ... قبلَ الصباحِ ولمَّا تُقْرَعِ النُّقُسُ.
يجوز أن يكون جمع ناقوس على توهُّم حذف الألف، وأن يكون جمع نَقْس الذي ضرب كرَهن
ورُهُن وسَقْفٍ وسُقُف، وقد نقس الناقوس بالوبيل نقسًا.
باب الأذان مثنى مثنى، وباب الإقامة واحدة تقدَّمَا أول الأذان.
(بَابُ فَضْلِ التَّأْذِينِ)
(1/184)
608
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ
وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لاَ يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى النِّدَاءَ
أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قَضَى
التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ:
اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَظَلَّ
الرَّجُلُ لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى». [خ 608]
وفي لفظ: «أَنْ يَدْرِي». عِنْدَ مُسْلِمٍ: «مَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى».
وفيه: «وَلَهُ حُصَاصٌ» وهو الضراط في قول بعضهم.
وفي صحيحي ابنِ خُزَيْمَةَ وابن حبان: «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ
صَوْتِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وشاهدُ الصلاةِ يُكْتَبُ
له خمسٌ وعشرونَ حسنةً، ويُكَفَّرُ عنهُ ما بينهما». وعند أحمد: «ويُصَدِّقُهُ
كلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ سَمِعَهُ».
وعند أبي الشيخ: «كُلُّ مَدَرَةٍ وَصَخْرَةٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ».
وفي «الأوسط» لأبي القاسم: «إِذَا تَغَوَّلَتْ لَكُمُ الْغُولُ فَنَادُوْا
بِالْأَذَانِ» ح، وفي حديث جابر عن مسلم «إِنَّ الشَّيْطَانَ إِذَا سَمِعَ
النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ذَهَبَ
%ج 1 ص 106%
حَتَّى يَكُونَ مَكَانَ الرَّوْحَاءِ».
قال الأعمش: فسألت أبا سفيان عن الروحاء فقال: هي من المدينة على ستة وثلاثين
ميلًا.
(1/185)
الريح
يصح خروجه من إبليس لعنه الله تعالى؛ لأنه روحٌ، وقيل: هو عبارة عن شدة الغيظ
والنِّفار، وإدباره لئلا يسمعه فيضطر إلى أن يشهد له بذلك يوم القيامة لقوله: «لَا
يسمعُ صوتَ المؤذِّنِ جنٌّ ولا إنسٌ إلا شَهِدَ لهُ يومَ القيامةِ». وقيل: إنما
يشهد له المؤمنون من الجن والإنس، فأما الكافر فلا شهادة له.
قال: ولا يقبل هذا من قائله لما جاء في الآثار من خلافه.
قال: وقيل إن هذا فيمن تصح منه الشهادة ممن يسمع، وقيل: هو عامٌّ في الحيوان
والجماد كما في حديث أبي سعيد الآتي بعدُ، وقيل: إدباره لعظم شأن الأذان، ولما
يشتمل عليه من قواعد التوحيد وإظهار شعائر الإسلام، وقيل: لِيَأْسِهِ من وسوسة
الإنسان عند الإعلان بالتوحيد.
قال أبو الفرج: فإن قيل: كيف يهرب الشيطان من الأذان ويدنو من الصلاة وفيها القرآن
ومناجاة الحق جل وعز؟.
فالجواب بُعده عند الأذان لِغيظه من ظهور الدين وغلبة الحق، وعلى الأذان هيبة يشتد
انزعاجه لها ولا يكاد يقع فيه رياء ولا غفلة عند النطق به؛ لأن النفس لا تحضره،
وأما الصلاة فإن النفس تحضر فيفتح لها الشيطان أبواب الوسواس، والمراد بالتثويب
هنا الإقامة.
قوله: (حَتَّى يَخْطرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ) هو بضم الطاء وكسرها.
قال عياض: ضبطناه عن المتقنين بالكسر، وسمعناه من أكثر الرواة بالضم، قال: والكسر
هو الوجه، ومعناه يوسوس من قولهم: خَطِرَ الفحل بِذَنَبِهِ إذا حَرَّكَه يضرب به
فخذيه، وأما الضم فمن الشكوك والمرور أي يدنو منه فيما بينه وبين قلبه فيشغله عما
هو فيه وبهذا فسره الشُّرَّاح، وبالأول فسره الخليل.
وقال الباجِيُّ: فيحول بين المرء وما يريد من نفسه من إقباله على صلاته وإخلاصه.
انتهى.
قال الهَجَري في «نوادره»: يخطِر بالكسر في كل شيء، وبالضم ضعيف.
(1/186)
وقوله:
(حَتَّى يَظَلَّ) كذا الرواية بظاء مُشالةٍ مفتوحة، والرجلُ مرفوع أي يصير، كما
قال تعالى: {ظَلَّ وَجْهُهُ} [النحل: 58] وقيل: معناه يبقى ويدوم، وحكى الداودي:
يَضِلَّ بالضاد المعجمة المكسورة بمعنى: ينسى ويذهب وَهْمُه ويسهو، قال تعالى:
{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] ويضل من الضلال وهو الحيرة قال: والكسر
في المستقبل أشهر، قال الحافظ القشيري ولو رُوي هذا الوجه
%ج 1 ص 107%
(حتى يضل الرجل) لكان وجهًا صحيحًا، يريد: حتى يضل الشيطان عن دراية كم صلى، قال:
ولا أعلم أحدًا رواه كذا، لكنه لو رُوي لكان وجهًا صحيحًا في المعنى غير خارج عن
مراده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقد وردت أحاديث تدل على فضل المؤذنين والأذان منها:
حديث معاوية من عِنْدَ مُسْلِمٍ: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا».
وحديث ابن عباس قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ
سِنِينَ مُحْتَسِبًا كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ» رواه أبو علي
الطُّوسي من حديث جابر الجعفي وقال: حديث غريب.
حديث ابنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ رفعه: «مَنْ أَذَّنَ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ سَنَةً وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ فِي كُلِّ
يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، وَلِكُلِّ إِقَامَةٍ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً».
قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري وله شاهد من حديث ابن لهيعة. انتهى.
رواه يحيى بن المتوكل عن ابن جريج عمن حدثه عن نافع قال البخاري: وهذا أشبه.
وقال الجوزي: رُوِيَ عن ابن عمر موقوفًا ولا يصح مسندًا. وقال أبو حاتم الرازي:
هذا حديث منكر.
وفي كتاب «الفضائل» لحميد بن زنجويه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «يُكْتَبُ للمؤذنِ
عندَ أذانهِ أربعونَ ومئة حسنة، وعندَ الإقامةِ عشرونَ ومئة حسنة».
(1/187)
وفي
كتاب أبي القاسم الجوزي عن أبي سعيد وغيره: «ثَلَاثَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
كَثِيبٍ مِنْ مِسْكٍ أَسْوَدَ، لَا يُهُولُهُمْ فَزَعٌ، وَلَا يَنَالُهُمْ
حِسَابٌ» فذكر ح وفيه: «وَرَجُلٌ أَذَّنَ وَدَعَا إلى اللهَ عَزَّ وَجَل
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ».
وعند السَّرَّاجِ عن أبي هريرة بسند جيد: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ
أَعْنَاقًا لِقَوْلِهِم لاَ إِلَه إِلاّ الله».
وفي لفظ: «يُعْرَفُوْنَ بِطُوْلِ أَعْنَاقِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ» خرَّجه أيضًا
ابن حبان في «صحيحه».
وعند أبي الشيخ: «مَنْ أَذَّنَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وحديث كثير بن مُرَّةَ الحضرمي من كتاب «الصحابة» لأبي موسى مرفوعًا: «أَوَّلُ
مَنْ يُكْسَى منْ حُلَلِ الجَنَّةِ بَعْدَ النَّبِيّينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِم
أَجْمَعِينَ وَالشُّهَدَاء بِلالٌ وَصَالِحُ المُؤَذِّنِيْنَ».
وحديث ثوبان من كتاب «شعب الإيمان» للبيهقي من حديث أبي معاوية عن أبي يعيش
السكوني عن عبادة بن نُسَيٍّ عنه يرفعه: «مَنْ حَافَظَ عَلَى الأَذَانِ لِأَذَانِ
سَنَةٍ أَوْجَبَ الجَنَّةَ».
وعنده أيضًا من حديث الحفصي رجل من الأنصار عن أبيه عن جده عن بلال: «يَا بِلاَلُ لَيْسَ
عَمَلٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِكَ إِلاَّ الجِهَادُ» وفي لفظ: «أَلاَ تَرْضَى يَا
بِلالُ أَنَّ المُؤَذِّنِيْنَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا» رواه بسند صالح. وعند
أبي أحمد بن عدي من حديث عمر بن حفص العبدي وهو متروك عن ثابت عن أنس: «يَدُ اللهِ
تَعَالَى عَلَى رَأْسِ المُؤَذِّنِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ أَذَانِهِ وَإِنَّهُ
لَيُغْفَرُ لَهُ
%ج 1 ص 108%
مَدَّ صَوْتِهِ أَيْنَ بَلَغَ».
زاد أبو الشيخ من حديث النعمان: «فَإِذَا فَرَغَ قَالَ الرَّبُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى: صَدَقْتَ عَبْدِي وَشَهِدتَ شَهَادَة الحَقِّ فَأَبْشِر».
(1/188)
وعند
أبي الفرج: (يُحْشَرُ المؤَذِّنُوْنَ عَلَى نُوْقٍ مِنْ نُوْقِ الجَنَّةِ، يَخَافُ
النَّاسُ وَلاَ يَخَافُوْنَ، وَيَحْزَنُ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُوْنَ).
وحديث عمر بن الخطاب يرفعه: «إِنَّهَا لُحُومٌ مُحَرَّمَةٌ عَلَى النَّارِ لُحُومُ
الْمُؤَذِّنِينَ وَدِمَاؤُهُم، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يُؤَذِّنُ تِسْعَ سِنِيْنَ
تَصْدُقَ فِي ذَلِكَ نِيَّتُه إلاَّ عُتِقَ مِنَ النَّارِ» رواه أبو الشيخ من طريق
هارون بن المغيرة عن الصَّوافي عن زياد بن كُلَيْبٍ عنه.
وعنده أيضًا من حديث أبي موسى: «يُبْعَثُ زَاهِرًا مُنِيْرًا وَأَهْلُ الجنَّةِ
مَحْفُوْفُوْنَ بِهِ كَالعَرُوْسِ تُهْدَى إِلَى بَيْتِ زَوْجِهِا لاَ
يُخَالِطُهُمْ إِلاَّ المؤَذِّنُوْنَ المحْتَسِبُوْنَ».
وحديث جابر: «قِيْلَ يَا رَسُوْلَ اللهِ مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ دُخُوْلًا
الجَنَّةَ؟ قَالَ: الأَنْبِيْاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ، ثُمَّ مُؤَذِّنُو
الكَعْبَةِ، ثُمَّ مُؤَذِّنُو بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُؤَذِّنُو مَسْجِدِي
هَذَا، ثُمَّ سَائِرُ الْمُؤَذِّنِينَ» سندهما صالح.
وفي لفظ بسند ضعيف: «وَيُغْفَرُ للْمُؤَذِّنِ مَدَّ صَوْتِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ
كُلُّ شَيءٍ سَمِعَ صَوْتَهُ مِنْ شَجَرَةٍ أَوْ مَدَرَةٍ أَوْ رَطْبٍ أَوْ
يَابِسٍ، وَيُكْتَبُ للمُؤَذِّنِ بِكُلِّ إِنْسَانٍ صَلَّى مَعَهُ مِثْلَ
حَسَنَاتِهْم» ح بطوله وحديث ثوبان: «منْ حَافَظَ عَلَى النِّدَاءِ سَنَةً أوجبَ
الجنَّةَ».
وحديث أُبَيِّ بنِ كعبٍ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيْهَا جَنَابِذَ
اللُّؤْلُؤِ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيْلُ؟ قَالَ: للْمُؤَذِّنِينَ
وَالأَئِمَّةِ مِنْ أُمَّتِكَ». قال أبو حاتم الرازي في «العلل»: هذا حديث منكرٌ.
وحديث البراء: «المُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
رواه أبو الشيخ بسندٍ فيه ضعف.
(1/189)
وعند
النسائي بسند جيد: «الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدّ صَوْتِهِ وَيُصَدِّقُهُ مَنْ
سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، وَلَهُ أَجْر مَنْ صَلَّى مَعَهُ».
وفي «مسند السَّرَّاجِ»: «صَلَّى خَلْفَهُ».
وفي «سنن أبي داود» بسند صحيح عن عقبة مرفوعًا «يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِي
غَنَمٍ فِي رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ، يُؤَذِّنُ للصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي،
فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ،
وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ
الْجَنَّةَ».
في «مُعجم أبي القاسم» من حديث ابن لهيعة عنه: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْنَاقًا».
وحديث يزيد بن أرقم مثله رواه من حديث قتادة عن القاسم بن عوف عنه وقال: لم يروه
عن قتادة إلا حسام بن مصر، وعنده أيضًا بسند جيد من حديث ابن الزبير بمثله وحديث
أنس: «إِنَّ الْمُؤَذِّنُينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُوْنَ بِطُوْلِ
أَعْنَاقِهِم». رواه من حديث جُنَادَة بن مروان، حَدَّثَنا الحارث بن النعمان عنه.
وعند أبي موسى المديني في كتاب «الصحابة» من حديث أبي كامل عن أيوب بن واقد،
حَدَّثَنا عبد الله بن عطاء عن أبيه
%ج 1 ص 109%
قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «المُؤَذِّنُ فِيمَا بَيْنَ أَذَانِهِ
وَإِقَامَتِهِ كَالْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ فِي سَبِيْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وعنده أيضًا من حديث عتَّاب بن عبد الحميد عن مطر عن الحسن عن أبي الوقاص يرفعه
بمثله، وحديث الحارث عن علي ذكره أبو القاسم في «الأوسط»: قال: نَدِمْتُ أَنْ لاَ
أَكُوْنَ طَلَبْتُ إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَيَجْعَلَ الحَسَنَ
وَالحُسَيْنِ مُؤَذِّنَيْنِ.
وحديث أبي بن أوفى يرفعه: «خيارُ عِبَادَ اللهِ الذِيْنَ يُرَاعُوْنَ الشَّمْسَ
وَالقَمَرَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
(1/190)
قال
ابن شاهين: هذا حديث غريب صحيح.
وعند عَبْد الرَّزَّاقِ، عَنِ ابنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ مرفوعًا: «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ بِأَرْضِ
قِيٍّ فَإِنْ أَقَامَ صَلَّى مَعَهُ مَلَكَاهُ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى
خَلْفَهُ مِنْ جُنُودِ اللهِ مَا لَا يُرَى طَرَفَاهُ».
وحديث أبي برزة يرفعه: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَذَّنَ فِي أَرْضٍ قِيٍّ فَتَبْقَى
شَجَرَةٌ وَلَا مَدَرَةٌ وَلَا تُرَابٌ وَلَا شَيْءٌ، إِلَّا اسْتَحْلَى
الْبُكَاءَ لِقِلَّةِ ذَاكِر اللهَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ» ذكره أبو بشر إسماعيل
بن عبد الله سَمُّوَيْه الأصبهاني في فوائده، وحديث ابن عمر يرفعه: «تُفْتَحُ
أبوابُ السماءِ». ذكره أبو القاسم من رواية جعفر بن سليمان وعنده أيضًا من حديث
عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذن عن صفوان بن سُلَيْم عن أنس رفعه: «إِذَا
أُذِّنَ فِي قَرْيَةٍ أَمَّنَهَا اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ اليَوْمَ».
وفي لفظ: «وَيَدُ اللهِ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ المُؤَذَّنِ، وَإِنَّهُ لَيُغْفَرُ
لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ أَيْنَ بَلَغَ».
وعند النسائي بسند صحيح عن أبي الدرداء يرفعه: «مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي قَرْيَةٍ
لاَ يُؤَذَّنُ وَلاَ يُقَامُ فِيْهِمُ الصَّلاة إِلاّ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ
الشَّيْطَانُ».
وعند أحمد مرفوعًا: «يُغْفَرُ للمُؤْمِنِ مَدَّ صَوْتِهِ وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ
رَطْبٍ وَيَابِسٍ يَسْمَعُ صَوْتَهُ».
وعند السَّرَّاجِ بسند صحيح: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ،
اللهُمَّ أَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ».
(1/191)
وفي
«الشُّعَبِ» للبيهقي: «ثَلَاثَةٌ لَا يَهُولُهُمُ الْفَزَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
إِمَامُ قَوْمٍ يَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ تعالى وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ، وَرَجُلٌ
أَذَّنَ خَمْسَ سَاعَاتٍ يَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» ح، وفي «تاريخ»
الخطيب عن مَعْقِل بن يسار مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَأْذَنُ لِشَيءٍ
مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ إِلاَّ لِأُذَّانِ المؤْمِنينَ» الحديثَ وردَّه بسلام الطويل
والعمى، وعند أبي داود من حديث موسى بن يعقوب الزمعي عن زريق عن أبي حازم عن سهل
بن سعد: «سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَقَلَّ مَا يُرَدُّ
عَلى دَاعٍ دَعْوَتُهُ: عِنْدَ حُضُوْرِ النِّدَاءِ وَالصَّفُّ فِي سَبِيلِ
اللهِ».
قَالَ البَيْهَقِيُّ رفعه الزمعي ووقفه مالك.
%ج 1 ص 110%
(بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنِّدَاءِ)
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا
فَاعْتَزِلْنَا.
هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن عمر بن عبد العزيز: أَذِّنْ
أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا.
قَالَ الدَّاودِيُّ: لعلَّ هذا المؤذن لم يكن يحسن يمد الصوت، قال: ولو نهاه لكان
لم يبلغه الحديث -يعني حديث أبي سعيد الآتي- وقد ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ حديث بمعنى ما قاله عمر، رواه الدَّارَقُطْني من حديث إسحاق بن أبي يحيى
الكعبي وفيه كلام مقذع عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: «كَانَ لِرَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ يُطْرِبُ, فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ
سَمْحًا سَهْلًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ».
(1/192)
ومن
حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«لَا يُؤَذِّنْ لَكُمْ مَنْ يُدْغِمُ الْهَاءَ». قَالَ الدَّارَقُطْني هذا حديث
منكر وإنما: «مَرَّ الْأَعْمَشُ بِرَجُلٍ يُؤَذِّنُ يُدْغِمُ الْهَاءَ، فَقَالَ:»
ح وروى مُجَاشِعٌ عن هارون بن محمد عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ يُؤَذِّن لَكُم إِلاّ فَصِيْحٌ» قال ابن عدي: هارون هذا لا
يعرف.
609 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ
الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا
سَعِيدٍ قَالَ لَهُ: «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا
كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، أَوْ بَادِيَتِكَ، فَأَذَّنْتَ للصَّلاَةِ، فَارْفَعْ
صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ
وَلاَ إِنْسٌ، وَلاَ شَيْءٌ، إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». [خ 609]
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وعند ابن ماجه: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حدَّثَنَا ابن عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
كَانَ أَبُوهُ فِي حِجْرِ أَبِي سَعِيدٍ فذكر، ح وفيه: «وَلَا شَجَرٌ، وَلَا
حَجَرٌ».
(1/193)
وعند
القزَّاز من حديث سعيد بن منصور: حدَّثَنَا ابن عيينة، عن صفوان بن سُلَيْمٍ، عن
عطاء بن يسار عن أبي سعيد: «يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مَدَّ صَوْتِهِ، وَيُصَدِّقُهُ
مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ» وقال: لا نعلم أحدًا أسنده عن سفيان إلا
سعيد بن منصور ولم يُتَابع عليه، إن أراد نفس المتن فغير جيد لما قدمناه من عند
ابن ماجه، وإن أراد السند فَمُسَلَّمٌ، وكلامه انصرافه إلى المتن أقرب والله تعالى
أعلم.
قوله: (تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ) وهي الصحراء التي لا عمارة فيها، وذلك
أن هذا من شأن السلف الصالح الذي ينبغي الاقتداء بهم لولا تركُ الجماعات في
العزلة.
والمدى: الغاية.
وقوله: (ولَا شَيءٌ) قالت طائفة: الحديث على عمومه في سائر الحيوانات والجمادات
كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
وقال آخرون: لا يُراد إلا الجن والإنسان والحشرات والدواب.
%ج 1 ص 111%
وقَالَ الدَّاودِيُّ: في هذا الحديث أنهم استحبوا البادية على المدينة عندما عرض
من الفتن ما عرض.
وفيه أذان المرء بنفسه.
وفيه أنَّ بعض الخلق يشهد لبعض قال الله تعالى: {َيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}
[غافر: 51].
وأما (الغَنَمُ) فذكر أبو الحسن في «المخصص»: أنه جمعُ واحدٍ لا من لفظه، وقال أبو
حاتم: وهي أنثى، وعن صاحب «العين»: الجمع أغنام وأغانم وغنوم، وفي «الْمُحْكَمِ»:
ثَنَّوه فقالوا غَنَمانِ قال الشاعر:
هُمَا سَيِّدَانَا يَزْعُمَانِ وَإِنَّمَا ... يَسُودَانِنَا أَنْ يَسَّرَتْ
غَنَمَاهُمَا
قال: وعندي أنهم ثنَّوه على إرادة القَطِيْعَيْنِ أو السِّرْبَيْن، وفي «الجامع»
هو اسم يجمع الضأن والمعز، وَفِي «الصِّحَاحِ»: موضوع للجنس يقع على الذكور
والإناث وعليهما جميعًا، وإذا صغرتها ألحقتها الهاء فقلت: غُنيمة؛ لأن أسماء
الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم.
(1/194)
(بَابُ
مَا يُحْقَنُ بِالأَذَانِ مِنَ الدِّمَاء)
610 - تقدم حديثه في باب الفخذ عورة. [خ 610]
(بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا سَمِعَ المُنَادِي)
611 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابنِ
شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيد، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ، فَقُولُوا
مِثْلَ مَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ». [خ 611]
هذا حديث خَرَّجه الأئمة الستة، وزعم أبو الفضل بن طاهر في كتاب «ذخيرة الحفاظ»:
أن المغيرة بن سِقْلَاب رواه عن مالك فزاد في سنده سعيد بن المسيب مقرونًا بعطاء،
وقال ابن عدي: وذكر سعيد في هذا الإسناد غريب لا أعلم يرويه عن مالك عن مغيرة وهو
ضعيف.
وفي «التمهيد»: رواه مسدد عن يحيى بن سعيد عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال أبو عمر: وذلك خطأ من كل من رواه بهذا
الإسناد عن مسدد أو غيره.
وفي كتاب «الأطراف الموطأ» لأبي العباس أحمد بن محمد بن عيسى الداني الحافظ: ورواه
عمر بن مرزوق عن مالك عن الزهري وذلك وهم، وذكر الدَّارَقُطْني في كتاب «الموطأ»:
أن لفظ عبد الرزاق عن مالك: «فَقُوْلُوا مِثْلَ مَا يَقُوْلُ المنَادِيْ» وقال ابن
مهتدي وابن المبارك: «الْمُؤَذِّنُ».
وقال محمد بن مصعب: «مَنْ سمِعَ المؤذنَ أو الْمُنَادي فَلْيَقُلْ مِثْلَ مَا
قَالَ».
وعند ابن ماجهْ من حديث زيد بن حُبَاب: «كَمَا يَقُوْلُ». ومن حديث إسحاق عن
الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، وكذا رواه الترمذي، وقال ابن طاهر في «الذخيرة»: لم
%ج 1 ص 112%
يضبطه عَبَّادٌ.
(1/195)
وخرج
ابن حبان حديث أبي هريرة هذا من حديث بُكَيْرِ بن الأشجِّ عن علي بن خالد الذهلي
عن النضر بن سفيان عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعند ابن الشيخ:
«أربعٌ منَ الجَفَاءِ» فذكر خصالًا منها: «وأنْ يَسْمَعَ المؤذنَ يُؤَذِّنُ فلا
يقولَ مثلَ ما يقولُ».
ورأيت حاشيةً بخط معروف لا يحضرني الآن اسم كاتبه على كتاب «التقصي» لأبي عمر ذكر
المؤذن هنا ليس من كلام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ والله تعالى أعلم.
612 - 613 - حَدَّثَنا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الحَارِثِ، حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ
طَلْحَةَ، سَمِعَ مُعَاويَةَ يَوْمًا، فَقَالَ مِثْلَهُ، إِلَى قَوْلِهِ:
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. [خ 612 - 613]
حدَّثَنَا إسْحَاقُ، حَدَّثَنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنا هِشَامٌ، عَنْ
يَحْيَى -نَحْوَهُ- قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِنَا، أَنَّهُ
قَالَ: لَمَّا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: «لاَحَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ
إِلَّا بِاللهِ» وَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْنَا نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ.
وقال في بَاب: يُجِيبُ الإِمَامُ عَلَى المِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
(1/196)
حدَّثَنَا
ابن مُقَاتِلٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ
جَالِسٌ عَلَى المِنْبَرِ، أَذَّنَ المُؤَذِّنُ، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ
أَكْبَرُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: «اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ»، قَالَ: أَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ
إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: «وَأَنَا» فَلَمَّا أَنْ قَضَى التَّأْذِينَ، قَالَ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في هَذَا
المَجْلِسِ حِينَ أَذَّنَ المُؤَذِّنُ، يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ
مَقَالَتِي.
ذكر الحيَّانيُّ أن إسحاق هذا هو ابن إبراهيم، وذكر أبو عوانة وابنُ خُزَيْمَةَ في
صحيحيهما عن مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ
الْحَكَمِ عن أبي زُرْعَةَ وَهْبِ اللهِ عن حَيْوَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ،
عن مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ عيسى عَنْ مُعَاوِيَةَ، «أَنَّ
الْمُنَادِي نَادَى بِالصَّلَاةِ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ،
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ الْمُنَادِي:
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا، فَقَالَ
الْمُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
وَأَنَا، هَكَذَا سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ
إِذَا سَمِعَ الْمُنَادِي».
(1/197)
ورواه
أيضًا ابنُ خُزَيْمَةَ عن يعقوب الدُّوْرَقيِّ، حدَّثَنَا ابن عُلَيَّة عن هشام،
وحَدَّثَنَا عبد الجبار بن العلاء، حَدَّثَنا حرملة -يعني بن عبد العزيز- حدثني
أبي عن محمد بن يوسف مولى عثمان، وحَدَّثَنَا بندار، حَدَّثَنا يحيى بن سعيد،
حَدَّثَنا محمد بن عمر، وحدثني أبي عن جدي قال: كنت عند معاوية فذكرهُ مرفوعًا.
وفي «كتاب الطحاوي» من حديث هشام عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم عن عيسى
به زاد: «حَتَّى بلغَ حيَّ على الصلاةِ حيَّ على الفلاحِ، قالَ: لا حولَ ولا قوةَ
إلا بالله» ثم قال يحيى: وحدثني رجل أن معاوية لما قال ذلك قال: هكذا سمعت
%ج 1 ص 113%
نبيكم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول.
وعند الإسماعيلي من حديث ابن علية عن هشام فلما قال: «حيَّ على الصلاةِ قال: لا
حول ولا قوة إلا بالله» ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يقول. وكذا هو في كتاب النسائي من حديث الأوزاعي عن يحيى لم يذكر واسطة.
وعند الطبراني من حديث زِبْرِيقٍ، حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن عَبْد
اللهِ بْن سَالِمٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، حَدَّثَنا الْحَسَنُ بْنُ سالم، عَنِ
ابنِ هُبَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يُكَلِّمُ مُعَاوِيَةَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ
فَأَمَرَهُ أَنْ يُنْصِتَ، ثُمَّ كَبَّرَ كَمَا كَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ
الْمُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: وَنَحْنُ نَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ الْمُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللهِ، فَقَالَ: وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ،
فَقَالَ ابنُ هُبَيْرَةَ لهُ: أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أَمْ شَيْءٌ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: بل سَمِعْتُه مِنَ النَّبِي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/198)
ورواه
علقمة بن وقاص عنه مرفوعًا، رواه النسائي عن مجاهد بن موسى وإبراهيم بن موسى بن
الحسن، حَدَّثَنا حجاج عن ابن جريج عن عمرو بن يحيى أن عيسى بن عمر أخبره عن عبد
الله بن علقمة عنه.
وقال ابن عساكر: رواه داود بن عبد الرحمن المكي عن عمرو بن يحيى عن عبد الله بن
علقمة لم يذكر عيسى، وأورد له سندًا من طريق ابن جوصاء عن يونس بن عبد الأعلى عن
عبد الله بن وهب قال: وحدثني أيضًا -يعني داود بن عبد الرحمن- فذكره.
وفي «علل الدَّارَقُطْني» رواه عَمْرو بن علقمة عن أبيه وابن يَسَاف، قال أبو حاتم
في «العلل»: لا أدري من ابن يساف هذا ثم قال: وأراه حبيب بن عبد الرحمن بن يساف،
ولم يسمع من معاوية شيئًا، وكذا رواه نَهْشَلٌ التميمي عند الطبراني من حديث
السَّمْتِيُّ، حَدَّثَنا أبي عن أبي سنان عنه، ومحمود بن علي القرظي رواه أيضًا من
حديث ابن لهيعة، وأبو صالح رواه أيضًا من حديث أبان بن زيد عن عاصم عنه، ورواه أبو
الشيخ بسند صحيح عن ابن بنت منيع عن ابن عائشة حَدَّثَنا حماد بن سلمة عن عاصم
عنه.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ حديث عمر وفي آخره: «ثمَّ قالّ: لا إله إلا الله دخلَ الجنةَ».
وعند أبي نُعَيْمٍ الحافظ: «صَادِقًا عَنْهُ قلبه». وقال الأثرم في كتابه «الناسخ
والمنسوخ الكبير»: هذا من الأحاديث الجياد وهو أخصُّ من حديث أبي سعيد.
وفي «تاريخ» الخطيب من طريق ضعيفة عن ابن المنكدر عن جابر عنه قال: «دَخَلْتُ مَعَ
النَّبيِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ المَسْجِدَ وَالمؤَذّنُ يُؤَذِّنُ فَغَدَا
إِلى النِّسَاءِ فَقَالَ لهَنَّ، قُلْنَ مِثْلَ مَا يَقُوْلُ فَإِنَّ لَكُنَّ
بِكُلِّ حَرْفٍ أَلْفَيْ حَسَنَةً قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُوْلَ اللهِ هَذَا
لِلنِّسَاءِ فَمَا لِلرِّجَالِ؟ قَالَ: الضِعْفُ يَا بْنَ الخَطَّابِ»
%ج 1 ص 114%
وحديث التيهان سمع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقد سمع المؤذن فقال مثل
قوله.
(1/199)
قال
ابن منده: في كتاب «الصحابة»: حديث غريب لا يُعرف إلا من هذا الوجه، والتِّيْهَان
مجهول.
وقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: هذا الحديث فيه نظر، وحديث عبد الله بن عمرو يرفعه: «إِذَا
سَمِعْتُم المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ،
فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ
سَلُوا الله لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا
تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا
هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ، حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ». رواه مسلم
من حديث ابن وهب عن حيوة وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن
بن جبير عنه، وبيَّنَ أبو داود في ما به الغير المشار إليه بأنه ابن لهيعة بلفظ:
«يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ قَدْ فضلونا قَالَ: قَلْ كَمَا
يَقُولُونَ ثُمَّ سَلْ تُعْطَهْ». وعند الطبراني «فَإِذَا فَرَغْتُمْ فَسَلُوا
تُعْطَوْا».
(1/200)
وحديث
أبي أمامة المصحح المسند عند الحاكم من حديث غُفَيْرِ بن مَعْدَان «مَنْ نَزَلَ
بِهِ كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ فَلْيَتَحَيَّنِ الْمُنَادِي فَإِذَا كَبَّرَ كَبَّرَ،
وَإِذَا تَشَهَّدَ تَشَهَّدَ، وَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: حَيَّ
عَلَى الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ: حَيَّ عَلَى
الْفَلَاحِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّادِقَةِ
وَالْحَقِّ الْمُسْتَجَابِ، لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَكَلِمَةُ التَّقْوَى،
أَحْيِنَا عَلَيْهَا وَأَمَتْنَا عَلَيْهَا وَابْعَثْنَا عَلَيْهَا وَاجْعَلْنَا
مِنْ خِيَارِ أَهْلِهَا مَحْيًا وَمَمَاتًا ثُمَّ يَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
حَاجَتَهُ» وعنده أيضًا عن عائشة «كَانَ إِذَا سَمِعَ المؤَذِّنَ قَالَ وَأَنَا
وَأَنَا» وقال: سنده صحيح، وقَالَ الدَّارَقُطْني: الصحيح مرسل.
وعند أبي عمر: «وأنا أشهد وأنا أشهد» وحديث ابن عمر «كَانَ إِذَا سَمِعَ الأَذَانَ
قَالَ: اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْمُسْتَجَابَةِ، الْمُسْتَجَابِ لَهَا
دَعْوَةُ الْحَقِّ وَكَلِمَةُ التَّقْوَى تَوَفَّنِي عَلَيْهَا وَأَحْيِنِي
عَلَيْهَا وَاجْعَلْنِي مِنْ صَالِحِ أَهْلِهَا عَمَلًا يوم القيامة» قال أبو
الحسن الصحيح موقوف.
وعن ابن مسعود «كَانَ إِذَا أَذَّنَ المؤَذِّنُ فَقَالَ اللهُ أَكْبَرُ اللهُ
أَكْبَرُ، وَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، قَالَ: أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللهِ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ثُمَّ يَسْكُتُ» ذكره الأثرم
من حديث الحكم بن ظُهَيْرٍ وردَّه به.
(1/201)
وعند
الطحاوي «لَمَّا قَالَ المؤَذِّنُ اللهُ أَكْبَرُ قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: على الفِطْرَةِ فَلمَّا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
قَالَ: حُرِّمَ عَلَى النَّارِ». وعن أنس عِنْدَ مُسْلِمٍ مثل حديث الطحاوي.
وعند الترمذي من طريق النعمان: «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ
وَالْإِقَامَةِ قَالُوا فَمَا يَقُوْلُ؟ قَالَ: سَلُوا اللهَ العَافِيَةَ فِي
الدَّنيا والآخِرَةِ». وفي «فوائد الأصبهاني» لأبي الشيخ: «إِذَا قَالَ اللهُمَّ
رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ
%ج 1 ص 115%
وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، أَعْطِ مُحَمَّدًا سُؤْلَهُ نَالَتْهُ شَفَاعَتِي».
وعن صفوان بن عسَّال يرفعه بمثل حديث الطحاوي، رواه أبو الشيخ من حديث يزيد بن أبي
زياد، وفي كتاب الأذان من حديث حفص بن عمار عن مبارك بن فضالة عن الحسن عنه:
«كَانَ إِذَا سَمِعَ المؤَذِّنَ قَالَ كَمَا يَقُوْلُ، وَكَانَ يَقُوْلُ إِذَا
بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ وَالفَلاحِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاّ
بِاللهِ».
وعنده أيضًا من حديث الحسن البجلي عن عبد الله بن أبي المجالد عن ورَّادِ عن
المغيرة: «مَنْ قَالَ حِيْنَ يَسْمَعُ المؤَذِّنَ مِثْلَ قَوْلِهِ غُفِرَ لَهُ».
ومن حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ: «سَمِعَ رَجُلًا فِي الْوَادِي يَقُولُ:
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ،
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: وَأَنَا أَشْهَدُ، لَا يَشْهَدُ بِهَا
أَحَدٌ إِلَّا بَرِئَ مِنَ النِّفَاقَ». وفي لفظ: «الشِّرْكِ». رواه النسائي بسند
جيدٍ.
(1/202)
وعن
أبي رافع: «كَانَ إِذَا أَذَّنَ المؤَذِّنُ قَالَ مِثْلَ مَا يَقُوْلُ حَتَّى
إِذَا بَلَغَ الصَّلاة وَالفَلاح قَالَ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ»
وسنده جيدٌ، وقال: خالف شريكًا سفيان فرواه عن عاصم عن ابن عبد الله بن الحارث عن
أبيه: «كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ المؤَذِّنَ
نَحْوَهُ». وعن عبد الله بن ربيعة «أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
سَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ يُؤّذِّنُ فِي سَفَرٍ فَقَالَ اللهُ أَكْبَرُ، قَالَ: اللهُ
أَكْبَرُ ... » ح، وسنده صحيح.
وعن أبي الدرداء: «كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ قَالَ: اللهُمَّ رَبَّ هَذِهِ
الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ
عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، وَاجْعَلْنَا فِي شَفَاعَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: مَنْ قَالَ هَذَا عِنْدَ النِّدَاءِ
جَعَلَهُ اللهُ فِي شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه أبو القاسم في «الأوسط»
من حديث محمد بن أبي السَّرِي.
(1/203)
حَدَّثَنَا
عمرو بن أبي السَّلمة عن صدقة بن عبد الله عن سليمان بن أبي كريمة من أبي قُرَّةَ
عطاء بن قُرَّةَ عن عبد الله بن ضَمْرَةَ السَّلُولي وقال: لا يُرْوى هذا الحديث
عن أبي الدرداء إلا بهذا الإسناد، تفرد به عمرو بن أبي سلمة، وعن معاذ بن أنس
يرفعه: «إِذَا سَمِعْتُم المؤَذِّنَ يُثَوِّبُ بِالصَّلاة فَقُوْلُوا كَمَا
يَقُوْلُ». رواه أبو الشيخ من طريق رشدين عن ربان بن فايد، وعن ابن عباس يرفعه:
«مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ, فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَبْلِغْهُ
الدَرَجَةَ والْوَسِيلَةِ عِنْدَكَ، وَاجْعَلْنَا فِي شَفَاعَتِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، إلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ». رواه من حديث إسحاق بن كيسان عن
أبيه عن ابن جبير عنه.
وفي «كتاب الصلاة» للدُّكَيْنِيِّ عن عمر بن ذر عن أبي بكر بن حفص عن عمر بن سعد
قال
%ج 1 ص 116%
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأذَّنَ بلالٌ: «منْ قالَ مِثْلَهُ منْ
نفسهِ حرَّمَ اللهُ عليهِ النارَ».
وموقوف بلال من كتاب «الدعاء» للطبرانيِّ، وموقوف عثمان ذكره أحمد بن مَنِيْعٍ في
«مسنده» من طريق فيها ضعف، وحديث عمرو بن العاصي ذكره ابن قدامة في «المغني»،
وحديث زريب بن برثملا ونضلة ذكره ابن أبي الدنيا في «هواتف الجنان»، وأشار
الدَّارَقُطْني في «الغرائب» إلى ضعفه، وكذلك الخطيب في آخرين. وحديث أم حبيبة:
«أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَهَا فَسَمِعَ
الْمُؤَذِّنَ قَالَ كَمَا يَقُولُ حِيْنَ يَسْكُت» خرجه ابنُ خُزَيْمَةَ في
«صحيحه»، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وكأنه غير جيدٍ؛ لأن في سنده من ليس
عندهما ولا عند أحدهما وهو عبد الله بن عُتْبَةَ بن أبي سفيان، ورواه ابن عمر بن
عبد البر من حديث أبي عوانة عن أبي بشر عنها، وكذا أبو الشيخ الأصبهاني.
(1/204)
وحديث
سعد بن أبي وقاص عِنْدَ مُسْلِمٍ: «مَنْ قَالَ حِيْنَ يَسْمَعُ النّدَاءَ: وَأَنَا
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا،
وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ».
وقال الترمذي: صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث الليث بن سعد عن الحكيم بن عبد الله
بن قيس. انتهى.
رواه الطحاويُّ من حديث يحيى بن أيوب عن عبد الله بن المغيرة عن الحكيم بزيادة:
«مَنْ قَالَ حَيْنَ يَسْمَعُ المؤَذِّنَ يَتَشَهَّدُ».
وعند ابن خزيمة: «مَنْ سَمِعَ المؤَذِّنَ يَشْهَدُ فَالْتَفَتَ فِي وَجْهِهِ
فَقَالَ: أَشْهدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ» وَفِيْهِ: «غُفِرَ لَهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» إلى غير ذلك من الأحاديث التي يتطول بذكرها الكتاب؛ لأن
معظمها يرجع إلى معنى واحد إجابة المؤذن.
قال ابن قدامة: لا أعلم فيه خلافًا من أهل العلم أنه يستحب. انتهى.
ذكر أبو جعفر الطَّحاويُّ: أن الناس اختلفوا فيه هل هو واجب أو مندوب؟.
قال والصحيح الذي عليه الجمهور أنه مندوب، وفي «شرح الهداية»: قال في «المحيط» و
«البدائع» و «المفيد» و «التحفة» و «الغُنْيَة» هو واجب، وزعم شمس الأئمة في
«الذخيرة» أن الإجابة بالقدم لا باللسان وهو المشي إلى المسجد حتى لو كان حاضرًا
في المسجد يسمع الأذان فليس عليه إجابة، فإن قال مثل ما يقول نال الثواب وإن لم
يقل فلا إثم عليه ولا يكره له ذلك، وفيها أيضًا «إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى
الصَّلَاةِ حَيَّ عَلى الفَلاَحِ قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ».
وفي «المحيط» يقول: مكان قوله حي على الصلاة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، ومكان الفلاح: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعند قوله الصلاةُ خيرٌ
منَ النومِ:
%ج 1 ص 117%
(1/205)
صَدَقْتَ
وبَرَرْتَ.
قال ابن حزم: يقول السامع كما يقول المؤذن سواء من أول الأذان إلى آخره، وسواء
أكان في صلاة فرض أو نافلة حاشى قوله: حي على الصلاة والفلاح؛ فإنه لا يقولهما في
الصلاة، فإذا أتمَّ الصلاة فليقلهما، وإن قال مكانهما: لا حول ولا قوة إلا بالله
فحسن.
وزعم الماورديُّ: أنه إذا كان في الصلاة لا يوافقه سواء أكان نفلًا أو فرضًا فلو
فعله ففيه قولان أظهرهما يُكْرَهُ ولا تَبْطُلُ؛ لأنه ذكرٌ، فلو قال الحيْعَلة أو
التثويب بَطَلَتْ إن كان عالمًا؛ لأنه كلام آدمي.
وعن مالك ثلاثة أقوال:
يجيب لعموم الحديث.
لا يجيب؛ لأن في الصلاة شُغْلًا بقول التكبير والتشهد في النافلة لا الفريضة.
وعند الطحاوي المنع من ذلك فيهما، وكذا قاله أحمد.
قال ابن قدامة: وإن قال الحيعلة بطلت صلاته، وقال الخرقي: يقول مثل المؤذن كله
وقيل: يجمع بينهما يقول: حي على الصلاة لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال بعض
العلماء: فيما ذكره ابن زكريا يحكيه إلى آخر التشهدين فقط.
وفي «المحيط»: لا ينبغي للسامع أن يتكلم في حال الأذان والإقامة ولا يشتغل بقراءة
القرآن.
وفي المرغينانيِّ: لا يقطع إن كان في المسجد، ويقطع فيما سواه، ولا يرد السلام،
وعند بعضهم يرد سرًا وكذا جواب العطاس.
قال أبو جعفر: وهل يقول ذلك عند سماع كل مؤذن أو يجيب أول مؤذن؟.
واختلف قول مالك هل يتابع المؤذن أو يقوله مسرعًا قبل فراغه من التأذين؟.
(1/206)
قال
ابن الأثير: وفي قوله إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ولم يقل
المنادي؛ لأنه لما قال النداء وهو لفظ مشترك بين نداء الصلاة وغيره عدل إلى لفظ
المؤذن عن المنادي لئلا يتكرر لفظ النداء أولًا وآخرًا، فأما حيث قال المؤذن فإن
ذلك الوهم زال وتمحض النداء للصلاة خاصة دون غيرها، وكان أبو الحسن
الرُّسْتُغْنِيُّ فيما ذكره في «شرح الهداية»: قطع القراءة للسامع إن كان أذان
سجدة يقطع؛ لأنه لزمه بالفعل فكذا بالقول. قال النووي: فلم يتابعه حتى فرغ لم أر
لأصحابنا تعرضًا لذلك ولا رأيت لهم كلامًا في الترجيع.
وعند الداودي عن مالك إن قال مثل ما يقول المؤذن حتى يتم فجائز، وإن قال إلى فراغ
التشهد فأرجو أن تجزئه، وقد ذكر عنه مثل ما رُوِيَ عن معاوية أنه كان يقول إذا قال
المؤذن
%ج 1 ص 118%
حيَّ على الصلاة لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إلى التكبير الآخِر.
قوله: (لَا حَوْلَ ولَا قُوْةَ إِلَّا باللهِ) في إعرابه وجوه:
أحدها: فتح لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله بغير تنوين.
الثاني فتح الأول ونصب الثاني منونًا.
الثالث: رفعهما منونين.
الرابع: فتح الأول ورفع الثاني منونًا.
الخامس: عكسه، وعن الهَرَويِّ: الحول الحركة، أي: لا حركة واستطاعة إلا بمشيئة
الله تعالى.
وعن ابن مسعود: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته.
(1/207)
وحكى
الجوهريُّ لغةً غريبةً ضعيفةً: لا حَيْلَ بالياء، قال: والحول والحيل بمعنى، كذا
ذكره الشيخ، والذي في «الجامع» و «المنتهى» و «الْمُوعِبِ» و «المخصص» و
«الْمُحْكَمِ» وغيرها الحول والحيل والحول والحيلة والحويل والْمَحَالة والاحتيال
والتحول والتَّحَيُّل كل ذلك جودة النظر والقدرة على التصرف فلا تفرد إذًا بهذه
اللفظة ولا ضعف قال: ويقال في التعبير عن قولهم لا حول ولا قوة إلا بالله الحوقلة
كذا قاله الأزهري، والأكثرون يقدمون القاف على اللام، وذكرها الجوهري بتقديم اللام
على القاف وأثبتها في فصل الحاء من باب القاف فعلى الأول: تكون الحاء والواو من
الحول، والقاف من القوة، واللام من الله تعالى، وعلى الثاني يكون الحاء واللام من
الحول والقاف من القوة، والأول أولى لئلا يفصل بين الحروف.
(بَابُ الدُّعَاءِ عِنْدَ النِّدَاءِ)
614 - حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللهُمَّ
رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا
الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ،
حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ». [خ 614]
قال الترمذيُّ: حسن غريب من حديث ابن المنكدر لا نعلم أحدًا رواه غير شعيب بن أبي
حمزة.
وفي «فضائل» ابن زنجويه قال شعيبٌ، حدَّثَنَا ابن المنكدر، ورواه أحمد بن حنبل من
حديث ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر بزيادة: «صَلِّ عَلَى مُحْمَدٍ وارضَ عَنِّي
رضًا لا تَسْخَطُ بعدهُ استجابَ اللهُ لهُ دعاءه».
(1/208)
وعند
أبي داود والترمذي من حديث أبي كثير مولى أم سلمة عنها: «كَانَ النَّبيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ عِنْدَ أَذَانِ المغْرِبِ: اللهُمَّ هَذَا
إِقْبَالُ لَيْلِكَ، وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ، فَاغْفِرْ
لِي» قال الترمذيُّ: أبو كثير لا نعرفه، وعنده: «وَحُضُورُ صَلَاتِكَ».
%ج 1 ص 119%
وعند الطحاويِّ: قالت أم سلمة: قَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ المَغْرِبِ فَقُوْلِي» الحديثَ.
قوله: «الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ» يريد التوحيد، وقيل: لها تامةٌ؛ لأنه لا نقص فيها
ولا عيب؛ لأنه لو كان لِلْمُوَحَّدِ شريك كان ذكر التوحيد ناقصًا، وقيل: وصفها
بالتمام؛ لأنها ذكر الله تعالى، ويُدْعَى بها إلى عبادته، وذلك هو الذي يستحق
التمام.
وقال ابن السيد: هي بفتح الدال وكذلك كل شيء دعوته، وفي «الْمُحْكَمِ»: الدَّعوة
والدِّعوة بالفتح والكسر، والمدعاة ما دعوت إليه الكسر لتعدي الرباب وسائر العرب
يفتحون، وخص اللِّحْياني بالمفتوحة الدعاء إلى الوليمة.
و (الصَّلاةِ القَائِمَةِ) قيل أراد الدعاء بالنداء؛ لأن الدعاء يسمى صلاة، وقيل:
يريد الصلاة التي يدعو إليها والوسيلة: القربةُ، وقد تقدم أنها منزلة في الجنة،
وقيل: الشفاعة، ومعنى حَلَّتْ له: يعني غشيته، وقد حلَّتْ عليه وكأنه أصح لما في
مسلم: «فَمَنْ سَألَ لِيَ الوَسِيْلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ».
وقيل: وجبت له قال تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} [طه: 81] من قرأه
بالضم أراد ينزل، ومن قرأه بالكسر قال يجب.
و (مَقَامًا مَحْمُوْدًا) كذا هو مُنَكَّرٌ، (الَّذِي وَعَدْتَهُ) بدل منه أو
منصوب بأعني أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأراد حكاية لفظ القرآن في قوله:
{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
(بَابُ الِاسْتِهَامِ فِي الأَذَانِ)
(1/209)
وَيُذْكَرُ:
«أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَلَفُوا فِي الأَذَانِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ». هذا
التعليق ذكره البيهقي بسند ضعيف منقطع، فقال أبو عبد الرحمن السُّلَميُّ:
حَدَّثَنا أبو الحسن الكارزيُّ، حَدَّثَنا علي بن عبد العزيز، حَدَّثَنا أبو عبيد،
حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، أخبرنا أبو شُبْرُمةَ قال: «تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ
بِالْقَادِسِيَّةِ فَاخْتَصَمُوا إِلَى سَعْدٍ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ».
وفي الطبري: «كانَ الْمُؤَذِّنُ أُصيْبَ يَوْمَ فَتْح القَادِسِيَّةِ وَقَدْ
حَانَتْ صَلاُةُ الظُّهْرِ فَتَشاحَّ النَّاسُ فِي الأَذَانِ حَتَّى كَادُوْا
يَجْتَلِدُوْنَ بِالسُّيُوفِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْد بنُ أَبِي وَقَّاصٍ».
قَالَ القُرْطُبِيُّ: أما تشاحُّهم في النداء مع جواز أذان الجماعة في زمن واحد،
فيمكن أن يكون أراد أن يؤذن واحد بعد واحد لئلا يُخْفِيَ صوت أحدهم، ويمكن أن هذا
التشاح كان في أذان المغرب إذا قلنا بضيق وقتها فإنه لا يُؤَذِّنُ لها إذ ذاك إلا
مؤذن واحد وقد نحا الداودي إلى هذا الاستهام في أذان الجمعة. انتهى.
قد أسلفنا أن ذلك في صلاة الظهر فلا حاجة إلى هذا التخرص والله تعالى أعلم.
615 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ
الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا
فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي العَتَمَةِ
وَالصُّبْحِ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا». [خ 615]
وقال في:
(باب: فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ)
(1/210)
حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنا مَالِك، وفيه: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ
غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ».
ثُمَّ قَالَ: «الشُّهَدَاءُ خَمْسٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِيقُ،
وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ ولَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا
فِي النِّدَاءِ ... ) فذكره ولفظ أبي رافع: «ولَوْ يَعْلَمُونَ مَا في الصَّفِ».
قَالَ القُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر
إلى الأول لكانت قرعة؟.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا،
وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا».
وفي «الأوسط» للطبراني: «اسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَللثَّانِي مَرَّتَيْنِ، وَلِلثَّالِثِ
مَرَّةً» في سنده أيوب بن عتبة، وتفرد به عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه،
وعن جابر بن سَمُرَة عِنْدَ مُسْلِمٍ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ
الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ».
وعند ابن حبان عن العِرْبَاضِ: «كان يستغفر للصَّفِّ المُقَدَّمِ ثَلَاثًا
وللثَّانِي مَرَّةً».
وعند ابن ماجه عن عائشة: «ألَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ عَنِ الصَّفِّ
الْأَوَّلِ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ إِلَى النَّارِ».
وعن عبد الرحمن بن عوف: «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ
الأَولِ».
وعند ابن حبان عن البراء بن عازب: «إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى
الصَّفِّ الأَولِ».
قَالَ القُرْطُبِيُّ: اختلف في الصف الأول هل هو الذي يلي الإمام أو المبكر؟.
(1/211)
قال:
والصحيح أنه الذي يلي الإمام، فإن كان بين الإمام والناس حائل كما أحدث الناس
المقاصير فالصف الأول هو الذي يلي المقصورة، واختلف في علته على ما يعود؟ فقال ابن
عبد البر: يعود على الصف الأول؛ لأنه أقرب مذكور وهو وجه الكلام، وقيل: يعود على
معنى الكلام المتقدم فإنه مذكور ومقول، ومثله قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] أي: ومن يفعل المذكور يلق أثامًا، ثم قيل: هو أولى
من الأول؛ لأنه إن رجع إلى الصف بقي النداء لا ذكر له، وفضل الصف الأول لأجل سماع
القرآن والتكبير عند تكبير الإمام والتأمين عند تأمينه.
وفي كتاب ابن التين: روى نوح بن أبي مريم عن زيد العَمِّي عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
%ج 1 ص 121%
«مَنْ تَرَكَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ مَخَافَةَ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا، أَضْعَفَ
اللهُ تعالى لَهُ الأَجْرَ».
وأما (الاسْتِهَامُ) فهو الاقتراع، واستهموا فَسَهَمَهُمْ فلانٌ سَهْمًا إذا
قرعهم، وعن صاحب «العين» القُرْعَةُ مثالَ ظُلْمةٍ: الاقتراع، وقد اقترعوا
وتقارعوا وقارعتُه فقرعتُه، أي: أصابتني القُرْعَةُ دونه، وأقرعتُ بينهم إذا
أمرتَهم أن يقترعوا، وقارعتُ بينهم أيضًا والأول أصوب ذكره ابنُ التَّيَّانِيِّ في
«الْمُوعِبِ»، وفي «التهذيب» لأبي منصور عن ابن الأعرابي: القَرْعُ والسَّبْقُ
والنَّدْبُ: الخَطَر الَّذِي يُستَبَقُ عَلَيْه.
وفي «مجمع الغرائب» للفارسي معنى قوله: «لاقترعتم عليه» أي: لتنافستم في الابتدار
إليه حتى يؤدي إلى الاقتراع فلا يُمَكَّنُ أحد من الوقوف فيه إلا من خرجت القرعة
إليه.
(بَابُ الكَلاَمِ فِي الأَذَانِ)
(1/212)
وَتَكَلَّمَ
سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَذَانِهِ وَقَالَ الحَسَنُ: «لاَ بَأْسَ أَنْ
يَضْحَكَ وَهُوَ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ» هكذا التعليق، رواه ابن أبي شيبة في
«مصنفه» بسند صحيح: «أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَد، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ،
كَانَ يُؤَذِّنُ فِي الْعَسْكَرِ، وَكَانَ يَأْمُرُ غُلَامَهُ بِالْحَاجَةِ فِي أَذَانِهِ».
وحدَّثَنَا ابن عُلَيَّةَ قال: سألت يونس عن الكلام في الأذان والإقامة، فقال:
حدثني عبيد الله بن غلاب عن الحسن أنه لم يكن يرى بذلك بأسًا، وعن حجاج وقتادة
وعطاء وعروة مثل ذلك، وكرهه ابن سيرين والشعبي وإبراهيم، وعن الزهري إذا تكلم في
إقامته يعيد وكرهه إبراهيم أيضًا في رواية.
616 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، وَعَبْدِ
الحَمِيدِ، صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، وَعَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
الحَارِثِ، قَالَ: «خَطَبَنَا ابنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ رَدْغٍ، فَلَمَّا بَلَغَ المُؤَذِّنُ
حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ: الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ،
فَنَظَرَ القَوْمُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: فَعَلَ هَذَا مَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنْهُ وَإِنَّهَا عَزْمَةٌ» [خ 616]
ولفظه: في بابِ الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الجُمُعَةَ فِي المَطَرِ قَالَ
ابنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلاَ تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قُلْ: «صَلُّوا
فِي بُيُوتِكُمْ» فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذلِكَ، فقَالَ: فَعَلَهُ مَنْ
هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إنَّ الجُمعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ
فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ.
(1/213)
وفي
بابِ هَلْ يُصَلِّي الإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ؟ وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ
فِي المَطَرِ؟ فقال عبدُ الله: كَأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا، «إِنَّ هَذَا
فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي» -يَعْنِي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ- وكَرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى
رُكَبِكُمْ.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «أَذَّنَ مُؤَذِّنُ ابنُ عَبَاسٍ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ
مَطِيْرٍ» وفي «المصنف»:
%ج 1 ص 122%
«أَمَرَ مُنَادِيَهُ، فَنَادَى الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ، الصَّلَاةُ فِي
الرِّحَالِ».
وقد روى النسائي عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِيهِ: «أن يوم حُنَيْنٍ كَانَ
يَوْمَ مَطَرٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنَّ
الصّلاةَ فِي الرِّحَالِ».
وعند ابن ماجه: «أنه شَهِدَ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ زَمَنَ
الْحُدَيْبِيَةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ لَمْ تَبُلَّ أَسَفلَ
نِعَالِهم فَأَمَرَهُم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ يُصَلُّوا فِي
رِحَالِهِمْ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن جابر: «كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَمُطِرْنَا، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لِيُصَلِّ
مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ».
وعند الطبراني بسند صحيح عن نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ قال: «أَذَّنَ مُؤَذِّنُ
رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَيْلَةً فِيْهَا بَرْدٌ وَأَنَا
تَحْتَ لِحَافِي فَتَمَنَّيْتُ أَنْ يُلْقِيَ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ وَلاَ حَرَجَ
فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: وَلاَ حَرَج».
وعند البيهقيِّ: «فَلَمَّا قَالَ الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ قَالَ: وَمَنْ
قَعَدَ فَلاَ حَرَجَ».
(1/214)
وعند
أحمد: «فَلَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ
ثُمَّ سَأَلْتُ عَنْهَا، فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ
أَمَرَهُ بِذَلِكَ».
وعنده أيضًا عن سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ: «أنَّ نبيَّ الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي يَوْمِ مَطَرٍ: الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ».
وفي كتاب ابن عدي عن أبي هريرة: «كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
إِذَا كَانَ لَيْلَةٌ بَارِدَة أَو مَطِيْرَةٌ أَمَرَ المؤَذِّنَ فَأَذَّنَ
الأَذَانَ الأَوَّلَ فَإِذَا فَرَغَ نَادَى: الصَّلاةُ فِي الرِّحَالِ أَوْ فِي
رِحَالِكُمْ» في سنده محمد بن جابر اليمامي وهو ضعيف، ويؤكد قول ابن عباس أنها
عَزْمَة ما رُوِيَ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ
الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا
الْعُذْرُ؟، قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي
صَلَّى». قال أبو محمد الأَزْديُّ: رواه قاسم بن أصبغ بسند حسبك به صحةً، وزعم بعضهم
أن الصحيح فيه موقوف على ابن عباس.
وفي «المصنف» عن ابن سيرين: أنه اشتد المطر يوم الجمعة فلم يُجْمَع، وكذا فعله عبد
الرحمن بن سمرة.
(الرَّدْغُ) بدال مهملة ساكنة وغير معجمة رواه العُذْريُّ وبعض رواة مسلم، وكذا
لابن السكن والقابسي إلا أنهما فتحا الدال وهي روايتنا من طريق أبي الوقت، ورواه
الأَصِيلي والسمرقندي: (رَزَغ) بزاي مفتوحة بعدها غين معجمة، قَالَ
السَّفَاقُسيُّ: رُويناه بفتح الزاي وهو في اللغة بسكونها.
وقَالَ القُرْطُبِيُّ: الرواية المشهورة فيه بدال مهملة ساكنة وغين معجمة، وقد
قيل: رزغ بفتح الزاي وسكونها وصوابه بالفتح فإنه اسم، قَالَ الدَّاودِيُّ:
الرَّزَغُ الغيم البارد، وفي «الْمُحْكَمِ»
%ج 1 ص 123%
(1/215)
الرَّزَغُ
الماء القليل في الثماد والحساء ونحوهما، والرَّزَغةُ أقلُّ من الرَّدَعة، والرزعة
بالفتح الطين الرقيق.
قال عبد الرحمن بن سمرة: وقيل له أما جمعت قال: منعنا منه هذا الرَّزَغُ.
وَفِي «الصِّحَاحِ» الرَّزَغَةُ بالتحريك الوحل وكذلك الرَّدَغة بالتحريك وكذا
ذكره في «المنتهى» وغيره فلا يتجه على هذا قولُ ابن التين: هو في اللغة بسكونها،
وفي كتاب أبي موسى الرَّدْغَة بسكون الدال وفتحها طينٌ ووحلٌ كثير، والجمع رداغ،
وقد يقال ارتدع بالعين المهملة تلطخ، والصحيح الأول، وقد يُرْوَى بالزاي بدل الدال
ومعناهما قريب من السواء.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: استدل بحديث ابن عباس من أجاز الكلام في الأذان وهم: أحمد
والحسن وعروة وعطاء وقتادة وعبد العزيز بن سلمة وابن أبي حازم، قال: ولا حجة لهم
فيه لما في حديث ابن عمر الآتي بعد من عند البخاري فقال في آخر أذانه: (ألا
صَلُّوا في الرِّحَالِ) قال: وحديث ابن عمران لم يكن ظاهرًا فيما ذكرناه فلا أقلَّ
من أن يكون محتملًا، قال: وحديث أبي هريرة -يعني الذي ذكرناه من عند ابن عدي- نصٌّ
يرفع الاحتمال، ثم إن حديث ابن عباس لم يسلك فيه مسلك الأذان، ألا تراه قال: لا
تقل حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم، وإنما أراد إشعار الناس بالتخفيف عنهم
للعذر كما فعل في التثويب للأمراء.
وقد كره الكلامَ في الأذان مالكٌ وأبو حنيفة والشافعي وعامة الفقهاء.
قال النووي: الأمران جائزان نص عليهما الشافعي في «الأمِّ» وتابعه جمهور أصحابه،
لكن يقوله بعد الأذان أحسن ليبقى نظم الأذان على وضعه.
وعن أحمد: إباحته في الأذان دون الإقامة.
وأما (الرِّحَالُ) فهي المنازل والدور والمساكن، جمع رَحْلٍ وسواء أكانت من حجر أو
مَدَرٍ أو خشب أو شعر أو صوف أو وبر وغيرها، ثم قال ابن سيده: والجمع أَرْحُل.
و (العَزْمَةُ) بسكون الزاي الحقُّ الواجب، والضمير في قوله: (وِإِنَّهَا
عَزْمَةٌ) جاء في عزمة طرقه أن الجمعة.
(1/216)
(بَابُ
أَذَانِ الأَعْمَى إِذَا كَانَ لَهُ مَنْ يُخْبِرُهُ)
617 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ،
عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قَالَ: «إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يُنَادِيَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ». قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، لاَ يُنَادِي
حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. [خ 617]
وعند البيهقي قال ابن شهاب:
%ج 1 ص 124%
وكانَ ابنُ أمَّ مكتوم رجلًا أعمى لا يؤذِّنُ حَتَّى يُقَالَ لهُ: أَصْبَحْتَ. كذا
ذكره مدرجًا، وفي كتاب «الفضل للوصل» للخطيب رواه يونس بن يزيد عن ابن شهاب فجعله
من كلام سالم بن عبد الله بن عمر، وفي «الجمع» للحميدي رواه عبد العزيز بن أبي
سلمة عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال: وكان ابن أم مكتوم إلى آخره، وبنحوه
ذكره أيضًا صاحب «المغني» الحنبلي.
وفي «صحيح ابن خزيمة» حَدَّثَنا أبو هِشَامٌ، حَدَّثَنا مَنْصُورٌ -يعني ابنَ
زَاذَانَ- عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمَّتِهِ أُنَيْسَةَ
بِنْتِ خُبَيْبٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«إِذَا أَذَّنَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَإِذَا أَذَّنَ بِلَالٌ
فَلَا تَأْكُلُوا وَلَا تَشْرَبُوا» فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنَّا لَيَبْقَى
عَلَيْهَا مِنْ سحُورِهَا، فَتَقُولُ لِبِلَالٍ: أَمْهِلْ حَتَّى أَفْرَغَ مِنْ
سُحُورِي.
(1/217)
قال
ابن خزيمة: هذا خبرٌ قدِ اخْتُلِفَ فيه على خبيب رواه شعبة عنه عن عمته أُنَيْسَةَ
فقال: إِنَّ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ أَوْ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ، حَدَّثَنَاه
ابن بشار، حدَّثَنَا ابن جعفر عنه وفيه: وَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ يَتْرُكَ
أَحَدُهُمَا وَيَصْعَدَ الْآخَرُ فَيُنَادِي فَنَأْخُذُ بِثَوْبِهِ، فَتَقُولُ:
كَمَا أَنْتَ حَتَّى نَتَسَحَّرَ. قال: فخبر أنيسة قد اختلفوا فيه في هذه اللفظة،
ولكن قد روى الدَّرَاوَرْدِيُّ عن هشام عن أبيه مثل معنى خبر منصور بن زادان في
هذه اللفظة.
حَدَّثَنَاه محمد بن يحيى، حَدَّثَنا إبراهيم بن حمزة، حَدَّثَنا عبد العزيز -يعني
ابن محمد- عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: (إِنَّ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلَالٌ؛ وكَانَ بلالٌ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَرَى الْفَجْرَ)
وروى شبيهًا بهذا المعنى أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة: حَدَّثَنَاه أحمد بن
منصور، حَدَّثَنا أبو المنذر إسماعيل بن عمر الواسطي، حَدَّثَنا يونس عن أبي إسحاق
عن الأسود بن يزيد قال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيَّ سَاعَةٍ تُوتِرِينَ؟ قَالَتْ:
مَا أُوتِرُ حَتَّى يُؤَذِّنُوا، وَمَا يُؤَذِّنُونَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، قَالَتْ:
وَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُؤَذِّنَانِ: بِلَالٌ،
وَعَمْرُو ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إِذَا أَذَّنَ عَمْرٌو فَكُلُوا وَاشْرَبُوا، فَإِنَّهُ رَجُلٌ ضَرِيرُ
الْبَصَرِ، وَإِذَا أَذَّنَ بِلَالٌ فَارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّ بِلَالًا
لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يُصْبِحَ».
(1/218)
وحَدَّثَنَا
أحمد بن سعيد الدَّارِمِيُّ ومحمد بن عثمان، حَدَّثَنا عبيد الله بن موسى عن
إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثَلَاثَةُ مُؤَذِّنِينَ: بِلَالٌ وَأَبُو مَحْذُورَةَ،
وَعَمْرُو ابنُ أَمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إِذَا أَذَّنَ عَمْروٌ فَإِنَّه ضَرِيرٌ البصرِ فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ،
وَإِذَا أَذَّنَ بِلَالٌ فَلَا يَطْعَمَنَّ أَحَدٌ».
قال الإمام: أمَّا خبرُ أبي إسحاق عن الأسود فإن فيه نظرًا
%ج 1 ص 125%
(1/219)
لأني لا أقف على سماع أبي إسحاق هذا الخبر من الأسود، فأما خبر هشام فصحيح من جهة النقل وليس هذا الخبر يضاد خبر سالم عن ابن عمر، وخبر القاسم عن عائشة إذ جائز أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قد كان جعل الأذان بالليل نوائب بين بلال وعمرو، فأمر في بعض الليالي بلالًا أن يؤذن أولًا بالليل فإذا نزل بلالٌ صعد عمرو فأذن بعده بالنهار، فإذا جاءت نوبة عمرو بدأ فأذن بليل، فإذا ترك صعد بلال فأذن بعده بالنهار، فإذا جاءت نوبة عمرو بدأ فأذن وكانت مقالة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «إنَّ بلالًا يؤذن بليل» في الوقت الذي كانت النوبة لبلال في الأذان بالليل، وكانت مقالته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل في الوقت الذي كانت النوبة في الأذان بالليل نوبة ابن أم مكتوم، فكان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يعلم الناس في كلا الوقتين أن أذان الأول منهما هو أذان بليل لا بنهار، وأنه لا يمنع من أراد الصوم طعامًا ولا شرابًا، وأن أذان الثاني إنما يمنع الْمَطْعَمَ والْمَشْربَ إذ هو بنهار لا بليل، وأما خبر الأسود عن عائشة: (وما يؤذنون حتى يطلع الفجر) فإن له معنيين: أحدهما لا يؤذن جميعهم حتى يطلع الفجر لا أنه لا يؤذن أحد منهم ألا تراه قد قال في الخبر إن أذن عمرو فكلوا واشربوا، فلو كان عمرو لا يؤذن حتى يطلع الفجر لكان الأكل والشرب على الصائم بعد أذان عمرو محرَّمين، والمعنى الثاني أن تكون عائشة أرادت حتى يطلع الفجر الأول فيؤذن الثاني منهم بعد طلوع الفجر الأول لا قبله، وهو الوقت الذي يحل فيه الطُّعْمُ والشرب لمن أراد الصوم إذ طلوع الفجر الأول بليل لا بنهار ثم يؤذِّن الذي يليه بعد طلوع الفجر الثاني الذي هو نهار لا ليل فهذا معنى هذا الخبر عندي والله تعالى أعلم.
(1/220)
قَالَ
الدَّاودِيُّ: وقد رُوِيَ أنه لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا أن ينزل هذا
ويطلع هذا، فإن كان محفوظًا فإنما كان ذلك في بعض الأوقات فأدَّى الناقل ما شاهد،
وقد قيل: إنما يجوز الأذان بليل إذا كان ثَمَّ من يؤذن بعد الفجر، ولما ذكر ابن
حبان حديث أنيسة في «صحيحه» قال: ليس بين هذا وبين خبر أم المؤمنين تضادٌّ؛ وذلك
أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان جعل الليل بين بلال وابن أم مكتوم
ثوبًا، فكان بلال يؤذن بالليل ليالي معلومة لِيُنَبِّهَ النائم ويرجع القائم،
ويؤذن ابن أم مكتوم في تلك الليالي بعد انفجار الفجر لصلاة الغداة، فإذا جاءت نوبة
ابن أم مكتوم كان يؤذن بالليل ليالي معلومة كما وصفنا قبلُ، ويؤذن بلال في تلك
الليالي
%ج 1 ص 126%
بعد انفجار الصبح لصلاة الغداة من غير أن يكون بين الخبرين تضاد أو تهاتر. انتهى.
كأن الشيخ اعتمد على إسناده الذي روى عنه هذا الحديثَ ابنُ خزيمة، فإن كان كذلك
فقد ذكرنا كلام ابن خزيمة من أنه يحتمل لا أنه جزم به ولا نقله والله تعالى أعلم.
وعند الطحاوي من حديث محمد بن بشر عن ابن أبي عَرُوبة عن قتادة عن أنس قال: قال
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا يَغُرَّنَّكُمْ أذانُ بلالٍ، فإنَّ في
بَصَرِهِ شيئًا».
وقَالَ البَيْهَقِيُّ: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق
الفقيه قال: فإن صحَّ يعني رواية أنيسة فقد يجوز أن يكون بين أم مكتوم وبين بلال
نُوَبٌ، فكان بلال إذا كانت نوبته يؤذن بليل، وهذا حديث صحيح، وإن لم يصح فقد صحَّ
خبر ابن عمر أن بلالًا يؤذن بليل.
وقال ابن حبيب في «شرح هداية الموطأ»: معنى قوله «أصبحْتَ أصبحْتَ» ليس إفصاحًا
بالصبح بمعنى أن الصبح انفجر وظهر، ولكنه التحذير من طلوعه.
(1/221)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: وقال الأَصِيلي والداوديُّ وسائر المالكيين مثله كما قال تعالى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] يريد إذا قاربن ذلك؛ لأنه إذا انقضى
أجلها وتمت عدتها فلا سبيل إلى زوجها إلى مراجعتها، قالوا: ولو كان أذان ابن أم
مكتوم بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أذانه بالإجماع أن الصيام واجب من
أول الفجر، والذي بوَّبَ البخاري له فمراده بعد طلوع الفجر، والحجة له في ذلك قوله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بليلٍ» فلو كان أذان ابن
أم مكتوم قبل الفجر لم يكن لقوله إن بلالًا ينادي بليل معنًى؛ لأن أذان ابن أم
مكتوم كذلك هو في الليل، وإنما يصح الكلام أن يكون نداء ابن أم مكتوم في غير الليل
في وقت يحرم فيه الأكل والشرب اللذين كانا مباحين في وقت أذان بلال، وقد روي هذا
المعنى أيضًا في طريق ذكرها البخاري في كتاب الصيام عن عائشة: «إِنَّ بِلاَلًا
يُؤَذِّنُ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَؤَذِّنَ عَمْرٌو، فَإِنَّهُ لاَ
يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ» وهذا نص قاطع الخلاف، وأما علة من اعتل أن
أذانه لو كان بعد الفجر لم يجز أن يؤمر بالأكل إلى وقت أدائه للإجماع أن الصيام
واجب أول الفجر فإنها علة لا توجب فساد معنى الصيام، وإنما كان أذان عمرو علامة
لتحريم الأكل لا للتمادي فيه، ولا بد إن كان له من يراعي الوقت ممن يقبل قوله ويثق
به، ومذهب أبي حنيفة لا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها وتعاد في الوقت إلا أذان الفجر
فإنهم اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة ومحمد: هو كسائر الصلوات استدلالًا
%ج 1 ص 127%
لِمَا روى حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر «إِنَّ بِلَالًا أَذَّنَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمسِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ
يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ فَرَجَعَ فَنَادَى إِنَّ
الْعَبْدَ نَامَ».
(1/222)
قال
أبو داود: ولم يروه عن أيوب إلا حماد، وقال الترمذي: قال علي بن عبد الله: حديث
حماد -يعني هذا- غير محفوظ.
وقَالَ الدَّاودِيُّ: قال مالك: لم يزل الأذان عندنا بليل، وحديث أمر بلال
بالإعادة لم يلتفت مالك إلى من رفعه، وقال: العمل عندنا إنما يكون بالتواتر وهو
الذي يرويه التابع عن الصاحب والآخر عن الأول بلا معارض، قَالَ الدَّاودِيُّ: وهذا
قوي عنده من طريق الآحاد. انتهى.
والذي علل به هذا الحديث أمور منها:
ما رواه أبو داود من حديث عبد العزيز بن أبي رَوَّاد، أخبرنا نافع أن مؤذنًا لعمر
يقال له مَرْوح أذن قبل الصبح فقال له عمر الحديثَ. قال الترمذي: وهذا لا يصح،
نافع عن عمر منقطع، ولعلَّ حمادًا زاد هذا الحديث, وقال أبو داود: رواه حماد بن
زيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: كان لعمر مؤذن يقال له مَرْوح.
قال: ورواه الدَّرَاوَرْدِيُّ عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: كان لِعُمَرَ
مؤذنٌ يقال له مسعود. قال: أبو داود وهذا أصح من ذاك.
الثاني: قول الهدي الصحيح رواية عبيد الله وغير واحد عن نافع عن ابن عمر والزهري
عن سالم عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إنَّ بلالًا
يُؤَذِّنُ بليلٍ» قال أبو عيسى: ولو كان حديث حماد صحيحًا لم يكن لهذا الحديث
معنى، إذ قال: إنَّ بلالًا يُؤَذِّنُ بليلٍ، وإنما أمرهم فيما يُسْتَقْبَلُ فقال:
إن بلالًا يؤذن، ولو أنه أمر بإعادة الأذان حين أذن لم يقل إن بلالًا يؤذن.
وقال الأثرم: أما حديث حماد فخطأ معروف من خطأ حماد، وإنما أصل الحديث عن نافع عن
ابن عمر أن مؤذنًا لعمر يقال له مروح، وقال بعضهم: مسعود، أذن بليل الحديثَ.
(1/223)
الثالث:
قَالَ البَيْهَقِيُّ في «الخلافيات»: حماد أحد أئمة المسلمين إلا أنه طعن في السن،
ساء حفظُه، فلذلك ترك الاحتجاج بحديثه، وأما مسلم فإنه اجتهد وأخرج من أحاديثه عن
ثابت ما سُمِعَ منه قبل تَغَيُّره وما سوى حديثه عن غير ثابت لا يبلغ أكثر من اثني
عشر حديثًا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج، فالاحتياط لمن راقب الله تعالى ألا
يحتج بما يجد في حديثه ما يخالف الثبات وهذا من جملتها. انتهى.
وقد وجدنا لحديث حماد هذا ما يصلح أن يكون شاهدًا، منها: ما ذكره الدَّارَقُطْني
من حديث سعيد
%ج 1 ص 128%
بن زربي عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: «إِنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ
فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ يَصْعَدَ فَيُنَادِيَ
أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ».
ومن رواية أبي يوسف القاضي عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أن بلالًا ح. قال أبو
الحسن: أرسله غير أبي يوسف عن يوسف عن قتادة والمرسل أصح.
ومن رواية محمد بن القاسم الأسدي قال: حَدَّثَنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس
به، وقال: محمد ضعيف جدًا، ومن رواية الديري عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب أذن
بلال ح مرسل، ومن رواية عامر بن مدرك عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن
عمر فذكره، وقال: وهم فيه عامر عن عبد العزيز. انتهى.
عامر هذا ذكره ابن حبان في كتاب «الثقات» وخرج هو وأبو عبد الله حديثه في صحيحهما،
وأثنى عليه الرازي ورواه أيضًا بسند صحيح إلى حميد بن هلال (أن بلالًا ... )
مرسلًا.
وعند أبي داود بسند منقطع من حديث جعفر بن برقان عن شداد مولى عياض عن بلال: «أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لِبِلاَلٍ: لاَ تُؤَذِّنْ حَتَّى
تَسْتَيْقِنَ الفَجْرَ».
وكذا رواه البيهقيُّ أيضًا من طريق الحسن بن عمارة عن طلحة بن مصرف عن سويد بن
غفلة عن بلال، ومن حديثه أيضًا عن عطاء عن أبي محذورة بنحوه.
(1/224)
ومن
حديث إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد العزيز بن أبي رواد
عن نافع عن ابن عمرو بأسانيد جياد أن جماعة كرهوا الأذان قبل الفجر منهم الحسن
وإبراهيم ونافع الأسود والشعبي، وسمع علقمة مؤذنًا بليل فقال: لقد خالف هذا سنة
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لو نام على فراشه لكان خيرًا له.
قال أبو محمد: والأذان الذي كان في زمن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان
أذان سحور لا أذان صلاة.
وعند الشافعي إذا اقتصر على الأذان جاز، ذكره في «شرح المهذب» قال: وقال أصحابنا
أذان الأعمى جائز إذا كان معه بصير كره للخوف من غلطه.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ولا يصحُّ أذانه عند أبي حنيفة وداود، ويصح عند مالك. انتهى.
مذهب أبي حنيفة أن أذان الأعمى يكره، ولهذا قال السروجي: الذي يقوله الشيخ عن أبي
حنيفة غلط، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وممن كرهه ابن مسعود وابن الزبير، وابن عباس كره
إمامته، وروي أن مؤذن النخعي كان أعمى وأجازه مالك والكوفيون والشافعي أحمد.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: وفيه جواز شهادة الأعمى على الصوت، قَالَ السَّفَاقُسيُّ:
ومنعه أبو حنيفة.
وفيه جواز ذكر الرجل بما فيه من عاهة، ونسبته إلى أمه وتكنية المرأة.
(بَابُ الأَذَانِ بَعْدَ الفَجْرِ)
618 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابنِ عُمَرَ، أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ
%ج 1 ص 129%
(1/225)
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ المُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ، وَبَدَا الصُّبْحُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ». أكثر نُسَخِ البخاري كذا باب الأذان بعد الفجر، وفي بعضها: باب إذا اعتكف وأذن المؤذن، وكأن الصحيح هو الأول؛ لأن الشراح إنما تكلموا على لفظ الأول، وقال ابن قُرْقُول: قوله: في باب كان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا اعتكف المؤذن للصبح وبدا الصبح ركع ركعتين كذا الأَصِيلي والقابسي، معنى اعتكف هنا: انتصف قائمًا للأذان كأنه من ملازمة مراقبة الفجر، وعند الهمداني: كان إذا أذن المؤذن، وعند النسفي: كان إذا اعتكف أذن المؤذن للصبح، وفي سائر الأحاديث في غير هذا الباب: كان إذا سكت المؤذن، وهو وجه الكلام وهو معنى رواية الهمداني، وتكون رواية النسفي إخبارًا عن حاله إذا اعتكف وكان في المسجد فكان يركع ركعتي الفجر فيه. [خ 618]
(1/226)
وقَالَ
السَّفَاقُسيُّ وابنُ بطالٍ: رواية النسفيِّ إن كانت محفوظة فوجه موافقتها للترجمة
أن المؤذن كان يعتكف أي ينتظر الصبح ليؤذن في أوله، والعكوف في اللغة: الإقامة،
فكان يرقب طلوع الفجر ليؤذن في أوله، فإذا طلع الفجر أذَّنَ، فحينئذ كان يركع
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الفجر، قالا: ويشهد لهذه الرواية رواية الجماعة عن
مالك: كانَ إِذَا سَكَتَ المؤذِّنُ صلَّى ركعتينِ خفيفتين، فدلَّ أنَّ ركوعه كان
متصلًا بأذانه، ولا يجوز أن يكون ركوعه إلا بعد الفجر، فكذلك كان الأذان بعد
الفجر، وعلى هذا المعنى حمله البخاري وترجم عليه باب الأذان بعد الفجر وأردفه
بحديث عائشة: «كانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيْفَتَيْنِ بينَ النِّدَاءِ
والإقامةِ منْ صلاةِ الصبحِ» ليدل أن هذا النداء كان بعد الفجر، قَالَ ابنُ
بَطَّالٍ: فمن أنكر هذا لزمه أن يقول إن صلاة الصبح لم يكن يؤذن لها بعد الفجر
وهذا غير سائغ من القول، حديث عائشة تقدم ذكره وكذا حديث أنَّ بلالًا ينادي بليل.
(بَابُ الأَذَانِ قَبْلَ الفَجْرِ)
621 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنا
سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابنِ
مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَمْنَعَنَّ
أَحَدَكُمْ -أَوْ أَحَدًا مِنْكُمْ- أَذَانُ بِلاَلٍ مِنْ سَحُورِهِ، فَإِنَّهُ
يُؤَذِّنُ -أَوْ يُنَادِي بِلَيْلٍ- لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ، وَلِيُنَبِّهَ
نَائِمَكُمْ، وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الفَجْرُ -أَوِ الصُّبْحُ-» وَقَالَ
بِأُصْبعِهِ وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقُولَ
هَكَذَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: بِسَبَّابَتَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الأُخْرَى،
ثُمَّ مَدَّهُما عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. [خ 621]
وفي باب الإشارة في الطلاق والأمور ونزوله من حديث القعنبي
%ج 1 ص 130%
(1/227)
عن
يزيد عن سليمان التيمي، وأظهر يزيد بن زُرَيْعٍ يديه ثم مدَّ إحداهما من الأخرى،
وقال: في باب إجازة خبر الواحد، حَدَّثَنا مسدد، عن يحيى عن التيمي: «وليس الفجر
أن يقول هكذا» ومدَّ يحيى أصبعيه السَّبَّابَتَيْنِ.
وقال ابن منده: هذا إسناد مجمع على صحته.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا
بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلُ هَكَذَا، حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا». وحكاه
حماد بن زيد بيده وقال يعني معترضًا.
وفي «فوائد الأصبهاني» لأبي الشيخ من طريق شعبة عن سوادة سمعت مرة يخطب قال رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أذانُ بِلَالٍ وَلَا هَذَا
الْبَيَاضُ حَتَّى يَبْرُقَ الفَجْرُ أَوْ يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ» قال شيخنا أبو
الفتح القشيري: الذي قالوا بجواز الأذان للصبح قبل دخول الوقت اختلفوا في وقته:
فذكر بعض الشافعية أنه يكون في وقت السحر من الفجر الصادق والكاذب، قال: ويكره التقديم
على ذلك الوقت، وقد يوجد في الحديث ما يقرب هذا، وهو قوله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بليلٍ» إخبار يتعلق به فائدة للسامعين قطعًا.
وقال ابن العربيِّ: لو لم يؤذن المؤذن لصلاة الفجر حتى يطلع الفجر لما تمكن الناس
من الاغتسال والوضوء والاجتماع في المسجد إلا بعد إسفار كثير، فَشُرِعَ الأذان
ليلًا لهذه العلة، وقال علماؤنا أقوالًا يؤذن عند انقضاء صلاة العتمة من نصف
الليل، وقيل: عند ثلث الليل، وقيل: عند سدسه الآخر.
وقال أبو يوسف وأحمد ومالكٌ في قولٍ: (الجواز من نصف الليل) وهو الأصح من أقوال
أصحاب الشافعي.
والقول الثاني عند طلوع الفجر في السحر.
قال النوويُّ: وبه قطع البَغَويُّ وصححه القاضي حسين والْمُتَولِّي.
الثالث: يؤذن لها في الشتاء لِسُبع يبقى من الليل، وفي الصيف لنصف سُبع يبقى من
الليل.
والرابع: من ثلث الليل آخر الوقت المختار.
(1/228)
الخامس:
جميع الليل وقت لأذان الصبح حكاه إمام الحرمين، وقال: لولا حكاية أبي علي له وأنه
لم ينقل إلا ما صح عنده لما استجزت نقله، وكيف يحسن الدعاء لصلاة الصبح في وقت
الدعاء إلى المغرب، والسَّرفُ في كل شيء مطرح، وأما السُّبع ونصف السُّبع فحديث
باطل عند أهل الحديث، وإنما رواه الشافعي عن بعض أصحابه عن الأعرج عن إبراهيم بن
محمد عن عمارة عن أبيه عن جده عن سعيد القرظ وهو مخالف لمذهبه فإنه قال: كان
أذاننا في الشتاء لِسُبع ونصف سُبع يبقى من الليل وفي الصيف لسبع يبقى منه.
وقال ابن الأثير في «شرح المسند»: وتقديم الأذان على الفجر مستحبٌّ، وبه قال مالك
والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وأبو يوسف.
وقوله:
%ج 1 ص 131%
«لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكم -أو أحدًا منكم-» يحتمل أن يكون هذا الشك من زهير فإن
جماعة رووه عن سليمان التيمي فقالوا: «لا يَمْنَعَنَّ أحدَكُمْ أَذَانُ بلالٍ».
وقوله: (قَائِمَكُمْ) منصوب بيرجع، قال تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى
طَائِفَةٍ} [التوبة: 83] يعني: يعلمكم أن الفجر ليس ببعيد فيرد القائم المجتهد إلى
راحته لينام غفوة ليصبح نشيطًا أو يوتر إن لم يكن أوتر أو تأهب للصبح إن احتاج إلى
طهارة وما أشبه ذلك من مصالحه، وكذا النائم ليتأهب للصبح.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: النداء الذي كان يؤذنه بلال بليل هو أذان الفجر عند الجمهور،
وقال أبو حنيفة: إنما هو لإيقاظ النائم كما في الحديث ولا بد من أذان آخر كما فعل
ابن أم مكتوم.
(1/229)
وقوله:
(ليسَ الفجرُ وقالَ بأُصْبَعَيْه) على اختلاف الألفاظ التي سُقناها يُؤْذِن أن
الفجر فجران الأول وهو الكاذب الذي لا يتعلق به حكم، والثاني وهو الصادق الذي
يتعلق به الأحكام وهو الذي أشار بسبابتيه ثم مدَّهما عن يمينه ويساره وهو إشارة
إلى أنه يطلع معترضًا يعمُّ الأفق ذاهبًا فيه عرضًا في ذيل السماء، ويستطير أي
ينتشر بسرعة، قَالَ الْمُهَلَّبُ: يؤخذ منه أن الإشارة تكون أقوى من الكلام.
حَدَّثَنَا إسحاق، أخبرنا أبو أسامة فذكر حديث عائشة: أنَّ بلالًا يُؤَذِّنُ
بليلٍ، وقد تقدم الكلام عليه أيضًا. وزعم الجياني أن إسحاق عن أبي أسامة يحتمل أن
يكون الحنظلي أو إسحاق بن منصور أو إسحاق بن نصر السعدي، وزعم الحافظ أبو الحجاج
الدمشقي في «أطرافه» أن إسحاق بن إبراهيم ورأيت في بعض النسخ من «كتاب البخاري»
حاشية إسحاق هذا هو ابن شاهين الواسطي فالله تعالى أعلم.
(بابٌ كَمْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ)
624 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ الوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنا خَالِدٌ، عَنِ الجُرَيْرِيِّ،
عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ: أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ
صَلاَةٌ، ثَلاَثًا لِمَنْ شَاءَ». [خ 624]
وفي لفظ الحسين عنه: «صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ المَغْرِبِ». قَالَ: «لِمَنْ شَاءَ
كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً».
ولفظه في «الاعتصام بالكتاب والسنة» قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ.
(1/230)
وعند
الترمذي: قَالَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ لِمَن شَاءَ، وعند
أبي داود: قَالَهَا مَرَّتَيْنِ ورُوينا في جزء حامد بن شعيب البلخي، حَدَّثَنا
الحكم بن موسى، حَدَّثَنا سُوَيْدُ بن عبد العزيز عن ثابت بن عجلانَ عن سُلَيْم بن
عامر عن ابن الزبير أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «مَا مِنْ صَلاَةٍ
مَفْرُوْضَةٍ إِلاَّ بَيْنَ يَدَيْهَا رَكْعَتَانِ» يُرِيْدُ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ والله تعالى أعلم:
%ج 1 ص 132%
الأذان والإقامة، سَمَّى الإقامةَ أذانًا؛ لأنَّ المقصودَ بها أيضًا الإعلام أو
غلب أحدهما على الآخر، كقولهم: الأبوان والعُمَران والقَمَران.
قَالَ الدَّاودِيُّ: وحديث أنس يعني المذكور وقيل: إذا أذن المؤذن قام ناس يبتدرون
السواري يصلون الركعتين قبل المغرب، وقد تقدم في الصلاة إلى الأسطوانة مفسِّر لهذه
الأحاديث، ولولاه لاحْتَمَلَ أن يقال بين أذان الظهر أو العصر أو غيرهما من
الصلوات. انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث إنه لم يجمع أطراف الحديث، ولولا جمعُه لما احتاج إلى إيضاحه من
حديث آخر.
وعند الحاكم من حديث إسرائيل عن سِمَاك عن جابر بن سَمُرَةَ: «كَانَ بِلالٌ
يُؤَذِّنُ، ثُمَّ يُمْهِلُ فَإِذَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قَد خَرَجَ أَقَامَ» وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، إنما خرَّج مسلم حديث
زهير عن سماك عن جابر بن سمرة: «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ
وَلَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ حِينَ يَرَاهُ».
ولفظه عند ابن ماجه من حديث شريك عن سماك: «كَانَ بِلَالٌ لَا يَخْرِمُ الْأَذَانَ
عَنِ الوَقْتِ وَرُبَّمَا أَخَّرَ الْإِقَامَةَ شَيْئًا».
(1/231)
وعند
الحاكم من حديث داود بن رُشَيْدٍ عن الوليد بن مسلم، أخبرنا ابن جريج عن موسى بن
عقبة عن نافع بن جبير عن مسعود يعني ابن الحكم الزرقي عن علي بن أبي طالب: «كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ تُقَامُ
الصَّلَاةُ فإذا رَآهُمْ قَلِيلًا جَلَسَ، وَإِذَا رَآهُمْ جَمَاعَةً صَلَّى».
وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وذكره البيهقيُّ بسند جيد عن ابن جريج عن موسى
بن عقبة عن أبي النضر به مرسلًا.
وعند الحاكم من حديث عبد المنعم بن نُعَيْم، حَدَّثَنا عمرو بن فايد، حَدَّثَنا
يحيى بن مسلم عن الحسن وعطاء عن جابر «أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ قال
لبِلَال، إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ
بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ،
وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ»
وقال: هذا حديث ليس في إسناده مطعون فيه غير عمرو بن فايد والباقون شيوخ البصرة،
وهذه سُنَّةٌ غريبة لا أعرف لها إسنادًا غير عمرو ليس كما قال؛ لأن عبد المنعم هذا
قال فيه ابن حِبَّان: منكر الحديث جدًا لا يجوز الاحتجاج به، وقَالَ
الدَّارَقُطْني والسَّاجي: ضعيف، وقال البخاريُّ: منكر الحديث، ويحيى بن مسلم قال
النسائي والأزدي: متروك، وقال علي بن الجنيد: مختلط، وقال ابن حبان: يروي عن
الثقات المعضلات لا يجوز الاحتجاج به، وقال السمعاني: كان يروي المناكير، وقال ابن
معين والدَّارَقُطْني: ضعيف، وتكلم فيه آخرون ولهذا إن أبا علي الطُّوسي وأبا عيسى
لما خرجاه
%ج 1 ص 133%
في كتابيهما قالا: هذا إسناد مجهول ولا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث عبد
المنعم، وقال أبو بكر المعافري: هذا حديث ضعيف الإسناد وهو في باب الأذان حسن،
وقَالَ البَيْهَقِيُّ في «السنن الكبرى»: في إسناده نظر.
(1/232)
الثاني:
استغرابه هذه السُّنَّة وقد رواها علي بن أبي طالب ذكره الدَّارَقُطْني من حديث عمرو
بن شَمِر: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ
نُرَتِّلَ الْأَذَانَ وَنَحْدرَ الْإِقَامَة».
وقال أبو القاسم في «الأوسط»: لم يروه عن عمرو بن شمر إلا أبو معاوية ولا يروي عن
علي إلا بهذا الإسناد.
وفي كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ الفضل: حَدَّثَنا مرحوم بن عبد العزيز عن أبيه
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: جَاءَنَا عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ
فَاحْدُرْ.
ورواه النُّورِيُّ وشعبة عن مرحوم، وحَدَّثَنَا شريك عن عثمان بن أبي زرعة عن أبي
جعفر عن ابنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُرَتِّلُ فِي أَذَانهِ وَيُحَدِّرُ
الْإِقَامَةَ. وحَدَّثَنَا مسعر عن أبي بكر بن حفص كان ابنُ عُمَرَ يُحَدِّرُ
الْإِقَامَةَ.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «يَا بِلَالُ،
اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ
مِنْ طَعَامِهِ علَى مَهَلٍ، وَيَقْضِي الْمُعْتَصِرُ حَاجَتَهُ علَى مَهَلٍ» سأل
أبو طالب أبا عبد الله عن هذا الحديث فأنكره إنكارًا شديدًا.
وقال مُعَاركُ بن عَبَّادٍ العَبْدي: يعني راويه عن عبد الله بن سعيد عن أبي سعيد
عن أبي هريرة لا أعرفه وعبد الله بن سعيد منكر الحديث متروك الحديث.
(1/233)
وقَالَ
البَيْهَقِيُّ: رواه أبو صالح عن أبي هريرة مرفوعًا وليس بمحفوظ، وقال عبد الله بن
أحمد في «زياداته في المسند»: أخبرنا حفص عن عمر الرماني، حَدَّثَنا محمد راشد
الضرير، حَدَّثَنا معارك بن عباد عن يحيى الباهلي عن ابن بنت الحوراء عن أُبِيِّ
بن كعب قال: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِبِلاَلٍ:
«اجْعَلْ فِي أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَقْضِي المُعْتَصرُ حَاجَتَهُ وَيفْرُغَ
الآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ».
وعن سلمان الفارسي أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لِبِلاَلٍ:
«اجْعَلْ بين أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا حَتَّى يَقْضِيَ المُتَوَضِّئُ
حَاجَتَهُ في مَهَلٍ ويَفْرُغَ الْآكِلُ مِنْ طَعَامِهِ في مَهَلٍ» ذكره أبو الشيخ
من حديث الْمُعَارك بن عباد عن يحيى بن أبي الفضل أحسبه عن سلمان وفي «المصنف»
بسند جيد: «كَانَ ابنُ عُمَرَ إِذَا أَذَّنَ جَلَسَ حَتَّى تَمسَّ مِقْعَدَتُهُ
الأَرْضَ» وبسندٍ أيضًا صحيح عن ابن أبي ليلى حَدَّثَنا أصحاب محمد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أن بلالًا أَذَّنَ وَقَعَدَ قَعْدَةً، وعن إبراهيم يقعد المؤذن
فيما بين الأذان والإقامة في المغرب
%ج 1 ص 134%
وسيأتي حكم الصلاة قبل المغرب في باب التطوع إن شاء الله تعالى.
قوله: (واحْدُر) بحاء مهملة ودال بعدها راء هو المحفوظ، ورأيت كتابًا ذكر فيه
تفسير ألفاظ وقعت في الحديث عن أبي الغنائم: (فاحدم) بحاء مهملة وبعد الدال
المعجمة ميم، قال: ويُرْوى بخاء معجمة وميم أيضًا وكله من السرعة والله أعلم.
(بَابُ مَنِ انْتَظَرَ الإِقَامَةَ)
(1/234)
626
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أخبرنَا
عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِذَا سَكَتَ المُؤَذِّنُ بِالأُولَى مِنْ صَلاَةِ الفَجْرِ قَامَ،
فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ، بَعْدَ أَنْ
يَسْتَبِينَ الفَجْرُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، حَتَّى
يَأْتِيَهُ المُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ». [خ 626]
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيْفَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ
وَالإِقَامَةِ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ».
قال ابنُ قُرْقُول: ورويناه عن الخطابي: (سَكَبَ المؤذِّنُ) بالباء الموحدة قال:
ومعناه أذن، والسَّكْبُ الصَّلْبُ استعارةٌ للكلام، قال: ورأيت بخط أبي على
الجياني عن أبي مروان سكب وسكت بمعنًى، وأما ابن الأثير فلم يذكر غير الباء
الموحدة وقال: أرادت إذا أذن فاستعير السَّكْبُ للإفاضة في الكلام كما يُقال: أفرغ
في أذني حديثًا أي: ألقى وصبَّ، وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ والسَّفَاقُسيُّ: إن هذه
رواية ابن المبارك عن الأوزاعي عن الزهري قالا: ولها وجه من الصواب ولا يرفع ذلك
رواية من روى بالتاء المثناة من فوقُ وأن الباء الموحدة تأتي بمعنى من وعن في كلام
العرب كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] أي: عنه،
وقوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} [الإنسان: 6] أي: منها قالا:
ويمكن أن يكون إنما حمل الراوي لهذا الحديث على أن يرويه بالباء دون التاء؛ لأن
المشهور في سكت أن تكون معلقة بعن أو من كقولهم: سكت عن كذا أو سكت من كذا، فلما
وجد في الحديث مكان من وعن الباء ظن أنها سكب من أجل مجيء الباء بعدها، وقد ذكرنا
أن الباء تأتي بمعنى من وعن.
(1/235)
وقولها:
(الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الفَجْرِ) تريد الأذان للفجر، وهو أول بالنسبة إلى
الإقامة، بيَّنَ ذلك ما ذكرناه من عِنْدَ مُسْلِمٍ: «يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ
النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ» وقد كره جماعة من العلماء التنفل بعد أذان الفجر إلى
صلاة الفجر بأكثر من ركعتي الفجر لما في مسلمٍ عن حفصةَ: «كانَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِذَا طَلَعَ الفَجْرُ لا يُصَلِّي إلا ركعتينِ خفيفتينِ».
وعند أبي داود عَنْ يَسَارٍ، مَوْلَى ابنِ عُمَرَ، قَالَ: رَآنِي عبد الله وَأَنَا
أُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: يَا يَسَارُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 135%
خَرَجَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ، فَقَالَ: «لَا تُصَلُّوا
بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ».
قال أبو عيسى: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث قُدَامةَ بنِ موسى وهذا مما أجمع
عليه أهل العلم كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، ورواه أبو
الشيخ من طريق يزيد بن سَرْجِس عن عبد الله بن عُمَر، ونحوه في «معجم الطبراني» من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث الإفريقي عن عبد الله بن زيد عن ابن
عَمْرو، وعنده أيضًا حديث أبي هريرة من طريق الثوري عن عبد الله بن حرملة عن سعيد
عنه، قَالَ البَيْهَقِيُّ: لا يصح وصله، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد،
ولأصحاب الشافعي فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: مثل الجماعة.
الثاني: لا تدخل الكراهة حتى يصلي سنة الصبح.
الثالث: لا تدخل الكراهة حتى يصلي الصبح.
(1/236)
قال
أبو زكريا: وهو الصحيح، استدلَّ من جوَّزَ ذلك بما عند أبي داود من حديث عمرو بن
عَبْسَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفُ اللَّيْلِ
الْآخِرُ، فَصَلِّ مَا شِئْتَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَقْبُولَةٌ،
حَتَّى تُصَلِّيَ الصُّبْحَ، ثُمَّ أَقْصِر». قَالَ الدَّاودِيُّ: في حديث عائشة
دلالة أن المؤذن لا يكون إلا عالمًا بالأوقات أو يكون له من يُعَرِّفه بها.
وفيه أن مراعاة الوقت للمؤذن، وأن الإمام يجعل إليه ذلك.
وفيه تعجيل ركعتي الفجر عند طلوع الفجر.
وقولها: (خَفِيْفَتَيْنِ) استحبَّ تخفيفها جماعة وهو مذهب مالك والشافعي في آخرين.
وقال النخعيُّ واختاره الطحاويُّ: لا بأس بإطالتها، ولعلَّه أراد أن ذلك غير محرم.
وفي «المصنف» عن سعيد بن جبير «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
رُبَّمَا أَطَالَ رَكْعَتِي الفَجْرِ».
وعن الحسن لا بأس بإطالتهما يقرأ فيهما يجزيه إذا فاته، وقال مجاهد: لا بأس أن
يطيل ركعتي الفجر وبالغ قوم فقالوا: لا قراءة فيها حكاه الطحاوي وعياض، والحديث
الصحيح يردُّ ذلك وهو «كان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الأُوْلَى
بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَبـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُون} وَفِي الثَّانِيَةِ
بِالفَاتِحَةِ وَ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}».
وفي رواية ابن عباس «كَانَ يَقْرَأُ فِيْهِمَا {قُولُوا آمَنَّا بالله}
وَبِقَوْلِهِ {قُلْ يَا أَهْلَ الكتابِ}».
وفي «فضائل القرآن العظيم» لأبي العباس الغافقي أمر رجلًا شكا إليه شيئًا أن يقرأ
في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة {ألم نشرح} وفي الثانية بالفاتحة وسورة {ألم تر
كيف} واستحبَّ مالك الاقتصار على الفاتحة على ظاهر قول عائشة: كَانَ يُخَفّفَهُمَا
حَتَّى إِنِّي لأَقُوْلُ قَدْ قَرَأَ فِيْهَا بِأُمِّ
%ج 1 ص 136%
الكِتَابِ.
وأمَّا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر فسيأتي في التطوع.
(1/237)
وفيه
دلالة على أن الانتظار للصلاة في البيت كالانتظار في المسجد إذ لو لم يكن كذلك
لخرج صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى المسجد ليأخذ لنفسه من حظها من فضيلة
الانتظار والله تعالى أعلم.
بَابٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ لِمَنْ شَاءَ تقدم ذكره.
(بَابُ مَنْ قَالَ: لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ)
628 - حَدَّثَنا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ قالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ
عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى
أَهَلِينَا، قَالَ: «ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَصَلُّوا،
فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ
أَكْبَرُكُمْ». [خ 628]
وعَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ في بَابِ الأَذَانِ للمُسَافِرِيْنَ إذا
كانوا جماعةً، أَتَى رَجُلاَنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُرِيدَانِ
السَّفَرَ، فَقَالَ: «إِذَا أَنْتُمَا خَرَجْتُمَا، فَأَذِّنَا، ثُمَّ أَقِيمَا،
ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا».
وفي باب اثنان فما فوقهما جماعةٌ: «إذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذِّنَا» الحديثَ.
(1/238)
وفي
باب إذا استووا في القراءة فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ: قَدِمْنَا عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ، متقاربون وفيه: «لَوْ
رَجَعْتُمْ إِلَى بِلاَدِكُمْ، فَعَلَّمْتُمُوهُمْ، فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا
فِي حِينِ كَذَا، وَصَلاَةَ كَذَا في حين كذا» ح. وفي إجازة خبر الواحد: «فَلَمَّا
ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا،
فَأَخْبَرْنَاهُ، فقَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ
وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ -وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا ولاَ أَحْفَظُهَا-
وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» الحديثَ.
وفي باب رحمة الناس والبهائم نحوه وقول الله عز وجل: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ} الآية [التوبة: 122] وهو حديث مخرج في كتب الستة.
وعند أبي داود: «وَكُنَّا يَوْمَئِذٍ مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْعِلْمِ». وفي رواية
لِأَبِي قِلَابَةَ: فَأَيْنَ الْقُرْآنُ؟ قَالَ: إِنَّهُمَا كَانَا
مُتَقَارِبَيْنِ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: يحتمل أن تكون هذه الألفاظ المتعددة كانت منه في وفادتين أو
في وفادة واحدة غير أن الفعل تكرر منه ومن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فيحتمل أن يكون قوله: شببة ونفر يريد وقت قدومهم على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وأنه لما أراد السفر جاء هو وصاحب له.
وقوله: (رَفِيْقًا) قال النووي: رواية البخاري بوجهين: بالقافين، وبالفاء والقاف،
ورواية مسلم بالقافين خاصة، قال ابنُ قُرْقُول: رواية القابسي بالفاء، والأَصِيلي
وأبي الهيثم بالقاف، ومعناهما ظاهر، ولَمَّا تَلَمَّحَ منهم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ميلهم إلى العود وكان يريد
%ج 1 ص 137%
بعودهم أمرين:
(1/239)
الأول:
تعليم قومهم الإسلام وشرائعه أو لِيُؤَنِّسَهم ويخفف عنهم كلفة الغيبة لئلا ينفروا
من الإسلام، ولو طال مقامهم عنهم، قال ابن الْمُنَير: هذا الحديث إنما بيَّن
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لهم حالهم إذا وصلوا إلى أهليهم وحينئذ قال: فإذا
حضرت الصلاة فيهم فليؤذن لكم أحدهم غير أن له ألا تجعل الكلام قاصرًا على وصولهم
إلى أهليهم بل عامًا في أحوالهم منذ خروجهم من عنده، قال: وفائدة الترجمة أن
واحدًا من المسافرين يكفي أذانه دون بقية الرفقة لئلا يتخيل أنه لا يكفي الأذان
إلا من جميعهم وقد قال في الحديث الآخر للرفيقين: أذِّنَا وأقيما فبين هنا أن
التعدد ليس شرطًا. انتهى.
واحتجَّ هذا من يقول بوجوب الأذان في جماعة.
وقوله: (فَأَذِّنَا) عامٌّ للمسافر وغيره، ذكر قاضي خان في قوله في «الجامع»: رجل
في سفر أو في بيته بغير أذان وإقامة يكره قال: الكراهة مقصورة على المسافر، أما من
صلَّى في بيته فالأفضل له أن يؤذن ويقيم ليكون على هيئة الجماعة، ولهذا كان الجهر
بالقراءة في حقه أفضل، واسْتَدَلَّ من قال بمطلوبية الأذان في السفر بقوله: «إِذَا
كُنْتَ في بادِيَتَكَ فارفعْ صوتَكَ بالأذانِ». وبقول ابن عمر لمؤذنه: «قل صلوا في
رحالكم» وقد تقدما عند البخاريِّ، وكذا حديث سلمان: «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ
بِأَرْضِ قَيٍّ فَأَذَّنَ أَذَّنَ وَأَقَامَ ... » الحديثَ من عند أبي الشيخ
وبحديث أبي ذر الآتي وغير ذلك من الأحاديث.
وقوله: (لِيَؤُمَّكُما أَكْبَركُمَا) قَالَ القُرْطُبِيُّ: يدلُّ على تساويهما في
شروط الإمامة ورجَّح أحدهما بالسِّنِّ، انتهى.
حديث أبي داود المتقدم يعضده، وقال ابنُ بَزِيزَةَ: يجوز أن يكون أشار إلى كبر
الفضل والعلم والفقه تقدم ذكره في آخر كتاب الطهارة.
(بَابُ الأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً)
629 - فيه حديث أبي ذر تقدم في الإبراد. [خ 629]
(1/240)
630
- وحديث مالك ابن الحويرث الذي فرغنا منه الآن. [خ 630]
وحديث أبي جحيفة وإن كان قد ذكرناه في الطهارة فسنذكر منه في الباب الذي بعد هذا
طرفًا.
وحديث ابن عمر تقدم.
وأما (ضَجْنَانُ) بضاد معجمة مفتوحة ثم جيم ساكنة بعدها نون ثم نون أخرى بعد
الألف، فهو جُبَيْلٌ على بَرِيْدٍ من مكة شرفها الله تعالى، قال أبو عبيدة: ويدلك
أن بين ضَجْنَانَ وقُدِيد ليلة قول معبد بن أبي معبد ومرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ في غزوة ذات الرقاع:
%ج 1 ص 138%
قَدْ نَفَرَتْ مِنْ رُفْقَتَيْ مُحَمَّدٍ ... تَهْوِي عَلَى دِينِ أَبِيهَا
الْأَتْلَدِ
قَدْ جَعَلَتْ مَاءَ قُدَيْدٍ مَوْعِدِي ... وَمَاءَ ضَجْنَانَ لَهَا ضُحَى
الْغَدِ
وقال الزمخشري: بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلًا، وبينه وبين مَرٍّ تسعة أميال
والله تعالى أعلم.
(بابٌ هَلْ يَتَتَبَّعُ المُؤَذِّنُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا، وَهَلْ يَلْتَفِتُ
فِي الأَذَانِ)
في صحيح مسلم من حديث أبي جُحَيْفَةَ: «فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا
وَهَهُنَا يَقُوْلُ: يَمِينًا وَشِمَالًا حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى
الفَلاَحِ».
وعند أبي داود: «فَلمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ
لَوَى عُنُقَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلمْ يَسْتَدِرْ»، وأما الالتفات ففيما
قدمناه من حديث أبي جحيفة ما يدلُّ على ذلك.
وعند النسائي: «فَجَعَلَ يَقُوْلُ فِي أَذَانِهِ هَكَذَا يَنْحَرِفُ يَمِينًا وَشِمَالًا».
وعند الطبراني: «فَجَعَلَ يَقُوْلُ بِرَأْسِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا يَمِينًا
وَشِمَالًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ».
وفي «الأفراد» للدارقطني عن بلال: «أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِذَا أَذَّنَّا أو أَقَمْنَا أَلَّا نُزِيْلَ أَقْدَامَنَا مِنْ
مَوْضِعِهَا».
(1/241)
وعند
الترمذي صحيحًا من حديث عبد الرزاق، حَدَّثَنا سفيان عن عون عن أبيه قال:
«رَأَيْتُ بِلالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُوْرُ وَيَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا»
وزعم البيهقيُّ أنَّ الاستدارةَ في حديث أبي جحيفة ليست من الطرق الصحيحة وسفيان
الثوري إنما روى الاستدارة في هذا الحديث عن رجل عن عون ونحن نتوهَّمه الحجاج بن
أرطأة، والحجاج غير محتج به، ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن عون مدرجًا في الحديث،
وعبد الرزاق وَهِمَ في إدراجه، ثم ذكر سندًا إلى عبد الله بن محمد بن الوليد عن سفيان،
حدثني عون عن أبيه فذكر حديثًا ليس فيه الاستدارة، وقال عُقَيْبَه: وبالإسناد
حَدَّثَنا سفيان، حدثني ممن سمعه عون أنه كان يدور ويضع يديه في أذنيه. قال
العدني: يعني بلالًا.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: وهذه رواية الحجاج بن أرطأة عن عون، ثم أسند إلى الحجاج عن
عون عن أبيه: خرجنا حُجَّاجًا فَلَقِيَنَا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بالأَبْطحِ وحضرتْ صلاةُ الظُّهْرِ، فقامَ بلالٌ فأذَّنَ الظهرَ، ووضعَ يديه في
أُذُنَيْهِ، واستدارَ في أذانِهِ كأني أنظرُ إليه يستديرُ في أذانه.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: ورويناه من حديث قيس بن الربيع عن عون ولم يستدر قال: ويحتمل
أن يكون الحجاج أراد بالاستدارة الالتفات في الحيعلتين فيكون موافقًا لسائر
الرواة. انتهى.
لقائل أن يقول أما تعليل بأنها ليست في الطرق الصحيحة فليس جيدًا لأنا
%ج 1 ص 139%
قد أسلفنا أن الترمذي صححها، وسيأتي تصحيح الحاكم أيضًا لها، ورواها أبو نعيم في
«مستخرجه» عن أبي أحمد، حَدَّثَنا المطرز، حَدَّثَنا بُنْدار ويعقوب، حدَّثَنَا
ابن مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنا سفيان عن عون فذكر الاستدارة.
(1/242)
وفي
لفظٍ: «قالَ عبدُ الرحمنِ: فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُ فَاهُ» ورويناه في «صحيح» أبي عوانة
عن يوسف القاضي حَدَّثَنا محمد بن أبي بكر، حَدَّثَنا مؤمل عن سفيان عن عون فذكر
الاستدارة، وفيه أيضًا ردٌّ لقوله: وهمَ عبد الرزاق في إدراجه لما ذكرنا من متابعة
ابن مهدي له.
فإن اعترض معترضٌ بأن أبا عوانة رواه عن أبي أمية، حَدَّثَنا القواريريُّ عن ابن مهدي
فلم يذكر هذه الزيادة؟. قلنا له: بندار ويعقوب ومؤمل تواردوا على هذه الزيادة فلا
يُرَدُّ قولهم لرواية واحدٍ، ثم إنا وجدنا لسفيان متابعًا على روايته من عند
الطبراني من طريق حسنة رواها عن الحسن بن العباس عن محمد بن نوح الرازيين عن زياد
بن عبد الله عن إدريس الأودي عن عون عن أبيه، ورواها أبو الشيخ عن الصوفي
حَدَّثَنا علي بن الجعد، حَدَّثَنا حماد بن سلمة قال: وأخبرنا أبو يعلى، حَدَّثَنا
إبراهيم بن الحجاج، حَدَّثَنا كامل، حَدَّثَنا حمادٌ، وحدَّثَنَا ابن ناجية،
حَدَّثَنا الربيع بن ثعلب، حَدَّثَنا هشيم جميعًا عن عون فذكره.
وفي «سنن الدَّارَقُطْني» من حديث كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة:
أَمَرَ أَبْو مَحْذُوْرَةَ أَنْ يَسْتَدِيْرَ فِي أَذَانِهِ.
قال البخاري: ويذكر عن بلال أَنَّهُ جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
قال ابن خزيمة في «صحيحه»: حَدَّثَنا يعقوب بن إبراهيم، حَدَّثَنا هشيم عن حجاج عن
عون عن أبيه قال: «رَأَيْتُ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ وَقَد جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي
أُذُنَيْهِ». ثُمَّ قَالَ بَابُ إِدْخَالُ الأُصْبُعَيْنِ فِي الأُذُنَيْنِ عِنْدَ
الأَذَانِ، إنْ صحَّ الخبر فإن هذه اللفظة لستُ أحفظها إلا عن حجاج بن أرطأة ولستُ
أفهمُ أَسِمَعَ الحجاج هذا الخبر من عون أم لا؟ فأنا أشك في صحة هذا الخبر لهذه
العلة.
(1/243)
ورواه
أبو عوانة الإسفراييني في «صحيحه»: عن عمر بن شَبَّةَ، حَدَّثَنا عمر بن علي بن
مقدم عن الحجاج عن عون به، وأبو بكر البزار في «مسنده»: من حديث أبي معاوية عن
حجاج، وأبو علي الطُّوسي عن الدورقي حَدَّثَنا هشيم عن حجاج عنه ثم قال: يقال حديث
أبي جُحَيْفَةَ حسن صحيح.
وفي قول ابن خزيمة (لست أحفظها -يعني إدخال الأصبعين في الأذنين- إلا من حديث
حجاج) نظرٌ من حيث إنَّا رويناها أيضًا في كتاب أبي الشيخ من حديث عبد الرحمن بن
سعد بن عمار، حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
أَمَرَ بِلاَلًا أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
ومن حديث ابن كاسِبٍ، حَدَّثَنا عبد الرحمن بن سعد عن عبد الله بن محمد وعمير
وعمار ابني حفص عن آبائهم عن أجدادهم عن بلال أنَّ النبي صلى الله
%ج 1 ص 140%
عليه وسلم قال له: «إِذَا أَذَّنْتَ فَاجْعَلْ إِصْبَعَكَ فِي أُذُنَيْكَ،
فَإِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ».
ومن حديث محمد بن عمرو بن شهاب، حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا إسماعيل بن عمرو،
حَدَّثَنا الْمُفَضَّلُ بن صَدَقَةَ عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى عن عبد الله بن زيد فذكر حديث الأذان، وفيه: «وَجَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي
أُذُنَيْهِ وَنَادَى يعني الذي رآه عبد الله في نومه».
وذكر ابن المنذر في كتاب «الإشراف»: أنَّ أبَا مَحذُوْرَة جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي
أُذُنَيْهِ. زاد في «شرح الهداية»: ضَمَّ أَصَابِعَهُ الأَرْبَع وَوَضَعَهَا عَلَى
أُذُنَيْهِ. وفي «المصنف» لابن أبي شيبة عن ابن سيرين: أَنَّهُ كَانَ إِذَا
أَذَّنَ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَأَرْسَلَ يَدَيْهِ فَإِذَا بَلَغَ الصَّلاة
وَالفَلاَح أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ.
(1/244)
وقَالَ
البَيْهَقِيُّ: وروينا عن ابن سيرين أن بلالًا كان إذا أذَّنَ اسْتَقْبَلَ
القِبْلَةَ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فِي بَعْضِ آذَانِهِ، وَفِي
الإِقَامَةِ.
وفي «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ عن سهل أبي أسد قال: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُدْخِلَ
أُصْبَعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ.
وكان سويد بن غفلة يفعله، وكذا ابن جبير، وأمر به الشعبي وشريك، قال ابن المنذر:
وبه قال الحسن وأحمد إسحاق وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، وقال مالك: ذلك واسع.
قال البخاري: وَكَانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. هذا
التعليق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع حَدَّثَنا سفيان عن يسير قال: رأيت ابن عمر
يؤذن على بعير، قال سفيان: فقلت له: روايته يجعل أصبعيه في أذنيه قال: لا.
قال البخاري: وقال إبراهيم: لا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. روى
هذا التعليق أيضًا أبو بكر عن جرير عن منصور عن إبراهيم أنه قال: لا بَأْسَ أَنْ
يُؤَذِّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، ثمَّ ينزلُ فيتوضأ.
وحَدَّثَنَا وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم: لا بأس أن يؤذن على غير وضوء. وعن
قتادة وعبد الرحمن بن الأسود وحماد وقال الحسن: لا بأس أن يؤذن غير طاهر ويقيم وهو
طاهر.
وقَالَ البَيْهَقِيُّ: قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: كانوا لا يرون بأسًا أن يؤذن
الرجل على غير وضوء.
قال البخاريُّ: وَقَالَ عَطَاءٌ: الوُضُوءُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ.
روى أبو بكر في «مصنفه» عن محمد بن عبد الله الأسدي عن معقل بن عبيد الله عن عطاء:
أنه كره أن يؤذن الرجل وهو على غير وضوء. وقد جاءت هذه اللفظة مرفوعة ذكرها أبو
الشيخ عن أبي عاصم حَدَّثَنا هشام بن عمار، حَدَّثَنا الوليد بن مسلم بن معاوية عن
يحيى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال: «لاَ يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّئ».
(1/245)
قَالَ
البَيْهَقِيُّ: كذا رواه معاوية بن يحيى الصَّدَفي هو ضعيفٌ، والصحيح رواية يونس
وغيره عن الزهري مرسلًا، ولَمَّا ذكر الترمذي حديث يونس قال: هذا
%ج 1 ص 141%
أصح يعني من الحديث المرفوع الذي عنده من حديث الزهري عن أبي هريرة.
وعند أبي الشيخ من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: حقٌّ وسُنَّةٌ مسنونةٌ
ألا يؤذن إلا وهو طاهر. وقاله علي بن عبد الله بن عباس ورواه أيضًا عن أبيه
مرفوعًا. وعند أبي شيبة: أَمَرَ مُجَاهِدٌ مُؤَذِّنَهُ ألاَّ يُؤَذِّنَ حَتَّى
يَتَوَضَّأَ.
وقوله: (الأذانُ حَقٌّ وَسُنَّةٌ) أراد إجماعهم أن من ترك الأذان لم تفسد صلاته،
ولو قال قائل: إن الأذان فريضة لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] لم يبعد، ودخول الأصبع في الآذان إن
أراد أن يكون أرفع لصوته فحسن، وليس من واجبات الأذان.
اختلف أهل العلم في الأذان على غير وضوء:
فالذي ذهب إليه أبو حنيفة إن أذن المؤذن على غير وضوء جاز، ويكره أن يقيم على غير
وضوء، أو يؤذن وهو جنب، وبكراهة الأذان على غير وضوء يقول الشافعي وإسحاق.
ورخص فيه بعضهم وبه يقول سفيان وابن المبارك وأحمد.
قال البخاري: وقالت عائشة رضي الله عنها: كَاَن َرَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. هذا التعليق رواه مسلم في
«صحيحه» من حديث عبد الله الْبَهِيِّ عنها، وقال فيه الترمذي: حسن غريب.
(1/246)
قال
ابن المنير: وجه مناسبة هذا الحديث بالترجمة أنه أراد أن يحتج على جواز الاستدارة
وعدم اشتراط استقبال القبلة في الأذان فإن المشترط لذلك ألحقه بالصلاة فأبطل عليه
هذا الإلحاق لمخالفته لحكم الصلاة في الطهارة فإذا خالفها في الطهارة وهي إحدى
شرائطها أذن ذلك بمخالفته في الاستقبال وبطريق الأولى فإن الطهارة أدخل في
الاشتراط من الاستقبال، ويؤيد هذا النظر أن بعضهم قال: يستدير عند حي على الفلاح
فإن هذه ليست ذكرًا إنما هي خطاب للناس فبعدت عن شبه الصلاة فسقط اعتبار الصلاة
فيها والله تعالى أعلم.
(بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ فَاتَتْنَا الصَّلاَةُ)
وَكَرِهَ ابنُ سِيرِينَ أَنْ يَقُولَ: فَاتَتْنَا الصَّلاَةُ، وَلِيَقُلْ لَمْ
نُدْرِكْ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَصَحُّ.
التعليق عن ابن سرين رواه في «المصنف» عن أزهر عن ابن عَوْنٍ قال «كَانَ مُحَمَّدٌ
يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: فَاتَتْنَا الصَّلَاةُ، وَيَقُولُ: لَمْ أُدْرِكْ مَعَ
بَنِي فُلَانٍ». وقول البخاري: وقول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أصح يعني
الحديث الذي نذكره.
635 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ
اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ،
%ج 1 ص 142%
فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى
الصَّلاَةِ؟ قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ
بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا». [خ
635]
(1/247)
ورواه
مسلم من حديث معاوية بن سلام عن يحيى فقال: أخبرني عبد الله بن أبي قتادة أن أباه
أخبره فذكره مزيلًا بشائبة الانقطاع من المدلس. وعند أبي نعيم الأصبهاني: «ومَا
فَاتَكُمْ فَاقْضُوا». وكذا ذكرها الإسماعيلي من حديث شيبان عن يحيى.
وفي «المحلى» من حديث ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أنه قال: إِذَا كَانَ
أَحَدُكُمْ مُقْبِلًا إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَمْشِ عَلَى رِسْلِهِ، فَإِنَّهُ فِي
صَلَاةٍ، فَمَا أَدْرَكَ فَليُصَلِّ، وَمَا فَاتَهُ فَلْيَقْضِهِ بَعْدُ.
قال عطاء: وإني لأصنعه. ورواه البخاري مرفوعًا: «إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ،
فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالوَقَارِ، وَلاَ
تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ فَإِنَّ
أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمَدُ إِلى الصَّلاةِ فَهُوَ فِي صَلاَةٍ».
وعند أحمد من حديث ابن عيينة عن الزهري عن سعيد عنه: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا».
قال مسلم: في «التمييز» لا أعلم هذه اللفظة رواها عن الزهري عن سفيان عن عيينة
وأخطأ في هذه اللفظة. قَالَ البَيْهَقِيُّ: أراد إتيانها إلى النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، وإنما لفظه: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوْا» ففيه نظر من حيث إن
مسلمًا خرَّجَ في «صحيحه»: يعني الحديث الذي سقناه آنفا وإن أراد إتيانها إلى
الزهري وهو الظاهر، فإن ابن أبي شيبة روى عن وكيع عن سفيان عن سعد عن عمر بن أبي
سلمة عن أبيه عنه ح، وفيه: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوْا». انتهى.
وقد وجدنا لسفيانَ مُتَابِعًا ذكره أبو نعيم الأصبهاني في «مستخرجه»: وهو ابن أبي
ذئب.
(1/248)
وفي
«مسند أبي قرة» عن ابن جريج أخبرني عن الزهري -أي سلمة عنه- بلفظ: «واقضوا». قال:
وذكر سفيان عن سعد بن إبراهيم حدثني عمر بن أبي سلمة عن أبيه عنه بلفظ:
«وَلْيَقْضِ مَا سَبَقَهُ».
وعند أبي داود من طريق سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عنه: «ائْتُوا وَعَلَيْكُمُ
السَّكِينَةُ، فَصَلُّوا مَا أَدْرَكْتُمْ وَاقْضُوا مَا سَبَقَكُم».
قال أبو داود: وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة: «وَلْيَقْضِ» وكذا قال أبو رافع
عن أبي هريرة وأبو ذر روى عنه: فأَتِمُّوا واقْضُوا ما اختلف عليه.
قَالَ الدَّارَقُطْني: رواه محمد بن مصعب عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أنس ووهم
فيه.
قال أبو الحسن: وهو محفوظ عن أبي سلمة وسعيد عن أبي هريرة، فكان الزهري ربما أفرده
عن أحدهما وربما جمعه، ورواه خلَّاد بن يحيى عن الثوري عن الأعمش عن سعد
%ج 1 ص 143%
بن إبراهيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: وذكر الأعمش فيه وهمٌ. قَالَ
الدَّارَقُطْني: وهو صحيح عن عمر بن أبي سلمة وعن عمر ابنه. (الجَلَبَةُ) الأصوات
المختلفة قيل: إنما نهاهم عن ذلك لأنَّه ينافي الوقار في الصلاة كذا ذكره شارحو
هذا الكتاب وكأنه غفله عما في الحديث إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة.
وقال ابن الجوزي: أكثر طرق أبي هريرة: (فَأَتِمُّوا).
اختلف العلماء في الإتمام والقضاء المذكورين هل هما بمعنًى واحد أو بمعنيين؟ وترتب
على هذا خلاف ما يدركه الداخل مع الإمام هل هو أول صلاته أو آخرها على ثلاثة
أقوال:
(1/249)
أحدها:
أنه أول صلاته وأنه يكون بانيًا عليه في الأفعال والأقوال، وثالثها: أول صلاته
بالنسبة إلى الأفعال فيبني عليها وآخرها بالنسبة إلى الأقوال فيقضيها، فمن قال
بالقول الأول: الشافعي وإسحاق والأوزاعي وهو مروي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن
المسيب والحسن وعطاء ومكحول ورواية عن مالك وأحمد مستدلين بقوله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوْا» لأنَّ لفظ الإتمام واقع على باقٍ
من شيء قد تقدم سائره، روى البيهقي من حديث عبد الوهاب بن عطاء عن إسرائيل عن أبي
إسحاق عن الحارث عن علي: «مَا أَدْرَكْتَ فَهُوَ أَوَّلُ صَلاَتِكَ» وعن ابن عمر
بسند جيد مثله ومن حديث ربيعة أن عمر بن الخطاب وأبا الدرداء قالا: مَا أَدْرَكْتَ
مِنْ آخِرِ صَلاةِ الإِمَامِ فَاجْعَلْهُ أَوَّلَ صَلاَتِكَ وكذا قاله: الأوزاعي
وسعيد بن عبد العزيز.
وقال بعضهم: القضاء بمعنى الفعل قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] وقال تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:
200].
وممن قال بالقول الثاني: مجاهد وابن سيرين وأبو حنيفة وسفيان بن سعيد، وعن أحمد
روايتان، قال ابن الجوزي: الأشبه بمذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه آخِرُ صَلاَتِه.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: رُوِيَ ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي والشعبي
وأبي قلابة ورواه ابن القاسم عن مالك وهو قول أشهب وابن الماجشون واختاره ابن حبيب
محتجين بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوْا» ورواه
ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه وابن حزم بسند مثله عن أبي هريرة
والبيهقي بسند لا بأس به على رأي جماعة عن معاذ بن جبل.
قال ابن الجوزي: ويجاب عن قوله: فأتموا بأن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام
فيحمل قوله فأتموا على أنَّ من قضى ما فاته فقد أتمَّ؛ لأن الصلاة تنقص بما فات
فقضاؤه إتمام لما نقص وأشار
%ج 1 ص 144%
(1/250)
إلى
هذا ابن رشد بقوله: روعي فيه اختلاف نية الإمام والمأموم.
وممن قال أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال وآخرها بالنسبة إلى الأقوال: مالك.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ عنه: ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من
القراءة بأم القرآن وسورة.
وقال سُحْنُون: هذا الذي لم نعرف خلافه، دليله ما رواه البيهقي من حديث قتادة أن
علي بن أبي طالب قال: «مَا أَدْرَكْتَ مَعَ الإِمَامِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلاَتِكَ
وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ بِهِ بِأُمِّ القُرْآنِ».
قال عبد الرزاق: وحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عن قَتَادة عن سعيد بن المسيب مثل قول
عليٍّ.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: قال بعضهم: إنما هذا اختلاف في عبارة يؤول في معنى واحد وهو
أن ما أدرك أول صلاته فيما يفعله من قيام وجلوس وهو آخرها فيما يفعله من القراءة.
قال: وقال الشيخ أبو محمد: لا خلاف عن مالك وأصحابه أن القاضي إنما يفترق بين
الباني في السورة فقط لا في القيام والجلوس وأن كل مأموم فقاضٍ، وكلُّ فذٍّ أو
إمام فبانٍ، قال ابن رشد: وقد نُسِبَتِ الأقوال الثلاثة يعني المتقدمة إلى المذهب.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: وعن المزني وإسحاق وأهل الظاهر قول آخر: وما أدرك فهو أول
صلاته إلا أنه يقرأ فيها بالحمد وسورة مع الإمام وإذا قام للقضاء قضى بالحمد
وحدها؛ لأنه آخر صلاته والله تعالى أعلم.
وقول البخاريِّ: قال أبو قتادة يعني به الحديث الذي تقدم ذكره وكذا الحديث الذي في
باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة وبقي شيء من الكلام على بعض
ألفاظه وهي قال أبو العباس الطرقي في كتاب «الأطراف» قوله: (وَعَلَيْكُمُ
السَّكِيْنَةُ) تفرد به شيبان وعلي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير. انتهى.
وفي أبي داود وذكر هذه اللفظة من حديث معاوية بن سلام عن يحيى، وفي رواية معمر
وتفرد بها عنه: حتى تروني قد خرجت.
(1/251)
قال
بعض العلماء: قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاةُ
فَلاَ تَقُوْمُوْا حَتَّى تَرَوْنِيْ». وفي رواية أبي هريرة: «أُقِيْمَتِ
الصَّلاةُ فَعَدَلَتِ الصُّفُوْفُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْنَا رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ». وفي رواية: «إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ تُقَامُ
لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَيَقُوْم النَّاس فِي مَصَافِّهِمْ
قَبْلَ أَنْ يَقُوْمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَقَامَهُ».
وفي رواية جابر عن سمرة: «كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِذَا دَحَضَتِ الشَّمْسُ وَلَا
يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَإِذَا خَرَجَ
أَقَامَ الصَّلاَةَ حِينَ يَرَاهُ».
قال عياض رحمه الله تعالى: الجمع بينها أن بلالًا كان يراقب خروج النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من حيث لا يراه غيره أو إلا القليل فعند أول خروجه يقيم، ولا
يقوم الناس حتى يروه، ثم لا يقوم مقامه حتى يُعَدِّلوا الصفوف
%ج 1 ص 145%
وقول أبي هريرة فيأخذ الناس مصافَّهم قبل خروجه لعله كان مرة أو مرتين ونحوها
لبيان الجواز أو لعذر، ولعل قوله: «فلا تقوموا حتى تروني» كان بعد ذلك.
قال بعض العلماء: عارض هذا بحديث أبي هريرة: «حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ
انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ، انْصَرَفَ، ثُمَّ قَالَ: مَكَانَكُمْ، فمَكَثْنَا
عَلَى هَيْئَتِنَا، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا» قال: ولعلَّ حديث أبي قتادة على طريق
الرفق لا الإيجاب.
قال: وقيل لم يقفوا حتى رأوه وذلك بخلاف قيامهم للانتظار.
(1/252)
وقد
اختلف السلف متى يقوم الناس إلى الصلاة: فذهب مالك وجمهور العلماء إلى أنه ليس
لقيامهم حدٌّ، ولكن استحب عامتهم القيام إذا أخذ المؤذن في الإقامة، وكان أنس يقول
إذا قال المؤذن (قد قامت الصلاة) كبَّر الإمام، وحكاه ابن أبي شيبة وعمر بن عبد
العزيز إذا قال المؤذن (الله أكبر) وجب القيام، وإذا قال (حي على الصلاة) اعتدلت
الصفوف، وإذا قال (لا إله إلا الله) كَبَّرَ الإمامُ.
وذهب عامة العلماء إلى أنه لا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.
وفي «المصنف»: كره هشام -يعني ابن عروة- أن يقوم حتى يقول المؤذن: قد قامت الصلاة،
وعن يحيى بن وثَّابٍ إذا فرغ المؤذن كبَّر، وكان إبراهيم يقول: إذا قامت الصلاة
كبَّر.
وهل السكينة والوقار بمعنى واحد وجمع في الحديث بينهما تأكيدًا؟ أو بينهما فرق وهو
الظاهر؟، وإن السكينة التأنِّي في الحركات واجتناب العبث ونحو ذلك، والوقار في
الهيئة وغض البصر وخفض الصوت والإقبال على طريقه بغير التفات ونحوه والله تعالى
أعلم.
(بَابُ هَلْ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ لِعِلَّةٍ؟)
وَ (بَابُ إِذَا قَالَ: مَكَانَكُمْ حَتَّى أَرْجِعَ) تقدم حديثهما في كتاب
الطهارة.
وقال هنا: حَدَّثَنا إسحاق، حَدَّثَنا محمد بن يوسف، قال الجياني: لعله ابن منصور
وبنحوه قال ابن طاهر المقدسي.
قَالَ الدَّاودِيُّ: في هذا الحديث أنه لا حياء في الدين، وفيه الوقوف لانتظار
الإمام بخلاف قيامهم قبل خروجه.
وفيه أنهم لم يكونوا كبروا للصلاة، وقد روي أنه كان كبَّر فإذا كان كذلك فقد قطع
ما كانوا فيه بقوله: «مكانكم»، وقول الرجل: ما صلينا تقدم قريبًا أيضًا
(بَابُ الإِمَامِ تَعْرِضُ لَهُ الحَاجَةُ بَعْدَ الإِقَامَةِ)
(1/253)
642
- حَدَّثَنا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنا عَبْدُ
الوَارِثِ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
«أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُنَاجِي رَجُلًا
فِي جَانِبِ المَسْجِدِ، فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ حَتَّى نَامَ القَوْمُ». [خ
642]
ولفظ ثابت عنه: «عرضَ لهُ رجلٌ فَحَبَسَهُ بَعْدَمَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ» فيه
جواز الكلام بعد الإقامة
%ج 1 ص 146%
وإن كان إبراهيم والزهري وتبعهما الحنفيون كرهوا ذلك حتى قال بعض أصحاب أبي حنيفة:
إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة وجب على الإمام التكبير.
وقال مالك: إذا بَعُدَتِ الإقامة رأيت أن تعاد الإقامة استحبابًا والله تعالى
أعلم.
(بَابُ وُجُوبِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ)
وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ فِي الجَمَاعَةِ
شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا.
644 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ
آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ
آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ
عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ،
أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ
العِشَاءَ». [خ 644]
(1/254)
وفي
بَاب فَضْلِ صَلاَةِ العشاء في جماعةٍ: (لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى
المُنَافِقِينَ مِنَ الفَجْرِ وَالعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا
لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، ولَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ المُؤَذِّنَ،
فَيُقِيمَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِنْ نَارٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لم يَخْرُجُ
إِلَى الصَّلاَةِ بَغير عذر».
وفي الأشخاص في بابِ إِخْرَاجِ أَهْلِ المَعَاصِي وَالخُصُومِ مِنَ البُيُوتِ
بَعْدَ المَعْرِفَةِ: «ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى مَنَازِلِ قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ
الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ».
وعندَ أحمد بن حنبل: «لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالذُّرِّيَّةِ، أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحْرِقُونَ
مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ».
وعند أبي داود: «ثُمَّ آتِيَ قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ
عِلَّةٌ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ».
قال يزيد بن جابر: قلت ليزيد بن الأصم: يَا أَبَا عَوْفٍ الْجُمُعَةَ عَنَى أَوْ
غَيْرَهَا؟ قَالَ: صُمَّتا أُذُنَايَ إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ
يَأْثُرُهُ مَا ذَكَرَ جُمُعَةً وَلَا غَيْرَهَا.
(1/255)
وفي
«مسند السراج»: «آمُرَ فِتْيَتِي إِذَا سَمِعُوا الإِقَامَةَ مَنْ تَخَلَّفَ أَنْ
يَحْرِقُوا عَلَيْهِمْ، إِنَّكُمْ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا
لَأَتَيْتُمُوهُمَا، وَلَوْ حَبْوًا). وفي لفظ: (أَخَّرَ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ، حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ، وذَهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ
نحوه، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ عِزُونَ، وَإِذَا هُمْ
قَلِيلٌ فَغَضِبَ غَضَبًا شديدًا لَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَبًا
أَشَدَّ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي
بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَتَتَبَّعَ هَذِهِ الدُّورَ الَّتِي تَخَلَّفَ أَهْلُوهَا عَنْ
هَذِهِ الصَّلَاةِ فَأُضْرِمَهَا عَلَيْهِمْ بِالنِّيرَانِ». وفي كتاب «الطُّوسي»
مصححًا: (ثُمَّ آتِي قَوْمًا يَتَخَلَّفُوْنَ عَن
%ج 1 ص 147%
هَذِهِ الصَّلاةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِم) يعني: صلاة العشاء.
وفي «مسند عبد الله بن وهب» حدَّثَنَا ابن أبي ذئب حَدَّثَنا عجلان عنه:
«لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ مِنْ حَوْل الْمَسْجِدِ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ،
أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ بُيُوتهمْ».
وفي كتاب «الثواب» لحُمَيْدِ بنِ زَنْجَوَيْه: «آمُرَ رِجَالًا فِي أَيْدِيهِمْ
حُزَمُ حَطَبٍ لَا يُؤْتَى رَجُلٌ فِي بَيْتِهِ سَمِعَ الإِقَامَةَ إِلا أُضْرِمَ
عَلَيْهِ بَيْتُهُ».
وفي «المعجم الأوسط» لأبي القاسم بن مُطَيْر: (آمُرَ رِجَالًا إِذَا أُقِيمَتِ
الصَّلَاةُ أَنْ يَتَخَلَّفُوا إِلَى دُورِ مَنْ لَا يَشْهَدُ الصَّلَاةَ،
فَيُضْرِمُوا عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ قَالَ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا آذَنَ النَّاسَ
إِلَى طَعَامٍ لَأَتَوْهُ، وَالصَّلَاةُ يُنَادَى بِهَا فَلَا يَأْتُوهَا».
وروينا في «معجمه الصغير»: «ثُمَّ أنظرُ فَمَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْمَسْجِدَ
فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِ بَيْتَهُ».
(1/256)
وفي
كتاب «الترغيب والترهيب» لأبي موسى المديني الأصبهاني: «خَرَجَ بَعْدَ مَا
تَهَوَّرَ اللَّيْلُ، فَذَهَبَ ثُلُثُهُ أَوْ قُرَابهُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ
رَجُلًا نادى النَّاسَ إِلَى عَرْقٍ أَوْ مِرْمَاتَيْنِ أَتَوْهُ لِذَلِكَ، وَهُمْ
يَتَخَلَّفُونَ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ».
وعند الدارمي في «مسنده»: «لَوْ كَانَ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مُعَرَّقَيَنِ
لَشَهِدُوهَا».
وفي مصنف «عبد الرزاق» بسند صحيح: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي أَنْ
َيَجْمَعُوا لِي حُزَمًا مِنْ حَطَبٍ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ فَأُحَرِّقَ عَلَى قَوْمٍ
بُيُوتَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ الجُمُعَةَ». رواه عن جعفر بن بُرْقَانَ عن يزيد بن
الأصم عن أبي هريرة، ولما رواه البيهقي من طريق أحمد بن منصور الرمادي عن عبد
الرزاق قال: كذا قال الجمعة، وكذلك رُوِيَ عن أبي الأَحْوَصِ عن ابن مسعود، والذي
تدلُّ عليه سائر الروايات أنه عبَّر بالجمعة عن الجماعات. انتهى.
قد روينا عن ابن مسعود الإطلاق من غير تقييدٍ بالجمعة كما قاله البيهقي في «المعجم
الأوسط»: حَدَّثَنا أحمد بن محمد بن صدقة، حَدَّثَنا محمد بن مقدم بن محمد، حَدَّثَنا
عمي القاسم عن أبي حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود يرفعه: «لَقَدْ هَمَمْتُ
أَنْ آمُرَ بِلَالًا فَيُقِيمَ الصَّلَاةَ ثُمَّ أنْصَرِفَ إِلَى قَوْمٍ سَمِعُوا
النِّدَاءَ فلَمْ يُجِيبُوا فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ». وقال: لم يروه
عن أبي حمزة إلا القاسم، تفرد به مقدم وخالف ذلك ما ذكره السراج عن أبي يحيى وغيره
عن الأشيب حَدَّثَنا زهير، حَدَّثَنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله أن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ
الْجُمُعَةِ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ
أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ».
(1/257)
ولما
رواه الحاكم في «مستدركه»: قال كذا قال أبو داود الطيالسي عن زهير وهو صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه بذكر العتمة وسائر الصلوات.
اخْتُلِفَ في صلاة الجماعة هل هي شرط في صحة الصلاة كما قال داود بن علي وأحمد بن
حنبل
%ج 1 ص 148%
أو فرض على الأعيان كما قاله جماعة من العلماء: ابن خزيمة وابن المنذر وهو قول
عطاء والأوزاعي وأبي ثور وهو الصحيح عند أحمد، قال في «شرح المهذب»: وقيل إنه قول
للشافعي، وعن أحمد وأخيه ليست بشرط وقيل: سنة مؤكدة كما قاله القُدوري.
قال في «شرح الهداية»: عامة مشايخنا أنها واجبة، وقد سماها بعض أصحابنا سنة مؤكدة،
قال في «المفيد»: الجماعة واجبة وتسميتها سُنَّةً لوجوبها بالسُّنَّةِ، وفي
«البدائع»: إذا فاتته الجماعة لا يجب عليه الطلب في مسجد آخر بلا خلاف بين
أصحابنا، لكنْ إن أتى مسجدًا يرجو إدراك الجماعة فيه فحسنٌ، وإن صلى في مسجد
حَيِّهِ فحسن، وعن القدوري يجمع بأهله.
وفي «التحفة»: إنما تجب على من قدر عليها من غير حرجٍ.
وتسقط بالعذر فلا تجب على المريض ولا على الأعمى والزَّمِن ونحوهم هذا إذا لم يجد
الأعمى والزَّمِنُ من يحمله وكذا إن وجدا عند أبي حنيفة وعندهما تجب، وعن شرف
الأئمة وغيرهم: تركها بغير عذر يوجب التعزير ويأثم الجيران بالسكوت عن تاركها، وعن
بعضهم: لا تقبل شهادته، فإن اشتغل بتكرار اللغة لا يعذر في ترك الجماعة وبتكرار
الفقه أو مطالعته يعذر، فإن تركها أهل ناحية قوتلوا بالسلاح.
وفي «القنية»: يشتغل بتكرار الفقه ليلًا ونهارًا ولا يحضر الجماعة لا يعذر ولا
يقبل شهادته.
وقال أبو حنيفة: سها أو نام أو شغله عن الجماعة شغل جمع بأهله في منزله، وإن صلى
وحده يجوز.
واختلف العلماء في إقامتها في البيت، والأصح أنها كإقامتها في المسجد.
(1/258)
وفي
«شرح خُوَاهَرِ زَادَهْ»: هي سنة مؤكدة غاية التأكيد، وقيل: فرض كفاية وهو اختيار
الطحاوي والكرخي وغيرهما وهو قول الشافعي المختار، وقيل: سنة، وفي «الجواهر»: عن
مالك هي سنة مؤكدة وقيل: فرض كفاية استدل من قاله بفرضية عينها بحديث الباب وقال:
لو كانت فرض كفاية لكان قيام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأصحابه بها
كافيًا، أو لو كانت سنة فتارك السنة لا يحرق عليه بيته إذ سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يهمُّ إلا بحقٍّ، ويدلُّ على وجوبها صلاة الخوف إذ فيها
أعمال منافية للصلاة ولا يعمل ذلك لأجل فرض الكفاية ولا سنة، وبما في «صحيح مسلم»:
«أنَّ أَعْمَى، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي
إِلَى الْمَسْجِدِ، قَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
فَأَجِبْ» وخرَّجه أبو عبد الله في «مستدركه»: من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَابِسٍ، عَنِ ابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،
%ج 1 ص 149%
إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ، قَالَ: «أَتَسْمَعُ حَيَّ
عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَحَيَّ
هَلَا». وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، إِنْ كَانَ ابنُ عَابِسٍ سَمِعَ مِنِ ابنِ
أُمِّ مَكْتُومٍ.
وخرَّجه من حديث زائدةَ عن عاصم عن أبي رَزِين عن ابن أم مكتوم بلفظ: «إِنِّي
كبيرٌ، شَاسِعُ الدَّارِ، لَيْسَ لِي قَائِدٌ يُلَاوِمُنِي، فَهَلْ تَجِدُ لِي
مِنْ رُخْصَةٍ؟ فَقَالَ: تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَجِدُ
لَكَ مِنْ رُخْصَةٍ».
(1/259)
قال
الحاكم: وله شاهد بإسناد صحيح فذكر لي حديث جعفر الرازي عن حُصَيْن بن عبد الرحمن
عن عبد الله بن شَدَّاد عنه: «أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَقَالَ -يعني ابنَ أُمِّ
مَكْتُومٍ-: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آتِيَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ
هَذِهِ الصَّلَاةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ قَالَ: فقلتُ يَا رَسُولَ اللهِ
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِي ... » الحديثَ.
وعند أحمد: أَتَى النَبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ فِي
الْقَوْمِ رِقَّةً، فَقَالَ: «إِنِّي لَأَهُمُّ أَنْ أَجْعَلَ لِلنَّاسِ إِمَامًا،
ثُمَّ أَخْرُجَ فَلَا أَقْدِرُ عَلَى إِنْسَانٍ يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي
بَيْتِهِ إِلَّا أَحْرَقْتُهُ عَلَيْهِ».
قال ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ
نَخْلًا، وَشَجَرًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ، أَيَسَعُنِي
أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ قَالَ: «أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ
قَالَ: «فَأْتِهَا».
وأعلَّ ابنُ القطَّانِ حديث ابن أم مكتوم فقال: لأن الراوي عنه أبو رزين وابن أبي
ليلى، فأما أبو رزين فإنا لا نعلم سنَّه ولكن أكبر ما عنده من الصحابة علي، وابن
أم مكتوم قتل بالقادسية زمن عمر، وابن أبي ليلى مولده لستٍّ بَقِينَ من خلافة عمر.
انتهى.
أما قوله (أبو رزين لا نعلم مولده) غير جيد؛ لأنَّ ابن حبان ذكر أنه كان أكبر
سنًّا من أبي وائل، وأبو وائل قد عُلِمَ إدراكه لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فعلى هذا لا تُنْكَرُ روايته عن ابن أم مكتوم.
الثاني: قوله (أعلى ما له الرواية عن علي) مردودٌ بروايته الصحيحة عن ابن مسعود.
(1/260)
الثالث:
قوله (مات ابن أم مكتوم بالقادسية) مردودٌ، يقول ابن حبان في كتاب «الصحابة»: شهد
القادسية ثم رجع إلى المدينة ولم يسمع له بذكر بعد عمر.
الرابع: قوله (إن سنَّ ابن أبي ليلى لا يقتضي له السماع من عمر) مردودٌ، يقول أبو
حاتم الرازي: وسأله ابنه هل سمع عبد الرحمن من بلال؟ فقال: بلال خرج إلى الشام
قديمًا في خلافة عمر فإنه كان رآه صغيرًا، فهذا أبو حاتم لم ينكر سماعه من بلال
المتوفى سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة، بل جوَّزَه فكيف ينكر من عمر والله تعالى
أعلم.
ورواه البيهقي من حديث أبي شهاب الخياط عن العلاء بن المسيب عن ابن أم مكتوم
«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَائِدًا
%ج 1 ص 150%
لَا يُلَاوِمُنِي فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ، الْعِشَاء وَالصُّبْح، فَقَالَ:
لو يعلمُ الْقَاعِدُوْنَ عَنْهُمَا مَا فِيهِمَا لَأَتَوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».
وفي «الأوسط» من حديث البراء أنَّ ابن أم مكتوم شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ
وَالْفَجْرِ وَقَالَ: إنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَشْيبَ، فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ
الْأذَانَ؟».قَالَ نَعْم مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي
ذَلِكَ.
وعنده أيضًا من حديث عدي بن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عَنْ كَعْبِ بْنِ
عُجْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ ضَرِيرٌ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فَقَالَ: إِنِّي أَسْمَعُ النِّدَاءَ، فَلَعَلِّي لَا أَجِدُ قَائِدًا وَيَشُقُّ
عَلَيَّ، أَفَأَتَّخِذُ مَسْجِدًا فِي بيتي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «أَيَبْلُغُكَ النِّدَاءُ؟» قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتَ
فَأَجِبْ».
وقال تفرد به زيد بن أبي أنيسة عن عدي عن عبد الله بن مغفل.
(1/261)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ من حديث أبي هريرة: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى
الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ
لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى، دَعَاهُ، فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَجِبْ».
وخرَّجه السراج في «مسنده» من حديث عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: أتى ابن أم
مكتوم الأعمى ح. وما رواه ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ
سَمِعَ النِّدَاءَ، فَلَمْ يُجِبْ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ».
خرَّجَه ابن حبان في «صحيحه»: عن الحسن بن سفيان عن عبد الحميد بن بيان، حَدَّثَنا
هُشَيْمٌ عن شُعْبَةَ عن عدي بن ثابت عن ابن جبير عنه، وقال أبو عبد الله: أوقفه
غُنْدَرٌ وأكثر أصحاب شُعبة، وهو صحيح على شرط الشيخين، وهشيم وقراد أبو نوح إذا
وصلاه فالقول قولهما، وله غير شاهد فذكر حديث سعيد بن عامر وأبي سليمان داود بن
الحكم عن شعبة مرفوعًا قال: ولشعبة متابعان: مَغْراء العبدي عن عدي بلفظ: «قالوا:
وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» وأبو جَنَابٍ من حديث سليمان بن قَرْمٍ بلفظ: «منْ
سمعَ النداءَ يُنَادَى به صحيحًا فلم يأتِهِ منْ غير عُذْرٍ لم يقبل اللهُ لهُ
صلاةً غيرها، قيل: وما العذر؟ قال: المرض والخوف».
وفي «العلل» للخلال قال أحمد: أخطأ فيه هشيم مرةً رفعه وهو موقوف قيل كيف؟ قال
غندر وغيره: لا يرفعه.
وفي «أحكام» عبد الحق رواه قاسم بن أصبغ عن إسماعيل حَدَّثَنا سليمان بن حرب،
حَدَّثَنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد عن ابن عباس، قال أبو محمد: وحسبك
بهذا الإسناد صحةً.
(1/262)
قال ابن
القطان: ليس في كتاب ابن أصبغ (إلا من عذر) في الحديث المرفوع، إنما هو في
الموقوف، والمرفوع أيضًا إنما هو من رواية شعبة عن حبيب لا عن عدي، وهذه الزيادة
في حديث عدي إلا أنها عند قاسم موقوفة، نعم هي في الحديث المرفوع من رواية عدي عند
غير قاسم من رواية هشيم عن شعبة عند معن بن مخلد وغيره
%ج 1 ص 151%
وبما رواه ابن ماجه من حديث الدُّسْتُوائي عن يحيى بن أبي كثير عن الحكم بن مينا
أخبرني ابن عباس وابن عمر سَمِعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ
عَلَى أَعْوَادِهِ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجَمَاعَاتِ،
أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ» وهو حديث ظاهره الصحة لولا قول
النسائي: أخبرنا محمد بن معمر عن حبان بن هلال عن أبان عن يحيى عن الحضرمي بن لاحق
عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن الحكم عن ابن عمر وابن عباس، قال علي بن المبارك: ثم
كتب يحيى به إلي عن ابن عمر وأبي هريرة ح.
ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن مجموع حديث يحيى بن أبي كثير من حديث هشام بن عمار
حَدَّثَنا الوليد، حَدَّثَنا معاوية بن سلام، سمع يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني
الحكم بن مينا سمعت أبا هريرة وابن عمر يقولان: ح.
ورواه مسلم في «صحيحه»: عن الحلواني عن أبي توبة حَدَّثَنا معاوية بن سلام عن أخيه
زيد سمع أبا سلام حدثني الحكم بن مينا أن أبا هريرة وابن عمر حدثاه فذكره بلفظ:
«الجُمُعَاتِ».
قَالَ البَيْهَقِيُّ: ورواه أبان بن يزيد عن يحيى عن زيد بن سلام عن الحضرمي عن
الحكم وخالفه الدستوائي، فرواه عن يحيى أن أبا سلام حدثه عن الحكم أنه حدثه قال:
ورواية معاوية عن أخيه زيد أولى أن تكون محفوظة. انتهى.
(1/263)
يُفْهَمُ
من كلامه أن أبان رواه بلفظ: «الجُمُعَاتِ» وليس كذلك إنما ذكره عنه الإسماعيلي،
في حديث يحيى بلفظ: «الجُمُعَاتِ». وفي «علل أبي حاتم»: والحضرمي رجل من أهل
المدينة، وليس لرواية أبي سلام عنه معنى، وإنما يشبه أن يكون يحيى لم يسمعه من زيد
فرواه عن الحضرمي عن زيد فوهم الذي حدث به.
وفي «تاريخ أبي سعيد بن يونس» من حديث يحيى أبي مالك عن واهب بن عبد الله المعافري
عن ابن عمر مرفوعًا: (لَأَنَا عَلَى أُمَّتِي فِي غَيْرِ الخَمْرِ أَخْوَفُ
عَلَيْهِم مِنَ الخَمْرِ سُكْنَى البَادِيَةِ وَتَرْكَ المَسَاجِدِ) قال أبو سعيد:
ورواه محمد بن المغيرة عن واهب عن ابن عمر موقوفًا، وربما رواه ابن ماجه من حديث
الوليد بن مسلم عن الزبرقان بن عمرو الضمري عن أسامة بن زيد قال رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ عَنْ تَرْكِ الجَمَاعَاتِ
لَأُحَرِّقَنَّ عَلَيْهِمْ بُيُوْتَهَمْ). قال ابن عساكر والضياء محمد بن عبد
الواحد: هو منقطع فيما بين الزبرقان وأسامة.
وبما في «الأوسط» للطبراني بسند جيد عن أنس: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا دَعَا النَّاسَ
إِلَى عِرْقٍ أَوْ مِرْمَاتَيْنِ لَأَجَابُوهُ، وَهُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى هَذِهِ
الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ فَلَا يَأْتُوها، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا
يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي جَمَاعَةٍ، فَأُضْرِمَهَا عَلَيْهِمْ نَارًا، فَإِنَّهُ
%ج 1 ص 152%
لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ».
وبما في «سنن أبي داود» بسند لا بأس به عن أبي الدرداء مرفوعًا: «مَا مِنْ
ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا
يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ».
(1/264)
وعند
ابن عدي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا
صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» وضعفه وكذا ما رواه.
وعن أُبَيِّ بنِ كعبٍ وعمرَ بنِ الخطاب مرفوعًا: «إِنَّ اللهَ يَعْجَبُ مِنَ
الصَّلاِةِ فِي الجَمِيْعِ».
وعند أبي نعيم الدكيني بسند صحيح يرفعه: «منْ سمعَ النداءَ فلمْ يُجِبْ منْ غيرِ
عذرٍ فلا صلاةَ لهُ».
وعند الكجي في «سننه» عن حارثة بن النعمان يرفعه: «يخرجُ الرجلُ في غنيمةٍ فلا
يشهدُ الصلاةَ حتى يُطْبَعُ على قلبهِ» في إسناد عمر مولى غفرة، وعن أبي زرارة
الأنصاري قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «منْ سمعَ النداءَ فلمْ يُجِبْ كُتِبَ
منَ المنافقينَ». ذكره أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في سنده بسندٍ فيه ضعف.
وعن جابر قال عليه الصلاة والسلام: «لولا شيءٌ لأمرتُ رجلًا يُصَلِّي بالناسِ ثمَّ
لحرقْتُ بيوتًا على ما فيها». ذكره أبو جعفر الطحاوي في «شرح المشكل».
وعند البخاري في باب فضل صلاة الفجر في جماعة، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ دخلَ عليَّ
أبو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟ فَقَالَ: وَاللهِ
مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا
أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. وأجابوا عن قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«صلاةُ الجماعةِ تفضلُ صلاةَ الفَذِّ» بأن المفاضلة لا تمنع أن تقع في الواجبات
أنفسها أي: أن صلاة الجماعة في حق من فَرْضُه صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد في
حق من سقط عنه وجوب صلاة الجماعة لمكان العذر بتلك الدرجات المذكورة، وعلى هذا
قالوا: فلا يعارض بين الحديثين.
(1/265)
وأما
من قال: بأنها سنة أو فرضٌ على الكفاية فاستدل بما تقدم من الأحاديث التي فيها
صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذِّ؛ لأن صيغة أفعل تقتضي الاشتراك في الفضل وترجيح
أحد الجانبين وما لا يصح لا فضل فيه، ولا يجوز أن يقال: إن أفضل تستعمل بمعنى
الفاضل ولا يقال إن ذلك محمولٌ على صلاة المعذور فذًّا؛ لأن الفذَّ مُعَرَّفٌ
بالألف واللام فيفيد العموم ويدخل تحته كلُّ فذٍّ من معذور وغيره، ويدلُّ أيضًا
أنه أراد غير المعذور بقوله: (أو في سوقهِ) لأنَّ المعذور لا يروح إلى السوق،
وأيضًا بما رواه أُبَيُّ بن كعب عند الحاكم مصححًا: «صَلاةُ الرَّجُلِ مَعَ
الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلاتُهُ مَعَ رَجُلَيْنِ أَزْكَى
مِنْ صَلاتِهِ مَعَ رَجُلٍ وَمَا كَثُرَ
%ج 1 ص 153%
فَهُوَ أحب إِلَى الله عز وَجل».
وبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ َللَّذَيْن صَلَّيَا فِي رِحَالِهِمَا
مِنْ غَيْرِ جمَاعَةٍ: «إِذا صَلَّيْتُما فِي رِحَالِكُمَا ثمَّ أَتَيْتُمَا
الْمَسْجِدَ فَصَليَا فَإِنَّهَا لَكمَا نَافِلَة» فلو كانت الجماعة فرضًا لأمرهما
بالإعادة ومثل هذا جرى لمحجن الدؤلي ذكره في «الموطأ» والله تعالى أعلم.
(العَرْقُ) بفتح العين وسكون الراء جمعه عراق، قال الأزهري في «التهذيب»: هي
العظام التي يؤخذ منها هَبْرُ اللحم ويبقى عليها لحوم رقيقة طيبة فتكسر وتطبخ
وتؤخذ إهالتها من طُفَاحتها ويُؤْكَلُ ما على العظام من لحم دقيق ويُتَمَشَّشُ
العظام، ولحمها أطيب اللحوم عندهم، يقال: عَرَقْتُ اللحمَ وتعرَّقْتُه
واعْتَرَقْتُهُ إذا أخذتَ اللحم منه نهشًا بأسنانك، وعظم معروقٌ إذا ألقي عليه
لحمه أي قُشِّر.
أنشد أبو عبيد لبعضهم يخاطب امرأته:
وَلَا تُهْدِي الأَمَرَّ وَمَا يَليهِ ... وَلَا تُهْدِنَّ مَعْروقَ العِظامِ
(1/266)
والعُرَام
مثل العُرَاق قاله الرياشيُّ، قال القُتْبِيُّ: سمعت الرياشي يروي عن أبي زيد أنه
قال: قول والناس ثريدةٌ كثيرة العُرَاق خطأ لأن العُراق العظام، انتهى.
في «الْمُوعِبِ»: لابنِ التَّيَّانِيِّ عن ابن قتيبة تسمى عُرَاقًا إذا كانت جردًا
لا لحم عليها، وتسمى عُراقًا وعليها اللحم، وزعم الكلابي أن العرق العظم الذي أخذ
أكثر ما عليه وبقي عليه شيء يسير، وعن الأصمعي: العَرْقُ بجزم الراء الفَدْرَة من
اللحم وفي «الْمُحْكَمِ» العُراق من العظم بغير لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق،
والعَرْقُ الفَدرة من اللحم وجمعها عُرَاق وهو من الجميع العزيز وله نظائر، وحكى
الأعرابي في جمعه عِرَاق بالكسر وهو أَقْيَسُ.
وفي «الجامع» للقزَّاز أكثر قولهم أَن العَرْق اللحم، والعُرَاق العظم، وفي
«المغرب» العرق العظم.
و (الْمِرْمَاتَانِ) واحدها مِرْمَاة وهو ما بين ظلفي الشاة، ولغة أخرى مَرْمَاة
بالفتح، قال ابن الأنباري: المرماة السهم الذي يُرْمَى به في هذا الحديث، وقال
أبوسعيد: المرماتان في الحديث هما سهمان يرمي بهما الرجل فيجوز سبقه، يقول يسابق
إلى إحراز الدنيا وسبقها ويدع سبق الآخرة.
وقَالَ الدَّاودِيُّ: المرماتان حديدتان يلف بهما تكوير التراب بالأرض ويُرْمَى
الغلام بالمرماة فمن ثبتت مرماته في التراب غلب، وقد قيل إنهما بضعتان من اللحم،
والأول أولى؛ لأنه قد ذكر اللحم.
قال: وفي حديث أبي سعيد
%ج 1 ص 154%
يقولُ للناسِ وهُمْ يُصَلُّونَ وقد أُقِيْمَتِ الصلاةُ: «وَيْلَكُمْ إذا
أُقِيْمَتِ الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتوبةَ».
(1/267)
وعند
البيهقيِّ: «رَأَى ابنُ عُمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْمُؤَذِّنُ
يُقِيمُ، فَحَصَبَهُ وَقَالَ: أَتُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟». ولما ذكره ابن
أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي في كتابه «مسند ابن عمر» قال: «رَآنِي وَأَنَا
أُصَلِّي بَعْدَ الْفَجْرِ فَقَالَ: يَا يَسَارُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ خَرَجَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ فَتَغَيَّظَ
عَلَيْنَا وَقَالَ: لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ لَا صَلَاةَ بَعْدَ
الْفَجْرِ إِلَّا ركعَتَيْنِ». انتهى.
وذكر ابن حزم نحوه عن ابن سيرين وإبراهيم، وعند أبي نعيم الفضل عن طاوس: إِذَا
أُقِيْمَتِ الصلاةُ وأنتَ في الصَّلَاةِ فَدَعْهَا.
وعند عبد الرزاق قال سعيد بن جبير: اقْطَعْ صلاتَكَ عندَ الإقامةِ. وعند ابن أبي
شيبة قال بيانٌ: كان قيس بن أبي حازم يؤمنا فأقام المؤذِّنُ الصلاةَ وقد صلَّى
ركعةً فتركها ثم تقدَّمَ فصلَّى بنا. وكذا قاله الشعبيُّ واستدلَّ من أجاز ذلك
بقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وبما رواه البيهقيُّ من
طريق حَجَّاجِ بن نصير عن عَبَّاد بن كثير عن ليث عن عطاء عن أبي هريرة أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أُقِيْمَتِ الصَّلاةُ
فَلا صَلاَةَ إِلاَّ المَكْتُوبَةُ إِلاَّ رَكْعَتَي الفَجْرِ».
قَالَ البَيْهَقِيُّ: هذه الزيادة لا أصل لها، وحجَّاج وعباد ضعيفان، وقيل: عن
حجاج بسنده عن مجاهد بدل عطاء، وعن ابن مسعود: أنه دخل المسجد وقد أقيمت صلاة
الصبح فركع ركعتي الفجر إلى أسطوانة بمحضر حذيفة وأبي موسى.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ورُوِيَ مثله عن عمر بن الخطاب وأبي الدرداء وابن عباس، وعن
ابن عمر أنه أتى المسجد لصلاة الصبح فوجد الإمام يصلي فدخل بيتَ حفصة فصلَّى
ركعتين ثم دخل في صلاة الإمام.
(1/268)
وعند
ابن أبي شيبة عن إبراهيم كان يقول: إن بقي من صلاتك شيء فأتممه.
وعنه: إذا افتتحت الصلاة تطوعًا وأقيمت الصلاة فأتم.
وعن أبي إسحاق قال: كنت إلى جنب عبد الله بن مُغَفَّلٍ وهو يصلي ويقرأ سورة النور
فأقام المؤذن فركع وسجد ثم جلس فتشهد ثم قام مع الإمام فأخذ من حيث انتهى.
وعن ميمون قال: إنْ كَبَّرْتَ بالصلاةِ تطوعًا قبل أن تكبر بالإقامة فصلِّ ركعتين.
وعن عطاء: إذا كنتَ في المسجد فأُقِيْمَتِ الصلاةُ فلا تركع إلا أن تكون على وتر
فتشفع.
وعند الطحاوي من طريق يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن: أن رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرَّ بابن بُحَيْنَةَ وهو يصلي بين يدي نداء الصبح
فقال: لا تجعلوا هذه
%ج 1 ص 155%
الصلاة كصلاة الظهر واجعلوا بينهما فصلًا. فأبان بهذا أن الذي كرهه رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لابن بُحَيْنَة وصله إياها بالفريضة في مكان واحد دون
أن يفصل بينهما بشيء يسير، قال: ويحتمل في قوله الصبح أربعًا؛ لأنه جمع بين الفرض
والنفل في مكان واحد كما نهى من صلَّى الجمعةَ أنَّ يُصَلِّي بعدها تطوعًا في مكان
واحد، كما نهى من صلَّى الجمعةَ أنْ يتكلم أو يتقدم ... (لاَثَ بِهِ النَّاسُ)
فمعناه: اجتمعوا حوله وأحاطوا به، قال صاحب «العين»: لاث الشجرُ والنباتُ التفَّ
بعضه ببعض، وكلُّ شيء اجتمع والتبس بعضه ببعض فهو لائث ولاث، ويقال أيضًا ألاث
بمعنًى واحد ...
وفي «الصحاح»: الالتياث الاختلاط، وقال الكسائي: يقال للأشراف إنهم لَمَلَاوثُ؛ أي
يُطَاف بهم ويُلَاث.
(بَابٌ حَدُّ المَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ)
(1/269)
664
- حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قالَ الأسْوَدُ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَذَكَرْنَا
المُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ
النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ
الصَّلاَةُ، فَأُذِّنَ فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ
يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ
الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ للنَّاسِ». فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَوَجَدَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ،
كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ الأرضَ مِنَ الوَجَعِ، فَأَرَادَ
أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ.
[خ 664]
فَقِيلَ لِلْأَعْمَشِ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي
وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي
بَكْرٍ، فَقَالَ: بِرَأْسِهِ نَعَمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ بَعْضَهُ، وزادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ ذكرها البخاري مُسْنَدَةً في بابِ
الرجلِ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ. حدثني قتيبة
حَدَّثَنا أبو معاوية فذكره.
(1/270)
وعند
ابن حبان عن الحسن بن سفيان حَدَّثَنا محمد بن عبد الله بن نمير حَدَّثَنا أبو
معاوية بلفظ: «فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي
بِالنَّاسِ قَاعِدًا وَأَبُوْ بَكْرٍ قَائِمًا». والذي رواه أبو داود قال البزار
في «مسنده» حَدَّثَنا محمد بن مثنى، حَدَّثَنا أبو داود، حَدَّثَنا شعبة عن الأعمش
عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت:
%ج 1 ص 156%
«كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هُوَ المُتَقَدِّمُ بَيْنَ
يَدَيْ أَبِيْ بَكْرٍ -يَعْنِيْ يَومَ صَلَّى بِالنَّاسِ- وَأَبُوْ بَكْرٍ إِلَى
جَنْبِهِ».
عند البخاري فقالت عائشة: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى مَا
يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَ:
«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». قالتْ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ:
قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ
لاَ يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَتْ لَهُ: فَقَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ،
مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». وفيه: «فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى
يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي بِالنَّاسِ جِالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ
بِصَلاَةِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَيَقْتَدِي النَّاسُ
بِصَلاةِ أَبِيْ بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمُ التَّكْبِيْرَ».
(1/271)
رواية موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله عند البخاري على أن أبا حاتم الرازي تريبني روايةُ موسى حديثَ عبيد الله في مرضه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قيل: فما تقول فيه؟ قال: صالح الحديث، قيل: يحتج بحديثه, قال: يُكْتَبُ حديثه، قال عبيد الله: قلتُ لعائشة فَقُلْتُ: أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ».
(1/272)
قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ» فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ»، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِصَلاَةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا العَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ، وَقَالَ: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ»، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
(1/273)
قَاعِدٌ،
%ج 1 ص 157%
لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَمَا
حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي:
أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا، قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا، وَإِلاَ أنني
كُنْتُ أُرَى أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مَقَامَهُ إِلَّا تَشَاءَمَ النَّاسُ
بِهِ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَلاَ
أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ: هَاتِ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا، فَمَا
أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي
كَانَ مَعَ العَبَّاسِ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وفي رواية حمزة بن عبد المطلب في بَاب إِذَا بَكَى الإِمَامُ فِي الصَّلاَةِ:
«لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَيْتِي قَالَ: «مُرُوا
أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا
بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ
أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: وَاللهِ، مَا بِي إِلَّا كَرَاهة أَنْ
يَتَشَاءَمَ النَّاسُ، بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ:
«لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ».
(1/274)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ: «خَرَجَ لِصَلاةِ العَصْرِ». وفي لفظ: «أَوَّلُ مَا اشْتَكَى صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ واسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ
يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ، قَاَلتْ: فَخَرَجَ وَيَدٌ لَهُ عَلَى
الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ والأخرى عَلَى رَجُلٍ آخَرَ وَهُوَ يَخُطُّ رِجْلَيْهِ
الْأَرْضَ، قَاَلَتْ: فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ وَجَعُه قَالَ: أَهَرِيقُوا عَلَيَّ
مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى
النَّاسِ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ
عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ القِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ
فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ وصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ».
وفي لفظٍ قالت عائشة: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ مَقَامكَ لَمْ يُسْمِعِ
النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ ليُصَلِّ باِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ
فَقَالَ: «إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ» فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ
خَيْرًا.
(1/275)
وفي
«فضائل الصحابة» لأسد بن موسى حَدَّثَنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن
ابن أبي مليكة عن عائشة في حديث طويل فِي مَرَضِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وَرَأَى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً،
فَانْطَلَقَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ لِيَتَأَخَّرَ
فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بيدهِ مَكَانَكَ،
فَاسْتَفْتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ حَيْثُ انْتَهَى
أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ». وفي حديثه عن المبارك بن فُضَالة عن الحسن
مرسلًا: «فَلَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ ذَهَبَ أَبْوُ بَكْرٍ فَجَلَسَ فَأَوْمأَ
إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
خَلْفَ أَبْيِ بَكْرٍ لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ
%ج 1 ص 158%
صَاحبُ صَلاَتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِ وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ
يَوْمِهِ ذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ».
وعند ابن حبان «فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ مِنْ نُحَاسٍ، ثُمَّ
خَرَجَ فَحَمِدَ اللهَ تعالى، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لِلشُّهَدَاءِ
الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ».
وعنها «رَجَعَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ جِنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ، وَأَنَا
أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ، فقَالَ: بَلْ أَنَا
يَا عَائِشَةُ، وَارَأْسَاهْ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي،
فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، ثُمَّ دَفَنْتُكِ؟ فَقُلْتُ:
لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي، فَأَعْرَسْتَ
فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ثُمَّ بُدِئَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ».
(1/276)
وعنها
«أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي، فَجَعَلْتُ أَمْسَحُهُ وَأَدْعُو لَهُ
بِالشِّفَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لَا بَلْ أَسْأَلُ اللهَ الرَّفِيقَ
الْأَعْلَى مَعَ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإِسْرَافِيلَ صَلَوَاتُ اللهِ
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْنَ».
وفي لفظٍ «سَمِعَتُهُ وأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، يَقُولُ: اللهُمَّ
اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى».
وفي لفظٍ من حديث شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله عنها.
وفي لفظٍ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِالنَّاسِ ورَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ في الصَّفِ خَلْفَهُ».
ولفظه عند الترمذي: «صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكرٍ فِي مَرَضِهِ الذِيْ مَاتَ فِيْهِ
قَاعِدًا». وقال: حسن صحيح غريب. وعنده من حديث أنس: «صَلَّى فِي مَرَضِهِ خَلْفَ
أَبِي بَكرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ». وقال: حسن صحيح، زاد
النسائي: «وَهِيَ آخِرُ صَلاةٍ صَلاَّهَا مَعَ القَوْمِ».
(1/277)
قال
ابن حبان: خالف شعبةُ زائدةَ بنَ قُدَامةَ في متن هذا الخبر عن موسى، فَجَعَلَ
شُعْبَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَأْمُومًا حَيْثُ صَلَّى
قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ وَجَعَلَهُ زَائِدَةُ إِمَامًا حَيْثُ صَلَّى
قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ وَهُمَا مُتْقِنَانِ حَافِظَانِ وليس بين حديثيهما
تضاد ولا تهاتر، ولا ناسخ ولا منسوخ، بل مُجْمَلٌ ومُفَسَّرٌ، وإذا ضم بعضهما إلى
بعض بطل التضاد بينهما، واسْتُعْمِلَ كلُّ خبر في موضعه على ما سنبينه إن شاء الله
تعالى، ثم ذكر خُرُوْجه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى الصَّلاَةِ بَيْنَ
بَرِيرَةَ وَنُوبَةَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى نَعْلَيْهِ
تَخُطَّانِ فِي الْحَصَا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى بُطُونِ قَدَمَيْهِ فَقَالَ
لَهُمَا: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ». فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ يُصَلِّي
بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَالنَّاسَ يُصَلُّونَ
بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ.
وفي حديث أبي وائل عن مسروق: وَجِيءَ بِنَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَوُضِعَ
%ج 1 ص 159%
(1/278)
بِحِذَاءِ أَبِي بَكْرٍ فِي الصف فقال أبو حاتم: «فِي هَذِهِ الصَّلاة كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَأْمُوْمًا، وَصَلَّى قَاعِدًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ في الصَّفِ» ثم قال: خبر يعارض في الظاهر خبر أبي وائل الذي ذكرناه فذكر حديث نُعَيْم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عنها: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا». قال أبو حاتم: خَالَفَ أَبُوْ نُعَيْمِ بْنُ أَبِي هِنْدَ عَاصِمَ بْنَ أَبِي النَّجُودِ فِي مَتْنِ هَذَا الْخَبَرِ، فَجَعَلَ عَاصِمٌ أَبَا بَكْرٍ مَأْمُومًا، وَجَعَلَ نُعَيْمٌ أَبَا بَكْرٍ إِمَامًا وَهُمَا ثِقَتَانِ حَافِظَانِ مُتْقِنَانِ، فنقول بمشيئة الله تعالى: إن هذه الأخبار كلها صحاحٌ وليس شيء منها يعارض الآخر، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلى في علته صلاتين في المسجد جماعة لا صلاةً واحدة في أَحْدَيْهِمَا كان إمامًا وفي الأخرى كان مأمومًا، والدليل على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة: أنَّ في خبر عبيد الله خرج بين رجلين أحدهما العباس والآخر علي، وفي خبر مسروق: خرج بين بريرة ونوبة فهذا يدلك على أنها كانت صلاتين لا صلاة واحدة، انتهى.
(1/279)
بعكسه
على ما قاله أبو حاتم ما ذكره من أنه خرج بين الجاريتين من البيت إلى الباب ومن
الباب أخذه العباس وعلي حتى دخلا به المسجد على أن في كتاب «الردة»: لسيف ابن نوبة
كان عبدًا أسود وسيأتي ناشده علي بن أبي حاتم لو احتج بما قدمناه من عِنْد
مُسْلِمٍ من أنه كان يتوكأ على الفضل بن عباس لكان جيدًا؛ لأن الذي في البخاري
العباس وعلي، هذا يدلُّ على أنه مرةً أخرى يؤيده قوله: (أَجْلِسَانِي هُنَا)
ويؤيده أيضًا ما ذكره الدَّارَقُطْني في «سننه»: «خَرَجَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْن أُسَامَةَ وَالفَضْلِ حَتَّى صَلَّى خَلْفَ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ». فيما ذكره السُّهَيلي وقد تقدم طرف منه، وزعم
بعضهم أن طريق الجمع كانوا يتناوبون الأخذ به صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان
العباس ألزمهم ليده وأولئك يتناوبونها، فذكرت عائشة أكثرهم ملازمة ليده وهو العباس
وعبرت عن المتناوبين رجل آخر وفي هذا ردٌّ لقول من قال: إنما لم تذكر عليًّا لشيء
كان بينهما والله أعلم.
ولقائل أن يقول: ليس بينه وبين المسجد مسافة تقتضي التناوب اللَّهمَّ إلا أن يكون
ذلك لزيادة في إكرامه أو لالتماس البركة بمس يده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومن حديث حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ وَجِعًا فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ، فَوَجَدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
%ج 1 ص 160%
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً فَجَاءَ فَقَعَدَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَمَّ
أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ وَهُوَ قَائِمٌ».
(1/280)
ومن
حديث قيس عن عبد الله بن أبي السَّفَر عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس عن العباس
بن عبد المطلب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ:
«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ من نفسه خفة فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَتَأَخَّرَ
أَبُو بَكْرٍ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَرَأَ مِنَ الْمَكَانِ
الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ مِنَ السُّورَةِ».
ولما ذكر ابن خزيمة حديث أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ خلفه، قال: لم يصح الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان
الإمام في المرض الذي توفي فيه في الصلاة التي كان فيها قاعدًا وأبو بكر والقوم
قيام؛ لأنَّ في خبر مسروق وعبد الله عن عائشة أنَّ أبا بكر كان الإمام والنبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مأموم، وهو ضد خبر هشام عن أبيه عنها، وخبر الأعمش عن
إبراهيم عن الأسود على أن شعبة كان قد بَيَّنَ في روايته عن الأعمش عن إبراهيم عن
الأسود عن عائشة: أن من الناس من يقول كان أبو بكر بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ومنهم من يقول كان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الْمُقَدَّمَ بين يدي أبا بكر، وإن كان الحديث الذي احتج به من زعم أن فعله الذي
كان في سقطته من الفرس وأمره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالاقتداء بالأئمة وقعودهم
في الصلاة إذا صلى أمامهم قاعدًا منسوخ غير صحيح من جهة النقل فغير جائز لعالمٍ أن
يدعي نسخ ما قد صح عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالأخبار المتواترة بالأسانيد
الصحاح بما ذكرنا من فعله وأمره بخبر مختلف فيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ولم يثبت خبرٌ من جهة النقل ينسخُ ما قد صحَّ عنه صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بما ذكرنا من فعله وأمره.
(1/281)
وإن
قال قائل غير منعم للرواية فكيف يجوز أن يصلي قاعدًا من يقدر على القيام؟.
قيل له: إن شاء الله تعالى يجوز ذلك بسنة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ التي
أُمْرِنَا باتباعها، وقد صحَّ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عند جميع أهل
العلم بالأخبار الأمر بالصلاة قاعدًا إذا صلى الإمام قاعدًا، وثبت عندهم أيضًا
وصحَّ قعد أصحابه ولا مرض بهم ولا بأحد منهم، وادَّعَى قوم نسخ ذلك فلم يثبت
دعواهم بخبر صحيح لا معارض له، ثم قال: حَدَّثَنا القاسم بن محمد وأبو طالب زيد بن
أخرم ومحمد بن يحيى الأزدي قالوا: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنا
سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ نُبَيْطِ بْنِ
شَرِيطٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: «مَرِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثمَّ أفاقَ
%ج 1 ص 161%
فَقَالَ: «أَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ؟» قُلْن: نَعَمْ قَالَ: «مُرُوا بِلَالًا
فَلْيُؤَذِّنْ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» ثُمَّ أُغْمِيَ
عَلَيْهِ فَذَكَر الْحَدِيثَ. وفِيْهِ: «أَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؟ قُلْنَ: نَعَمْ
قَالَ: جِيئُونِي بِإِنْسَانٍ أَعْتَمِدْ عَلَيْهِ، فَجَاؤوا بِبَرِيرَةَ وَرَجُلٍ
آخَرَ، فَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأُجْلِسَ إِلَى
جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَنَحَّى، فَأَمْسَكَهُ حَتَّى
فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ».
(1/282)
وفي
كتاب عبد الرزاق أخبرني ابن جريج، أخبرني عطاء قال: «اشْتَكَى رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَصَلَّى
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِلنَّاسِ يَوْمًا قَاعِدًا، وَجَعَلَ
أَبَا بَكْرٍ وَرَاءَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، قَالَ: وَصَلَّى النَّاسُ
وَرَاءَهُ قِيَامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَوِ
اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا صَلَّيْتُمْ إِلَّا قُعُودًا
فَصَلُّوْا بِصَلَاةِ إِمَامِكُمْ، مَا كَانَ أنْ يُصَلِّي قَائِمًا فَصَلُّوا
قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا».
وعند الدَّارَقُطْني من حديث جابر بن يزيد ومُجَالدِ بن سعيد عن الشعبي: «أَنَّ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي
جَالِسًا» وقال ابن عبد البر: الآثار الصحاح على أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كان المتقدم وأن أبا بكر كان يصلي بصلاة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
وعند أبي داود من حديث عبد الله بن زَمْعَةَ: لمَّا قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مُرُوْا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّ بِالنَّاسِ، خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ
زَمْعَةَ فَإِذَا عُمَرُ فِي النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا، فَقالَ:
قُمْ يَا عُمَرُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ، فَتَقَدَّمَ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَوْتَهُ، قَالَ: «أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ يَأْبَى
اللهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ» فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ
صَلَّى عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ.
(1/283)
قوله:
(إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) يعني في تردادهن وتظاهرهن بالإلحاح كتظاهر امرأة
العزيز ونسائها على يوسف صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليصرفنه عن رأيه في
الاستعصام، وصواحبات: جمع صاحبة وهو جمع شاذ، وقيل: يريد امرأة العزيز وأتى بلفظ
الجمع كما يقال فلان يميل إلى النساء وإن كان ميله إلى واحدة ذكره السَّفَاقُسيُّ.
وزعم بعضهم أن ترداد عائشة كان لأنَّها علمتْ أنَّ الناس قد علموا أنَّ أباها لا
يصلح لخلافة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فإذا رأوه استشعروا موت النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بخلافة غيره. انتهى.
قد بَيَّنَتْ هي مرادها رضي الله عنها فيما تقدم فلا حاجة إلى الحرص.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: والصلاة تصح بإمامين لغير عذر، وأجازها الطبري والبخاري وبعض
الشافعية استدلالًا بهذا الحديث، قال: وهذا متأخر عن قوله: (وإنْ صَلَّى جالسًا
فصلُّوا جلوسًا).
قال
%ج 1 ص 162%
السَّفَاقُسيُّ: احتجَّ ابن المسيب بجلوس النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن
يسار أبي بكر بأن مقام المأموم يكون عن يسار الإمام، قال: والجماعة على خلافه،
ويتمشى قوله على أن الإمام هو أبو بكر، وأما من قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فلا يتمشى قوله والله تعالى أعلم.
وقوله: (حدُّ المريضِ أنْ يشهدَ الجماعة) ذكره ابن قُرْقُول في باب الجيم والدال
المهملة، قال: وقاله القابسي وغيره، قال: ولبعضهم: (حد) بالحاء والدال المهملتين
يعني: بأن حدَّهُ المريض وحرصه على شهود الجماعة والمراد بالحض على شهود الجماعة
والمحافظة عليها.
(1/284)
وقَالَ
الْمُهَلَّبُ: فيه من الفقه جواز الأخذ بالشدة لمن جازت له الرخصة؛ لأن سيدنا رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان له أن يتخلف عن الجماعة لعذر المرض فلما
تحامل وخرج بين رجلين دلَّ على فضل الشدة على الرخصة ترغيبًا لأمته في شهود
الجماعة لما لهم فيها من عظيم الأجر ولِئَلَّا يعذر أحد منهم نفسه في التخلف عنها
ما أمكنه، وقدر عليها.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: والذي ذكر أن جدًا بمعنى جدِّه ذكره عن الكسائي إلا أنه
يحتاج الكلام إلى تقديره وإضمار، قال: ويظهر لي أن يصح أن يقال: جِدّ مكسورة الجيم
وهو الاجتهاد في الأمر ويكون معنى التثويب، باب اجتهاد المريض أن يشهد الجماعة،
أي: في شهود الجماعة، قال: ولم أسمع أحدًا رواه بالجيم. انتهى.
قد قدمنا أن ابن قُرْقُولٍ ذكره بالجيم عن القابسي، واختلف العلماء من أولى
بالإمامة؟ فقيل: الأفقه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي في آخرين، وقال أبو يوسف
وأحمد وإسحاق: الأمراء أفضل وهو أحد الوجوه عن الشافعية فعلى هذين القولين يكون
أبو بكر أولى الحاضرين بالإمامة لأمرين:
الأول: لتفويض الإمام صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إليه ذلك.
(1/285)
الثاني:
لعلمه؛ ولأنه ممن كان قد جمع القرآن في حياته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ذكر
ذلك أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتاب «فضائل الخلفاء رضي الله عنهم» وكذا
ذكره أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المقرئ، فقد اجتمع فيه بحمد الله تعالى جميع
ما قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما رواه مسلم من حديث أبي مسعود:
«يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي
الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي
السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ
سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا». وقال ابن أبي حاتم في «العلل»: اختلفوا في متنه،
فرواه فطر والأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عَنْ أَوْسِ بْنِ ضمْعَجٍ عن أبي مسعود،
ورواه شعبة
%ج 1 ص 163%
والمسعودي عن إسماعيل فلم يقولا عليهم بالسنة، قال أبيٌّ: وكان شعبة يهاب هذا
الحديث يقول: حُكمٌ من الأحكام لم يشارك إسماعيلَ فيه أحدٌ، فقلت لأبي: أليس قد
رواه السُّدِّيُّ عن أوس فقال: إنما هو من رواية الحسن بن يزيد الأصم عن
السُّدِّيِّ وهو شيخٌ، أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث؟ وأخاف أن لا يكون
محفوظًا والله تعالى أعلم.
(1/286)
664
- حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قالَ الأسْوَدُ كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَذَكَرْنَا
المُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ
النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَحَضَرَتِ
الصَّلاَةُ، فَأُذِّنَ فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ
يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ، فَأَعَادَ
الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ للنَّاسِ». فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى، فَوَجَدَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ
رَجُلَيْنِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ الأرضَ مِنَ الوَجَعِ،
فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ مَكَانَكَ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى
جَنْبِهِ. [خ 664]
فَقِيلَ لِلْأَعْمَشِ: فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي
وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي
بَكْرٍ، فَقَالَ: بِرَأْسِهِ نَعَمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ
الأَعْمَشِ بَعْضَهُ، وزادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ ذكرها البخاري مُسْنَدَةً في بابِ
الرجلِ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ. حدثني قتيبة
حَدَّثَنا أبو معاوية فذكره.
(1/287)
وعند
ابن حبان عن الحسن بن سفيان حَدَّثَنا محمد بن عبد الله بن نمير حَدَّثَنا أبو
معاوية بلفظ: «فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي
بِالنَّاسِ قَاعِدًا وَأَبُوْ بَكْرٍ قَائِمًا». والذي رواه أبو داود قال البزار
في «مسنده» حَدَّثَنا محمد بن مثنى، حَدَّثَنا أبو داود، حَدَّثَنا شعبة عن الأعمش
عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت:
%ج 1 ص 156%
«كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هُوَ المُتَقَدِّمُ بَيْنَ
يَدَيْ أَبِيْ بَكْرٍ -يَعْنِيْ يَومَ صَلَّى بِالنَّاسِ- وَأَبُوْ بَكْرٍ إِلَى
جَنْبِهِ».
عند البخاري فقالت عائشة: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى مَا
يَقُمْ مَقَامَكَ لاَ يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَ:
«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». قالتْ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ:
قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ
لاَ يُسْمِعِ النَّاسَ، فَلَوْ أَمَرْتَ عُمَرَ، فَقَالَتْ لَهُ: فَقَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ،
مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». وفيه: «فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى
يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي بِالنَّاسِ جِالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ
بِصَلاَةِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَيَقْتَدِي النَّاسُ
بِصَلاةِ أَبِيْ بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمُ التَّكْبِيْرَ».
(1/288)
رواية موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله عند البخاري على أن أبا حاتم الرازي تريبني روايةُ موسى حديثَ عبيد الله في مرضه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قيل: فما تقول فيه؟ قال: صالح الحديث، قيل: يحتج بحديثه, قال: يُكْتَبُ حديثه، قال عبيد الله: قلتُ لعائشة فَقُلْتُ: أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَتْ: بَلَى، ثَقُلَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ».
(1/289)
قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ» فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي المِخْضَبِ»، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ، وهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي المَسْجِدِ، يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِصَلاَةِ العِشَاءِ الآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَيَّامَ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا العَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ، وَقَالَ: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ»، فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
(1/290)
قَاعِدٌ،
%ج 1 ص 157%
لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَمَا
حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي:
أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا، قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا، وَإِلاَ أنني
كُنْتُ أُرَى أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مَقَامَهُ إِلَّا تَشَاءَمَ النَّاسُ
بِهِ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَلاَ
أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ: هَاتِ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا، فَمَا
أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي
كَانَ مَعَ العَبَّاسِ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وفي رواية حمزة بن عبد المطلب في بَاب إِذَا بَكَى الإِمَامُ فِي الصَّلاَةِ:
«لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَيْتِي قَالَ: «مُرُوا
أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا
بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ
أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: وَاللهِ، مَا بِي إِلَّا كَرَاهة أَنْ
يَتَشَاءَمَ النَّاسُ، بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ:
«لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ».
(1/291)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ: «خَرَجَ لِصَلاةِ العَصْرِ». وفي لفظ: «أَوَّلُ مَا اشْتَكَى صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ واسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ
يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ، قَاَلتْ: فَخَرَجَ وَيَدٌ لَهُ عَلَى
الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ والأخرى عَلَى رَجُلٍ آخَرَ وَهُوَ يَخُطُّ رِجْلَيْهِ
الْأَرْضَ، قَاَلَتْ: فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ وَجَعُه قَالَ: أَهَرِيقُوا عَلَيَّ
مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى
النَّاسِ فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ
عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ القِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ
فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ وصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ».
وفي لفظٍ قالت عائشة: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ مَقَامكَ لَمْ يُسْمِعِ
النَّاسَ مِنَ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ ليُصَلِّ باِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ
فَقَالَ: «إِنَّكُنَّ لأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ
فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ» فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ
خَيْرًا.
(1/292)
وفي
«فضائل الصحابة» لأسد بن موسى حَدَّثَنا أبو معاوية عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن
ابن أبي مليكة عن عائشة في حديث طويل فِي مَرَضِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وَرَأَى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً،
فَانْطَلَقَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ لِيَتَأَخَّرَ
فَأَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بيدهِ مَكَانَكَ،
فَاسْتَفْتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ حَيْثُ انْتَهَى
أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْقِرَاءَةِ». وفي حديثه عن المبارك بن فُضَالة عن الحسن
مرسلًا: «فَلَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ ذَهَبَ أَبْوُ بَكْرٍ فَجَلَسَ فَأَوْمأَ
إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
خَلْفَ أَبْيِ بَكْرٍ لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ
%ج 1 ص 158%
صَاحبُ صَلاَتِهِمْ مِنْ بَعْدِهِ وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ
يَوْمِهِ ذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ».
وعند ابن حبان «فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ مِنْ نُحَاسٍ، ثُمَّ
خَرَجَ فَحَمِدَ اللهَ تعالى، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لِلشُّهَدَاءِ
الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ».
وعنها «رَجَعَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ جِنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ، وَأَنَا
أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهْ، فقَالَ: بَلْ أَنَا
يَا عَائِشَةُ، وَارَأْسَاهْ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي،
فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، ثُمَّ دَفَنْتُكِ؟ فَقُلْتُ:
لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي، فَأَعْرَسْتَ
فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ثُمَّ بُدِئَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ».
(1/293)
وعنها
«أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِي، فَجَعَلْتُ أَمْسَحُهُ وَأَدْعُو لَهُ
بِالشِّفَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: لَا بَلْ أَسْأَلُ اللهَ الرَّفِيقَ
الْأَعْلَى مَعَ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإِسْرَافِيلَ صَلَوَاتُ اللهِ
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِيْنَ».
وفي لفظٍ «سَمِعَتُهُ وأَنَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِي، يَقُولُ: اللهُمَّ
اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى».
وفي لفظٍ من حديث شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله عنها.
وفي لفظٍ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِالنَّاسِ ورَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ في الصَّفِ خَلْفَهُ».
ولفظه عند الترمذي: «صَلَّى خَلْفَ أَبِي بَكرٍ فِي مَرَضِهِ الذِيْ مَاتَ فِيْهِ
قَاعِدًا». وقال: حسن صحيح غريب. وعنده من حديث أنس: «صَلَّى فِي مَرَضِهِ خَلْفَ
أَبِي بَكرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ». وقال: حسن صحيح، زاد
النسائي: «وَهِيَ آخِرُ صَلاةٍ صَلاَّهَا مَعَ القَوْمِ».
(1/294)
قال
ابن حبان: خالف شعبةُ زائدةَ بنَ قُدَامةَ في متن هذا الخبر عن موسى، فَجَعَلَ
شُعْبَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَأْمُومًا حَيْثُ صَلَّى
قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ وَجَعَلَهُ زَائِدَةُ إِمَامًا حَيْثُ صَلَّى
قَاعِدًا وَالْقَوْمُ قِيَامٌ وَهُمَا مُتْقِنَانِ حَافِظَانِ وليس بين حديثيهما
تضاد ولا تهاتر، ولا ناسخ ولا منسوخ، بل مُجْمَلٌ ومُفَسَّرٌ، وإذا ضم بعضهما إلى
بعض بطل التضاد بينهما، واسْتُعْمِلَ كلُّ خبر في موضعه على ما سنبينه إن شاء الله
تعالى، ثم ذكر خُرُوْجه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَى الصَّلاَةِ بَيْنَ
بَرِيرَةَ وَنُوبَةَ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى نَعْلَيْهِ
تَخُطَّانِ فِي الْحَصَا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى بُطُونِ قَدَمَيْهِ فَقَالَ
لَهُمَا: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ». فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ جَالِسٌ وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمٌ يُصَلِّي
بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَالنَّاسَ يُصَلُّونَ
بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ.
وفي حديث أبي وائل عن مسروق: وَجِيءَ بِنَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَوُضِعَ
%ج 1 ص 159%
(1/295)
بِحِذَاءِ أَبِي بَكْرٍ فِي الصف فقال أبو حاتم: «فِي هَذِهِ الصَّلاة كَانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَأْمُوْمًا، وَصَلَّى قَاعِدًا خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ في الصَّفِ» ثم قال: خبر يعارض في الظاهر خبر أبي وائل الذي ذكرناه فذكر حديث نُعَيْم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عنها: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا». قال أبو حاتم: خَالَفَ أَبُوْ نُعَيْمِ بْنُ أَبِي هِنْدَ عَاصِمَ بْنَ أَبِي النَّجُودِ فِي مَتْنِ هَذَا الْخَبَرِ، فَجَعَلَ عَاصِمٌ أَبَا بَكْرٍ مَأْمُومًا، وَجَعَلَ نُعَيْمٌ أَبَا بَكْرٍ إِمَامًا وَهُمَا ثِقَتَانِ حَافِظَانِ مُتْقِنَانِ، فنقول بمشيئة الله تعالى: إن هذه الأخبار كلها صحاحٌ وليس شيء منها يعارض الآخر، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلى في علته صلاتين في المسجد جماعة لا صلاةً واحدة في أَحْدَيْهِمَا كان إمامًا وفي الأخرى كان مأمومًا، والدليل على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة: أنَّ في خبر عبيد الله خرج بين رجلين أحدهما العباس والآخر علي، وفي خبر مسروق: خرج بين بريرة ونوبة فهذا يدلك على أنها كانت صلاتين لا صلاة واحدة، انتهى.
(1/296)
بعكسه
على ما قاله أبو حاتم ما ذكره من أنه خرج بين الجاريتين من البيت إلى الباب ومن
الباب أخذه العباس وعلي حتى دخلا به المسجد على أن في كتاب «الردة»: لسيف ابن نوبة
كان عبدًا أسود وسيأتي ناشده علي بن أبي حاتم لو احتج بما قدمناه من عِنْد
مُسْلِمٍ من أنه كان يتوكأ على الفضل بن عباس لكان جيدًا؛ لأن الذي في البخاري
العباس وعلي، هذا يدلُّ على أنه مرةً أخرى يؤيده قوله: (أَجْلِسَانِي هُنَا)
ويؤيده أيضًا ما ذكره الدَّارَقُطْني في «سننه»: «خَرَجَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْن أُسَامَةَ وَالفَضْلِ حَتَّى صَلَّى خَلْفَ
أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ». فيما ذكره السُّهَيلي وقد تقدم طرف منه، وزعم
بعضهم أن طريق الجمع كانوا يتناوبون الأخذ به صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان
العباس ألزمهم ليده وأولئك يتناوبونها، فذكرت عائشة أكثرهم ملازمة ليده وهو العباس
وعبرت عن المتناوبين رجل آخر وفي هذا ردٌّ لقول من قال: إنما لم تذكر عليًّا لشيء
كان بينهما والله أعلم.
ولقائل أن يقول: ليس بينه وبين المسجد مسافة تقتضي التناوب اللَّهمَّ إلا أن يكون
ذلك لزيادة في إكرامه أو لالتماس البركة بمس يده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومن حديث حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ وَجِعًا فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ، فَوَجَدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
%ج 1 ص 160%
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً فَجَاءَ فَقَعَدَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَمَّ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَأَمَّ
أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ وَهُوَ قَائِمٌ».
(1/297)
ومن
حديث قيس عن عبد الله بن أبي السَّفَر عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس عن العباس
بن عبد المطلب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ:
«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ من نفسه خفة فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، فَتَأَخَّرَ
أَبُو بَكْرٍ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَرَأَ مِنَ الْمَكَانِ
الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ مِنَ السُّورَةِ».
ولما ذكر ابن خزيمة حديث أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ خلفه، قال: لم يصح الخبر أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان
الإمام في المرض الذي توفي فيه في الصلاة التي كان فيها قاعدًا وأبو بكر والقوم
قيام؛ لأنَّ في خبر مسروق وعبد الله عن عائشة أنَّ أبا بكر كان الإمام والنبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مأموم، وهو ضد خبر هشام عن أبيه عنها، وخبر الأعمش عن
إبراهيم عن الأسود على أن شعبة كان قد بَيَّنَ في روايته عن الأعمش عن إبراهيم عن
الأسود عن عائشة: أن من الناس من يقول كان أبو بكر بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ومنهم من يقول كان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الْمُقَدَّمَ بين يدي أبا بكر، وإن كان الحديث الذي احتج به من زعم أن فعله الذي
كان في سقطته من الفرس وأمره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالاقتداء بالأئمة
وقعودهم في الصلاة إذا صلى أمامهم قاعدًا منسوخ غير صحيح من جهة النقل فغير جائز
لعالمٍ أن يدعي نسخ ما قد صح عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالأخبار المتواترة
بالأسانيد الصحاح بما ذكرنا من فعله وأمره بخبر مختلف فيه عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ولم يثبت خبرٌ من جهة النقل ينسخُ ما قد صحَّ عنه صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ بما ذكرنا من فعله وأمره.
(1/298)
وإن
قال قائل غير منعم للرواية فكيف يجوز أن يصلي قاعدًا من يقدر على القيام؟.
قيل له: إن شاء الله تعالى يجوز ذلك بسنة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ التي
أُمْرِنَا باتباعها، وقد صحَّ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عند جميع أهل
العلم بالأخبار الأمر بالصلاة قاعدًا إذا صلى الإمام قاعدًا، وثبت عندهم أيضًا
وصحَّ قعد أصحابه ولا مرض بهم ولا بأحد منهم، وادَّعَى قوم نسخ ذلك فلم يثبت
دعواهم بخبر صحيح لا معارض له، ثم قال: حَدَّثَنا القاسم بن محمد وأبو طالب زيد بن
أخرم ومحمد بن يحيى الأزدي قالوا: حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنا
سَلَمَةُ بْنُ نُبَيْطٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ نُبَيْطِ بْنِ
شَرِيطٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: «مَرِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثمَّ أفاقَ
%ج 1 ص 161%
فَقَالَ: «أَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ؟» قُلْن: نَعَمْ قَالَ: «مُرُوا بِلَالًا
فَلْيُؤَذِّنْ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» ثُمَّ أُغْمِيَ
عَلَيْهِ فَذَكَر الْحَدِيثَ. وفِيْهِ: «أَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؟ قُلْنَ: نَعَمْ
قَالَ: جِيئُونِي بِإِنْسَانٍ أَعْتَمِدْ عَلَيْهِ، فَجَاؤوا بِبَرِيرَةَ وَرَجُلٍ
آخَرَ، فَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأُجْلِسَ إِلَى
جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَنَحَّى، فَأَمْسَكَهُ حَتَّى
فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ».
(1/299)
وفي
كتاب عبد الرزاق أخبرني ابن جريج، أخبرني عطاء قال: «اشْتَكَى رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَصَلَّى
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِلنَّاسِ يَوْمًا قَاعِدًا، وَجَعَلَ
أَبَا بَكْرٍ وَرَاءَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، قَالَ: وَصَلَّى النَّاسُ
وَرَاءَهُ قِيَامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَوِ
اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا صَلَّيْتُمْ إِلَّا قُعُودًا
فَصَلُّوْا بِصَلَاةِ إِمَامِكُمْ، مَا كَانَ أنْ يُصَلِّي قَائِمًا فَصَلُّوا
قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا».
وعند الدَّارَقُطْني من حديث جابر بن يزيد ومُجَالدِ بن سعيد عن الشعبي: «أَنَّ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لاَ يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي
جَالِسًا» وقال ابن عبد البر: الآثار الصحاح على أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كان المتقدم وأن أبا بكر كان يصلي بصلاة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
وعند أبي داود من حديث عبد الله بن زَمْعَةَ: لمَّا قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مُرُوْا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّ بِالنَّاسِ، خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ
زَمْعَةَ فَإِذَا عُمَرُ فِي النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا، فَقالَ:
قُمْ يَا عُمَرُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ، فَتَقَدَّمَ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَوْتَهُ، قَالَ: «أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ يَأْبَى
اللهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ» فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ
صَلَّى عُمَرُ تِلْكَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ.
(1/300)
قوله:
(إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ) يعني في تردادهن وتظاهرهن بالإلحاح كتظاهر امرأة
العزيز ونسائها على يوسف صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليصرفنه عن رأيه في
الاستعصام، وصواحبات: جمع صاحبة وهو جمع شاذ، وقيل: يريد امرأة العزيز وأتى بلفظ
الجمع كما يقال فلان يميل إلى النساء وإن كان ميله إلى واحدة ذكره السَّفَاقُسيُّ.
وزعم بعضهم أن ترداد عائشة كان لأنَّها علمتْ أنَّ الناس قد علموا أنَّ أباها لا
يصلح لخلافة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فإذا رأوه استشعروا موت النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بخلافة غيره. انتهى.
قد بَيَّنَتْ هي مرادها رضي الله عنها فيما تقدم فلا حاجة إلى الحرص.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: والصلاة تصح بإمامين لغير عذر، وأجازها الطبري والبخاري وبعض
الشافعية استدلالًا بهذا الحديث، قال: وهذا متأخر عن قوله: (وإنْ صَلَّى جالسًا
فصلُّوا جلوسًا).
قال
%ج 1 ص 162%
السَّفَاقُسيُّ: احتجَّ ابن المسيب بجلوس النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن
يسار أبي بكر بأن مقام المأموم يكون عن يسار الإمام، قال: والجماعة على خلافه،
ويتمشى قوله على أن الإمام هو أبو بكر، وأما من قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فلا يتمشى قوله والله تعالى أعلم.
وقوله: (حدُّ المريضِ أنْ يشهدَ الجماعة) ذكره ابن قُرْقُول في باب الجيم والدال
المهملة، قال: وقاله القابسي وغيره، قال: ولبعضهم: (حد) بالحاء والدال المهملتين
يعني: بأن حدَّهُ المريض وحرصه على شهود الجماعة والمراد بالحض على شهود الجماعة
والمحافظة عليها.
(1/301)
وقَالَ
الْمُهَلَّبُ: فيه من الفقه جواز الأخذ بالشدة لمن جازت له الرخصة؛ لأن سيدنا رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان له أن يتخلف عن الجماعة لعذر المرض فلما
تحامل وخرج بين رجلين دلَّ على فضل الشدة على الرخصة ترغيبًا لأمته في شهود
الجماعة لما لهم فيها من عظيم الأجر ولِئَلَّا يعذر أحد منهم نفسه في التخلف عنها
ما أمكنه، وقدر عليها.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: والذي ذكر أن جدًا بمعنى جدِّه ذكره عن الكسائي إلا أنه
يحتاج الكلام إلى تقديره وإضمار، قال: ويظهر لي أن يصح أن يقال: جِدّ مكسورة الجيم
وهو الاجتهاد في الأمر ويكون معنى التثويب، باب اجتهاد المريض أن يشهد الجماعة،
أي: في شهود الجماعة، قال: ولم أسمع أحدًا رواه بالجيم. انتهى.
قد قدمنا أن ابن قُرْقُولٍ ذكره بالجيم عن القابسي، واختلف العلماء من أولى
بالإمامة؟ فقيل: الأفقه وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي في آخرين، وقال أبو يوسف
وأحمد وإسحاق: الأمراء أفضل وهو أحد الوجوه عن الشافعية فعلى هذين القولين يكون
أبو بكر أولى الحاضرين بالإمامة لأمرين:
الأول: لتفويض الإمام صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إليه ذلك.
(1/302)
الثاني:
لعلمه؛ ولأنه ممن كان قد جمع القرآن في حياته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ذكر
ذلك أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتاب «فضائل الخلفاء رضي الله عنهم» وكذا
ذكره أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني المقرئ، فقد اجتمع فيه بحمد الله تعالى جميع
ما قاله رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما رواه مسلم من حديث أبي مسعود:
«يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي
الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي
السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ
سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا». وقال ابن أبي حاتم في «العلل»: اختلفوا في متنه،
فرواه فطر والأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عَنْ أَوْسِ بْنِ ضمْعَجٍ عن أبي مسعود،
ورواه شعبة
والمسعودي عن إسماعيل فلم يقولا عليهم بالسنة، قال أبيٌّ: وكان شعبة يهاب هذا
الحديث يقول: حُكمٌ من الأحكام لم يشارك إسماعيلَ فيه أحدٌ، فقلت لأبي: أليس قد
رواه السُّدِّيُّ عن أوس فقال: إنما هو من رواية الحسن بن يزيد الأصم عن
السُّدِّيِّ وهو شيخٌ، أين كان الثوري وشعبة عن هذا الحديث؟ وأخاف أن لا يكون
محفوظًا والله تعالى أعلم.
(بَابُ الرُّخْصَةِ فِي المَطَرِ وَالعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ)
666 - تقدم حديث ابن عمر في الأذان للمسافر. [خ 666]
667 - وحديث عتبان في المساجد في البيوت. [خ 667]
وكذا (بَاب هَلْ يُصَلِّي الإِمَامُ بِمَنْ حَضَرَ؟) تقدم في الكلام في الأذان.
669 - وفي حديث أبي سعيد في ليلة القدر يأتي إن شاء الله تعالى في موضعه. [خ 669]
وقالَ البخاريُّ بعده:
(1/303)
670
- حَدَّثَنا آدَمُ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ سَمِعْتُ
أَنَسًا يَقُولُ: «قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ
الصَّلاَةَ مَعَكَ، وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا، فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ طَعَامًا، فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا،
وَنَضَحَ طَرَفَ الحَصِيرِ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
آلِ الجَارُودِ لِأَنَسِ: أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّاهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ». [خ 670]
وعند أبي داود: «فصلِّ حتَّى أراكَ كيفَ تُصَلِّي فأقتديَ بكَ».
وعند ابن أبي شيبة: حدَّثَنَا ابن علية، عن ابن عون عن أنس بن سيرين عن عبد الحميد
بن المنذر بن الجارود عن أنس قال: «صَنَعَ بَعْضُ عُمُوْمَتِي طَعَامًا» الحديث،
ففيه كما ترى دخول عبد الحميد بن أنسٍ، وأنس وإن كان قد صرح بسماعه إياه منه.
وفيه تسمية الجارودي وزعم ابن حبان في كتابه «الصحيح»: أنه تتبع الأعذار المانعة
من إتيان الجماعة من السنن فوجدها عشرًا: المرض المانع للمؤمن الإتيان إليها،
وحضور الطعام عند المغرب، والنسيان العارض في بعض الأحوال، والشمس المفرط، ووجود
المرء حاجته في نفسه، وخوف الإنسان على نفسه وماله في طريقه إلى المسجد، والبرد
الشديد والمطر المؤذي، ووجود الظلمة التي يخاف المرء على نفسه الغير فيها، وأكل
الثوم والبصل والكراث.
(بَابٌ إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ)
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِالعَشَاءِ. هذا ذكر معناه البخاري في هذا الباب
مسندًا بعدُ.
وعند ابن ماجه من طريق صحيحة: «وتعشَّى ابنُ عمرَ ليلةً وهو يسمعُ الإقامةَ».
(1/304)
قال
البخاريُّ: وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِنْ فِقْهِ المَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى
حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ.
671 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي
سَمِعْتُ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«إِذَا وُضِعَ العَشَاءُ، فَابْدَؤوا بِالعَشَاءِ». [خ 671]
672 - وفي حديث أنس: «إِذَا قُدِّمَ العَشَاءُ، فَابْدَؤوا بِهِ قَبْلَ أَنْ
تُصَلُّوا صَلاَةَ المَغْرِبِ، وَلاَ تَعْجَلُوا
%ج 1 ص 164%
عَنْ عَشَائِكُمْ». [خ 672]
673 - وفي حديث ابن عمر: «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ
فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ، وَلَا يَعْجَلَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ» وَكَانَ ابنُ
عُمَرَ: «يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وتُقَامُ الصَّلَاةُ فَلَا يَأْتِيهَا حَتَّى
يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ». [خ 673]
وفي لفظٍ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى
يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ».
قال البخاري وقال الزهري ووهب ابن عثمان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر
يرفعه: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ
حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ».
قال أبو عبد الله: رواه إبراهيم بن المنذر عن وهب، ووهب مديني، وزعم الحميدي في
كتابه «الجمع بين الصحيحين»: أن الشيخين خرجاه من حديث موسى بن عقبة وكأنه غير
جيد؛ لأن البخاري إنما ذكره كما تراه معلقًا، وأما مسلم فخرَّجه في «صحيحه»: عن
محمد بن إسحاق عن أنس بن عياض عن موسى.
(1/305)
وعند
ابن حبان في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك: «إِذَا قُرِّبَ الْعَشَاءُ وَأَحَدُكُمْ
صائمٌ فَلْيَبْدَأ بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ
عَشَائِكُمْ». وفي لفظ: «فَلْيَبْدَأ بِالعَشَاءِ قَبْلَ صَلاَةِ المغْرِبِ». ولما
ذكرها الدَّارَقُطْني قال: ولو لم يصح هذه الزيادة لكان معلومًا من قاعدة الشرع
الأمر بحضور القلب في الصلاة والإقبال عليها.
وقال أبو القاسم في «الأوسط»: لم يقل فيه: «وأحدكم صائم» إلا عمرو بن الحارث تفرد
به موسى بن أعين. وعنده أيضًا عن أبي هريرة: «إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ
وَأُقِيْمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَؤُوا بِالطَّعَامِ» وقال: لم يروه عن سهيل -يعني
عن أبيه- وعنه إلا زهير، تفرد به إسماعيل بن عمرو.
ورويناه في «معجم ابن جُمَيْعٍ» حَدَّثَنا صُرَد بن عمرو بن محمد، حَدَّثَنا عبد
الله بن سليمان، حَدَّثَنا محمود بن آدم، حَدَّثَنا الفضل بن موسى، حَدَّثَنا
مقاتل عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عنه.
وفي «المصنف» بسند لا بأس به عن أم سلمة: «إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ
الْعِشَاءُ فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ». وعن سلمة بن الأكوع بسند فيه ضعف: كان رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «إِذَا حَضَرَ الصَّلَاةُ والْعَشَاءُ
فَابْدَؤوا بِالْعَشَاءِ». زاد أبو القاسم في «الأوسط»: لا يُروى عن سلمة إلا بهذا
الإسناد، تفرد به أيوب عن عتبة.
وفي «المصنف»: عن أبي قلابة وعمر بن الخطاب مثله.
وقال ابن المنذر: قال بظاهره ابن عمر والثوري وأحمد وإسحاق، زاد القرطبي رحمه الله
تعالى: ابن حبيب المالكي، وهذه الكراهة عند الجمهور إذا صلى كذلك وفي الوقت سعة
فإن كان بحيث لو أكل خرج الوقت صلى على حاله محافظته على حرمة الوقت ولا يجوز
تأخيرها، وحكى المتولي وجهًا أنه لا يصلي وإن خرج الوقت وبه قال أبو محمد بن حزم
وزعم أنه فرض عليه
%ج 1 ص 165%
(1/306)
البداءة
بالأكل ولو خشي فوات الوقت، وقد قدمنا عن ابن حبان أنه من الأعذار التي يباح فيها
ترك حضور الجماعة.
وقال مالك فيما ذكره ابن المنذر: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعامًا خفيفًا كأنه
لَمَحَ ما في كتاب الدَّارَقُطْني قال حميد: كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ فَأَذَّنَ
المغْرِبُ فَقَالَ أَنَسٌ: ابْدَؤوا بِالعَشَاءِ وَكَانَ عَشَاؤُهُ خَفِيْفًا.
قال ابن الجوزي: هذا إنما ورد في حق الجائع التائق إلى الطعام، وقد ظن قوم هذا من
باب تقديم حظ العبد على حق الحق عز وجل، وليس كذلك وإنما هو صيانة لحقِّ الحق
ليدخل العباد في العبادة بقلوب غير مشغولة. انتهى.
قوله: ورد في حق الجائع يخدش فيه أَنَّ ذَا قَرَابَةٍ لِعَائِشَةَ كَانَ
مُغَاضِبَهَا فَلَمَّا حَضَرَ طَعَامها قَامَ يُصَلِّي فَزَجَرَتْهُ وَقَالَتْ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لاَ صَلاَةَ بِحْضَرِةِ
طَعَامٍ». ولم يقل في ذلك الحديث إنه كان تائقًا إلى الطعام، ولا إنه كان صائمًا
فينظر.
وهو عند ابن خزيمة في «صحيحه»: وبين الرجل القاسم بن محمد، فإن اعترض معترض بما
رواه جابر بن عبد الله من عند أبي داود: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «لَا تُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ لِطَعَامٍ وَلَا لِغَيْرِهِ) يقال له أولًا:
هذا حديث ضعيفٌ، والضعيف لا يعترض به على الصحيح.
الثاني: لئن سلمنا صحته كان له معنًى غيرُ معنى الآخر، بمعنى: إذا وجبت لا تؤخر
وإذا كان الوقت باقيًا بدأ بالعشاء فاجتمع معناهما ولم يتهاترا والله الموفق.
(1/307)
ولما
ذكر ابن بطال حديث عمرو بن أمية -يعني المتقدم في باب الوضوء مما مست النار
والمبوب له هنا إنما دُعِيَ الإمام إلى الصلاة وبيده ما يأكل- رَأَيْتُ النبيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَحْتَرز مِنْ ذِرَاعٍ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ،
فَطَرَحَ السِّكِّينَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ قال: هذا يفسر الأمر بالبداءة
بالأكل بأنه ندبٌ لا واجب، قال: وقد تأول أحمد بن حنبل هذا الحديث بأن من شرع في
الأكل ثم أقيمت الصلاة أنه يقوم إلى الصلاة ولا يتمادى في الأكل؛ لأنه قد أخذ منه
ما يمنعه من شغل البال، وإنما الذي أُمِرَ بالأكل قبل الصلاة من لم يكن بدأ به
لئلا يشغل باله به.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ويرد هذا التأويل حديث ابن عمر: «ولا يَعْجَل حتَّى يَقْضِيَ
حَاجَتَهُ مِنْهُ». انتهى.
لا ردَّ على متأوَّل أحمد رحمه الله؛ لأنه يقول إذا قضى حاجته كما في الحديث إذ
ليس من شرطه أن يستوفي في أكل الكتف لا سيما قلة أكله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وأنه يكتفي بحزة واحدة، ولكن لقائل أن يقول ليست الصلاة التي دعي إليها في حديث
عمر وأنها المغرب وإذا ثبت ذلك فزال ما تَأوَّلَ به.
(بَابٌ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَخَرَجَ)
676 - حَدَّثَنا آدَمُ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنا الحَكَمُ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي
مَهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ
خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ». [خ 676]
(1/308)
(الْمِهْنَةُ)
الحِذاقة بالعمل ونحوِه ذكره صاحب «العين»، والماهِنُ الخادم وجمعه مُهَّان،
ومَهَنَة بفتح العين والهاء، وقال أبو زيد: المَهَنة باطل لا يقال، وعن أبي علي:
يقال مَهْنَةٌ ومَهَنَةُ، حكاهما أبوزيد في كتبه، مَهَنَهُم، وعن ابن قتيبة
ويَمْهُنُهُم، والأنثى ماهِنَة ذكره يعقوب، وقد مَهَنَ مَهْنَةً وهو أحسن المِهْنة
بالكسر.
وعن أبي عمرو يقال للأَمَة إنها لحمق المَهْنة، والمَهْنةُ أي الحَلْبُ، وعن أبي
حاتم هو في مَهنة أهله بفتح الميم أي: في خدمتهم، والقياس كسرها كما يكسر الخِدمة.
وقال سلمان: أَكْرَهُ أَنْ أَجْمَعَ عَلَى ماهِنِي مَهْنَتَيْن بفتح الميم ذكره
أبو غالب في «الْمُوعِبِ»، وفي «الْمُحْكَمِ»: الْمَهْنَة والْمِهْنَة والْمَهَنَة
كله الحِذْقٌ بالخدمة والعمل، مَهَنَهُم يَمْهَنُهُمْ مَهْنًا ومَهْنة ومِهنَة،
وَفِي «الصِّحَاحِ» حكى أبو زيد والكسائي المِهنة بالكسر وأنكره الأصمعي.
(بَابٌ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يُعَلِّمَهُمْ
صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)
677 - حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا
أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الحُوَيْرِثِ -فِي
مَسْجِدِنَا هَذَا- فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ،
أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي،
فَقُلْتُ لِأَبِي قِلاَبَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي؟ قَالَ: مِثْلَ صلاةِ
شَيْخِنَا هَذَا: «وَكَانَ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ،
قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى». [خ 677]
(1/309)
وفي
بَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِذَا كَبَّرَ رَأَيْتَهُ إِذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ
يَدَيْهِ، وإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ
مِنَ الرُّكُوْعِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ صَنَعَ هَكَذَا.
وفي بَابِ كَيْفَ يَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ إِذَا قَامَ: قَالَ أَيُّوبُ:
فَقُلْتُ لِأَبِي قِلاَبَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلاَتُهُ؟ قَالَ: مِثْلَ صَلاَةِ
شَيْخِنَا هَذَا يَعْنِي عَمْرَو بْنَ سَلِمَةَ، قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ
الشَّيْخُ يُتِمُّ الركوع، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ من السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ
جَلَسَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ قَامَ.
وفي بَابِ مَنِ اسْتَوَى قَاعِدًا فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ قال: «فَإِذَا كَانَ
فِي وِتْرٍ مِنْ صَلاَتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا».
اختلف العلماء في هذه الجلسة التي تسمى جلسة الاستراحة عقيب الفراغ من الركعة
الأولى والثالثة:
فقال بها الشافعيُّ في قول، وزعم ابن الأثير مستحبة.
%ج 1 ص 167%
وقال في «الأم»: يقوم من السجدة الثانية ولم يأمر بالجلوس فقال بعض أصحابه: إن ذلك
على اختلاف حالين إن كان كبيرًا ضعيفًا جلس وإلا لم يجلس.
وقال بعض أصحابه في المسألة قولان: أحدهما: لا يجلس وبه قال أبو حنيفة ومالك
والثوري وأحمد وإسحاق، وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعمر وعلي وأبي
الزناد والنخعي.
وقال ابن قدامة وعن أحمد قول: إنه يجلس وهو اختيار الخَلَّال، وقيل: إنه فَصَّل
بين الضعيف وغيره، وقال أحمد: وترك الجلوس عليه أكثر الأحاديث، وقال النعمان بن
أبي العباس: أدركت غير واحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا
يجلس.
(1/310)
قال
الترمذيُّ: وعليه العمل عند أهل العلم، وقال أبو الزناد: تلك السنة، وأجابوا عن
حديث مالك بن الحويرث بأنه يحتمل ذلك أن يكون بسبب ضعف كان به صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ.
وعند البيهقي رَأَى المغيرةُ بنُ حكيمٍ ابنَ عُمَرَ يَرْجِعُ فِي سَجْدَتَيْنِ
مِنَ الصَّلَاةِ، عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ذَكَرْتُ لَهُ.
فَقَالَ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِسُنَّةَ الصَّلَاةِ. وَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ
مِنْ أَجْلِ أَنِّي أَشْتَكِي».
وفي لفظ: «أَنَّ رِجْلاي لاَ تَحْمِلانِّي». وفي حديث أبي حميد من عِنْد مُسْلِمٍ
في جماعة من الصحابة وَذَكَرَ أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ بِصَلاَةِ النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فَقَالُوْا: أَرِنَا، فَقَامَ يُصَلِّي وَهُمْ يَنْظُرُوْنَ
فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الرَّكْعَةِ
الأُوْلَى قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ وَفِي آخِرِهِ فَقَالُوا: نَعَمْ هَكَذَا كَانَ
يُصَلِّي.
وفي لفظ: «وَكَانُوْا عَشَرَةً» وسيأتي ذكره عند البخاري مطولًا في باب سنة الجلوس
في التشهد، ولَمَّا علَّمَ المسيء صلاته قال: «ثُمَّ اسجدْ حَتَّى تَعْتَدِلَ
جالسًا ثم قُمْ ... » ح، ولكن ورد عند البخاري فيه لفظ يعكر على هذا وهو قوله في
باب من رد فقال عليكم السلام وهو: «ثمَّ اسْجُدْ حتَّى تطمئِنَّ سَاجِدًا، ثمَّ
ارفعْ حتى تَطْمَئِنَّ جالسًا ... » ح، وقَالَ السَّفَاقُسيُّ: قال أبو عبد الملك
كيف ذهب هذا الذي أخذ به الشافعي على أهل المدينة، والنبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يصلي بهم عشر سنين، وصلى بهم أبو بكر وعمر وعثمان والصحابة والتابعون
فأين كان يذهب عليهم هذا المذهب؟.
(1/311)
قال
الطحاوي: والنظر يوجب أنه ليس بين السجود والقيام جلوس؛ لأنَّ من شأن الصلاة
التكبير فيها والتحميد عند كل خفض ورفع وانتقال من حال إلى حال، فلو كان بينهما
جلوس لاحتاج أن يكبر عند قيامه من ذلك الجلوس تكبيرة كما يكبر عند قيامه من الجلوس
في صلاته إذا رأى القيام إلى الركعة التي بعد الجلوس ورُوِيَ عن ابن عمر أنه كان
يعتمد عند قيامه، وفَعَلَهُ مسروقٌ ومكحول وعطاء والحسن وهو قول الشافعي وأحمد
محتجين
%ج 1 ص 168%
بهذا الحديث، وأجازه مالك في «العتبية» ثم كرهه، ورأت طائفة ألا يعتمد على يديه
إلا أن يكون شيخًا أو مريضًا، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: رُوِي ذلك عن علي والنخعي
والثوري، وكره الاعتماد ابن سيرين وقال الشعبي: هو فصل الصحابة.
(بَابٌ أَهْلُ العِلْمِ وَالفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ)
678 - 679 - 680 - 681 - 682 - أحاديثه تقدمت في صلاة أبي بكر في مرضه صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وفي آخره تابعه يونس في روايته عن الزهري عن حمزة عن عبد
الله عن أبيه، وقال الزُّبَيْدِيُّ وابن أخي الزهري وإسحاق الكلبي عن الزهري، وقال
عُقَيْلٌ ومَعْمَرٌ عن الزهري عن حمزة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. [خ
678 - 679 - 680 - 681 - 682]
توهم ابن بطال أن حمزة هذا هو ابن عمرو الأسلمي، فقال: روته عائشة وأنس وحمزة
الأسلمي وهو غير جيد إنما هو حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب كما تقدم.
(بَابُ مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإِمَامِ لِعِلَّةٍ).
(1/312)
683 - تقدم أيضًا حديثه. [خ 683] (بَابُ مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ، فَجَاءَ الإِمَامُ الأَوَّلُ، فَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ، جَازَتْ صَلاَتُهُ) فيه عن عائشة، تقدم في صلاة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في مرضه. 684 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ المُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ التَفَتَ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَنِ امْكُثْ مَكَانَكَ»، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ».
(1/313)
فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لِابنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ، مَنْ نابهُ
شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ التُفِتَ إِلَيْهِ،
وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ». [خ 684] وقال في:
بَاب الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ
(حَدَّثَنَا قتيبةُ، حَدَّثَنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن
عائشة) كذا هذا الإسناد وسقط منه على أبي زيد إبراهيم كان في كتابه الأعمش
%ج 1 ص 169%
عن الأسود حكاية القابسي وعبدوس، قال الجياني: وهو وهْمٌ.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَخَرَقَ
الصُّفُوفَ حَتَّى قَامَ عِنْدَ الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ».
وقال عبد العزيز عن أبي حازم: «جاءَ يَمْشِي في الصفوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا حَتَّى
قامَ في الصفِ».
وقال حماد بن زيد عنه: «إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ، فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ،
وَلْيُصَفِّحِ النِّسَاءُ». وعند أبي داود بسند صحيح: «كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فَأَتَاهُمْ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَقَالَ لِبِلَالٍ: إِنْ
حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَلَمْ آتِكَ، فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيُصَلِّ
بِالنَّاسِ» ح.
وفي «السنن» أيضًا عن عيسى بن أيوب.
قال: قوله: التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ تَضْرِبُ بِأُصْبُعَيْنِ مِنْ يَمِينِهَا
عَلَى كَفِّهَا الْيُسْرَى.
وعند النسائي: «فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ
حِينَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ إِلَّا الْتَفَتَ».
(1/314)
وعند
ابن خزيمة: «مَنْ نَابَهُ فِي صَلَاتِهِ شَيْءٌ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللهِ
إِنَّمَا هَذَا لِلنِّسَاءِ، يَعْنِي التَّصْفِيْقَ».
بنو عمرو بن عوف هم من ولد مالك بن الأوس وكانوا بقباء، وزعم ابن الجوزي وابن
التين وبعدهما الشيخ محيي الدين في آخرين أن هذه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه حيث
اختاره الصحابة ورضوه للصلاة وكأنه ذهول عما ذكرناه من عند أبي داود من أن هذا
التقدم مزية عظيمة وهو أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو أمر
بلالًا بقصده للصلاة، ولكن يستدل به من يقول الصلاة في أول وقتها أفضل، وأن
الإقامة لا تكون إلا عند إرادة الدخول في الصلاة لقوله: (أَتُصَلِّي فَأُقِيمَ).
وأما خرقه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصفوف فلكي يَصِلَ إلى موضعه، وكونُ أبي
بكر لم يلتفت لما في «صحيح ابن خزيمة» سَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنِ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: «هُوَ
اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْرَجُلِ».
وعن أبي ذَرٍّ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ اللهُ
تعالى مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ،
فَإِذَا انْصَرَفَت انْصَرَفَ عَنْهُ». فأما إذا كان التفات الرجل لحاجة لا يكره
لما روى سهل بن الحنظلية من حديث فيه: «فَجَعَلَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّيْ وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلى الشعبِ».
فقال أبو داود في «سننه»: كَانَ أَرْسَلَ فَارِسًا إِلَى الشِّعْبِ يَحْرُس. وقال
الحاكم: سنده صحيح.
وأما حديث: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُلاَحِظُ فِي
صَلاَتِهِ» فأنكره أحمد إنكارًا شديدًا جدًا وقال: ليس له إسناد ووهَّنه، وقال في
حديث مكحول عن أبي أمامة وواثلة: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 170%
(1/315)
إذَا
قَامَ فِي الصَّلاَةِ لمَ يَلْتَفِتْ يَمِيْنًا وَلاَ شِمَالًا وَرَمَى بِبَصَرِهِ
فِي مَوْضِعِ سُجُوْدِهِ» لابنه عبد الله: أضرب عليه وأنكره جدًا.
وأما حديث أبي الدرداء: «لاَ صَلاَةَ لِمُلْتَفِتٍ» فضعفه ابن القطان وغيره وكذا
حديث: «يَا أَنَسُ إِذَا صَلَّيْتَ فَضَعْ بَصَرَكَ حَيْثُ تَسْجِدُ».
وعند ابن خزيمة عن ابن عباس: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ».
وعند الترمذي -واستغربه-: «يَلْحَظُنِيْ يَمِينًا وَشِمَالًا» وقال ابن القطان:
صحيح.
وعند ابن خزيمة عن علي بن شيبان وكان أحد الوفد قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَلَمَحَ بِمُؤَخِّرِ عَيْنِهِ إِلَى رَجُلٍ لَا
يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» ح، وعن جابر: «صَلَّى النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا
فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا» ح.
قال ابن عبد البر وجمهور الفقهاء: على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيرًا،
ويكره أن ينظر إلى ما يلمح أو ينظر في كتاب لحديث الخميصة وحديث القرام: «يا عائشة
أميطي عنا قِرامتك فإنه لا يزال تصاويرُ تعرض إلى ما في صلاتي» وقد تقدما عند
البخاري، ورفعُ أبي بكر يديه لحمد الله تعالى، قال ابن الجوزي: إنما كان إشارةً
منه إلى السماء لا أنه تكلم، قَالَ السَّفَاقُسيُّ: قال مالك: من أُخْبِرَ في
صلاته بسرور فحمد الله تعالى لا يضر صلاته، قال ابن القاسم: ومن أخبر بمصيبة
فاسترجع أو أُخْبِرَ بشيء فقال: الحمد لله على كل حال، أو قال: الحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات، لا يعجبني وصلاته مُجْزية، قال أشهب: إلا أن يريد بذلك قطع
الصلاة.
(1/316)
قال
ابن الجوزي: فإن قال قائل: لِمَ لَمْ يثبت أبو بكر إذ أشار إليه سيدنا رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالثبوت وظاهره يقتضي مخالفة؟
فيجاب بأن أبا بكر علم أنها إشارة تكريم لا إشارة إلزام، والأمور تعرف بقرائنها
ويدل على ذلك شق رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصفوف حتى خلص إليه،
فلولا أنه أراد الإمامة لصلى حيث انتهى.
قال النوويُّ: في تقدمه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يستدل به أصحابنا على جواز
اقتداء المصلي بمن يُحْرِمُ بالصلاة بعد الإمام الأول فإن الصدِّيق رضي الله عنه
أحرم بالصلاة أولًا ثم اقتدى بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين أحرم بعده،
قال: وهو الصحيح من مذهبنا.
قال ابن الجوزي: ودلَّ هذا الحديث على جواز الصلاة بإمامين، وذلك أن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما وقف عن يسار أبي بكر علم أبو بكر أنه نوى الإمامة
فعندها نوى أبو بكر الائتمام.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وفيه دليل على جواز استخلاف الإمام إذا أصابه ما يوجب ذلك
وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحدُ قولي الشافعي وبه قال عمر وعلي والحسن وعلقمة وعطاء
والنخعي والثوري، وعن الشافعي وأهل الظاهر: لا يستخلف الإمام.
(1/317)
وقال
بعض المالكية: تأخُّرُ أبي بكر وتقدُّمه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من خواصِّ النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لأنهم كانوا تقدَّموا النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بالإحرام، ولا يُفْعَلُ ذلك بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعن
الطبري في هذا الخبر دليل على خطأ من زعم أنه لا يجوز لمن أحرم بفرضه وصلى بعضها
ثم أقيمت عليه تلك الصلاة أنه لا يجوز له أن يدخل مع الجماعة في بقية صلاته حتى
يخرج منها ويسلم ثم يدخل معهم، فإن دخل معهم دون سلام فسدت صلاته ولزمه قضاؤها،
قال: ودليل هذا الحديث خلاف لقوله: وذلك أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ابتدأ
صلاةً كان أبو بكر صلَّى بعضها وائتم به أصحابه فيها، فكان النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ مُبْتَدِئًا والقوم مُتَمِّمِيْنَ، وكذلك حكم بعض الذي صلى صلاته
ثم أقيمت الصلاة فدخل فيها مع الإمام يكون الإمام ومن معهم مبتدئين والذي أقيمت
الصلاة فدخل فيها مُتِمًّا، وعن أبي حمزة روى عن ابن القاسم في الإمام يُحْدِثُ
فيستخلفُ ثم ينصرف فيأتي ثم يخرج المستخلف ويتم الأول بالناس أن الصلاة تامة فإذا
تمت الصلاة فينبغي أن يشير إليهم حتى يتم لنفسه ثم يسلم ويسلموا فيجوز التقدم
والتأخر في الصلاة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وهذا الباب مطابق للحديث وبه ترجم البخاري، وأكثر الناس لا
يقولون ذلك؛ لأنه لا يجوز الاستخلاف في الصلاة عندهم إلا بعذر ولا صلاة بإمامين
بغير عذر.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وفي هذا دلالة راجحة على أن من سبق إمامه بتكبيرة الإحرام ثم
ائتم به في صلاته أن صلاته تامة وبيان فساد من زعم أن صلاته لا تجزئه وذلك أن أبا
بكر كان قد صلى بهم بعض الصلاة وقد كانوا كبروا للإحرام معه، فلما أحرم رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لنفسه للصلاة بتكبيرة الإحرام ولم يستقبل القوم
بصلاتهم بل بَنَوا عليها مُؤْتَمِّيْنَ به وقد كان تقدَّم تكبيرُهم للإحرام
تكبيرَهُ.
(1/318)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: لا أعلم من يقول إن من كَبَّرَ قبل إمامه فصلاته تامة إلا الشافعي
بناءً على مذهبه وهو أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، وسائر الفقهاء لا
يجيزون صلاة من كبَّر قبل إمامه.
و (التَّصْفِيْقُ) هو التصفيح
سواء صفق بيده أو صفح، وقيل: الذي بالحاء الضرب بظاهر اليد إحداهما على باطن
الأخرى، وقيل: بأصبعين من أحدهما على صفحة الأخرى وهو للإنذار والتنبيه، والذي
بالقاف ضرب إحدى الصفحتين على الأخرى وهو للَّهو واللعب، قَالَ الدَّاودِيُّ في
بعض الروايات: فصفح القوم فيحتمل أنهم ضربوا بأكفهم على أفخاذهم، قَالَ السَّفَاقُسيُّ:
احتج به جماعة من الحذاق على أبي حنيفة في قوله: إن سبح الرجل لغير إمامه لم تجز
صلاته، ومذهب مالك والشافعي إذا سبح لأعمى خوف أن يقع في بئر أو من دابة أو حية
أنه جائز.
(بَابٌ إِذَا اسْتَوَوْا فِي القِرَاءَةِ)
تقدم في لِيُؤَذِّنْ فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ.
و (بابٌ إِذَا زَارَ الإِمَامُ قَوْمًا)
تقدم في المساجد في البيوت.
(1/319)
(بابٌ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ) وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ. هذا التعليق تقدم مسندًا من حديث عائشة. قال البخاريُّ: وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: «إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإِمَامِ يَعُودُ، فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الإِمَامَ». هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح: «قَالَ عَبْدُ اللهِ لَا تُبَادِرُوا أَئِمَّتَكُمْ بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَإِذَا رَفَعَ أَحَدُكُمْ رَأْسَهُ وَالْإِمَامُ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ ثُمَّ لْيَمْكُثْ قَدْرَ مَا سَبَقَ بِهِ الْإِمَامَ» قَالَ البَيْهَقِيُّ: ورُوينا عن إبراهيم والشعبي أنه يعود فيسجد. وقال البخاريُّ: وقال الحسن: فيمن يركع مع الإمام ركعتين ولا يقدر على السجود يسجد للركعة الآخرة بسجدتين ثم يقضي الركعة الأولى بسجودها، وفيمن نسي سجدة حتى قام يسجد. قال في «المصنف»: حَدَّثَنا هشيم، أخبرنا يونس عن الحسن أنه كان يقول: رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ والإِمَامُ سَاجِدٌ فَلْيُعِدْ فَلْيَسْجُدْ. وأحاديث الباب تقدمت كلها. (بابٌ مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ؟) وَقَالَ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا». كذا في بعض النسخ وفي بعضها: قَالَ أَنَسٌ: <إِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا>.690 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي البَرَاءُ -وَهُوَ غَيْرُ مكْذُوبٍ- قَالَ: «كَانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سَاجِدًا، ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ».
(1/320)
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، نَحْوَهُ بِهَذَا. [خ 690] قَالَ الدَّارَقُطْني: هذا الحديث محفوظ لعبد الله بن يزيد عن البراء ولم يقل أحد عن ابن أبي ليلى غير أبان بن تغلب%ج 1 ص 173%عن الحكم وغير أبان أحفظ منه. انتهى. حديث أبان خرَّجَه مسلم في «صحيحه»، وأما السند اليماني المذكور عند البخاري فمذكور في نسخة سَمَاعِنا، وفي بعض النسخ عليه ضرب ولم يذكره أصحاب الأطراف أبو العباس الطرقي وخلف وأبو مسعود فمن بعدهم، ولم يذكره أيضًا أبو نعيم في «المستخرج»، وذكر ابن معين وبعده الحميدي وأبو الفرج في آخرين أن الإشارة في قول أبي إسحاق غير كذوب إلى عبد الله بن يزيد لا إلى البراء؛ لأن الصحابة عدول فلا يحتاج أحد منهم إلى تزكية وتعديل. انتهى. وهو يحتاج إلى تثبيت فإنَّ عبد الله بن يزيد أيضًا صحابي فالذي يُقَالُ في البراء يقال فيه أيضًا والظاهر أن هذا القول إن كان من أبي إسحاق في عبد الله كما قال الخطيب في «الفصل للوصل المدرج في النقل»: أو من عبد الله في البراء كما ذكره غيره ليس المراد به التزكية التي تكون في مشكوك فيه، إنما المراد تقوية الحديث وتفخيمه في القلب نظيره قول ابن مسعود: حَدَّثَنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق، وقول أبي مسلم حدثني الحبيب الأمين عوف بن مالك وغير ذلك من الأحاديث، ومعنى الكلام: حدثني البراء وهو غيرُ مُتَّهَمٍ فَثِقُوا بما أخبركم عنه. وقوله: (لَمْ يَحْنِ) رواية البخاري بنون مكسورة، وفي مسلم: «يحنوا» بالواو، في رواية: «يَحْنِي» بالياء وهما لغتان حكاهما صاحب «المنتهي» وغيره، يقال: حَنَيْتُ وحَنَوْتُ والياء أكثر، ومعناه: ثَنَيْتُ وفي هذا دليل لمن قال لمن فعل المأموم يقع بعد فعل الإمام.
(1/321)
وفي
مسلم من حديث عمرو بن حُرَيْث: «كَانَ لَا يَحْنِي مِنَّا رَجُلٌ ظَهْرَهُ حَتَّى
يَسْتَهِمَ سَاجِدًا يَعْنِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ». وعنده
أيضًا عن أبي هريرة: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا
أَلاَّ نُبَادِرَ الإِمَامَ بِالرُّكُوْعِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا
سَجَدَ فَاسْجُدُوا».وفي صحيح ابن حبان عن مغيرة مرفوعًا: «لَا تُبَادِرُونِي
بِرُّكُوعِ وَلاَ بِسُّجُودِ؛ فَإِنِّي مَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إِذَا رَكَعْتُ
تُدْرِكُونِي بِهِ إِذَا رَفَعْتُ». وعند ابن ماجه بسند منقطع فيما بين سعيد بن
أبي بردة وأبي موسى قال رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي قَدْ
بَدَّنْتُ، فَإِذَا رَكَعْتُ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعْتُ فَارْفَعُوا، وَإِذَا
سَجَدْتُ فَاسْجُدُوا، وَلَا أُلْفِيَنَّ رَجُلًا يَسْبِقُنِي إِلَى الرُّكُوعِ،
وَلَا إِلَى السُّجُودِ». وعند أبي داود من حديث أنس: «أن رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ حَضَّهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْلَ
انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ». (بَابُ إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ
الإِمَامِ)
691 - حَدَّثَنا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حدثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
زِيَادٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ:
«أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ، أَنْ يَجْعَلَ
اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أَوْ يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ».
هذا حديث خرَّجه أصحاب الكتب الستة، وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «لا تبادروا الإمام، إِذَا
كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ». [خ 691]
(1/322)
وفي
«المصنف» عن أبي هريرة موقوفًا: «إِنَّ الَّذِي يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ
قَبْلَ الْإِمَامِ إِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ شَّيْطَانِ»، وكذا قاله أيضًا
سلمان من طريق ليث بن أبي سُلَيْم.
ونظر ابن مسعود إلى من سبق إمامه فقال: «لاَ وَحْدَكَ إِنْ صَلَّيْتَ وَلاَ
بِإِمَامِكَ اقْتَدَيْتَ»، وعن ابن عمر نحوه وأمره بالإعادة.
قَالَ القُرْطُبِيُّ وغيره: من خالف الإمام فقد خالف سنة المأموم وأجزأته صلاته
عند جمهور العلماء.
وفي «المغني» لابن قدامة: فإن سبق إمامه فعليه أن يرفع ليأتي بذلك مؤتمًا بالإمام
فإن لم يفعل حتى لحقه الإمام سهوًا أو جهلًا فلا شيء عليه، فإن سبقه عالمًا
بتحريمه فقال أحمد في «رسالته»: ليس لمن سبق الإمام صلاة؛ لقوله: (أَمَا يَخْشَى
الذِيْ يَرَفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ) الحديثَ، ولو كانتْ له صلاة لَرُجِيَ
له الثواب ولم يُخْشَ عليه العقاب.
(بَابُ إِمَامَةِ العَبْدِ وَالمَوْلَى)
وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ المُصْحَفِ. هذا رواه
ابن أبي شيبة عن وكيع، حَدَّثَنا هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مُلَيْكَةَ
«أَنَّ عَائِشَةَ أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا عَنْ دُبُرٍ، فَكَانَ يَؤُمُّهَا فِي
رَمَضَانَ فِي الْمُصْحَفِ» وحدَّثَنَا ابن علية عن أيوب سمعت القاسم يقول: «كَانَ
يَؤُمُّ عَائِشَةَ عَبْدٌ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ». ورواه الشافعي عن عبد المجيد
بن عبد العزيز عن ابن جريج أخبرني عبد الله بن عبيد الله ابن أبي مليكة «أَنَّهُمْ
كَانُوا يَأْتُونَ عَائِشَةَ بِأَعْلَى الْوَادِي هُوَ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ
وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَنَاسٌ كَثِيرٌ فَيَؤُمُّهُمْ أَبُو عُمَر مَوْلَى
عَائِشَةَ وهو يومئذٍ غُلَامٌ حِينَئِذٍ لَمْ يُعْتَقْ، وَكَانَ إِمَامَ بَنِي
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُرْوَةَ».
(1/323)
وعند
البيهقي من حديث أبي عُتْبَةَ أحمد بن الفرح الحمصي، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ
حِمْيَرَ، حَدَّثَنا شعيب بن أبي حمزة عن هشام عن أبيه: «أَنَّ أَبَا عُمَر
ذَكْوان كَانَ عَبْدًا لِعَائِشَةَ فَأَعْتَقَتْهُ، وَكَانَ يَقُوْمُ بِهَا شَهْرَ
رَمَضَانَ يَؤُمُّهَا وَهَوَ عَبْدٌ».
وفي «المصنف» وكان ابن سيرين لا يرى به بأسًا، وفعلته عائشة بنت طلحة بن عبيد
الله، ورخص فيه الحكم والحسن بن أبي الحسن وعطاء ونحوه عن أنس بن مالك، قَالَ ابنُ
التِّيْنِ: وقع عند الشيخ أبي الحسن، وكان عائشة، قال: وهو على أن يُضْمَرَ في
%ج 1 ص 175%
كان الشأنُ والقصة، قال أبو محمد بن حزم: ولا تجوز القراءة في مصحف ولا غيره
لمصلٍّ إمامًا كان أو غير إمام، فإنْ تعمَّد ذلك بطلت صلاته وبه قال ابن المسيب
والحسن بن أبي الحسن والشعبي وأبو عبد الرحمن السُّلَمي وهو مذهب أبي حنيفة
والشافعي، وأباح ذلك قوم. قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وعن الحسن بن أبي الحسن هو فعل
النصارى وكرهه النخعي.
وفي «مصنف» ابن أبي شيبة وسليمان بن حنظلة ومجاهد بن جبر وحماد وقتادة قال
البخاري: وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم لقول النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُم لِكِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ» ولا
يُمْنَعُ العبد من الجماعة لغير علةٍ، هذا الحديث تقدم من عِنْدَ مُسْلِمٍ في باب
حد المريض عن أبي مسعود، وروى أبو سعيد عنده أيضًا مرفوعًا: «أَحَقَّهُمْ
بِالإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُم».
وعند أبي داود من حديث ابن عباس: «وَلْيَؤُمَّكُم قُرَّاؤُكُم».
(1/324)
وممن
أجاز إمامة العبد أبو ذر وحذيفة وابن مسعود وابن سيرين وشريح والحسن بن علي
والنخعي والشعبي والحكم والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال مالك: يصح
إمامته في غير الجمعة ذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح، وعن أبي سفيان أنه كان يؤم بني
عبد الأشهل وهو مكاتب وخلفه صحابة محمد بن مسلمة وسلمة بن سلامة، وصلى سالم خلف
زياد مولى أم الحسن وهو عبد، وفي رواية: لا يؤم إلا من كان قارئًا ومن خلفه من
الأحرار لا يقرؤون ولا يؤم في جمعة ولا عيد.
وعن الأوزاعيِّ: لا يؤم إلا أهله، وممن كره الصلاة خلفه أبو مجلز فيما ذكره ابن
أبي شيبة والضحاك زيادة: ولا يؤم من لم يحجَّ قومًا فيهم من قد حجَّ.
وأما ولد البغيِّ: فذكر في «المبسوط» جواز إمامته قال: وغيره أحبُّ إلي؛ لأنه ليس
له من يفقهه فيغلب عليه الجهل، وقيل: لئلا يؤذي الألسنة ويأثم الناس، وأجاز إمامته
أيضًا النخعي والشعبي وعطاء والحسن، وقالت عائشة: ليس عليه من وزر أبويه شيء، ذكره
ابن أبي شيبة وإليه ذهب الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعيسى بن دينار ومحمد بن
عبد الحكم، وكرهها عمر بن عبد العزيز ومجاهد ومالك إذا كان راتبًا.
وأما الأَعْرابيُّ: بفتح الهمزة فهو الذي ينتسب إلى الأعراب سكان البوادي، قال
صاحب «المنتهى»: خاصة والجمع أعاريب والنسب أعرابي؛ لأنه لا واحد له وليس الأعرابُ
جمعًا للعرب كما أن الأنباط جمعٌ للنَّبط، وذكر النضر وغيره أن الأعراب جمع
عَرَبٍ، مثل غنم وأغنام
%ج 1 ص 176%
(1/325)
وإنما
سُمُّوا أعرابًا لأنهم عَرَبٌ تجمعت من هاهنا وهاهنا، قَالَ السَّفَاقُسيُّ وغيره:
فإن كان عالمًا فهو والحضريُّ سواءٌ، وإنما تكره إمامته لأنه غالبًا يجهل حدود
الصلاة، وأجازه الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق، وصلَّى ابن مسعود خلف أعرابي،
ولم ير بها بأسًا إبراهيم والحسن وسالم، وقال ابن حزم: والأعمى والخصي والعبد وولد
الزنا والحر والقرشي والفحل والبصير سواء في الإمامة لا تفاضل بينهم إلا بالقراءة
وشبهه.
وفي «سنن أبي الحسن الدَّارَقُطْني»: حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
جَعْفَرٍ الْجُوزِيُّ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، حَدَّثَنا الْعَبَّاسُ
بْنُ سُلَيْمٍ، أخبرنَا عبدُ الله بنُ سعيدٍ، عن الليثِ، عن مجاهد عن ابن عباس قال
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ يَتَقَدَّمَنَّ الصَّفَ الأَوْلَّ
أَعْرَابِيٌ وَلاَ أَعْجَمِيٌ وَلاَ غُلاَمٌ لَمْ يَحْتَلِمْ».
وقد اختلف الناس في إمامة الصبي: فمذهب أبي حنيفة أن المكتوبة لا تصح خلفه وبه قال
أحمد وإسحاق، وفي النفل روايتان في مذهب أبي حنيفة، أن المكتوبة لا تصح خلفه وبه
قال أحمد وإسحاق وأحمد وقال داود: لا تصح فيهما، وحكاه ابن أبي شيبة عن الشعبي
ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وعطاء، وأمَّا ما نقله ابن المنذر عن أبي حنيفة وصاحبيه
أنها مكروهة فقال في «شرح الهداية»: لا يصح هذا النقل.
وقال الشافعي: تصح إمامته، وعنده في الجمعة قولان، وجوزها مالك في النافلة دون
الفريضة.
ذهب الشافعي إلى حديث عمرو بن سلمة الذي فيه: «أَؤُمُّهُمْ وَأَنَا ابنُ سَبْعٍ،
أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ».
وعند ابن أبي شيبة عن إبراهيم: لا بأس أن يؤم الغلام قبل أن يحتلم في رمضان. وعن
الحسن مثله ولم يقيده وفعله الأشعث بن قيس: قدَّم غلامًا فعابوا ذلك عليه فقال: ما
قدمته ولكن قدمت القرآن العظيم.
(1/326)
قال
ابن حزم: لو علمنا أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عرف بإمامة عُمَر وأقره
لقلنا به، وزعم أبو سليمان الخطابي أن الإمام أحمد كان يضعف حديث عمرو بن سلمة
قال: لا أدري ما هذا، ولعلَّه لم يتحقق بلوغ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
وقد خالفه أفعال الصحابة، قال وفيه: قال عمرو: كنت إذا سجدت خرجت أستر، قال: وهذا
غير سائغ.
وذكر الأثرم بسند له عن ابن مسعود أنه قال: لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى تَجِبْ
عَلَيْهِ الْحُدُودُ، وعن ابن عباس: لا يؤم الغلام حتى يحتلم.
692 - حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، حَدَّثَنا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ،
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ قال: «لَمَّا قَدِمَ
المُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ العُصْبَةَ -مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ- قَبْلَ مَقْدَمِ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ
%ج 1 ص 177%
مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا». [خ 692]
وعند البيهقي: فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد بن حارثة وعامر بن ربيعة.
قَالَ الدَّاودِيُّ: إمامته لأبي بكر يحتمل أن تكون بعد قدومه مع النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأما العَصْبة بفتح أوله وإسكان ثانيه بعده باء معجمة
بواحدة وهو الْمُعَصَّب بضم أوله وفتح ثانيه وتشديد الصاد المهملة بعده باء موحدة
قال أبو عبيد البكري: موضع بقباء، روى البخاري عن ابن عمر: «لَمَّا قَدِمَ
المُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ الَمُعَصَّب كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي
حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» الحديثَ كذا ثبت في متن الكتاب، وكتب
عبد الله بن إبراهيم الأَصِيلي عليه العصبة مهملًا غير مضبوط، وفي «أسماء البلدان»
لجار الله الحنفي عَصْبَة موضع بقباء قال:
بَنَيْتُه بِعَصْبَةٍ مِنْ مالِيا ... أخشى رُكَيْبًا أو رُجَيْلًا غاديا
(1/327)
693
- حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنا يَحْيَى، حَدَّثَنا شُعْبَةُ،
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ
كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ». [خ 693]
وقال في باب إمامة المَفْتُونِ وَالمُبْتَدِعِ: حَدَّثَنا محمد بن أبان، حَدَّثَنا
غُنْدَرٌ، حَدَّثَنا شعبة عن أبي التَّيَّاحِ سمع أَنَسًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ: «اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَلَوْ
لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
قال ابن المنذر إن قلت: ما وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة؟ وهل وصف الإمام ألا
يكون حبشيًا فأين هذا من كونه مفتونًا أو مبتدعًا؟.
قلت: فإن السياق يرشد إلى إيجاب طاعته وإن كان أبعد الناس من أن يُطاعَ؛ لأن هذه
الصفة إنما توجد في أعجمي حديث العهد بالإسلام ومثل هذا غالبًا لا يخلو من نقصٍ في
دينه لو لم يكن إلا الجهل اللازم لأمثاله وما يخلو الجاهل من هذا الحد من ارتكاب
بدعة أو اقتحام فتنة، ولو لم يكن إلا في افتتانه بنفسه حين قُدِّمَ للإمامة وليس
من أهلها؛ لأن لها أهلًا من الحسب والنسب والعلم.
قال ابن الجوزي: هذا إنما هو في العمال والأمراء لا الأئمة والخلفاء فإن الخلافة
في قريش لا مدخل فيها لغيرهم.
وقوله: (كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيْبَةٌ) يعني صغيرة، وذلك معروف في الحبشة، قَالَ
السَّفَاقُسيُّ: دلَّ أنَّ الحبشيَّ إنَّما يكون متغلبًا على الإمام والفقهاء على
أنه يطاع ما أقام الجمع والجماعات والأعياد والجهاد.
وقوله: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) يريد في المعروف لا في المنكر.
وقوله: (كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيْبَةٌ) يريد سوادها، وقيل: يريد قصر شعرها
%ج 1 ص 178%
واجتماع بعضه وتفرقه حتى يصير كالزبيب.
(بَابُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإِمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ)
(1/328)
694
– حَدَّثَنا الإِمَامُ الفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنا الأَشْيَبُ، حَدَّثَنا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ
أَخْطَؤوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ». تفرَّد البخاريُّ بهذا دون الستة. [خ 694]
وعند الحاكم صحيحًا على شرط مسلم عن سهل بن سعد: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ، فَإِنْ
أَحْسَنَ فَلَهُ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءَ، فَعَلَيْهِ لَا عَلَيْهِمْ». وعنده
أيضًا على شرط البخاري عن عُقْبَةَ بنِ عامر: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَتَمَّ».
وفي نسخة: «فَأَصَابَ فَالصَّلاةُ لَهُ وَلَهُمْ، وَمَنِ انْتَقصَ مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا فَعَلَيْهِ وَلاَ عَلَيْهِمْ» وأعلَّه الطحاويُّ بانقطاع ما بين عبد
الرحمن بن حرملة وأبي علي الهمداني الراوي عن عقبة.
وفي «مسند عبد الله بن وهب»: أخبرني يحيى بن أيوب عن العلاء بن كثير عن داود بن
أيوب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شُرَيْحٍ العَدَوي: «الْإِمَامُ جُنَّةٌ,
فَإِنْ أَتَمَّ فَلَكُمْ وَلَهُ, وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ, وَلَكُمُ
التَّمَامُ».
وعند الدَّارَقُطْني عن أبي هريرة: «سَيَلِيكُمْ بَعْدِي وُلَاةٌ فَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا فِيمَا وَافَقَ الْحَقَّ وَصَلُّوا وَرَاءَهُمْ، فَإِنْ أَحْسَنُوا
فَلَهُمْ وَإِنْ أَسَاؤوا فَعَلَيْهِمْ».
واستفيد من الحديث، قال المهلب: إن فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه،
وإن الإمام إذا نقص ركوعه وسجوده لا تفسد صلاة من خلفه إلا أن يخاف منه فيصلي معه
بعد أن يصلي في بيته، وقيل: إن أصابوا يعني الوقت، فإن بني أمية كانوا يؤخرون
الصلاة تأخيرًا شديدًا.
وقال أبو عبد الملك: فلكم يريد ثواب الطاعة والسمع وعليهم إثم ما ضيعوا وأخطؤوا.
(1/329)
وقيل:
إن صليتم أفذاذًا في الوقت فصلاتكم تامة إن أخطؤوا في صلاتهم وَائْتَمَمْتُمْ أنتم
بهم، وكان جماعة من السلف يصلون في بيوتهم في الوقت ثم يعيدون معهم وهو مذهب مالك،
وعن بعض السلف: لا يعيدون.
قال النخعيُّ: كان عبد الله يصلي معهم إذا أخروا الوقت قليلًا، ويرى أن مأثم ذلك
عليهم وقد أوضح ذلك ما روى أبو داود بسند جيد عن قَبِيصَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ مِنْ
بَعْدِي يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ فَهِيَ لَكُمْ وَهِيَ عَلَيْهِمْ، فَصَلُّوا
مَعَهُمْ مَا صَلَّوُا الْقِبْلَةَ».
وعند ابن ماجه بسند صحيح عن ابن مسعود قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«سَتُدْرِكُونَ أَقْوَامًا يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا، فَإِنْ
أَدْرَكْتُمُوهُمْ فَصَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ لِلْوَقْتِ الَّذِي تَعْرِفُونَ،
ثُمَّ صَلُّوا مَعَهُمْ وَاجْعَلُوهَا سُبْحَةً».
(بَابُ إِمَامَةِ المَفْتُونِ وَالمُبْتَدِعِ)
وقال البخاريُّ: صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ، وعند ابن بطال: لا تضر المؤمن صلاته
خلف المنافق ولا ينفع المنافق صلاة المؤمن خلفه.
695 - وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا الأوزاعيُّ، حَدَّثَنا
الزهريُّ، عن حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ عَدِيِّ بْنِ
الْخِيَارِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: إِنَّكَ
إمامُ عَامَّةٍ وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى، ويُصَلِّي لنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ،
وَنَتَحَرَّجُ، فَقَالَ: الصَّلَاةَ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا
أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاؤوا فَاجْتَنِبْ
إِسَاءَتَهُمْ. [خ 695]
(1/330)
هذا
الحديث تفرد به البخاري عن الستة، ومحمد هذا هو الفِرْيابي شيخ البخاري، وكأنه أخذ
عنه هذا الحديث مذاكرة وهو متصل عند الإسماعيلي، قال: حَدَّثَنا عبد الله بن يحيى
السَّرْخَسِيُّ، حَدَّثَنا محمد بن يحيى، حَدَّثَنا محمد بن يوسف، حَدَّثَنا
الأوزاعي، حَدَّثَنا الزهري فذكره. وقال أيضًا: أخبرنا إبراهيم بن هانئ، حَدَّثَنا
الرماديُّ، حَدَّثَنا أحمد بن صالح، حَدَّثَنا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنا يونس عن ابن
شهاب عن عروة عن عبيد الله بن عدي به.
ومن طريق ابن زياد سمعت الأوزاعي عن الزهري، حدثني حميد، ومن طريق عيسى عن
الأوزاعي عن الزهري عن حميد حدثني عبد الله بن عدي، ورواه أبو نعيم الأصبهاني من
طريق الحسن بن سفيان عن حِبَّان عن عبد الله بن المبارك أخبرنا الأوزاعي فذكره.
قوله: (يُصَلِّي لنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ) أي في وقت فتنة قاله أبو جعفر الداوديُّ،
وقال ابن وضاح: إمام الفتنة هو عبد الرحمن بن عُديس البَلَوي الذي جلب على عثمان
رضي الله عنه أهل مصر، والقول الأول أصح. انتهى.
كلا القولين واحدٌ؛ لأن عبد الرحمن كان إمام هذه الفتنة في وقتها، وكان هؤلاء لما
هجموا على المدينة كان عثمان يخرج فيصلي بالناس شهرًا ثم خرج يومًا فحصبوه حتى وقع
على المنبر ولم يستطع الصلاة يومئذ، فصلى بهم أبو أمامة بن سهل بن حنيف فمنعوه،
فصلى بهم ابن عُدَيْسٍ تارة وكنانة بن بشر أحد رؤساء الخوارج يومئذ تارة، فبقيا
على ذلك عشرة أيام.
وروي أنه حُصِرَ أربعين يومًا وكان طلحة يصلي بهم، وصلى بهم أكثر الأيام علي بن
أبي طالب. انتهى.
يشبه أن يكون هذا غير جيد لقول عبيد الله بن عدي ويصلي لنا إمام فتنة وهذان
إِمَامَا هُدى، اللَّهمَّ إلا أن يكون عبيد الله سأل عثمان سؤالًا عن هذا الأمر
إذا وقع لا عن هذه الفتنة الواقعة أو يكون
%ج 1 ص 180%
(1/331)
على
تقدير الصحة اسْتَأْذَنَاه في الصلاة أو هو أذن لهما في الصلاة لعلمه أن المصريين
لا يَصِلُون إليهما بشرٍّ، وذكر سيف بن عمر في كتاب «الردة»: حَدَّثَنا مُبَشِّرُ
بن الفضلِ عن سالمٍ قال له: كيف صنع الناس بالصلاة خلف المصريين، قال: كرهها كلهم
إلا الأعلام فإنهم خافوا على أنفسهم فكانوا يشهدونها ويلوذون عنها بضياعهم إذا
ترُكِوا.
قال سيفٌ: حدثنا سهل بن يوسف عن أبيه قال: كره الناس الصلاة خلف المصريين ما خلا
عثمان فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه، وصلى بالناس في مدة الحصر فيما قيل
أيضًا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وسهل بن حنيف وابنه أبو أمامة، وصلى عليٌّ
يوم النحر، قال ابن المبارك: ما صلى علي في ذلك الحصر إلا العيد وحده وفعل ذلك
عليٌّ لئلا تُضاع السنة، وقال بعض الكوفيين: الجمعة بغير والٍ لا تجزئ.
وقال محمد بن الحسن لو أن أهل مصر مات واليهم جاز لهم أن يقدموا رجلًا منهم يصلي
بهم حتى يقدم عليهم والٍ، وقال مالك والأوزاعي والشافعي: تجوز لهم جمعة بغير سلطان
كسائر الصلوات.
قال الطحاوي: في صلاة العيد وعثمان رضي الله عنه محصور أصلٌ في كل سبب تخلف الإمام
عن الحضور فعلى المسلمين إقامة رجل منهم يقوم به وهذا كما فعل المسلمون بمؤتة لما
قُتِل الأمراء اجتمعوا على خالد بن الوليد، وأيضًا فإن المتغلب والخارج على الإمام
تجوز الجمعة خلفه، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: فمن كان في طاعة الإمام أحرى بجوازها
خلفه. انتهى.
قد سبق ردُّ هذا القول.
وأما الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع: فأجاز كلَّ طائفة منهم ابنُ عمر إذ صلى خلف
الحجاج وكذلك ابن أبي ليلى وسعيد ثم خرجا عليه، وقال النخعي: كانوا يصلون وراء
الأمراء ما كانوا، وكان أبو وائل يجمع بين المختار بن أبي عبيد، وسئل ميمون بن
مهران عن الصلاة خلف رجل يذكر أنه من الخوارج فقال: أنت لا تصلي له إنما تصلي لله
عز وجل وقد كنا نصلي خلف الحجاج وكان حروريًا أزرقيًا.
(1/332)
وروى
أشهب عن مالك: لا أحب الصلاة خلف الإباضية والواصلية، ولا السكنى معهم في بلد.
وقال ابن القاسم: أرى الإعادة في الوقت على من صلى خلف أهل البدع.
وقال أصبغ: يعيد أبدًا، قال سحنون: القائل بأنه لا تجب الإعادة على من صلى خلفه
لأن صلاته لنفسه جائزة وليس بمنزلة النصراني؛ لأن صلاة النصراني لنفسه لا تجوز.
انتهى.
لقائل أن يقول: صلاة الأول جائزة عنده أو عند ربه، فإن كانت عنده لا عند ربه فهو
بمنزلة النصراني إذ النصراني صلاته جائزة عند نفسه، وإن قال عند ربه فغير جيدة؛
لأن الاثنين لم يصليا كما أُمِرَا فلا صلاة لهما شرعية والله تعالى أعلم.
%ج 1 ص 181%
وقال الثوريُّ في القَدَريِّ: لا تقدموه، وقال أحمد بن حنبل: لا تصلِّ خلف أحد من
أهل الأهواء إذ كان داعيًا إلى هواه ومن صلى خلف الجهمي والرافضي والقدري يعيد.
وفي «شرح الهداية»: تكره الصلاة خلف صاحب هوًى وبدعة، ولا تجوز خلف الرافضي
والقدري والجهمي؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يعلم الشيء قبل حدوثه وهو كفر والمشبهة
ومن يقول بخلق القرآن.
وكان أبو حنيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع، ومثله عن أبي يوسف.
وفي «الفتاوى الظهيرية»: لا تصح إمامة الأحدب للقائم كذا ذكره محمد في «مجموع
النوازل»، وقيل: تجوز، والأول أصح.
وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر فزعم ابن حبيب أن من صلى خلف من شرب
الخمر يعيد أبدًا إلا أن يكون واليًا، وقيل: في إحدى الروايتين تصح إمامته مستدلين
بما رواه مكحول عن أبي هريرة عند أبي الحسن الدَّارَقُطْني قال صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «صَلُّوْا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ».
وقال مكحول: لم يلحق أبا هريرة، وفي لفظ: «الصَّلَاةُ واجبةٌ عَلَيْكُمْ مع كلِّ
مُسْلمٍ بَرٍّ وفاجرٍ وإِنْ عَمِلَ بالكبائر».
قال البخاريُّ: وقال الزُّبَيْدِيُّ قال الزهريُّ: لا نرى أن يصلي خلف المخنث إلا
من ضرورة لا بد منها.
(1/333)
قال
أبو عبد الملك: أراد الزُّهريُّ الذي يُؤْتَى في دُبُرِهِ، وأما من يتكسر في كلامه
ومشيته فلا بأس بالصلاة خلفه، وقَالَ الدَّاودِيُّ: أرادهما؛ لأنهما بدعة وجرحة،
وذلك أن الإمامة موضع كمال واختيار أهل الفضل، والمخنث ناقصٌ لتشبهه وفتنته
بالنساء، وكما أن إمام الفتنة والمبتدع كل منهما مفتون في طريقته فلما شملهم معنى
الفتنة ذهبت إمامتهم إلا من ضرورة ولهذا أدخل البخاري هذه المسألة هنا.
وفي «نوازل» سُحنون: إن كان الخنثى ممن يُحْكمُ له بحكم النساء أعاد من ائتم به
أبدًا، وإن كان ممن يُحْكَم له بحكم الرجال لم يُعِدْ.
(بابٌ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإِمَامِ، بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا
اثْنَيْنِ)
و (بَابُ إِذَا لَمْ يَنْوِ الإِمَامُ أَنْ يَؤُتَمَّ به، ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ
فَأَمَّهُمْ)
و (بَابٌ إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ، فَحَوَّلَهُ الإِمَامُ
عنْ يَمِينِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُمَا).
ذكر فيها كلها حديثًا واحدًا وهو:
698 - 699 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ، حدَّثَنَا ابن وَهْبٍ، حَدَّثَنا عَمْرٌو، عَنْ
عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ عن
ابن عباس قال: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ والنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عِنْدَهَا ح، الذي ذكرناه في القراءة بعد الحدث. [خ 698 - 699]
أحمد هذا نسبه ابن السكن في نسخته وابن منده وأبو نعيم
%ج 1 ص 182%
في «المستخرج»: أحمد بن صالح، وقال بعضهم: هو أحمد بن عيسى، وقيل: ابن أخي ابن وهب.
(1/334)
قال
أبو عبد الله بن منده: لم يُخَرِّج البخاريُّ عن أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن
وهب في «الصحيح» شيئًا وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبه، وقال الحاكم أبو أحمد: أحمد
عن ابن وهب في «الجامع» هو ابن أخي ابن وهب، وقال أبو عبد الله الحاكم: هذا وهم
وغلط والدليل عليه أن المشايخ الذين ترك البخاري عنهم في «الجامع» قد روى عنهم في
سائر مصنفاته كأبي صالح وغيره وليس له عن ابن أخي ابن وهب رواية في موضع فهذا يدلك
على أنه لم يكتب عنه أو كتب عنه ثم ترك الرواية عنه أصلًا وليس فيه ما بوَّب له؛
لأن الواحد لا يسمى قومًا لا اصطلاحًا ولا لغةً اللَّهمَّ إلا إن أراد أنه إذا ساغ
للواحد الاقتداء به فكذلك الجماعة، وهذا الحديث يدلُّ على أن موقف المأموم إذا كان
بحذاء الإمام على يمينه مساويًا له وهو قول عمر وابنه وأنس وابن عباس والثوري
وإبراهيم ومكحول والشعبي وعروة فيما ذكره في «المصنف»، وهو قول أبي حنيفة ومالك
والأوزاعي وإسحاق.
وعن محمد بن الحسن: يضع أصابع رجليه عند عقب الإمام، وقال الشافعي: يستحب أن يتأخر
عن مساواة الإمام قليلًا، وعن النخعي: يقف خلفه إلى أن يركع فإن جاء أحد وإلا قام
عن يمينه، وقال أحمد: إن وقف عن يساره تبطل صلاته وقد أسلفنا عن سعيد بن المسيب أن
موقف المأموم عن يسار الإمام وفيه أن العمل القليل وهو إدارته إلى يمينه من شماله
لا تبطل الصلاة.
وأما إذا لم ينو الإمام الإمامة فعند الشافعي ومالك وزفر: أجزأ المأموم ذلك.
قَالَ السَّفَاقِسِيُّ وقال الثوري ورواية عن أحمد وإسحاق: على المأموم الإعادة،
وقال أبو حنيفة: إذا نوى الإمامة جاز أن يصلي خلفه الرجال وإن لم ينوه، ولا يجوز
للنساء أن يصلين خلفه إلا أن يَنْويَ بهن، وعن ابن القاسم نحوه والله أعلم.
(بَابُ إِذَا طَوَّلَ الإِمَامُ، وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ، فَخَرَجَ فَصَلَّى)
(1/335)
700
- 701 - حَدَّثَنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو،
عَنْ جَابِرِ «أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ يَرْجِعُ، فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ». [خ 700 - 701]
وفي حديث ابنِ بَشَّارٍ عن غُنْدَر عن شُعْبَةَ: «فَصَلَّى العِشَاءَ، فَقَرَأَ
بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ،
فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: فَتَّانٌ، فَتَّانٌ
ثَلاَثَ مرَّاتٍ -أَوْ قَالَ: فَاتِنًا - وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ
المُفَصَّلِ، قَالَ عَمْرٌو: لاَ أَحْفَظُهُمَا».
وفي بَاب مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ وحديث مُحَارِب بْن دِثَارٍ عن جابر:
«أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ
%ج 1 ص 183%
(1/336)
مُعَاذًا
يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ مُعَاذ، فَقَرَأَ بِسُورَةِ البَقَرَةِ
-أَوِ النِّسَاءِ- فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَ منهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ
مِنْهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَشَكَا إِلَيْهِ
مُعَاذًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ،
أَفَتَّانٌ أَنْتَ» -أَوْ «أَفَاتِنٌ أَنْتَ» - ثَلاَثَ مرَّاتٍ: «فَلَوْلاَ
صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو
الحَاجَةِ» ثم قال: تابعه يعني شعبة سعيد بن مسروق ومسعر والشيباني ثم قال: وقال
عمر وعبيد الله بن مقسم وأبو الزبير: عن جابر: «قَرَأَ مُعَاذٌ فِي العِشَاءِ
بِالبَقَرَةِ» قال: وتابعه الأعمش عن محارب، أما حديث مسعر فرويناه في «مسند
السراج» عن زياد بن أيوب حَدَّثَنا أبو نعيم عنه عن محارب بلفظ: «فَقَرَأَ
بالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَمَا
يَكْفِيكَ أَن تقْرَأ بالسماء وَالطَّارِقِ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَنَحْوِ
هَذَا» وحَدَّثَنَا أبو كريب حَدَّثَنا يحيى ابن أبي زائدة عنه.
وأما حديث أبي الزبير عن جابر الذي ذكره هنا فَمُخَرَّجٌ في «صحيح مسلم» والنسائي،
حَدَّثَنا قتيبة عن الليث عنه بلفظ: «قَرَأَ مُعَاذٌ فِي العِشَاءِ بِالبَقَرَةِ
منْ غَيْرِ شَكٍّ». وقال ابن وهب في «مسنده»: حدَّثَنَا ابن لهيعة والليث عن أبي
الزبير فذكره وفيه: «طَوَّلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ أَفَتَّانٌ أَنْتَ، خَفِّفْ عَلَى النَّاسِ،
وَاقْرَأْ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَنَحْوِ
ذَلِكَ، وَلَا تَشُقَّ عَلَى النَّاسِ».
(1/337)
وفي
«مسند ابن السراج»: حَدَّثَنا محمد بنُ الصَّبَّاح، أخبرنا سفيان عن عمرو وأبي
الزبير عن جابر به. وحديثُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ مولى ابن أبي نَمِرٍ عند
أبي بكر بن خزيمة في «صحيحه»: عَنْ بُنْدَار عَنْ يَحْيَى بن سعيد عن محمد بنِ
عَجْلَان عنه بلفظ: «فَقَالَ مُعَاذٌ إِنَّ هذا -يعني الفتى- به نفاقٌ
ولَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ،
قَالَ الفَتَى: يَا رَسُولَ اللهِ، يُطِيلُ الْمُكْثَ عِنْدَكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ
فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا، فَقَالَ: أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟، وَقَالَ
لِلْفَتَى: كَيْفَ تَصْنَعُ يَا ابنَ أَخِي إِذَا صَلَّيْتَ؟ قَالَ: أَقْرَأُ
الفَاتِحَةِ، وَأَسْأَلُ اللهُ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، إِنِّي
لَا أَدْرِي، مَا دَنْدَنَتُكَ وَدَنْدَنَةُ مُعَاذٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إِنِّي وَمُعَاذٌ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ فَقَالَ الْفَتَى:
سَيَعْلَمُ مُعَاذٌ إِذَا قَدِمَ الْقَوْمُ قَالَ: فَقَدِمَ القومُ قَالَ:
فَقَدِمَ القَوْمُ، فَاسْتُشْهِدَ الْفَتَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَاذٍ: مَا فَعَلَ خَصْمِي وَخَصْمُكَ؟ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، صَدَقَ اللهَ، وَاسْتُشْهِدَ».
وحديث عمرو نقدم أول الباب، وحديث الأعمش رواه النسائي عن واصل بن عبد الأعلى عن
ابن فُضَيْلٍ عن الأعمش عن مُحارب وأبي صالح ذَكْوان عن جابر.
وفي «صحيح ابن حبان» من
%ج 1 ص 184%
(1/338)
حديث
سفيان عن عمرو: «أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الْعِشَاءَ ذَاتَ
لَيْلَةٍ فَصَلَّى مَعَهُ مُعَاذٌ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَتَقَدَّمَ
لَيَؤُمَّنَا، فَافْتَتَحَ بسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ
مِنَ الْقَوْمِ تَنَحَّى فَصَلَّى وَحْدَهُ» وفيه: «وَأَمَرَهُ بِسُوَرٍ قِصَارٍ
لَا أَحْفَظُهَا، قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْنَا لِعَمْرٍو إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ
قَالَ لَهُمْ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ
والسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، قَالَ عَمْرٌو بِنَحْو هَذَا».
وعند السَّفَاقُسيِّ وغيره وبـ {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}، و {اقرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ}.
قال أبو حاتم: في هذا دحضٌ لقول من زعم أن معاذًا لم يكن يصلي بهم الفرض، وأن
الفرض أدَّاه مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وأخبرنا محمد بن الجنيد، حَدَّثَنا قتيبةُ، حَدَّثَنا حماد بن زيد عن عمرو عن
جابر: «أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ».
قال أبو حاتم: فيه دلالة أن المغرب ليس له وقت واحد.
وفي «سنن الدَّارَقُطْني» بسند صحيح من حديث أبي عاصم وعبد الرزاق عن عمرو أخبرني
جابر: «أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الْعِشَاءَ, ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تلكَ الصلاة, هِيَ
لَهُ نافلةٌ, وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ».
(1/339)
وفي
«مسند الشافعي» بسند صحيح أيضًا عن عبد المجيد عن ابن جريج عن عمرو:
«فَيُصَلِّيَهَا لَهُمْ هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ، وَهِيَ لَهُمْ مَكْتُوْبَةٌ». قَالَ
البَيْهَقِيُّ: هذا حديث ثابت لا أعلم حديثًا يروى من طريق واحدة أثبت من هذا ولا
أوثق رجالًا، وكذا رواه أبو عاصم النبيل وعبد الرزاق عن ابن جريج بذكر هذه الزيادة
يعني طريقي الدَّارَقُطْني، وقد رُوِيَتْ هذه الزيادةُ من وجه آخر رواها الشافعي
من حديث إبراهيم بن محمد عن ابن عجلان عن ابن مقسم عن جابر.
وفي «سنن أبي داود» عن موسى بن إسماعيل عن طالب بن حبيب سمعت عبد الرحمن بن جابر
يحدث عن حزم بن أُبَيِّ بن كعب الأنصاري: «أَنَّهُ أَتَى مُعَاذًا وَهُوَ يُصَلِّي
بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ المَغْرِبِ فَانْصَرَفَ» الحديثَ.
وفي «مسند السراج» عن قتيبة كما رواه ابن حبان قال: وحَدَّثَنَا أبو كريب،
حَدَّثَنا معاوية بن هشام عن سفيان عن محارب عن جابر قال: «أَمَّنَا مُعَاذٌ فِي
الْمَغْرِبِ فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ». وكذا ذكره أبو قُرَّة في «مسنده
المغرب».
وذكر الطحاوي أن ابن عيينة روى عن عمرو حديث جابر فلم يذكر: «هِيَ لَهُ نَافِلة
ولهم فريضة» فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج، أو من قول عمرو، أو من قول جابر
بناء على ظن واجتهاد لا بجزم، وزعم أبو البركات ابن تيمية أن الإمام أحمد ضعَّفَ
هذه الزيادة وقال: أخشى أن لا تكون محفوظة؛ لأن ابن عيينة يزيد فيها كلامًا لا
يقوله أحدٌ.
%ج 1 ص 185%
زاد ابن قدامة في «المغني»: وقد روى الحديث منصور بن زاذان وشعبة فلم يقولا ما قال
سفيان. انتهى.
قد أسلفنا قول الطحاوي إنه لم يرو هذه الزيادة فينظر.
وقال ابن الجوزي: هذه الزيادة لا تصح ولو صَحَّتْ كانت ظنًا من جابر، وبنحوه ذكره
ابن العربي في «العارضة».
(1/340)
قَالَ
البَيْهَقِيُّ: والأصل ما كان موصولًا بالحديث يكون منه، وخاصة إذا روي من وجهين،
إلا أن يقوم دلالة على التمييز، والظاهر أن هذه من قول جابر، وكان الصحابة رضي
الله عنهم أعلم بالله وأخشى له من أن يقولوا مثل هذا إلا بعلم.
وروى بُرَيْدَةُ: أنَّ معاذًا صلَّى بأصحابهِ العشاءَ فقرأَ فيها: اقتربت
السَّاعةُ، فَقَامَ رجلٌ منْ قبلِ أنْ يفرغَ فصلَّى وذهب الحديثَ. أخبرنا به
الإمام العلامة محمد بن محمد المغربي، حَدَّثَنا أم محمد سيدة، عن أبي روح وزينب
السعدية وأبي بكر الصفار وإسماعيل القاري، قال أبو روح وزينب: أخبرنا زاهر، قالت
هي: وابن الصفار والقاري، أخبرنا وجيه ابن طاهر قالوا: أخبرنا الأستاذ أبو القاسم
عبد الكريم بن هوازن القشيري قراءة عليه، أخبرنا الحسين أحمد بن محمد الخفاف،
أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران الثقفي السراج، حَدَّثَنا
إسحاق ابن إبراهيم وأبو يحيى محمد بن عبد الرحيم قالا: حَدَّثَنا علي بن الحسن بن
شقيق، حَدَّثَنا الحسين بن واقد، حَدَّثَنا عبد الله بن بريدة قال: سمعت بريدة
فذكره.
وهو في «مسند أحمد» بسند صحيح، وفيه بسند صحيح أيضًا عن أنس: «كَانَ مُعَاذٌ
يَؤُمَّ قَوْمَهُ فَدَخَلَ حَرَامٌ -يَعْنِي ابنَ مَلْحَانَ- وَهُوَ يُرِيْدُ أَنْ
يَسْقِيَ نَخْلَةَ المسْجِدِ، فَلَمَّا رَأَى مُعَاذًا طَوَّلَ تَجَوَّزَ وَلَحِقَ
بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ» الحديثَ. وعنده أيضًا من حديث معاذ بن رفاعة عن سليم رجل من
بني سلمة أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا رَسُوْلَ اللهِ
إِنَّ مُعَاذًا» الحديثَ. وذلك قبل أحد، وأنه قتل بأحد شهيدًا، قال ابن حزم: ومعاذ
ليس صحابيًا فالحديث منقطع.
وفي كتاب ابن بَشْكُوَال: اسم الرجل المنصرف حازم.
(1/341)
قَالَ
البَيْهَقِيُّ: وحديث عمرو بن شعيب عن سليمان مولى ميمونة عن ابن عمر يرفعه: «لاَ
تُصَلُّوْا صَلاَةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ» لا يثبت بثبوت حديث معاذ للاختلاف في
الاحتجاج بروايات عُمَر وانفراده به، والاتفاق على الاحتجاج بروايات رواة معاذ
«وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلاَةَ الْخَوْفِ بِبَطْنِ
نَخْلَةٍ، بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَتْ طَائِفَةٌ
أُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ». قال أبو عبد الله الشافعي:
أخبرنا به الثقة ابن عيينة أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر فذكره. قال: فالآخرة
من هاتين للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نافلة وللآخرين فريضة.
%ج 1 ص 186%
وعن عطاء: إن أدركتَ العصرَ ولم تصلِّ الظهر فاجعل التي صليت مع الإمام الظهر
وصلِّ العصر بعد ذلك. قال الشافعي: ويُرْوَى عن عمر بن الخطاب وعن رجل من الأنصار
مثل هذا المعنى، ويُرْوَى عن أبي الدرداء وابن عباس قريب منه، وكان وهب بن منبه
وأبو رجاء العطاردي والحسن وابن مهدي ومسلم بن خالد ويحيى بن سعيد وغيرهم يقولون
بهذا.
وعن ابن جريج قال إنسانٌ لطاوس: وجدت الناس في القيام فجعلتها العشاء الآخرة قال:
أصبت. وهي رواية عن أحمد وبه قال سليمان بن حرب وابن المنذر وأبو ثور وداود، قال:
البيهقي واحتج الشافعي بقوله: «مَنْ يَتَصَدَّقُ على هَذَا فيصلي مَعَهُ».
(1/342)
وعن
الأوزاعي: «دَخَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنَ الصحابة في صَلَاةَ الْعَصْرِ وَلَمْ
يَكُونُوا صَلَّوَا الظُّهْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: كَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَجَعَلْتُ صَلَاتِي
مَعَ الْإِمَامِ صَلَاةَ الظُّهْرِ، ثُمَّ صَلَّيْتُ الْعَصْرَ، وَقَالَ الآخَرُ:
أَمَّا أَنَا فَجَعَلْتُ صَلاَتِي مَعَ الإِمَامِ العَصْرَ ثُمَّ صَلّيْتُ
الظُّهْرَ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَجَعَلْتُ صَلَاتِي مَعَ الْإِمَامِ
سُبْحَةً وَاسْتَقْبَلْتُ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ، فَلَمْ يَعِبْ أَحَدُهُمْ
عَلَى صَاحِبِهِ».
قال: وروينا هذا عن الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عائذ قال: «دَخَلَ
ثَلَاثَةُ نَفَرٍ» فذكره. انتهى.
وقد ذكر الإسماعيلي حديثًا يشدُّ قول من ذهب إلى أن معاذًا كان يصلي بقومه متنفلًا
فقال: حَدَّثَنا إبراهيم بن السري، حَدَّثَنا هناد بن السري، حَدَّثَنا محمد بن
إسحاق العامري، حَدَّثَنا عبيد الله عن أبي الأحوص عن المغيرة عن إبراهيم عن
الأسود عن عائشة قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا
رَجَعَ مِنَ المسْجِدِ صَلَّى بِنَا».
ولقائل أن يقول: لا يُظنُّ بمعاذ أن يصلي نافلة مع إقامة المكتوبة للنهي الوارد عن
ذلك، وأيضًا فترك فضيلة الفريضة خلف سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
والصلاة في مسجده التي هي خير من ألف صلاة فيما سواه.
(1/343)
قال
ابن العربي: وفضيلة النافلة خلفه لتأدية فريضة لقومه تقوم مقام أداء الفريضة معه
وامتثال أمره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في إمامة قومه زيادة طاعة، أو يحمل على
أن معاذا ً كان يصلي مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاة النهار ومع قومه
صلاة الليل، فأخبر الراوي في قولهم: «فهي لهم فريضة وله نافلة» بحال معاذ في وقتين
لا في وقت واحد ويقول: هو حكاية حال لم نعلم كيفيتها فلا نعمل بها، ويستدلُّ بما في
«صحيح ابن حبان»: «الإِمَامُ ضَامِنٌ» يعني يضمنها صحةً وفسادًا والفرض
%ج 1 ص 187%
غير مضمون في النفل.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: يحتمل أن يكون حديث معاذ كان أول الإسلام وقت عدم القراء ووقت
لا عوض للقوم من معاذ فكانت حالة ضرورة فلا تُجْعَلُ أصلًا يُقَاسُ عليه. انتهى.
قد أسلفنا أن هذا كان قبل أُحُدٍ فلا حاجة إلى ذكر الاحتمال وشبهه، ومنع أبو حنيفة
وأصحابه من صلاة الْمُفْتَرِضِ خلف الْمُتَنَفِّلِ وهو قول الزهري وابن المسيب
والنخعي وأبي قلابة وربيعة بن أبي عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري والحسن ابن
أبي الحسن في رواية ومالك بن أنس ورواية أبي الحارث عن أحمد زاد الطحاوي مجاهدًا
واستدل بما في «الصحيح»: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ
تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ».
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ولا اختلاف أعظم من اختلاف النيات، ولأنه لو جاز بناء
المفترض على صلاة المتنفل لما شُرِعَتْ صلاة الخوف مع كل طائفة بعضها وارتكاب
الأعمال التي لا تصح الصلاة معها في غير الخوف؛ لأنه كان يمكنه صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أن يصلي مع كل طائفة جميع صلاته وتكون الثانية له نافلة وللطائفة الثانية
فريضة. انتهى.
قد أسلفنا هذا الفعل في الحديث فلا حاجة به إلى إحالته لوقوعه ولكونه حديثًا لا
بأس به.
(1/344)
وقال
ابن الأثير: هو صحيح وإن كان لا نسلم له ذلك؛ لأن الشافعي يرد فيه روايته عن ابن
عيينة ولم يجزم بها عنه، وقال أبو جعفر: ويحتمل أن يكون حديث معاذ وقت كانت
الفريضة تُصَلَّى مرتين، فَإِنَّ ذلك قد كان يُفْعَلُ في أول الإسلام حتى نُهِيَ
عنه وبنحوه ذكره ابن بطال والسَّفَاقُسيُّ.
وزعم أبو البركات ابن تيمية أن في اختلاف هذا الحديث معلوم أنهما قضيتان وقعتا في
وقتين مختلفين إما لرجل أو لرجلين. انتهى.
قد قدمنا أسماء الذين خرجوا من خلفه لِأكثر من اثنين، فإن كان عمل لكل واحد قضية
فينبغي أن يجعلها قضايا لا قضيتين والله تعالى أعلم.
وفي «شرح المهذب»: اختلف العلماء فيمن دخل مع إمام في صلاة فصلى بعضها هل يجوز له
أن يخرج منها؟. فاستدل أصحابنا بهذا الحديث على أن للمأموم أن يقطع القدوة ويتم
صلاته منفردًا وإن لم يخرج منها وفي هذه المسألة ثلاثة أوجه أصحها: أنه يجوز لعذر
ولغير عذر، والثاني: لا يجوز مطلقًا، والثالث: يجوز لعذر ولا يجوز لغيره، وعلى هذا
العذرُ هو ما يُسقط عنه الجماعة ابتداءً ويُعذَر في التخلف عنها بسببه، وتطويل
القراءة عذرٌ على الأصح، قال أبو زكريا:
%ج 1 ص 188%
الاستدلال بهذا ضعيفٌ؛ لأنه ليس في الحديث أنه فارقه وبنى على صلاته، بل في
الرواية الأولى أنه سلَّمَ وقطع الصلاة من أصلها ثم استأنفها، وهذا لا دليل فيه
للمسألة المذكورة وإنما يدلُّ على جواز قطع الرجل الصلاة وإبطالها لعذر.
(1/345)
وذكر
السَّفَاقُسيُّ أن أبا حنيفة لا يجيز ذلك، وعن مالك إذا حدث الإمام وقد مضى بعض
صلاته أنه يستخلف بمن يُتِمُّ بهم فإن لم يفعلوا صَلَّوا وُحْدَانًا إلا في
الجمعة، فهؤلاء وإن كان إمامهم بدأ بالخروج فقد اختاروا ترك تمامها بجماعة، قال:
وقد يَسْتَدِلُّ بهذا الحديث من يرى الخروج من إمامة الإمام إذا فعل في صلاته ما
لا يجوز كالمصلي خامسةً، أو في المغرب رابعةً، أو ثالثةً في الصبح، فيسبح بحمده
فيأتي، قال ابن الْمُوَّازِ: إن قعدوا ينتظرونه حتى يتم الركعة بطلت صلاتهم، فإن
كان ساهيًا لزمهم سجود السهو معه، ويحتمل أن يكون قوله: (فَتَّانٌ) هنا العذاب، أي
تعذب الناس بالتطويل يا معاذ، قال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10].
(بَابُ تَخْفِيفِ الإِمَامِ فِي القِيَامِ، وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ)
702 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنا
إِسْمَاعِيلُ، سَمِعْتُ قَيْسًا، أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ، أَنَّ رَجُلًا،
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ مِنْ
أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ:
«إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ،
فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ». [خ 702]
ما هنا شرطية لا نافية.
وقال ابن المنير: إن قلت بوَّبَ على التخفيف في شيء ثم ذكر حديثًا مقتضاه في
الجمع.
قلت: بيَّن بالترجمة مقصود الحديث، وإن الوارد التخفيف في القيام لا في الركوع
والسجود؛ لأن الذي يُطَوِّلُ في الغالب إنما هو في القيام فأما ما عداه فإنه سهل
لا يشق إمامته على أحدٍ بَيَّنَتْهُ الأحاديث الواردة. =
ج2. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
https://tabrezye.blogspot.com/
وكان
البخاريُّ ركب من حديث معاذ وأبي مسعود ترجمةً، فإن حديث معاذ تخفيف القيام خاصةً
وبَيَّنَه بالقراءة، وهنا في القيام، وبقي الركوع والسجود على حاله.
(بابٌ إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ)
703 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ،
فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ
لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاء». [خ 703]
قال أبو العباس الطرقي: رواه عن أبي هريرة وأبو سلمة وابن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن
وهمام بن منبه والأعرج
%ج 1 ص 189%
وفي روايته زيادة وهي قوله: «وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ
مَا شَاء». انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيثُ إن هذه الزيادة رواها مسلم من حديث همام بن منبه قال: حَدَّثَنا
محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه وفيه: «وَإِذَا قَامَ
وَحْدَهُ فَلْيُطِلْ صَلاَتَهُ».
وفي «مسند السراج»: حَدَّثَنا قتيبة، حَدَّثَنا الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبيه
عن أبي هريرة يرفعه وفيه: «وَإِذَا صَلَّىَ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاَءَ»،
انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ من حيث إن هذه الزيادة وفي رواية: «فَإِنَّ فِيْهِم الصَّغِيْرَ». وفي
أخرى: «المريضَ».
وفي أبي داود: «والشَّيْخَ الكبيرَ».
(بَابُ مَنْ شَكَا إِمَامَهُ إِذَا طَوَّلَ)
تقدم حديثاه.
قال البخاريُّ: وَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: طَوَّلْتَ بِنَا يَا بُنَيَّ.
(1/347)
هذا
التعليق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع: حَدَّثَنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغَسِيل،
قال: حَدَّثَنِي المنذرُ بنُ أبي أُسَيْدٍ الأنصاري قال: «كَانَ أَبِي يُصَلِّي
خَلْفِي فُرُبَّمَا قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ طَوَّلْتَ بِنَا اليَوْمَ».
قال البخاريُّ: وكره عطاء أن يؤمَّ الرجلُ أباه، هذا التعليق مذكور في بعض النسخ،
فلئن صحَّ فقد رواه أبو بكر عن وكيع حَدَّثَنا إبراهيم بن يزيد المكي عن عطاء قال:
لاَ يَؤُمَ الرَّجُلُ أَبَاهُ.
قال الحياني في نسخة أبي ذر من رواية أبي إسحاق المستملي وحده أبو أَسِيْدٍ بفتح
الهمزة وكسر السين وغيره يضمها وهو الصواب. انتهى.
في «إكمال ابن ماكولا» أبو أُسِيد -بضم الهمزة وكسر السين- مالك بن ربيعة شهد
بدرًا، قال أبو عبد الله: وقال عبد الرزاق ووكيع: أبو أَسِيد وهو الصواب.
وفي «مسند الشافعي» من حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم عن نافع بن سرجس قال:
عُدْنَا أبا واقد الليثي فسمعته يقول: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَخَفَّ النَّاسِ صَلاَةً عَلَى النَّاسِ، وَأَطْوَلَ النَّاسِ صَلاَةً
لِنَفْسِهِ».
وفي «الأوسط» من حديث إبراهيم التيمي عن أبيه: سَمِعْتُ ابنَ مَسْعُوْدٍ قَالَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ
فَلْيُخَفِّفْ قَالَ: فِيْهِم الضَّعِيْفُ وَالكَبِيْرُ وَذَو الحَاجَةِ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن عثمان بن أبي العاص يرفعه: «مَنْ أَمَّ النَّاسَ
فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ
فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، فَإِذَا صَلَّى أَحَدَكُمْ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ».
(1/348)
وعند
النسائي بسند صحيح عن ابن عمر: «كان رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَأْمُرُنَا بِالتَّخْفِيْفِ وَيَؤُمُّنَا» وحديث أنس المذكور عند البخاري في هذا
الباب: «كانَ يُوجِزُ الصلاةَ ويُكَمِّلُهَا». لفظه عند ابن ماجه: «يُوجِزُ
الصلاةَ، ويتمُّ الصلاةَ». وعند السراج: «يُوجِزُ في الصَّلَاةِ».
وفي لفظٍ: «كان أتمَّ النَّاسِ صلاةً في إجازةٍ»
%ج 1 ص 190%
وفي لفظ: «أخفَّ النَّاسِ صلاةً فِي تَمَامٍ». وفي لفظٍ: «منْ أخفِّ».
وفي لفظٍ: «كَانَتْ صَلاتُهُ مُتَقَارِبَةً، وكانتْ صلاةُ أبي بكرٍ متقاربةً،
فَلَمَّا كانَ عمرُ مدَّ في صلاةِ الفجرِ».
وفي لفظٍ: «ما صليتُ بعدَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاةً أخف منْ
صلَاتِهِ في تمامِ ركوعٍ وسجودٍ». وفي لفظٍ: «وكانَ إذا قالَ: سمعَ اللهُ لِمَنْ
حَمِدَه قامَ حتى يقولَ قد أوهمَ، وكانَ يقعدُ بينَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يقولَ
قد أوهمَ».
(بَابُ مَنْ أَخَفَّ الصَّلاَةَ عِنْدَ بُكَاءِ الصَّبِيِّ)
707 - حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا الوَلِيدُ، حَدَّثَنا الأَوْزَاعِيُّ،
عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قالَ رسولُ
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ
أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي
كَرَاهَة أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ». تَابَعَهُ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ،
وَبَقِيَّةُ، وَابنُ المُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ. [خ 707]
حديث بشر خرَّجه البخاري في «صحيحه» فيما يعد مسندًا، وحديث ابن المبارك رواه
النسائي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك.
(1/349)
708
- وحديث بقية رواه البخاريُّ في صحيحه: حَدَّثَنا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ،
حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، حدَّثنا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سَمِعْتُ
أَنَسًا يًقُوْلُ: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ أَخَفَّ صَلاَةً ولا أَتَمَّ
مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ
الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ يَفْتِنَ أُمَّهُ». [خ 708]
709 - ورواه أيضًا من حديث سعيدٍ حَدَّثَنا قتادةُ أن أنسًا حدثه فذكره بلفظ:
«إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيْدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ
بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ
وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ». [خ 709]
قال: وقال موسى، حدثنا أبان، حَدَّثَنا قتادة، حدثنا أنس مثله.
رواية موسى رويناها في «مسند السراج» فقال: حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ جَرِيرِ
بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنا موسى بنُ إسماعيل، حَدَّثَنا أبانُ بن يزيد، حَدَّثَنا
قتادة فذكره بلفظ: «إِنِّي أَقُوْمُ إِلَى الصَّلاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أنْ
أُطِيْلَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا
أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِبُكَائِهِ».
(1/350)
وفي
حديث حُمَيْدٍ وعلي بن زيد عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«جَوَّزَ ذَاتَ يَوْمِ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ، فَقُلْتُ لَهُ: جَوَّزْتَ يَا
رَسُولَ اللهِ! قَالَ: سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَكَرِهْتُ أَنْ أَشْغَلَ عَلَيْهِ
أُمَّهُ». وفي لفظٍ: «سَمِعَ صَوْتَ صَبِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ فَخَفَّفَ
الصَّلاةَ فَظَنَنَّا أَنَّهُ خَفَّفَ رَحْمَةً لِلصَّبِيِّ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
أُمَّهُ فِي الصَّلاةِ». وفي حديث ثابت عنه: «إِذَا سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ
قَرَأَ بِالسُّورَةِ الْخَفِيفَةِ أَوِ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ» شَكَّ جَعْفَرٌ
بنُ سُلَيْمَانَ.
وفي «المصنف»: حَدَّثَنا وكيع عن سفيان عن أبي الحُوَيْرثِ الزُّرَقيِّ عن علي بن
قيس قال:
%ج 1 ص 191%
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ
الصَّبِيِّ خَلْفِي فَأُخَفِّفُ شَفَقَةَ أَنْ أَفْتِنَ أُمَّهُ».
وحَدَّثَنَا وكيع عن سفيان عَنْ أَبِي السَّوْدَاءِ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابنِ
سَابِطٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: قَرَأَ فِي
الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِسُورَةٍ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ آيَةً، فَسَمِعَ بُكَاءَ
الصَّبِيِّ قَالَ فَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِثَلَاثِ آيَاتٍ».
التَّجَوُّزُ هنا يراد به تقليل القراءة كما ذكره ابن سابط وغيره، واستدلَّ بعض
الشافعية بهذا على أن الإمام إذا كان راكعًا فأحسَّ بداخلٍ يريد الصلاة معه ينتظره
ليدرك معه فضيلة الركعة في جماعة وذلك أنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة
الإنسان في بعض أمور الدنيا، كان له أن يزيد فيها لعبادة الله تعالى، بل هذا أحق
وأولى.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: ولا دلالة فيه لأن هذا زيادة عمل في الصلاة بخلاف الحذف.
(1/351)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: وممن أجاز ذلك الشعبي والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقال آخرون:
ينتظر ما لا يشق على أصحابه وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور، وقال مالك: لا ينتظر؛
لأنَّه يضرُّ بِمَنْ خلفه وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي كذا ذكره ابن
بطال، والمعروف من مذهب الشافعي ما قدمناه.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ عن سحنون: صلاتهم باطلة.
والوجْدُ: الحزن، قال ابن سِيْدَه: وَجِدَ الرجل وجدًا ووجَد كلاهما عن
اللِّحْياني: حزن، وأنشد الهَجَري في نوادره:
نرى كبدًا مما وجِدت من الأسى لذي رسمه بين القليل الْمُشَذَّبِ
قال: وكان كسر الجيم من لغته، وفي «الفصيح»: ووَجَدْتُ في الحزن وَجْدًا، ومضارعه
يجد، وحكى القزَّاز عن الفراء يجد وفي «المطالع»: من مَوْجَدة أمِّه، أي: من حبها
إياه وحزنها لبكائه، قال: وقد روي من وَجَدِ أمه.
(بَابُ إِذَا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْمًا)
و (بَابُ مَنْ أَسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمَامِ)
تقدم حديثاهما.
(بَابٌ الرَّجُلُ يَأْتَمُّ بِالإِمَامِ، وَيَأْتَمُّ النَّاسُ بِالْمَأْمُومِ)
وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ائْتَمُّوا بِي
وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ». هذا التعليق خرَّجه مسلم في «صحيحه» عن الدارمي:
حَدَّثَنا محمد بن عبد الله الرَّقَاشي، حَدَّثَنا بشر بن منصور عن الجُرَيْرِيِّ،
عن أبي نضرة عن أبي سعيد: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَأَى
فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ: تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي،
وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى
يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَ».
713 - وحديث الباب تقدم في حدِّ المريض.
(1/352)
وقول
الدَّاوديِّ في التعليق ليس هذا مما بوَّبَ، وذلك في الأمر كله نظرٌ؛ لأن في نفس
الحديث رأى في أصحابه تأخرًا يعني عنه في الصف فأمرهم بأن يتقدموا ليأخذوا عنه
صلاته ليعلموها الناس
%ج 1 ص 192%
بعده. [خ 713]
وأما قوله: وذلك في الأمر كله نظرٌ؛ لأن في نفس الحديث رأى في أصحابه تأخرًا نعم
كذا هو، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ولكن الحديث
خرج على سببٍ، وذاك السبب هو مراد البخاري ولا يمتنع من أن يكون فيه غيره والله
تعالى أعلم.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: هذا موافق لقول الشعبي ومسروق: إن الإمام يؤمُّ الصفوفَ،
والصفوف يؤمُّ بعضها بعضًا، فإذا أحرم رجلٌ بالصلاة قبل أن يرفع الصف الذي يليه
رؤوسهم من الركعة فقد أدركها؛ لأن بعضهم أئمة لبعض، وغيرهما من الفقهاء إنما
يراعون رفع الإمام وَحْدَهُ؛ لأنه أحوط.
(بَابٌ هَلْ يَأْخُذُ الإِمَامُ إِذَا شَكَّ بِقَوْلِ النَّاسِ؟)
714 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنَ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ:
أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ، أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ، فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ،
فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ
أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ
أَطْوَلَ». [خ 714]
(1/353)
وفي
لفظٍ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِحْدَى صَلاتَيِ
الْعَشِيِّ». قَالَ ابنُ سِيرِينَ: سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ
أَنَا، قَالَ: «فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَي
وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَخَرَجَتِ السّرعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ،
فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ،
فَهَابَاهُ أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ،
يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ:» وفيه: «فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى مَا
تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ،
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ
أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ -فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ- ثُمَّ سَلَّمَ؟
فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَال: ثُمَّ سَلَّمَ».
وفي لفظٍ: «فَقَالَ لِأَصْحَابهِ». وبوَّبَ له إِذا سلَّمَ في ركعتين أو ثلاث فسجد
سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول. وقَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: لم يتضمن هذا الحديث
ما ذكره في الترجمة، وخرج ما ذكره من ترجمة هذا الباب في الباب الذي يليه، وهو باب
من لم يتشهد في سجدتي السهو. انتهى.
لمن قال إن الباب الذي يليه ليس منه إلا في مثل سجود الصلاة أو أطول لكان صوابًا،
وأما السلام من الثلاث فلم يأت في حديث أبي هريرة، إنما جاء في حديث عمران بن
حصين، فكأنَّ البخاريَّ أشار إليه في التبويب كما فعل في قوله: بابٌ إذا أقيمت
الصلاةُ فلا صلاة إلا المكتوبة، ولم يخرج هذا الحديث في الباب ولم يروه جملة، وفي
لفظٍ: «أَحَقٌّ مَا يَقُوْلُ ذُو اليَدَيْنِ؟ قَالُوْا: نَعْم».
%ج 1 ص 193%
(1/354)
ورواه
عن آدم: حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة وفي آخره قال سعد بن إبراهيم:
«رأيتُ عروةَ بنَ الزبير صلَّى من المغرب ركعتين فَسَلَّمَ وتكلَّمَ ثم صلَّى ما
بقي وسجدَ سجدتين، وقال هكذا فعل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
وفي بَاب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ
بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا حَمَّادٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قُلْتُ
لِمُحَمَّدٍ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ تَشَهُّدٌ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ.
وفي لفظٍ: «وأكبرُ ظنِّي أنَّهَا العصر». وفيه: «قالَ ذو اليدينِ: بلى قدْ نسيتَ».
هذا حديث خرجه الستة في كتبهم.
وزعم أبو العباس الطرقي أن أبا سلمة وأبا سفيان مولى ابن أبي أحمد، وسعيد بن أبي
سعيد وضَمْضَم بن جَوْس وسعيد بن المسيب وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
وأبا بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَةَ وعبيد الله بن عبد الله بن عُتْبَةَ وعراك بن
مالك رووه عن أبي هريرة.
وعند الدَّارَقُطْني من رواية عاصم عن ابن سيرين: «سَلَّمَ عنْ يمينهِ وعنْ
يسارهِ».
(1/355)
وفي
أحاديث «الموطأ» في رواية المخرمي عن إسحاق: «فقالَ: ما يقولُ ذو اليدين، قالوا:
صَلَّيْتَ ركْعَتَيْنِ». وقال في «العلل»: وفي رواية حماد بن زيد وحده عن أيوب:
«فَأَومَؤُوا أيْ: نَعَمْ». وكذا قاله أبو داود لَمَّا خرَّجَه في «سننه» وفي
«مراسيله»: «قامَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ». وعند السراج: «فقالَ: صَدَقَ ذُو
اليَدَيْنِ، صَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ، صَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ» قال: سلمة بن علقمة
قلت لمحمد: فالتشهد، قال: لم أسمع في التشهد شيئًا وأحب إلي أن أتشهد. وفي
«الكامل» لابن عدي: أخبرنا أبو يعلى، حدَّثَنَا ابن معين، حَدَّثَنا سعيد بن مريم،
حَدَّثَنا ليث وابن وهب عن عبد الله المعمري عن نافع عن ابن عمر: «أنَّ رسولَ الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يسجدْ يومَ ذي اليدين سجدتي السهو». قال: وكان ابن
شهاب يقول إذا عرف الرجل ما نسي من صلاته فأتمها فليس عليه سجدتا السهو لهذا
الحديث، وقال مسلم في «التمييز»: قول ابن شهاب إنه لم يسجد يوم ذي اليدين خطأ وغلط
وقد ثبت أنه سجد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سجدتي السهو من رواية الثقات ابن
سيرين وغيره، هذا ابن سيرين قد قال: لم يتشهد، وابن عمر قال: لم يسجد، فينظر.
وعند السراج في لفظ: «ما قَصُرَتْ ولا علمتُ أني نسيتُ، فقالَ: بلى يا رسول الله»
وفي آخره قال أبو قلابة وليس مذكورًا في السند: «ثم سلَّمَ».
وفي حديث هشام وابن عون عن محمد عن أبي هريرة: «ما نسيتُ ولا قصرتْ، أكذاكَ؟
قالُوا: نعم».
وفي حديث ابن عون: «فرجعَ فأتمَّ ما بَقِيَ منْ صلاتِهِ، ثُمَّ سجدَ فأطالَ، ثُمَّ
رفعَ، ثُمَّ سجدَ، ثُمَّ رفع رأسه وسلَّمَ وانصرف» رواه عن يعقوب بن إبراهيم،
حَدَّثَنا يزيد بن هارون عنهما، وفي رواية أيوب عن محمد: «أَكْبَرُ ظَنِّي
أَنَّهَا الظُّهْرُ». وكذا ذكره البخاري في الأدب.
%ج 1 ص 194%
(1/356)
وفي «الموطأ»: «العصر». ولفظ محمد بن عمرو: وعن أبي سلمة عن أبي هريرة: «كلُّ ذلكَ لم يكنْ، قال: بلى والذي أنزلَ عليكَ الكتابَ». وفي حديث أيوب عن عبد الكريم أبي أمية عن محمد بن أبي هريرة: «أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يَوْمَ ذِي الشِّمَالَيْنِ بَعْدَ التَّسْلِيْمِ». وفي حديث ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة الحديثَ وفيه: «فقَاَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذَو الشِّمَالَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ» الحديثَ وفيه: «ثُمَّ انْصَرَفَ وَلمْ يَسْجُدْ للسَّهْوِ» وفي لفظ: «سَجَدَ سَجْدَتَي الوَهْمِ».
(1/357)
وفي
حديث أبي سلمة: «بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الظُّهْرَ فَسَلَّمَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِيْ سُلَيْمٍ:
يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّمَا صَلَّيْت، فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُوْلُ ذُو
اليَدَيْنِ» الحديثَ وفي رواية أبي سفيان مولى أبي أحمد عن أبي هريرة: «سَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ». وفي رواية ابن عمر عند أبي داود بسند صحيح:
«أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى فَسَهَا فَسَلَّمَ فِي
الرَّكْعَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ» الحديثَ وفي
حديث خالد عِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران: «سَلَّمَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي ثَلاَثِ رَكَعَاتٍ مِنَ الظُّهْرِ
ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَقَامَ رَجُلٌ بَسِيْطُ اليَدَيْنِ». وفي لفظ:
«فِي يَدِهِ طُولٌ فَقَالَ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَخَرَجَ
مُغْضَبًا، فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي كَانَ تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ
سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، ثُمَّ سَلَّمَ». وعند السراج: «صَلَّى الْعَصْرَ،
فَسَلَّمَ مِنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجَرَةَ، فَقَامَ إِلَيْهِ
رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: الْخِرْبَاقُ، وكَانَ طَوِيلَ الْيَدَيْنِ» الحديثَ وفيه:
«فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ -أو قال ثَوْبَهُ- حَتَّى. انْتَهَى إِلَى النَّاسِ،
فَقَالَ: أكما يقول هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ» الحديثَ.
وفي «مسندِ عبد الرزاق أَبِي قُرَّةَ السَّكْسَكِيِّ» ذكر مالك عن داود ابن حصين
عن أبي سفيان مولى أبي أحمد سمعت أبا هريرة يقول: «صَلَّىَ بِنَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاةَ العَصْرَ فَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ»
الحديثَ.
(1/358)
وفي
«مصنف ابن أبي شيبة»: حَدَّثَنا شَبَابَةُ عن ليث عن يزيد عن عمران بن أنس عن أبي
سلمة عن أبي هريرة: «أن النَبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى يَوْمًا
فَسَلَّمَ منْ رَكْعَتَيْنِ، فَأَدْرَكَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ، فَقَالَ:
أَنَقَصَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟» الحديثَ.
وأخبرنا ابن فضيل عن حصين عن عكرمة: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بِالنَّاسِ ثَلَاثَ رَكْعَاتٍ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ
الْقَوْمِ: حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالَ: لَمْ
تُصَلِّ إِلَّا ثَلَاثًا، فَقَالَ: «أَكَذَاكَ يَا ذَا الْيَدَيْنِ؟» وَكَانَ
يُسَمَّى أَيْضًا ذَا الشِّمَالَيْنِ قَالَ: نَعَمْ. الحديثَ
وفي «مسند عبد الرزاق» عن معمر وابن عيينة عن أيوب عن محمد عن عمران عن النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «التَّسْلِيْمُ بَعْدَ سَجْدَتَي السَّهْوِ».
وعند الدَّارَقُطْني رواه عبد الله بن علي الغامدي
%ج 1 ص 195%
عن محمد الكريم بن أبي المخارق عن محمد عن أبي هريرة وعمران عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، وروينا في «معجم الإسماعيلي» من حديث الأشعث صَاحِبِ
التَّوَابِيتِ عن ابن سيرين: «فَأَتَاهُ ذُو الْيَدَيْنِ -أَوْ ذُو الْثَدْيَيْنِ-
فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَذَهَبَ
بِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْقَوْمُ مَعَهُ، فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو
الْيَدَيْنِ هذَا؟ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، قَالُوا:
نَعَمْ، فَقَامَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ،
وسَجَدَ سُجُودَ السَّهْوِ ثُمَّ سَلَّمَ».
رواه عن أبي أحمد بن عبيد الله، حَدَّثَنا محمد بن بكار، حَدَّثَنا خَدِيجُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنا أبو إسحاق عنه.
(1/359)
وفي
«سؤالات الكوسج» عن يحيى سمع ابن سيرين من عمران، وفي «صحيح مسلم» عنه حدثني عمران
فذكر حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فينظر في قوله في «الصحيح»:
«نُبِّئْتُ أنَّ عمرانَ قالَ: ثمَّ سلَّمَ».
وفي كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا سفيان عن ابن أبي لبيد عن أبي سلمة
عن أبي هريرة: «فَنَظَر رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَمِيْنًا
وَشِمَالًا وَقَالَ: مَا يَقُوْلُ ذُو اليَدَيْنِ؟» والذي يظهر من نفس البخاري أن
حديث أبي هريرة وعمران واحدٌ لقوله أثر حديث أبي هريرة فربما سألوه يعني محمدًا ثم
سلم قال: «نُبِّئْتُ أنَّ عمرانَ قالَ: ثمَّ سلَّمَ». والذي يقوله ابن حبان أنه
غيره قال: لأن في حديث أبي هريرة الذي أعلمَ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذو
اليدين، وفي خبر عمران الخِرْبَاق، وفي خبر معاوية بن خديج طلحة بن عبيد الله يعني
بذلك المخرج في «صحيحه» قال: وخبر الخرباق سلم من الركعة الثالثة، وذي اليدين من ركعتين،
وخبر معاوية سلم من الركعتين من صلاة المغرب، فدل أنها ثلاثة أحوال متباينة في
ثلاث صلوات لا واحدة. انتهى.
(1/360)
قد
أسلفنا أن في خبر عمران الْمُعَلِّم له رجل في يديه طول وصف بما وصف به المعلم في
حديث أبي هريرة وأيضًا فقد قال غير واحد إن اسم ذي اليدين الخِرْبَاق فلا مغايرة
بينهما، إذ هما واحد وهو حجازي ينزل بذي خُشْبٍ من ناحية المدينة وكنَّاه الطبري
أبا الْعُرْيَانِ، وزعم أبو عُمَر أن قول محمد بن سيرين في هذا الحديث حَدَّثَنِي
أَبُو الْعُرْيَانِ يريد به أبا هريرة، وفي قوله إن الخرباق غير ذي اليدين ثم لما
ذكر ذا اليدين قال: ويقال له أيضًا: ذو الشمالين الخزاعي، وقد أنكر ذلك أبو عمر
وقال: ذو الشمالين الخزاعي قتل يوم بدر، وذو اليدين عاش حتى روى عنه المتأخرون من
التابعين، وشهد أبو هريرة يوم ذي اليدين وصحَّ عنه فيه: صلَّى بنا رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان إسلام أبي هريرة عام خيبر بعد بدر بأعوام، وكان
الزهري يقول على علمه بالمغازي إنه ذو الشمالين المقتول ببدر وإن
%ج 1 ص 196%
قصة ذي اليدين كانت قبل بدر ثم أحكمت بعد.
(1/361)
قال
أبو عمر: وذلك وهم منه عند أكثر العلماء، وقد ذكر أن أبا موسى الزَّمِن وبندارًا
وَعَلِيَّ بْنِ بَحْرِ بْنِ بَرِّيٍّ رووا عن مَعْدِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ وكان ثقة
فاضلًا صاحب الطعام، حَدَّثَنا شعيبُ بْنُ مُطَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ مُطَيْرٍ،
ومُطَيْرٌ حَاضِرٌ تُصَدِّقُهُ مَقَالَتَهُ قَالَ: يَا أَبَتَاهُ أَلَيْسَ
أَخْبَرْتَنَا أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ لَقِيَكَ بِذِي خُشُبٍ، فَأَخْبَرَكَ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إِحْدَى صَلَاتَيِ
الْعَشِيِّ -وَهِيَ الْظُهْرُ- فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وفيه: «مَا قَصُرَتِ
الصَّلَاةُ، وَلَا نَسِيتُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ:
مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالَا: صَدَقَ، فَرَجَعَ وَثَابَ النَّاسُ،
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» الحديثَ. قال: ومطير متأخر لم يدرك زمن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ.
وقالَ السُّهَيلي: لم يروه واحد بهذا اللفظ -يعني فقام ذو الشمالين رجل من بني
زُهْرَةَ فقال: أَقَصُرَتِ الصلاةُ الحديثَ- إلا ابن شهاب وهو غلط منه عند أهل
الحديث، وإنما هو ذو اليدين السُّلَمي، وابنه الخرباق ومات في خلافة معاوية، قال:
ولما رأى المبرد حديث الزهري هذا قال: هو ذو الشمالين وذو اليدين كان يسمى بهما جميعًا،
وجهل ما قاله أهل الحديث والسير انتهى كلاهما.
وقد قاله قبلهما أبو داود ومسلم بن الحجاج في آخرين.
وقد رأينا للزهري في قوله متابعين منهم المقبري عن أبي هريرة، وعبد الكريم عن ابن
سيرين وقد تقدما.
(1/362)
وروينا
في كتاب «الصلاة» لجَعْفَر بن مُحَمَّد الْفِرْيَابيِّ: حَدَّثَنا عفان عن أبي
شيبة، حَدَّثَنا شبابة بن سوار، حَدَّثَنا ليث بن سعد عن يزيد عن عمران بن أبي أنس
عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «أنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى
يَوْمًا فَسَلَّمَ في رَكْعَتَيْنِ فَأَدْرَكَهُ ذُو الشِّمَالَيْنِ» الحديثَ.
قال: وحَدَّثَنَا أبو مروان العثماني، حَدَّثَنا عبد العزيز ابن أبي حازم عن
العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: «قَامَ النَبِيُّ يُصَلِّي الظُهْرَ وَالعَصْرَ
فَصَّلَى بِنَا رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إِلَيْهِ ذُو الشِّمَالَيْنِ ... » الحديثَ.
وقاله أيضًا أبو مَعْشَرٍ في كتاب «المغازي» والواقدي فيما حكاه ابن سعد وهشام بن
محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وبعدهم جماعة من المتأخرين منهم ابن دريد، وقال
الشيرازي في «الألقاب» تابع الزهري غيره.
وروى أبو عمر حديثًا من طريق ابن وهب عن العمري عن نافع عن ابن عمر أنَّ إسلام أبي
هريرة كان بعد موت ذي اليدين، وأما الحديث الذي استدلَّا به على تعمير ذي اليدين
فمداره على معديِّ بن سليمان، وقد قال فيه ابن حِبَّان: يروي المقلوبات عن الثقات
والملزقات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
وقال الترمذي في حديثه هذا: لا يصح.
%ج 1 ص 197%
وقال أبو أحمد العسكري: اخْتُلِفَ في اسم الرجل الذي قال أقصرت الصلاة، فروى أيوب
وحبيب بن الشهيد وحميد الطويل ويونس بن عبيد وهشام بن حسان عن ابن سيرين فقالوا:
ذو اليدين.
وقال أبو هلال عن ابن سيرين: ذو اليدين أو ذو الثديين. انتهى.
كذا قاله ضمضم بن جوسٍ عن أبي هريرة فيما ذكره الفريابي في كتاب «الصلاة» قال
العسكري: وقيل ذو الزوائد، وقال بعضهم: ذو الأصابع.
(1/363)
وأما
قول أبي عمر: وروى حديث ذي اليدين عبد الله بن عمر ومعاوية بن خديج وعمران وابن
مسعدة صاحب الجيوش وكلهم لم يحفظ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولا صحبه
إلا متأخرًا ففيه نظرٌ؛ لأن حديث معاوية غير حديث ذي اليدين قطعًا على ما تقدم،
وأما قوله: صح عن أبي هريرة أنه قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، لقائل أن يقول معناه: صلى بالمسلمين كما قالوا في قول الحسن حَدَّثَنا
أبو هريرة -يعني أهل بلدنا- ويتجه على هذا ما ذهب إليه الحنفيون من أنه منسوخ
بحديث زيد ين أرقم وغيره في النهي عن الكلام في السلام سهوًا أو عمدًا.
قال أبو عمر: وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطرابًا عظيمًا أوجب عند أهل
العلم بالنقل تركه من روايته خاصة، ولا أعلم أحدًا من أهل العلم بالحديث المصنفين
فيه عوَّل على حديثه في هذا، وكلهم تركه لاضطرابه فيه وأنه لم يتم له إسنادًا وإن
كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن فالغلط لا يسلم منه أحد والكمال ليس لمخلوق.
انتهى.
لقائل أن يقول: ابن شهاب لم يضطرب فيه كاضطراب ابن سيرين وغيره عن أبي هريرة على
ما قدمناه، وكأنه على قوله إنه ذو الشمالين، فإن كان ذاك مراده فقد تقدم من قاله
غيره فلا اضطراب إذًا في هذين، فإن كان غيرهما فالله تعالى أعلم.
وقوله: لم يعول عليه أحد من المصنفين، إن كان مراده مالكًا
فما الكَرخُ الدُّنيا ولا الناسُ قاسمُ
وإن أراد غيره جملة فغير جيد؛ لأنا لم نَسُقْ ألفاظ حديثه إلا من عند من صنَّفَها.
وعند الفريابي بسند صحيح عن ابن عمر: «أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ فَسَهَا فَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذَوِي اليَدَيْنِ ... » الحديثَ.
وقوله: (لَمْ أَنْسَ ولَمْ تَقْصُرْ) اعتذر عنه بوجوه:
(1/364)
أحدها:
لم يكن للقصر والنسيان معًا وكذلك كان يؤيده ما في أبي داود: «وكلَّ ذلك لم أفعل»
وبهذا قال ذو اليدين في مسلم قد كان بعض ذلك.
الثاني: المراد الإخبار عن اعتقاد قلبه وظنه وإن كان مقدر النطق به وإن كان
محذوفًا فخبره موافق
%ج 1 ص 198%
لما في نفسه، قال النووي: وهو الصواب، ومعناه: لم يكن لا ذاك ولا ذا في ظني، بل في
ظني أني كملت الصلاة أربعًا، ويدل على صحة هذا التأويل قوله في الصحيح: (لَمْ
أَنْسَ ولَمْ تَقْصُرْ) فنفى الأمرين.
الثالث: لم أنس يرجع إلى السلام أي لم أنسه فيه، إنما سلمت قصدًا ولم أنسه في نفس
السلام وإنما سهوت عن العدد، قَالَ القُرْطُبِيُّ: وهذا فاسد لأنه حينئذ لا يكون
جوابًا عما سُئِلَ عنه.
الرابع: الفرق بين النسيان والسهو، فقيل كان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يسهو ولا
ينسى، ولذلك نفى عن نفسه النسيان؛ لأن في غفلة ولم يغفل قاله عياض: قال شيخنا
القشيري رحمه الله تعالى يبعد الفرق بينهما في استعمال اللغة وكأنه يتلوَّحُ من
اللفظ على أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو عدم الذكر لأمر
يتعلق بها ويكون النسيان الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر، والسهو عدم
الذكر لا لأجل الإعراض.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: لا نسلم الفرق، ولئن سُلِّمَ فقد أضاف صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ النسيان إلى نفسه في غير ما موضع بقوله: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى
كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيْتُ فَذَكِّرُوْنِي». قال عياض: إنما أنكر صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نسيت كذا ولكنه نُسِّيَ.
(1/365)
وقد
قال أيضًا: لا أنسى على النفي ولكن أُنَسَّى، وقد شك بعض الرواة في روايته فقال:
«أَنْسَى أو أُنسَّى» وإنَّ (أو) هنا للشك أو للتقسيم، وإن هذا يكون منه مرة من
قبل شغله، ومرة يُغْلَبُ ويُجْبَرُ عليه لِيُسَنَّ، فلما سأله السائل يذكره أنكره،
وقال: (كلُّ ذلِكَ لم يَكُنْ) وفي الأخرى: (لَمْ أَنْسَ ولَمْ تَقْصُرْ) ولذلك لم
أنس حقيقة من قبل نفسي، ولكن الله تعالى أنساني لِأَسُنَّ.
قال القشيريُّ: الذي أعرفه بئسما لأحدكم أن يقول نَسيتُ أنه كذا، لا كما ذكره
القاضي نَسيت كذا، قال وهذا نهي عن إضافته إلى كل شيء فإن الآية من كلام رب
العالمين، ويقبح للمسلم أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى وليس هذا بموجود
في كل ما يُنْسَبُ إليه النسيان فلا يلزم مساواة غير الآية بها قال تعالى. ذكر بعض
المتأخرين أن التحقيق في الجواب أن العصمة في الإخبار عن الله تعالى، وأما إخباره
عن الأمور الوجدانية فيجوز فيها النسيان.
ثم نبَّه الخروج من الصلاة وقطعها إذا كانت بناء على ظن التمام لا يوجب بطلانها،
وأن السلام سهو لا يبطلها، وقَالَ الدَّاودِيُّ: هَبْه أنه صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ رجع إلى الشك بعد يقينه حين قيل له ما قيل فسأل، ولو أيقن قبل السؤال لم
يسأل، ويحتمل حين أخبر به أنه رجع إلى يقينهم ولم يتذكر، أو تذكر حين أُخْبِرَ،
وفيه دلالة على
%ج 1 ص 199%
أن الإمام يرجع إلى ما أجمع عليه من رآه، ولا يرجع إلى قول غيرهم إلا أن يصح عنده.
(1/366)
فأما
كلام الصحابة فقد تقدم أنه كان إشارة، وأكثر الأحاديث: (قالوا: نعم) ويحتمل أن
يجمع بينهما بأن بعضهم أومأ، وبعضهم تكلم، ثم إذا كان كلامًا لا إشارة كان إجابة
للرسول صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهي واجبة، قال جل وعز: {اسْتَجِيبُوا لِلهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] قال بعض المالكية: لا يلزم أن
الإجابة تكون بالقول بل يكفي فيها الإيماء، وعلى تقدير أن يجب بالقول لا يلزم منه
الحكم بصحة الصلاة لجواز أن تجب الإجابة ويلزمهم الاستئناف، أو يكون النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ معتقدًا للتمام والصحابة تكلموا مجوزين النسخ، يُضَعِّفُ هذا
قولُ ذي الثديين: قد كان بعض ذلك، وقولهم: نعم بعد قوله: (أَصَدَقَ ذو اليَدَيْنِ)
فقد تكلموا بعد العلم بعدم النسخ، وقد صلى ابن الزبير فسلم في ركعتين من المغرب ثم
نهض فسبح القوم فقال: ما شأنكم؟! قال: فصلى ما بقي وسجد سجدتين فذكر ذلك لابن عباس
فقال: ما أماط عن سنة نبيه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. رواه أحمد.
قَالَ الدَّاودِيُّ: عارض قوم بمعارضة غير صحيحة بقولهم إنما تكلموا في الصلاة؛
لأنهم ظنوا أنها قصرت وهذا فاسد؛ لأنه هو صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ علم أنها لم
تقصر فتكلم وكلفهم أن يكلموه، وقال آخرون: لا يكون ذلك إلا إذا سلَّمَ في شفعٍ كما
كانت القصة، وليس هذا بشيء؛ لأنه لو رُوعي ذلك لروعيت تلك الصلاة وذلك الوقت،
وإنما كانت الأشياء تأتي في الشيء فتشتمل على ما في معناه.
(1/367)
وفي
قوله: (كَمَا يقولُ ذو اليَدَيْنِ) قَالَ السَّفَاقُسيُّ: يحتمل أن يكون معتقدًا
كمال الصلاة بدليل قوله: (كلُّ ذلكَ لمْ يكنْ) وأنه لو كان شاكًّا لأتمَّ ولصمت،
فلما أخبروه طرأ عليه الشك، وقد احتجَّ به بعضهم على جواز الترجيح بكثرة العدد،
قَالَ القُرْطُبِيُّ: ولا حجة فيه؛ لأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما استكشف
لما وقع له من التوقف في خبره حيث انفرد بالخبر عن ذلك الجمع الكثير وكلهم دواعيهم
متوفرة وحاجتهم داعية الى الاستكشاف عما وقع فوقعت الريبة في خبر المخبر لهذا،
وجوَّزَ أن يكون الغلط والسهو منه لا لأنها شهادة.
وفيه إشكال على مذهب الشافعي؛ لأن عندهم أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته
إلى قول غيره إمامًا كان أو مأمومًا ولا يعمل إلا على يقين نفسه.
ويجاب: بأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سألهم ليتذكر فلما ذكروه تذكر فعلم
السهو فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قولهم ولو جاز لِتَرْكِ يقين نفسه والرجوع
إلى قول غيره لرجع ذو اليدين حين قال له سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ:
%ج 1 ص 200%
(لم أَنْسَ ولمْ تَقْصُر) قال ابن القصَّارِ: اختلف الرواة عن مالك في هذا فمرة
قال يرجع إلى قولهم وهو قول أبي حنيفة لأنه قال يبني على غالب ظنه، وقال مرة أخرى
يعمل على يقينه ولا يرجع إلى قولهم كقول الشافعي، ثم الأفعال التي ليست من جنس
أفعال الصلاة إذا وقعت سهوًا فإما أن تكون قليلة فلم تبطل الصلاة، أو كثيرة قال في
«شرح المهذب»: زعم المتولي أنها لا تبطل لهذا الحديث، والصحيح أنها تبطل، وهو مشكل
بهذا الحديث.
(1/368)
قوله:
(فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى ما تركَ) فيه دليل على جواز البناء على الصلاة بعد السلام
سهوًا والجمهور عليه، وقال سحنون: لا تفعل ذلك إلا إذا سلم من اثنتين سهوًا كما في
الحديث، ثم هل يجوز البناء إذا طال الزمن أم يخصص بالقرب؟ فقال بعضهم: ما لم ينتقض
وضوءه، روي ذلك عن ربيعة ومالك وليس مشهورًا عنه مستدلين بهذا الحديث، ومنهم من
اعتبر العرف في الشيء القريب، ومنهم من قال مقدار ركعة من الصلاة وكلها مذكورة في
مذهب الشافعي.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: ولم يُبَيِّنْ في هذا الحديث هل رجع صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ للصلاة بتكبيرة أولا؟ وهل رجع إلى حال الجلوس أولا؟ فالمشهور أنه يرجع
بتكبير، وهل ذلك التكبير للإحرام؟ فإن كان للإحرام فقيل: هو للإشعار برجوعه أو هو
تكبير القيام إلى الثالثة بعد الجلوس قولان، وإذا قلنا تكبير الإحرام فهل يكبر
قائمًا كالإحرام الأول أو جالسًا؛ لأنها الحالة التي فارق الصلاة عليها؟ قولان.
ثم إذا قلنا يحرم قائمًا فهل يجلس بعد ذلك القيام ليأتي بالنهضة في الصلاة؟ قاله
ابن القاسم، أو لا يجلس لأنها لنهضة غير مقصودة لنفسها وقد فات محلها فلا يعود
إليها؟ رواه ابن نافع وقال به، والاختلاف في السلام يأتي في سجود السهو آخر كتاب
الصلاة.
وقوله: (أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ) يجوز أن يجعل الفعل لها، أي: أنها صارت قصيرة،
ويجوز أن يبين الفعل، أي: أن الله تعالى قصرها.
وفي حديث معاوية بن خُدَيْجٍ: (صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ المغربَ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ: -يَعْنِيْ طَلْحَة بْنُ عُبَيْدِ اللهِ- إِنَّكَ سَهَوْتَ فَسَلَّمْتَ فِي
رَكْعَتَيْنِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاة ثمَّ أتمَّ تِلْكَ
الرَّكْعَةَ». قال الحاكم صحيح الإسناد.
(بَابُ إِذَا بَكَى الإِمَامُ فِي الصَّلاَةِ)
(1/369)
وَقَالَ
عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّادٍ، سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ، وَأَنَا فِي آخِرِ
الصُّفُوفِ يَقْرَأُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف:
86]، قَالَ البَيْهَقِيُّ: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن وأبو سعيد بن أبي عمرو،
حَدَّثَنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حَدَّثَنا محمد بن إسحاق، حَدَّثَنا حجاج
قال: قال ابن جُرَيْجٍ: سمعتُ ابن أبي مُلَيْكَةَ يقول أخبرني علقمة بن وقاصٍ قال:
«كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقْرَأُ فِي الْعَتَمَةِ بسُورَةَ يُوسُفَ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 201%
وَأَنَا فِي مُؤَخَّرِ الصَّفِّ حَتَّى إِذَا جاءَ ذِكْرُ يُوسُفَ سَمِعْتُ
نَشِيجَهُ، مِنْ مُؤَخَّرِ الصُّفُوفِ».
وعند ابن المنذر عن عبيد بن عمير قال: «صَلَّىَ عُمَرُ الفَجْرَ فَافْتَتَحَ
يُوْسُفَ فَقَرَأَ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:
84] فَبَكَى حَتَّى انْقَطَعَ ثُمَّ رَجَعَ».
وفي «سنن أبي داود» عن عبد الله بن الشِّخِّيْرِ: «رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ
الْمِرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ». وعند النسائي: «وَلِجَوْفِهِ أَزِيْزٌ» الحديثَ.
وفي «العلل» لأحمد رواية عبد الله قال أبي: لم يقل أحد من البكاء إلا يزيد يعني
ابن أبي زياد، وفي «علل الخلال» قال يحيى بن معين: قد روى حَمْزَةُ الزَّيَّات،
عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنَّهُ
قَرَأَ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل: 13] فَصَعِقَ، قال
يحيى: وحُمْران وأخوه عبد الملك ليسا بشيء.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: أجاز العلماء البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى وخشيته.
واختلفوا في الأنين والتأوه:
(1/370)
قال
ابن المبارك: إذا كان غالبًا فلا بأس، وعند أبي حنيفة إذا ارتفع تأوُّهُه أو بكاؤه
فإن كان من ذكر الجنة والنار لم يقطعها، وإن كان من وجع أو مصيبة قطعها، وعن
الشافعي وأبي ثور لا بأس به إلا أن يكون كلامًا مفهومًا، وعن الشعبي والنخعي يعيد
صلاته، وعن مالك: قَرَأَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ فِي الصَّلاَةِ فَلَمَّا
بَلَغَ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ
فَسَلَّمَ ثُمَّ قَرَأَ فَنَابَهُ ذَلِكَ فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}
[الطارق: 1]».
حديث الباب تقدم في مرض النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وأما النَّشِيْجُ: فذكر أبو المعالي في «المنتهى» قال: نشج الباكي ينشِج نشيجًا
إذا غصَّ بالبكاء في حلقه أو تردد في صدره ولم ينتحب، وكلُّ صوتٍ بدا كالنفخة فهو
نشيج، وفي «الْمُحْكَم»: النشيج أشد البكاء، وقيل: هي فاقة يرتفع لها النَّفَسُ
كالفواق، وقال أبو عبيد: النشيج هو مثل بكاء الصبي أو ردد صوته في صدره ولم يخرجه،
وفي «مجموع الغرائب»: هو صوت معه توجُّعٌ وتحزُّنٌ.
(بَابُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا)
717 - حَدَّثَنا أَبُو الوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ، حَدَّثَنا
شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي
الجَعْدِ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ
اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ». [خ 717]
(1/371)
عِنْدَ
مُسْلِمٍ من حديث سِمَاك عنه: «كَانَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا
يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، خَرَجَ
يَوْمًا فَقَامَ، حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ،
فَقَالَ: عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ» الحديثَ.
وعند أبي داود: «كَانَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا إِذَا قُمْنَا إِلَى الصَّلَاةِ
فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ». وفي لفظ: «أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ،
فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ -ثَلَاثًا- وَاللهِ لَتُقِيمُنَّ
%ج 1 ص 202%
صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، قَالَ: فَرَأَيْتُ
الرَّجُلَ يلزقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ
صَاحِبِهِ وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ».
وعند ابن ماجه: «كَانَ يُسَوِّي الصَّفَّ، حَتَّى يَجْعَلَهُ مِثْلَ الرُّمْحِ
أَوِ الْقِدْحِ قَالَ: فَرَأَى صَدْرَ رَجُلٍ نَاتِئًا، فَقَالَ: ... » الحديثَ.
وعند أحمد: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ
الْأَوَّلِ».
718 – حَدَّثَنا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ
العَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ:
«أَقِيْمُوْا الصُّفُوْفَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ خَلْفَ ظَهْرِيْ». [خ 718]
وفي باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف: «أُقِيْمَتِ الصلاةُ فَأَقْبَلَ
عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا؛ فَإِنِّي
أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي». وفي باب إلزاق المنكب بالمنكب: «فَكَانَ
أَحَدُنَا يلْزقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ».
(1/372)
وعند
النسائي: «كَانَ يَقُولُ: اسْتَوُوا، اسْتَوُوا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،
إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِي، كَمَا أَرَاكُمْ بَيْنَ يَدَيَّ».
وعند أبي داود: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَامَ
إِلَى الصَّلَاةِ أَخَذَ هَذَا العُوْدَ وَأَشَارَ إِلَى عُوْدٍ بِيَمِينِهِ ثُمَّ
الْتَفَتَ، فَقَالَ: اعْتَدِلُوا سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ أَخَذَهُ
بِيَسَارِهِ، فَقَالَ: اعْتَدِلُوا سَوُّوا صُفُوفَكُمْ».
وفي رواية: «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهَا وَحَاذُوا الْأَعْنَاقَ،
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَرَى الشَّيْاطَينَ تَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ
الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ»، وفي لفظٍ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ،
ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ».
وعند السراجِ من حديث شعبة قال قتادة: قال أنس: «إِنَّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ
إِقَامَةَ الصَّفِّ» أو كما قال شعبة: لم يسمعه قتادة من أنس، وفي لفظٍ: «مِنْ
تَمَامِ الصَّلاَةِ».
وعند أحمد عن أبي سعيد من جملة حديث: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاعْدِلُوْا
صُفُوْفَكُمْ وَأَقِيمُوهَا وَسُدُّوا الْفُرَجَ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ
ظَهْرِي، وَإِنَّ خَيْرَ الصُّفُوفِ صُفُوفِ الرِّجَالِ الْمُقَدَّمُ، وَشَرُّهَا
الْمُؤَخَّرُ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ الْمُؤَخَّرُ، وَشَرُّهَا
الْمُقَدَّمُ». وفي «صحيح ابن حبان» عن البراء بن عازب: «كَانَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ
يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا وَيَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ».
(1/373)
وفي
لفظٍ: «فَنَمْسَحُ عَوَاتِقَنَا وَصُدُوْرَنَا». وعند السراج: «مَنَاكِبَنَا أوْ
صُدُوْرَنَا». وفي لفظ: «كَانَ يَأْتِي نَاحِيَةَ الصَّفِّ إِلَى نَاحِيَتِهِ
القُصْوَى، يُسَوِّي بين صُدُورِ القوم، وَمَنَاكِبَهُمْ». وفي لفظ: «يَمْسَحُ
عَوَاتِقَنَا أَوْ قَالَ مَنَاكِبَنَا أَوْ قَالَ صُدُورَنَا وَيَقُولُ: لَا
تَخْتَلِفْ صُدُورُكُمْ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ».
وعند الحاكم: «رُصُّوا الصُّفُوْفَ لَا يَتَخَلَّلْكُمْ مِثْلُ أَوْلَادِ
الْحَذَفِ، قيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ومَا أَوْلَادُ الْحَذَفِ؟ قَالَ: غَنَمٌ
سُودٌ صِغَارٌ تَكُونُ بالْيَمَنِ» وصححه.
وعن أبي مسعر وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَانَ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ
وَيَقُوْلُ: اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي
مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ».
تسوية الصفوف من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض؛
لأن إقامة
%ج 1 ص 203%
(1/374)
الصلاة
فرض وما كان من الفرض فهو فرض، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (فَإِنَّ
تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ). قوله: «أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ
بَيْنَ وُجُوْهِكُمْ) وُعِدَ من لم يُقِمِ الصف بعذاب من جنس ذنبه لاختلافهم في
مقامهم، وقيل: يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب كما يقال: تغير وجه
فلان علي، أي: ظهر لي من وجهه كراهةٌ فيَّ وتغير؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة
في الظواهر، واختلاف الظاهر سبب لاختلاف الباطن، وينبغي للإمام أن يتعهد تسوية
الصفوف فقد كان لعمر وعثمان رجال وكَّلاهم بتسوية الصفوف. وقوله: (فَإِنِّي
أَرَاكُمْ مِنْ وراءِ ظَهْرِي) مذهب أهل السنة أنَّ هذا خاص به صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ انخرقتْ له العادة وخلق له وراءه عينًا، أو يكون الإدراك العيني انخرقت
له العادة فكان يرى به من غير مقابلة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك راجع إلى
العلم.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: الحمل على ظاهره أولى من هذا التأويل، قال أبو الفرج:
وإجلاسه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الشاب من وفد عبد القيس وراء ظهره لِيسنَّ.
وأما حديث: (ارْفَعُوا زِنَاب) يعني زينب بنت أم سلمة لئلا تُدَاس فضعيفٌ، وعلى
تقدير الصحة يكون ذلك أولى وهذا الآخر؛ لأن الفضائل لا تنسخ.
(بَابُ الصَّفِّ الأَوَّلِ)
720 - 721 - تقدَّمَ به الاستفهام في الأذان. [خ 720 - 721]
(بَابٌ إِقَامَةُ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ)
722 - ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور قبل وفيه: (وَأَقِيْمُوا الصَّفَّ فِي
الصَّلاَةِ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ). [خ 722]
723 - وحديث أنس: (فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوْفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ).
والإقامة غير التمام، وكذلك الحسن، ينظر في تبويب البخاري اللَّهمَّ إلا أن تكون
الإقامة مما فسرها ابن حزم فإنها فرض وبنى مذهبه عليها وخالفه غيره والله أعلم. [خ
723]
(1/375)
قال
ابن حزم: صلاة المنفرد خلف الصف وحده باطلة بهذا وبحديث وابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ
الْمُخَرَّج في «صحيح ابن حبان»: وَخَلْفَ الصَّفِّ رَجُلٌ مِنْ حديث عليِّ بن
شَيْبَانَ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «اسْتَقْبِلْ صَلاَتَكَ».
وفي لفظ: «أَعِدْ صَلاَتَكَ فَإِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ».
وحسَّنَه أبو علي الطُّوسي والترمذي من حديث حصين عن هلال بن يساف وأخذ بيدي زياد
بن أبي الجعد فأوقفني على شيخ يقال له وابصة فقال: «صلَّى رجلٌ خلفَ الصفِّ
وحْدَهُ، فَأَمَرهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنْ يُعِيْدَ» قال أبو
عيسى في حديث حصين: ما يدل أن هلالًا أدرك وابصة، واختلف أهل الحديث في هذا فقال
بعضهم: حديث حُصَيْنٍ عن هلال عن زياد عن وابصة
%ج 1 ص 204%
قال ابن حبان: سمع هذا الخبر هلال عن عمرو عن وابصة، وسمعه من زياد عن وابصة
فالطريقان جميعًا محفوظان، ورواه يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن عمه عبيد بن
أبي الجعد عن أبيه زياد وفي هذا دَحْضٌ لقول من زعم أن هلالًا تفرد به، وقال
الشافعي: سمعت بعض أهل العلم بالحديث يذكر أن بعض المحدثين يُدْخِلُ بين هلال
ووابِصَة رجلًا، ومنهم من يرويه عن هلال عن وابصة سمعه منه وسمعت بعض أهل الحديث
منهم كأنه يوهنه بما وصفت.
قَالَ البَيْهَقِيُّ: لم يخرجاه لما حكاه الشافعي من الاختلاف في سنده، ولما في
حديث علي بن شيبان من أن رجاله غير مشهورين، قال الشافعي في موضع آخر: لو ثبت
الحديث لقلت به، وقال الحاكم: إنما لم يخرج الشيخان لوابِصَة في كتابيهما لفساد
الطريق إليه، وقال ابن المنذر: ثبته أحمد وإسحاق.
وقال أبو عمر: فيه اضطراب ولا يثبته جماعة، قال الإشبيلي: غير أبي عمر يقول الحديث
صحيح؛ لأن حُصَيْنًا ثقة وهلالًا مثله وزيادًا كذلك، وقد أسندوه والاختلاف فيه لا
يضره.
(1/376)
وفي
«الأوسط» للطبراني: من حديث ابن أبي خالد عن الشعبي وبكير بن الأخنس بن المعتمر،
ومن حديث عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن عبيد بن الجعد، ومن حديث أبي خالد
الأحمر، والمحاربي عن محمد بن سالم عن سالم بن أبي الجعد عن وابصة: «صلَّى رجلٌ
خلفَ الصَّفِّ».
ومن حديث مالك بن سفيان، حدثنا السَّرِيُّ بن إسماعيل عن الشعبي: أَبْصَرَ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَقَالَ:
«أَيُّهَا المصَلِّي أَلَا تَكُونُ وَصَلْتَ صَفًّا فَدَخَلْتَ مَعَهُمْ
واجْتَرَرْتَ رَجُلًا إِنْ كان ضَاقَ بِكَ الْمَكَانُ، أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّهُ
لَا صَلَاةَ لَكَ» وسئل أبو عبد الله، عن حديث ابن عباس: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ رأى رجلًا صلَّى خلفَ الصفِّ وحده فقال: ... ) الحديثَ. فقال: هذا
حديث منكر أو باطل.
قال الأثرم: قلت له: أي شيء أحسنها إسنادًا، قال: حديث شعبة عن عمرو بن راشد عن
وابصة.
وعند الطبراني في «الأوسط»: من حديث عبد الله بن محمد عن القاسم العبَّادي، حدثنا
يزيد بن هارون، أخبرنا إسحاق عن سعيد بن سعيد عن أبي هريرة: رَأَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَقَالَ:
«أَعْدِ الصَّلاَةَ». وقال: لا يُروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد تفرد به
العبادي.
وروينا عن الخطابي أنه قال: اختلف أهل العلم فيمن صلى خلف الصف وحده:
فقالت طائفة: صلاته فاسدة على ظاهر هذا الحديث، هذا قول النخعي وأحمد وإسحاق.
وحكوا عن أحمد أو عن بعض أصحابه: إذا افتتح صلاته منفردًا خلف الإمام فلم يلحق به
أحد من القوم حتى رفع رأسه من الركوع فإن له صلاة، ومن تلاحق به بعد ذلك
%ج 1 ص 205%
فصلاتهم كلهم فاسدة وإن كانوا مئة أو أكثر.
وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك: صلاة المنفرد جائزة خلف الإمام وتأولوا أمره إياه
بالإعادة على الاستحباب دون الإيجاب.
(1/377)
وفي
حديث أبي بكرة: (وركوعه دونَ الصفِّ) دلالة أن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة؛ لأن
جزءًا من الصلاة إذا جاز على حال الانفراد جاز سائر أجسادها.
وقوله له: (لا تَعُدْ) إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل ولو لم يكن مجزيًا
لأمره بالإعادة، ويدل على ذلك حديث المرأة المصلية خلفه في حديث أنس منفردة وحكم
الرجل والمرأة في هذا واحد. انتهى.
في «الأوسط»: من حديث إسماعيل بن مسلم، حَدَّثَنا يونس بن عبيد عن ثابت عن أنس:
«أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَحْدَهُ
وَوَرَاءَهُ امْرَأَةٌ حَتَّى جَاءَ النَّاسُ بَعْدُ» وقالَ: تفرد به إسماعيل.
ومن حديث ابن جريج عن عطاء سَمِعَ ابْن الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ رُكُوعٌ فَلْيَرْكَعْ حِينَ
يَدْخُلُ، ثُمَّ يَدبُّ رَاكِعًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ
السُّنَّةُ». قَالَ عَطَاءٌ: وَقَدْ رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ ذَلِكَ. قال: ولم يروه عن
ابن جريج إلا ابن وهب تفرد به حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد
وليس لقائل أن يقول: ليس حكم المرأة في هذا كالرجل لحديث عائشة: قَالَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «المَرْأَةُ وَحْدَهَا صَفٌّ» لأنه خبر موضوع
ذكره أبو عمر، وقد أرشد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الآتي وقد تمت الصفوف بأن
يجذب إليه رجلًا يقيمه إلى جنبه، رواه الطبراني في «الأوسط»: من حديث بشر بن
إبراهيم، حَدَّثَنا الحجاج بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس، وقال: لا يروي عن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا بهذا الإسناد تفرد به بشر.
وعند أبي داود: «لِيْنُوْا بِأَيْدِيْ إِخْوَانِكُمْ». وقال أيضًا صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «خِيَارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلَاةِ».
(بَابُ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ)
(1/378)
724
- حَدَّثَنا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنا الفَضْلُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا
سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَدِمَ
المَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا
أَنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: عَنْ
بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، قَدِمَ عَلَيْنَا أَنَسٌ المَدِينَةَ. [خ 724]
بِهَذَا التعليق عن عقبة وصله أبو نعيم الحافظ عن أبي بكر بن مالك عن عبد الله بن
أحمد عن أبيه قال: حَدَّثَنا أبو معاوية ويحيى بن سعيد قالا: حَدَّثَنا عقبة بن
عبيد فذكره، والحديث من أفراد البخاري وليس لبُشَيْر في الكتب الستة عن أنس.
%ج 1 ص 206%
وعن سعيد بن سمعان: «دَخَلَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ مَسْجِدَ بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ:
ثَلَاثٌ كَانَ يَعْمَلُ بِهِنَّ النَّاسُ: كَانَ عليه الصلاة والسلام إِذَا قَامَ
إِلَى الصَّلَاةِ قال: هَكَذَا وَأَشَارَ أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ بِيَدِهِ،
وَلَمْ يُفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَلَمْ يَضُمَّهَا ... » الحديثَ وضعفه.
(1/379)
وفي
«الحاوي» للماوردي: يجعل بطن كل كف إلى الأخرى، وعن سحنون ظهورهما إلى السماء
وبطونهما إلى الأرض، وعن القابسي: تقيمهما مَحْنِيَّيْنِ شيئًا يسيرًا، ونقل
المحاملي عن أصحابهم يستحب تفريق الأصابع وقال الغزالي: لا يتكلف ضمًّا ولا
تفريقًا بل يتركهما على هيئتهما. وقال الرافعي: يفرق تفريقًا وسطًا، وفي «المغني»
لابن قدامة يستحب أن يمدَّ أصابعه ويضم بعضها إلى بعض، وفي «شرح الهداية»: يرفع ثم
يكبر، قال صاحب «المبسوط»: عليه أكثر مشايخنا، وقال خُوَاهَر زَادَهْ: يرفع
مقارنًا للتكبير وبه قال أحمد وهو المشهور من مذهب مالك، وفي «شرح المهذب»: الصحيح
أن يكون ابتداء الرفع مع التكبير وانتهاؤه مع انتهائه، وهو المنصوص، وقيل: يرفع
بلا تكبير ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين، وقيل: يرفع بلا تكرير ثم يرسلهما بعد
فراغ التكبير وهذا مصحح عند الرافعيِّ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وَرَفْعُهُمَا تعبدٌ، وقيل إشارة إلى التوحيد، وقيل: حكمته
أن يراه الأصم فيعلم دخوله في الصلاة، والتكبير لإسماع الأعمى فيعلم بدخوله في
الصلاة، وقيل: انقيادٌ، وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بالكلية إلى
الصلاة. ويكبر مرة واحدة وعند الرافضة ثلاثًا، وقد ورد ذلك في بعضٍ.
(1/380)
وأما
إلى أين يرفع ففي «المحيط»: حذاء أذنيه حتى يحاذي بإبهاميه شحمتهما وبرؤوس أصابعه
فروع أذنيه، كأنه يريد ما روى عبد الجبار بن وائل عن أبيه ولم يسمع منه: «أَنَّهُ
أَبْصَرَه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حِينَ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ
يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ وَحَاذَى بِإِبْهَامَيْهِ
أُذُنَيْهِ، ثُمَّ كَبَّرَ» خرَّجه أبو داود، وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن مالك بن
الحويرث: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ
يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ». وفي لفظ: «حَتَّى يُحَاذِي
بِهِمَا فُرُوْعَ أُذُنَيْهِ». وعن أنس مثله مِنْ عندِ الدَّارَقُطْني وسنده صحيح،
وعن البراء من عند الطحاوي: «يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يكُوْنَ إِبْهَامَاه
قَرِيْبًا مِنْ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ».
وقال الشافعي وأحمد ومالك وإسحاق: حذو منكبيه مستدلين بما نذكره من عند البخاري،
وقَالَ القُرْطُبِيُّ: هذا أصح قولي مالك، ورواية عنه إلى صدره وذهب
%ج 1 ص 207%
ابن حبيب إلى رفعهما إلى حذو أذنيه، ورواية فوق رأسه.
وقال ابن عبد العزيز: روي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الرفع مَدًّا فوق
الأرض مع الرأس، وروي أنه كان يرفعهما حذاء أذنيه، وروي حذو مَنْكِبه، وروي إلى
صدره، وكلها آثارٌ محفوظةٌ مشهورةٌ دالةٌ على التَّوْسِعَةِ.
قال في «شرح المهذب»: وأما قول الغزالي فيه ثلاثة أقوال فلا يُعْرَفُ لغيره، ونقل
عن إمام الحرمين قولين: وفيه غرابةٌ، وقال ابن قدامة: هو مخيرٌ في رفعهما إلى فروع
أذنيه أو أحد منكبيه.
(1/381)
وعند
أبي داود بسند فيه النضر بن كثير القائل فيه النسائي: صالح بن طاوس عن طاوس أنه
كان يرفع يديه حتى يجاوز بهما رأسه، وقال: رأيت ابن عباس يصنعه ولا أعلم إلا أنه
قال: «كانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَصْنَعُهُ» وصححه أبو الحسن ابن القطان
في كتابه «الوهم والإبهام» وخرجه ابن ماجه بلفظ: «كانَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يرفعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تكبيرهِ». وزعم النووي أن هذا الحديث باطلٌ
لا أصل له، وكأنَّه غير جيدٍ؛ لأنَّ أبا داود لا يخرج ما هذا سبيله فينظر.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ
سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإِذَا
كَبَّرَ للرُّكُوْعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا
كَذَلِكَ، وَقَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ،
وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ».
زاد في بابِ إِلَى أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: «وَلاَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ
يَسْجُدُ وَلاَ حِيْنَ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُوْدِ».
وفي حديث عبيد الله في باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين عن نافع أن ابن عمر:
«كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ
رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَفَعَ يَدَيْهِ،
وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ» وَرَفَعَ ذَلِكَ ابنُ عُمَرَ
إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَرَوَاهُ ابنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، وَمُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ مُخْتَصَرًا.
(1/382)
قَالَ
الإِسْمَاعِيْلِيُّ: هذا الباب هو في رفع اليدين إذا قام من الركعتين وليس هذا في
حديث حماد ولا ابن طهمان وإنما في حديثهما حذو منكبيه، ولعلَّ المحدث عن البخاري
دخل له هذا الحرف في هذه الترجمة. انتهى.
أما حديث حماد الذي علَّقَهُ البخاريُّ فرواه البيهقي عن أبي عبد الله الحافظ،
حَدَّثَنا محمد بن يعقوب، حَدَّثَنا محمد بن إسحاق الصَّغَّانيُّ، حَدَّثَنا
عَفَّانُ، حَدَّثَنا حماد بن سلمة، حَدَّثَنا أيوب عن نافع عن ابن عمر: «أَنَّ
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ
رَفَعَ يَدَيْهِ حِذْوَ مِنْكَبَيْهِ
%ج 1 ص 208%
وَإِذَا رَكعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوْعِ». وقَالَ
الدَّارَقُطْني: قيل عن هُدْبَةَ بنِ حمادٍ بن زيد عن أيوب عن نافع، قال: وإنما
أراد حماد بن سلمة، ورواية حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موقوفًا والله
تعالى أعلم.
وأما التعليق عن إبراهيم فقال أيضًا: حَدَّثَنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي،
أَخْبَرنَا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، حَدَّثَنا أحمد بن يوسف السُّلَمِيُّ،
حَدَّثَنا عمرو بن عبد الله بن رزين أبو العباس بن السُّلَمي، حَدَّثَنا إبراهيم
بن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: «أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ
يَدَيْهِ حِيْنَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا اسْتَوَى
قَائِمًا مِنْ رُكُوْعِهِ حِذْوَ مِنْكَبِيْهِ، وَيَقُوْلُ: كَانَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ».
قَالَ الدَّارَقُطْني: ورواه أبو صخرة عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر
موقوفًا.
وقال أبو داود في «السنن»: رواه مالك والليث وأيوب وابن جريج موقوفًا، وقال أبو
داود في «السنن»: وأسنده حماد بن سلمة وحده عن أيوب، لم يذكر أيوب ومالك الرفع إذا
قام من السجدتين، وذكر الليث في حديثه. انتهى.
(1/383)
الدَّارَقُطْني
لما ذكر أن محمد بن عبد الله بن عمر رواه عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا قال عقبة:
ورواه إسماعيل بن أمية والليث -يعني كذلك- ولما ذكر ابن عبد البر حديث سالم المبدأ
بذكره قال: لم يذكر فيه يحيى بن يحيى الأندلسي عن مالك الرفع عند الانحطاط إلى
الركوع، وتابعه جماعة من رواة «الموطأ»: منهم القعنبي وأبو مصعب، وأما ابن
بُكَيْرٍ وابنُ عُفَيْرٍ وابن أبي مريم وابن وهب وابن القاسم ومعن وابن أبي أويس
فذكروا الرفع عند الانحطاط إلى الركوع، وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن مالك، ورواه
جماعة عن الزهري كذلك.
وقال الدَّارَقُطْني في «غرائب مالك» التي ليست في «الموطأ»: لم يذكر مالك في
«الموطأ» رفع اليدين عند التكبير للركوع وذكره في غير «الموطأ» حدث به كذلك جماعة
من الثقات الحفاظ منهم يحيى بنُ سعيدٍ وابنُ مَهْدِي وابنُ وَهْبٍ وجويرية بن
أسماء وابنْ طهمان وابن المبارك وابن القاسم وبِشْرُ بنُ عُمر وعثمان
التِّنِّيْسِي وخالد بن مَخْلَد ومَكْيُّ بن إبراهيم ومحمد بن الحسن وابن أبي أويس
وخارجة بن مصعب وعبد الملك بن زياد الضَّبِي وأبو قُرَّةَ وعبد الله بن نافع
الصائغ ومُطَرِّفُ بنُ عبد الله وقتيبة بن سعيد ثم قال: اتفق هؤلاء وهم عشرون
رجلًا فرووه عن مالك، وذكروا فيه رفع اليدين عند التكبير للركوع، وخالفهم جماعة من
أصحاب «الموطأ» وغيرهم فرووه عن مالك ولم يذكروا فيه الرفع للتكبير للركوع منهم:
معن والقعنبي
%ج 1 ص 209%
والشافعي وأبو مصعب ويحيى بن يحيى وإسحاق الطباع وابن بُكير وابن أبي مريم وروح بن
عبادة والزبيدي وعبد الله بن نافع وكامل بن طلحة والحُنَيْنِيُّ وأحمد بن إسماعيل
وابن وهب في رواية.
قال أبو عمرو: ورواه سائر الرواة عن ابن شهاب والأوزاعي ومعمر والزبيدي وابن إسحاق
وسفيان بن حسين وشُعَيْب وعُقَيْل وابن عيينة ويونس ويحيى الأنصاري وعبد الله بن
عمر فذكروا الرفع عند الركوع.
(1/384)
قال:
وقال جماعة من أهل العلم: إن إسقاط ذكر الرفع عند الانحطاط في هذا إنما أتى من
مالك وهو الذي كان أوهم فيه، قال: وهذا الحديث أحد الأحاديث الأربعة التي رفعها
سالم عن أبيه وأوقفها نافع والقول فيها قول سالم، ولم يلتفت الناس فيها إلى نافع.
انتهى.
قد أسلفنا حديث نافع عن ابن عمر مرفوعًا وإن كان أبو داود قال أثر تخريجه مرفوعًا،
الصحيح قول ابن عمر ليس بمرفوع، ورواه الثقفي عن عبيد الله فأوقفه على ابن عمر
وقال فيه: إذا قام من الركعتين يرفعهما إلى ثَدْيَيْهِ وهذا الصحيح، وقَالَ
الدَّارَقُطْني: رواه بقية عن عبيد الله بن نافع بلفظ: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كانَ إذَا افْتَتَحَ رفعَ يديه لم يزدْ على هذا» ورواه عبد الأعلى
عن عبيد الله مرفوعًا بذكر الرفع عند الافتتاح، وعند الركوع، وعند قوله: سمع الله،
وعند النهوض من الركعتين، وتابعه عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله على هذا اللفظ
إلا أنه لم يرفعه وذكر ألفاظًا ثم قال: وأشبهها بالصواب عن عبيد الله ما قاله عبدُ
الأعلى بنُ عبدِ الأعلى -يعني حديث البخاري- قال: ورواه رزق الله عن يحيى بن سعيد
عن مالك عن نافع عن مالك مرفوعًا ولم يُتَابعْ عليه وكذا رواه عبد الله بن نافع
الصائغ عن خالد بن مخلد وعن الْحُنَيْنِيِّ عن مالك ولا يصح والمحفوظ عن مالك
الوقف، ورواه الجفري عن مالك عن نافع مرفوعًا بلفظٍ: «كانَ يَرْفَعُ فِي كُلِّ
رَفْعٍ وَوَضْعٍ» عن نافع عن عاصم بن كليب عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعًا
وأنه قام في الركعتين فكبر ورفع يديه، ووقفه عن محارب أبو إسحاق الشيباني والنضر
بن محارب وكذا رواه محمد بن زيد عن ابن عمر موقوفًا، ورواه محمد بن عجلان عن نافع
مرفوعًا بلفظ: «كانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذا كَبَّرَ وإذا رفعَ
وإذا سجدَ».
(1/385)
قال
الطبراني في «الأوسط»: لم يروه عن ابن عجلان إلا مَسْلمة بن علي، ورواه أيضًا من
حديث أرطأة بن المنذر عن نافع مرفوعًا، وقال: لم يروه عن أرطأة إلا الجراح بن
مليح، ومن حديث صهيب حَدَّثَنا عبد الله بن محرز عن نافع مرفوعًا: «يرفعُ يديهِ في
كلِّ صلاةٍ وفي الجَنَائِزِ».
%ج 1 ص 210%
وأما حديث أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد أنه لم ير ابن عمر يرفع يديه فزعم
البخاري في رفع اليدين أنه يُحْمَلُ على أنه سَهَا كمثل الناس ألا تراه كان يرمي
من لا يرفع يديه بالحصباء فكيف يترك شيئًا يأمر به غيره، وقد قال يحيى بن معين:
حديث أبي بكر عن حُصَيْن إنما هو توهم لا أصل له، وفي الباب عدة أحاديث حتى قال
أبو عبد الله الحاكم فيما ذكره البيهقي: لا نعلم سنة اتفق على روايتها عن رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الخلفاء الأربعة ثم العشرة المشهود لهم بالجنة
فمن بعدهم من أكابر الصحابة على تفرقهم في البلاد الشاسعة غير هذه السنة، قَالَ
البَيْهَقِيُّ: وهو كما قال أستاذنا رحمه الله تعالى.
وقال القاضي أبو الطيب: روى الرفع عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نيف
وثلاثون صحابيًا رضي الله عنهم منها حديث عاصم بن كُلَيْب عن أبيه عن وائل قال:
«صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ
فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي البَرَانِسِ) خرَّجَهُ الحافظان إمام
الأئمة وابن حبان في «صحيحهما».
وعند مسلم: «رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْتَحَفَ
بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ
أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا، وكَبَّرَ
ورَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ».
(1/386)
ولفظه
عند ابن ماجه: «فَلَمَّا رَكَعَ رَفَعَهُمَا مِثْلَ ذَلِكَ». ولما ذكره أبو عمر في
«التمهيد» قال فيه: وإذا رفع رأسه من السجود رفع يديه فلم يزل يفعله كذلك حتى فرغ
من صلاته.
قال أبو عمر: هذا الحديث حديث ابن عمر كان لا يرفع بين السجدتين، ووائل صحبته
للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أيام قلائل وابن عمر صحبه إلى الوفاة فحديثه
أولى أن يؤخذ به ويُتَّبَع. انتهى.
وقد روى هذه اللفظة أيضًا مالك ابن الحويرث عند أبي داود والنسائي، وقال ابن
القطان: لا معارضة بينهما على الموطن الذي هو ما بين السجدتين، وحديث إبراهيم بن
طهمان عن أبي الزبير عن جابر: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا افْتتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ
يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوْعِ فَعَلَ
مِثْلَ ذَلِكَ وَرَفَعَ إِبْرَاهِيْمُ يَدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ».
قَالَ البَيْهَقِيُّ: هذا إسناد صحيح مُحْتَجٌّ به، وحديث أبي حميد الساعدي في
عشرة من الصحابة وكلهم صَدَّقه في الرفع عند كل خفض ورفعٍ من عِنْدَ مُسْلِمٍ وابن
أبي حاتم وغيرهما، وحديث أبي هريرة من «مسند أبي قرة» بسند صحيح على رسم الشيخين
عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة عنه: «أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ
خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمَكُمْ بِصَلاَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هَذِهِ كَانَتْ صَلاَتَهُ».
%ج 1 ص 211%
(1/387)
وفي
«صحيح ابن خزيمة» نحوه من حديث أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عنه، وقال ابن حاتم في
«العلل»: وسأله ابنه عن حديث صالح عن الأخضر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن
قال: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةُ يُصَلِّيْ بِنَا فَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا
افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ». وَفِيْهِ: «إِنِّي
لَأَشْبَهَكُمْ صَلاَةً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» هذا خطأ إنما
يروي هذا الحديث كان يكبِّر فقط ليس فيه رفع اليدين.
وذكره الإشبيلي من حديث محمد بن مصعب القَرْقَسَاني عن مالك، وقال: الصحيح من
رواية الثقات الحفاظ عن مالك عن ابن شهاب عن أبي هريرة: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيْ
لَهُمْ فَيُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» ولا يعرف غير هذا، وابن مصعب كانت
فيه غفلة. انتهى.
قد أسلفنا من غير رواية ابن مصعب وذكره أبو عمر -أعني حديث ابن مصعب- بلفظ:
«وَكَانَ لاَ يَرْفَعُ اليَدَيْنِ إِلاَّ حِيْنَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ
وَيَقُوْلُ: أَنَا أَشْبَهَكُمْ صَلاَةً بِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ».
وحديث عمر بن الخطاب من عند الدَّارَقُطْني في «غرائب مالك» بسند لا بأس به قال:
«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا
كَبَّرَ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوْعِ». وقال الحاكم:
هو حديث محفوظ. وحديث أبي موسى من عنده أيضًا بسند صحيح من حديث النضر بن شميل
وزيد بن خباب عن حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن حِطَّان بن عبد الله عنه: «هَلْ
أُرِيكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فَكَبَّرَ وَرَفَعَ
يَدَيْهِ لِلرُّكُوعِ, ثُمَّ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ, وَرَفَعَ يَدَيْهِ,
ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا فَاصْنَعُوا وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ».
قال أبو الحسن: رفعه هذان عن حماد ووقفه غيرهما عنه.
(1/388)
وحديث
عبد الله بن مسعود المصحح عند أبي علي الطُّوسي والترمذي: «أَنَا رَأَيْتُ
النَّبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ
وَقِيَامٍ وقعودٍ وَرُكُوْعٍ» وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَفَعَا فيه ما نذكره بعد
عنه، وحديث عطاء بن أبي رباح قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ عَبْدِ اللهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ: صَلَّيْتُ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،
وَقَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: صَلَيَّتُ خَلْفَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَكَعَ
وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ».
قَالَ البَيْهَقِيُّ: رواته ثقات، وعند أبي داود بسند فيه ضعف عن ميمون المكي:
«أَنَّهُ رَأَى ابنَ الزُّبَيْرِ، وَصَلَّى بِهِمْ، يُشِيرُ بِكَفَّيْهِ حِينَ
يَقُومُ، وَحِينَ يَرْكَعُ، وَحِينَ يَسْجُدُ، وَحِينَ يَنْهَضُ لِلقِيَامِ،
فَيَقُومُ فَيُشِيرُ بِيَدَيْهِ، فَسَأَلْتُ ابْن عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنْ
أَحْبَبْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فَاقْتَدِ بِصَلَاةِ ابنِ الزُّبَيْرِ» وحديث مالك بن الحويرث:
%ج 1 ص 212%
«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي
صَلاَتِهِ إِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوْعِ حَتَّى
يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ». أَخْبَرَنَا به ثمانية وعشرون شيخًا قراءة
عليهم قالوا: أَخْبَرَنَا النجيب وأخوه المعين وآخرون على ما هو من في الأصل،
أَخْبَرَنَا ابن كليب، أَخْبَرَنَا ابن بيان الكاتب، أَخْبَرَنَا ابن مخلد، حدثنا
الصَّفَّارُ، حَدَّثَنا الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي قال: حَدَّثَنا خالد بن
الحارث السُّحَيْمِي، حَدَّثَنا سعيد ابن أبي عروبة، أنبأنا قتادة عن نصر بن عاصم
عنه.
(1/389)
وحديث
رَفْدَةَ بن قضاعة القائل فيه هشام بن عمار كان ثقة وتكلم فيه غيره، حَدَّثَنا الأوزاعي،
عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن أبيه عن جده عُمَيْر بن حبيب الليثي: «كَانَ
رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ
تَكْبِيْرَةٍ فِي الصَّلاَةِ المَكْتُوْبَةِ».
قال ابن حبان: هذا خبر مقلوبٌ إسنادُه ومتنه منكرٌ: «ما رفع النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ في كلِّ خفضٍ ورفعٍ قطُّ» وأخبار الزهري عن سالم عن أبيه تصرح بضده
وأنه لم يكن يفعل ذلك بين السجدتين.
وقال ابن عدي: حديث الرفع يعرف بِرَفْدَةَ، وقد روي عن أحمد بن أبي روح البغدادي
نزيل جُرْجَان عن محمد بن مصعب عن الأوزاعي وقال مَهَنَّأٌ: سألت أحمد ويحيى عن
هذا الحديث فقالا: ليس بصحيح ولا يعرف عبيد بن عمير يحدث عن أبيه شيئًا ولا عن
جده، قال يحيى: ولو كان جاء بهذا الحديث رجل معروف مثل هِقْل بن زياد وكان عبسيٌّ،
وحديث علي بن أبي طالب: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قامَ إلى
الصلاةِ المكتوبةِ كَبَّرَ ورفعَ يديهِ حتَّى يكونا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وإذا
أرادَ أنْ يركعَ فعلَ مثلَ ذلك» الحديثَ.
رواه ابن خزيمة في «صحيحه» وفي كتاب «الخلال»: سئل عنه أبو عبد الله فقال: صحيح،
وأشار البزار في «السنن»: إلى صحته، وأصله عند الترمذي مصححًا.
وعند أبي داود: «وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ»
وضعَّفَه الطحاويُّ لهذه الزيادة.
(1/390)
وفي
«سنن البيهقي» بسند ضعيف عَنْ عَلِيٍّ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى
سَيِّدِنَا رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] «قَالَ لِجِبْرِيْلَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: مَا
هَذِهِ النُّحَيْرَةُ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنُحَيْرَةٍ وَلَكِنَّهُ
يَأْمُرُكَ إِذَا تَحَرَّمْتَ بِالصَّلَاةِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ إِذَا كَبَّرْتَ،
وإذا ركعتَ، وَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ فَإِنَّهَا صَلَاتُنَا وَصَلَاةُ
الْمَلَائِكَةِ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: رَفْعُ الْأَيْدِي مِنَ
الِاسْتِكَانَةِ الَّتِي قَالَ الله تعالى: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا
يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76]».
قال البخاري روى أبو بكر النَّهْشَليُّ عن عاصم بن كليب عن أبيه عن علي: «أنَّهُ
رفعَ يديه في أولِ التكبيرة ثم لم يَعُدْ» حديث كليب لم يحفظ
%ج 1 ص 213%
رفع الأيدي، وحديث ابن عمر أصح؛ لأنه شَاهَدَ، فإذا روى رجلان عن محدث قال أحدهما:
رأيته فعل، وقال الآخر: لم أره فعل، فالأخذ -يعني بقول المثبت- أولى.
وقال ابن مهدي: ذكرت للثوريِّ حديث النَّهْشَلي فأنكره.
وحديث أنس: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ
يَدَيْهِ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَإِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسِهُ
مِنَ الرُّكُوْعِ» قَالَ البَيْهَقِيُّ: سنده صحيح وهو لعمري كما قال لأن ابن ماجه
رواه عن بندار، حَدَّثَنا عبد الوهاب، حَدَّثَنا حميد عنه، ولكنْ أبو حاتم قال في
«العلل»: وذكره من حديث محمد بن الصلت عن عبد الوهاب هذا حديث كذب لا أصل له، وابن
الصلت لا بأس به كتب عنه، وقال الطحاوي: هم يزعمون أنه خطأ والحفاظ ينفونه عن أنس.
(1/391)
وقَالَ
الدَّارَقُطْني: لم يروه عن حميد مرفوعًا غير عبد الوهاب والصواب من فعل أنس، وقال
الترمذي في «العلل الكبير»: سألت محمدًا عنه فقال: حَدَّثَنا به محمد بن حوشب
الطائفي، حَدَّثَنا عبد الوهاب، قال محمد: وعبد الوهاب صدوق صاحب كتاب، وقال غير
واحد من أصحاب حميد عن حميد عن أنس فعله، وخرَّجه أبو قُرَّة بسند صحيح عن عبد
الرحمن بن الأصم سمع أنسًا قال: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وَأَبُوْ بَكْرٍ وَعُمَرُ يُتِمُّونَ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَوَاتِ
كُلِّهَا كُلَّمَا خَفَضُوْا وَرَفَعُوا وَإِذَا قَامُوْا مِنَ الجُلُوْسِ
للرَّكْعَتَيْنِ».
وفي «الأوسط»: من حديث ليث، حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال حَدَّثَنا أنس قال:
«صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ، فَكُلُّهُمْ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ» الحديثَ.
وقال: لم يروه عن عبد الرحمن إلا ليث، تفرد به إبراهيم بن محمد الأسلمي، ومن حديث
العَزْرَمي عن قتادة: قُلْتُ لِأَنَسٍ أَرِنَا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فَكَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيْرَةٍ. وقال: لم يروه
عن قتادة إلا العزرمي.
وعند ابن أبي شيبة، حَدَّثَنا هشيم، حَدَّثَنا يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار:
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِيْنَ
يُكَبِّرُ لِلافْتِتَاحِ، وَحِيْنَ يُرِيْدُ أَنْ يَرْكَعَ، وَحِيْنَ يَرْفعُ
رَأْسَهُ».
(1/392)
وروينا
في كتاب «الصلاة» للفضل بن دكين: حَدَّثَنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال،
حدثني من سمع الأعرابي يقول: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوْعِ رَفَعَ يَدَيْهِ
حَتَّى بَلَغَ أَوْ حَاذَىَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ كَأَنّهُمَا مِرْوَحَتَانِ».
وحَدَّثَنَا إسماعيل بن مسلم حدثني الحسن: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَبِّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَلاَ يُجَاوِزُ
أُذُنَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوْعِ رَفَعَ يَدَيْهِ» الحديثَ.
وفي «جامع عبد الرزاق» عن قتادة: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 214%
(1/393)
كَانَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا رَفَعَ وَإِذَا رَكَعَ». قال البخاريُّ: رُوِيَ عن تسعة
عشر نفرًا من الصحابة أنهم كانوا يرفعون أيديهم عند الركوع منهم أبو قتادة وأبو
أُسَيْدٍ ومحمد بن مسلمة وسهل بن سعد وعبد الله بن عمر وابن عباس وأنس وأبو هريرة
وعبد الله بن عَمْرو وعبد الله بن الزبير ووائل بن حجر ومالك بن الحويرث وأبو موسى
الأشعري وأبو حميد الساعدي، قال: وكان الحميديُّ وعلي بن عبد الله ويحيى بن معين
وأحمد وإسحاق يثبتون عامة هذه الأحاديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ويرونها حقًا وهؤلاء أهل زمانهم، ولم يثبت عند أحد منهم في ترك رفع الأيدي عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولا عن أحد من الصحابة أنه لم يرفع يديه، زاد
البيهقي: أبا بكر الصديق وعمر وعليًّا وجابرًا وعقبة بن عامر وزيد بن ثابت وعبد
الله بن جابر البياضي أبا سعيد وأبا عبيدة وابن مسعود وأبي بن كعب وسعد بن أبي
وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والحسين بن علي وسلمان الفارسي وبُرَيْدة
وعمارًا وأبا أمامة وعمير بن قتادة الليثي وأبا مسعود وعائشة وأعرابيًا له صحبة،
زاد ابن حزم: أم الدرداء والنعمان بن عياش وجملة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قال: وروينا أيضًا عن عبد الرحمن بن سابط والحسن وسالم والقاسم وعطاء ومجاهد وابن
سيرين ونافع وقتادة والحسن بن مسلم وابن أبي نجيح وعمرو بن دينار ومكحول والمعتمر
ويحيى القطان وابن مهدي وابن عُلَيَّة وابن المبارك وابن وهب ومحمد بن نصر
المَرْوَزي ومحمد بن جرير الطبري وابن المنذر والربيع ومحمد بن عبد الحكم وابن
نُمَيْر وابن المديني وابن معين وابن هارون في آخرين، وهو رواية أشهب وابن وهب
وأبي المصعب وغيرهم عن مالك أنه كان يفعله ويفتي به.
وفي «تاريخ ابن عساكر» بسند لا يحضرني الآن عن أبي سلمة الأعرج الأفزر القاص قال:
أدركت ألفًا من الصحابة رضي الله عنهم كلهم يرفع يديه عند كل خفض ورفع.
(1/394)
وقَالَ
الخَطَّابِيُّ: قال به مالك في آخر أمره، وقَالَ البَيْهَقِيُّ: قد روينا رفع
اليدين عند الركوع، ورفع الرأس عند التكبير عن أبي بكر الصديق وعمر وعلي وابن عمر
ومالك بن الحويرث ووائل بن حجر وأبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة منهم أبو
قتادة ومحمد بن مسلمة وأبو هريرة وأبو أسيد وسهل بن سعد، وعن أبي موسى وأنس وجابر
بن عبد الله بأسانيد صحيحة محتج بها.
وفي «تاريخ ابن عساكر» عن أبي حازم سلمة بن دينار القاص قال: أدركت ألفًا من
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كلهم يرفع يديه
%ج 1 ص 215%
عند كل خفض ورفع.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك في رواية ابن القاسم وفي المعمول بها في المذهب: لا
يرفع يديه إلا في تكبيرة الإحرام خاصة وهو قول الثوري وابن أبي ليلى والنخعي
والشعبي كأنهم استدلوا بما رواه الترمذي والطُّوسي من حديث وكيع عن الثوري عن عاصم
بن كُلَيْبٍ عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال عبد الله بن مسعود: «أَلَا
أُصَلِّي بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ:
فَصَلَّى فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلَّا في أولِ مَرَّةٍ».
وقالا: هذا حديث حسن وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ والتابعين.
وقال أبو داود في كتاب «ابن العبد وخبره»: هذا حديث مختصر من حديث وليس بصحيح على
هذا اللفظ. وقال أبو حاتم الرازيُّ في «العلل»: هذا خطأ يقال: وهم فيه الثوري،
وروى هذا الحديث عن عاصم جماعة فقالوا كلهم: إن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
افتتح فرفع يديه ثم ركع فَطَبَّقَ ولم يقل أحد ما روى الثوري.
وقال ابن المبارك: ثبت حديث الرفع، ولم يثبت حديث ابن مسعود لم يرفع إلا في أول
مرة.
(1/395)
وقال
الحاكم أبو عبد الله: كأني أنظر إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يرفع من
كثرة الأحاديث، وعاصم بن كليب لم يُخَرَّجْ له حديث في الصحيح كذا قاله وهو غير
جيد؛ لأنه هو نفسه قال في «مستدركه»: قد احتج مسلمٌ بعاصم بن كليب قاله في كتاب
الصلاة وهذا كان في الرد عليه.
وزعم المنذري أن عبد الرحمن لم يسمع من علقمة. انتهى.
وكأنه غير جيد لأنه لم يعزه إلى إمام إنما قال: وقال غيره: يعني غير الحاكم وهذا
لا عبرة به، ولأنا وجدنا أبا بكر الخطيب قال في كتابه «المتفق والمفترق»: سمع
علقمة، وقال ابن حبان: كانت سِنُّهُ سنَّ إبراهيم ومن كانت سِنُّه سِنَّ إبراهيم
ما مانعه من سماع علقمة وهو قَطِينُ بلده؟ ولم ينص عليه ممن تعرض للمراسيل، ولهذا
إن أبا الحسن الدَّارَقُطْني وابن حزم وابن القطان وغيرهم صححوه، زاد ابن حزم لما
صحَّ أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يرفع ولا يرفع كان ذلك مباحًا لا فرضًا،
وكان لنا أن نصلي كذلك، فإن رفعنا كنا قد صلينا كصلاته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
وإن لم نرفع فقد صلينا كصلاته، وكأنهم لم يعتبروا كلام أبي داود؛ لأنه ليس تضعيفًا
للحديث إنما لأجل اللفظ.
وأما قول أبي حاتم: (يقال إن الثوري أخطأ فيه) لم يبين دليله على ذلك ولا ذكر من
قاله، وما المانع أن يكون عاصم روى لسفيان حديثًا آخر في معناه؟ فلا يتعين توهيم
جبل من الجبال بضرب من الاحتمال.
وفي «سؤالات المَرْوَزي»
%ج 1 ص 216%
قال أبو عبد الله: رواه وكيع مرة كذا وكذا، كأنه ضعيف: (ثمَّ لَا يَعُودُ).
وفي كتاب «الخلال» عن أحمد: وكيع يقبح الحديث؛ لأنه كان يحمل على نفسه في حفظ
الحديث وأنكر روايته: (ثمَّ لا يعودُ) قال: وحَدَّثَنَاه يحيى بن آدم أن عبد الله
بن إدريس أملاه عليه ولم يذكر (ثمَّ لَا يَعُودُ).
(1/396)
وفي
القراءة للبخاري قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم: نظرت في كتاب عبد الله بن إدريس
عن عاصم بن كليب فليس منه: (ثمَّ لم يَعُدْ) وهذا أصح؛ لأن الكتاب أحفظ عند أهل
العلم؛ لأن الرجل ربما حَدَّثَ بشيء ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب.
وقال أبو الحسن البغدادي في كتاب «العلل» قالوا: كان وكيع يقولها من قِبَلِ نفسه
وتارة من كلام عبد الله. وفي «الكامل»: من حديث محمد بن جابر عن حماد بن أبي
سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله به وقال: لم يوصله عن حماد غير جابر، وكان
إسحاق -يعني ابن أبي إسرائيل- يُفَضِّلُ محمدًا على جماعة شيوخ هم أفضل منه وأوثق،
وقد روى عنه الكبار ابن عون وأيوب وهشام وشعبة وسفيان وابن عيينة وغيرهم، ولولا أن
محمدًا في ذاك المحل لم يرو عنه هؤلاء الذين هو دونهم، وقد خالف في أحاديث ومع ما
تكلم فيه من تكلم يُكْتَبُ حديثه، وفي كتاب البيهقي: رواه حماد بن سلمة عن حماد عن
إبراهيم عن عبد الله مرسلًا، قال الحاكم: هذا هو المحفوظ، وإبراهيم لم ير ابن
مسعود فالحديث منقطع، وقَالَ الدَّارَقُطْني: تفرد به ابن جابر وكان ضعيفًا عن
حماد وغيره يرويه عن إبراهيم عن عبد الله من فعله غير مرفوع وهو الصواب، ولما رواه
إسحاق بن أبي إسرائيل عن محمد وبه يأخذ في الصلاة كلها، وقال أحمد فيما ذكره عبد
الله ابنه: هذا حديث منكر وأُنْكِرُهُ جدًا قال: وذكرت لأبي حديث الثوري عن حصين
عن إبراهيم عن عبد الله به فقال: حَدَّثَنَاهُ هُشَيْمٌ عن حُصَيْنٌ عن إبراهيم لم
يجزئه، وهشيم أعلم بحديث حصين.
وفي كتاب «الخلال» قيل لأحمد: أَثَبَتَ عن ابن مسعود بإسناد صحيح؟ قال: لا، إنما
هو إبراهيم عن عبد الله. انتهى.
(1/397)
قال
الطحاوي في «المشكل» عن الأعمش بسنده إليه أن إبراهيم قال له: إذا قلتُ قال عبد
الله فلم أقل ذلك حتى يحدثني به جماعة، وإذا قلتُ لك: حدثني فلان عن عبد الله فهو
الذي حدثني يوضحه ما في «المصنف»: عن وكيع عن شريك عن جابر عن الأسود وعلقمة إنما
كانا يرفعان أيديهما إذا افتتحا ثم لا يعودان، وبحديث شريك عن يزيد بن أبي زياد عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب: «أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كان إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ
%ج 1 ص 217%
إِلَى قَرِيْبٍ مِنْ أُذُنَيْهِ ثُمَّ لاَ يَعُوْدُ» رواه أبو داود، ورواه أيضًا
من حديث سفيان بن حسين عن يزيد نحو حديث شريك لم يقل: (ثُمَّ لا يَعُوْدُ). وقال
سفيان: قال لنا بالكوفة بعدُ: (ثُمَّ لا يَعُوْدُ). قال أبوداود: روى هذا الحديث
هشيم وخالد بن عيينة وابن إدريس عن يزيد ولم يذكروا: (ثُمَّ لا يَعُوْدُ). قال
الشافعي: ذهب سفيان إلى تغليط يزيد، وفي «تاريخ ابن عساكر» عن الأوزاعي هو مخالف
السنة، وقال أبو عمر في «التمهيد»: تفرد به يزيد، ورواه عنه الحفاظ فلم يذكر واحد
منهم قوله: (ثُمَّ لا يَعُوْدُ).
وقال الدوري: عن يحيى ليس هو بصحيح الإسناد، وعند البيهقي عن أحمد: هذا حديث واهٍ
قد كان يزيد يحدث به لا يذكر: (ثُمَّ لا يَعُوْدُ) فلما لقن أحده فكان يذكر فيه،
وفي القراءة للبخاري إنما روى ابن أبي ليلى هذا من حفظه، فأما من حدث عن ابن أبي
ليلى من كتابه فإنما حدث عنه عن يزيد فرجع الحديث إلى تلقين يزيد والمحفوظ ما روى
الثوري وشعبة وابن عيينة قديمًا.
ورواه الدَّارَقُطْني من حديث يزيد عن عدي عن ثابت عن البراء عن عدي عن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقال: هذا هو الصواب، وفي موضع آخر: يزيد عن عبد
الرحمن سمعت البراء يحدث قومًا وفيهم كعب بن عجرة الحديثَ.
(1/398)
وأخبرنا
الآدمي عن عبد الله بن محمد بن أيوب عن علي بن عاصم سألت يزيد فقلت: أخبرني ابن
أبي ليلى أنك قلت: ثم لم تعد، قال: لا أحفظ هذا فعاودته فقال: ما أحفظ هذا.
وقَالَ الخَطَّابِيُّ: لم يفعل أحد في هذا (ثُمَّ لا يَعُوْدُ) غير شريك. انتهى
كلامه.
وفيه نظر من حيث إن البيهقي رواه في «الخلافيات» من طريق النضر بن شميل عن إسرائيل
عن يزيد بلفظ: «رفعَ يَدَهُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَعُدْ) ورواه
الدَّارَقُطْني من طريق إسماعيل بن زكريا عن يزيد مثله، والطبراني في «الأوسط» من
حديث حفص ابن عمر الثقفي، حَدَّثَنا حمزة الزيات كذلك وقال: لم يروه عنه إلا حفص،
تفرد به محمد بن حرب ثم إِنَّا نظرنا في حال يزيد فوجدنا العجلي قال فيه: جائز
الحديث، وقال يعقوب بن سليمان الفسوي: يزيد وإن كان قد تُكُلِّمَ فيه لِتَغَيُّره
فهو على العدالة والثقة وإن لم يكن مثل الحكم ومنصور والأعمش فهو مقبولُ القولِ،
عدلٌ ثقةٌ. وقال أبو داود: ثَبْتٌ لا أعلم أحدًا ترك حديثَه وغيرُه أحبُّ إليَّ
منه.
وقال ابن سعد: كان ثقةً في نفسه إلا أنه اختلط في آخر عمره. ولما ذكره ابن شاهين
في كتاب «الثقات» قال أحمد بن صالح: يزيد ثقة ولا يعجبني قول من تكلم فيه. وخرَّجَ
ابن خزيمة حديثه في «صحيحيه». وقال الساجيُّ:
%ج 1 ص 218%
(1/399)
صدوق، وكذا قاله ابن حبان، وذكره مسلم فمن شمله اسم الستر وتعاطي العلم وخرج حديثه في «صحيحه» واستشهد به البخاري، فلما كانت حاله بهذه المثابة جاز أن يحمل أمره على أنه حدث ببعض الحديث تارة وبجملته أخرى، أو يكون قد نسي أولًا ثم تذكر، فإن قيل: مما يدل أنه لم يحفظ ما رواه إبراهيم بن بشار الرمادي عن سفيان عن يزيد عن عبد الرحمن عن البراء قال: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا أَرَاَد أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهَ مِنَ الرُّكُوْعِ» قال الحاكم: لا أعلم ساق هذا المتن بهذه الزيادة عن سفيان غير الرمادي وهو ثقة قيل له الرمادي، قد رماه البخاري وابن الجارود بالوهم، وتكلم فيه أحمد فجائز أن يكون قد وَهِمَ في هذا، وقد وجدنا ليزيد متابعًا من كتاب أبي داود عن عبد الرحمن من رواية وكيع عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن الحكم عن عبد الرحمن عن البراء بلفظ: «رَفَعَ يَدَيْهِ حِيْنَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ ثُمَّ لمْ يَرْفَعْهُمَا حَتَّى انْصَرَفَ» وبحديثٍ ذكره في «التمهيد» عن أبي هريرة: «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيْ بِهِمْ، وَكَانَ لاَ يَرْفَعُ اليَدَيْنِ إِلاَّ حِيْنَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ وَيَقُوْلُ: أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلاَةً برَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وبحديث ذكره البيهقي من حديث ابن أبي ليلى عن الحكم عن مِقْسَمٍ عن ابن عباس وعن نافع عن ابن عمر قَالاَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ تُرْفَعُ الأَيْدِي إِلاَّ فِي سَبْع مَوَاطِنَ: عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ، واسْتِقْبَالِ البَيْتِ، وَالصَّفَا وَالمَرْوَةَ، وَالمَوْقِفَيْنِ، وَالجَمْرَتَيْنِ» واعترض عليه بأمور:
(1/400)
الأول:
تفرد ابن ليلى، الثاني: رواه وكيع عنه موقوفًا، الثالث: رواية جماعة من التابعين
عنهما أنهما كانا يرفعان عند الركوع وبعد رفع الرأس منه، الرابع: قال شعبة لم يسمع
الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها رواه ابن جريج عنه فقال: حُدِّثْتُ
عن مقسم، الخامس: جميع الروايات ترفع الأيدي وليس في رواية منها لا ترفع إلا في
سبع، قال الحاكم: وقد تواترت الأخبار بأن الأيدي ترفع في غير ذلك منها الاستسقاء،
ودعاؤه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لدوس، وفي القنوت، وفي الدعاء في الصلوات، وفي
الوتر.
وعند سيف بن عمر في كتاب «الفتوح» حَدَّثَنا عمرو بن محمد عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس: قَالَ: «كَأن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ
كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ ثُمَّ صَارَ إِلَى افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ وَتَرَكَ مَا
سِوَى ذَلِكَ». وبحديث ذكر أيضًا بسند جيد في «الخلافيات» من حديث محمد بن غالب،
حَدَّثَنا أحمد بن محمد البراثي، حَدَّثَنا عبد الله بن عيون الخرَّاز، حَدَّثَنا
مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ
%ج 1 ص 219%
ثُمَّ لا يَعُوْدُ». ولما لم يرو الحاكم ما يدفعه به قال: هذا باطل.
(1/401)
فقد روينا عن مالك بالأسانيد خلاف هذا، وفي «المعرفة» ما يشدُّهُ بسند صحيحٍ رواه عن الحاكم: أخبرنا ابن مكرم حَدَّثَنا أحمد بن عبد الجبار حَدَّثَنا أبو بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال: «مَا رَأَيْتُ ابنَ عُمُرَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلاَّ فِي أَوَّلِ مَا يَفْتَتَحُ الصَّلاَةَ» قال الطحاوي: فحديث الرفع على هذا منسوخ، قَالَ البَيْهَقِيُّ: وقد تكلم محمد بن إسماعيل وغيره من الحفاظ في حديث أبي بكر بما لو علمه الطحاوي لم يحتج به على الثابت عن غيره، قال البخاري: والذي قاله أبو بكر في ذلك قد خُوِلَفَ فيه عن مجاهد، قال وكيع: عن الربيع بن صبيح رأيت مجاهدًا يرفع يديه، وقال ابن مهدي عن الربيع رأيت مجاهدًا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع، وقال جرير: عن ليث عن مجاهد أنه كان يرفع وهذا أحفظ عند أهل العلم، قال: وقال صَدَقةُ: إن الذي روى حديث مجاهد: «لَمْ تُرْفَع الأيدي إِلَّا في أولِ التكبيرةِ» كان صاحبه قد تغيَّر بآخره -يريد أبا بكر بن عياش- قال البخاري: الذي رواه الليث والربيع أولى مع رواية طاوس وسالم ونافع وأبي الزبير ومحارب وغيرهم، قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع.
(1/402)
قَالَ
البَيْهَقِيُّ: وهذا الحديث في القديم كان يرويه أبو بكر عن حُصَيْن عن إبراهيم عن
ابن مسعود مرسلًا موقوفًا ثمَّ اختلط عليه حين سَاءَ حفظه فروى ما قد خُوِلَفَ
فيه، فكيف يجوز دعوى النسخ في حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف وقد يمكن الجمع
بينهما أن لو كان ما رواه ثابتًا بأنه غفل عنه فلم يره وغيره رآه أو غفل عنه ابن
عمر فلم يفعله مرة أو مرات إذ كان يجوز تركه وأصحابه الملازمون له رأوه مرات،
وفِعْلُه يدل على أنه سنة وتركه يدل على أنه ليس بواجب وصاحب هذه الدعوى حكي عن
مخالفته أنهم أوجبوا الرفع من الركوع وعند الرفع من الركوع وعند النهوض إلى القيام
من القعود، ثم روى هذا ابن عمر واستدل بذلك على أنه علم في حديثه نسخًا حتى تركه،
وهذا عن ابن عمر ضعيف ولا نعلم أحدًا يوجب الرفع حتى يدل تركه على ما ادعاه.
انتهى.
أما الربيع وليث بن أبي سُلَيْم فلا يرد بروايتهما ما رواه أبو بكر الإمام الحافظ
المجمع على تخريج حديثه والقائل فيه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو داود وأحمد
بن صالح وابن سعد: ثقة، زاد ابن سعد: وكان صدوقًا عارفًا بالحديث والعلم، وذكره
ابن حبان وابن شاهين وغيرهما
%ج 1 ص 220%
(1/403)
في
كتاب «الثقات»: وطوَّل ابن حبان في الثناء عليه، والربيع يقول فيه: عفان أحاديثه
كلها مقلوبة، وقال فيه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والنسائي: ضعيف، وقال ابن حبان:
لم يكن الحديث من صناعته فوقع في حديثه المناكير من حيث لا يشعر، وليثٌ تكلَّمَ
فيه غير واحد من الأئمة وبعضهم أقذع في حديثه ولم يُخَرِّجْ لحديثه منهما شيء في
الصحيح على سبيل الاحتجاج، فكيف تُرَدُّ رواية أبي بكر برواية هذين أو يُعْتَمَدُ
في تضعيفه أيضًا بقول صَدَقَةَ السَّمِين القائل فيه البخاري نفسه ضعيف جدًا، وقال
ابن حبان: يروي الموضوعات، وقال أحمد: ضعيف جدًا أحاديثه مناكير ليس حديثه شيئًا، وتكلم
فيه غير هؤلاء، فلو كان قال الذي قاله نقلًا عن غيره لما قيل منه, فكيف ولم ينقله.
وقد روينا عن ابن عباس تصريحه بالنسخ، ولو سَلِمَ من سَيْفٍ لكان صحيحًا.
وأما قوله: لا نعلم أحدًا أوجب الرفع مردودٌ بما رُوِيَ عن أحمد بن حنبل، وفي
«مصنف أبي بكر» بسند صحيحٍ: حَدَّثَنا يحيى بن آدم عن حسن بن عياش عن عبد الملك بن
أبحر عن الزبير عن عدي عن إبراهيم عن الأسود قال: «صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بنِ
الخَطَّابِ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَهُ فِي شَيءٍ مِنْ صَلاَتِهِ إِلاَّ حِيْنَ
افْتَتَحَ الصَّلاَةَ». وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة هل هو صحيح أو
يدفعه حديث الثوري عن الزبير بن عدي عن إبراهيم عن الأسود عن عمر: «أَنَّهُ كَانَ
يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ حَتَّى يَبْلُغَا مِنْكَبَيْهِ»
فقالا: سفيان أحفظ. وقال أبو زرعة هذا أصح -يعني حديث سفيان- انتهى.
لقائل أن يقول: ليس بين الروايتين تنافٍ؛ لأن الثوري حكى رفعه في الافتتاح فقط ولم
يتعرض لما سوى ذلك فلا معارضة بينهما.
(1/404)
وفي
«المصنف» قال عبد الملك: ورأيت الشعبي وإبراهيم وأبا إسحاق لا يرفعون إلا عند
الافتتاح، وعن وكيع عن أبي بكر بن عبد الله عن عَطَّاف النَّهْشَليِّ وفيه كلام عن
عاصم بن كليب عن أبيه: «أنَّ عليًّا كانَ يرفعُ يديه إِذَا افتتحَ الصَّلَاةَ ثم
لا يعودُ» ويعارضه ما أسلفناه قبل عن علي.
وقال الدارمي في «مسنده» لما ردَّ هذا الحديث يضعف النهشلي قال: ولا يجوز لعلي ترك
فعل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ويفعل غيره.
وفي «الخلافيات» من حديث حفص بن غياث عن أبي يحيى محمد قال: «صَلَّيْتُ جَنْبَ
عبَّادِ بنِ عبد الله بن الزبير فجعلتُ أرفعُ يدي في كلِّ رفعٍ ووضعٍ، فقال: يا
ابنَ أخي إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ إذا افتتحَ الصَّلاةَ
رفعَ يديه في أولِ الصلاةِ ثم لم يَعُدْ في شيء حَتَّى فرغَ» قال أبو بكر: هذا حجة
عند من يقول بالمرسل، وفي «المصنف» عن خيثمة:
%ج 1 ص 221%
«أَنَّه كانَ لا يرفعُ إِلَّا في بدءِ الصَّلَاةِ» وكذا عن قيس بن أبي حازم. وفي
كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: وكان سعيد بن جبير لا يرفع يديه في الركوع، رواه
عن الحسن بن صالح عن وقاء بن إياس عنه، وروى سيف في «الفتوح» عن عمرو بن محمد قال:
كان النخعي ربما لم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، فحديث سعيد بن جبير فقال: إنما
هو شيء تُزَينَ به الصلاة فإن فعلت فحسن، قال سيف: وعن سليمان بن بشير كان إبراهيم
يجيء فيدخل في الصلاة مُسْدِلًا يديه أحيانًا لا يرفعهما للتكبير لافتتاح الصلاة.
وفي «شرح الطحاوي» لما ذُكِرَ لإبراهيم حديث وائل في الرفع قال: أَتُرى وائل بن
حُجْر أعلم من علي، وعبد الله بن مسعود لعله فعل ذلك مرة واحدة ثم تركه، وفي لفظ:
إن كان وائل رآه مرة فقد رآه عبد الله خمسين مرة.
(1/405)
وقال
الشافعي في «اختلاف الحديث»: روى الرفع جمع من الصحابة لعله لم يُرْوَ قط حديث
بعددٍ أكثر منهم أحد عشر من الصحابة وأبو حميد رواه ثلاثة عشر رجلًا، وقال في
القديم: قال قائل: رويتم قولكم عن ابن عمر، والثابت [13] عن علي وابن مسعود أنهما
كانا لا يرفعان، وهما أعلم بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من ابن عمر؛ لأن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «لِيَلِيَنِي منكم أولو الأحلامِ
والنُّهى» ومكان ابن عمر خلف ذلك قلنا له: ما قلته لا يثبت عن علي وابن مسعود،
والقول قول الذي قال رأيته؛ لأنه شاهدَ ولا حجة في قول الذي قال لم يره وهذا هو
مذهب من خالفنا في ذلك، ولقد كان ابن عمر من ذوي الأحلام والنهى ولو كان فوق ذلك
منزلةٌ كان أهلَها، وأصل قولنا أن إبراهيم لو روى عن علي وعبد الله لم يقبل منه؛
لأنه لم يلقَ واحدًا منهما، وأما ما استدل به بعض فقهاء الحنفية بقوله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في حديث جابر بن سمرة من عِنْدَ مُسْلِمٍ: «مَا لِي
أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟» فغير جيدٍ؛
لأنهم إنما كانوا يفعلون ذلك حالة سلامهم من الصلاة فيشيرون بأيديهم حين سلامهم
وهذا هو المناسب لرفع ذَنَب الفرس، نصَّ على ذلك البخاري وغيره.
وفي لفظ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ؟ إِذَا سَلَّمَ
أَحَدُكُمْ يَلْتَفِتُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَا يُومِئْ بِيَدِهِ». وعند البيهقي عن
عقبة بن عامر: «لَهُ بِكُلِّ إِشَارَةٍ يَرْفَعُ يَدَهُ بِهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ».
(بَابٌ إِلَى أَيْنَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟)
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ: رَفَعَ يَدَيْهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ.
حديث أبي حميد
%ج 1 ص 222%
ذكره البخاري مسندًا في «صحيحه» وسيأتي في التشهد، قال الشافعي: وبهذا نقول.
(1/406)
وفيه
رفع اليدين إذا قام من الركعتين، قَالَ البَيْهَقِيُّ: مذهب الشافعي متابعة السنة
إذا ثبتت، وقال صاحب «التهذيب»: لم يذكر الشافعي رفع اليدين إذا قام من الركعتين
ومذهبه اتباع السنة وقد ثبت ذلك، وقال الغزاليُّ: انعقد الإجماع على أنه لا يرفع
في هذه المواضع فاسْتَدْلَلْنَا بالإجماع على نسخ الحديث، قال في «شرح المهذب»:
هذا كلام مردود غير مقبول ولم ينعقد الإجماع على ذلك، بل قد ثبت الرفع في القيام
من الركعتين عن خلائق من السلف والخلف منهم علي وابن عمر وأبو حميد مع أصحابه
العشرة وهو قول البخاري، وقَالَ الخَطَّابِيُّ: وبه قال جماعة من أصحاب الحديث،
قال النووي: فحصل بمجموع ما ذكرناه أنه يتعين القول باستحباب رفع اليدين إذا قام
من الركعتين وأنه مذهب الشافعي لثبوت هذه الأحاديث. انتهى.
لا يلزم من ثبوت الأحاديث عند غير الشافعي أن يثبت عند الشافعي إلا إذا اطَّلع
عليها وأَشْكَلَ عليه من أمرها شيء أوضحه غيره مثل جهالة حال راوٍ وشبهه إذ من
الجائز أنه رآه أو يرتضيه أو عارضه معارض منعه من الأخذ به وليس قول مجتهد حجة على
مجتهد غيره.
738 - حديث ابن عمر تقدم. [خ 738]
(بَابُ وَضْعِ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى)
740 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِك، عَنْ أَبِي حَازِمٍ،
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: «كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ
الرَّجُلُ اليَدَ اليُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ اليُسْرَى فِي الصَّلاَة». قَالَ أَبُو
حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُهُ إِلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، هذا من أفراد البخاري، قال: قالَ إِسْمَاعِيلُ: يُنْمَى ذَلِكَ
وَلَمْ يَقُلْ يَنْمِي. [خ 740]
(1/407)
إسماعيل
هذا يشبه أن يكون إسماعيل بن إسحاق الراوي عن القعنبي هذا الحديث في «سنن البيهقي»
و «الموطآت» للدارقطني، زاد: وقال يوسف عن مالك يرفع ذلك، وقال ابن وهب: ينمي يعني
يرفع، وقال أبو العباس أحمد بن طاهر الدَّاني في «أطراف الموطأ»: هذا حديث معلولٌ؛
لأنه ظَنٌّ وحسبانٌ.
وقال ابن الحصَّار في كتابه «تقريب المدارك»: هذا يدخل في المسند وإن بقي في النفس
منه شيء فيستند من أحاديث في الباب يعني ما رواه ابن ماجه من حديث أبي الأحوص عن
سِمَاك بن حربٍ عن قَبِيْصَة بن هُلْب عن أبيه قال: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَؤُمُّنَا فيأخذُ شمالهُ بيمينِهِ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
والعمل على هذا عند أهل العلم، ورأى
%ج 1 ص 223%
بعضهم وضعها فوق السُّرَّةِ، ورأى بعضهم وضعها تحت السُّرَّةِ، وكل ذلك واسع
عندهم.
وفي «كتاب الطُّوسي» يقال: هذا حديث حسن صحيح، وذكر ابن حبان في «صحيحه» قطعة منه.
وروينا في «شرح السنة» للبغوي أنه قال: هذا حديث حسن، وقال أبو إسحاق الصيرفي: هو
حديث صحيح، وقال ابن عبد البر: وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة فيها آثار ثابتة
عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منها حديث هُلْب، وفي موضع آخر حديث هلب
صحيحٌ وخالف ذلك علي بن المديني فقال قبيصة: مجهولٌ تفرَّدَ عنه بالرواية سِمَاك
ولم يرو عن هلب غير قبيصة ابنه، وقال النسائي: مجهول وهو لعمري كما قالا، لكنَّ
العجليَّ قال في «تاريخه»: قبيصة بن هلب تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في كتاب
«الثقات» مع تصحيح من صحح حديثه، وفي «مسند أحمد» رأيته يضع هذه على صدره، ووصف
يحيى بن سعيد اليمنى على اليسرى فوق الْمِفْصَل.
(1/408)
وعند
الطبرانيِّ: «يقبضُ بيمينِهِ عَلَى يسارِهِ في الصلاةِ». وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن وائل
بن حجر: «رأيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وضعَ يدَهُ اليُمْنَى على
اليُسْرَى». وعند ابن خزيمة: «وضعَ كَفَّهُ اليُمْنَى على ظاهرِ كَفِّه والرُّسْغ
والسَّاعد». وفي لفظٍ: «ثم ضربَ بيمينهِ على شمالِهِ فأمسكها» وفي لفظ: «وضعها على
صدره».
وعند البيهقي: «قبضَ على شمالِه بيمينِهِ» ووثَّقَ رواته. وعند البزار: «عند
صدرهِ» رواه من حديث محمد بن حجر وهو ضعيف عن أمه وهي مجهولة ذكر ذلك ابن القطان.
وعند البيهقي وروينا في بعض طرق حديث عاصم عن أبيه عن وائل: «ثم وضعهما على صدره»
وهذه متابعة لمحمد صحيحة، وكذا ذكرناه من «صحيح ابن خزيمة»، وعند ابن ماجه من حديث
هشيم عن الحجاج ابن أبي زينب عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود: «مَرَّ بِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَنَا وَاضِعٌ يَدِي الْيُسْرَى عَلَى
الْيُمْنَى، فَأَخَذَ بِيَدِي الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى الْيُسْرَى».
قال أبو عمر في «الاستذكار»: هذا حديث ثابت، وقال ابن القطان: هو صحيح أو حسن،
وذكره الأثرم محتجًا به، وقال النسائي: غير هشيم أرسله فقد رأينا غير هشيم أسنده
أيضًا.
وقَالَ الدَّارَقُطْني: حدَّثَنَا ابن صاعد، حَدَّثَنا عثمان بن خالد، حَدَّثَنا
محمد بن يزيد الواسطي عن حجاج فذكره مرفوعًا، وقال مُهَنَّأٌ: سألت أحمد عن الحجاج
بن أبي زينب فقال: منكر الحديث يحدث عن أبي عثمان: «مرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ» الحديثَ. قلت: وهذا منكر؟ قال: نعم، ولما ذكر العقيلي هذا الحديث
قال:
%ج 1 ص 224%
لا يُتَابع -يعني الحجاج- عليه وقال الشافعي: حجاج حدث عن أبي عثمان بحديث لا
يُتَابع عليه. انتهى.
(1/409)
وقد
وجدنا غير حجاج وأبي عثمان روياه عن أبي مسعود، قَالَ الدَّارَقُطْني: حدَّثَنَا
ابن صاعد، حَدَّثَنا علي بن مسلم، حَدَّثَنا إسماعيل بن أبان الوراق، حدَّثَني
بُنْدَار عن ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود: «أنَّ
النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يأخذُ شمالَهُ بيمينِهِ في الصلاةِ».
وعند ابن عدي: حدَّثَنَا ابن صَاعِدٍ، حَدَّثَنا الفضل بن سهل، حدَّثَنَا ابن
معين، حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن حجاج ابن أبي زينب عن أبي سفيان عن جابرٍ:
«مرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ برجلٍ قدْ وضعَ شمالَهُ على يمينِهِ فأخذَ
بيدِهِ اليُمْنَى فوضَعَهَا على يسارِهِ» صححه أبو الحسن في «الوهم والإبهام»،
وأما قول أبي القاسم في «الأوسط» وذكر حديث جابر: لم يروه عن أبي سفيان إلا
الحجاج، ولا عن الحجاج إلا محمد بن الحسن تفرد به وهب بن بقية، ورواه هشيم عن حجاج
عن أبي عثمان عن أبي هريرة فغير جيدٍ؛ لأن الحديث حديث ابن مسعود كما سبق؛ ولأن
ابن معين رواه أيضًا كما بيناه عن محمد بن الحسن فلم يتفرد به وهب والله تعالى
أعلم.
وعند الحافظ أبي القاسم عبد الصمد بن سعيد القاضي في كتاب «الصحابة» الذين نزلوا
حمص الشام عن الحارث بن غُضَيْف - أو غُضَيْف بن الحارث - قال: ما نسيتُ من
الأشياء فلم أَنْسَ أني رأيتُ رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ واضعًا يمينه
على شماله في الصلاة.
قال الخلال في «علله»: رواه أحمد عن عبد الرحمن، حدثني معاوية -يعني بن صالح- عن
يوسف بن سيف عنه، وقال أبو عبد الله: هذا إسنادٌ شاميٌّ.
قَالَ الدَّارَقُطْني: يعني بذلك أنه لم يَرْضَ إسناده، إلا الحارث لا يُعْرَف إلا
بهذا الحديث، ولا يعلم يوسف سمع منه أم لا؟.
(1/410)
وذكر
البخاريُّ في «تاريخه» ما يدلُّ أنَّه ليس صحابيًّا؛ لأنَّه ذكر له رواية عن عمر
وأبي عبيدة لم يذكر النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وكذلك ابن سعد والعجلي وابن
حبان وغيرهم، وخالف ذلك الراويان فقالا: له صحبة.
وقال أبو عمر في «الاستيعاب»: غُطَيْفُ بنُ الحارثِ وغُطَيْفٌ الكندي الاضطراب
فيهما كثير جدًا، ومع ذلك فقد قال في «الاستذكار» حديثه يعني هذا ثابت.
وعند الطبراني: «مرَّ عبد الله بنُ عُمَرَ برجلٍ في صَلَاتِهِ قدْ وضعَ يدَهُ
اليُسْرَى على يمينِه فقالَ لهُ: إنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قالَ: لَا تَفْعَلْ فِعْلَ قومٍ عُذِّبُوا». وقال: لم يروه عن ابن عجلان -يعني عن
نافع- إلا إبراهيم بن إسماعيل تفرد به فضالة
%ج 1 ص 225%
بن يعقوب، وفي موضع آخر: «إِنَّا مَعْشَرَ الأنبياءِ أُمْرِنَا بثلاثٍ: بتعجيلِ
الفِطْرِ، وتأخيرِ السُّحُورِ، ووضعِ اليُمْنَى على اليُسْرَى في الصَّلَاةِ».
رواه من حديث يحيى بن سالم القداح، حَدَّثَنا عبد المجيد بن أبي روَّاد عن أبيه عن
نافع عنه وقال: لا يُرْوَى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه، وقال في «المعجم الصغير»:
لم يروه عن نافع إلا ابن أبي روَّاد ولا عنه إلا ابنه تفرد به القداح، وعنده أيضًا
من حديث أبي إسحاق عن شدَّادِ بن شُرَحَبِيْلٍ وسماه في موضع آخر الفِيْل، وكأنه
لقب له قال: «رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ضربَ بيدِهِ عَلَى
شِمَالِهِ في الصلاةِ». وقال: لم يروه عن أبي إسحاق إلا يوسف ابنه، ولا عنه إلا
إبراهيم بن يوسف تفرد به شُرَيْحُ بنُ سَلَمَةَ، وعند الدَّارَقُطْني من حديث شجاع
بن مَخْلَدٍ وحديثه عِنْدَ مُسْلِمٍ حَدَّثَنا هشيم عن منصور، أخبرنا محمد بن أبان
الأنصاري عن عائشة قالت: «ثَلاَثَةٌ مِنَ النُّبُوَّةِ: تَعْجِيْلُ الإِفْطَارِ،
وَتَأْخِيْرُ السّحُوْرِ، وَوَضْعُ اليَدِ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى فِي
الصَّلاَةِ».
(1/411)
وعنده
من حديث ابن أبي ليلى عن أبي هريرة مرفوعًا: «إِنَّا مَعْاشِرَ الأَنْبِيَاءِ»
فذكره بمثل حديث عائشة.
ومن حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن سَيَّارِ أبي الحكم عنه بلفظ: «وضعُ الكَفِّ على
الكَفِّ في الصَّلَاةِ منَ السُّنَّةِ» وقال أبو داود: روى حديث علي بن سعيد بن
جبير: «فوقَ السُّرَّةِ». وقال أبو مجلز: «تحتَ السُّرَّةِ» ورُوِيَ عن أبي هريرة
وليس بالقوي.
وعند الدَّارَقُطْني من حديث ابن السَّكَنِ: حَدَّثَنا عبد الحميد بن محمد،
حَدَّثَنا مخلد بن يزيد، حَدَّثَنا طلحة عن عطاء ابن عياش مرفوعًا: «إِنَّا
مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ» الحديثَ. وقَالَ البَيْهَقِيُّ: تفرد به عبد الحميد
وإنما يعرف بطلحة بن عمرو وليس بالقوي، رواه الطبراني في «الأوسط» بسند صحيح عن
أحمد بن طاهر بن حرملة، حَدَّثَنا حرملة، حدَّثَنَا ابن وهب، أخبرني عمرو بن
الحارث سمعت عطاء فذكره، وقال: لم يروه عن عمرو إلا ابن وهب تفرد به حرملة، ورواه
في «المعجم الكبير» بسند لا بأس به من حديث ابن عيينة عن عمرو عن طاوس عنه، وعند
ابن حزم من حديث أبي حُمَيْدٍ الساعدي مصححًا ووصف صلاة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فرفع يديه إلى وجهه ووضع يمينه على شماله.
وعند الدَّارَقُطْني من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، حدثني زياد بن زيد السُّوائي عن
أبي جُحَيفة عن علي: «منَ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ وضعُ اليمينِ على الشِّمالِ
تحتَ السُّرَّةِ».
ورواه أيضًا من حديث عبد الرحمن عن النعمان بن سعد عنه، وقال ابن القطان: زياد
حاله مجهولة وليس بالأعم، وقَالَ البَيْهَقِيُّ: لم يثبت إسناده تفرد عبد الرحمن
الواسطي وهو متروك، وفي كتاب «ثواب القرآن العظيم»:
%ج 1 ص 226%
(1/412)
لأبي
بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنا وكيع عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن عاصم الجحدري عن
عُقْبَةَ بن ظُهَيْرٍ عن عليِّ {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال: وضع
اليمنى على الشمال في الصلاة، زاد الدَّارَقُطْني في «السنن»: تحت الصدور.
وفي «الاستذكار» أن عليًّا كان إذا قام إلى الصلاة وضع يمينه على رُسْغِهِ فلا
يزال كذلك حتى يركع أو يصلح ثوبه أو يحك جسده.
وذكر البيهقي من حديث عمرو بن مالك النُّكْرِي عن أبي الجوزاء عن أبي العباس عبد
الله بن عباس {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال: وضع اليمين على
الشمال في الصلاة.
وفي «تفسير أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الجوزي»: ضع اليمين على الشمال
عند النحر في الصلاة والله تعالى أعلم.
وعند أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى عن أنس رضي الله عنه: «منْ أخلاقِ
النُّبُوَةِ وضعُ اليمينِ على الشِّمَالِ تحتَ السُّرَّةِ» ثم قال: وحديث وائل
وابن مسعود وعلي وعائشة وأنس وسَهْلٍ راجعٌ في أقلِّ أحواله إلى فعل الصحابة إن لم
يكن مسندًا انتهى كلامه.
وفيه نظر إن أراد جملة الأحاديث التي عددها وإن أراد بعضها فيمكن.
وعند الطبراني في «المعجم الكبير» من حديث إبراهيم بن أبي معاوية عن أبيه عن
الأعمش عن مجاهد عن مؤرق عن أبي الدرداء: «منْ أخلاقِ النَّبِيِّيْنَ صلَّى اللهُ
عليهِمْ أجمعين: وضعُ اليمينِ على الشِّمَالِ في الصَّلَاةِ». وعند أبي داود من
حديث العلاء بن زياد عن زُرْعَةَ بن عبد الرحمن سمعت ابن الزبير يقول: «صفُّ
القدمينِ، ووضعُ اليدِ على اليدِ منَ السُّنَّةِ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يفعلُ
ذلكَ» ذكره الطبراني.
وعند أبي موسى المديني عن طرفة والد تميم وقال: لا أدري له صحبة أم لا من حديث أبي
بكر الحنفي عن سفيان عن سماك عن تميم عنه: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يضعُ يدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى في الصَّلَاةِ».
(1/413)
وقال
أبو حاتم في «العلل»: إنما هو سِمَاك عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عن أبيه.
قال ابن حزم: وروينا فعل ذلك عن النخعي وأبي مجلز وسعيد بن جبير وعمرو بن ميمون
وابن سيرين وأيوب وحماد بن سلمة وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما والثوري
وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد ومحمد بن جرير وداود وقال ابن الجوزي: هو مستحب عندنا،
ولمالك روايتان أحدهما كقولنا والثانية أنه غير مستحب إنما هو مباح، وفي «المدونة»:
يكره فعله في الفرض، ولا بأس به في النافلة إذا طال القيام.
قال أبو عمر: رواية ابن القاسم عنه إرسال اليدين وهو قول الليث
%ج 1 ص 227%
بن سعد، وروى ابن نافع وعبد الملك ومطرف عن مالك توضع اليمنى على اليسرى في
الفريضة والنافلة وهو قول المدنيين من أصحاب أشهب وابن وهب وابن عبد الحكم.
وفي «شرح الهداية»: يضع كفه اليمنى على كفِّه اليسرى، وقيل: ذراعِهِ الأيسر،
والأصح وضعها على المفصل.
وقال أبو يوسف: يقبض بيده اليمنى رُسْغَ اليسرى، ويكون الرُّسْغُ وسط الكفِّ، وقال
ابن قدامة: يضعها على كوعه وقال القفال: يقبض بكفه اليمنى كوع اليسرى وبعض رسغها
وساعدها، وهو مخير بين بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل وبين نشرها في صوب الساعدِ،
وإذا فرغ من التكبير يضعهما، وعند محمد بعد الثناء، وقال الصَّفَّارِ: يرسل إلى أن
يفرغ من الثناء والتسبيح، واختيار الطحاوي يضعهما كما يفرغ من التكبير وفي صلاة
الجنازة والقنوت، قال: ويضعهما تحت سرته وبه قال أحمد، وعنه فوق السرة، وعنه وهو
مخيرٌ.
وفي «الحاوي»: للماوردي تحت الصدور، قال النووي: الصحيح المنصوص فوق السرة، وعن
أبي إسحاق تحت السرة، والمذهبُ الأول.
الخشوع في الصلاة تقدم في باب عظة الإمام الناس.
(بَابُ مَا يَقُرأُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ)
(1/414)
743
- حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِـ {الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ}
[الفاتحة: 2]». [خ 743]
هذا حديث خرَّجه الأئمة الستة، وفي لفظ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ
أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي أَوَّلِ
قِرَاءَةٍ وَلاَ فِي آخِرِهَا» وقوله: (كَانُوْا يَفْتَتِحُوْنَ الصَّلاَةَ) قال
الإسماعيلي: إنما هو القراءة، والقراءة تسمى صلاةً قال الله جل وعز: {وَلَا
تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110].
وفي «صحيح ابن حبان»: «أَنَّ النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَكُونُوا
يَجْهَرُونَ بـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وَكَانُوا يَجْهَرُونَ بِـ
{الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}».
قد ذكر البيهقي في نفس الحديث: «كَانُوْا يَفْتَتِحُوْنَ القِرَاءَةَ (فأعني عن
بخرص؟) الإسماعيلي.
وعند النسائي: «يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
[الفاتحة: 1]، وَصَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا
مِنْهُمَا». وفي لفظ: «فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِـ {بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
وفي لفظ: «فَافْتَتَحُوْا بِالحَمْدِ». وعند ابن ماجه: «يَفْتَتِحُوْنَ
القِرَاءَةَ بالحَمْدُ لِلَّهِ».
وعند البيهقي: «قُمْتُ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ؛ فَكُلُّهُمْ
كَانَ لاَ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]». وقال:
كذا رواه مالك عن حميد
%ج 1 ص 228%
(1/415)
وخالفه
أصحاب حميد فقالوا: كانوا يفتتحون قراءتهم بالحمد، وفي لفظٍ: «لَا يَقْرَؤُونَ»
يعني: لا يجهرون بالبسملة كذا قال أبو نعامة عن أنس وهو ثقة، ورواه غيره فقال:
«لَا يَجْهَرُون» قال: وقوله: كانوا يستفتحون القراءة بالحمد أولى، فقد رواه أصحاب
قتادة عنه بهذا منهم حميد الطويل وأيوب والدُّسْتُوائي وابن أبي عروبة وأبان
العطار وحماد بن سلمة.
قَالَ الدَّارَقُطْني: وهو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس وكذا قاله الخطيب: في
كتابه «الجهر بالبسملة» قال وقد وضح بأن ما عداه من ذكر التسمية غير ثابت. انتهى.
ابن خزيمة رواه من حديث إدريس سمعت ابن أبي عروبة عن قتادة بلفظ: «أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَمْ يَجْهَرْ بِـ {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَلَا عُمَرُ، وَلَا عُثْمَانُ»
فينظر في الذي قاله البيهقي عن سعيد، وفي «العلل الكبير» للترمذي رواه أبو
الجَوَّابِ الأحوص بن جواب عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيقٍ عن الأعمش عن سعيد عن ثابت
عن أنس، قال: وهذا وهمٌ، والأصح شعبة عن قتادة عن أنس.
وفي «صحيح ابن خزيمة» من حديث عمران القصير عن الحسن عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يُسِرُّ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
[الفاتحة: 1] وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما».
قال محمد بن عبد الواحد المقدسي في «الأحاديث الجياد» تأليفه ورواه أبو جعفر محمد
بن عبد الرحمن الأرْزَناني عن عبد الله بن وهب عن محمد بن أبي السري حَدَّثَنا
المعتمر عن أبيه عن الحسن عنه عن عبد الله بن زهير حَدَّثَنا محمد بن أبي السري،
حَدَّثَنا معتمر عن أبيه عن الحسن مثله.
وفي «سنن أبي قُرَّة» عن أبان بن أبي عياش عنه: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وأبو بكرٍ وعمرَ يَسْتَفْتِحُونَ بالحمدِ».
قال أبان: قلت لأنس: بسم الله الرحمن الرحيم قال خلفها.
(1/416)
وفي
«كتابِ الصلاةِ» لأبي الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر الخفَّاف النيسابوري
الحافظ بسند صحيح: حَدَّثَنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا وكيعٌ، حَدَّثَنا شعبة عن
قتادة عنه: «فَلَمْ يَكُوْنُوْا يَفْتَتِحُوْنَ القِرَاءَةَ بِالبَسْمَلَةِ». وفي
لفظ: «يَفْتَتِحُوْنَ القِرَاءَةَ فِي الصَّلاَةِ بِالحَمْدِ للهِ».
وفي «الأوسط» للطبراني من حديث إبراهيم التيمي عن أنس: «صَلَّيْتُ خَلْفَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَتَّى قُبِضَ، وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ حَتَّى قُبِضَا، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَهَرَ بِـ {بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي الصَّلَاةِ، وَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ
بِالْحَمْد». وقال: لم يروه عن إبراهيم إلا العوَّامُ بنُ حَوْشَب تفرد به عبد
الله بن خراش، وفي حديث مالك بن دينار عن أنس: «فَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ القراءةَ
%ج 1 ص 229%
بالحمد وقال: لم يروه عن مالك إلا أبو إسحاق الحُمَيْسِي، ومن حديث عائِذِ بن
شُرَيْحٍ عنه: «فلمْ يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم». وعند الدَّارَقُطْني بإسناد
صححه من حديث العباس عن غسان عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: «سَأَلْتُ أَنَسًا
أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَفْتَتِحُ القِرَاءَةَ فِي
الصَّلاَةِ: بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أَوْ بِـ {الْحَمْدُ
لِلَّهِ}؟ فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِيْ عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ
أَحَدٌ».
وقال الخطيب: هذا الحديث صحيحُ الإسنادِ، ثَبْتُ الرجالِ، لا علة فيه، ولا مطعن
عليه.
(1/417)
وقال
أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي في كتابه «تصحيح التعليل»: بل هو إسنادٌ صحيحٌ
متصلٌ لكن هذه الزيادة في متنه منكرة موضوعةٌ، وقد تبع الدَّارَقُطْني في «تصحيحه»
غير واحد وذلك أن أبا مسلمة رواه عن أنس: «أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ» لم يجاوز هذا اللفظ، كذا رواه
غير واحد من الأئمة، فإنَّ رواية العباس عن غسان غير ثابتة، وإنَّ الثِّقاتِ رووه عن
غسان كرواية الأئمة، والعباس لا يُجَوِّزُ قبول زيادته؛ لأن الزيادة إنما تُقْبَلُ
عند أهل الصنعة من الثقة الْمُجْمَعِ عليه.
وقال عمر بن عبد البر: والذي عندي إنما هو مَنْ حفظهُ حجةٌ على من سَأَلَهُ في حال
كبره ونسيانه.
وفي «صحيح البخاري»: «سُئِلَ أَنَسٌ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَتْ قِرَاءَتُهُ مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ {بِسْمِ} وَيَمُدُّ {الرَّحْمَنِ} وَيَمُدُّ
{الرَّحِيمِ}».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَاتَ
يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ
مُتَبَسِّمًا فَقُلْنَا: مَا أَضْحَككَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَزَلَتْ
عَلَيَّ سُورَةٌ آنِفًا فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا
أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}».
(1/418)
وعند
الحاكم عن أنس: «سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَجْهَرُ
بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» وقال: رواته عن آخرهم ثقات، ومن حديث محمد
بن المتوكل ابن أبي السَّرِيِّ قال: «صَلَّيْتُ خلفَ الْمُعْتَمِرِ منَ
الصَّلَواتِ ما لا أُحْصِيْهَا الصبحَ والمغربَ فكانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللهِ
قبلَ فاتحةِ الكتابِ وبعدها» وعزا ذلك لأبيه وأبوه لأنس وقال أنس: «مَا آلُوْ أَنْ
أَقْتَدِيَ بِصَلاَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وقال: رواته ثقات.
ومن حديث عبد الله بن محمد بن إبراهيم الطائي، حَدَّثَنا إبراهيم التيمي وهو منكر
الحديث عن المعتمر بلفظ: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ
بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ».
ومن حديث أبي جابر شُعَيْبِ بنِ عمرو، حَدَّثَنا محمد بن أبي السري، حدَّثَنَا ابن
أبي أويس عن مالك عن
%ج 1 ص 230%
حميد عن أنس قال: (صَلَّيْتَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وَخَلْفَ أَبِيْ بَكْرٍ وَخَلْفَ عُمَرَ وَخَلْفَ عُثْمَانَ وَخَلْفَ عَلِيٍّ
فَكَانُوْا يَجْهَرُوْنَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». قال الحاكم:
إنما ذكرت هذا الحديث شاهدًا وفي هذه الأخبار التي ذكرتها معارضة لحديث قتادة الذي
يرويه أئمتنا عنه، وقد نفى في الباب عن أميري المؤمنين علي وعثمان، وطلحة وجابر
وعبد الله بن عمر والحكم الثُّمَالي والنعمان بن بشير وسَمُرَةَ بنِ جُنْدَبٍ
وبُرَيْدَةَ وعائشة كلها مخرجةٌ عندي لكني تركتها إيثارًا للتخفيف واختصرت منها ما
يليق بهذا الباب، وكذلك قد ذكرت في الباب من جهر بالبسملة من الصحابة والتابعين
وأتباعهم رضيَ الله عنهم أجمعين.
(1/419)
وفي
كتاب «الجهر بالبسملة» لأبي سعيد البُوشَنْجِي بسند صحيح عن حميد عن أنس: «كانَ
النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يجهرُ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} في الفريضةِ». رواه من حديث ابن أبي داود: حَدَّثَنا أحمد بن أخز بن
وهب، حدثني عمي، حَدَّثَنا عبد الله العمري ومالك وابن عيينة، ورواه من حديث محمد
بن جُمَيْلٍ، حَدَّثَنا العلاء بن حُصَيْنٍ بن عَائِذِ بن شُرَيْحٍ عن ثمامة بن
عبد الله عن أنس، ومن حديث عمرو بن يونس، حَدَّثَنا عبد الله بن يحيى، حدَّثَنَا
طريف عن أبي إسحاق عنه، ومن حديث أبي علي العُطَاردي، حَدَّثَنا محمد بن علي بن
الحسن بن شقيق سمعت أبي يقول: حَدَّثَنا أبو حمزة عن منصور بن زاذان عنه، ومن حديث
أبي مَسْحل وهشام البربري، حَدَّثَنا الحسن بن عمرو، حَدَّثَنا مِسْعَر عن قتادة
مرفوعًا وفي لفظ مالك وغيره عن حميد: «وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ فَكُلُّهُمْ كانوا يَجْهَرُوْنَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ}».
ومن حديث إبراهيم بن أدهم عن الأوزاعي عن قتادة وهمام وجرير عن قتادة به مرفوعًا
ومن حديث أبي ضمرة عن منصور بن زاذان عنه مرفوعًا، وفي كتاب الخطيب من حديث
إسماعيل المكي عن قتادة عن أنس: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يجهر بـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». انتهى.
فيه خدش لما ذكره الحاكم عن قتادة فينظر.
قال الخطيب: ثبت أن أنسًا لم يسمع البسملة من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
والتيمي لم ينص على سماعه لذلك منه كما قاله إسماعيل المكي بل أطلق، فيحتمل أن
يكون قد سمعه أنس من بعض الصحابة فرواه عنه رواية مرسلة، ومرسل الصحابي حجة.
انتهى.
إن كان المعتمر لم ينص على سماعه فقد ذكرنا من عند الحاكم حديثين فيهما سماعه لذلك
من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفي الباب حديث بشر بن رافع عن أبي عبد
الله
%ج 1 ص 231%
(1/420)
ابن
عم أبي هريرة: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ
الْقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}».
قال أبو عمر في كتابه «الإنصاف»: بشر بن رافع عندهم مُنْكَرُ الحديثِ، قد اتفقوا
على إنكار حديثه وطرح ما رواه وترك الاحتجاج به لا يختلف علماء الحديث في ذلك،
والذين يَرْوُونَ عن بشر: عبد الرزاق وحاتم بن إسماعيل وصفوان بن عيسى ولو صح
حديثه احتمل من التأويل أنه يفتتح بها دون غيرها من السور، ولم يقل دون البسملة؛
لأن البسملة في أول كل سورة مثبتة في المصحف، ورواه عبد الواحد بن زيد يعني
المستخرج عِنْدَ مُسْلِمٍ من طريق منقطعة عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي
هريرة: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَهَضَ فِي
الثَّانِيَةِ اسْتَفْتَحَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْد وَلَمْ يَسْكُتْ» قال: وهذه
رواية يعني ظاهرها عن الكلام فيها. انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ في مواضع:
الأول: قوله ولا يختلف علماء النقل في ذلك، ليس جيدًا لأنه ممن قال فيه كبير علماء
النقل يحيى بن معين فيما رواه عباس عنه لا بأس به وهذا توثيق من يحيى بَيَّنَ ذلك
عن نفسه، وقال ابن عدي: لا بأس بإخباره ولم أجد له حديثًا منكرًا، وقال البزاز:
احْتُمِلَ حديثه ولما خرَّج الحاكم حديثه في «الشواهد» قال: ليس بالمتروك. الثاني:
وجدنا عنه من الرواة غير من ذكر وهو عبد الوهاب بن همام أخو عبد الرزاق ويحيى بن
أبي كثير وهو من شيوخه.
(1/421)
الثالث:
وجدنا لهذا الحديث طريقًا صحيحًا على رسم الشيخين، قال الطبرانيُّ: حَدَّثَنا محمد
بن العباس الأخرم، حدَّثَنَا أبو حفص عمرو بن علي، حدَّثَنَا أبو داود الطيالسي،
حدَّثَنَا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن قال سمعت الأعرج يحدث عن أبي هريرة: «أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ:
{الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثُمَّ يَسْكُتُ هُنَيْهَةً» ثم قال: لم
يروه عن شعبة إلا أبو داود.
ورواه الدَّارَقُطْني عن ابن صاعدٍ: حَدَّثَنا عمرو بن علي فذكره، وقال: لم يرفعه
غير أبي داود عن شعبة ووقفه غيره فجعله من فعل أبي هريرة.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ من حديث العلاءِ بن عبد الرحمن عن أبي السائب قال: سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ:
«قَالَ اللهُ تباركَ وتَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}،
قَالَ اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ
اللهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي» الحديثَ.
قال أبو عمر هذا أصح حديث رُوِيَ في سقوط البسملة من أول الفاتحة، ورواه ابن جريج
عن العلاء كرواية مالك سواء، ورواه شعبة
%ج 1 ص 232%
والثوري وابن عيينة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة لم يذكروا أبا السائب، فمن أهل
العلم بالحديث من جعل هذا اضطرابًا يُوجِبُ التوقفَ عن العمل بحديث العلاء، ومنهم
من قال: ليس هذا باضطرابٍ لأن العلاء رواه عن أبيه وعن أبي السائب جميعًا، كذا
رواه أبو أويس عنه، والقول عندي في ذلك: أن مثل هذا الاختلاف لا يضرُّ لأن أباه
وأبا السائب من الثقات، فعن أيِّهما كان فهو من أخبار العدول التي يجب الحكم بها.
(1/422)
وفي
حديث منصور بن أبي مزاحم وهو من أهل الصدق عندهم: حَدَّثَنا أبو أويس عن العلاء عن
أبيه عن أبي هريرة: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِـ
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
قال أبو عمر: يعضدُ هذه الرواية رواية مالك وغيره: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ
يَا فَارِسِيُّ».
وأما حديث أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ
تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، إِذَا افْتَتَحَ
الصَّلَاةَ: بـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَيَقُوْلُ: ذْكُرنِي
عَبْدِي, ثُمَّ يَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَيَقُوْلُ:
حَمِدَنِي عَبْدِي» الحديثَ. فغير صحيح؛ لأن الدَّارَقُطْني رواه من حديث عبد الله
بن سمعان وهو متروك الحديث عن العلاء عن أبيه عنه، وقال: رواه جماعة من الثقات عن
العلاء فلم يذكر أحد منهم في حديث {بسم الله الرحمن الرحيم} واتفاقهم على خلاف ما
روى ابن سمعان أولى بالصواب.
وقال الملاحي الغافقي في كتاب «الجهر بالبسملة» تأليفه: تفرد عن ابن سمعان آدم ابن
أبي إياس بذكر البسملة، وآدم من شرط الشيخين، ومذهبهما أن الزيادة من الثقة
مقبولة. انتهى كلامه.
وفيه نظر في موضعين:
الأول: الدَّارَقُطْني رواه من حديث يوسف بن يعقوب بن البهلول عن أبيه عن ابن
سمعان باللفظ الذي قدمناه.
الثاني: لو كان ابن سَمْعَانَ ثقةً عندهما لتأتَّى له ما أراد، أما وهو متروك
فالزيادة ترجع إليه ولائقة به ولا تقبل زيادته إجماعًا.
(1/423)
وحديث
قَيْسِ بْنِ عَبَايَةَ قال: حدثني ابنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُغَفَّلِ عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: وَقَلَّمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشَدَّ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ
حَدَثًا مِنْهُ، فَسَمِعَنِي وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ أَقْرَأُ {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ، فَإِنِّي
صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ،
وَمَعَ عُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ رَجُلًا مِنْهُمْ يَقُولُهُ،
فَلاَ تَقُلْهَا إِذَا أَنْتَ صَلَّيْتَ».
وفي لفظ: «فَإِذَا قَرَأْتَ، فَقُلِ {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}».
قال الطُّوسي والترمذيُّ: هذا حديث حسن، قال أبو عيسى: والعمل عليه عند أكثر أهل
العلم من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومَن بعدَهم من التابعين،
وبه يقول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وعند أحمد: «فَكَانُوْا لاَ يَسْتَفْتِحُوْنَ
القِرَاءَة َبـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
وفي لفظ: «كَانَ أَبُونَا
%ج 1 ص 233%
إِذَا سَمِعَ أَحَدًا يَقُولُ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ:
أَهِي هِي، صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَأَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُ: {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}» وقَالَ البَيْهَقِيُّ: تفرد به أبو نعامة، واخْتُلِفَ
عليه في لفظه، وابن عبد الله بن مغفل وأبو نعامة لم يحتج بهما صاحبا «التصحيح»،
وقد قيل: عن أبي نعامة عن أنس وعارضه الشافعي بحديث أنس عن معاوية -يعني الآتيَ
بعدُ- وقال الخطيب: قد طعن بعض الفقهاء في سنده، وقال قيس: غير ثابت الرواية.
(1/424)
قال
أبو بكر الخطيب: وقيس لا أعلم أحدًا رماه ببدعة في دينه ولا كذب في روايته، ولكن
ابن عبد الله مجهولٌ، ولو صحَّ حديثه لم يكن مؤثرًا حديث أبي هريرة لصغره وكبر أبي
هريرة؛ ولأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يقول لأصحابه: «لِيَلِني
منْكُمْ أُولُو الأحلامِ والنُّهَى».
وقال أبو بكر خزيمة في كتاب «البسملة» تأليفه: مداره على ابن عبد الله وهو مجهولٌ.
وقال الثوري: نسب جماعة الترمذي في تحسينه إلى التساهل، وقالوا: هو حديث ضعيف وعلى
تقدير الصحة فلا يلزمهم من عدم السماع عدم القراءة بها سرًّا، وقال أبو عمر: زعم
قوم أن المنفرد به الجُرَيْرِيُّ، وليس هو عندي كذلك لأنه قد رواه غيره عن قيس،
والمنفرد به قيس وهو ثقة عند جميعهم، وأما ابن عبد الله فلم يرو عنه إلا قيس فيما
علمت، ومن لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول عندهم والمجهول لا يقوم به حجة.
ورواه معمر عن الجريري قال: أخبرني من سمع ابن عبد الله بن مغفل، ورواه إسماعيل بن
مسعود عن عثمان بن غياث عن أبي نعامة لم يذكر الجريري، فالحديث إنما يدور على ابن
عبد الله، وفي لفظٍ لعثمان بن غياث: «كان إذا سمع أحدًا يقرأ {بسم الله الرحمن
الرحيم} قال» الحديثَ.
أما قول البيهقي: لم يحتجا به فليس مؤثرًا في عدالته؛ لأنهما لم يشترطا الإخراج عن
كل الثقات ولا التزماه، ولو اشترطاه لما أطاقاه، وقول من قال: ابن مُغَفَّلٍ صغيرٌ
فغيرُ جيدٍ؛ لأنه ممن بايع تحت الشجرة ومن البكائين ومن الفقهاء الذين أرسلهم عمر
ليفقِّهوا أهل البصرة، ويشبه أن يكون سِنُّه على هذا قريبة من سنِّ أبي هريرة مع
فقهه وقلة روايته وفيهما ترجيح لروايته، نصَّ عليه أهل الحديث.
(1/425)
وأما
ابن عبد الله بن مغفل الذي دار الحديث عليه فمعروف غير مجهول، قال الخطيب في كتابه
«رافع الارتياب»: ومن خَطِّه روى زفر عن أبي حنيفة عن أبي سفيان عن عبد الله بن
يزيد بن مغفل عن أبيه: «أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ إِمَامٍ فَجَهَرَ بِـ {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَقَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ» الحديثَ.
قال: وكذلك رواه محمد بن
%ج 1 ص 234%
الحسن وأبو يحيى الحِمَّاني واللؤلُئِي عن أبي حنيفة والصواب عن يزيد بن عبد الله
بن مغفل عن أبيه: أخبرنا الخلَّالُ، أخبرنا ابنُ الْمُظَفَّر، أخبرنا ابنُ
صَاعِدٍ، حدَّثَنَا أبو الخطاب زياد الحساني، حدَّثَنَا بكر بن بكار، حدَّثَنَا
حمزة الزيات عن أبي سفيان عن يزيد بن عبد الله بن مغفل عن أبيه: «أَنَّهُ صَلَّى
مَعَ إِمَامٍ فَجَهَرَ بِالبَسْمَلَةِ, فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: يَا هَذَا غَيِّرْ
عَنَّا هَذِهِ التِي أَرَاكَ تَجْهَرُ بِهَا؟ قَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَجْهَرُوا
بِهَا».
وروينا في «معجم الطبراني» ترجمة يزيد بن عبد الله بن مغفل عن أبيه قال الطبراني:
حَدَّثَنا معاذُ بنُ المثنى، حدَّثَنَا شهابُ بنُ عَبَّاد، حدَّثَنَا خالدُ بنُ
عبد الله الجُرَيْرِيُّ، عن قيس بن عباية فذكره، وحَدَّثَنَا محمد بن محمد
الْجُذُوعِيُّ، حدَّثَنَا عقبة بن مكرم، حدَّثَنَا سالم بن نوح عن الجريري عن عبد
الله بن بريدة عن ابن عبد الله بن مغفل الحديثَ.
(1/426)
وزعم أبو الفرج بن الجوزي أنَّ البخاريَّ ذكر يزيد بن عبد الله هذا في «تاريخه»، وقال أيضًا: سماه بعض الرواة يزيد، وأما ما وقع في بعض نسخ الترمذي عن قيس عن عتبة بن عبد الله بن مغفل فكأنه غير جيد لما أسلفناه فخرج ابن عبد الله من جهالة العين برواية قيس وابن بُرَيْدَةَ وأبي سفيان عنه، ودخل في حيز المستورين؛ لأنه لم يتكلم فيه أحد فيما رأيت، وذكر البخاري له من غير تعرض الحالة دلَّ أنه عنده على الاحتمال في الستر فتبين أن قول من حسَّنَهُ هو الصواب وأن قيسًا أيضًا لم يتفرَّد به والله تعالى الموفق.
(1/427)
وحديث
جابر بن عبد الله: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «قَالَ
اللهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ:
{الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي» الحديثَ. ذكره الحافظ
أبو بكر الإسماعيلي بسند صحيح في «معجمه» الذي أخبرنا به المسند الرَّحَلة أبو
زكريا يحيى بن يوسف المقدسي قراءة عليه عن العلامة ابن بنت الجُمَّيْزِيِّ أخبرتنا
شُهْدَةُ بنتُ أحمد الأثرية، أخبرنا إبراهيم بن هَرِيسة، أخبرنا الحافظ البُرْقاني
عنه، قال: حَدَّثَنا الحسن بن علي بن نصر الطُّوسي أبو علي بجرجان، أخبرنا أبو
سعيد الأشج، حدَّثنا زيد بن الحباب عن عَنْبَسَةَ قَاضِي الرَّيِّ عن مطرف عن سعد
بن إسحاق عن جابر فذكره وحديث أبي السائب رَجُل مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أنَّ رَجُلًا صَلَّى والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: ارْجِعْ
فَصَلِّ -ثَلَاثًا- فَقَالَ: ابْدَأْ فَكَبِّرْ وَتَحْمَدُ اللهَ وَتَقْرَأُ أُمَّ
الكِتَابِ» الحديثَ. ذكره البخاري في «كتاب القراءة خلف الإمام» وسيأتي الكلام
عليه، وحديث أُبِيِّ بن كعب قال: «قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَاتِحَةَ الكِتَابِ ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَبُّكُمْ جَلَّ وَعَزَّ: ابنَ آدَمَ
أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ سَبْعَ آيَاتٍ ثَلاَثٌ لِي وَثَلاَثٌ لَكَ
%ج 1 ص 235%
(1/428)
وَوَاحِدَةٌ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَأَمَّا الَّتِي لِي: فَـ {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وَالَّتِي
بَيْنِي وَبَيْنَكَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مِنْكَ الْعِبَادَةُ وَعَلَيَّ الْعَوْنُ
لَكَ، وَأَمَّا الَّتِي لَكَ: فَـ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هَذِهِ
لَكَ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}
الْيَهُودِ، {وَلَا الضَّالِّينَ} النَّصَارَى» رواه أبو القاسم في «الأوسط» من
حديث سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي سلمة عنه، وقال: لم يروه عن الزهري إلا
سليمان.
وحديث أبي بكر الصديق: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يُكَبِّرُ
ثُمَّ يَبْتَدِئُ بالحمدِ» ذكره عبد اللطيف بن يوسف في كتاب «الواضحة في كلامه على
الفاتحة».
وحديث إسحاق بن البهلول أبي يعقوب عن يحيى بن المتوكل الباهلي عن إبراهيم بن يزيد
المكي، حَدَّثَنا سالم عن أبيه: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وأبا بكرٍ وعمرَ كانوا يَفْتَتِحُونَ القراءةَ بـ {الحمدُ لله ربِّ العالمين}».
ذكره الإمام أبو سعيد إسماعيل بن أبي القاسم البوشنجي في كتابه «الجهر بالتسمية»
الذي ألفه الخليفة المستظهر ثم قال: وقد رُوينا مثل مذهبنا -يعني الجهر بالتسمية-
نَصًّا عنه مرفوعًا وموقوفًا، فَيَتَأَوَّلُ ما رَوَوْهُ من هذا بما أَوَّلْنَاهُ
في حديث أنس.
وحديث عائشة رضي الله عنها خرَّجه مسلم من حديث بُدَيْلِ بنِ مَيْسَرَةَ عَنْ
أَبِي الْجَوْزَاءِ، عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِـ {الْحَمْدُ لِلهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ}».
(1/429)
وقال
أبو عمر في «الإنصاف» و «التمهيد»: هو حديث انفرد به بُدَيْلٌ عن أبي الجوزاء ليس
له إسناد غيره وهما ثنتان لا يُخْتَلَفُ فيهما إلا أنهم يقولون إن أبا الجوزاء لا
يُعْرَفُ له سماعٌ من عائشة وحديثه عنها إرسال. انتهى.
أما سماعه منها فممكن لكونهما كانا في عُمْرٍ واحدٍ وبلدٍ واحدٍ، يؤيد ذلك ما رواه
الفريابي في كتاب «الصلاة» حَدَّثَنا مزاحم بن سعيد، أخبرنا ابن المبارك،
حدَّثَنَا ابن طهمان، حدَّثَنَا بُدَيْلٌ عن أبي الجوزاء قال: «أرسلتُ رسولًا إلى
عائشةَ أسألها عن صلاة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» الحديثَ.
وقال الطبرانيُّ: لم يروه عن عبد الرحمن بن بديل عن أبيه إلا أبو داود الطيالسي،
وفي «تاريخ البخاري» عن مسدد عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك النُّكْري عن أبي
الجوزاء قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة ليس من القرآن العظيم آية
إلا سألتهما عنها.
قال أبو عبد الله: في إسناده نظرٌ، وقد وردتْ أحاديث ظاهرها تعارض هذه الأحاديث
منها: حديث شريك عن سالم عن ابن جبير عن عبد الله بن عباس قال: «كانَ رسولُ الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صلاتَهُ بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}».
قال الحاكم: هذا إسناد صحيح ليست له علة، احتج مسلم بشريك، والبخاري بسالم وهو ابن
عجلان
%ج 1 ص 236%
(1/430)
الأفطس،
ورواه أبو سعيد البوشنجي في كتاب «الجهر بالتسمية» من حديث مسلم بن إبراهيم،
حَدَّثَنا حماد بن سلمة عن عاصم عن سعيد عنه، ومن حديث عبد الصمد بن علي عن أبيه
عن جده يرفعه، وقال ابنُ دِحْيَة في كتاب «البسملة»: حديث ابن عباس حسنٌ غريبٌ وهو
صالح الإسناد مستقيمه، ولما رواه أبو القاسم في «الأوسط» من حديث سعيد بن خُثَيْمٍ
عَنِ الْأَوْقَصِ عن عطاء عنه، ورواه أبو عيسى من حديث المعتمر عن إسماعيل بن حماد
بن أبي سليمان عن أبي خالد الوالبي هرمز عنه، وقال: ليس إسناده بذاك، وقال ابن عبد
البر: الصحيح في هذا الحديث أنه روي عن ابن عباس فعله لا مرفوعًا، واخْتُلِفَ عليه
أيضًا والأكثر والأشهر أنه كان يجهر بها، وإنها أول آية من الفاتحة وعليه جماعة
أصحابه.
ورويناه في «معجم ابن جُمَيْع» من حديث أحمد بن محمد بن عمارة عنه مرفوعًا.
وفي «كتاب الدَّارَقُطْني» بسندٍ حُكِمَ عليه بالصحة في بعض النسخ من حديث أحمد بن
محمد بن يحيى بن حمزة حدثني أبي عن أبيه قال: صلَّى بنا المهدي فجهر بالبسملة،
قال: فَسَأَلْتُهُ، فقال: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن ابن عباس: «أنَّ النبيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جَهَرَ بالبسملةِ».
ومن حديث جعفر بن عنبسة عن عمر بن حفص المكيِّ، حدَّثَنَا ابن جريج عن عطاء عنه:
«أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يَزَلْ يجهرْ في السُّوْرَتَيْنِ بـ
{بسمِ الله الرحمنِ الرحيمِ} حتَّى قُبِضَ».
(1/431)
قال
ابن القطان: جعفر هذا مجهولُ الحالِ وضعف به الحديث، وعند الحاكم من حديث مُثَنَّى
بن الصَّبَّاحِ عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عنه: «كانَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ لا يعلمُ خَتْمَ السُّورةِ حتى تنزلَ {بسم الله الرحمن الرحيم}». ومن
حديث الوليد بن مسلم، حدَّثَنَا ابن جريج عن عمرو عن سعيد عنه: «كَانَ
المُسْلِمُوْنَ لاَ يَعْلَمُوْنَ انْقِضَاءَ السُّوْرَةِ حَتَّى تَنْزِلَ {بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَإِذَا نَزَلَتْ عَلِمُوْا أَنَّ السُّوْرَةَ
قَدِ انْقَضَتْ». وقال: صحيح على شرط الشيخين، وقال الخطيب في كتابه «نهج الصواب»:
هذا حديثٌ محفوظٌ غير أنَّه مختلفٌ في وصله وإرساله، وأما قول أبي العباس بن تيمية
في كتابه «إيضاح الدلالة والبرهان على أن البسملة آية من القرآن»: لا أعلم لمن
انتهى أثرًا إلا حديث ابن عباس فغير جيد لما يذكره بعد.
وعند أبي داود من حديث ابن جبير عن ابن عباس: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كَانَ لاَ يَعْرِفُ فَصْلَ السُّوْرَةِ ... ) الحديثَ. ولما ذكره في
«المراسيل» من غير ذكر ابن عباس قال: قد أُسْنِدَ هذا الحديث، والمرسل أصح، وقال
الخطيب روى سعيد عنه: «كَأن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَجْهَرُ
بِقِرَاءَةِ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وَكَانَ المشْرِكُوْنَ
تَرَاهُ يَدْعُو إِلَى إِلَهِ الْيَمَامَةِ، -يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ- فَنَزَلَتْ
{وَلا تَجْهرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء 110] فَمَا جَهَرَ رَسُوْلُ اللهِ
%ج 1 ص 237%
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بعدُ».
(1/432)
قال
أبو عمر: هذه الرواية الضعيفة في تأويل هذه الآية لم يُتَابَعْ عليها الذي جاء
بها، وقَالَ البَيْهَقِيُّ في «المعرفة»: حديث ابن عباس عنه وعن أصحابه مثل عطاء
وابن جبير وطاوس ومجاهد وعكرمة مشهور، وفيه دلالة على خطأ وقع في رواية عبد الملك
بن أبي بشير عن عكرمة عنه: الجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} قراءة الأعراب، قال
ابن خزيمة: أراد بذلك والله أعلم أن الأعراب لا يخفى عليهم أن البسملة من القرآن
وأنه يُجْهَرُ بها فكيف العلماء وأهل الحضر؟.
وفي «نهج الصواب» من حديث بَحْرِ بْنِ كَنِيزٍ عن الزهري عن عبيد الله عنه: «كَأن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الْقِرَاءَةَ بِـ {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وَيَقُوْلُ مَنْ تَرَكهَا فَقَدْ تَرَكَ آيَةً مِنْ
كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، مِنْ أَفْضَلِهَا»، وعند الحاكم: أخبرنا عبد الله بن محمد
بن الزاهد، حدَّثَنَا أبو زكريا يحيى بن محمد الكرسني حَدَّثَنا عيسى بن محمد بن
موسى الطُّرَيْثِيثِي، حدَّثَنَا أبو نصر، حدَّثَنَا مقاتل بن سليمان عن الضحاك
عنه عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَ
قَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ سُوْرَةً لَم يُنْزِلْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ
وَالرُّسُلِ تُتْلَى، قَالَ اللهُ تَعاَلَى: قَسَمْتُ هَذِهِ السُّورَةَ بَيْنِي
وَبَيْنَ عَبْدِي وَهِيَ فَاتِحَةُ الكِتَابِ، جَعَلْتُ نِصْفَهَا لِي وَنِصْفَهَا
لَهُ، وَآيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَإِذَا قَالَ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} قَالَ اللهُ تعالى: عَبْدِي دَعَانِي بِاسْمَيْنِ رَقِيقَيْنِ،
أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ، الرَّحِيمُ أَرَقُّ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا
قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ... » الحديثَ.
(1/433)
وحديث
الليث بن خالد بن سعيد وهما جميعًا ثقتان من ثقات المصريين، وقد رواه غير الليث،
وقد تابع المقبري وهو مولى التَّوأَمَة.
وقَالَ الدَّارَقُطْني: رواته ثقات، وذكره الجارودُ في «منتقاه»، وابن حبان في
«صحيحه» وقَالَ البَيْهَقِيُّ: إسناده صحيح، وفي موضع آخر رواته ثقات مجمعٌ على
عدالتهم مُحْتَجٌ بهم في الصحيح وكذا قاله الإشبيلي وأبو شامة في آخرين.
وقال الخطيب: هذا حديث ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل لاتصال إسناده وثقة رجاله.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وشاهده: ما أخبرناه أبو محمد عبد الله
بن إسحاق، حَدَّثَنا إبراهيم بن إسحاق السراج، حَدَّثَنا عقبة بن مكرم، حدَّثَنَا
يونس بن بُكَيْر، حدَّثَنَا مسعر عن محمد بن قيس عن أبي هريرة: «كَأن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَجْهَرُ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
قَالَ الدَّارَقُطْني: الصواب إلى هذا السند أبو معشر -يعني بدل مسعر- وعنده من
حديث منصور بن مزاحم حَدَّثَنا أبو أويس عن العلاء عن أبي هريرة: «أن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ
%ج 1 ص 238%
يَؤُمُّ النَّاسَ افْتَتَحَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى, اقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ
فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَإِنَّهَا الْآيَةُ السَّابِعَةُ.
ومن حديث خالد بن إلياس عن سعيد بن أبي سعيد عنه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «عَلَّمَنِيْ جِبْرِيْلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَامَ فَكَبَّرَ
ثُمَّ قَرَأَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِيْمَا يَجْهَرُ بِهِ فِي
كُلِّ رَكْعَةٍ».
(1/434)
قال
أبو عمر: مما يشهد لصحة حديث ابن أبي هلال عن نعيم حديث سعيد وصالح بن بنان، ورواه
ابن أبي أويس عن العلاء، ورواه الحاكم في «الإكليل» من حديث الْمُعَافَى بن عمران
عن نوح عن أبي بلال عن أبي هريرة يرفعه: «{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}
سَبْعَ مَرَّاتٍ أَوَّلَهُنَّ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وَهِيَ
السَّبْعُ الَمثَانِي». وعند الدَّارَقُطْني بسند صحيح من حديث أبي بكر بن الحنفي
عن عبد الحميد بن جعفر أخبرني نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد عنه: «إِذَا
قَرَأْتُمِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فَاقْرَؤوا: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ , وَأُمُّ الْكِتَابِ, وَالسَّبْعُ
الْمَثَانِي, و {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إِحْدَى آيَاتُهَا».
قال الحنفي: ثم لقيت نوحًا فحدثني عن سعيد عن أبي هريرة بمثله ولم يرفعه، وفي هذا
ردٌّ لما قاله أبو القاسم في «الأوسط» ورواه من حديث علي بن ثابت الجزري عن نوح
بلفظ: «كَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ
العَالَمِينَ} سَبْع آيَاتٍ إِحْدَاهُنَّ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}،
وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وهي أُمُّ الْقُرْآنِ وفَاتِحَةُ الْكِتَابِ» لم
يروه عن نوح إلا عبد الحميد تفرد به علي بن ثابت، ولما ذكره الإشبيلي مصححًا له
عاب ذلك أبو الحسن القطان بأن الحنفي رواه له سعيد موقوفًا بخلاف ما رواه له عبد
الحميد، فصارت المسألة مسألة ما إذا رُوي عن رجل حديث وأنكر أن يكون حدَّث به، أو
تكون مسألة رجلٍ مُضَعَّفٍ اخْتُلِفَ عليه. انتهى.
(1/435)
عبد
الحميد حديثه في «الصحيحين»: فإذا رفع شيئًا قُبِلَ منه، وفي «نهج الصواب» لعلَّ
نوحًا سمعه من أبي سعيد ومن سعيد، ورواه عنهما ويصح القولان معًا، ورواه إسماعيل
البوشنجي في كتابه «الجهر بالبسملة» من حديث عصمة بن خالد عن أبي أويس عن الزهري
عن سعيد بن المسيب عنه مرفوعًا بلفظ: «كَانَ يَفْتَتِحُ القِرَاءَةَ بِ {بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَإِذَا قَالَ: وَلاَ الضَّالِّيْنَ قَالَ: آمِيْن
يَجْهَرُ بِهَا وَيَقُوْلُ: مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ
غُفِرَ لَهُ» ثم قال: متن الحديث متفق عليه، والرواية عن والد عصمة ومن يروي عنه
عصمة مختلف فيه.
وحديث أنس بن مالك عن معاوية بن أبي سفيان وَصَلَّى بِالْمَدِينَةِ صَلَاةً جَهَرَ
فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَقَرَأَ فيها: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
لِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقْرَأْ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
لِلسُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَلَمَّا سَلَّمَ
%ج 1 ص 239%
نَادَاهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ:
يَا مُعَاوِيَةُ، أَسَرَقْتَ الصَّلَاةَ أَمْ نَسِيتَ؟ فَلَمَّا صَلَّى بَعْدَ
ذَلِكَ قَرَأَ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لِلسُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ
أُمِّ الْقُرْآنِ». رواهُ الحاكمُ من حديث الشافعي عن عبد المجيد عن ابن جريج
أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْمٍ أن أبا بكر بن حفص أخبره عنه وقال: صحيح على
شرط مسلم، فقد احتج بعبد المجيد بن عبد العزيز، وسائر الرواة متفق على عدالتهم وهو
علة لحديث شعبة وغيره عن قتادة عن أنس الذي فيه عدم الجهر بالبسملة، فإن قتادة على
عُلُوِّ قَدْرِه يُدَلِّسُ ويأخذ عن كل أحد.
وقَالَ الدَّارَقُطْني: رجاله كلهم ثقات وهو مخالف لما ذكره عنه ابن بدر الموصلي
في كتابه «المغني عن الحفظ والكتاب».
(1/436)
قَالَ
الدَّارَقُطْني: لا يصح في الجهر بالبسملة شيء وكأنه غير جيد لما ذكرناه والله
تعالى أعلم.
ورواه الدَّارَقُطْني أيضًا من حديث إسماعيل بن عياش، حدَّثَنَا عبد الله بن
خُثَيْمٍ عن إسماعيل عن عُبَيْدِ بن رفاعة عن أبيه عن جده، وقال الإمام الشافعي:
ورواه عن يحيى بن سُلَيْم عن ابن خُثَيْم أحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول،
قَالَ البَيْهَقِيُّ: أراد الشافعي أن اثنين روياه عن ابن خُثَيْمٍ عن إسماعيل إلا
أنه قال عن إسماعيل بن عبيد عن أبيه عن جده، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج كما
رواه عبد المجيد.
وابن جريج حافظ إلا أن الذين خالفوه عن ابن خُثَيْم وإن كانوا غير أقوياء فهم
عددٌ، ويحتمل أن يكون ابن خثيم سمعه من الوجهين والله تعالى أعلم، قال الخطيب:
فحصل من هذا الحديث خاصة أن الجهر بالتسمية مذهب من كان بالمدينة أجمعوا عليه،
والإجماع عند مالك إجماع أهل المدينة.
وفي لفظ عنده: «أينَ {بسم الله الرحمن الرحيم}؟ وأينَ التكبير إذا خَفَضْتَ
ورفعتَ؟».
قال الخطيب: وذكر هذا الخبر عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر.
وحديث أم سلمة «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَرَأَ فِي
الصَّلَاةِ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَعَدَّها آيَةً {الْحَمْدُ
لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيَتَيْنِ، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثَلَاثُ آيَاتٍ»
الحديثَ. ذكره البوشنجي في كتابه «الجهر بالبسملة» وقال: حديث سعيد بن يحيى بن
سعيد الأموي عن ابن جريج عن أبي مليكة، وقال: قال طاهر النيسابوري هذا حديث حسن،
ورواه ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث خالد بن خداش، حَدَّثَنا عمر بن هارون عن ابن
جريج عن ابن أبي مليكة عنها، ولما خرجه أبو عبد الله في «مستدركه» وقال: عمر بن
هارون أصل
%ج 1 ص 240%
(1/437)
في
السنة، وإنما خرجه شاهدًا، وقال أبو شامة: هذا حديث صحيح وكذا قاله غيره ممن تبعه
من المتأخرين، كأنهم اعتمدوا على تصحيح ابن خزيمة وما علموا أن صالح بن محمد قال
في عمر: كان يكذب وتكلم فيه غيره بكلام فيه إِقْذَاعٌ، ولما ذكر الطُّرْطُوشي
حديثه: «الشفعة في كل شيء» رده بقوله: عمر بن هارون كذاب.
وقَالَ البَيْهَقِيُّ: في هذا الموضع ليس بالقوي فنظرنا لعلَّنَا نجده من رواية
غيره فوجدنا أبا عبيد القاسم بن سلام رواه في كتاب «القراءة» بسند صحيح عن يحبى بن
سعيد الأموي، حدَّثَنَا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها بلفظ: «يقطع قراءته آيةً
آيةً {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِله رَبِّ
الْعَالَمِينَ}». وأبا بكر بن أبي شيبة رواية عن حفص بن غياث عن ابن جريج مثله،
وفي كتاب «الجرح والتعديل» للسَّاجي مُتَابِعًا لابن جريج بسند صحيح على رأي ابن
حبان قال: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْحَرَشِيُّ، حَدَّثَنا عمرُ بنُ علي
الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنا نافعٌ عن عمرَ الجُمَحِيِّ سمعت ابنَ أبي مُلَيْكَةَ
يحدث عن أم المؤمنين رضي الله عنها الحديثَ.
(1/438)
ورواه
أبو القاسم المغربي عن داود بن رُشَيْد، حدَّثَنَا يحيى بن سعيد عن ابن جريج ثم
إنَّا نظرنا فيه ثانيةً فوجدنا فيه علة خفيت على ابن خزيمة وغيره ذكرها أبو عيسى
فإنه لما رواه عن علي بن حُجْرٍ عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج من غير التسمية قال:
هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل لأن الليث روى هذا الحديث عن أبي مليكة عن
يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عن أم سلمة أنها وصفت قراءة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ حرفًا حرفًا، وحديث الليث أصح وقاله بعد أبي عيسى غيره فأردنا أن يعرف
حال يَعْلى هذا الداخل بين ابن أبي مليكة وبين أم سلمة، وإن كان السَّاجِيُّ قد
أسلفنا عنه تحديثه عنها على لسان ثقة فكفانا مؤنة الانقطاع الذي لم يجزم به
الترمذي، وليس بمجرد رواية الشخص عن آخر بوساطة تدل على عدم سماعه منه، هذا الليث
سمع من الزهري الكثير وروى عن جماعة عنه وكذا غيره فيحمل حديث ابن أبي مليكة هنا
على أنه سمعه أولًا من يعلى عنها ثم مشى إليها فسمعه منها وهذه سجية جماعة من
الأئمة ولكونه معاصرها وقطين بلدها، وسمع ممن هو أقدم موتًا منها، ولم يقضِ أحد
على انقطاع ما بينهما وفي بعض هذا كفاية.
ولئن سلمنا الانقطاع فالواسطة بينهما ثقة ذكره ابن حبان في كتاب «الثقات» فصح سند
هذا الحديث على هذا والله تعالى أعلم.
وحديث عبد الله بن عُمَرَ: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ
إِذَا افْتَتَحَ الصلاةَ بدأَ بِـ {بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ}». ذكره
أبو القاسم في «الأوسط» بسند ضعيف وقال: لم يروه عن عبد الله بن عمر عن نافع إلا
ابن أخيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر
%ج 1 ص 241%
(1/439)
تفرد
به عتيق بن يعقوب الزبيري، وفي موضع آخر: «بدأَ بـ {بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ}
في أمِّ القرآنِ وفي السُّورةِ التي تليها» ويذكر أنه سمع ذلك من النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفي «علل الدَّارَقُطْني»: وقد جاء من رواية معتمر وعقبة بن
عامر وأبي ضمرة عن عبد الله مرفوعًا ورواه أيوب السختياني وابن عون والحسن بن الحر
والضحاك بن عثمان ويزيد بن عياض عن نافع عنه موقوفًا، وذكره في كتاب «السنن» بسند
صحيح عن أحمد بن محمد بن سعيد، حَدَّثَنا أحمد بن رُشْد بن خُثَيْمٍ الهلالي،
حدَّثَنَا عمِّ سعيد بن خثيم، حدَّثَنَا حنظلة بن أبي سفيان عن سالم عنه: «أنَّه
كانَ يجهرُ بـ {بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ}، وذكرَ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كان يجهرُ بها». قال الخطيب: وهذه أوضح طريقًا من حديث سالم: «كانَ
لا يَجْهَرُ».
وفي «السنن» أيضًا: من حديث جعفر بن محمد بن مروان، حدَّثَنَا أبو الطاهر أحمد بن
عيسى، حدَّثَنَا ابن أبي فُدَيْكٍ، عن نافع عنه: «قالَ: صَلَّيْتُ خلفَ النبيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأبي بكر وعمر فكَانُوا يَجْهَرُونَ بالبسملةِ»،.
قال أبو الحسن: ورواه إبراهيم بن مُبَشِّر وهو متروك عن سالم عن أبيه بلفظ ابن أبي
فديك.
(1/440)
وفي
«الإكليل»: من طريق ضعيفة من حديث إسماعيل بن محمد الطلحي، حَدَّثَنا داود بن عطاء
عن موسى بن عقبة عن نافع عنه: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ:
«كانَ جبريلُ إِذَا جاءنِي بالوحي أول ما يُلْقِي عليَّ {بسم الله الرحمن الرحيم}».
وفي كتاب البوشنجي من حديث طاهر بن حماد بن عمرو المعري عن نافع، ومن حديث عبد
الرحمن بن عبد الله عن أبيه وعمه عبيد الله عن نافع، ومن حديث مسلم بن إبراهيم
حَدَّثَنا حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع كلهم عنه مرفوعًا وفيه كما ترى رد لما
ذكره الدَّارَقُطْني، ورواه البوشنجي أيضًا من حديث أبي بكر المقدمي حَدَّثَنا
المعتمر، حدَّثَنَا أبو عبيدة عن مسلم عن أبي الرَّحيل قال: دخلَ رجلٌ يُكَنَّى
أبا القَعْقَاعِ وجابر بن زيد على ابن عمر فصلَّى بهم فقرأَ بسم الله الرحمن
الرحيم فَسُئِلَ فقالَ: «صلَّيْتُ خلفَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو
يقرأُ بِهَا حَتَّى ماتَ، وخلفَ عمرَ يقرأُ بها حَتَّى ماتَ، ولنْ أَتْرُكَهَا
أَنَا حَتَّى أموتَ إنْ شاءَ الله تعالى». وزعم الشيخ أبو عمرو وعثمان بن ذخيرة
أخي أبي الخطاب في كتابه «الانتصار لما صح في البسملة من الأخبار»: أن حديث أبي
الطاهر عن ابن أبي فديك عن نافع صحيح لا مطعن في رجاله لأحد، وجميع رواته ثقاتٌ
حُفَاظٌ أثباتٌ، وهو على شرط الأئمة الملتزمين لتخريج الصحيح، وهو حديث عزيز
الوجود يلزمهم إخراجه لصحته واستواء طرفيه في الحفظ والعدالة والجلالة، وهو يساوي
رِحْلة ولو ضربت أكباد الإبل
%ج 1 ص 242%
في طلبه إلى بَرْكِ الغِمَاد لكان قليلًا، وقدْ خرَّجَ جماعة من الحفاظ في البسملة
أجزاءً لا تساوي هباء، ولابن عبد البر في ذلك كتاب سماه «الانتصاف» هو أجودها إلا
أنه ما عثر على هذا الحديث ولا اهتدى إليه ولم يقف كما لم يقف غيره من المتعصبين للشافعي
عليه. انتهى كلامه.
غفر الله لنا وله وللمسلمين.
(1/441)
وهَذَا
لَعَمْرِي قولُ منْ لمْ يُبَاشِرِ ... كلامَ الحَدِيثيِّيْنَ وَسْطَ الدَّفَاتِر
ولم يرَ شيئًا قالهُ في كتابه ... علي نُرَاهُ الفضلَ عندَ الْمُكَابِرِ
بأنَّ الذي يرويه يكذبُ في الذي ... يقولُ شهيرًا عندَ أهلِ البصائِرِ
ولو هداه الله بأن نظر في أصل كتاب «السنن» لوجد الدَّارَقُطْني قال إثر تخريج هذا
الحديث: أبو الطاهر أحمد بن عيسى هذا كذاب، فعدم هدايته إلى هذا الحديث أولى به من
الاهتداء إليه وأظنه اعتقد أنه أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السَّرْح، وابن
السَّرْحِ لمْ أرَ له رواية عن أبي فديك وقد كفى هذا التخرصَ كلَّه والحسبانَ قولُ
الدَّارَقُطْني؛ لأنه صاحب الدار وهو أدرى بالذي فيه، على أنَّا قد أسلفنا حديث
سالم من عند الدَّارَقُطْني وسنده صحيح فلو اهتدى إليه لم ينكره أحد عليه، ثم
إنَّا وجدنا في الحديث عِلَّتَيْنِ توجبان ضعفه أن لو كان أحمد ثقة بينهما أبو
سعيد البوشنجي:
الأولى: هل هو أبو طاهر أو ابن طاهر ذكره عن السُّلَمي أبي عبد الرحمن.
الثانية: دخول واسطة ابن أبي ذئب وهو وإن كان إمامًا ثقة فيه إشعار بعدم ضبط
الراوي عنه والله تعالى أعلم.
(1/442)
وحديث
جابر: «قَالَ لِيْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَيْفَ تَقْرَأُ
إِذَا قُمْتَ فِي الصَّلاَةِ؟ قُلْتُ: أَقْرَأُ {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} قَالَ قُلْ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». رواه أبو عبد
الله الحاكم في كتابه «الإكليل» بسندٍ جيدٍ من حديث عبد الله بن نافع الصائغ عن
جَهْمِ بن عثمان الْمُصَحَّحِ حديثه عنده في «المستدرك» عن جعفر محمد عن أبيه عنه،
وفي كتاب البوشنجي من حديث حفص بن عمر الدوري حَدَّثَنا عبد الله بن قطن عن الفضل
بن نجيح عن مالك عن أبي الزبير عنه «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».وحديث علي بن
أبي طالب: «كَان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فِي صَلاَتِهِ».قال أبو شامة في حديثه: هو حديث صحيحٌ.
وقال الخطيب في «نهج الصواب»: وقد صحت الرواية عن عليٍّ وابن عباس وابن عمر وأبي
هريرة، ورواه في «الإكليل» بسند لا بأس به
%ج 1 ص 243%
عن إبراهيم بن حماد، حَدَّثَنا محمد بن حماد بن إسحاق، حدَّثنا سليمان بن عبد
العزيز بن أبي ثابت، حدَّثَنَا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن عن أبيه عن
جده عبد الله بن حسن بن حسن عن أبيه عن الحسن بن علي عن علي، ومن حديث عيسى بن عبد
الله بن محمد بن عمر بن علي، حدثني أبي عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: «يَجْهَرُ
فِي السُّوْرَتَيْنِ جَمِيْعًا».
ومن حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن أبيه عن علي: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ قُلْتُ:
{الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ قُلْ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ}».
(1/443)
ومن
حديث عَمْرو بن شمر عن جابر عن أبي الطفيل عن عليٍّ وعمار: «أن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ فِي المَكْتُوْبَاتِ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ}».
ومن حديث محمد بن حسان العَبْدِي عن الجُعْفِي بنحوه، ورواه أبو عمرو بن دحية من
جهة الطبراني من حديث إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن محمد بن حسان العبدي عن جابر ثم
قال: هذا حديث غريب وهو صالح الإسناد إن شاء الله تعالى. انتهى.
ما أدري من أي أمريه أعجب، أمن استغرابه إياه مع ما ذكرنا من طُرُقِه أو من
صلاحيته وفيه عنده إبراهيم، وفيه يقول أبو حاتم الرازي: كذَّاب، وجابر الجعفي مثله
وشر منه، وكان هذا الرجل لا يعرف من هذه الصنعة شيئًا وإنما نذكر كلامه هنا
لِيُنَبَّه على وهمه فيه ولئلا يغتر بكلامه بعض الفقهاء الذين ليس الحديث من
شأنهم.
وحديث بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْب: قَالَ لِيْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «بِأَيِّ شَيءٍ تَفْتَتِحُ القُرْآنَ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاَةِ
قَالَ: قُلْتُ: بـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قَالَ: هِيَ هِيَ» رواه
الدَّارَقُطْني والحاكم في «الإكليل» بأسانيد واهية عن عمرو بن شمر عن الجعفي.
(1/444)
ومن
حديث إبراهيم بن محشر وأبي خالد الدالاني وعبد الكريم أبي أمية، وعند الخطيب من
حديث أبي خالد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَم تَنْزِلْ عَلَى نَبِيٍّ غَيْرِ سُلَيْمَانَ
بْنِ دَاوْدَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهِيَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ}». قال: ورواه سلمة بن صالح الأحمر عن يزيد بن عبد الكريم أبي أمية عن
سليمان، وحديث الحكم عن عمير الثمالي وكان بدريًا قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَجَهَرَ فِي الصَّلاَةِ بِالبَسْمَلَةِ
فِي صَلاَةِ الَّليْلِ وَصَلاَةِ الغَدَاةِ وَصَلاَةِ الجُمُعَةِ». رواه
الدَّارَقُطْني عن الحسن بن بشرٍ، حدَّثَنَا أحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ
الْحِمَارُ، حدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَبِيبٍ الطَّائِفِيُّ عنه، وقال ابن عبد
البر: شهد بدرًا ورويت عنه أحاديث مناكير من حديث أهل الشام لا تصح، وقال
%ج 1 ص 244%
أبو حاتم: لا نذكر سماعًا ولا لقاء، روى عنه ابن أخيه موسى بن حبيب نسخة منكرة وهو
ضعيف الحديث وبنحوه قال أبو أحمد العسكري وفي كلٍّ منهما نظر لما تقدم؛ ولأن أبا
عبد الله بن مَنْدَه وصفه بما وصفه به الدَّارَقُطْني وغيره، وَلِمَا ذكره ابن أبي
عاصم في كتاب «الصحابة»: وصفه بصحبة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكذا
البَاوردي وبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ فيما ذكره أبو محمد بن حزم.
وحديث عائشة رواه الدَّارَقُطْني بسندٍ واهٍ من حديث الحكم بن عبد الله بن سعيد عن
القاسم عنها: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ
بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
(1/445)
ومن
حديث محمد بن أبي الخصيب الأنطاكي، حَدَّثَنا عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي
مليكة: سَمِعْتُ عَائِشَةَ وسُئِلَتْ عَنْ آيَةٍ فَقَالَتْ: {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل
عمران: 2]».
وفي لفظٍ للحاكم عن القاسم عنها وعن أبيها، وفي لفظ أو عن أبيها «أَنَّ رسولَ الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
وحديث طلحة بن عبيد الله: «أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ:
مَنْ تَرَكَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَقَدْ تَرَكَ آيَةً مِنْ
كِتَابِ اللهِ». وقد عدها علي فيما عدَّ من أم القرآن {بسم الله الرحمن الرحيم}،
ذكره في «نهج الصواب» من حديث محمد بن يونس بن موسى، حَدَّثَنا غانم بن الحسن بن
صالح السعدي، حَدَّثَنا سليمان بن مسلم المكي، حَدَّثَنا نافع بن عمر عن ابن أبي
مليكة عنه، وذكره الحاكم في «الإكليل» من حديث سليمان بن مسلم بلفظ: «مَنْ تَرَكَ
مِنْ أُمَّ الكِتَابِ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَقَدْ تَرَكَ آيَةً
مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى».
وحديثُ عبد الله بن مسعود رواه أبو سعيد إسماعيل بن أبي القاسم البوشنجي عن أبي
صالح المؤذن الحافظ قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي،
أخبرنا الحسين بن محمد بن شَيْظَم، حَدَّثَنا محمد بن علي بن الحسن، حَدَّثَنا
أبي، حَدَّثَنا أحمد بن يعقوب البلخي، حَدَّثَنا عبد العزيز بن خالد الترمذي عن
الأعمش عن أبي وائل عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى
فَجَهَرَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
(1/446)
وحديث
عبد الله بن أبي أوفى قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا،
فَعَلِّمْنِي شَيْئًا يُجْزِئُنِي مِنْهُ، فقَالَ: بسم الله، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ،
وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ ... ) الحديثَ. رواه الدَّارَقُطْني
بسند فيه ضعف وبغير زيادة: «بسمِ الله» صححه ابن حبان وغيره.
وحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عَنْ جِبْرِيْلَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ إِسْرَافِيْلَ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنْ رَبِّ العِزَّةِ جَلَّ وَعَزَّ مَنْ قَرَأَ: «{بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مُتَّصِلَةً بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فِي صَلاَتِهِ
غُفِرَتْ ذُنُوْبُهُ» ذكره الحافظ
%ج 1 ص 245%
(1/447)
أبو القاسم محمد بن عبد الواحد بن إبراهيم الملاحي الغافقي الأندلسي في كتابه «المسلسل» بسند فيه مجاهيل، ولفظ الحافظ أبي مروان عبد الملك بن حبيب السلمي في كتابه «رغائب القرآن» عن أبي بكر قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «{الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سَبْعُ آيَاتٍ إِحْدَاهُنَّ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وَهِيَ السَّبْعُ المَثَانِي». وذكره أيضًا أبو مروان اللخمي المعروف بابن أبي الغُصْن في «الأربعين المسلسلة» بقوله: بالله العظيم لقد حدثني ويؤيد هذا وإن كان ضعيفًا ما ذكره البيهقي وغيره من أن مذهب أبي بكر الجهر بها. وحديث النعمان بن بشير قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَمَّنِي جِبْرِيْلُ عِنْدَ البَيْتِ فَجَهَرَ بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}» رواه الخطيب في «النهج» عن أحمد بن محمد بن الصلت، حدَّثَنَا ابن عقدة، حَدَّثَنا يعقوب بن يوسف بن زياد الضبي، حَدَّثَنا أحمد بن حماد الهذلي، حَدَّثَنا فِطْر عن أبي الضحى عنه، والدَّارَقُطْني عن ابن عقدة. وحديث مجالد بن ثور وبشر وقيل يُسْر بن معاوية وكانا من الوفد الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فعلَّمَهُمَا {يس} وقراءة {الحمد لله رب العالمين} والمعوذات الثلاث، وعَلَّمَهُمَا الابتداء بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} والجهر بها في الصلاة، رواه الخطيب بسند فيه مجهولون.
(1/448)
وحديث
حسين بن عُرْفُطَةَ الأسدي، قال أبو موسى المديني في كتابه «المستفاد بالنظر
والكتابة في معرفة الصحابة» كان اسمه حُسَيْلًا فسماه سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حُسَيْنًا، ثم ذكر بسند فيه مجاهيل: أن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقُلْ: {بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حَتَّى تَخْتِمَهَا،
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}» إِلَى آخِرِه.
وحديث أبي سعيد الخدري، قال البُوْشَنْجي: أخبرنا الحافظ أبو صالح المؤذن إجازةً،
أخبرنا محمد بن الحسين، أخبرنا ابنُ شَيْظَم، حَدَّثَنا عبد الله بن محمد بن
طَرْخان، حَدَّثَنا إسماعيل بن بشر، حدثنا عصام بن يوسف، حَدَّثَنا الحسن بن دينار
عن الحسن البصري عن أبي سعيد الخدري: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ المغْرِبَ وَجَهَرَ بـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ}».
وحديث أبي موسى الأشعري رواه أيضًا عن أبي صالح، أخبرنا السُّلَمِي، أخبرنا علي بن
الحسن بن أحمد القطان، أخبرنا حفص بن عمر بن مطرز بن معروف البَلْخي، حَدَّثَنا
أحمد بن حمدون بن حرب الملنداني البلخي، حدَّثَنَا عبد الله بن خِرَاشِ بنِ
حَوْشَبَ، حَدَّثَنا العَوَّامُ بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن السَّكْسَكِي عن
أبي بُرْدَة عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَجْهَرُ
بِـ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}».
وحديث سَمُرة بن جُنْدبٍ: «كَانَ للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
سَكْتَتَانِ، سَكْتَةٌ إِذَا فرغَ مِنَ القِرَاءَةِ وَسَكْتَةٌ إِذَا قَرَأَ
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}». فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ
حُصَيْنٍ، فَكَتَبُوا إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: أَنْ
صَدَقَ
%ج 1 ص 246%
(1/449)
سَمُرَةُ،
قال الدَّارَقُطْني والبيهقيُّ: رجالُ إسناده ثقاتٌ، وصححه أبو شامة وغيره.
وعند أبي داود من حديث عكرمة: «أنَّ اللهَ أَوحَى إِلَى عِيْسَى صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أَنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ عليكَ آيةَ الإيمانِ وهي بسم الله الرحمن
الرحيم فَلْتَكُن افتتاح صلاتِكَ وقراءتِكَ ... » الحديثَ بطوله. وهو مُعَارِضٌ
لما تقدم في حديث بريدة.
قال أبو عمر: وممن كان يجهر بها عمر بن الخطاب وعلي وعمار، والطُّرُقُ عنهم ليست
بالقوية، وقد رُوِيَ عن عمر أنه كان يقرؤها، ورُوِيَ أنه كان يُسِرُّ بها، وكذلك
اخْتُلِفَ عن أبي هريرة وابن عباس، قال البيهقي: وهو مذهب أهل البيت، وقال الخطيب:
وجهر بها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب والحسين بن علي وأبو قتادة، وأبو سعيد وابن
أبي أوفى والمعتمر ونافع وابن المسيب وعلي بن الحسين ومجاهد وسالم وأبو بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن سيرين وأبو وائل ومحمد بن المنْكَدر والأزرق بن قيس وعلي
بن عبد الله بن عباس وزيد بن أسلم وحبيب بن أبي ثابت وأبو الشعثاء وعبد الله بن
مَعْقِل بن مقرن ومكحول ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس ومحمد بن عمر بن علي بن
أبي طالب وابن أبي ذئب وأبو سنان بن ضرار بن مرة والليث بن سعد.
وفي كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ عن يعقوب بن عطاء قال: صليت خلف عدة من
الصحابة رضي الله عنهم فكلهم يجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم}، قال أبو عمر: وكان
يجهر بها عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير وابن عمر وشداد بن أوس بلا خلاف عنهم
وهو قول عطاء وطاوس وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب ومحمد بن كعب القرظي وأبي
قلابة وعطاء الخراساني وهو أحد قولي ابن وهب، وكان مالك يرى قراءتها في النوافل في
الفاتحة وفي سائر السور وهو قول محمد بن الحسن. انتهى.
(1/450)
ذكر
السلَفِيُّ في معجم شيوخه في حرف الواو منه أن في «المبسوط» للقاضي إسماعيل عن
مالك الجهر بالبسملة في الفرائض، قال: وأما النوافل فلا خلاف فيها بين أصحابه.
وقال أبو عمر: وكان الشافعي يرى قراءتها في المكتوبات والنوافل فرضًا، ومن أسقط
منها حرفًا لم تجز صلاته ومذهب أحمد الإسرار بها كمذهب أبي حنيفة، وقال: لا يجهر
بها أحد إلا في قيام رمضان في غير فاتحة الكتاب بين السورتين فإنه من فعل ذلك فلا
شيء عليه.
وروى ابن نافع عن مالك لا بأس بقراءتها في الفريضة والنافلة قال: ولا يصح هذا عنْ
مالك إنما هو صحيح عن ابن نافع، وقد روى ابن مسعود بغير خلاف: «ثلاثٌ يُخْفِيهُنَّ
الإمامُ: الاستعاذةُ، و {بسم الله الرحمن الرحيم}
%ج 1 ص 247%
وآمين». وروى ذلك عن علي والحسن وابن سيرين وأبي جعفر والثوري والنخعي وسائر
الكوفيين.
وفي «المصنف»: حَدَّثَنا إسحاق عن سليمان الرازي عن أبي سنان عن حماد عن إبراهيم
عن الأسود قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ سَبْعِيْنَ صَلَاةً فَلَمْ يَجْهَرْ
فِيْهَا بِـ {بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ}». وحَدَّثَنَا شاذان، حَدَّثَنا شريك
عن أبي إسحاق عن أبي وائل: «أنَّ عليًا وعمارا ً كانا لا يَجْهَرانِ بالبسملةِ».
وحَدَّثَنَا زيد بن حباب عن معاوية بن صالح، أخبرنا مالك بن زياد قال: صلى بنا عمر
بن عبد العزيز فافتتح الصلاة بـ {الحمد لله رب العالمين}.
وفي كتاب «الصلاة» للدكيني عن إبراهيم: الجهر بها بدعة. وفي لفظ: ما أدركنا أحدًا
يجهر بها.
وفي لفظ: افتتحِ الصلاةَ وتعوذ واقرأْ {بسم الله الرحمن الرحيم} وتقول ذا في نفسك.
(1/451)
وفي
كتاب «الواضحة» لِلْمُطَجِّن قال علي بن عيسى: عُظْم الفقهاء على أنها في الحمد
ليست من السورة، وأنها آية مفردة، والإجماع على أنها لا تُعَدُّ في الأوائل آيةً
من السور، بل آية من القرآن العظيم مفردة. وذكر أبو عمرو بن دحية أن القاضي أبا
الطيب قال: أنا أقطع على وهم الشافعي في البسملة؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ واجب عليه أن يُعَلِّمَ أمته؛ لأن الله تعالى أمره بالتبليغ وخمس صلوات
يصليها كل يوم فكيف لم يبلغ؟. وقال أبو بكر الرازي الحنفي: هي آية بين كل سورتين
غير الأنفال وبراءة وليست من السور، بل هل قرآنٌ مستقلٌ كسورة قصيرة، وحكى هذا عن
داود وأصحابه وهي رواية عن أحمد، وقال محمد بن الحسن: ما بين دفتي المصحف قرآن،
وأجمعت الأمة على أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها، وفي
«شرح الهداية»: مذهب أبي حنيفة في ترك الجهر بها يدلُّ أنها ليست من الفاتحة، وقال
البَزْدَويُّ: لم تثبت قرآنًا ولم يحرم على الجنب قراءتها، وقال السرخسي: يكره
قراءتها على جهة القرآن.
وفي «الذخيرة»: هي من القرآن عندنا وليست من الفاتحة ولا من غيرها إلا في النمل،
وفي «شرح الحلواني» أكثر المشايخ على أنها آية من الفاتحة وبها تصير سبع آيات ولا
يجهر بها.
وفي «المغني»: اختلف الرواة عن أحمد هل هي آية من الفاتحة تجب قراءتها في الصلاة
أو لا؟.
فعنه أنها آية من الفاتحة، ورُوِيَ أنها ليست من الفاتحة ولا آية من غيرها ولا يجب
قراءتها في الصلاة وهو المنصوص عند أصحابه، وعنه أنها آية مفردة تنزل بين كل
سورتين فصلًا بين السور، وعنه أنها بعض آية في النمل.
وذكر الإمام أبو زكريا يحيى بن علي بن عبد الرحمن القَيْسي إمام مسجد العَيْثَم
بمصر في كتابه «التفسير»: أن الفاتحة سبع آيات بغير البسملة لما في الحديث
%ج 1 ص 248%
(1/452)
في
قوله عز وجل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيْمَ} إلى آخرها ثلاث آيات، يقول
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «هؤلاءِ بيني وبينَ عَبْدِي ولعَبْدي ما سألَ»
فقال هؤلاء وأقل الجمع ثلاث.
قال البيهقي: ذهب بعض أهل العلم إلى أنهم كانوا قد يجهرون بها وقد لا يجهرون،
والرواية فيهما صحيحة من طريق الإسناد، والأمر فيه واسع، فإن شاء جهر وإن شاء
أسرَّ، إلا أنه لابد من قراءتها وإنما اختلافهم في الجهر دون القراءة، ومن قال لم
يقرأ أراد لم يجهر وكذا الجواب عن حديث ابن المغفل. انتهى.
أما قول أبي عمر: ممن كان يجهر بها عمر وعلي وعمار والطرق عنهم ليست بالقوية ففيه
نظر من حيث إن البوشنجي روى بسند صحيح عن أبي علي حَدَّثَنا أبو بكر أحمد بن محمد
بن الحارث الأصبهاني، أخبرنا أبو بكر بن فورك، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن
النعمان، حَدَّثَنا الفضل، حَدَّثَنا عُمَرُ بنُ ذَرٍّ عن أبيه عن سعيد بن عبد
الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: «صَلَّيتُ خَلْفَ عُمَرُ فَجَهَرَ بِالبَسْمَلَةِ».
ورويناه في كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ الدكيني عن عمر ذَرْبَة.
وزعم البوشنجي أن ترك الجهر بالبسملة كان ولكن كان بمكة شرفها الله تعالى لاستهزاء
الكفرة باسم الرحمن ونسبتهم إياه إلى رحمن اليمامة، فلما صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إلى المدينة عاد إلى ما كان عليه من الجهر بها إلى أن فارق الدنيا.
انتهى.
أنس وابن مغفل وغيرهما لم يصحبوه إلا بالمدينة فينظر في هذا الكلام وكأنه غير جيد
والله تعالى أعلم.
(1/453)
فإن
احتجَّ محتجٌّ بأنها آية من أول كل سورة وإن الرواة سكتوا عنها بالعلم بها في
الفاتحة، قيل له: في «الصحيحين»: قَالَ جِبْرِيْلُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]» ولم يذكر البسملة، وفي الترمذي محسنًا عن أبي
هريرة: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: «مِنَ الْقُرْآنِ
سُورَةً ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٌ حَتَّى دَخَلَ الجَنَّةَ: وَهِيَ
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ».
وقد أجمع القراء على عدها ثلاثين آية بلا بسملة، وكذا على عدِّ الكوثر ثلاث آيات،
فلو كانت البسملة آية منها كانت أربعًا، وقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
لأُبِيِّ بن كعب: «كيفَ تقرأُ أمَّ القرآنِ؟ قال: {الحمدُ لله ربِّ العالمين}».
وعند الطحاوي نقل أهل المدينة بأسرهم عنْ آبائهم عن التابعين عن الصحابة افتتاح
الصلاة بـ {الحمد لله رب العالمين}، وفي «المصنف»: عن إبراهيم أنه كان يقول إذا
قرأ الرجل في الصلاة مرة واحدة {بسم الله الرحمن الرحيم} أجزأه ذلك وكذا قاله ابن
سيرين.
حَدَّثَنَا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنا عبد الواحد بن زياد، حَدَّثَنا عمارة بن
القعقاع، حَدَّثَنا أبو زرعة حَدَّثَنا أبو هريرة قال: «رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللهُ
%ج 1 ص 249%
(1/454)
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسكت بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ، إِسْكَاتَةً قَالَ
أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً - فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ،
إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ القِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ:
أَقُولُ: اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ
المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللهُمَّ نَقِّنِي مِنَ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى
الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ
وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ».
في كتاب الميموني عن أحمد وسأله عن حديث أبي هريرة في الاستفتاح فقال: إسنادٌ جيدٌ
حديث أبي هريرة في الاستفتاح إلا أنَّ عليًّا يحكي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ في الاستفتاح شيئًا حسنًا بإسناد حسن.
وعند البزار بسند جيد من حديث خُبَيْبِ بنِ سُليمان بن سَمُرَة عن أبيه عن جده:
«أَنَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: اللهُمَّ بَاعِدْ
بَيْنِي وَبَيْنَ خَطِيئَتِي كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ،
اللهُمَّ إِنِّي أعوذُ بكَ أنْ تَصُدَّ عَنِّي بوَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
اللهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ
الدَّنَسِ، اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مُسْلِمًا». خبيبٌ وثقه
ابن حبان وكذلك أبوه، فردُّ ابنِ القطان حديثه بجهل حالهما [13] على هذا غير جيد،
وقال الإشبيلي: الصحيح في هذا فعل النبي -يعني حديث أبي هريرة- لا أمره، ولو أعرف
من قال (خبيب وأبوه ما عرفناه) ما قال هذا وإن كان كلامه لا يقتضي تضعيفًا له.
(1/455)
وذكر
البخاري لهذا الحديث في هذا الباب دليلًا على أنه يرى الاستفتاح بهذا، وقد اختلف
الناس فيما يُسْتَفْتَحُ به الصلاة: فأبو حنيفة وأحمد يريان الاستفتاح بحديث حارثة
بن أبي الرِّجال عن عمرة عن عائشة: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَالَ: «سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ،
وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ». قال أبو علي
الطُّوسي: وأبو عيسى لا نعرفه من حديث عائشة إلا من هذا الوجه وحارثة قد تُكُلِّمَ
فيه من قِبَلِ حِفْظه. انتهى كلامهما.
وفيه نظرٌ لقول الدَّارَقُطْني: حدَّثَنَا ابن صاعد، حَدَّثَنا أبو الأزهر،
حَدَّثَنا سهل بن عامر أبو عامر البلخي، حَدَّثَنا مالك بن مِغْوَل عن عطاء قال:
«دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَسَأَلْتُهَا عَنِ افْتِتَاحِ صَلاَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَتْ» الحديثَ.
ولِمَا رواه البزار من حديث عطاء قال لا نعلمه يروي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد انتهى.
وفيه نظر لما تقدم؛ ولأن أبا داود أيضًا رواه عن حسين بن علي، حدثنا طَلْقُ بنُ
غَنَّامٍ، حَدَّثَنا عبد السلام بن حرب عن بُدَيل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن
عائشة ثم قال: هذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام لم يرده إلا طلق، وقد روى
قصة الصلاة جماعة غير
%ج 1 ص 250%
واحد لم يذكروا شيئًا من هذا.
وفي كتاب الدَّارَقُطْني عنه: وليس هذا الحديث بقوي، وقال البيهقي في «المعرفة»:
غير محفوظ.
(1/456)
وقال
أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن حارثة فقال: ضعيف ليس بشيء. وقال الشافعي: قال بعض
من خالفنا: افتتح بسبحانك اللَّهمَّ وبحمدك وإن أول ما نبدأ بقوله وفعله ما كان في
كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: قد رويتُ هذا القول
عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من حديث بعض أهل مدينتكم، قلنا له ولبعض من
حضره أحافظ عن من رويت عنه هذا القول ويحتج بحديثه، فقال: عامَّةُ من حضره لا، ليس
بحافظٍ، قال قلت: فكيف يجوز أن تُعَارِض برواية من لا يحفظ ولا يقبل حديث مثله على
الانفراد رواية من يحفظ ويثبت حديثه؟.
قال البيهقي في «المعرفة»: إنما أراد أبو عبد الله حديث حارثة عن عائشة، ولَمَّا
ذكر الشيخ ضياء الدين المقدسي حديث طَلْقٍ قال: رواته ما علمت فيهم مجروحًا.
وقال الشيخ مجد الدين بن تيمية: طَلْقٌ خرَّجَ له البخاريُّ، والثقة تُقْبَلُ
زيادته وما ينفرد به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح الإسناد فذكر حديث
حارثة قال: وإن لم يكن مالك يرضاه فقد رضيه أقرانه من الأئمة ولا أحفظ في قوله:
سبحانك اللَّهمَّ وبحمدك أصح من هذا الحديث. انتهى كلامهم.
وفيه نظرٌ لِخَفَاءِ عِلَّتِه الحقيقية عليهم وهي انقطاع ما بين أبي الجوزاء وعائشة
على ما ذكره أبو عمر في «التمهيد»، وقد سبقتِ الإشارةُ إليه ومُشَاحَّتُه في ذلك،
وفي الباب حديث جابر: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَة َبِسُبْحَانِكَ اللّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» رواه
الدَّارَقُطْني.
وقال ابن الجوزي وبعده ابن قدامة: رجال إسناده كلهم ثقات، وهو لعمري كما قالاه لكن
عارضهما شيخ الصنعة أبو حاتم الرازي إذ سأله عنه ابنه: هذا حديثٌ كَذِبٌ لا أصل
له، وقال البيهقي: رواه عبد الله بن عامر الأسلمي وهو ضعيف عن محمد بن المنكدر عن
ابن عمر.
(1/457)
وحديث
عبد الرحمن بن عمرو بن شيبة عن أبيه عن نافع عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب: «كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ للصَّلاَةِ قَالَ:
سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» الحديثَ.
قال الدَّارَقُطْني: رفعه هذا الشيخ عن أبيه عن نافع، والمحفوظ عن عمر من قوله: كذا،
رواه إبراهيم عن علقمة والأسود عن عمر، وكذا رواه يحيى بن أيوب عن عمرو بن شيبة عن
نافع عن ابن عمر عن عمر من قوله: وهو الصواب، وقال الحاكم: صحَّ عن عمر من قوله،
وقد أسند ولا يصح.
وقال ابن خزيمة: صح عن عمر
%ج 1 ص 251%
لا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقال البيهقي: أصح ما فيه الأثر عن عمر
الموقوف انتهى كلامهم.
وفيه نظرٌ من حيث إن الموقوف على عمر خرَّجه مسلمٌ في «صحيحه» من حديث عَبْدَةَ
عنه، ولم يسمع منه فيما قاله أبو علي الجياني وغيره: وقد وجدنا لحديث عمرو شاهدًا
ذكره الدَّارَقُطْني في كتاب «العلل» فقال: رواه إسماعيلُ بنُ عيَّاشٍ عنْ عبد
الملك بْنِ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ عن أبي إسحاق عن الأسود مرفوعًا. انتهى.
(1/458)
عبد
الملك ليس مدنيًا فحديث إسماعيل عنه يصلح للشواهد، ثم لقائل أن يقول: عبد الرحمن
بن عمرو بن شيبة ثقة قال أبو الفرج: فزيادته مقبولة، يؤيده قول المَرْوَزِي: سألت
أبا عبد الله عن استفتاح الصلاة فقال: نذهب فيه إلى حديث عمر، هذا ترجيحٌ من أحمد
له إذ الحديث عرفًا لا ينطلق غالبًا إلا مرفوعًا، ويؤيده أيضًا ما ذكره أبو القاسم
في «الأوسط»: حَدَّثَنا أحمد بن داود، حَدَّثَنا ثوبان بن سعيد بن عروة البصري،
حَدَّثَنا علي بن عياش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود: «كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا إِذَا اسْتَفْتَحْنَا الصَّلاَةَ أَنْ
نَقُوْلَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ» الحديثَ. «كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يَفْعَلُ
ذَلِكَ، وَكَانَ عُمَرُ يُعَلِّمُنَا وَيَقُوْلُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُهُ». وقال: لم يروه عن أبي إسحاق إلا علي بن عياش، ولا
يُرْوَى عن عمر إلا بهذا السند. انتهى.
قد ذكرناه عن عمر بغير هذا السند فينظر، وعنده من حديث خُصَيْفٍ عن أبي عبيدة عن
أبيه: «كانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يستفتحُ الصلاةَ بسبحانكَ اللهمَّ
وبحمدكَ». وقال: لم يروه عن خُصَيْفٍ إلا عتاب بن بشير تفرد به يوسف بن يونس
الأفطس، ولما ذكره البيهقي من حديث ليث عن أبي عبيدة عنه قال: ليس بالقوي.
وفي تفسير الضحاك قَالَ عبدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى
اللهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وقال الضحاك
فِي قَوْلِهِ تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]
إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ.
وذكر في «المصنف»: أن ابن مسعود قال: «الكَلِمَاتُ الّتِيْ تَلَقَّاهَا آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَ سُبْحَانَكَ».
(1/459)
وروينا
في كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا أبو الأحوص، عن الحسن بن عبد الملك
عن عطاء قال: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ
الصَّلاَةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» الحديثَ.
قال: وأخبرنا عبد الله بن عامر عن محمد بن المنكدر قال: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ) الحديثَ مطولًا في حديث الحكم بن عُمَيْرٍ، وقد تقدم الكلام فيه في
الجهر بالبسملة قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا
إِذَا قُمْتُمْ إَلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرُوْا وَارْفَعُوْا أَيْدِيَكُمْ
%ج 1 ص 252%
وَقُوْلُوْا: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ». ذكرهُ أبو منصور الباوردي في كتاب «الصحابة»:
من حديث يحيى بن يعلى الأسلمي عن موسى بن أبي حبيب عنه، ويحيى وثَّقَه ابن معين
وموسى مستور، وروى عنه جماعة وحديث عُتْبَةَ البَلَوِي: أنَّهُ صلَّى فقالَ:
سُبْحَانَكَ اللهمَّ وبحمدكَ .. الحديثَ، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا
خَرَجَ آخِرُهَا منْ فِيْكَ حَتَّى نظرتُ إِلَى اثْنَي عَشَر مَلَكًا
يَبْتَدِرُوْنَهَا» ذكره أبو موسى في كتاب «الصحابة» من حديث حماد بن أبي سليمان
عن الحسن قال: حدثني ابن لأبي ثعلبة أن أباه أخبره به، وحديث جعفر بن سليمان عن
علي بن علي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ صَلاَتَهُ بِقَوْلِ: سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ» الحديثَ وقد تقدم ذكره.
وفي «المصنف» من حديث ابن عجلان قال: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ
يَسْتَفْتِحُ بِسُبْحَانَكَ اللّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ.
وعن أبي وائل: كان عثمان إذا افتتح الصلاة قال: ... فذكره.
(1/460)
وقال
ابن المبارك: فيما حكاه الشيخ المجد دليله أيضًا حديث الأعرابي إذ قال له صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ثم تحمد الله وتثني عليه». وهذا يتناوله دون غيره إذ الحمد
والثناء لم يجتمعا إلا فيه.
واستحب الشافعي رحمه الله تعالى الاستفتاح بحديث علي بن مسلم: أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ:
«وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيْفًا وَمَا
أَنَا مِنَ المشْرِكِيْنَ».
قال أبو الفرج بن الجوزي: كان ذلك في أول الأمر أو في النافلة وكأنه رحمه الله
تعالى لم ير ما في كتاب النسائي من حديث محمد بن مسلمة: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي تَطَوُّعًا قَالَ:
«وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» الحديثَ.
وقال أبو محمد بن قدامة: العمل به متروك فإنا لا نعلم أحدًا استفتح بالحديث كله
وإنما يستفتحون بأوله.
قال ابن الأثير في «شرح المسند»: الذي ذهب إليه الشافعي في «الأم» أنه يأتي بهذه
الأذكار جميعها من أولها إلى آخرها في الفريضة والنافلة، وأما المزني فروى عنه أنه
يقول: وجهت وجهي إلى قوله من المسلمين، وقال أبو يوسف: يجمع بين قول سبحانك
اللَّهمَّ وبحمدك وبين قول أبي إسحاق المروزي وأبي حامد الشافعيين. وفي «المحيط»:
يستحب قول وجهت وجهي قبل التكبير، وقيل: لا يستحب لتطويل القيام مستقبل القبلة من
غير صلاة.
وقد ورد في الاستفتاح أحاديث غير ما تقدم بألفاظ مختلفة منها: حديث جابر من عند
النسائي بسند صحيح: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا
اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَماتِيَ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ» الحديثَ. زاد في كتاب
الدَّارَقُطْني: «ومماتي».
(1/461)
وحديث
أبي أمامة: كَانَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَبَّرَ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَسُبْحَانَ
اللهِ وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ
%ج 1 ص 253%
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ, مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ». رواه أحمد من
حديث يعلى بن عطاء عن رجل من أهل دمشق عنه.
وحديث أنس من عِنْدَ مُسْلِمٍ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى الصَّلاَةِ وَقَدْ
حَفَزَهُ النَّفَسُ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلهِ حَمْدًا كَثِيرًا
طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَالَ: أَيُّكُمُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ
بَأْسًا؟ لَقَدْ رَأَيْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ
يَرْفَعُهَا [15]».
وحديث حذيفة: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَامَ يُصَلِّي
مِنَ اللَّيْلِ فَكَبَّرَ وَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ ذا الْمُلْكِ، وَالْمَلَكُوتِ،
وَالْجَبَرُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعَظَمَةِ». رويناه في «سنن الكجي» من حديث
رجل عنه، ورواه أبو نعيم في كتاب «الصلاة» بسند صحيح على رسم الشيخين.
وحديثُ ابنِ عمرَ منْ عِنْدِ مُسْلِمٍ قال: «كُنَّا نُصَلِّيْ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ للهِ كَثِيْرًا سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصَّلاَةَ
قَالَ: مَنْ صَاحِبُ كَلاَمِ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ الرَّجُلُ: أَنَا، فَقَالَ:
عَجِبْتُ لَهَا فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ» قال ابن عمر: فما تركتهن
منذ سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول ذلك.
(1/462)
زاد
أبو نعيم في «الصلاة» بسند صحيح على شرط ابن حبان: «اللهُمَّ اجْعَلْكَ أَحَبَّ شَيْءٍ
إِلَيَّ, وَأَخْشَى شَيْءٍ عِنْدِي».
وقال الحاكم فيما رويناه عنه في «علوم الحديث» وذكره من حديث المنذر الحزامي عن
ابن أبي سلمة عن عبد الله بن دينار عنه لهذا الحديث علة صحيحة، والمنذر أخذ طريق
المجرة فيه ثم ذكره عن مالك أبي غسان عن عبد العزيز بن أبي سلمة، حَدَّثَنا عبد
الله بن الفضل عن الأعرج عن ابن أبي رافع عن علي قال: وهذا مُخَرَّجٌ في مسلم،
وحديث ابن أبي أوفى مثله، رواه أبو نعيم الفضل بسند على رسم ابن حبان.
وحديث جبير بن مطعم: «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي صَلاَةً فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا،
اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، أَعُوذُ بِاللهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ مِنْ نَفْخِهِ وَهَمْزِهِ وَنَفْثِهِ» ذكره ابن حبان في
«صحيحه»، وخرجه أبو داود من حديث عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَاصِمٍ الْعَنَزِيِّ
[16] عن ابن جبير عنه وقال: قَالَ عَمْرٌو: لَا أَدْرِي أَيُّ صَلَاةٍ هِيَ. وفي
رواية مسعر عن عمرو: ويقول في التطوع.
وروينا في «صحيح ابن خزيمة» أنه قال وقد روي عن جبير: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ ... ) الحديثَ. إلا أنهم
اختلفوا في إسناد خَيْرة وعاصم العنزي، ومنهم من قال عباد بن عاصم، وأيًّا ما كان
فهما مجهولان لا ندري من هما ولا نعلم، الصحيح ما روى حصين عن عباد أو شعبة عن
عاصم، ولما ذكره الحاكم من حديث وُهَيب عن نافع عن أبيه جبير
%ج 1 ص 254%
قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(1/463)
وحديث
ابن مسعود من «صحيح ابن خزيمة»: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ وَهَمْزِهِ،
وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ». وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وقال ابن رشد في «القواعد»: ذهب الشافعي إلى وجوب التوجيه، وَرُدَّ ذلك عليه؛ لأن
مذهبه الاستحباب. قال البغوي: وبأي حديث استفتح حصل الاستفتاح.
وقوله: (إِسْكَاتَة) زنة إفعالة من السكوت، قَالَ ابنُ التِّيْنِ معناه سكوت يقتضي
كلامًا بعده أو قراءةً مع قصر المدة، وهي مكروهة عند مالك؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لما علم الأعرابي قال: «كَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ».
وذكر ابن العربي أن مالكًا كان يقول كلمات عمر بعد التكبير.
ومعنى قوله: «بالماء والثلج والبرد»، أنها أمثال ولم يرد أعيان هذه المسميات وإنما
أراد التأكيد في التطهير، ويُسْتَدَلُّ به لمن ذهب إلى المنع من الماء المستعمل؛
لأنه يقول إن منزلة الخطايا المغسولة بالماء بمنزلة الأوضار الحالَّةِ في الماء
والمغسولات المانعة من التطهير ذكره الخطابي.
وأما (هُنَيْئَةً) بضم الهاء فذكر ابن قُرْقُول أنها كذا عند الطبراني مهموزة،
قال: ولا وجه له، قال: وعند الأَصِيلي وابن الحداد وابن السكن: (هُنَيْهَةً). وعند
القرطبي: (هُنَيْئَةً) بضم الهاء وياء التصغير وهمزة مفتوحة كحطيئة رواية الجمهور،
وعند الطبري: (هُنَيهَة) تبدل من الهمزة هاء تصغير وهمزة هنه.
وقال محيي الدين: (هُنيَّةً) بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء بغير همز وهي
تصغير هَنَه، ومن همزها فقد أخطأ، ورواه بعضهم: (هُنَيْهَةً) وهو صحيح أيضًا. وفي
«الْمُوعِبِ» لابنِ التَّيَّانيِّ: هُنَيْهَةً هي اليسير من الشيء ما كان.
حديث أسماء يأتي إن شاء الله تعالى في الكسوف.
(بَابُ منْ رَفْعَ البَصَرَ إِلَى الأَمَامِ فِي الصَّلاَةِ)
(1/464)
وَقَالَتْ
عَائِشَةُ رضي الله عنها: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي
صَلاَةِ الكُسُوفِ: «فَرَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ
رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ».
هذا التعليق ذكره مسندًا في باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة من «صحيحه»، وسيأتي.
746 - حَدَّثَنا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنا عبد الوَاحِدِ، حدَّثَنَا ألأَعْمَشُ،
عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قُلْنَا لِخَبَّابٍ:
أَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ
وَالعَصْرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْنَا: بِمَ كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَاكَ؟ قَالَ:
بِاضْطِرَابِ لِحْيَتِهِ. [خ 746]
اللُّحى - بالضم - جمع لِحْيَة قاله محمد بن السيد في «مثلثه»، وفي «المحكم»:
اللحية اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين والذقن، واللحى الذي ينبت عليه
العارض، والجمع أَلحٍ ولُحِيٌّ وألحاء، وفي «الجامع»
%ج 1 ص 255%
للقَزَّاز: يقال لِحية بكسر اللام، ولَحية بفتح اللام، والجمع لَحْي ولُحًى.
747 - 748 - 749 - حديثُ البراء، وحديث ابن عباس، وحديث أنس، تقدم ذكرها. [خ 747 -
748 - 749] (بَابُ رَفْعِ البَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ)
750 - حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ،
حدَّثَنَا ابن أَبِي عَرُوبَةَ، حَدَّثَنا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
حَدَّثَهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا بَالُ
أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ،
فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ
لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ». [خ 750]
(1/465)
قال:
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ وابن التين: أجمع العلماء على كراهة النظر إلى السماء في
الصلاة لهذا الحديث ولما في مسلم عن أبي هريرة يرفعه: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ
يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ
أَبْصَارُهُمْ» وعنده أيضًا عن جابر بن سمرة مثله بزيادة: «أو لَا يَرْجِعُ
إِلَيْهِم».
وعند ابن ماجه عن ابن عمر: «لَا تَرْفَعُوا أَبْصَارَكُمْ إِلَى السَّمَاءِ أَنْ
يَلْتَمِعَ يَعْنِي فِي الصَّلاةِ» وكذا رواه النسائي من حديث عبيد الله بن عبد
الله عن رجل من الصحابة.
وفي «أسباب النزول» للواحدي من حديث ابن عُلَيَّة عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة:
«أنَّ فُلاَنًا كَانَ إِذَا صَلَّىَ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2]». ولما رواه البيهقي
من حديث يونس بن بكير حدَّثَنَا ابن عون عن ابن سيرين بغير ذكر أبي هريرة قال:
رُوِيَ عن أبي زيد سعيد بن أوس عن ابن عون عن محمد عن أبي هريرة موصولًا والصحيح
المرسل، ورواه حماد بن زيد عن أيوب مرسلًا وهو المحفوظ، وروى أيضًا بسند ضعيف من
حديث صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْخَوْلَانِيِّ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قِلَابَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَشَرَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ صَلَاتِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فَذَكَرُوا مِثْلَ صَلاَةِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ
سُلَيْمَانُ: فَرَمَقْتُ عُمَرَ فِي صَلَاتِهِ فَكَانَ بَصَرُهُ إِلَى مَوْضِعِ
سُجُودِهِ.
(1/466)
وروى
أيضًا من حديث الربيع بن بدر عن عُنْطُوانَةَ عن الحسن عن أنس: قَالَ: قُلْتُ: يَا
رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَيْنَ أَضَعُ بَصَرِي؟ قَالَ:
«مَوْضِعَ سُجُوْدِكَ». وعند النسائي من حديث ابن الزبير: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ لاِ يُجَاوِزُ
بَصَرَهُ إِشَارَتَهُ». وحديث ابن عباس: «كَانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ لَم يَنْظُرْ إِلاَّ إِلَى مَوْضِعِ
سُجُوْدِهِ».
فإن غمض عينيه في الصلاة قال الطحاوي كرهه أصحابنا، وقال البيهقي: ورويناه عن
مجاهد وقتادة وفيه حديث وليس بشيء وقال مالك: لا بأس به في الفريضة والنافلة قال
النووي: والمختار
%ج 1 ص 256%
أنه لا يكره إذا لم يخف ضررًا؛ لأنه يجمع للخشوع ويمنع من إرسال البصر وتفريق
الذهن.
قال عياض: واختلفوا في كراهة رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة فكرهه
شريح وآخرون، وجَوَّزه الأكثرون، وقالوا: إن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة
قبلة الصلاة فلا يُنْكَرُ رفع البصر إليها كما لا يكره رفع اليد إليها قال الله جل
وعز: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 21] وقال ابن
حزم: لا يحل ذلك.
(بَابُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ)
751 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنا أَشْعَثُ بْنُ
سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، سُئِلَ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: «هُوَ
اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ العَبْدِ». تقدم هذا في صلاة
أبي بكر. [خ 751]
(1/467)
وزعم
الدَّارَقُطْني في كتاب «العلل»: أنهم اختلفوا في هذا الحديث فقال وكيع عن إسرائيل
عن أشعث عن أبيه عن مسروق أو عن أبي عطية الوَداَعي، قال عبد الله بن صالح عن
إسرائيل عن أشعث عن أبي عطية لم يقل عن أبيه وكذا قاله يحيى بن زكريا بن أبي زائدة
عن إسرائيل، ورواه مسعر عن أبيه فقال: عن أبي وائل عن مسروق، ورواه شريك وعمر بن
عبيد عن أشعث عن أبيه عن عائشة وخالفهم شعبة فرواه عن سليمان عن خيثمة عن أبي عطية
وقفة عن الأعمش عن عائشة، قولها والصحيح ما رواه أبو الأحوص ورواه النسائي عن عمرو
بن علي عن ابن مهدي عن ِأشعث عن أبيه عن أبي عطية عن مسروق، ومن حديث مخلد بن يزيد
الحرَّاني عن إسرائيل عن أشعث عن أبيه عن أبي عطية عن مسروق.
752 - حديث أبي جهم تقدم ويناسبه ذكره في باب الالتفات؛ لأن العلم إنما يكون على
الكشف. [خ 752]
(بابٌ هَلْ يَلْتَفِتُ لِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ، أَوْ يَرَى شَيْئًا، أَوْ بُصَاقًا
فِي القِبْلَةِ؟)
وَقَالَ سَهْلٌ: التَفَتَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَرَأَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
هذا الحديث تقدم من رواية أبي حازم عنه في إمامة أبي بكر.
753 - وحديث ابن عمر رأى نخامة تقدم في أبواب المساجد.
وقوله: رواه موسى بن عقبة وابن أبي روَّاد عن نافع بهذا التعليق رواه مسلم عن
هارون بن عبد الله، حَدَّثَنا حجاج قال: قال ابن جريج عن موسى عن نافع به. [خ 753]
754 - وحديث أنس في وفاته عليه السلام تقدم في الإمامة، ودخوله هنا؛ لأن الصحابة
رضي الله عنهم لما كشف الستر التفتوا إليه، يدلُّ على ذلك قول أنس فأشار إليهم أن:
(أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ) ولولا التفاتهم ما رأوا إشارته. وقوله: (فتُوُفِّيَ مِنْ
آخِرِ ذَلِكَ اليَوْمِ) وهو صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان قبضه قبل انتصاف
النهار. [خ 754]
وقال ابن سعد:
%ج 1 ص 257%
حين الشمس فكيف يلتئم هذا مع قوله المذكور؟.
(1/468)
وزعم
السَّفَاقُسيُّ أنَّ الدَّاوديَّ قال: عنى بقوله من آخر ذلك اليوم أي من بعد أن
رأوه والله أعلم.
(بَابُ وُجُوبِ القِرَاءَةِ لِلْإِمَامِ وَالمَأْمُومِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا،
فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَمَا يُجْهَرُ فِيهَا وَمَا يُخَافَتُ بها)
755 - حَدَّثَنا مُوسَى، حَدَّثَنا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ المَلِكِ
بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ
سَعْدًا إِلَى عُمَرَ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا
حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ:
يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي،
قَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ
العِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ:
ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ
رِجَالًا إِلَى الكُوفَةِ، يسألُ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا
إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي
عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى
أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ
بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ،
قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ
عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَطِلْ
فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ للفِتَنِ، فكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ
كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ
(1/469)
سَعْدٍ،
قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى
عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ».
وفي لفظٍ: «وَلاَ آلُوْ مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلاَةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ». [خ 755]
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ».
قوله: (مَا أَخْرِمُ عَنْهَا) بفتح الهمزة وكسر الراء أي: لا أنقص، وقال أبو
سليمان: لا أقطع، وأصْل الخَرْم النقص والقطع، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وضُبِطَ في
بعض الكتب بضم الهمزة على أنه رباعي وليس هو في اللغة.
قال ابن الجوزي: (وصلَّى بالعشي الظهر والعصر) كذا في الرواية. وقوله: (أرْكُدُ)
بضم الكاف أي: أطوِّلُهما وأمدُّهما، وقد جاء ذلك مبينًا في بعض الروايات من قولهم
ركدت السفن والريح والماء إذا سكن وسكنت. وقوله: «وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ»
يعني أقصرهما عن الأوليين، لا أنه يخل بالقراءة ويحذفها كلها قاله أكثر العلماء،
وقال بعضهم: يمكن أن يُسْتَدَلَّ لأبي حنيفة ومن قال بقوله بألا قراءةَ في
الركعتين الأخريين.
قال في «الهداية» عنه: إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت وهو المأثور عن علي
وابن مسعود وعائشة إلا أن الأفضل أنه يقرأ؛ لأن قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
%ج 1 ص 258%
(1/470)
«لَا
صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءةِ فَاتِحَةِ الكتابِ» أمرٌ، والأمر لا يقتضي التكرار وإنما
أوجبناه في الثانية استدلالًا بالأولى؛ لأنهما يتشاكلان من كل وجه، وفي شرحها ذهب
الأحمرُ وابن عُلَيَّة والحسن بن صالح وابن عيينة إلى أن القراءة في الصلاة مستحبة
غير واجبة، روى الشافعي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم، أخبرنا ابن
سلمة قال: وأخبرنا مالك عن رجل عن جعفر أبو محمد عن أبيه محمد بن علي بن حسين:
«أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ صَلَّى المغْرِبَ فَلَمْ يَقْرَأ فِيْهِمَا
فَقِيْلَ لَهُ: فَقَالَ كَيْفَ كَانَ الرُّكُوْعُ وَالسُّجُوْدُ؟ قَالَ: حَسَنٌ
قَالَ: فَلاَ بَأْس إِذًا» أبو سلمة لم يسمع من عمر شيئًا، قاله البخاري وغيره،
والثاني منقطع فيما بين محمد وعمر انقطاعًا بَيِّنًا وفيه رجل مجهول.
وفي «شرح المسند» لابن الأثير: روى الشعبي عن زياد بن عياض عن أبي موسى: «صَلَّى
عمرُ فَلَمْ يقرأْ فَمَا أعادَ». قال: ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن
عمر: «أنَّه صلَّى المغربَ ولم يقرأ فأعادَ» وهذا أولى، ولما رواه البيهقي قال:
هذه الرواية موصولة وهي موافقة للسنة في وجوب القراءة.
وروى مسدد في «مسنده الكبير»: بسند صحيح عن عبد الوارث عن موسى بن سالم، حَدَّثَنا
عبد الله بن عبيد الله: دَخَلْتُ عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ فِي شَبَابٍ مِنْ بَنِي
هَاشِمٍ فَقُلْنا لِشَبَابٍ مِنَّا سَلِ ابنَ عَبَّاسٍ أكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ،
فَقِيْلَ لَهُ: فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: خَمْشًا هَذِهِ
شَرٌّ مِنَ الأُولَى كَانَ عَبْدًا مَأْمُورًا، بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَمَا
اخْتَصَّنَا دُونَ النَّاسِ بِشَيْءٍ، الحديثَ.
(1/471)
وعند
أبي داود بسند صحيح أيضًا عنه: «لاَ أَدْرِيْ أكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَمْ لاَ؟».
أخبرنا الإمام بدر الدين محمد بن أحمد قراءة عليه، أخبرتنا شاهية المكرمة قراءة
عليها عن أم حبيبة عائشة الفاخرية، أخبرنا سعيد بن أبي الرجاء الصيرفي قراءة عليه،
أخبرنا أبو أحمد عبد الواحد بن أحمد البقال، أخبرنا عبيد الله بن يعقوب بن إسحاق
بن جميل، أخبرنَا جدي أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن منيع
البغوي الكبير، قال: حَدَّثَنا يزيد، حَدَّثَنا حميد الطويل قال: «صَلَّى بِنَا
الحَسَنُ إِحْدَى صَلاَتَيِ العِشَاءِ فَأَطَالَ فَرَأَيْتُ اضْطِرَابَ لِحْيَتِهِ
فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ لَهُ: أَكُنْتَ تَقْرَأُ فَقَالَ: لاَ إنَّ عَامَّتَهُ
تَسْبِيْحٌ وَدُعَاءٌ» ثم قال: حَدَّثَنا جابر بن عبد الله قال: «كُنَّا نَدْعُو
قِيَامًا وَقُعُوْدًا وَنُسَبِّحُ رُكُوْعًا وَسُجُوْدًا».
وروى الشافعي أيضًا فلما بلغه عن يزيد بن حُبَاب عن سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث
عن علي «وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ إِنَّيْ صَلَّيْتُ فَلَم أَقْرَأ قَالَ: أَتْمَمْتَ
الرُّكُوْعَ وَالسُّجُوْدَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: تَمَّتْ صَلاَتُكَ».
وقال ابن المنذر: روينا عن علي أنه قال: «اِقْرَأ فِي الأُوْليَيْنِ وَسَبِّحْ فِي
الأُخْرَيَيْنِ».
وعن مالك رواية شاذة
%ج 1 ص 259%
أن الصلاة صحيحة بدون القراءة، وحكى المازري عن ابن شَبْلُون أن أم القرآن ليست
فرضًا فيها، وقال ابن الماجشون: من ترك القراءة في ركعة من الصبح أو أي صلاة كانت
تجزئه سجدتا السهو.
وروى البيهقي عن زيد بن ثابت: «القراءةُ في الصلاةِ سنةٌ». قال: مراده أن القراءة
لا تجوز إلى على حسب ما في المصحف؛ لأنها سنة متبعة فلا يجوز مخالفتها وإن كانت
على مقاييس العربية.
(1/472)
وقال
الشافعي في القديم: إن تركها ناسيًا صحت صلاته، وقال الحسن البصري وزفر والمغيرة
المالكي: تجب في ركعة واحدة، وقال به بعض الظاهرية.
وفي «المصنف»: من جهة أبي إسحاق عن علي وعبيد الله بن مسعود أنهما قالا: «اِقْرَأ
فِي الأُوْلَيَيْنِ وَسَبِّحْ فِي الأُخْرَيَيْنِ». وعن منصور قال: قلت لإبراهيم:
ما يفعل في الركعتين الأخريين من الصلاة قال: سبح واحمد الله وكبر.
وعن الأسود وإبراهيم والثوري كذلك وهي رواية عن أحمد، قال ابن قدامة: الصحيح
وجوبها في كل ركعة وهو مذهب مالك والأوزاعي والشافعي مستدلين بحديث أبي قتادة
الآتي بعد وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب وعن أبي مسعود مرفوعًا: «لاَ صَلاَةَ
لِمَنْ لمَ يَقْرَأ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» ذكره ابن ماجه.
وعن عبادة: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ
بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقَالَ للْمُسِيءِ صَلاَتَهُ:
وَافْعَلْ ذَلكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» فتناول الأمر بالقراءة. وعن جابر: سنة
القراءة أن يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورة، وفي الأخريين بأم الكتاب.
قال الطبراني: لا يُرْوَى عن جابر إلا بهذا السند تفرد به ابن بقية.
وعن مالك: إن قرأ في ثلاث أجزأه؛ لأنها معظم الصلاة.
وقوله: (أَرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ) يستدل به من يُسَوِّي تسوية الركعتين الأخريين
في الصلوات كلها وهو مذهب الشافعي حكاه في «المهذب»، وفي «الروضة»: الأصح التسوية
بينهما وبين الثالثة والرابعة مستدلين بحديث مسلم عن أبي سعيد يرفعه: «كانَ يقرأُ
في الظهرِ في الأوليين في كلِّ ركعةٍ قدرَ ثلاثينَ آيةٍ، وفي الأخريين قدر خمس
عشرة آية، أو قال نصف ذلك».
(1/473)
وعن
أبي هريرة: «ما صليتُ وراءَ أحدٍ أشبهَ صلاةً بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ من فلانٍ، كانَ يطيلُ الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف في الأخريين»
رواه أبو عبد الرحمن بسند صحيح قال: والمختار تطويل أولى الفجر على الثانية وغيرها
وهو قول محمد بن الحسن والثوري وأحمد بن حنبل، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تطيل
الركعة الأولى على الثانية إلا في الفجر خاصة، وقال في «شرح المهذب»: لأصحابنا
وجهان أشهرهما لا يطول، ويؤول
%ج 1 ص 260%
الحديث على أنه طول بدعاء الاستفتاح والتعوذ والسماع داخل ونحوه، الثاني: يستحب
تطويل القراءة في الأولى قصدًا وهو الصحيح المختار، واتفقوا على كراهة إطالة
الثانية على الأولى إلا مالكًا فإنه قال لا بأس أن يطيل الثانية على الأولى
مستدلًا بأنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قرأ في الركعة الأولى بسورة الأعلى وهي
تسع عشر آية، وفي الثانية بالغاشية، وهي ست وعشرون آية.
وفي «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ: حَدَّثَنا شيبان عن عبد الله بن أبي قتادة عن
أبيه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ
الأُوْلَى مِنَ الظُهْرِ وَالعَصْرِ وَالفَجْرِ وَيَقْصُرُ فِي الأُخْرَى» فَإِنْ
جَهَرَ فِيمَا يُخَافَتُ فَيْهِ أَوْ خَافَتَ فِيْمَا يُجْهَرُ فِيْهِ فعند أبي
حنيفة يسجد للسهو، وعن أبي يوسف: إن جهر بحرف يسجد، وفي رواية عنه: إن زاد في
المخافتة على ما يسمع أذنيه فتجب سجدتا السهو.
قال في «شرح الهداية»: والصحيح إذا جهر بمقدار ما تجوز به الصلاة لحي كذا حديث أبي
قتادة يسمعنا الآية أحيانًا بيان لجواز الجهر، وإن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة
بل هو سنة، ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر
ولبيان الجواز.
(1/474)
وفي
«المصنف»: وممن كان يجهر بالقراءة في الظهر والعصر خَبَّابُ بن الأرت وسعيد بن
جبير والأسود وعلقمة، وعن جابر قال: سألت الشعبي وسالمًا وقاسمًا والحكم ومجاهدًا
وعطاء عن الرجل يجهر في الظهر والعصر فقالوا: ليس عليه سهو.
وعن قتادة: «أَنَّ أَنَسًا جَهَرَ فِيْهِمَا فَلَمْ يَسْجُدْ وَكَذَا فَعَلَهُ
سَعِيْدُ بنُ العَاصِيْ إِذْ كَانَ أَمِيْرًا بِالمَدِيْنَةٍ» ويستدل لأبي حنيفة
بما رواه أبو هريرة من كتاب ابن شاهين بسند فيه كلام: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِالقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ
النَّهَارِ فَارْجُمُوْهُ بِالْبَعْرِ».
وفي «المصنف» عن يحيى بن أبي كثير: قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَهُنَا
قَوْمًا يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ بِالنَّهَارِ، فَقَالَ: «اِرْمُوْهُمْ
بِالْبَعْرِ».
وعن الحسن وأبي عبيدة صلاة النهار عجماء، وسمع ابن عمر رجلًا يجهر بالقراءة نهارًا
فقال له: إن صلاة النهار لا تجهر فيها بالقراءة فأسر قراءتك.
وفي «سنن الكجي» من حديث عبد الله بن الموئل عن عبد الله بن أبي حسين عن أبي هريرة
قال: «جَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي المغْرِبِ وَالعِشَاءِ
وَالفَجْرِ وَلَم يَجْهَرْ فِي الظُّهْرِ وَلاَ فِي العَصْرِ».
وحديث ابن عباس: «صَلاَةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ». وإن كان بعض الأئمة قال هو حديث
لا أصل له باطل فيشبه أن يكون ليس كذلك لما أسلفناه.
وأما (الكوفة) فذكر هشام بن محمد بن السائب الكلبي في كتاب «أسماء البلدان» تأليفه
أنها إنما سميت الكوفة بِجُبَيْلٍ صغير اخْتَطَّتْ عليه مهرة فَهُمْ حوله، وكان
مرتفعًا فَسَهَّلُوه اليوم، وكان يقال له: كوفان، وكان عاشر كسرى يجلس عليه، وكان
الفرات إذا كثر ماؤه وخاف أن ينبثق كرى نهرًا من الفرات يصبُّ في الجون
%ج 1 ص 261%
وكان العاشر على ذلك النهر، ويقال لذلك الموضع البُويب.
(1/475)
قال
هشام وربما مشينا عليه إذا مطرت السماء فتعرف أنه أثر حفر، قال: وقال أبو بكر بن
عياش: أدركنا منه قدر ذراعين فكنا نمشي فيه، وقال جحدر وهو في سجن الحجاج بالكوفة:
يا ربِّ أبغضُ بيتٍ أنت خالقُه ... بيتٌ بكوفانَ منه استعجلتْ سقرُ
وقال الحازميُّ وغيره يقال للكوفة كوفان. انتهى.
ذكر الزمخشري في كتابه «أسماء البلدان»: أن كوفان يقال لِكُوَيْفَة عمرو يعني عمرو
بن قيس من الأزد، قال القَزَّازُ: كان أَبْرَوِيز لما نزل به بعد انهزام قراه
وحمله فلما رجع إلى ملكه أقطعه ذلك الموضع، فينظر في كلام الكلبي وغيره. وفي
«الزاهر» لابن الأنباري ومن نسخة قيل إنها كتبت عنه سميت كوفة لاستدارتها، أُخِذَ
من قول العرب رأيت كُوفانًا وكَوْفانًا بضم الكاف وفتحها للرَّمْلَة المستديرة،
ويُقَالُ سُمِّيَتْ كوفة لاجتماع الناس بها من قولهم قد تكوَّفَ الرجل يتكوَّفُ
تَكُوُّفًا إذا ركب بعضه بعضًا، ويقال الكوفة أخذت من الكُوفان يقال هم في كوفان
أي: في بلاء وشر قال الشاعر:
وما أُضْحِي ولا أَمْسَيْتُ إلا رأتني منكمُ في كُوَّفانِ
ويقال سميت كوفة لأنها قطعة من البلاد، من قول العرب: قد أعطيتُ فلانًا كِيْفَة؛
أي قطعة، يقال: كِفْتُ أَكِيْفُ كَيْفًا إذا قطعت، فالكوفة فُعْلة من هذا، والأصل
فيها كُيْفة فلما سُكِّنَتِ الياء وانضم ما قبلها جُعِلت واوًا، وقال قطرب: يقال
القوم في كوفان أي مُحْدِقون في أمر يجمعهم، وقال أبو القاسم الزَّجَّاجي: ومن خط
أبي علي الشاري الحافظ ذهب جماعة إلى أنها سميت كوفة بموضعها من الأرض وذلك أن كل
رملة تخالطها حصباء تسمى كوفة، وقال آخرون: سميت كوفة؛ لأَنَّ جَبَل ساتِيدَمَا
محيط بها كالكفاف عليها.
(1/476)
وفي
«أسماء البلدان» لابن حوقل الكوفة على الفرات وبناؤها بخلاف البصرة، مَصَّرَها سعد
بن أبي وقاص وهي خِطَط لقبائل العرب، وهي خَرَاج بخلاف البصرة لأن ضياع الكوفة
قديمة جاهلية وضياع البصرة أحياء موات في الإسلام، وفي «معجم ما استعجم»: سميت
الكوفة لأن سعدًا لما افتتح القادسية نزل المسلمون الأنبار فآذاهمُ البَقُّ فخرج
فارتاد لهم موضع الكوفة، وقال: تَكَوَّفُوا في هذا الموضع أي اجتمِعوا، وقال محمد
بن سهل: كانت الكوفة منزل نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 262%
وهو بنى مسجدها، وقال اليعقوبي في كتابه: هي مدينة العراق الكبرى، والْمِصْرُ
الأعظم، وقبة الإسلام، ودار هجرة المسلمين وهي أول مدينة اختط المسلمون بالعراق في
سنة أربع عشرة، وهي على معظم الفرات، ومنه شرب أهلها، ومن بغداد إليها ثلاثون
فرسخًا.
وفي «تاريخ محمد بن جرير» لما فتح المسلمون الأنبار كتب سعد إلى عمر يخبره بذلك
فكتب إليه: انْظُر فلاة إلى جانب البحر فَارْتَدِ المسلمين بها منزلًا، فبعث سعد
رجلًا من الأنصار يقال له: الحارث بن سلمة، ويقال: بل عثمان بن حنيف فارتادَ لهم
موضع الكوفة، وفي الكتاب «الواعي» لأبي محمد وقيل: إن سعدًا قال لهم كوِّفوا هذا
الرمل أي نَحُّوه عن هذا المكان وانْزِلوا فيه، وقيل: سميت كوفة لتحرز الناس بها
من قول العرب إنهم كفى كوفان عن ذلك أي في حرز ومنعة، ويقال: وقع الغريم في كوفان
إذا كانوا في حيرة كذا حكاه قطرب، وجاء في الشعر مشدد الواو، وقال الشاعر:
وما أضحي ولا أمسيت إلا رأتني منكم في كُوَّفان
وحُكي بفتح الكاف والتشديد وهو الصحيح، وقيل: الكُوُّفان بالتشديد وضم الواو الشر
والمكروه، وعلى هذا أنشدوا هذا البيت، وَفِي «الصِّحَاحِ» الكوفة الرملة الحمراء
وبها سميت الكوفة والله تعالى أعلم.
(1/477)
والرجل
الذي أرسله عمر ليكشف أمر سعد هو زيد بن أرقم، وأبو سعد هو جد بني أبي شيبة ذكره
السَّفَاقُسيُّ وفيه نظر من حيثُ إن بني أبي شيبة موالي عبس لا صُلْبِيَّة والله
أعلم.
756 – حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ عبد الله، حدَّثَنَا سُفْيَانُ، عنِ الزُّهْرِيُّ،
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: أَنَّ رَسُوْلَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَم يَقْرَأ
بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ». هذا حديث خرجه الستة في كتبهم، وسفيان هذا هو ابن عيينة.
[خ 756]
وعند الإسماعيلي: «إِذَا كانَ وَحْدَهُ». وعنده أيضًا: «لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ
يُقْرَأُ فِيْهَا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ».
وقال الدَّارَقُطْني: في هذا اللفظ إسناد صحيح.
وعند أبي داود قال عبادة: كُنَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
في صلاة الفجر فقرأ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَثَقُلَتْ
عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «لَعَلَّكَمْ تَقْرَؤونَ خَلْفَ
إِمَامِكُمْ» قُلْنَا: نَعَمْ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «لَا تَفْعَلُوا
إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَم يَقْرَأ بِهَا».
وعند الترمذي محسنًا: «لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهُ
لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَم يَقْرَأ بِهَا». وفي كتاب الدَّارَقُطْني: «لَا تَقْرَؤوا
بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» وقال: رجاله
ثقات كلهم وفي كتاب
%ج 1 ص 263%
«السنن» لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: هذا الإسناد إسناد صحيح حديث
الزهري عن محمود عن عبادة.
وفي «المستدرك»: قد أدخل بين محمود وعبادة وهب بين كيسان فيما رواه الوليد بن مسلم
عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن محمود عن وهب، ورواه أيضًا إسحاق بن عبد الله.
(1/478)
وفيه بيَّن الدَّارَقُطْني في «سننه» من حديث زيد بن وافد عن مكحول: أن دخول وهب فيه؛ لأنه كان مؤذن عبادته، وإن محمودًا ووهبًا صَلَّيَا خلفه يومًا فذكره، وقال: رجاله كلهم ثقات، ورواه أيضًا من حديث ابن إسحاق عن مكحول به، وقال: إسناد حسن وقاله أيضًا البغوي، وفي كتاب «القراءة خلف الإمام» للبخاري وقال معمر عن الزهري فصاعدًا، وعامة الثقات لم تتابع معمرًا في قوله: فصاعدًا، مع ما أنه قد أثبت الفاتحة وقوله: فصاعدًا غير معروف ما أراد، أراد به حرفًا أو حرفين أو أكثر من ذلك إلا أن يكون كقوله: «تقطعُ اليدُ في رُبعِ دينارٍ فصاعدًا» فقد تقطع اليد في دينار أو أكثر من دينار، ويقال إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرًا، وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره ولا نعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا، حَدَّثَنا عبد الله، حَدَّثَنا الليث، حدثني يونس عن ابن شهاب حدثني محمود عن عبادة: قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ صَلاَةَ لمَنْ لَم يَقْرَأ بِأُمِّ القُرْآنِ» وسألته عن رجل نسي القراءة في الصلاة فقال: أرى أن يعود لصلاته، وإن ذكر ذلك في الركعة الثانية ولا أدري إلا أن يعود لصلاته. انتهى كلامه.
(1/479)
وفيه
نظر من حيث إن الدَّارَقُطْني قال أثر حديث ابن عيينة: الزهري المذكور، حدثنا ابن
صاعد، حَدَّثَنا الربيع، حدَّثَنَا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني محمد
عن عبادة الحديثَ. ثم قال: وهذا صحيح أيضًا، وكذلك رواه صالح ومعمر والأوزاعي وعبد
الرحمن بن إسحاق وغيرهم عن الزهري، فظاهره يقتضي أن معمرًا وابن إسحاق ومن ذكر
رووه كرواية ابن عيينة من غير تلك الزيادة وإن كانوا ذكروها فهو نقض لما قاله
البخاري من التفرد، وقال أبو طالب: قلت لأبي عبد الله: ما تقول في القراءة خلف
الإمام قال: لا تقرأ والإمام يقرأ قلت: أليس قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا
صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» قال ذلك للإمام، قلت: فمحمود
بن الربيع صلَّى إلى جنب عبادة فجعل يقرأ والإمام يقرأ، قال يا أبا الوليد: تقرأ
والإمام يقرأ، قال: نعم سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «لا صَلاَةَ
إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» قال ذلك بقوله: محمد بن إسحاق، وأما غيره فيقول: لا
صلاة لمن لم يقرأ، انتهى.
في «الصلاة» للفِرْيابي: حَدَّثَنا عبيد الله بن معاذ
%ج 1 ص 264%
حَدَّثَنا أبي حدَّثَنَا ابن عون عن رجاء ابن حيوة عن محمود قال: «صَلَّيْتُ
صَلاَةً وَإِلَى جَنْبِيْ عُبَادَةُ فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ
فَلَمَّا فَرَغْنَا قُلْتُ لَهُ: إِذًا لَم أَسْمَعْكَ قَرَأَتَ بِالفَاتِحَةِ)
الحديثَ.
(1/480)
قال
الفريابي: حَدَّثَنا ميمون بن الأصبغ، أخبرني زيد بن واقد عن مكحول عن نافع بن
محمود بن الربيع الأنصاري قال نافع: أبطأ علينا عبادة فأقام أبو نُعَيْمٍ الصلاة
وأقبل عبادة وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم وهو يجهر بالقراءة فجعل عبادة يقرأ
بأم القرآن فلما انصرف قلت له ... » الحديثَ. وفي آخره قال ميمون: كذا قال نافع بن
محمود بن الربيع، رجع قال أحمد، وقال الزهري: ذاك للإمام وقد قاله بعضهم عن أبي
هريرة ولكنه خطأ قلت: فإنهم قالوا لا صلاة لمن لم يقرأ قال فغضب ثم قال: ما قال
هذا أحد من أهل الإسلام، وهذا النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأصحابه
والتابعون وهذا مالك في أهل الحجاز وهذا الثوري في أهل العراق وهذا الأوزاعي في
أهل الشام وهذا الليث في أهل مصر ما قالوا لرجل صلَّى خلف الإمام قرأ إمامه ولم
يقرأ هو إن صلاته باطلة.
قال يا أبا عبد الله: يقولون الشافعي قال، فقال: ما تستحي يا أبا طالب ثم قال
فنبيُّ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أليس هو يعلمنا أوَليس حديث أبي موسى لنا
سُنَّتَنَا وعلَّمَنَا صلاتنا، يدلُّ على هذا في أول الإسلام، وقال لهم: «لا
تُكَبِّروا حتى يُكَبِّرَ إمامكم» وقال لهم: «إذا قرأَ فَأَنْصِتُوا» قلت يا أبا
عبد الله: التيميُّ وجَدَهُ: «إَذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا». قال لي رواه أبو خالد
الأحمر عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا، قلت: فإنهم
يقولون أخطأ أبو خالد، قال: فرواه سليمان التيمي عن قتادة عن أبي غلاب عن حطان بن
عبد الله الرَّقَاشي عن أبي موسى قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إذا قرأَ
الإمامُ فأنصتوا». قلت: يقولون أخطأ سليمان قال: من قال أخطأ سليمان فقد بهَتَهُ.
(1/481)
وفي
«الأوسط» لأبي القاسم من حديث سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن عبادة
يرفعه: «لا صلاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الكتابِ وآيَتَيْنِ معها». وقال: لم يروه عن
سعيد إلا الحسن بن يحيى الحسني.
وفي «التمهيد»: من حديث ابن زياد عن يونس: «مَنْ لمَ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ
الكِتَابِ فَصَلاَتُهُ خِدَاجٌ».
قال أبو عمر: هذا وهْمٌ وغلطٌ لإدخال لفظ حديث أبي هريرة في هذا الحديث، وإنما لفظ
حديث عبادة: «لا صلاةَ لِمَنْ لَمْ يقرأْ فيها بفاتحةِ الكتابِ» على أنه غريب جدًا
من حديث مالك ومحفوظ لابن عيينة وجماعة عن الزهري، وفي كتاب «الصلاة» لجعفر بن
محمد الفريابي قال ابن عون: فكان يقال
%ج 1 ص 265%
لرجاء: أرأيت إن كان خلف الإمام فجهر؟. قال: إن جَهَرَ وإنْ لم يجهرْ لا بُدَّ من
قراءة أم القرآن.
وفي كتاب الدَّارَقُطْني بسند جيد مرفوعًا: «أمُّ القرآنِ عوضٌ منْ غَيْرِهَا
وليسَ غَيْرُها عوضًا». وقال: تفرد به محمد بن خلَّاد عن أشهب عن ابن عيينة عن ابن
شهاب عن محمود عنه، وصححه الحاكم في «مستدركه». وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي السائب عن
أبي هريرة: «مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ
خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ، قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنِّي أَكُونُ
أَحْيَانًا وَرَاءَ الْإِمَامِ فَغَمَزَ ذِرَاعِي، وَقَالَ: يَا فَارِسِيُّ،
اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ».
وعند البزار: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» الحديثَ.
وقال: لا نعلم رواه عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد إلا همام، وقال البزار في
كتاب «السنن»: تابع مالكًا على روايته جماعة منهم ابن إسحاق وشعبة وأبو أويس، وعند
السراج: «أَيُّمَا رَجُل صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَهِيَ خِدَاجٌ».
(1/482)
وفي
«صحيح ابن خزيمة» ذكر الخداج ثلاثًا، وفي «فضائل القرآن العظيم» للملاحي قال أبو
الحسن علي بن عمر الحمَّامي: «لَمَّا نَزَلَتْ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لِجِبْرِيْلَ مَا الذِّكْرُ الكَثِيْرُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ اللهَ
جَمَعَ الكُتُبَ المنَزَّلَةَ فِي سُوْرَةِ الحَمْدِ إِذَا أَرَدْتَ يَا مُحَمَّدُ
أَنْ تَذْكُرَني حَقِيْقَةَ ذِكْرِي وَتقَدِّسني وَتُعَظِّمَني حَقِيْقَةَ
العَظَمَةِ فَاقْرَأ الحَمْدَ عَلَى حَقِيْقَتِهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ، قال
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا
بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ».
وعند أبي داود بسند صحيح عن أبي سعيد: «أُمِرْنَا أنْ نقرأَ بفاتحةِ الكتابِ وما
تيسرَ».
وفي «الصلاة» للفِرْيابي: حدَّثَنَا ابن بشار، حدَّثَنَا ابن جعفر، حَدَّثَنا
شعبةُ عن أبي مسلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد: «في كلِّ الصلاةِ قراءة بأمِّ
القرآنِ فما زاد» وحدَّثَنَا أبو مُعَاذٍ، حَدَّثَنا بِشْرُ بنُ الْمُفَضَّلِ،
حَدَّثَنا خالد بن أبي المتوكل عن أبي سعيد مثله، ولفظ البخاري في كتاب «القراءة
خلف الإمام» عن أبي الوليد عن همام: «أمرنا نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
أخبرنا بذلك الإمام المسند عبد الله بن علي بن عمر المغربي رحمه الله تعالى،
أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل قراءة عليه، أخبرنا أبو البركات بن مُلَاعب،
أخبرنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف، أخبرنا الشريف أبو الغنائم بن المأمون،
أخبرنا أبو نصر محمد بن أحمد الملاحي، أخبرنا أبو إسحاق محمود بن إسحاق الخزاعي،
أخبرنا أبو عبد الله البخاري فذكره.
وفي «الأوسط»: «في كلِّ صلاةٍ قراءةٌ بفاتحةِ الكتابِ ومَا تَيَسَّرَ، ومنْ لمْ
يقرأْ فهي خِدَاجٌ».
(1/483)
وفي
كتاب «الصلاة» للفِرْيابي: «في كلِّ الصلاةِ قراءةٌ بأمِّ القرآنِ فمَا زاد».
وعند ابن ماجه بسند صحيح عن عائشة:
%ج 1 ص 266%
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «كُلُّ صَلاَةً لَا يُقْرَأُ
فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ».
وعند أبي القاسم في «الأوسط»: ذكر الخداج ثلاثًا، وعند ابن عدي بسند ضعيف: «كلُّ
صَلَاةٍ لا يُقْرَأُ فيها بأمِّ الكتابِ فهي خدِاَجٌ». وعنده أيضًا بسند صحيح على
رأي جماعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال: «كلُّ صلاةٍ لا يُقْرَأُ فيها بفاتحةِ الكتابِ فهي خِدَاجٌ فهي
خِدَاجٌ».
وعند أبي القاسم: «مُخْدَجَةٌ». وقال: لم يروه عن عاصم الأحول -يعني عن عمرو- إلا
أبان بن يزيد، تفرد به سعيد بن سليمان السَّقَطي. انتهى.
ذكر الفِرْيابي في كتاب «الصلاة»: حَدَّثَنا موسى بن السِّنْدي، حَدَّثَنا معاذ بن
هشام، حَدَّثَنا أبي عن عاصم فذكره بلفظ: «كلُّ صلاةٍ ليسَ فيها قراءةٌ مُخْدَجَةٌ
مُخْدَجَةٌ مُخْدَجَةٌ».
وعند الدَّارَقُطْني مضعفًا من حديث محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن عمير بن
عمرو «وَمَنْ صَلَّى صَلَاةً مَكْتُوبَةً أَوْ تَطَوُّعًا فَلْيَقْرَأْ فِيهَا
بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةً مَعَهَا, فَإِنِ انْتَهَى إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ
فَقَدْ أَجْزَأهُ , وَمَنْ صَلَّى صَلَاةً مَعَ إِمَامٍ يَجْهَرُ فَلْيَقْرَأْ
بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي بَعْضِ سَكَتَاتِهِ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ
خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ».
وعند النسائي وقال: هذا خطأ عن أبي الدرداء: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ؟ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «نَعَمْ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: وَجَبَ
هَذا.
(1/484)
وقال
الدَّارَقُطْني: هو من قول أبي الدرداء، ومن جعله من قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فقد وَهِمَ، وفي موضع آخر وذكره من رواية ابن وهب عن معاوية فجعله من
كلام أبي الدرداء ثم قال رواه زيد مرفوعًا ووهم فيه والصواب قول ابن وهب، ولما قال
أبو محمد اخْتُلِفَ في إسناد هذا الحديث ولا يثبت، قال ابن القطان: قوله يُوهِمُ
في الحديث علة لا يقبله معها أحد وليس كذلك، بل هو موضع نظر ليس فيه أكثر من أنَّ
ابن وهب وقفه وزيد بن حباب رفعه وهو أحد الثقات، ولو خالفه في رفعة جماعة من
الثقات فوقفوه ما ابتغى أن يحكم عليه في رفعه بالخطأ فكيف ولم يخالفه إلا واحد؟
وأرفع ما يعتل به عليه مرفوعًا الشك الذي في قوله ما أرى الإمام إذا أم القوم إلا
قد كفاهم فإن هذا يستبعد أن يكون من كلام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولو
كان من مجتهداته، والأظهر أنه من كلام أبي الدرداء. انتهى.
قد وجدنا من تابع زيدًا على رفعه من طريق صحيحة.
قال ابن ماجه: حَدَّثَنا علي بن محمد، حَدَّثَنا إسحاق بن سليمان، حَدَّثَنا
معاوية عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس، وفي كتاب «القراءة» للبخاري: حَدَّثَنا عبد
الله بن محمد، حَدَّثَنا بشر بن السَّري، حَدَّثَنا معاوية.
وقال الطبراني:
%ج 1 ص 267%
حَدَّثَنا عبدانُ، حدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ، حَدَّثَنا عمرو الْأَغْضَفُ
الحديثَ.
وحَدَّثَنَا الحضرمي، حَدَّثَنا أحمد بن بُدَيل، وحَدَّثَنَا الحسين التستري،
حَدَّثَنا يحيى الجُمَّانيُّ، قالا: حَدَّثَنا إسحاق بن سليمان كلاهما عن معاوية
بن يونس فذكره مرفوعًا، وأما زيد فإنه اخْتُلِفَ عليه فرواه عنه علي عند البخاري
من غير ذكر الالتفات، وأبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني في «مسند» أبي
الدرداء.
(1/485)
جمع
العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبيد رواية عثمان بن أبي شيبة من «الصلاة»
للفِرْيابي، وهارون بن عبد الله عند النسائي، وقول ابن القطان أيضًا ابن وهب وحده
وقفه ليس كذلك لما في كتاب الفريابي من تبيين الوقف من الرفع، قال: حدَّثَنَا ابن
رَاهَوَيْه، حَدَّثَنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مُرَّة عن أبي
الدرداء: أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُوْلَ اللهِ: أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قُرْآنٌ؟
قَالَ: «نَعَمْ». فَقَالَ رَجُلٌ: قَدْ وَجَبَتْ هَذِهِ، فَقَالَ لِي أَبُو
الدَّرْدَاءِ: يَا كَثِيْرُ مَا أَرَى الْإِمَامَ إِذَا أَمَّ الْقَوْمَ إِلَّا
قَدْ كَفَاهُم.
وعند أبي داود بسند صحيح عن رِفَاعة بن رافع: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قَالَ للأعرابيِّ: ثم اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ
اللهُ أَنْ تَقْرَأَ». وعند الترمذي: «إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بَدَوِيٌّ فَأَخَفَّ
صَلَاتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ، مرتين أَوْ ثَلاَثًا». وَفِيْهِ: «إِذَا قُمْتَ
إِلَى الصَّلاَةِ فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللهُ، ثُمَّ تَشَهَّدْ فَأَقِمِ
الصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ، وَإِلاَّ فَاحْمَدِ اللهَ
وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ». وَفِيْهِ: «فَإِنِ انْتَقَصْتَ شَيْئًا مِنْ هَذَا
انْتَقَصْتَ مِنْ صَلاَتِكَ، قَالَ: وَكَانَ هَذَا أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُ
مَنِ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا انْتَقَصَ مِنْ صَلاَتِهِ، وَلَمْ تَذْهَبْ
كُلُّهَا». قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(1/486)
وعند
الطبراني: «فَأَعَادَ الثَّالِثَة وَالرَّابِعَةَ» وَفِيْهِ: «وَاقْرَأْ ثُمَّ
ارْكَعْ». وفي لفظ: «فَصَلَّى صَلاَةً خَفِيْفَةً لاَ يُتِمُّ رُكُوْعَهَا وَلاَ
سُجُوْدَهَا». وفي لفظٍ: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ». وفي رواية: «وَيَقْرَأُ
القُرْآنَ كَمَا أَذِنَ لَهُ وَتَيَسَّرَ».
وفي رواية: «إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بَعْدَ فَرَاغِ رَسُوْلِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنَ الصَّلاَةِ فَصَلَّى».
وعند أبي محمد بن الجارود في «المنتقى» عن أبي هريرة قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُوْلِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ أُنَادِي أَنَّهُ لاَ صَلاَةَ إِلَّا
بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الكِتَابِ فَمَا زَادَ».
وقال البزار في كتاب «السنن»: هذا إسناد مستقيم ولفظه: «أَمَرَ مُنَادِيًا
يُنَادِيْ».
وفي كتاب «الصلاة» لأبي الحسين أحمد بن محمد الخفاف: «لا صلاةَ إلا بقرآنٍ، ولو
بفاتحةِ الكتابِ فما زادَ». وفي «الصلاة» للفِرْيابي: «أُنَادِي بالمدينةِ أَلَّا
صَلَاةَ إِلَّا بقراءةٍ أو بفاتحةِ الكتابِ فما زادَ».
وفي لفظٍ: «فناديتُ ألَّا صلاة إلا بقراءة فاتحةِ الكتابِ». وعند البيهقي: «إِلاَّ
بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الكِتَابِ فَمَا زَادَ».
وفي «الأوسط»: «في كلِّ
%ج 1 ص 268%
صلاةٍ قراءةٌ ولو بفاتحةِ الكتابِ».
وعند ابن عدي عن ابن عمر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا تجزئُ
المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعدًا». وقال: هذا حديث غير محفوظ.
وعند أبي القاسم في «الأوسط»: من حديث سليمان بن عبد الرحمن، حَدَّثَنا عبد الرحمن
بن سوار، حَدَّثَنا عمرو بن ميمون بن مهران، حدثني أبي ميمون بن مهران عن أبيه قال
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ القُرْآنِ
فِي صَلاَتِهِ فِهِيَ خِدَاجٌ» وقال: لا يُرْوَى عن مهران إلا بهذا الإسناد تفرد
به سليمان.
(1/487)
وعن
أنس قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لأصحابه: «تَقْرَؤُون والإمامُ
يقرأُ فقال قائلون إنَّا لنفعلُ، فقال: لا تفعلوا ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في
نفسه». رواه من حديث عبيد الله بن عُمَر، وعن أيوب عن أبي قلابة عنه وقال: لم يروه
عن أبي قلابة عنه، وقال لم يروه عن أيوب إلا ابن عُمَر، وعن عمر بن الخطاب في حديث
طويل مرفوع: «هَذَا الدِّيْنُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى وَلاَ يَقْبَلْهُ اللهُ
تَعَالَى إِلاَّ بِصَلاَةٍ، وَلاَ يَقْبَلُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِقُرْآنٍ». رواه
أيضًا بسند صحيح، ورواه الفريابي في كتاب «الصلاة»: عن عثمان بن أبي شيبة،
حَدَّثَنا أبو معاوية عن الأعمش عن خَيْثَمَةَ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ عن
عمر موقوفًا: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لاَ يُقْرَأُ فِيْهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
وَشَيْءٍ مَعَهَا»، وفي لفظ: «لا تتركوا». وفي لفظ: «قَالَ رَجُلٌ وَإِنْ كُنْتُ
خَلْفَ إِمَامٍ؟ قَالَ: اقْرَأْهَا فِي نَفْسِكَ».
وفي لفظٍ: «خَلْفَ إِمَامٍ كُنْتَ أَوْ وَحْدَكَ». وفي لفظ: «قِيْلَ لَهُ: وَإِنْ
كُنْتُ خَلْفَكَ قَالَ: اقْرَأْ، قِيْلَ: وَإِنْ قَرَأْتَ قَالَ: وَإِنْ
قَرَأْتُ». وعند البيهقي في «المعرفة» بسند صحيح قاله هو عن محمد بن أبي عائشة عمن
شهد ذاك قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ:
أَتَقْرَؤونَ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ؟، قَالُوا: إِنَّا لَنَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالَ:
فَلَا تَفْعَلُوا، إِلَّا أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُكُمْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي
نَفْسِهِ». وعن عبد الله بن عُمَر وقرأ رجل خلف النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «فَقَالَ: لاَ يَقْرَأَنَّ أَحَدَكُمْ وَالإِمَامُ يَقْرَأُ إِلاَّ
بِأُمِّ القُرْآنِ». ذكره البخاري في «القراءة»: وأشار إلى ضعفه.
(1/488)
وعند
الفريابي بسند جيد عن عبيد الله بن الحارث قال: «جَلَسْتُ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِيْهِمْ خَوَّات بن جُبَيْر فَسَأَلُوا عَنِ
الصَّلاَةِ فَقَالُوا: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةٍ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ».
وحَدَّثَنَا عبيد الله بن عمر، حَدَّثَنا زيد بن زُرَيع، حَدَّثَنا شعبة بن إياس
الجريري عن عبد الله بن بُرَيْدة عن عمران بن حصين قال: «لاَ تَجُوْزُ صَلاَةٌ
إِلاَّ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الكِتَابِ وَآيَتَيْنِ فَصَاعِدًا».
وعن ابن عباس بسند جيد: «اقْرَؤُوْا خَلْفَ الِإمَامِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ
جَهْرًا وَلَمْ يَجْهَرْ».
وفي لفظ من طريق ضعيفة: «اقْرَؤُوْا مَعَ الإِمَامِ فِي
%ج 1 ص 269%
كُلِّ رَكْعَةٍ، بِأُمِّ الْقُرْآنِ).
757 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ
اللهِ، حدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ
فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَرَدَّ وَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فَرَجَعَ فَصَلَّىَ
كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فَقَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثَلَاثًا فَقَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَالَ:
«إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ
مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى
تَطْمَئِّنَّ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ
حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا». [خ 757]
(1/489)
وفي
لفظ: «ثمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا». وفي لفظ: «أَسْبِغِ
الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا
تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ». وخرجه في باب إذا حلف ناسيًا في الأيمان بنحوه،
وزعم الدَّارَقُطْني في «العلل»: أن محمد بن بشار لم يقل في روايته عن أبيه، وزعم
في «التتبع» أن يحيى خالف أصحاب عبيد الله، كلهم قالوا سعيد عن أبي هريرة وهو
المحفوظ إلا هو. انتهى.
حديث البخاري يقضي على كلامه الأول فينظر.
وقال أبو عيسى: ومنهم من قال سعيد عن أبيه هنا أصح.
وجاء في حديث يحيى بن خَلَّاد عن أبيه نحو هذا الحديث فزعم بعض المتأخرين أن
خَلَّادًا هو المسيء صلاته فالله أعلم، وفي كتاب «السِّرَاج» لابن العربي وفي
رواية: «اِقْرَأْ فَاتِحَةَ الكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ» والأول أصح الذي
أخبرنا به غير واحد عن عبيد الله بن موسى وإسحاق بن منصور عن الحسن بن صالح عن
جابر الجعفي عن أبي الزبير، وحَدَّثَنَا الحسن بن خلف، حَدَّثَنا إسحاق بن يوسف عن
أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد كلاهما، وعند أبي داود:
«فَإِذَا فَعَلْتَ هذا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، وما انْتَقَصْتَ منْ هَذَا
فَإِنَّمَا انْتَقَصْتَهُ منْ صَلَاتِكَ».
وفي «مسند أبي قرة»: «فَاقْرَأْ بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ».
(1/490)
وقال
البزار في «السنن»: ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «لا
صلاةَ لِمَنْ لمْ يقرأْ بِفَاتحةِ الكتابِ». وإنما بدأنا بحديث أبي أسامة عن عبيد
الله بن عمر عن سعيد عن أبي هريرة قبل حديث يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله لأن
يحيى لم يُتَابع في هذا الحديث عن عبيد الله عن سعيد عن أبيه، وقد رواه جماعة عن
عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة وقد روى نحو هذا الكلام عن رفاعة بن رافع، وحديث
أبي هريرة أصح من حديث رفاعة، قال: فإن احتج محتج بحديث جابر عن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «منْ كانَ لهُ إمامٌ فقراءةُ الإمامِ له قراءة».
قال أبو بكر: فيقال لمن احتج بهذا الحديث
%ج 1 ص 270%
إن هذا لا يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فأما حديث جابر فإنه كان
قدري المذهب يؤمن بالرجعة وأما حديث موسى فرواه الثوري وزهير وأبو عوانة وغيرهم عن
موسى عن عبد الله بن شداد مرسلًا لم يقل أحد منهم عن جابر، وإنما تكون الزيادة
مقبولة محكومًا له بها إذا كان الزائد أحفظ وأعلم بالنقل، فإذا كان من نَقَصَ
وأرسل أثبتَ وكان من زاد ليست هذه صفتَه كانت زيادتُه مطَّرِحة.
(1/491)
وقد
اتفق المسلمون لا يُعْلَمُ بينهم خلاف في أن التكبيرة الأولى فرض، وأن القراءة
فرض، وأن الركوع والسجود فرض، فكما اتفقوا جميعًا على أن هذه فروض في الصلاة لا
يجزئ ركوع الإمام عن ركوع المأموم ولا سجوده عن سجوده إذ كان أصل ذلك فريضةً فكذلك
القراءة؛ إذا كانت فريضة اتفقوا عليها أنها فريضة كما اتفقوا على الركوع والسجود
أنه فريضة، فإذا لم يجزئ عند الجميع ركوعُ الإمام ولا سجودُه عن المأموم، ولا يكون
ركوعُ الإمام ركوعَه ولا سجودُ الإمام سجودَه فكذلك يجب أن لا تكون قراءةُ الإمام
قراءتَه، إذ خوطب كل واحد منهم بهذه الفروض في نفسه لا يتحملها الإمام عمن وراءه،
وإنما يتحمل الإمام السهو، ولا يتحمل شيئًا من صلب الصلاة عمن خلفه، كان احتج بما
حَدَّثَنا محمد بن بشار وعمرو بن علي، حَدَّثَنا أبو أحمد، حَدَّثَنا يونس بن أبي
إسحاق عن أبيه عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كان يقرؤون خلف النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فقال: خَلَّطْتُم القرآن، قيل له: إنما خلطتم عليَّ القرآن ولا
يُخَلِّطُون عليه إلا برفع أصواتهم.
فلو تدبر هذا القول المحتج به لعلم أن ليس فيه حجة، وإن احتج بحديث قتادة عن زرارة
عن عمران بن حصين: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى إِحْدَى
صَلَاتِي الْعَشِيِّ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ، فَقَرَأَ بِـ {سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى} فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ {سَبِّحِ} فَقَالَ
رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا».
(1/492)
قال
البزار: فإن قال: إن هذا الحديث هو حجة في ترك القراءة خلف الإمام، قيل له لم
يَنْهَ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن القراءة خلفه، ولو نهى لقال لا يقرأ
خلفي، إنما قال: «قَدْ علمتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا». يعني رفْعَ صوته
وإشغالَه إياه عن القراءة، ولم يكن للذي يحتج بذلك حجةٌ أيضًا، لأنَّا إنما أوجبنا
قراءة الفاتحة بِسُنَّةِ نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولم يوجب قراءة سورة
بعدها، ولو صح نهيه أو كراهته ذلك إنما كانت الكراهة في السورة لا في الفاتحة إذ
لم يخالطه فيها بشيء وإن احتج بحديث الزهري عن ابن أُكَيْمَة الليثي عن أبي هريرة:
«أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلاَةٍ جَهَرَ
فِيْهَا بِالقِرَاءَةِ فَقَالَ: هَلْ قَرَأَ مَعِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ فَقَالَ
رَجُلٌ: نَعَمْ أَنَا يَا رَسُوْلَ اللهِ
%ج 1 ص 271%
فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: وَأَنَا أَقُولُ مَالِي
أُنَازَعُ الْقُرْآنَ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ
فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
(1/493)
قال
أبو بكر: وهذا الحديث لا يثبت من جهة النقل؛ لأنَّ ابنَ أُكَيْمَةَ لا نعلم حدَّث
عنه إلا الزهريُّ وحده، ولم يكن مشهورًا بالنقل، وإنما قال الزهري: سمعته يحدث
سعيد بن المسيب فلم يكن عنده من معرفته أكثرُ من ذلك، قال أبو بكر: وهذا الحديث
رواه الأوزاعي عن الزهري عن المسيب عن أبي هريرة، وأخطأ الأوزاعي في هذا الحديث لو
جعله عن الزهري عن سعيد وإنما كان الحديث عن ابن أكيمة سمعه يحدث سعيدًا فسقط عنه
بعض الكلام فجعله عن سعيد، إذ قد اتفق جماعة من الثقات على أن هذا الحديث ليس من
حديث الزهري عن سعيد، وأنه لم يروه إلا ابن أكيمة، وقد رواه ابن أخي الزهري فأخطأ
في إسناده خطأً غيره مشكلٍ، رواه عن عمه عن الأعرج عن ابن بُحَيْنَةَ عن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بمثل حديث ابن أكيمة.
قال أبوبكر: وهذا الحديث خطأ من ابن أخي الزهري، وإنما بهذا الإسناد عن الزهري عن
الأعرج عن ابن بحينة في قيام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من الركعتين، فغلط
ابن أخي الزهري ولا يحتج بحديث خطأ، ولا بحديث ابن أكيمة لأنه لا يعرف بالنقل ولا
سيما إذا كان حديثه في حكم، على أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يقل في
حديث ابن أكيمة: «لا تقرؤوا بفاتحة الكتاب» إنما قال لهم: «مَالِي أُنَازَعُ
القرآنَ» فجائز أن يكون قرؤوا بعد الفاتحة فقال: «مَا لِي أُنَازَعُ القرآنَ فإنْ
كانَ لا بُدَّ فَبِفَاتِحَةِ الكتابِ» فدلَّ أنه حظر عليهم القراءة بعد الفاتحة إذ
كانت الصلاة لم يجهر فيها بالقراءة فهذا معنى الحديث لو ثبت.
وإن احتج بحديث رواه ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا قَرَأَ الإِمَامُ فَأَنْصِتُوْا».
(1/494)
قيل
له: هذا رواه عن ابن عجلان أبو خالد الأحمر وبه يعرف، ورواه الليث بن سعد عن ابن
عجلان عن زيد عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا،
وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» ولم يقل وإذا قرأ
فأنصتوا، وزاد أبو خالد: «وَإِذَا قرأَ فَأَنْصِتُوا» ولا تكون زيادة الزائد
محكومًا له بها حتى يشهد له أهل العلم بالنقل بالحفظ، وإذا شهدوا له بالحفظ كانت
زيادته مقبولة وإلا لم يلتفت إلى زيادته، ولم تكن زيادته حجة، وليس أبو خالد ممن
زيادته حجة لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا وأنه قد روى أحاديث عن
الأعمش وعن غيره لم يُتَابع عليها ولم يُلتفت إليه فيها فَيُجعلَ حجة فيما روى،
وقد يحتمل قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لو ثبت عنه
%ج 1 ص 272%
هذا أن يقول: أنصتوا بعد قراءة الفاتحة، إذ قال: «لا صَلَاةَ إلَّا بفاتحةِ
الكتابِ». فقد علمهم بذلك ثم قال فإذا قرأ فأنصتوا بعد فاتحة الكتاب إذ قراءتها
واجبة.
(1/495)
وقد
روى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما يعارض حديث زيد بن أسلم
وهو: ما حَدَّثَنا به عمرو بن علي، حَدَّثَنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن ميمون عن
أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة قال: «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مُنَادِيًا أَلَّا صَلَاةَ إِلَّا بِالفَاتِحَةِ». قال أبو بكر: فلو ثبت
حديث أبي صالح وابن أكيمة عن أبي هريرة كان هذا يعارضه، وهذا الإسناد إسناد
مستقيم، جعفر روى عنه جماعة وهو بصري مشهور فإن اعتلَّ بأن الذي أمر رجلًا أن يقرأ
ولم يتبين له ما يقرأ، قيل له: إذا بينه في موضع بألا صلاة إلا بفاتحة الكتاب كان
الواجب على الخلق مأمومًا كان أو إمامًا أن يقرأ بالفاتحة، فإن قال: قال الله عز
وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]
قيل له: الرسول صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان أعلم الخلق بالتنزيل والتأويل،
وقد قال جل وعز: {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] وقد أمرنا أن
نقرأ في الصلاة بالفاتحة، وقال: لا صلاة إلا بها. وقد اتفق الجميع أنه من قرأ خلف
الإمام بالفاتحة لا إعادة عليه، واختلفوا فيمن ترك القراءة بالفاتحة خلف الإمام:
فقالت طائفة عليه الإعادة، فالموضع الذي أجمع عليه الفريقان أن الصلاة به جائزة
أولى أن يعمل به مع ما قد تقدم من الرواية عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في
ذلك. انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ في مواضع:
الأول: تضعيفه حديث الأحمر: «وإذا قرأَ فَأَنْصِتُوا» وإن كان البخاري قد قال في
كتاب «القراءة»: ولا يعرف هذا من حديث الأحمر، قال أحمد: راويه كان يدلس، قال أحمد
ولم يُتَابَع أبو خالد في زيادته.
(1/496)
وقال
أبو داود: وهذه الزيادة ليست بمحفوظة الوهم عندنا من أبي خالد فغير جيد؛ لأن
الأثرم حكى عن أحمد بن حنبل تصحيحه، وفي «سؤالات أبي طالب» قلت لأبي عبد الله:
يقولون إن الأحمر أخطأ فيه، فقال: رواه البيهقي عن أبي غلاب عن حطان عن أبي موسى،
وسُئِلَ مسلم بن الحجاج عنه أهو صحيح؟.
قال: هو عندي صحيح، فقيل له: لِمَ لَمْ تضعه ههنا يعني في كتابه؟ فقال: ليس كل شيء
عندي صحيحٌ وضعته ههنا، إنما وضعت هنا ما أجمعوا عليه.
وقال ابن حزم: وهذا عندنا حديث صحيح. انتهى.
وقد وجدنا لأبي خالد متابعًا وهو ما رواه النسائي بسند صحيح عن محمد بن عبد الله بن
المبارك عن محمد بن سعيد عن ابن عجلان فذكره وقال في آخره: ولا نعلم أن أحدًا تابع
ابن عجلان على قوله: «فإذا قرأ فأنصتوا». وقال الدَّارَقُطْني: حَدَّثَنا محمد بن
جعفر، حَدَّثَنا أحمد بن حازم، حَدَّثَنا إسماعيل بن أبان الغنوي، حَدَّثَنا محمد
بن عجلان، عن زيد بن أسلم ومصعب بن شرحبيل
%ج 1 ص 273%
كلاهما عن أبي صالح به.
(1/497)
وقال
حَدَّثَنا عبد الملك بن أحمد، حَدَّثَنا محمود بن خداش، حَدَّثَنا أبو سَعْد محمد
بن مُبَشِّر الصَّغاني، حدَّثَنَا ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رفعه بهذه
الزيادة، قال: وحَدَّثَنَا محمد بن عثمان، حَدَّثَنا محمد بن يونس، حَدَّثَنا عمرو
بن عاصم، حَدَّثَنا معتمر سمعت أبي يحدث عن الأعمش عن أبي صالح بلفظ: «إذا قالَ
الإمامُ {ولا الضَّالِّين} فقولوا: آمين» وقد وجدنا أيضًا لهذا الحديث شاهدًا
صحيحًا خَرَّجه مسلم في «صحيحه» من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أبي غلاب عن
حطان عن أبي موسى: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا
قَرَأَ الإِمَامُ فَأَنْصِتُوْا» ولكن في آخره في نسخةِ سماعنا قال أبو إسحاق
إبراهيم بن سفيان: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث، أيْ طَعَنَ فيه،
فقال مسلم: أتريد أحفظ من سليمان؟ وقد سبق كلام أحمد بن حنبل في شدة هذا الحديث،
وقال الدَّارَقُطْني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان فيها عن قتادة وخالفه الحفاظ فلم
يذكروها، قال: وإجماعهم على مخالفته يدلُّ على وهمه ولعلَّه اشتبه عليه لكثرة من
خالفه من الثقات. انتهى.
في «مسند البزار» بسند صحيح على شرط مسلم عن محمد بن يحيى القطعي عن سالم بن نوح
العطار عن عمر بن عامر وابن أبي عروبة عن قتادة بهذه الزيادة، وقال الأثرم: قال لي
أبو عبد الله وقد زعموا أن المعتمر رواه، قلت: نعم قد رواه المعتمر، قال: فأيَّ
شيء تريد، انتهى.
(1/498)
حديث
المعتمر خرَّجه أبو عوانة في «صحيحه»: عن سليمان بن الأشعث السجزي، حَدَّثَنا عاصم
ابن النضر، حَدَّثَنا المعتمر، حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا قتادة به، قال:
وحَدَّثَنَا الصائغ بمكة، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا جرير عن سليمان به، وحدثنا
سهل بن محمد الجندنيسابوري، حدثنا عبد الله بن رُشَيْد، حَدَّثَنا أبو عبيدة عن
قتادة به، وذكر أبو مسعود الدمشقي في أجوبته للدارقطني أن سفيان بن سعيد رواه
أيضًا عن سليمان كما رواه جرير؛ فهذا كما ترى سلامة هذا الحديث من شائبة التفرد
الذي أشار إليه هؤلاء الحفاظ ونُبِّئنا عن مسلم في الجواب عنه إذا لم يُجِبْ عنه
ولم يجد البخاري ما يعتل به على سليمان إلا قوله لم يذكر سماعًا من قتادة ولا
قتادة من أبي غلاب، وهذا بناء منه على شرطه ولا ينقص شرطُ حافظٍ شرطَ حافظٍ غيره
وأما قول البيهقي وقد أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في الحديث وأنها ليست محفوظة
فقد نبهنا على خطئه قُبَيلُ والله الموفق.
الثاني: حديث ابن أُكَيْمَةَ المعيب عنده خرجه مالك في «الموطأ»: به وكفى بذلك
جلالةً وعرفانَ حالٍ إذ خرَّج مالك حديثه وصحح أبو عيسى حديث هذا وحسنه الطُّوسي،
وممن صححه أيضًا أبو علي صالح بن محمد الإشبيلي وابن القطان وابن المواق يسلونهم.
الثالث: قوله: لا نعلم ابن أكيمة حدث عنه غير الزهري مردود بما ذكره ابن حبان
%ج 1 ص 274%
في «كتاب الثقات» روى عنه الزهري وسعيد بن أبي هلال وابن أبيه عمرو بن مسلم وسماه
عمارة وهذا المرجح عند الذهلي وابن سعد والبخاري وابن أبي حاتم في آخرين بل
المجزوم به عندهم.
(1/499)
وقال
أبو حاتم الرازي: صحيح الحديث وحديثه مقبول، وقال ابن سعد توفي سنة إحدى ومئة وله
تسع وسبعون سنة، وقال البرقي في كتاب «الطبقات»: باب من لم تشتهر عنه الرواية من
أهل المدينة، واحْتُمِلَت روايته لرواية الثقات عنه، ولم يغمز ابن أكيمة الليثي،
قال يحيى بن معين: كفاك قول الزهري سمعت ابن أكيمة يحدث ابن المسيب، وقد روى عنه
غير الزهري محمد بن عمرو وغيره.
قال البرقي: روى عنه الزهري حديثين أحدهما مشهور في «القراءة خلف الإمام» والآخر
في «المغازي».
وقال ابن عبد البر: كان ابن أُكَيْمَةَ يحدث في مجلس سعيد فَيُصْغِي إلى حديثه
وحسبك بهذا فخرًا وثناءً، وسماه يحيى بن معين عمرًا فيما حكاه قال: وهو ثقة، وقال
يعقوب بن سفيان البغوي في «تاريخه»: هو من مشاهير التابعين بالمدينة، وفي كتاب أبي
إسحاق الصُّرَيْفِيْنِيِّ: روى عن حكيم بن حزام وروى عنه أبو الحويرث أيضًا وذكره
مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة وكذا خليفة بن خياط زاد وهو رجل من بَلْحارث
وسماه أبو الفضل المقدسي في كتابه «إيضاح الإشكال»: عبد الله بن سُلَيْم بن أكيمة.
الرابع: لِوجْدَانِنَا لحديثه متابعًا بسند قال الحاكم هو مستقيم من حديث محمد بن
عبد الله بن عمير بن عبيد بن عمير الليثي عن عطاء عن أبي هريرة يرفعه: «مَنْ
صَلَّى صَلَاةً مَكْتُوبَةً مَعَ الْإِمَامِ فَلْيَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
فِي سَكَتَاتِهِ وَمَنِ انْتَهَى إِلَى أُمِّ الْقُرْآنِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ». وآخر
عند الدَّارَقُطْني بسند فيه ضعف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه يرفعه:
«هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِيَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَقَالَ
إِنِّي: أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ فِي الْقُرْآنِ؟ إِذَا أَسْرَرْتُ بِقِرَاءَتِي
فَاقْرَؤوا وَإِذَا جَهَرْتُ بِقِرَاءَتِي فَلَا يَقْرَأَنَّ أَحَدٌ مَعِيَ».
(1/500)
ومن
حديث زيد بن أسلم عن أبيه عنه نزلت هذه الآية {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] في رفع الأصوات وهم خلف النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الصلاة.
الخامس: قوله ليس في حديث عمران نهيٌ عن القراءة لِوجْدَانِنَا عند الحاكم من حديث
حجاج بن أرطأة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين: «كانَ النبيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي بالناسِ، ورجلٌ يقرأُ خلفَهُ، فَلَمَّا فرغَ قالَ:
منِ الذي يُخَالِجُنِي سورتي؟ فَنَهَاهُمْ عنِ القراءةِ خلفَ الإمامِ».
السادس: قوله في حديث جابر بن عبد الله رواه الجعفي وكان يؤمن بالرجعة، وعلى تقدير
أن لو كان ثقة كان خبرًا ضعيفًا؛ لأن البخاري رماه بانقطاع ما بينه وبين أبي
الزبير راويه عن
%ج 1 ص 275%
جابر.
السابع: وُجْدَاننا لحديث جابر بن عبد الله هذا طريقًا حسنةً على رأي جماعة من
الأئمة من حديث ليث بن أبي سُلَيْم وجابر عن أبي الزبير عن جابر فذكراه مرفوعًا
وله أيضًا شاهد رواه مالك في «الموطأ»: عن وهب بن كيسان سمعت جابر بن عبد الله
يقول: «مَنْ صَلَّى رَكْعَةً فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَلَمْ
يُصَلِّ، إِلَّا وَرَاءَ إِمَامِ» ورواه ابن أبي شيبة بسند صحيح أيضًا عنه
مرفوعًا، وعند الدَّارَقُطْني من حديث إسحاق بن موسى الأنصاري، حَدَّثَنا عاصم عن
وهب عن ابن عباس يرفعه: «يَكْفِيْكَ قِرَاءَةُ الإِمَامِ خَافَتَ أَوْ قَرَأَ» قال
أبو الحسن: رَفْعُه وهمٌ، وعن أبي هريرة يرفعه: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ
فَقِرَاءَتُهُ لَهُ قِرَاءَةٌ». رواه أيضًا من طريق ضعيفة.
(2/1)
وفي
«الموطأ»: مالك عن نافع: «أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ هَلْ يَقْرَأُ
أَحَدٌ خَلْفَ الإِمَامِ قَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدَكُمْ خَلْفَ الإِمَامِ
فَحَسْبُهُ قِرَاءَةُ الإِمَامِ، قَالَ نافعٌ: وكَانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يَقْرَأُ».
ولما رواه الدَّارَقُطْني مرفوعًا قال: رَفْعُهُ وهمٌ.
وفي «المصنف»: حدَّثَنَا ابن علية، حَدَّثَنا أيوب عن أبي العالية البراء قُلْتُ
لِابنِ عُمَرَ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةٌ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ
رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ أَنْ لَا أَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ
الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ.
وعن الشعبي قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ قِرَاءَةَ خَلْفَ الإِمَامِ»
رواه الدَّارَقُطْني أيضًا من حديث علي بن عاصم عن محمد بن سالم عنه، وعن الحارث
عن علي قال رجل للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أقْرَأُ خَلْفَ الإِمَامِ إِذَا
نَصَتَ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْصِتْ فَإِنَّهُ يَكْفِيْكَ». قال الدَّارَقُطْني: تفرد
به غسان بن الربيع وهو ضعيف، ورواه أيضًا موقوفًا على علي «مَنْ قَرَأَ خَلْفَ
الإِمَامِ فَقَدْ أَخْطَأَ الفِطْرَةَ» وقال: لا يصح إسناده.
وعند ابن حزم: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيٍّ إِنِّي صَلَّيْتُ وَلَمْ أَقْرَأْ، قَالَ:
أَقَمْتَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: قَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ،
مَا كُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ يَقْرَأْ.
وعند البخاري بسندٍ لا بأس به من حديث أبي جناب يحيى بن أبي حية عن محمد بن فضيل
عن إبراهيم بن أبي وائل أَنَّ ابنَ مَسْعُوْدٍ قَالَ: «وَوَدِتُ أَنَّ الَّذِي
يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ نَتَنًا».
(2/2)
وقال:
هذا مرسل لا يحتج به وخالفه ابن عون عن إبراهيم عن الأسود وقال: رضْفًا، وعند
البيهقي وابن أبي شيبة بسند صحيح: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابنَ مَسْعُوْدٍ عَنِ
القِرَاءَةِ خَلْفَ الإِمَامِ فَقَالَ: أَنْصِتْ للقُرْآنِ فَإِنَّ فِي الصَّلاَةِ
شُغْلًا وَسَيَكْفِيْكَ ذَاكَ الإِمَامُ.
وعند البخاري من حديث ابن بجاد رجلٌ منْ ولدِ سعدٍ، وقال: لا يُعْرَف ولا سُمِّيَ
عن سعد أنه قال: «وددتُ أنَّ الذي يقرأُ خلفَ الإمام في فِيْهِ جمرٌ». انتهى.
ابن بجاد هذا سَمَّاه ابن ماكولا محمد بن بجاد بن موسى
%ج 1 ص 276%
بن سعد بن أبي وقاص وكذا سماه ابن حبان لما ذكره في «الثقات» من أتباع التابعين.
وعند مسلم سأل عطاءٌ زيدَ بنَ ثابت عن القراءة مع الإمام فقال: لا قراءة مع الإمام
في شيء، ولفظه في كتاب «القراءة» للبخاري وضَعَّفَه من قرأ خلف الإمام فلا صلاة
له.
وعند ابن أبي شيبة، حَدَّثَنا وكيع عن الضحاك بن عثمان عن عبد الله بن يزيد بن
ثوبان عن زيد بن ثابت قال: «لَا يقرأ خلفَ الإمامِ لا إنْ جهرَ ولا إنْ خافتَ».
وحَدَّثَنَا وكيع عن عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد قال: «مَنْ قرأَ خلفَ
الإمامِ فقالَ: يكفيكَ ذاكَ الإمام». وروى ذلك عن سعيد بن جبير وإبراهيم والأسود
وسويد بن غفلة والضحاك وعمرو بن ميمون ومحمد بن سيرين وأبي وائل وسعيد بن المسيب
بأسانيد أكثرها صحيحة وبعضها لا بأس به.
وقال الحازميُّ: زعم بعضهم أن حديث القراءة منسوخ بما رواه أبو العالية قال: كان
نبي الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا قرأَ قرأ أصحابه أجمعون خلفه حتى أنزلت
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فسكت
القوم وقرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقرئ خلفه فنزلت.
قال الحازميُّ: فعلى هذا يكون الحديث منسوخًا بالكتاب العزيز لا بالحديث كما زعم
بعض أهل العلم إذ ذهب إلى إيجاب قراءة الفاتحة في الأحوال كلها.
(2/3)
وقال
البيهقيُّ: سئل أبو موسى الرازي وكان أحفظ أصحاب الرأي على أديم الأرض في وقته عن
قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ
الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ». فقال: لم يصح فيه عندنا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ شيء إنما اعتمد فيه مشايخنا على الروايات عن علي وابن مسعود والصحابة.
قال البيهقيُّ: وقد روينا عن علي من طريق صحيحة أنه من أمر بالقراءة خلف الإمام،
وروينا ذلك عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن مغفل وأنس وعمران بن حصين وعائشة وعبد
الله بن عمر وهشام وابن عمر في رواية وعروة وسعيد بن جبير ومكحول، وقال البخاريُّ:
وكان ابن المسيب وعروة والشعبي وعبيد الله بن عبد الله ونافع بن جبير وأبو مجلز
ومالك ومكحول وابن عون وابن أبي عروبة يرون القراءة.
وقال حذيفة: يقرأ، وقال ابن علية وليث عن مجاهد: إذا نسي الفاتحة فلا يعتد بتلك
الركعة، وقال أبو قتادة: يقرأ في الأربع كلها، فإن احتج بحديث عمر أنه نسي القراءة
في ركعة فقرأ في الثانية الفاتحة مرتين قيل له حديث النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَفْسَر حين قال: «اقرأ ثم اركع» فجعل القراءة قبل الركوع فليس لأحد أن
يجعل القراءة بعده. قال أبو عمر: وقال بعض الكوفيين قول النبي
%ج 1 ص 277%
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ صَلاَة َلِمَن لَمْ يَقْرَأْ» خاصٌّ أريد به من
صلَّى وحده أو كان إمامًا وكذلك فسره ابن عيينة، وأما من صلى وراء إمام فإن قراءته
له قراءة محتجين بأن جمهور العلماء أجمعوا على أن الإمام إذا لم يقرأ وقرأ مَن
خلفَه لم تنفعهم قراءتهم، فدلَّ أن قراءة الإمام هي التي تُرَاعَى وأنها كما جاء
في الحديث قراءة لمن خلفه.
(2/4)
وقوله:
(لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكتابِ) قال العلامة القشيري في
الحديث دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة وهو ظاهرٌ إلا أن بعض علماء الأصول
اعتقد في مثل هذا اللفظ الإجمال من حيث إنه يدلُّ على نفي الحقيقة وهي غير منتفية
فيحتاج إلى الإضمار ولا سبيل إلى إضمار، كلٌّ محتملٌ لوجهين: أحدهما أن الإضمار
إنما احتيج إليه للضرورة، والضرورة تندفع بإضمار فرد فلا حاجة إلى إضمار أكثر منه.
وثانيها أن إضمار الصحة ونفي الصحة مُعَارَضَةٌ، وإذا تعين إضمار فرد فليس البعض
أولى من البعض فيتعين الإجمال.
قال أبو الفتح: لا نسلم أن الحقيقة غير منتفية، لو حُمِلَ لفظ الصلاة على غير عرف
الشرع وكذلك لفظ الصيام وغيره، أما إذا حُمِلَ على الشرع فيكون منتفيًا حقيقة ولا
يحتاج إلى الإضمار المؤدي إلى الإجماع، ولكن ألفاظ الشارع محمولة على عُرْفِهِ
لأنه الغالب ولأنه المحتاج إليه فيه، وقال بعض الحنفية: أراد نفي الكلام بدليل
قوله: (وَمَا انْتَقَصْتَ منْ هَذَا فَإِنَّمَا انْتْقَصْتَ منْ صَلَاتِكَ)
وبقوله: (فَهِيَ خِدَاجٌ) يعني: ناقصة، ولأن الماهية لا توجد إلا بجميع أركانها،
فلا يوصف حينئذ بالنقص، لأنها عدم وإنما توصف بالنقص لوجود أركان الصلاة أجمع
وفوات بعض الواجبات الخارج عن الأركان والله تعالى أعلم.
(بَابُ القِرَاءَةِ بعدَ الظُّهْرِ)
تقدم حديث سعد وخباب.
(2/5)
759 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، وَسُورَتَيْنِ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ وَيُسْمِعُ الآيَةَ أَحْيَانًا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي العَصْرِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ». [خ 759] وفي لفظ: «كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا».وفي لفظ: «وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى مَا لاَ يُطِيْلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَهَكَذَا فِي العَصْرِ وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ» رواه حَجَّاجُ الصَّوَّاف عن يحيى بن%ج 1 ص 278%أبي سلمة عن أبي قتادة رضي الله عنه، رواه مسلم عن ابن مثنى عن ابن أبي عدي عن حجاج به، وعند الإسماعيلي من رواية عَنْبَسَةَ بن عبد الواحد عن حجاج عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة كرواية الجماعة، وفي كتاب أبي داود: «فَظَنَنَّا أَنَّه يريدُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بذلكَ أنْ يدركَ الناسُ الرَّكْعَةَ الأولى».
(2/6)
وقال البزار في «سننه»: وهذا اللفظ لا نعلمه رواه إلا أبو قتادة، وقال ابن خزيمة في «صحيحه»: قد كنت أحسب زمانًا أن هذا الحديث في ذكر قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر لم يروها غير أبان وهمام بن يحيى على ما كنت أسمع أصحابنا من أهل الآثار يقولونه، فإذا الأوزاعي مع جلالته قد ذكر في خبره هذه الزيادة عن يحيى يَسْتَدِلُّ بهذا من يقول إن قراءة سورةٍ بكاملِها أفضلُ من قراءةِ قدرِها من سورةٍ طويلةٍ، لأن المستحب للقارئ أنْ يبتدئَ من أول الكلام المرتبط ويقفَ عند انتهائه، وقد يخفى الارتباط على كثير من الناس فَنُدِبَ إلى إكمال السورة ليحترز من ذلك. وفي «شرح الهداية»: إن قرأ بعض سورة في ركعة وبعضها في الثانية الصحيح أنه لا يكره ولا ينبغي أن يقرأ في الركعتين من وسط السورة ومن آخرها ولو فعل لا بأس به. وعند النسائي: «قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من سُوْرَةِ الْمُؤْمِنِ, إلى ذِكْرِ هَارُونَ ثُمَّ أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ». وقال في «المغني»: لا تكره قراءة آخر السور وأوساطها في إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الثانية تكره. وعند ابن ماجه بسند لا بأس به عن البراء بن عازب: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّيْ بِنَا الظُّهْرَ، فَنَسْمَعُ مِنْهُ الْآيَةَ بَعْدَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ، وَالذَّارِيَاتِ». وقال البزار في «السنن»: هذا الحديث لا نعلم رواه إلا البراء ولَا حَدَّثَ به عن إسحاق عنه إلا هاشم بن البريد. وفي «الأوسط»: من حديث عثمان بن الضحاك عن أبيه عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله قال: «سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ فِيِ الصَّلَاةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» وقال: لا يُرْوى عن جابر إلا بهذا الإسناد تفرد به ابن مقسم.
(2/7)
وفي
باب القراءة في العصر تقدم حديثاه، ومحمد بن يوسف وحديث خباب هو الفريابي قاله أبو
نعيم وغيره.
(بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْمَغْرِبِ)
763 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابنِ
شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أُمَّ
الفَضْلِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالمُرْسَلاَتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1]
فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ
السُّورَةَ، إِنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ%ج 1 ص 279%يَقْرَأُ بِهَا فِي المَغْرِبِ. [خ 763] هذا الحديث خرجه الستة
في كتبهم وفي لفظ: «ثُمَّ مَا صَلَّى لنَا بعدها حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ».وفي
الترمذي: «خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ
عَاصِبٌ رَأْسَهُ فِي مَرَضِهِ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ: بِالمُرْسَلاَتِ، فَمَا
صَلاَّهَا بَعْدُ حَتَّى لَقِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ».وفي النسائي: «صَلَّى بِنَا
فِي بَيْتِهِ الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ الْمُرْسَلَاتِ مَا صَلَّى بَعْدَهَا صَلَاةً
حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ».
(2/8)
764 - حدَّثَنَا أبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ، قَالَ: قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: «مَالَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ؟ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ». [خ 764] وعند النسائي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عن ابْن وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْن الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْن ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ بن الحَكَمِ: أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ أَتَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، وَ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، وفيه: بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ {المص} [الأعراف: 1]».وخرَّجه ابن حبان في «صحيحه» بلفظ: «قَالَ زَيْد: فَحَلَفْتُ لَهُ بِاللهِ لقَدَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وسُئِلَ ابنُ أبي مُلَيْكَةَ ما طُوْلَى الطولَيَيْنِ فقالَ منْ قِبَلِ نفسهِ: المائدة والأعراف».ولما رواه البيهقي من حديث مُحَاضِر بْن الْمُوَرِّعِ عن هشام عن أبيه عن زيد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بهذا المعنى قال: والصحيح هي الرواية الأولى، وقيل لابن أبي مليكة: ما طولى الطوليين؟ قال الأنعام والأعراف. وفي «العلل الكبير» للترمذي سألت محمدًا عن حديث محمد بن عبد الرحمن الطُّفَاوي عن هشام عن أبيه عن أبي أيوب وزيد بن ثابت قالا: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقرأُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ منَ المغربِ بالأعرافِ» فقال: الصحيح عن هشام عن أبيه عن أبي أيوب وزيد، هشام يشك في هذا الحديث، قال أبو عيسى: وصحح هذا الحديث عن زيد بن ثابت رواه ابن أبي مليكة عن عروة عن مروان عن زيد.
(2/9)
وفي «الأطراف» لابن عساكر: «قيل لعروة ما طولى الطوليين، قال: الأعراف ويونس». وفي كتاب النسائي بسند ظاهره الصحة عن عمرو بن عثمان حَدَّثَنا بقية وأبو حيوة عن ابن أبي حمزة حَدَّثَنا هشام عن أبيه عن عائشة: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قرأَ في صلاةِ المغربِ بسورةِ الأعرافِ فَرَّقَهَا في ركعتينِ» لولا ما ذكره عبد الرحمن في «العلل» قال أبي: هذا خطأ إنما هو هشام عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مرسل. انتهى. لقائل أن يقول: شعيب بن أبي حمزة والدراوردي تواردا على رفعه، الأول عند النسائي، والثاني عند ابن أبي حاتم، وهما ثقتان فالزيادة منهما مقبولة%ج 1 ص 280%والله تعالى أعلم. وعن ابن عمر عند ابن ماجه بسند صحيح: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}».وعند الطبراني أيضًا بسند صحيح: «أَمَّهُمْ فِي المَغْرِبِ بِـ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [النحل: 88]» وخرجه أيضًا ابن حبان في «صحيحه» بمعناه. وعند ابن بطال عن الشعبي عنه: «قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي المَغْرِبِ بِـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}».
(2/10)
وعن جابر بن سمرة قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقرأ فِي صَلاَةِ المَغْرِبِ ليلة الجمعة {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}» رواه أبو بكر أحمد بن موسى بن مَرْدَوَيْه في كتابه «أولاد المحدثين» بسند حسن لا بأس به من حديث سعيد بن سماك بن حرب عن أبيه، ولما ذكر ابن حبان سعيدًا هذا في كتاب «الثقات» قال: روى عن أبيه أنه قال لا أعلمه إلا عن جابر بن سمرة: «كانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقرأُ في صلاةِ العشاءِ الآخرةِ ليلةَ الجمعةِ سورةَ الجمعةِ والمنافقين» حَدَّثَنا به جماعة من شيوخنا عن أبي قلابة، حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا سعيد، قال: والمحفوظ عن سماك: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال:» فذكره. انتهى. وفيه نظرٌ لما ذكره من «صحيحه»: أخبرنا يعقوب، حَدَّثَنا أبو قلابة، حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا سعيد، حدثني أبي قال لا أعلمه إلا عن جابر «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقرأ فِي صَلاَةِ المَغْرِبِ ليلة الجمعة بـ {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، وَيَقْرَأُ فِي العِشَاءِ الآخِرَةِ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ بالجُمُعَةِ والمُنَافِقين».وفي «اختصار التمهيد» لأبي عبد الله مالك بن يحيى بن أحمد الإشبيلي رُوِي عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «أَنَّهُ قَرَأَ فِي المَغْرِبِ بالصَّافَّاتِ وبالمعَوِّذَتَيْنِ». وعن معاوية بن عبد الله: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَرَأَ فِي المَغْرِبِ حم الدُّخَان» ذكره أبو موسى المديني في كتاب «المستفاد بالنظر والكتابة» بسند صحيح. ورواه النسائي في «سننه» من حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر أن عبد الله بن عتبة بن مسعود حدثه الحديثَ. وكان هذا أشبه من الذي عند المديني فينظر.
(2/11)
وعن بريدة: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الَمْغَرِبِ وَالعِشَاءِ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و {وَالضُّحَى} وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ}» رواه البزار في «المسند» بسند صحيح. وعند الترمذي: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي العِشَاءِ الآخِرَةِ بـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وَنَحْوهَا مِنَ السُّوَرِ». وقال: حديث بريدة حسن. وعن البراء قال: «صَلَّيْتُ معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقرأ بالتين والزيتون» رواه السَّرَّاجُ بسند صحيح، ومن خط ابن النجار الحافظ وتصحيحه. وعن عبد الله بن عمرو قال: «مَا مِن الْمُفَصَّلِ سُورَةٌ صَغِيرَةٌ وَلَا كَبِيرَةٌ، إلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَؤُمُّ النَّاسَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ%ج 1 ص 281%الْمَكْتُوبَةِ». رواه أبو داود، وقال الخزرجي في «تقريب المدارك»: هذا حديث مسند صحيح، وعند أبي داود: أنَّ عروةَ بنَ الزبيرِ كانَ يقرأُ في صلاةِ المغربِ بنحو مما تقرؤونَ العادياتِ ونحوها منَ السُّوَرِ. قال أبو داود: هذا يدل على أن ذلك منسوخ. وعنده أيضًا أن ابن مسعود: قرأ في صلاة المغرب {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}.وتقدم حديث معاذ في صلاة المغرب وقراءته بالبقرة. وعن أبي هريرة عند النسائي قال: «مَا رأيتُ أحدًا أَشْبَهَ صلاةً بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منْ فلانٍ، فذكرَ أنَّهُ كانَ يقرأُ في الأوليينِ منْ صلاةِ المغربِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّل.
(2/12)
وفي
«الموطأ» عن الصُّنَابِحِيِّ قال: صليتُ وراءَ أَبِي بكرِ الصديق رضي الله عنه
فقرأَ في الركعتين الأوليين من المغرب بأم القرآن وسورةً سورةً من قصارِ
الْمُفَصَّل، ثُمَّ قامَ في الركعةِ الثَّالِثَةِ فسمعتُهُ قرأَ بأمِّ القرآنِ
وهذه الآية {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8].قال ابن الحَمَّارِ: هذا
المقروء في الثالثة كان فتونًا، وعند ابن شاهين: كتبَ عمرُ إِلَى أَبِي مُوْسَى
الأَشْعَرِيِّ أنِ أقرأْ في الصبحِ بطوال الْمُفَصَّلِ، وفي الظهرِ بأَوْسَاطِهِ،
وفي المغربِ بقصارهِ. وبنحوه ذكره ابن أبي شيبة في «مصنفه». (بَابُ الجَهْرِ فِي
المَغْرِبِ)
765 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابنِ
شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «قَرَأَ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ». [خ 765]
وفي باب شهود الملائكة بدرًا قال: وذاكَ أول ما وقر الإيمان في قلبي.
وعند ابن ماجه: «فَلَمَّا سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] إِلَى قَوْلِهِ: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور: 38] كَادَ قَلْبِي يَطِيرُ». وعند البزار: «قَدِمْتُ
عَلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ،
فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ بِالطُّورِ
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ» وقال: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَّا جُبَيْرُ، وَلَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى
عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ وَجْه أَنَّهُ قَرَأَ فِي
الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، انتهى كلامه.
(2/13)
وفيه
نظر لما ذكره أبو موسى المديني في كتابه «معرفة الصحابة» من حديث
الْمُسْتَغْفِريِّ عن الخليل بن أحمد أخبرنا ابنُ زَيْرَك، حَدَّثَنا يحيى بن
يونس، حَدَّثَنا الحسن أبو علي البصري، حَدَّثَنا الفضل بن موسى، حدَّثَنَا ابن
أخي سعد بن إبراهيم عن الزهري قال: سمعت الأعرج قال: سمعت عبيد الله بن الحارث بن
نوفل يقول: «آخِرُ صَلاَةٍ صَلَّيْتُهَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ المغْرِبَ فَقَرَأَ فِي الأُوْلَى {بِالطُّوْرِ}، وفي الثانية بِ {قُلْ
يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ}». وقال الطحاوي: يجوز أن يريد بقوله قرأ بالطور قرأ
ببعضها وذلك جائز في اللغة يقال:
%ج 1 ص 282%
فلان يقرأ القرآن إذا قرأ بعضه، والدليل على صحة ذلك: ما روى هُشَيْمٌ عن الزهري
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْتُ علىَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِأُكَلِّمَهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَأَتَيْتُ
إِلِيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ الْمَغْرِبِ، فَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 8]،
فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي.
قال أبو جعفر: فَبَيَّنَ هشيمٌ القصة على وجهها وأخبر أن الذي سمعه {إِنَّ عَذَابَ
رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 8]، لا أنه سمع الطور كلها. انتهى كلامه.
وفيه نظر في مواضع:
الأول: لما سقنا من «كتاب ابن ماجه» ولما رويناه في «مسند السراج» بسند صحيح:
«سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي الَمْغِربِ بِ {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي
رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3]».
الثاني: قوله رواه هشيم عن الزهري خالفه أبو القاسم الطبراني فيما رويناه عنه في
«معجمه الصغير»: وإنما رواه عن إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده،
وقال: لم يروه عن إبراهيم إلا هشيم تفرد به عروة عن سعيد الربعي وهو ثقة.
(2/14)
الثالث:
قوله: (قال: جُبَيْرٌ فأتيتُ إليهِ وهو يصلِّي) نظرٌ لما ذكره محمد بن سعد من حديث
نافع ابنه عنه قال: «قَدِمْتُ فِي فِدَى أَسْرَى بَدْرٍ فَاضْطَجَعْتُ فِي
الَمسْجِدِ بَعْدَ العَصْرِ وَقَدْ أَصَابَنِيَ الكرَى فَنِمْتُ فَأُقِيْمَتِ
صَلاَةُ المغْرِبِ فَقُمْتُ فَزِعًا بِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فِي الَمْغِربِ ِ {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 3]
فَاسْتَمَعْتُ قِرَاءَتَهُ حَتَّى خَرَجْتُ مِنَ المَسْجِدِ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ
أَوَّلُ مَا دَخَلَ الإِسْلاَمُ قَلْبِيْ».
وفي «الاستيعاب»: روى جماعة من أصحاب ابن شهاب عنه عن محمد بن جبير عن أبيه:
«المغرب أو العشاء». وزعم الدَّارَقُطْني أن رواية من روى عن ابن شهاب عن نافع بن
جبير وَهِمَ في ذكره نافعًا.
قال الطحاويُّ: وكذلك قول زيد لمروان لقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يقرأ فيها بطولى الطوليين، يجوز أن يكون قرأ ببعضها، والدليل على ذلك: ما
روى جابر: «أَنَّهُمْ كانُوا يُصَلُّونَ المغربَ ثمَّ يَنْتَضِلُونَ». وعن أنس:
«كنَّا نُصَلِّي المغربَ معَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثمَّ يَرْمِي
أَحَدُنَا مواقعَ نَبْلِهِ». فلما كانَ هذا وقت انصرافِ رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ منَ صلاةِ المغربِ اسْتَحَالَ أنْ يكونَ ذلك، وقد قرأ فيها
بالأعراف أو نصفها، وقد أنكر على معاذ حين صلَّى العشاء بالبقرة مع سعة وقتها،
فالمغرب أحرى بذلك، فلو حملنا حديث جبير وزيد على ما حمله المخالف لتضادَّتِ الأخبارُ،
وإن حملنا على ما ذكرنا ائتلفت وهو أولى من حملها على التضاد، فينبغي على هذا أن
يقرأ في المغرب بقصار المفصل وهو قول أصحابنا ومالك والشافعي وجمهور العلماء.
انتهى.
لقائل أن يقول قراءة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 283%
(2/15)
ليست
كقراءة غيره، ألا تسمع قول الصحابي: ما صليتُ خلفَ أحدٍ أخفَّ صلاةً من النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وكان يقرأ بالستين إلى المئة, وقد قال صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «إنَّ داودَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان يَأْمُرُ
بِدَوَابِّهِ أنْ تُسْرَجَ فيقرأُ الزبورَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ». فإذا كان داود
بهذه المثابة فسيدنا محمد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أحرى بذلك وأولى، وأما
إنكاره على معاذ فظاهرٌ، لأنه غيره، وقد بَيَّنَّا في غير ما طريق صحيحة أن الصلاة
كانت المغرب فليس لقول أبي جعفر معنى.
فإن قلت إنه في مقام التشريع قلنا: فيحمله على أنه كان يعلم من حال الجماعة في وقت
دون وقت أنهم يؤثرون التطويل، فكان يطول تارة ويخفف أخرى لأمر يَطْرَأ كما سبق
والله أعلم.
وأما قول من قال لعل السورة لم يكمل إنزالها فقراءته إنما كانت لبعضها فهو نافع في
المناظرة لا النظر ولو قيل: هاتوا حققوا لم يحققوا، لأن جماعة من المفسرين نقلوا
الإجماع على نزول الأنعام والأعراف بمكة شرفها الله تعالى ومنهم من استثنى في
الأنعام ست آيات نَزَلْنَ بالمدينة وطولى الطوليين هي الأعراف، لأنها أطول من
أختها الأنعام فلا يتجه ما قاله بوجه من الوجوه.
(2/16)
وأما
طولى الطوليين، فقال ابن الجوزي: بعض أصحاب الحديث يرويه بطولِ الطوليين وهو غلطٌ
إنما هو بطولى على وزن فعلى، وهو تأنيث الأطول، والمعنى بأطول السورتين، قال: وقد
روي هذا من طريق آخر عن زيد مفسرًا: «رأيتُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقرأُ
بأطولِ الطوليينِ» وحكى الخطابي أن بعض المحدثين يقول بطِوَلِ الطوليين بكسر الطاء
وفتح الواو، وقال أبو سليمان: الطِّوَل الحبل وليس هذا موضعَه، وقال ابن قُرْقُول:
فسرها ابن أبي مليكة بالأعراف والمائدة كذا قَالَ السَّفَاقُسيُّ وغيره، فإن قيل:
أراد البقرة، لأنها أطول السبع الطُّوَل، قيل: لو أراد ذلك لقال بطولى الطُّوَل
فلما لم يقلها دلَّ على أنه أراد الأعراف وهي من أطول السور ويعضده أنها جاءت
مذكورة في غير ما طريق.
وأما الْمُفَصَّل فزعم القرطبي أنه قيل له ذلك لكثرة الفصل بين السورتين بالبسملة،
وقيل: لكثرة الفصول فيه وقيل: لقلة المنسوخ، والسخاوي يقول في «جمال القراء»: لأنه
لم ينسخ منه شيء ولذلك سمي المحكم.
واختلفوا في أوله فقيل من سورة القتال.
وفي «شرح الهداية»: من الحجرات وهو السبع الآخر، فطواله من الحجرات إلى البروج،
وأوساطه إلى {لَمْ يَكُن} وقصاره من ثَمَّ إلى الناس، وقيل: أوله من قاف، وقال
الخطابيُّ: رُوِيَ هذا في خبر مرفوع، وحكى عياض أنه من الجاثية
%ج 1 ص 284%
وعن ابن عباس من سورة الضحى والمرسلات.
(2/17)
قال
الفَرَّاءُ: هي الملائكة تُرْسَلُ بالعرف، وفي تفسير ابن عباس يعني الرسل من
الملائكة ومن الإنس أرسلوا بكل معروف وخير وبركة، وفي تفسير عبد بن حميد الكَسِّي
عن ابن مسعود وقتادة هي الريح وحكاه الطبري أيضًا عن ابن عباس وأبي صالح ومجاهد،
وقال أبو عبد الله القرطبي عن ابن مسعود: نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ليلة الجن ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار بمنى، وفي «إعراب القرآن
العظيم» للزَّجَّاجِ: هي الرياح أرسلت كعرف الفرس، وعن ابن عباس: الطور الجبل الذي
كلم الله جل وعز عليه موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لغة سريانية.
وفي «الْمُحْكَمِ»: الطور الجبل وقد غلب طور سيناء جبل بالشام وهو بالسريانية
طوري، والنسب إليه طُوري وطوراني، وفي «الجامع» الطور الجبل معروف لجبل بعينه وقيل
كل جبل طور، وزعم أبو عبيد البكري أنه جبل ببيت المقدس ممتدٌّ ما بين مصر وأَيْلة،
سمي بطور ابن إسماعيل بن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو طور سَيناء وطور
سينين، وفي «المتفق وضعًا والمختلف ضعفًا» اختلفوا فيه: فقال قوم هو جبل بقرب
أيلة، وقيل: هو جبل بالشام، وأما طور زيتا بالقصر فجبل بقرب رأس عين، وبالبيت
المقدس أيضًا جبل يعرف بطور زيتا وهو الذي جاء فيه الحديث: «ماتَ بطورِ زَيْتَا
سبعونَ ألفَ نبيٍّ قتلهمُ الجوعُ» وهو شرقي وادي سلوان، وعلى مدينة طبرية جبل يقال
له الطور مطلٌّ عليها، وبأرض مصر جبل يقال له الطور بين مصر وفاران يشتمل على عدة
قرى، وطور عبدان اسم بُلَيْدَةٍ بنواحي نصيبين، وفي قبلي البيت المقدس جبل عالي
يقال له الطور، به فيما يقال قبر هارون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(بَابُ الجَهْرِ بالعِشَاءِ)
(2/18)
766
- حدَّثَنَا أبو النُّعْمَانِ، حدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرٍ،
عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ العَتَمَةَ،
فَقَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، فَسَجَدَ، فَقُلْتُ لَهُ، قَالَ:
«سَجَدْتُ خَلْفَ أَبِي القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَلاَ أَزَالُ
أَسْجُدُ بِهَا حَتَّى أَلْقَاهُ». [خ 766]
قَالَ السَّفَاقُسيُّ اختلف في مواضع السجدة فقيل: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] وقيل آخر السورة، واعترض بعض شراح
البخاري على البخاري بأن هذا الحديث ليس مرفوعًا ولا فيه أنه جهر بها في العتمة.
انتهى.
أما إنكاره فَمُسَلَّمٌ، وأما الرفع والجهر فظاهران، لأنه قال سجدت خلف أبي
القاسم، فلا أزال أسجد بها فقوله: (بها) تعيين لها، وأنه سجد فيها خلفه صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولو لم يجهر بها لم تتعين بغيرها.
767 - حدَّثَنَا أبو الوَلِيدِ، حدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، سَمِعْتُ
البَرَاءَ:
%ج 1 ص 285%
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَقَرَأَ فِي
الْعِشَاءِ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِـ {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فَمَا
سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ». [خ 767]
في النسائي: «قرأَ بِهَا في الرَّكْعَةِ الأولى». ذكر السَّفَاقُسيُّ وغيره أن هذه
الأحاديث تدل على أنه لا توقيت في القراءة بل بحسب الحال، وعن مالك يقرأ فيها
بالحاقة ونحوها، وقال أشهب: بوسط المفصَّل، وقرأ فيها عثمان بالفجر وابن عمر
بالذين كفروا وأبو هريرة بالعاديات.
(2/19)
وفي
«شرح الهداية»: يقرأ في الفجر أربعين آية سوى الفاتحة، وفي رواية خمسين آية وفي
أخرى ستين إلى مئة. قال المشايخ: وهي أَبْيَنُ الروايات، قالوا: في الشتاء يقرأ
مئة وفي الصيف أربعين والخريف خمسين أو ستين، وذكر أن في رواية الأصل أن يكون في
الظهر دون الفجر والعصر قدر عشرين آية سوى الفاتحة.
(بَابُ القِرَاءَةِ فِي العِشَاءِ بِالسَّجْدَةِ)
والقِرَاءَةِ فِي العِشَاءِ تقدم حديثاهما.
770 - وكذا حديثُ يُطَوِّلُ فِي الأُولَيَيْنِ وَيَحْذِفُ فِي الأُخْرَيَيْنِ. [خ
770]
(بَابُ القِرَاءَةِ فِي الفَجْرِ)
وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بِالطُّورِ» ثم أعاد ذكره في باب الجهر بقراءة صلاة الصبح بلفظ: «طُفْتُ وراءَ
الناسِ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي ويقرأُ بالطورِ» هذا
التعليق قد أسند في كتاب الحج وبين أن الصلاة كانت الصبح.
771 - وحديث أبي برزة تقدم في وقت الظهر. [خ 771]
772 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أخْبَرَنَا
ابنُ جُرَيْجٍ، أخْبَرَنِي عَطَاءٌ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «فِي كُلِّ
صَلاَةٍ يُقْرَأُ، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَنَّا أَخْفَيْنَا عَنْكُمْ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ
عَلَى أُمِّ القُرْآنِ أَجْزَأَتْ وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ». [خ 772]
وفي «الأوسط» للطبراني: «في كلِّ صلاةٍ قراءةٌ ولو بفاتحةِ الكتابِ». وفي
«المنتقى» قال عطاء: فسمعته يقول لا صلاة إلا بقراءة.
(2/20)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ: قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بقراءةٍ».
ويتبع ذلك الدَّارَقُطْني، وقال: الصواب من قول أبي هريرة وهو محفوظ عن أبي أسامة
على الصواب، قال الحافظ أبو مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي في كتابه «الرد
على الدَّارَقُطْني» في كتاب «التتبع»: لعل الوهم فيه من مسلم أو من ابن نمير أو
من أبي أسامة، فإما أن يلزم مسلمًا فيه الوهمُ من بينهم فلا حتى يوجد من غيره حديث
مسلم عن ابن نمير على الصواب فحينئذ يلزمه الوهم وإلا فلا، وعِنْدَ مُسْلِمٍ أيضًا
عن قطبة بن مالك سمع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقرأ في الصبح
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] وعن عمرو بن حُرَيْث
صَلَّيَا مع النبي صلى الله
%ج 1 ص 286%
عليه وسلم فكان يقرأ في الفجر {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الجَوَارِ الكُنَّسِ}
[التكوير: 16].
وعند ابن حبان: «قرأَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في صلاةِ الصبحِ {قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}». وصححه أيضًا أبو
زُرْعَةَ النصري في «تاريخه الكبير» وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وعن معاذ بن عبد الله عن رجلٍ منْ جُهَيْنَةَ: «سمعَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يقرأُ في الصبحِ {إِذَا زُلْزِلَتْ} في الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا».
رواه أبو داود بسند صحيح.
وعند السراج في باب القراءة في الفجر عن أبي سعيد بسند جيد: «إنْ كانتِ الصلاةُ
لتقامُ فينطلقُ أَحَدُنَا إلى حاجتِهِ في البقيعِ فيتوضأُ ثم يرجعُ وإنه -يعني
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- في الركعة الأولى».
وعن جابر بن سمرة عِنْدَ مُسْلِمٍ: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
كانَ يقرأُ في الفجرِ بقاف، وكانتْ قراءتُهُ بَعْد تخفيفٍ» أو لفظ: «كان يقرأ في
الظهر بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الصبح بأطول من ذلك».
(2/21)
وعند
ابن خزيمة: «كان يقرأ في الظهر والعصر بِـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} وَ
{الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوهما، ويقرأ في الصبح بأطول من ذلك».
وعند أبي داود: «والصبح كان يُطِيْلُهَا». وعند السراج: «بقاف ونحوها». وفي لفظ:
«وأشباهها».
وفي «الأوسط»: «كانَ يقرأُ في الصبحِ بياسين». وعنده أيضًا: «يقرأُ في الصبحِ
بالواقعة ونحوها منَ السورِ» وقال: لم يروه عن سماك بن حرب إلا إسرائيل ولا عن
إسرائيل إلا سلمة بن رجاء تفرد به يعقوب بن حميد بن كاسب. انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ، لأن الحاكم رواه عن أبي عبد الله الزاهد، حَدَّثَنا أحمد بن مهران،
حَدَّثَنا عبيد الله بن موسى، حَدَّثَنا إسرائيل، فذكره. وقال: صحيح على شرط مسلم.
وفي «الأوسط» بسند صحيح عن أنس قال: «صَلَّى بِنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ الْفَجْرَ بِأَقْصَرِ سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ:
إِنَّمَا أَسْرَعْتُ لِتَفْرُغَ الْأُمُّ إِلَى صَبِيِّهَا وَسَمِعَ صَوْتَ
الصَّبِيِّ».
وعن رفاعة بن رافع الأنصاري من طريق ابن لهيعة: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لاَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ بِأَقَلَّ مِنْ
عِشْرِيْنَ آيَةً، وَلاَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ العِشَاءِ دُوْنَ عَشْر آيَاتٍ».
وعن شبيب أبي رَوْحٍ عند أبي داود عن رجل من الصحابة «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِالرُّوْمِ». وقال أبو منصور
الباوردي: أخبرنا موسى بن هارون، حَدَّثَنا مؤمل بن إسماعيل، حَدَّثَنا شعبة عن
عبد الملك عن شبيب عن رجل من الصحابة يقال له الأغر فذكره، قال: وقال موسى بن
هارون وهذا حديث لا نعلم أحدًا سَمَّى الأغر إلا المؤمل وهو أحد الثقات، قال أبو
منصور: وما أقرب ما قاله أبو موسى، ولما ذكر أبو نُعَيْمٍ الأصبهاني في «معرفة
الصحابة» الأغر بن يسار الجُهَنِي ذكر له هذا
%ج 1 ص 287%
(2/22)
الحديث،
وسنده صحيح خلافًا للإشبيلي وابن القطان.
وعند النسائي عن أم هشام بنت حارثة قالت: «مَا أَخَذْتُ {ق} إِلَّا منْ وراءِ
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يُصَلِّي بها الصبح». وحديث استماع الجن
بسوق عكاظ فذهبوا إلى قومهم رواه ابن عباس عند الشيخين وسيأتي بعد هذا، وذكر
القرطبي عن عكرمة: «أَنَّه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ يقرأُ بسورةِ {اقرأ}
في الصبحِ». وعن ابن عمر عند ابن أبي شيبة بسند صحيح: «إِنْ كَانَ رسولُ الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَيَأْمُرُنَا بالتخفيفِ، وإنْ كانْ لَيَؤُمُّنَا
بالصَّافاتِ في الفجرِ».
وفي «علل» ابن أبي حاتم عنه بسند ضعيف: «صلَّى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صلاةَ الغداةَ بالناسِ في سفرٍ فَقَرَأ: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ}
وَ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، قال: قرأتُ لَكُمْ ثلثَ القرآنِ ورُبُعَهُ».
وعن البراء: «صَلَّى بنا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاةَ الصبحِ فقرأَ
بأقصرِ سورتينِ في القرآنِ». رواه السراج بسند صحيح، وفي كتاب أبي موسى المديني في
الصحابة أنَّ عُمَرَ الجُهَني قال: «صَلَّيْتُ خلفَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ الصبحَ فقرأَ فِيْهَا بسورةِ الحجِّ فسجدَ فيها سَجْدَتَيْنِ». وحديث أبي
سعيد عند أبي نعيم الفضل مثله بسند لا بأس به، وعن ابن سابط: «قرأَ النبيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الفجرِ في أولِ ركعةٍ بستين آيةً، فلما قامَ سمعَ صوتَ
صبيٍّ فقرأَ ثلاثَ آياتٍ» رواه عن سفيان عن أبي السوداء بالنهدي عنه.
وفي «سنن البيهقي» عن الْمَعْرُورِ بن سُوَيْدٍ: «صلَّى بنا عمرُ فقرأَ الم وإيلاف
قريش» وفيه أيضًا: «صلَّى أبو بكر في صلاةِ الصبحِ بسورةِ البقرةِ في الركعتين
كليهما».
(2/23)
وقال
الْفُرَافِصَةُ بْنُ عُمَيْرٍ مَا أَخَذْتُ سُورَةَ يُوسُفَ إِلاَّ مِنْ قِرَاءَةِ
عُثْمَانَ إِيَّاهَا، فِي الصُّبْحِ مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُرَدِّدُهَا. وفي
«الموطأ» قال عامر بن ربيعة: «قرأَ عمرُ في الصبحِ بسورةِ يوسف، وسورةِ الحج
قراءةً بطيئةً».
وعن نافع: «قرأَ ابنُ عمرَ فِي الصُّبْحِ فِي السَّفَرِ، بِالْعَشْرِ السُّوَرِ
الْأُوَلِ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَسُورَةٍ».
وقال أبو هريرة: «لما قدمتُ المدينةَ مهاجرًا صليتُ خلفَ سباعِ بنِ عُرْفُطةَ
الصبحَ فقرأ في الأولى سورة مريم وفي الأخرى ويل للمطففين». ولما ذكره ابن حبان في
«صحيحه»: لم يسم سباعًا.
وعن عمرو بن ميمون لما طُعِنَ عمرُ صلَّى بهم ابن عوف الفجر فقرأ {إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللهِ} والكوثر.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وذُكِرَ أن عمرَ قرأ في الصبح بيونس وبهود، وقرأ عثمان
بيوسف والكهف، وقرأ عليٌّ بالأنبياء وقرأ عبد الله بسورتين إحداهما بنو إسرائيل،
وقرأ معاذ بالنساء، وقرأ عبيدة بالرحمن، وقرأ إبراهيم بياسين، وقرأ عمر بن عبد
العزيز بسورتين من طوال المفصل.
%ج 1 ص 288%
وفي كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ عن الحارث بن فضيل قال: أقمت عند ابن شهاب
عشرًا فكان يقرأ في صلاة الفجر {تبارك} وَ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}. وقال أبو
داود الأودي: كنت أصلي وراء عليٍّ الغداةَ فكان يقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ونحو ذلك من السور. وفي «شرح السنة» للبغوي:
الأحسن أن يقرأ في الصبح والظهر من طوال المفصل، وفي العصر والعشاء من أوساطه، وفي
المغرب بقصاره، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق, ورأى بعضهم أن القراءة في الصبح
كنحو القراءة في المغرب يقرأ بقصار المفصل يُرْوَى ذلك عن النخعي، وقال: تضاعف
صلاة الظهر على صلاة العصر في القراءة أربع مرات.
(2/24)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: اتفق العلماء على أن أطول الصلوات صلاة الفجر وبعدها الظهر وما
ذكرنا من الاختلاف عن السلف دلَّ أنهم فهموا عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ إباحة التطويل والتقصير وأنه لا حدَّ في ذلك.
وقوله: (فإنْ لَمْ يَزِدْ عَلَى أُمِّ القُرْآنِ أَجْزَأَتْ) قال ابن كنانة: إن
تعمد ذلك بطلت صلاته وأجزأت، رويناه بغير همزٍ قال الله جل وعز: {لَا تَجْزِي
نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ} [البقرة: 48] وأجزأت لغة بني تميم، أجزت عني أي قضت وقال أبو
سليمان: جَزَى وَأَجْزَى مثل وَفَى وأَوْفَى.
وقال ابن قُرْقُولٍ: أجزت عنك عند القابسي وعند غيره أجزأت.
(2/25)
773 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حدَّثَنَا أبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ هُوَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عبد الله بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، أَلَا شَيْءَ حَدَثَ؟، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَانْصَرَفُوا أولئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو بنخلةٍ، عَامِدِيْنَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ، اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا وَاللهِ الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولنْ نشركَ بِرَبَّنَا أحدًا} [الجن: 2] فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1] وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ. [خ 773]
(2/26)
قال
أبو زكريا يحيى بن زياد الفَرَّاء في كتابه «معاني القرآن» الذي أخبرنا به قراءة
عليه أبو النون الجَوْرَدِيُّ عن المقبري، أخبرنا الحافظ ابن ناصر، أخبرنا الإمام
أبو طاهر بن سوار المقرئ قراءة عليه، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو سعيد
الصيرفي، أخبرنا الأصم، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الجهم
%ج 1 ص 289%
أخبرنا الفراء، قال: القُرَّاءُ مجتمعون على أُوحي، وقرأ جُويَّة الأسدي: {قل
أُحِي إلي} من وحيت، فهمزَ الواوَ التي هي الألف وقَصَرها، لأنها انضمت كما قالوا
أُقِّتَتْ، وقال الزجاج في «المعاني»: الأكثر أَوْحَيْت ويقال وَحَيت فالأصل وُحِي
إليَّ، قال: وجاء في التفسير أن هؤلاء النفر من الجن كانوا من نصيبين، وقيل: إنهم
كانوا من اليمن، وقيل: إنهم كانوا من يهود، وقيل: إنهم كانوا مشركين.
وذكر ابن دريد أن أسماءهم شاصِر وماصِر والأَحْقب ومُنْشِي وناشي لم يزد شيئًا.
وفي تفسير الضحاك كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق، وفي
رواية عاصم بن رزين بن خُنَيْس أنهم كانوا سبعةً، ثلاثة من إبل حران وأربعة من
نصيبين ذكره القرطبي في تفسيره، وقَالَ السَّفَاقُسيُّ: من أسلم منهم سُمِّيَ
جِنًّا ومن لم يسلم سُمِّيَ شيطانًا، وعند الحاكم عن ابن مسعود: «هَبَطُوا على
النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ببطنِ نخلة وكانوا تسعةً أحدهم زَوْبَعة»
وقال: صحيح الإسناد.
وعند القرطبي: كانوا اثني عشر، وقد اخْتُلِفَ في أصلهم فعن الحسن أن الجن ولد
إبليس ومنهم المؤمن والكافر، والكافر يسمى شيطانًا، وعن ابن عباس هم ولد الجان
وليسوا شياطين منهم الكافر والمؤمن وهم يموتون، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا
مع إبليس.
(2/27)
واختلفوا
في مآل أمرهم على حسب اختلافهم في أصلهم، فمن قال: إنهم من ولد الجان قال: يدخلون
الجنة بإيمانهم، ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فعند الحسن بن أبي الحسن يدخلونها،
وعن مجاهد لا يدخلونها، قال: ليس لمؤمني الجن غير نجاتهم من النار قال الله تعالى:
{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] وقال أبو حنيفة: ويقال لهم
كالبهائم كونوا ترابًا، وفي رواية عن أبي حنيفة أنه تردد فيهم ولم يجزم، وقال
آخرون: يعاقبون في الإساءة ويجازَون في الإحسان كالإنس وإليه ذهب مالك والشافعي
وابن أبي ليلى لقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]
بعد قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأنعام: 130] الآيات.
وفي تفسير ابن الخطيب النقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره وذلك أن ابن سينا قال:
(الجن حيوان وهو أنثى متشكل بأشكال مختلفة) ثم قال: (وهذا شرح الاسم يدل على أن
هذا الحد يراد به من هذا اللفظ وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج). وأما جمهور
أرباب الملك والمصدقين بالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فقد اعترفوا بوجود الجن،
واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات، ويسمونها الأرواح
السفلية وزعموا أنها أسرع
%ج 1 ص 290%
إجابة إلا أنها أضعف، والأرواح الفلكية هي أيضًا أسرع إجابة إلا أنها أقوى، واختلف
المفسرون على قولين: منهم من زعم أنها ليست أجسامًا ولا حالَّة محلات الأجسام بل
هي جواهر قائمة بأنفسها، ومنهم من زعم أنها أجسام، ونسب بعضهم إلى المعتزلة إنكارَها،
وهو غير جيد إنما ينكرون تسلطها على البشر.
وقال النووي: اتفق العلماء على أن الجن يعذبون في الآخرة على المعاصي قال تعالى:
{لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة هود: 119]
والصحيح أن مؤمنهم يدخل الجنة وينعم بالأكل والشرب وغيرها وهو قول الضحاك في
آخرين.
(2/28)
وفي
«الْمُحْكَمِ»: الجن نوع من العالم سُمُّوا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار، والجمع
جنان وهم الجِنَّة، والجِنِّي منسوب إلى الجنِّ أو الجِنَّة.
وفي «الطبقات» كان خروجه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى الطائف واستماع الجن بعد
موت عمه وخديجة وقبل المعراج فلم يستجب له أحد، ورجع في جوار المطعم بن عدي وذلك
يعني خروجه في ليالٍ من شوال سنة عشر من النبوة وكان معه زيد بن الحارثة فاستمع له
الجن وهو يقرأ سورة الجن. انتهى.
هذا مشكلٌ، لأن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم كما في البخاري.
و (السُّوقُ) قال يعقوب بن السِّكِّيت في كتابه «المذكر والمؤنث»: السوق أنثى
وربما ذكرت، والتأنيث أغلب لأنهم يحقِّرونها: سُوَيْقة. وفي «الْمُحْكَمِ»: والجمع
أسواق، والسوقة لغة فيه، وفي «الجامع» اشتقاقها من سَوْقِ الناسِ إليها بضائعَهم،
وقَالَ السَّفَاقُسيُّ: سميت بذلك لقيام الناس فيها على سُوقهم.
و (عُكَاظ) قال الأزهري في «التهذيب»: هو اسم سوق من أسواق العرب، وموسم من مواسم
الجاهلية كانت العرب تجتمع به كل سنة يتفاخرون بها ويحضرهم الشعراء فيتناشدون ما
أحدثوا من الشعر، وعن الليث سمي عُكاظٌ عُكَاظًا لأن العرب كانت تجتمع فيها
فَيَعْكِظُ بعضهم بعضًا بالمفاخرة، أي يَدْعَك، وَعَكَظ فلان خصمه باللَّدَدِ
والحُجج عَكْظًا، وقال غيره: عكَظ الرجلُ دابَّتَه يعْكِظُها عَكْظًا إذا حبَسَها،
وتَعَكَّظَ القوم تعكُّظًا إذا تحبَّسوا ينظرون في أمرهم، وبه سميت عكاظ.
وفي «الْمُوعِبِ»: كانوا يجتمعون بها كل سنة فيقيمون بها الأشهر الحرم، وكان فيها
وقائع مرة بعد مرة، وفي «الْمُحْكَمِ»: قال اللِّحْياني أهل الحجاز يُجْرونها
وتميم لا تُجْريها.
%ج 1 ص 291%
(2/29)
وَفِي
«الصِّحَاحِ»: هي بناحية مكة شرفها الله تعالى، كانوا يجتمعون بها في كل سنة
فيقيمون شهرًا، وقال ابن حبيب: هي صحراء مستوية لا عَلم فيها ولا جبل إلا ما كان
من النُّصُب التي كانت بها في الجاهلية، وبها من دماء البُدْن كالأَرْحَاء العظام،
وكانت على دعوة من ماءةٍ يقال لها نقعاء بئر لا تنكف، وقيل: هي ماء على نجدٍ قريبة
من عرفات، وقال غيره: وراء قَرْنِ المنازل بمرحلة من طريق صنعاء وهي من عمل الطائف
على بريد منها، وأرضها لبني نصر واتُّخِذَت سوقًا بعد الفيل بخمس عشرة سنة،
وتُرِكَتْ عام الحرورية بمكة مع المختار بن عوف سنة تسع وعشرين ومئة إلى هَلُّمَ
جَرًّا. وقال أبو عبيدة: عكاظ ما بين نخلة والطائف إلى موضع يقال له العتْق به
أموال ونخل لثقيف بينه وبين الطائف عشرة أميال، فكان سوق عكاظ يقوم صُبْحَ هلال ذي
القعدة عشرين يومًا، وسوق مَجَنَّة يقوم عشرة أيام بعده، وسوق ذي المجاز يقوم هلال
ذي الحجة.
وزعم الرشاطي أنها كانت تقام نصفَ ذي القعدة إلى آخر الشهر، فإذا أهلَّ ذو الحجة
أَتَوا ذا المجاز وهو قريب من عكاظ فيقوم سوقها إلى يوم التروية فيسيرون إلى منى.
وقال ابن الكلبي: لم يكن بعكاظ عشور ولا خفارة، وفي «البلدان» للزمخشري: عكاظ سوق،
وقيل: ماء لهم، قال:
إن عكاظًا ماؤنا فخلُّوه
انتهى.
وثَمَّ مكان آخر يقال له عُكاظ، أنشد الهَجَري في «الأمالي»:
ونَطْرُدُهَا إذا وَرَدَتْ عُكَاظًا ... وبالبيداءِ ينتجها ثُماما
قال: البيداء التي ذكرها هنا هي قافية الجُحْفة شرقًا مَطْلَعِيًّا، وعكاظ الذي
ذكر وادٍ نصب في السائرة وهو أقرب إلى العِرْضِ الذي حُمِل منه التمر، وضُرِبَ هذا
مثلًا نقول نطردها بعكاظ لقرب الموضع فإذا ابتعدنا وصرنا في البيداء نتجنا الجلد
فأكلنا التمر، والاطراد في الغيم وهو الإضراب يقول متى اطَّرَدَ ومتى أضْرَبْتُم.
(2/30)
وقوله:
(عَامِدِيْنَ) يعني: قاصدين، قال في «الفصيح»: في باب فعلتُ بفتح العين عَمَدْتُ للشيء
أَعْمِدُ إذا قصدت إليه، وفي «شرحه للزاهد» عن ثعلب أَعْمِدُ عَمْدًا إذا قصدت له
خيرًا كان أو شرًّا، ومن العرب من يقول عمِدْتُ أَعْمَدُ عَمَدًا وعِمَادًا
وعُمْدَة بمعناه. وفي «الْمُوعِبِ» للتَّيَّاني عن الأصمعي لا يقال عَمِدت بكسر
الميم، وزعم ابن دُرُسْتُوَيْه أنه لا يتعدى إلا بحرف جر، وفي «شرح الزاهد» وغيره
عمده وعمد إليه عمودًا
%ج 1 ص 292%
ذكره ابن الأعرابي في «نوادره»، ومَعْمَدٌ ذكره نِفْطَوَيْهِ في شرح شعر سُحَيْم.
واخْتُلِفَ في الشُّهُبِ هل كانت يُرْمى بها قبل مبعث النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أم لا لقوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا} [الجن: 8 - 9]؟.
(2/31)
فذكر
ابن إسحاق أن العرب أنكرت وقوع الشهب وأشدهم إنكارًا ثقيف، وأنهم جاؤوا إلى رئيسهم
عمرو بن أمية بعد ما عَمِيَ فسألوه فقال: انظروا إن كانت هي التي يُهْتَدَى بها في
ظلمات البر والبحر فهو خراب الدنيا وزوالها، وإن كان لغيرها فهو لأمر يحدث، وأيضًا
أن الشياطين استنكرت ذلك وضربوا في الآفاق لينظروا ما مُوجِبُهُ؟ ونفس الآية
الكريمة تدل على وجود حراسة بما شاء الله تعالى إلا أنه قليلٌ، وإنما كَثُرَ عند
إِبَّانِ مَبْعَث سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذ قالوا {مُلِئَتْ
حرسًا شديدًا}، لأنهم عَهِدوا حرسًا ولكنه غير شديدٍ، ولأن جماعة من العلماء منهم
ابن عباس والزهري قالوا: ما زالت الشهب مُذْ كانت الدنيا، يؤيده ما في «صحيح مسلم»
من قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ورُمِيَ بِنَجْمٍ مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ،
إِذْ كَانَ مِثْل هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالُوا: مَوْتٌ عَظِيمٌ أَو يُوْلَدُ
عَظِيمٌ» الحديثَ. وذكر بعضهم أن السماء كانت محروسة قبل النبوة، ولكن إنما كانت
تقع الشهب عند حدوث أمر عظيم، من عذاب يَنْزِلُ أو إرسال رسول إليهم وعليه تأولوا
قوله تعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ
أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10] وقيل: كانت الشهب مُرَتَّبَةً
معلومةً، ولكن رجم الشياطين وإحراقهم لم يكن إلا بعد نبوة سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
فإن قيل: كيف تتعرض الجن لإتلاف نفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلومًا لهم؟.
(2/32)
فالجواب
قد يُنْسِيْهِمُ الله تعالى ذلك لِيَنْفُذَ فيهم قضاؤه، كما قيل في الهدهد إنه يرى
الماء في تخوم الأرض ولا يرى الفخَّ على ظهر الأرض، على أنَّ السُّهَيلي وغيره
زعموا أن الشهاب ناره تصيهم فتحرقهم وتارة تصيبهم، فإن صحَّ هذا فيبقى كأنهم غير
متيقنين بالهلاك ولا جازمين به، وقال ابن عباس: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات
فلما وُلِدَ عيسى مُنِعَتْ من ثلاث سماوات، فلما وُلِدَ سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُنِعَتْ منها كلها. قال ابن الجوزي: الذي أميل إليه أن
الشهب لم تُرْمَ إلا قبل مولد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثم استمر ذلك
وكَثُرَ حين بُعِثَ. وعن الزهري كانت الشهب قليلة فَغَلُظَ أمرها وكثرت حين
البعثة، قال أبو الفرج: فإن قال قائل أيزول الكوكب إذا رجم به؟ قلنا قد يحرك
الإنسان يده أو حاجبه فتضاف تلك الحركة
%ج 1 ص 293%
إلى جميعه فربما فصل شعاع من الكوكب فأحرق ويجوز أن يكون ذلك الكوكب يفنى ويتلاشى،
وعند الثوري في قوله تعالى: {رُجُومًا} [الملك: 5]، قيل: هو مصدر فتكون الكواكب هي
الرَّاجمة المحرقة بِشُهُبِهَا لا بأنفسها، وقيل: هو اسم فتكون هي بأنفسها التي
يُرْجَمُ بها وتكون رُجُوم جمع رَجْم بفتح الراء.
(2/33)
وأما
(تِهَامَة) بكسر التاء فذكر التَّيَّانيُّ في «الْمُوعِبِ»: تهامة اسم مكة شرفها
الله تعالى، وطرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العَرْجِ وأولها من قبل نجد مدارج
عِرْق. أبو حاتم: رجل تَهامٍ مفتوحةٌ التاءُ خفيفةٌ الياءُ يُذْهِبُها التنوين،
وعن سيبويه تِهاميٌّ بكسر التاء، وقال قُطْرب: تِهَامة من قولهم تَهَمَ البعير
تَهْمًا دخله حرٌّ، وتَهِم البعير إذا استنكر المرعى ولم يستمر به فسكت حاله، ولحم
تَهِمٌ خَنِزَ، وفيه تَهَامة وتُهُومة، وعن إسماعيل سميت تهامة، لأنها انخفضت عن
نجد فَتَهِم ريحها أي: تغير، وعن ابن دريد التهم شدة الحر وركود الريح وبه سميت
تهامة أنشد المبرد في «كامله»:
خليليَّ بالبَوْباة عُوجا، فَلَا أَرى ... بِهَا مَنْزِلًا إِلاجَديبَ المُقَيَّدِ
نَذُقْ بَرْدَ نَجْدٍ، بَعْدَمَا لعِبَت بِنَا ... تِهامَةُ فِي لأْوَائِهَا
المُتَوَقِّدِ
وفي كتاب الرشاطي: تهامة ما ساير البحر من نجد، ونجد ما بين الحجاز إلى الشام إلى
العذيب، والصحيح أن مكة من تهامة، وفي «أمالي» الهَجَري حدثني الثمالي وكان من
الأوعية قال: آخر تهامة أعلام الحرم الشامي وذاك أن لَبُوسَهم وشكلهم وآنيتهم
مخالف لأهل الغُور، وأهل النجد إذا أغاروا لم ينزلوا تهامة، ولم يقولوا إلا
غُرْنَا، وإنما منزلهم دون مَرٍّ إلى الحوراء، والحجاز ما لَصِقَ بالطود من جانبيه
النجدي والبحري من أول الأرض إلى آخرها وهو من شق البحر، وتهامة والغور كل واحد
أقله يومان وأكثره خمسة أيام، وهو من شق النجد مضحاة الشمس خمسة أيام وأكثر،
والحجاز المنجد داخل في المنجد، والحجاز الغربي داخل في تهامة والغور، وإن سميت
الغور تهامة وتهامة بالغور كان كل ذلك جائزًا.
(2/34)
774
– حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ، حدَّثَنَا أيُّوبُ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فِي مَا أُمِرَ وَسَكَتَ فِي مَا أُمِرَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}
[مريم: 64] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:
21]. [خ 774]
هذا من أفراد البخاري، قَالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: وهذا يخالف سائر الأخبار التي
أثبت منها القراءة في الظهر والعصر، ولا يجوز أن يذهب على مثل ابن عباس
%ج 1 ص 294%
القراءة التي تواطأ عليها المسلمون قديمًا وحديثًا في الظهر والعصر، وقد روي عنه
في هذا المعنى في «القراءة خلف الإمام»: يقرأ فيما يخافت ولا يقرأ فيما جهر، فإن سَلِمَ
الحديث من قبل عكرمة من الطعن فالذي يصلح أن يوجه عنها أن يكون سكت عن الإعلان
بالقراءة لا عن القراءة نفسها، وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: سَمَّى ابن عباس السِّرَّ
سكونًا، قال الخطابي: لو شاء أن يترك ذكر بيان أفعال الصلاة وأقوالها حتى يكون
قرآنًا مَتْلُوًّا لفعل ولم يتركه عن نسيان لكنه وكَّلَ الأمر في بيان ذلك لنبيه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثم أمرنا بالاقتداء به وهو معنى قوله لنبيه:
{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل: 44] ولم تختلف الأمة
في أن أفعاله التي هي بيان مجمل الكتاب واجبة، كما لم يختلفوا في أفعاله التي هي
من نوم وطعام وشبههما غير واجبة، وإنما اختلفوا في أفعاله التي تتصل بأمر الشريعة
مما ليس ببيان مجمل الكتاب فالذي يُخْتَار أنها واجبة. والأُسْوة بالضم والكسر قرئ
بهما ومعناها: القدوة، قال ابن المنير: وجه الاستدلال من حديث ابن عباس عموم قوله:
(قرأَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) فيدخل الفجر في الذي جهر فيه اتفاقًا
والله أعلم.
(بَابُ الجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ)
(2/35)
وَالقِرَاءَةِ
بِالخَوَاتِيمِ، وَبِسُورَةٍ قَبْلَ سُورَةٍ، وَبِأَوَّلِ سُورَةٍ، وَيُذْكَرُ
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ: «قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ المُؤْمِنُونَ فِي الصُّبْحِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى،
وَهَارُونَ صلى الله عليهما وسلم -أَوْ ذِكْرُ عِيسَى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ- أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ».
هذا التعليق خرَّجه مسلم في «صحيحه» قال: بمكة شرفها الله تعالى، وعند أبي داود
الشك من محمد بن عباد بن جعفر، وعند ابن ماجه: «فلمَّا بلغَ ذكرُ عِيْسَى وأمه
أخذته سعْلَةٌ أو قالَ: شَهْقَةٌ». وفي رواية: «شرْقَة».
وعند الطبراني: «يوم الفتح وقرأَ عمرُ في الركعةِ الأولى ثمانيًا وعشرينَ آيةً منَ
البقرةِ، وفي الثَّانيةِ بسورةٍ من الْمَثَانِي». هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة
في «المصنف» عن عبد الأعلى عن الجريري عن أبي العلاء عن أبي رافع قَالَ: «كَانَ
عُمَرُ، يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِمئة مِنَ الْبَقَرَةِ، وَيُتْبِعُهَا بِسُورَةٍ
مِنَ الْمَثَانِي، أَوْ مِنْ صُدُورِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ بِمئة مِنْ آلِ
عِمْرَانَ، وَيُتْبِعُهَا بِسُورَةٍ مِنَ الْمَثَانِي، أوْ مِنْ صُدُورِ
الْمُفَصَّلِ».
قال البخاري: وَقَرَأَ الأَحْنَفُ بِالكَهْفِ فِي الأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ
بِيُوسُفَ أَوْ يُونُسَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ الصُّبْحَ بِهِمَا.
قال أبو نعيم في «المستخرج»: حَدَّثَنا مخلد بن جعفر، حَدَّثَنا جعفر
الْفِرْيَابيُّ، حَدَّثَنا قتيبة، حَدَّثَنا حماد بن زيد عن بُديل عن عبد الله بن
شقيق قال: صلَّى بنا الأحنفُ بنُ قَيْسٍ الغداةَ فقرأ في الركعة الأولى بالكهف
%ج 1 ص 295%
(2/36)
وفي
الثانية بيونس. وزعم أنه صلى خلف عمر بن الخطاب فقرأ في الأولى بالكهف وفي الثانية
بيونس، وقال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا مُعْتَمِرٌ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ
الخِرِّيت، عَنْ عبد الله بن قَيْسٍ، عَنِ الْأَحْنَفِ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ
عُمَرَ الْغَدَاةَ، فَقَرَأَ يُونُسَ وَهُودَ وَنَحْوَهُمَا». وحَدَّثَنَا
وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عبد الملك بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
وَهْبٍ: «أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ بِالْكَهْفِ».
وعن حذيفة في «صحيح مسلم»: «قَرَأَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي صَلاَتِهُ
بِالنِّسَاءِ ثُمَّ بِآلِ عِمْرَانَ».
وقال مالك: لا بأس بأن يقرأ سورة قبل سورة، قال: ولم يزل في الأمر على ذلك من عمل
الناس.
وفي «شرح الهداية»: وهو مكروه، قال: وعليه جمهور الفقهاء منهم أحمد بن حنبل.
قال عياض هل ترتيب السور من ترتيب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أو من اجتهاد
المسلمين؟.
قال ابن الباقلاني: الثاني أصح القولين مع احتمالهما، وتأولوا النهي عن قراءة
القرآن منكوسًا على من يقرأ من آخر السور إلى أولها، وأما ترتيب الآيات فلا خلاف
أنه توقيف من الله تعالى على ما هي عليه الآن في المصحف.
قال البخاري: وَقَرَأَ ابنُ مَسْعُودٍ: بِأَرْبَعِينَ آيَةً مِنَ الأَنْفَالِ،
وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ مِنَ المُفَصَّلِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي مَنْ
يَقْرَأُ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ يُرَدِّدُ سُورَةً وَاحِدَةً
فِي رَكْعَتَيْنِ، كُلٌّ كِتَابُ اللهِ عزَّ وجل.
وقال ابن المنير: موضع الاستشهاد على القراءة بالخواتيم قول قتادة هذا، وعند أبي
داود عن رجل من جهينة: «سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرَأُ
فِي الصُّبْحِ {إِذَا زُلْزِلَتْ} فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا» الحديثَ وقد
تقدم.
(2/37)
وكذا
حديث عائشة عند النسائي: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قرأَ في
المغربِ بسورةِ الأعرافِ فَرَّقَها في ركعتين».
وحديث أبي أيوب عند أبي شيبة: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قرأَ
في المغربِ بالأعرافِ في ركعتينِ».
وعن أبي بكر أنه قرأ بالبقرة في الفجر في الركعتين، وقرأ عمر بآل عمران في
الركعتين الأوليين من العشاء قطعها فيهما. ونحوه عن سعيد بن جبير وابن عمر والشعبي
وعطاء، وقال عبيد الله عن ثابت عن أنس بن مالك: «كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ
يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ بسُورَةٍ يَقْرَأُ
بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ: بِـ {قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ} حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ بسُورَةٍ أُخْرَى مَعَهَا،
وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا:
إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لاَ تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ
حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا
وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ
أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا
يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ،
فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
%ج 1 ص 296%
(2/38)
أَخْبَرُوهُ
الخَبَرَ، فَقَالَ: يَا فُلاَنُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ
بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ
رَكْعَةٍ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ».
هذا التعليق رواه الترمذي في «جامعه» عن محمد بن إسماعيل البخاري، حَدَّثَنا
إسماعيل بن أبي أويس، قال حدثني عبد العزيز بن محمد بن عبيد الله بن عمر عن ثابت
فذكره بنحوه، وقال: صحيح غريب من حديث عبيد الله عن ثابت.
وروى مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُوْلَ اللهِ
إِنِّي أُحِبُّ هَذِهِ السُّوْرَةَ لِـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} قَالَ: إِنَّ
حُبَّكَ إِيَّاهَا يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ».
ورواه أبو نعيم من حديث الدراوردي عن عبيد الله فذكره مختصرًا، وذكر أبو موسى في
كتاب «الصحابة»: أن هذا الرجل اسمه كلثوم بن الهِدْم، وقال الدَّارَقُطْني: رواه
حماد بن سلمة عن ثابت عن حبيب بن سُبَيْعَةَ عن الحارث مرسلًا، قال أبو الحسن:
وحماد بن سلمة أشبه بالصواب يعني من حديث عبيد الله ومبارك.
وعند ابن أبي شيبة كره أبو جعفر أن يقرن بين سورتين في ركعتين في كل ركعة، وأبو
بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو عبد الرحمن السلمي وزيد بن خالد وأبو
العالية وابن عمر عند ابن بطال، وروى أيضًا عنه إجازته.
وذكر في «الحديقة» أن عثمان وتميمًا الداري وسعيد بن جبير وأبا حنيفة ختموا القرآن
العظيم في ركعة.
وقال مالك: لا بأس أن يقرأ سورتين وثلاثًا في ركعة، وسورة أحب إلينا، ولا نقرأ
السورة في ركعتين، فإن فعل أجزأه، قال الطحاوي: قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُوْلُ القِيَامِ». ولا يكون ذلك إلا بالجمع بين السور
الكبيرة في ركعة. وعند ابن أبي شيبة: كان ابن عمر يقرأ في الركعة بعشر سور أو أقل
أو أكثر.
(2/39)
وعن
معبد بن خالد: «قَرَأَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالسَّبْعِ الطِّوَالِ فِي
رَكْعَةٍ».
وقال عبد الله بن شقيق: قُلْتُ لِعَائِشَةَ كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ السُّوَرِ فِي رَكْعَةٍ قَالَتْ: «نَعَمْ،
المُفَصَّل) سنده صحيح، وممن رُوِيَ عنه جواز ذلك الربيع بن خيثم والنخعي وعطاء،
زاد ابن حزم وعمر بن الخطاب وطاوس.
قال: وأما تقديم السورة قبل أم القرآن فلم يأت أمر بخلاف ذلك.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأما القراءة بالخواتيم وبأول سورة، فعن مالك: إذا بدأ بسورة
وختم بأخرى فلا شيء عليه.
وفي «شرح الهداية»: إن قرأ بعض سورة في ركعة وبعضها في الثانية الصحيح أنه لا
يكره، وقيل: يكره.
ونجيب عن حديث سعْلَتِه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إنما كان قراءته لبعضها لأجل
السعلة وقد تقدم طرف منه أيضًا.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: السعْلَةُ بفتح السين كذا رويناه، وروي بضمها، وسميت
المثاني لكونها
%ج 1 ص 297%
قَصُرَتْ عن المئين وتزيد على المفصل، كأن المئين جُعِلَتْ مبادئ والتي تليها
مثاني ثم المفصل، وعن ابن مسعود وطلحة بن مُصَرِّف: المئون إحدى عشرة سورة، والمثاني
عشرون سورة.
وفي «الْمُحْكَمِ»: المثاني من القرآن مائتي مرة بعد مرة، وقيل: فاتحة الكتاب،
وقيل: سورة أولها البقرة وآخرها براءة، وقيل: القرآن العظيم كله مثاني، لأن القصص
والأمثال ثُنِّيَتْ فيه.
775 - حدَّثَنَا آدَمُ، حدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنا عَمْرِو بْنُ مُرَّةَ،
سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ:
قَرَأْتُ المُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ
الشِّعْرِ، لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَان رسول اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ
المُفَصَّلِ، سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ». [خ 775]
(2/40)
قال
البزار: لا نعلمه رواه عن عمرو إلا شعبة، وعِنْدَ مُسْلِمٍ جاء نَهِيْكُ بنُ سنان
يعني المذكور في كتاب «الثقات» لابن حبان إلى ابن مسعود فقال: كَيْفَ تَقْرَأُ
هَذَا الْحَرْفَ؟ أَلِفًا تَجِدُهُ أَمْ يَاءً {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:
15]، أوْ يَاسِنٍ؟ فَقَالَ عبد الله: فَكلُّ الْقُرْآنِ قَدْ أَحْصَيْتَ غَيْرَ
هَذَا، قال: إِنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ، فقالَ عبدُ اللهِ: هَذًّا
كَهَذِّ الشِّعْرِ، إنَّ أَقْوَامًا يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ
تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ، إنَّ
أَفْضَلَ الصَّلَاةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، إِنِّي لَأَعْلَمُ النَّظَائِرَ
الَّتِي كَان رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ
سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، ثُمَّ قَامَ عبد الله، فَدَخَلَ.
وعند أبي داود: «بين الرحمن والقمر فِي رَكْعَةٍ، واقتربت والحاقة فِي رَكْعَةٍ،
والطور والذاريات فِي رَكْعَةٍ، وإذا وقعت ونون فِي رَكْعَةٍ، وسأل سائل والنازعات
فِي رَكْعَةٍ، وويل للمطففين وعبس فِي رَكْعَةٍ، والمدثر والمزمل فِي رَكْعَةٍ،
وعم والمرسلات فِي رَكْعَةٍ، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة فِي رَكْعَةٍ، والدخان
وإذا الشمس كورت فِي رَكْعَةٍ» وفي رواية: «حم الدخان وعم». وفي رواية: «لَقَدْ
سمعنا القرائنَ التي كانَ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقرأُ بهنَّ
ثماني عشرة منَ المفصلِ وسورتين منَ الرحمنِ».
(الْهَذُّ): قال في «الْمُوعِبِ» و «التهذيب»: للأزهري هو سرعة القطع وسرعة
القراءة، زاد ابنُ التَّيَّاني ويقال هذَّ القراءة سَرَدها، وفي «الْمُحْكَمِ»:
الهذُّ والهَذَ سرعة القطع والقراءة هَذَّه يَهُذُّه، وقال الهروي: نصبه على
المصدر، قَالَ الْمُهَلَّبُ: إنما أنكر عليه عدم التدبر لا جواز الفعل.
(2/41)
وفيه
دلالة على أن صلاته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانت بالليل عشر ركعات، والنظائر
المتماثلة في العدد، والمراد هنا المتقاربة، لأن الدخان ستون آية وعم يتساءلون
أربعون آية.
(بابٌ يقرأُ في الأُخْرَيَيْنِ بالفاتحةِ تقدم في القراءة في الظهر)
وكذا
%ج 1 ص 298%
بَابُ مَنْ خَافَتَ القِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، تقدم في رفع البصر إلى
الإمام، وأما الباب الذي فيه إذا سمع الإمام الآية، وباب يطول في الركعة الأولى
فتقدم ذكرهما.
(بَابُ جَهْرِ الإِمَامِ بِالتَّأْمِينِ)
وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ، أَمَّنَ ابنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ وَرَاءَهُ
حَتَّى إِنَّ لِلْمَسْجِدِ لَلَجَّةً. هذا التعليق رواه الشافعي عن مسلم بن خالد
عن ابن جريج عن عطاء قال: كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون آمين، ويقول
من خلفه: آمين حتى إنَّ للمسجد للجة. وفي «المصنف»: حدَّثَنَا ابن عيينة قال: لعله
عن ابن جريج عن عطاء عن ابن الزبير قال: كان للمسجد رَجَّةٌ أو قال لجة إذا قال
الإمام {ولا الضالين}. وفي «المحلى»: من جهة الديري عن عبد الرزاق عن ابن جريج قلت
لعطاء: أكان ابن الزبير يُؤَمِّنُ على أثر أم القرآن؟ قال: نعم ويُؤَمِّنُ من
وراءه حتى إن للمسجد للجة.
وعند البيهقي من حديث الحسن بن علي بن شقيق، حَدَّثَنا أبو حمزة عن مطرف عن خالد
بن أبي أيوب عن عطاء قال: أدركت مئتين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ورضي عنهم في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ} سمعتُ لهم رجَّةً بآمين.
(2/42)
وذكر
ابن بزيرة في «شرح الأحكام»: أن ابن عباس سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عن معنى آمين، فقال: «كذلك يكون» وعن هلال بن يسار ومجاهد وحطيم بن جابر
هي اسم من أسماء الله تعالى، وقال عطية العوفي: هي كلمة عبرانية أو سريانية، وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي كنز من كنوز العرش لا يعلمه إلا الله جل وعز، وقيل:
هي خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين، وفي «بسيط» الواحدي عن جعفر بن محمد
معناها: قصدي إليك وأنت أكرم منْ أن تخيب قاصدًا، وفي «الزاهر» لابن الأنباري:
اللَّهمَّ استجب، وقال ابن قتيبة: معناها يا آمين، أي: يا الله وأَضْمِر في نفسك
استجبْ لي، وخطَّأَ ابن الأنباري ذلك قال: لأنه لو كان منادًى لقيل آمينُ بالضم،
لأن نداء المعرفة مضموم بغير تنوين، قال ابن خَالَوَيْه: ولا يلزمه الذي قال، لأن
آمين وإن كان موضوعًا موضع الاسم فلا يجب إعرابه وصرفه كصرف الأسماء في الإعراب
والتثنية والجمع كما تقول في صَهْ معنى اسكت وأنت لا تعرفه ولا تثنيه ولا تجمعه
وسيأتي طرف منه في التفسير.
(اللَّجَّةُ): بفتح اللام وتشديد الجيم الأصوات، واللجة واللجلجة اختلاط الأصوات،
ولجَّ القوم وألجُّوا والتجُّوا اخْتَلَطَتْ أصواتهم ذكره ابن سِيْدَه، وفي
«المنتهى»: سمعت لجَّةَ الناس بالفتح أي أصواتهم وضجيجهم، وألجَّ القوم وسمعت لهم
لجة
%ج 1 ص 299%
والتجَّت الأصوات اختلطت.
قال البخاري: وكان أبو هريرة ينادي الإمام لا تسبقني بآمين.
قال ابن أبي شيبة في «المصنف» حَدَّثَنا وكيع، حَدَّثَنا كثير بن زيد، عن الوليد
بن رباح عن أبي هريرة أنه كان يؤذن بالبحرين فقال للإمام لا تسبقني بآمين.
(2/43)
وحَدَّثَنَا
أبو أسامة عن هشام عن محمد عنه مثله، وقال البيهقي: حَدَّثَنا أبو الحسين بن
الفضل، حَدَّثَنا أبو سهل بن زياد، حَدَّثَنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حَدَّثَنا
حجاج ابن منهال، حَدَّثَنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع: «أنَّ أبا هريرةَ
كانَ يُؤَذِّنُ لمروان بن الحكم فاشترطَ ألا يسبقَهُ بـ {الضالين} حتى يعلمَ
أنَّهُ دخل الصف، فكان إذا قال مروان {ولا الضالين} قال أبو هريرة آمين يمد بها
صوته، وقال: إِذَا وَافَقَ تَأْمِينُ أَهْلِ الْأَرْضِ تَأْمِينَ أَهْلِ
السَّمَاءِ غُفِرَ لَهُم». وفي «المحلى» من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن
أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه كان مؤذنًا للعلاء بن الحضرمي بالبحرين
فاشترط عليه ألا يسبقه بآمين.
قال البخاري: وقال نافع: كانَ ابنُ عمرَ لا يدعه ويحضهم وسمعت منه في ذلك خيرًا.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ أي خيرًا موعودًا لمن فعله قال: ورُوِيَ (خبرًا) أي حديثًا،
وعند البيهقي: وكان ابن عمر إذا قال الناس آمين أمَّن معهم، ورأى ذلك من السنة.
780 – حَدَّثَنا عبد الله بن يُوسُفَ، أخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ،
عَنْ أبي سعيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ
فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) هذا حديث خرجه الستة في كتبهم. [خ 780]
قال البخاري: «قَالَ ابنُ شِهَابٍ: وكَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُوْلُ آمين».
781 - وفي حديث أبي هريرة: «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ. وَقَالَتِ
الْمَلاَئِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ. فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [خ 781]
(2/44)
782 - ومن حديث مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الحديثَ. وقال: تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَنُعَيْمٌ المُجْمِرُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. [خ 782] متابعة محمد بن عمرو رواها البيهقي عن أبي طاهر الفقيه، أخبرنا أبو بكر القطان، حَدَّثَنا أحمد بن منصور المروزي، حَدَّثَنا النضر بن شميل، أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا قَالَ الْقَارِئُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ: آمِينَ، ووَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ: آمِينَ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».ورواه أبو محمد الدارمي في «مسنده» عن يزيد بن هارون عن محمد عن عمرو به. ومتابعه نُعَيْمٍ رواها البيهقي من طريق عبد الملك بن شعيب عن أبيه عن جده عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال%ج 1 ص 300%عن نُعَيْمٍ الْمُجْمِرُ: «صَلَّى بِنَا أَبُوْ هُرَيْرَةَ فَقَالَ: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، حَتَّى بَلَغَ {وَلَا الضَّالِّينَ}، قَالَ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وقال: رواته ثقات. وزعم ابن عساكر أن النسائي خرجه عن محمد بن عبد الحكم عن شعيب بن الليث فذكره ولم أره في كتاب النسائي فينظر، ولما ذكر البزار حديث أبي هريرة في «سننه» قال: أصح حديث في هذا الباب حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة.
(2/45)
وعند ابن ماجه بسند ضعيف: «تَرَكَ النَّاسُ التَّأْمِيْنَ وكَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: آمِينَ، يَجْهَرُ يَسْمَعُهَا أَهْلُ الصَّفِّ الأَوَّلِ فَيَرْتَجُّ بِهَا المسْجِدُ».وعند الدَّارَقُطْني بسند حسنه: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، رَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ: آمِينَ». وخرَّجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن سعيد عنه، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه بهذا اللفظ واتفقا على تأمين الإمام وتأمين المأموم وإن أخفاه الإمام، واختاره أحمد بن حنبل في جماعة من أهل الحديث بأن التأمين للمأموم لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «فَقُولُوا آمين». وعند الدَّارَقُطْني بسند ضعيف: قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ {وَلاَ الضَّالِّيْنَ} فَأَنْصِتُوْا».وفي «صحيح ابن حبان» من حديث شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: «سَمِعْتُ حُجْرًا أَبَا الْعَنْبَسِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ وَائِلِ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَلَمَّا قَالَ {وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: آمِينَ وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ».
(2/46)
ثم قال أبو حاتم: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذه السنة ليست صحيحة لمخالفة الثوري شعبة في اللفظة التي ذكرناها، فذكر حديث أبي هريرة المذكور قبل، ولما ذكر الترمذي حديث سفيان عن سلمة عن حُجْرِ عن وائل في هذا حَسَّنه، وقال في «العلل الكبير»: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث الثوري عن سلمة في هذا الباب أصح من حديث شعبة، وشعبة أخطأ في هذا الحديث في مواضع، قال عن سلمة عن حجر -أي العنبس- وإنما هو بن عنبس وكنيته أبو السكن، قال البيهقي: رواه محمد بن كثير عن الثوري فقال: عن حُجْر أبي العنبس. انتهى. قال البخاري: وزاد فيه عن علقمة بن وائل ليس فيه علقمة، وقال: خفض بها صوته، والصحيح أنه جهر بها قال: وسألت أبا زرعة فقال: حديث سفيان أصح من حديث شعبة وقد رواه العلاء بن صالح. وقال البيهقي في «المعرفة»: قد أجمع الحفاظ على أن شعبة أخطأ في ذلك وقد رواه العلاء ومحمد بن سلمة بن كُهَيْل عن سلمة بمعنى رواية سفيان، ورواه شريك%ج 1 ص 301%أيضًا عن إسحاق عن علقمة عن أبيه، وقد رواه بإسناد صحيح عن أبي الوليد الطيالسي عن شعبة، ورواه الثوري، وقد رُوِيَ من أوجه آخر. وقال في «السنن»: رواه زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عبد الجبار فقال: «مَدَّ بها صَوْتَهُ».ورواه عمار بن رُزَيق عن أبي إسحاق عنه فقال: «وَرَفَعَ بها صَوْتَهُ».ورواه أبو بكر النهشلي عن أبي إسحاق عن عبد الله اليحصبي عن وائل: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حِيْنَ قَالَ: وَلاَ الضَّالِّيْنَ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِيْ آمِيْنَ». وعاب ابن القطان على أبي محمد رضاه بقول الترمذي في حديث سفيان حسنٌ وعدم بيان المانع من صحته، وقال: وهذا التعليق فيه أمور: أحدها: اختلاف شعبة وسفيان. الثاني: حُجْر لا تعرف حاله.
(2/47)
الثالث: دخول علقمة بين حجر ووائل ولما ذكر الدَّارَقُطْني رواية سفيان صححها، كأنه عرف من حال حجر الثقة ولم يره منقطعًا بزيادة شعبة علقمة في الوسط، وفي ذلك نظرٌ، والاضطراب في المتن علة مضعفةٌ، فالحديث لَأن يقال فيه ضعيف أقرب منه إلى أن يقال حسنٌ. انتهى كلامه. وفيه نظرٌ في مواضع: الأول: حجر ليس مجهول الحال، لأنه فيمن ذكره أبو القاسم البغوي وأبو الفرج البغدادي وابن الأثير وغيرهم في جملة الصحابة ولئن نزلناه عن رتبة الصحابة إلى التابعين فقد وجدنا أثنوا عليه ووثقوه منهم أبو بكر الخطيب البغدادي -قال: صار مع علي إلى النهروان- وابن الأثير وغيرهم في جملة وورد المدائن في صحبته وهو ثقة احتج بحديثه غير واحد من الأئمة، وذكره ابن حبان وابن خَلْفُون في كتاب «الثقات»، وقال يحيى بن معين: كوفي ثقة مشهور، وقال أبو القاسم بن يحيى بن علي عُرِفَ بالطَّحَّان المصري في كتابه «المختلف والمؤتلف»: هو حُجْرُ بن العَنْبَس بن سعيد بن كثير، وأما عينه فروى عنه سلمة بن كهيل وموسى بن قيس الحضرمي والمغيرة ابن أبي الحر الكندري. الثاني: عينه الحديث بدخول علقمة بينهما وليس بعيب، لأنه سمعه أولًا من علقمة بنزول ثم رواه عن وائل بعلوٍّ، بَيَّن ذلك الكجي في «سننه الكبير» البيهقي. الثالث: إغفاله اضطرابًا لم يذكره وهو قول الأثرم اضطرب شعبة في هذا الحديث، فقال مرة عن سلمة عن حجر عن وائل، ومرة عن سلمة عن حجر عن علقمة أو عن وائل مرفوعًا إنه كان يجهر بها، ورُوِيَ ذلك عن وائل، ورواه سفيان فلم يضطرب في إسناده ولا في الكلام قال عن سلمة عن حجر عن وائل مرفوعًا: إنه كان يجهر بها، ورُويَ ذلك من وجه آخر: حَدَّثَنا أبو عبد الله، حَدَّثَنا أبو بكر بن عياش، حَدَّثَنا أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه فذكره، ثم قال: فقد صح الجهر بالتأمين %ج 1 ص 302%من وجوه ولم يصح فيه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ شيء غيره.
(2/48)
وعند ابن ماجه بسند صحيح عن عائشة: قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ». ولفظه عند البيهقي: «وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإمامِ آمين».وعند ابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعًا: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى آمِينَ، فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينَ».وعند أبي داود عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ بِلَالٍ، أنَّهُ قَالَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الضياء في «الأحكام»: قيل إن أبا عثمان لم يدرك بلالًا، وقال أبو حاتم الرازي: رَفْعُه خطأ، ورواه الثقات عن عاصم عن أبي عثمان مرسلًا، وقال البيهقي: وقيل عن أبي عثمان عن سلمان قال: قال بلال وهو ضعيف ليس بشيء، وعند أبي عبد الله الترمذي في كتابه «نوادر الأصول»: حَدَّثَنا عبد الوارث بن عبد الصمد عن أبيه، حَدَّثَنا زَرْبِي مؤذن مسجد هشام بن حسان، حَدَّثَنا أنس قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إنَّ اللهَ أَعْطَى ثَلاَثًا لمْ يُعْطِهَا أَحَدًا قَبْلَهُمْ: السَّلاَمُ، وَصُفُوْفُ المَلاَئِكَةِ، وَآمِيْنَ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مُوْسَى وَهَارُوْنَ صلَّى الله عليهما وسلم» قال أبو عبد الله: معناه أنَّ موسى دعا وأمَّنَ هارون فقال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89].
(2/49)
وفي «التهذيب» للطبري: حَدَّثَنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا المطلب عن زياد عن ابن أبي ليلى عن عدي بن أبي ثابت وربما قال رجل من الأنصار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان إِذَا قَالَ {وَلاَ الضَّالِّيْنَ} قَالَ: آمِيْنَ وَمَدَّ بِهِا صَوْتَهُ» قال: وقد علل هذا الحديث بأن عديًّا ممن يحب البت في نقله، وراويه عنه ابن أبي ليلى وهو ممن لا يحتج به، وأيضًا قال المعروف عن علي العمل بخلافه، ولو صح عنه لم يكن مخالفَهُ إلى غيره، وعند البيهقي بسند صحيح الظاهر لكنْ أبو عمر بن عبد البر قال ليس بالقائم، وما أدري ما الذي أنكر منه فينظر فإن لم يُبَيِّنه عن أبي زهير النميري: سَمِعَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا يُلِحُّ فِي المسْأَلَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَوْجَبَ إِنْ خَتَمَ» بِأَيِّ شَيْءٍ يَخْتِمُ؟ قَالَ: «بِآمِينَ، فَإِنَّهُ إِنْ خَتَمَ بِآمِينَ فَقَدْ أَوْجَبَ». وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي موسى يرفعه: «وَإِذَا قَالَ: -يَعْنِي الإِمَامُ- {وَلاَ الضَّالِّيْنَ} فَقُوْلُوْا آمِيْنَ يُحِبَّكُمُ اللهُ تَعَالَى». وعند ابن ماجه من حديث حُجَيَّةَ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَالَ {وَلاَ الضَّالِّيْنَ} قَالَ: آمِيْنَ». قال البزار في كتاب «السنن»: هذا حديث لم يثبت من جهة النقل. وفي «المعرفة»: لأبي بكر عن أم الحصين عن أمه أنها صلت خلف النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فسمعته يقول: «آمين» وهي في صف النساء. وروينا%ج 1 ص 303%في كتاب «الصلاة» لِأَبِي نُعَيْمٍ عن إبراهيم قال: كان يستحب إذا قال الإمام {ولا الضالين} أن يقول الرجل آمين. وعن عكرمة: كنا نكره إذا قال الإمام {ولا الضالين} أن يسبقه بآمين.
(2/50)
وعن أبي إسحاق أن رجلًا ابن جبل، وعند ابن أبي شيبة أبو إسحاق عن رجل: أَنَّ مُعَاذًا كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِيْنَ} قَالَ: آمِيْنَ. وعن ابن عباس: إذا قال الإمام {ولا الضالين} فسل عكرمة مرحمة، وقل: آمين. وفي «المصنف»: قال عكرمة أدركت الناس ولهم رجة في المسجد بآمين. ذكر أبو العباس ثعلب وأبو علي الدينوري في «فَصِحَيْهِمَا» ويعقوب ابن السِّكِّيت في آخرين أن آمين بمد الألف وقصرها، وتشديد الميم خطأ، وقال ابن عديس في «المثنى»: التشديد لغة شاذة، وحكى الواحدي فيها الإمالة مع المد وتخفيف الميم، وحكى أيضًا المد والتشديد والنون مبنية على الفتح، وذكر ابن قتيبة أن بعضهم قال الأصل فيها القصر وإنما مُدَّتْ ليرتفع الصوت بالدعاء رأى ذلك ابن درستويه بقوله ليس قصر الهمزة معروفًا بالاستعمال وإنما قَصَره الشاعر ضرورة، وإن كان قصره وذلك أن البيت الذي فيه: أَمين فزاد الله ما بيننا بُعداقد روي أيضًا: فآمين زاد الله ما بيننا بُعداوهذا ممدود لا ضرورة فيه وهو المعروف، ولم يروه أحد عن الصحابة -رضي الله عنهم الذين رووا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- فقولوا أَمين بالقصر، ولكن ممدودًا وهو الأصل الصحيح. وزعم أبو علي الفارسي أنها جملة مركبة من فعل واسم معناه: استجب لي. قال ابن الأثير: لا خلاف بين أهل الإسلام أنها ليست من القرآن العظيم ولم يكتبها أحد في المصحف. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة لا يقولها الإمام إنما يقولها مَن خلْفَه، وكذا هو في «المدونة» عن مالك، وفي «العارضة» عنه: لا يؤمِّن الإمام في صلاة الجهر، وقال ابن حبيب: يؤمِّن، وقال يحيى بن بكير: هو بالخيار. قَالَ السَّفَاقُسيُّ وزعمت طائفة من المبتدعة الأفضلية فيها، وعن بعضهم أنها تفسد الصلاة. وقال ابن حزم: يقولها الإمام سنة وندبًا والمأموم فرضًا.
(2/51)
وقوله: (فَمَنْ وافقَ تَأْمِيْنُهُ تَأْمِيْنَ الملائكةِ) قال ابن حبان: أي وافقهم في الخشوع والإخلاص، وقال غيره: وافقهم في التأمين فكأنه أصح لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في استجابة الدعاء، وقيل: في لفظ الدعاء، وقيل: الملائكة هؤلاء هم الحفظة، وفي كتاب ابنِ بَزِيزَةَ: المتعاقبون، قال: ويجهر بها المأموم عند أحمد وإسحاق وداود، وقال جماعة: يخفيها وهو قول أبي حنيفة والكوفيين وأحد قولي مالك%ج 1 ص 304%والشافعي في الجديد، وفي القديم يجهر, وعن حسين عكسه، قال الثوري: وهو غلط ولعله من الناسخ. قال ابن الأثير: لو قال آمين رب العالمين وغير ذلك من ذكر الله تعالى كان حسنًا. وقوله: (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ منْ ذَنْبِهِ) قال ابنُ بَزِيزَةَ: أشار إلى الصغائر وما لا يكاد ينفك عنه في الغالب من اللمم. وقال الخطابي: قوله: أَمِّنُوْا يريد لمن قَرُبَ منه، لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض منه بالقراءة فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه. وفي «التمهيد» عن عمر بن الخطاب - من وجوه ليست بالقائمة - أن الإمام يخفيها. وفي «شرح الهداية»: هو دعاء، والسنة فيه الإخفاء، وفي قول الزهري: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «آمين»، قَالَ السَّفَاقُسيُّ: هذا مرسل ولم يسنده، ولو أسنده لم يكن فيه دليل للمعلق به، لأنه لم يقل إنه كان يقول في صلاة الجهر ولعله قاله فيما صلَّى سرًّا أو فذًّا. فإن قيل: أين مناسبة الحديث للترجمة؟.قيل: إنه لما كان الإمام يجهر بها ولولا ذلك لما سمعه المأمومون، وكانوا مأمورين باتباعه في فعله وجب عليهم الجهر كما جهر الإمام والله تعالى أعلم. (بَابُ إِذَا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ)
(2/52)
783 - حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا هَمَّامٌ، عَنِ الأَعْلَمِ وَهُوَ زِيَادٌ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: «زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ». [خ 783] في كتاب النسائي عن الأعلم قال: حَدَّثَنا الحسن أن أبا بكرة حدثه به، وعنده أبي داود: فَرَكَعَ دونَ الصفِّ ثم مشى إلى الصفِّ لما قضى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلاته قال: «أَيُّكُمُ الذي ركعَ دونَ الصَّفِّ» فقال أبو بكرة: أنا. قَالَ السَّفَاقُسيُّ عن الشافعي: يعني: لا تركع دون الصف، وقيل: لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيًا يحفزك في النفس، ذكره أبو بكرة: قال جئت ورسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ راكع وقد حفزني النفس الحديثَ. رواه حماد بن سلمة عن الأعلم، وقيل: لا تعد إلى الإبطاء. ورُوِيَ عن ابن مسعود وزيد بن ثابت أنهما فعلا ذلك ركعا دون الصف ومشيَا إلى الصف ركوعًا، وفعله عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وأبو سلمة وعطاء، وقال مالك والليث: لا بأس بذلك إذا كان قريبًا قدر ما يلحق، وحدُّ القرب فيما حكاه القاضي إسماعيل عن مالك أن يصل إلى الصف قبل سجود الإمام، وقيل: يَدبُّ قدر ما بين الفرجتين، وفي «الغَنِيَّة»: ثلاثة صفوف، وفي «الأوسط» من حديث عطاء بن الزبير (قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا%ج 1 ص 305%دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ رُكُوعٌ فَلْيَرْكَعْ حِينَ يَدْخُلُ، ثُمَّ يَدُبَّ رَاكِعًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي الصَّفِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ السُّنَّةُ» قالَ عطاء: ورأيته يصنع ذلك، قال: ولم يروه عن ابن جريج -يعني عن عطاء- إلا ابن وهب تفرد حرملة، ولا يُرْوَى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد.
(2/53)
وفي «المصنف» بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: «خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ مِنْ دَارِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الْمَسْجِدَ رَكَعَ الْإِمَامُ، فَكَبَّرَ عَبْدُ اللهِ، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْتُ مَعَهُ، ثُمَّ مَشَيْنَا إِلَى الصَّفِّ رَاكِعَيْنِ، حَتَّى رَفَعَ الْقَوْمُ رُؤوسَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى الْإِمَامُ الصَّلَاةَ قُمْتُ لأُصَلِّي فَأَخَذَ بِيَدِي عَبْدُ اللهِ فَأَجْلَسَنِي، وَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَدْرَكْتَ» وحديث أبو عبيدة لما فعله عن أبيه مثل هذا، وبسند صحيح أن أبا أمامة فعل ذلك وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وأبو سلمة وعطاء ومجاهد والحسن، وقال أبو حنيفة يكره ذلك للواحد ولا يكره للجماعة ذكره الطحاوي، قال: وأجاز أبو حنيفة ومالك والشافعي والليث صلاة المنفرد وحده دون الصف، وقال مالك: لا يجذب إليه رجلًا، وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر: إن ركع دون الصف بطلت صلاته محتجين بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «وَلَا تَعُدْ». وقال أبو هريرة عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّفِّ فَلاَ يَرْكَعْ دُوْنَ الصَّفِّ وَلاَ يُكَبِّرْ حَتَّى تَأْخُذَ مَقَامَكَ مِنَ الصَّفِّ» ذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح، ونهى عنه الحسن في رواية وكذا إبراهيم. قال الطحاوي: احتجَّ أهلُ المقالةِ الأولى بأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يأمر أبا بكرة بالإعادة فلما كان دخول أبي بكرة في الصلاة دخولًا صحيحًا كانت صلاة المصلي كلها دون الصف صحيحة.
(2/54)
(بَابُ
إِتْمَامِ التَّكْبِيرِ فِي الرُّكُوعِ) قَالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، هذا ذكره البخاري بعد هذا الباب مسندًا، قال البخاري
فيه: عن مالك بن الحويرث يعني الحديث المتقدم في الإمامة.784 - حدَّثَنَا إسْحَاقُ
الوَاسِطِيُّ، أخْبَرَنَا خَالِدٌ، عَنِ الجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي العَلاَءِ،
عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: صَلَّى مَعَ عَلِيٍّ
بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: «ذَكَّرَنَا هَذَا الرَّجُلُ صَلاَةً كُنَّا نُصَلِّيهَا
مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ
يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ». [خ 784]
وفي «سنن البزار» هذا الحديث رواه غير واحد عن مطرف عن عمران، وعن الحسن عن عمران
وهذه الأحاديث فيها أحاديثُ صحاحٌ حديث ابن مسعود وأبي هريرة وسائر الأسانيد
فحِسَانٌ، وقد رُوِيَ عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه كان لا يتم
التكبير، روى الحسن بن عمران ولا نعلم روى عنه
%ج 1 ص 306%
إلا شعبة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه به، ومعناه: أنه كان يكبر في
بعض صلاته ويترك في خفض أو رفع، على أن هذا الحديث لا يصح من جهة النقل فاستغنينا
عن التكثير في ذلك.
اختلف العلماء في تكبيرات الانتقالات فقال قوم: هي سنة، وقال ابن المنذر وبه قال
أبو بكر الصديق وعمر وجابر وقيس بن عباد والشعبي والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز
ومالك والشافعي وأبو حنيفة ونقله ابن بطال أيضًا عن عثمان وعلي وابن مسعود وابن
عمر وأبي هريرة وابن الزبير والنخعي ومكحول وأبي ثور وقال أهل الظاهر وأحمد في
رواية كلها واجبة، قال: وممن كان ينقص التكبير فيما ذكر الطبري أن أبا هريرة
سُئِلَ من أول من ترك التكبير إذا رفع رأسه وإذا وضعه؟ قال: معاوية، وعن عمر بن
عبد العزيز وابن سيرين والقاسم وسالم وابن جبير مثله.
(2/55)
وقَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: وكان ابن عمر ينقص التكبير.
وذكر أبو القاسم البلخي في كتابه «معرفة الرجال»: عن أبي عاصم عن أبي جناب قال:
شهدت عمرو بن عبيد أتى ابن سيرين فقال: يا أبا بكر لم يقل عمران حين صلى بهم فلان
فجعل يكبر كلما خفض ورفع قال: بلى، قال: فما بالك تحذف تكبيرتين، فقال: إن مروان
وأهل المدينة لا يكبرون، فقال عمرو: سبحان الله يا أبا بكر يقول عمران ذكرني هذا
صلاة النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وتقول أنت مروان وأهل المدينة لا يكبرون،
قال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام 90]، فقال عمرو: أمروان ممن
أمر الله أن يقتدى به؟! لا والله لا أجالسك أبدًا.
وقال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكبروا إذا أراد أن يسجد الثانية من كل
ركعة لم يكبر، وقال سعيد بن جبير: إنما هو شيء يُزَيِّنُ الرجل به صلاته.
وقال قوم: إنما هو إذن يحركه الإمام وليس بسنة إلا في الجماعة، فأما من صلى وحده
فلا بأس عليه ألا يكبر مستدلين بأن ابن عمر فيما ذكره أحمد بن حنبل كان إذا صلى
وحده لا يكبر، واستدل من يقول بنقص التكبير بما رواه أحمد من حديث عبد الرحمن بن
أبزى عن أبيه: أنه صلى مع النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فكان لا يتم التكبير
يعني إذا خفض وإذا رفع، قال البخاري في «تاريخه»: عن أبي داود الطيالسي هذا عندنا
باطل.
وقال أبو جعفر الطبري: راويه الحسن بن عمران وهو مجهول لا يجوز الاحتجاج به، وقد
تقدم كلام البزار فيه، قال البيهقيُّ: وقد يكون كَبَّر ولم يسمع الراوي أو يكون
%ج 1 ص 307%
تركه مرة لبيان الجواز وتأوله الكرخي على حذفه وذلك نقصانُ صفةٍ لا نقصان عدد.
(2/56)
وفي
«المصنف» عن إبراهيم: أول من نقصه زيادة، وفي «شرح الهداية»: سئل أبو حنيفة عن
التكبير فقال: أحذفه وأجزمه ومثله عن صاحبيه، واستدل من يرى مطلوبية تكبيرات الانتقالات
بما تقدم في أول الباب، وبما رواه بعد عن عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن ابن
شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع فإذا انصرف
قال: إني أشبهكم صلاة برسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقال البزار في «السنن»: ورواه غير واحد عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن
أبي هريرة. انتهى.
وسيأتي في باب يكبِّر وهو ينهض من السجدتين ما يخدش في هذه الرواية، وبقوله:
حَدَّثَنا موسى بن إسماعيل، حَدَّثَنا همام عن قتادة عن عكرمة قال: صَلَّيْتُ خلفَ
شيخٍ بمكةَ فَكَبَّرَ اثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال:
ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقال موسى: حَدَّثَنا أبان، حَدَّثَنا قتادة، حَدَّثَنا عكرمة. انتهى.
أراد البخاري تبيين سماع قتادة من عكرمة وهو يخرج في كتاب «السنن» للبزار وقال في
حديث عن قتادة ورواه أيضًا همام عن قتادة ورواه خالد الحذاء وعبد الله بن المختار
وأبو بشر عن عكرمة ولم يسند ابن المختار عن عكرمة غير هذا الحديث، وروى قتادة عن
شهر عن عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك الأشعري قال: لَأُصَلِّينَ بكمْ صلاةَ رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَكَبَّرَ ثنتين وعشرين تكبيرة. قال أبو بكر:
وهذا الحديث رواه يزيد بن ميسرة عن شهْر بن حوشب.
(2/57)
وقد
ذكر الإسماعيلي في «صحيحه» حَدَّثَنا عمران، حَدَّثَنا عبد الأعلى بن حماد والعباس
بن الوليد، حَدَّثَنا يزيد بن زريع، حَدَّثَنا قتادة أن عكرمة حدثهم فذكره، وبما
رواه النسائي من حديث واسع بن حِبَّان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقال: الله أكبر كلما وضع وكلما رفع، وبحديث ابن مسعود: كانَ
رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُكَبِّرُ في كلِّ خَفْضٍ ورفعٍ وقيامٍ
وقعودٍ. قال الترمذي: حسن صحيح.
وبحديث وهب بن كيسان عند مالك أن جابرا ً كان يعلمهم التكبير في الصلاة، فكان
يأمرنا أن نكبر كلما خفضنا ورفعنا. وموقوف أبي سعيد عند البخاري وأنس بن مالك
مرفوعًا عند النسائي، ومرسلُ علي بن حسين بن علي من عند مالك، وعلي بن أبي طالب
عند ابن أبي شيبة بنحوه.
وفي «سنن البزار» بسند صحيح عن أنس قال: كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وأبو بكر وعمر وعثمان يُتِمُّونَ التكبير.
وقال: لا نعلمه يُرْوى عن أنس إلا بهذا الإسناد، قَالَ السَّفَاقُسيُّ: واختلفوا
فيمن ترك التكبير
%ج 1 ص 308%
في الصلاة.
فقال ابن القاسم: من أسقط ثلاث تكبيرات فأكثر أو التكبير كله سوى تكبيرة الإحرام
يسجد قبل السلام، وإن لم يسجد قبل السلام سجد بعده حتى طال بطلت صلاته، وفي
«الموضحة»: وإن نسي تكبيرتين سجد قبل أن يسلم فإن لم يسجد لم تبطل صلاته، وإن ترك
تكبيرة واحدة فاختلف قوله هل عليه سجود أم لا؟. قال ابن عبد الحكم وأصبغ: ليس على
من ترك التكبير سوى السجود فإن لم يفعل حتى تباعد فلا شيء عليه، وفي «شرح
الهداية»: لا يجب السجود بترك الأذكار كالثناء والتعوذ وتكبيرات الركوع والسجود
وتسبيحاتها، وفي «شرح المهذب»: فلو ترك التكبير عمدًا أو سهوًا حتى ركع لم يأت به
لفوات محله.
(2/58)
وفي
قوله: (يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ) وخفض مُتَعَلَّقٌ لأبي حنيفة وأصحابه أنه يكبر
مع فعل الخفض والرفع سواء لا يتقدمه ولا يتأخَّره فيما ذكره الطحاوي من غير مَدٍّ،
والشافعي يقول: ينحط للركوع وهو يكبر وكذا في الرفع وشبهه، ويمدُّ التكبير إلى أن
يصلَ إلى حدِّ الراكعين، وقيل: يحرم، والقولان جائزان في جميع تكبيرات الانتقالات
والصحيح المد قاله في «شرح المهذب»: البابان اللذان بعد هذا تقدم ما فيهما.
(بَابُ وَضْعِ الأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ) وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ فِي
أَصْحَابِهِ: «أَمْكَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدَيْهِ مِنْ
رُكْبَتَيْهِ». هذا التعليق خرَّجه البخاري مسندًا في باب سنة الجلوس في التشهد
مطولًا.
790 - حدَّثَنَا أبو الوَلِيدِ، حدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ،
سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي،
فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي
أَبِي، وَقَالَ: «كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ
أَيْدِينَا عَلَى الرُّكَبِ». هذا خرَّجه الستة في كتبهم، وأبو يعفور اسمه واقد
ولقبه وَقْدَانُ الْعَبْدِيُّ الكَبِيْر. [خ 790]
(2/59)
وزعم
النووي أنه أبو يعفور الصغير عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ نِسْطَاسٍ
وكأنه غير جيدٍ، لأنَّ الصغيرَ لم أره مذكورًا في الآخرين عن مصعب ولا في أشياخ
شعبة فينظر، وقال الترمذيُّ: التطبيق منسوخ عند أهل العلم مستدلًا بهذا الحديث،
وبقول عمر المصحح عنده: «إنَّ الرُّكَبَ سُنَّتْ لكمْ فَخُذُوا بالرُّكَبِ». لا
اختلاف بينهم في ذلك إلا ما رُوِيَ عن ابن مسعود وبعض أصحابه أنهم كانوا يطبقون
وبنحوه ذكره النسائي، واستدلَّ البيهقي بحديث رواه عمرو بن مُرَّة عن حَثْمَة بن
عبد الرحمن أبي سَبْرَة الجُعْفِي قال: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَجَعَلْتُ
أُطْبِقُ كَمَا يُطْبِقُ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
المهَاجِرِيْنَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا؟ قُلْتُ: كَانَ عَبْدُ اللهِ
يَفْعَلُهُ، وَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَفْعَلُهُ، فَقَالَ:
%ج 1 ص 309%
صَدَقَ عَبْدُ اللهِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
رُبَّمَا صَنَعَ الْأَمْرَ، ثُمَّ يُحْدِثُ اللهُ لَهُ أَمْرًا آخَرَ، فَانْظُرْ
مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَاصْنَعْهُ قَالَ: فَكَانَ بَعْدُ لَا
يُطْبِقُ».
قال البيهقيُّ: وهذا الذي صار إليه موجود في وصف أبي حميد ركوع النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ.
وعند النسائي من حديث أبي مسعود بن عمرو أنه: «رَكَعَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ:
هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي».
وعند أبي داود عن رفاعة بن رافع: أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قَالَ: «وَإِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ».
(2/60)
وعند
الحاكم على شرط مسلم: لَمَّا بَلَغَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ التَّطْبِيْقُ
عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: صَدَقَ عَبْدُ اللهِ، «كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا، ثُمَّ
أُمْرِنَا بِهَذَا وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبِتَيْهِ».
وفي «الأوسط»: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذَا رَكَعَ وَضَعَ
رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» وقال ابن عمر في
حديث غريب قاله الحازمي: إنما فعله النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرةً.
وفي كتاب «الفتوح» لسيف عن عمرو بن محمد عن الشعبي عن مسروق سألت عائشة عن إطباق
ابن مسعود يديه بين ركبتيه إذا ركع فقالت: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كان يرى مِن خلفهِ كَمَا يَرَى بَيْنَ يَدَيْهِ زِيَادَةً مِنَ اللهِ
زَادَهُ إِيَّاهَا فِي حُجَّتِهِ، فَرَأَى أُنْاسًا يَصْنَعُوْنَ كَمَا كَانَ
يَصْنَعُ الرُّهْبَانُ فَحَوَّلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا عَلَيْهِ النَّاسُ
اليَوْمَ مِنْ إِطْبَاقِ الرُّكَبِ بِالأَكُفِّ وَتَفْرِيْجِ الأَصَابِعِ».
وفي «علل الخَلَّال» عن يحيى بن معين: هذان ليسا بشيء، يعني حديث ابن عمر هذا
وحديث ابن سيرين أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ركع فطبق، وقال الطحاوي:
رأينا وضع اليدين على الركبتين فيهما تفريقهما، والسنة جاءت بالتجافي في الركوع،
وأجمع المسلمون على ذلك وكان ذلك تفريق الأعضاء، وكان من قام إلى الصلاة أُمِرَ
بأن يُزَاوِجَ بين قدميه، وقد رُوِيَ ذلك عن ابن مسعود راوي التطبيق الذي هو
التقاء اليدين، فلما رأينا تفريق الأعضاء أولى من التزاق بعضها إلى بعض، واختلفوا
في إلصاقها وتفريقها في الركوع كان النظر في ذلك أن يكون ما اختلفوا فيه معطوفًا
على ما أجمعوا.
(بَابُ إِذَا لَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ)
(2/61)
791
- حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ
زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ
وَالسُّجُودَ، قَالَ: «مَا صَلَّيْتَ وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ
الَّتِي فَطَرَ اللهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَيها». وفي حديث
أبي وائل: «علَى غَيْرِ سُنَّةِ محمد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ». وعند النسائي:
«مُنْذُ كَمْ صَلَّيْتَ هَذِهِ الصَّلاَةَ قَالَ: مُنْذُ أَرْبَعِيْنَ عَامًا»
%ج 1 ص 310%
وفي «مستخرج أبي نعيم»: «رَأَى رَجُلًا يُخِفُّ صَلاَتَهُ ... » الحديثَ. [خ 791]
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن عائشة: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا
رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ» الحديثَ.
وعن أبي مسعود: قَالَ رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا تُجْزِئُ
صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ»
خرَّجه ابن خزيمة في «صحيحه» وكذلك ابن حِبَّان، وقال الطُّوسي والترمذيُّ: حسنٌ
صحيحٌ، وقال البيهقيُّ: إسناده صحيح، وقال الدَّارَقُطْني والبَيَّاسي في كلامه
على «المنتقى»: هذا إسناده ثابت صحيح.
وعند أبي داود: «ظهره». وعند الطبراني في «الأوسط»: «وَضَعَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَأَصَابعَهُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ وَجَافَى
بَطْنَهُ فَرَكَعَ حَتَّى إِذَا اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ» الحديثَ.
(2/62)
وفي
لفظ: «كَانَ إِذَا رَكَعَ عَدَلَ ظَهْرَهُ حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ مَاءٌ
رَكَدَ». وعن علي بن شيبان وَكَانَ مِنَ الوَفْدِ لَمَحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ رَجُلًا، لَا يُقِيمُ صَلَاتَهُ
-يَعْنِي صُلْبَهُ- فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَقَالَ لَمَّا قَضَى
الصَّلَاةَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُقِيمُ
صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ». خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في
«صحيحيهما». وعن وابصة: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُصَلِّي، فَكَانَ إِذَا رَكَعَ سَوَّى ظَهْرَهُ، حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ
الْمَاءُ لَاسْتَقَرَّ». خرَّجه ابن ماجه بسندٍ فيه ضعف، وتقدم حديث علي بن يحيى
بن خلاد عن عمر.
وعن طلحة السُّحَيْمي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «لا ينظرُ
اللهُ إِلَى صَلَاةِ عبدٍ لا يقيمُ صُلْبَهُ في ركوعِهِ وسجودِهِ» ذكره أبو حاتم
الرازي في «العلل».
وعن أبي هريرة يرفعه: «لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى صَلَاةِ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ
صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ». ذكره أحمد في «مسنده» بسند لا بأس به. وعن
أبي قتادة يرفعه: «أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ،
قَالُوا وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا
سُجُودَهَا». ذكره الطبراني في «الأوسط» بسند جيد.
(2/63)
وعن
خالد بن الوليد وعمرو بن العاصي وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان مرفوعًا:
«إِنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يَرْكَعُ وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ
كَالْجَائِعِ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مرةً أو مَرَّتَيْنِ فمَا تُغْنِيَانِ عَنْهُ
فأَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ» ذكره ابن خزيمة وصححه، وعن جابر بن عبد الله
قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا
يُقِيمُ الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ». قال البيهقيُّ: تفرد به
يحيى بن بُكَيْر.
وعن بلال: أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجْلًا يُصَلِّيْ لَا يُتِمُّ الرُكُوعَ وَلَا
السُجُودَ فَقَالَ: «لَوْ مَاتَ هَذَا مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ». قال الطبراني: لم يروه عن مُفَضَّلِ بن مَهْلَهَل
-يعني عن بيان عن قيس عنه- إلا يحيى بن آدم.
وعن مُغَفَّلٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَسْرَقُ النَّاسِ
مَنْ سَرَقَ مِنْ صَلَاتَهُ» قِيلَ: وَكَيْفَ يَسْرِقُ؟ قَالَ: «لَا يُتِمُّ
رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» قال: ولم يروه عن عبد الله إلا الحسن ولا عن الحسن
إلا عوف
%ج 1 ص 311%
ولا عن عوف إلا عثمان بن الهيثم تفرد به زيد بن الحُرَيْش.
وعن أنس قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَرَأَى رَجُلًا لاَ
يُتِمُّ رُكُوْعَهُ وَلاَ سُجُوْدَهُ فَقَالَ: لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ رَجُلٍ لاَ
يُتِمُّ الرُّكُوْعَ وَالسُّجُوْدَ». وقال: لم يروه عن الربيع بن أنس يعني عن أنس
إلا أبو جعفر الرازي ولا عنه إلا يحيى بن أبي بُكَيْر.
(2/64)
وفي
كتاب «الحدائق» لأبي الفرج بن الجوزي في حديث عمر بن الخطاب عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «مَا مِنْ مُصَلٍّ إِلاَّ وَمَلَكٌ عَنْ يَمِيْنِهِ،
وَمَلَكٌ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِنْ أَتَمَّهَا عَرَجَا بِهَا وَإِنْ لَم يُتِمَّهَا
ضَرَبَا بِهَا وَجْهَهُ».
وفي «شرح الهداية»: قال الثوري والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن وهب وداود:
الطمأنينة فرض، وقال أبو يوسف: الفرض المكث مقدار تسبيحة واحدة، وقال أبو حنيفة:
يكفيه في الركوع أدنى انحناء ولا تجب الطمأنينة في شيء من هذه الأركان واحتج بقوله
تعالى: {وَارْكَعُوْا وَاسْجُدُوْا} وفي تخريج الجرجاني: الطمأنينة في الركوع
والقومة والسجود والجلسة بين السجدتين عند أبي حنيفة ومحمد سنة.
وفي تخريج الكرخي: واجبة يجب سجود السهو بتركها، وفي «الجواهر»: لو لم يرفع في
ركوعه وجبت الإعادة، في رواية ابن القاسم ولم تجب في رواية علي بن زياد، ولابن
القاسم فيمن رفع من الركوع والسجود ولم يعتدل يجزئه ويستغفر الله تعالى ولا يعود،
ولأشهب: لا تجزئه، وقَالَ السَّفَاقُسيُّ: إنما خص الركوع والسجود، لأن الإخلاص
غالبًا يظهر فيهما.
وأما (الفِطْرَةُ): بالكسر فهي الجِبَلَّة التي خلق الله الخلق عليها، وقيل:
الفطرةُ الإسلام ذكره القزَّاز في «مثلثه».
(2/65)
زاد
في «الجامع»: قال قوم كان هذا قبل أن تنزل الفرائض وتحد الحدود، لأنه لو كان يولد
على الإسلام لم يجز أن يتوارث المشركون مع أولادهم إذا كانوا صغارًا، وقيل: معنى
الحديث الخصوص، والوجه أن الفطرة الإقرار به، وفي «المحكم»: الفطرة ما فطر الله
عليه الخلق من المعرفة، وفي «مجمع الغرائب»: قال عبد الله بن المبارك أي على
ابتداء الخلقة التي علمها الله، وقيل: على الخلقة التي فطر عليها في الرحم من
سعادة أو شقاوة، وقيل: على الوقت الذي أخرج الذرية من صلب آدم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وقال الخطابي: الفطرة هنا الدين أو الملة، وإنما أراد حذيفة تَبْكِيْتَه
وتوبيخه على فعله ليرتدع.
باب استواء الظهر في الركوع وتعليقه تقدم.
وفي بعض النسخ: (بَابُ حَدِّ إِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ
وَالطُّمَأْنِينَةِ)
792 - حَدَّثَنا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي
الحَكَمُ، عَنِ ابنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: «كَانَ رُكُوعُ رسولِ
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَسُجُودُهُ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَإِذَا
رَفَعَ رَأْسَهُ
%ج 1 ص 312%
مِنَ الرُّكُوعِ، مَا خَلاَ القِيَامَ وَالقُعُودَ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ». [خ
792]
(2/66)
وفي
بعضها هذا الحديث مذكور في الأول، ولفظه في «سنن البزار»: «كانَ إذا ركعَ لَمْ
يَحْنِ ظَهْرَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ». وقال: لا نعلمه يُرْوَى عن البراء إلا من
هذا الوجه ولم يروه عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق إلا على يزيد الصُّدَائي
ولم نسمعه إلا من ابنه الحسين عنه، وروى في هذا الباب عن ابن عباس وابن عمر
وأُبَيٍّ، وفي لفظ في حديث البراء: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَسْجُدُ بينَ كَفَّيْهِ». وقال: لا نعلمه يروي عن أبي إسحاق عن البراء إلا ابن
أرطأة عن عبد الجبار عن أبيه عن أبيه عن وائل: «أَنَّهُ كانَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يضعُ يَدَيْهِ حَذْوَ أُذُنَيْهِ إذا سجدَ». قال: ورواه ابن أرطأة عن عبد
الجبار عن أبيه، قال ابن المنير: الحديث لا يطابق الترجمة، لأن المذكور فيها
الاستواء والاعتدال والحديث إنما فيه تساوي الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين
اللَّهمَّ إلا يأخذه من جهة أن الْمُتَأَنِّي الْمُطْمَئِنَّ في غالب الحال
يستقرُّ كل عضو منه مكانه فيلزم الاعتدال.
وعند البزار في كتاب «السنن» من حديث سعيد بن عبد الجبار بن وائل بن حجر عن أبيه
عن أمه عن وائل: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كانَ إذا ركعَ لم
يَحْنِ رأْسَهُ ولم يُصَوِّبْهُ حَتَّى لو صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ ماءٌ
لاسْتَقَرَّ».
(2/67)
قال
أبو بكر: وهذا الحديث لا نعلمه يُرْوَى عن وائل إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد،
قال القشيري: نسب بعضهم ذكر القيام إلى الوهم، قال: وهو بعيدٌ عندنا، لأن توهيم
الراوي الثقة على خلاف الأصل لا سيما إذا لم يُدْلِ بدليل قوي لا يمكن الجمع بينه
وبين الزيادة، وليس هذا من باب العموم والخصوص حتى يُحْمَل العام على الخاص فيما
عدا القيام فإنه قد صرح في حديث البراء بذكر القيام، ويمكن الجمع بينهما وذلك أن
يكون فعله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في ذلك كان مختلفًا، فتارة يستوي الجمع
وتارة يستوي ما عدا القيام والقعود، قال: وليس في هذا إلا أحد أمرين إما الخروج
عما يقتضيه لفظه كان من المداومة أو الأكثرية، وإما أن يقال الحديث واحد اختلف
رواته فيقتضي ذلك التعارض، ولعلَّ هذا هو السبب الذي دعا من ذكرنا عنه أنه نسب تلك
الرواية إلى الوهم، قال: واتحاد الرواية أقوى من الأول من وقوع التعارض وإن احتمل
غير ذلك في الطريقة الفقهية، ولا يقال إذا وقع التعارض فالذي أثبت التطويل في
القيام لا يعارضه من نفاه، وتكلم الفقهاء في الأركان الطويلة والقصيرة واختلفوا في
الرفع من الركوع هل هو ركن طويل أو قصير؟ ورجح أصحاب الشافعي أنه ركن قصيرٌ،
وفائدة الخلاف فيه أن تطويله يقطع الموالاة الواجبة في الصلاة، ومن هذا قال بعض
الشافعية إنه إذا طوله بطلت صلاته، وقالَ بعضهم: لا تبطل حتى ينقل إليه ركنًا
كقراءة الفاتحة
%ج 1 ص 313%
والتشهد، وهذا الحديث يدل على أن الرفع من الركوع ركن طويل وهذا الذي ذكر من
استواء الصلاة ذهب بعضهم إلى أن الفعل المتأخر بعد ذلك التطويل قد ورد في بعض
الأحاديث يعني عن جابر بن سمرة وكانت صلاته بعد ذلك تخفيفًا.
(2/68)
وقوله:
(قَرِيْبًا مِنَ السَّوَاءِ) يدل على أنَّ بعضها كان فيه طول يسير على بعض وذلك في
القيام ولعله أيضًا في التشهد، وقال القرطبي: وهذا الحديث يدل على أن بعض الأركان
أطول من بعض إلا أنها غير متباعدة إلا في القيام فإنه كان يطوله، والباب الذي بعده
تقدم في باب وجوب القراءة للإمام وللمأمومين.
(بَابُ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ)
794 - حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ:
«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ
وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي»
[خ 794]
وفي موضع آخر: «يَتَأَوَّلُ القرآنَ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُكْثِرُ
أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ
وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ
الَّتِي أَحْدَثْتَهَا تَقُولُهَا؟ قَالَ: جُعِلَتْ لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي
إِذَا رَأَيْتُهَا قُلْتُهَا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِ
السُّورَةِ».
وفي لفظ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مُنْذُ نَزَلَ
عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} يُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا دَعَا،
أَوْ قَالَ: سُبْحَانَكَ رَبِّي وَبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي».
(2/69)
وفي
لفظ: «كَانَ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ أَسْتَغْفِرُ
اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، إنَّكَ تُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ؟
فَقَالَ: إنَّه خَبَّرَنِي رَبِّي عَزَّ وجلَّ أَنِّي سَأَرَى عَلَامَةً فِي
أُمَّتِي، فَإِذَا رَأَيْتُهَا أَكْثَرْتُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ
أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَدْ رَأَيْتُهَا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ
اللهِ أَفْوَاجًا}».
وفي لفظٍ: «رَأَيْتُهُ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَبُّ
الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ».
وفي لفظ: «رَأَيْتُهُ يَقُولُ وهو رَاكِعٌ أوْ سَاجِدٌ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ».
وفي لفظ: «سَمِعْتُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُوْلُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ
مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي
ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ».
وفي «سنن البزار»: «كانَ يقولُ في سجودِهِ -يعني صلاةَ الليلِ- سَجَدَ وَجْهِي
للذي خَلَقَهُ فَشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بحولِهِ وقوتِهِ». وقال: لا نعلمه
يُرْوَى عن عائشة إلا من هذا الوجه، وعند الطبري في «التفسير»: حَدَّثَنا أبو
السائب، حَدَّثَنا حفص، حَدَّثَنا عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت:
%ج 1 ص 314%
(2/70)
«كَانَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ لاَ يَقُوْمُ وَلاَ
يَقْعُدُ وَلاَ يَذْهَبُ وَلاَ يَجِيْءُ إِلاَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ
وَبِحَمْدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّكَ تُكْثِرُ مِنْ: سُبْحَانَ
اللهِ وَبِحَمْدِهِ؟ قَالَ: إِنِّي أُمِرْتُ بِهَا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ
وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ». وفي حديث أبي العالية: «لَمَّا نَزَلَتْ
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ} نُعِيَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ نَفْسُهُ فَكَانَ لاَ يَقُوْمُ مِنْ مَجْلِسٍ يَجْلِسُ فِيْهِ حَتَّى
يَقُوْلَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ».
وفي حديث عمرو بن دينار: «سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، رَبِّ اغْفِرْ لِي،
وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». وفي حديث أبي عبيدة عن
ابن مسعود: «كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ،
اللهُمَّ اغْفِرْ لِي سُبْحَانَكَ ربَّنَا وبحمدكَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنَّكَ
أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُوْرُ».
وروينا في «أسباب النزول» للواحدي من حديث ابن عباس: «لَمَّا أَقْبَلَ رَسُوْلُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ وَأَنْزَلَ اللهُ
تَعَالى عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ} قَالَ يَا عَلِيُّ وَيَا فَاطِمَةُ
قَدْ جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ
اللهِ أَفْوَاجًا فَسُبْحَانَ رَبِّيْ وَبِحَمْدِهِ وَأَسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ
كَانَ تَوَّابًا».
وفي «تفسير مقاتل»: عاش بعد نزولها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ستين يومًا, وفي
«تفسير ابن النقيب»: نزلت بمنى أيام التشريق في حجة الوداع وكذا ذكره أبو العباس
القرطبي وغيره.
(2/71)
اختلف
العلماء في سائر الأذكار في الركوع والسجود:
فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: هو سنةٌ، فلو تركه لم يأثم وصلاته صحيحة، سواء
سهوًا أو عمدًا لكن يكره تركه عمدًا، وقال إسحاق وأحمد: هو واجب، فإن تركه عمدًا
بطلت صلاته، وإن نسيه لم تبطل، زاد أحمد ويسجد للسهو، وفي رواية عنه: هو سنة.
وقال ابن حزم هو فرض فإن نسيه سجد للسهو.
وفي «شرح الطحاوي» يسبح الإمام ثلاثًا، وقيل: أربعًا ليتمكن المقتدي من الثلاث،
وعند الماوردي: أدنى الكمال ثلاث، والكمال إحدى عشرة أو تسع وأوسطه خمس، وفي «شرح
الهداية»: إن زاد على الثلاث حتى ينتهي إلى عشر فهو أفضل عند الإمام وعندهما إلى
سبع، وعن بعض الحنابلة: الكمال أن يسبح مثل قيامه، وعند الشافعي: عشر وهو منقول عن
عمر بن الخطاب، وروى أبو داود من حديث أنس قال: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ
بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلَاةً بهِ مِنْ
هَذَا الْفَتَى يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عبد العَزِيزِ قَالَ: فَحَزَرْنَا فِي
رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ». وفي سنده مقال، وقد ورد في التسبيح المقول في
الركوع والسجود أحاديث منها: ما رواه مسلم عن حذيفة: «صَلَّيْتُ مع النبيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» فذكره وفيه: «فركعَ فجعلَ يقولُ: سبحانَ ربيَ الأعلى».
زاد ابن ماجه
%ج 1 ص 315%
بسند ضعيف: «ثلاثًا ثلاثًا».
وعند الحاكم: «يَقُوْلُ فِي رُكُوْعِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَصَلَّى
اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ».
(2/72)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ: عن عليٍّ عن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَذَكَرَ صَلاَتَهُ
قَالَ: «وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ
أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَعَصَبِي، وَإِذَا
سَجَدَ قَالَ: لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي
لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ». وروى النسائي نحوه عن جابر وابن سلمة بسند حسن.
وعن ابن عباس: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُوْنَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ فِي رُكُوْعِهِ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» وَفِي
سُجُوْدِهِ رواه أحمد في «مسنده».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ السِّتَارَةَ
وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا
فِيهِ الرَّبَّ تعالى، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ،
فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ».
وقال الميموني عن أبي عبد الله: حديث ابن عباس -يعني هذا- ليس له ذاك الإسناد،
ولفظه عند الحاكم وصحح سنده: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَعَافِنِي
وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي». ولَمَّا رواه ابن ماجه بَيَّن أنه في صلاة الليل. وقال
البزار في «السنن»: هذا الكلام -يعني «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ
الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ
أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» - لا نعلم رواه إلا عليٌّ وابن عباس، وحديث ابن عباس
أصح.
(2/73)
وحديث
علي ولفظه في «سنن البزار» مرفوعًا: «إِذَا رَكَعَ أَحَدَكُمْ فَلْيَقُلْ فِي
رُكُوْعِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظَيْمِ ثَلاَثًا وذلكَ أدْناهُ، وإذا سَجَدَ
فَلْيَقُلْ فِي سُجُوْدِهِ سُبحانَ رَبِّيَ الأعْلَى ثلاثًا وذلكَ أدْناهُ». ثم
قال إسحاق بن يزيد راويه عن عون لا نعلم روى عنه إلا ابن أبي ذئب، وعون لم يسمع من
ابن مسعود.
وقد رُوِيَ عن أبي بَكْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَقُوْلُ فِي رُكُوْعِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظَيْمِ ثَلاَثًا، وَفِي سُجُوْدِهِ
سُبحانَ رَبِّيَ الأعْلَى ثلاثًا» رواه بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي بكرة.
وعن ابن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قال: «إذَا رَكعَ أحَدُكُمْ، فَقَال سُبحانَ ربي العَظِيم ثَلاَثَ
مرّاتٍ فقد تّم رُكُوعُهُ وذلكَ أدْناهُ، وإذا سَجَدَ فَقَالَ: سُبحانَ رَبِّيَ
الأعْلَى ثَلاَث مَرّاتٍ فقد تَمَّ سُجُودُهُ، وذلكَ أدْناهُ». قال أبو داود: هذا
مرسلٌ، عون لم يدرك عبد الله، وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، وذكره
الدَّارَقُطْني من حديث مسروق عن عبد الله قال: «منَ السُّنَّةِ أنْ يقولَ الرجلُ
في ركوعهِ سُبحانَ ربي العَظِيم وبحمدهِ، وفي سجوِدِه سُبحانَ رَبِّيَ الأعْلَى
وبحمدهِ».
وعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وعبدِ الله بْنِ أَقْرَمَ: «كانَ رسولُ الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقولُ فِي رُكُوْعِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظَيْمِ
ثَلاَثًا». قال البزار في «السنن»: حديث جبير لم يصح، وعن
%ج 1 ص 316%
(2/74)
أبي
هريرة بسند ضعيف يرفعه: «إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَسَبَّحَ للهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
فَإِنَّهُ يُسَبِّحُ لِلهِ مِنْ جَسَدِهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثَلَاثُمئة
عَظْمٍ، وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثَلَاثُمئة عِرْقٍ». وعن عقبة بن عامر:
«لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، قَالَ
لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ،
فَلَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ لَنَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ». خرَّجه
ابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما».
وقال الحاكم: هذا حديث حجازي صحيح الإسناد وقد اتفقا على الاحتجاج برواته غير إياس
بن عامر وهو مستقيم الأمر، ولَمَّا خرجه أبو داود بزيادة: «كَانَ إِذَا رَكَعَ
قَالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظَيْمِ وَبِحَمْدِهِ ثَلاَثًا، وإذا سجدَ قالَ
سُبحانَ رَبِّيَ الأعْلَى ثلاثًا» وقال: وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة.
وفي «سنن البزار» قال أبو بكر: وهذا الحديث بهذا اللفظ -يعني اجْعَلُوهَا فِي
رُكُوعِكُمْ- لا نعلم رواه إلا عقبة، ولا نعلم له إسنادًا عن عقبة غير هذا
الإسناد، ولا نعلم روى عن إياس بن عامر إلا موسى بن أيوب، وموسى روى عنه ابن وهب
وعبد الله بن يزيد.
وعند ابن خزيمة عن أبي هريرة: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
كَانَ يَقُوْلُ فِي سُجُودِهِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ،
وَجلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ».
وعن عوف بن مالك من عند أبي داود بسند صحيح ووصف صلاته صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وفيه: «يَقُوْلُ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ
وَالْمَلَكُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، وَقَالَ فِي سُجُوْدِهِ مِثْلَ
ذَلِكَ».
(2/75)
وزعم
البيهقي أن الطحاويَّ ادَّعى نسخ الأحاديث بحديث عقبة، قال: يجوز أن يكون {سَبِّحِ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] أنزلت عليه بعد ذلك قبل وفاته، قال: ولم
نعلم أن حديث ابن عباس صدر منه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ غداة يوم الاثنين
والناس خلف أبي بكر في صلاة الصبح وهو اليوم الذي توفي فيه صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وروينا في الحديث الثابت عن النعمان بن بشير أن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «كانَ يقرأُ في العيد والجمعة بِـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ}». وفي هذا دلالة أن نزول {سَبِّحْ} كان قبل ذلك
بزمان كثير.
وروينا عن الحسن البصري وعكرمة وغيرهما أنها نزلت بمكة شرفها الله تعالى.
وعند أبي داود بسند صحيح عن السعدي واسمه عبد الله فيما ذكر ابن حبان وابن أبي
عاصم في «كتاب الصحابة» عن أبيه أو عمه: «رَمَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ، فَكَانَ يَتَمَكَّنُ فِي رُكُوْعِهِ وَسُجُوْدِهِ قَدْر
مَا يَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ثَلَاثًا».
وأما بين السجدتين فليس عند الحنفية فيه ذكر مسنون، قالوا: والذي رويَ في ذلك
محمول على التهجد وأهل الظاهر يقولون: إن تعمد تركه بطلت صلاته.
(بابُ: القراءةِ في الرُّكُوْعِ والسُّجُوْدِ)
هذا الباب في بعض نسخ البخاري ساقطٌ، وفي بعضها ثابتٌ من غير أن يذكر فيه حديثًا
وكأنه على عادة المصنفين يذكر فيه شيئًا لما في ذهنه أو لما يتوقعه فلم يتهيأ له
سَدُّه بما يناسب شرطه وذلك أن حديث عليٍّ: «نَهَانِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ لَا
أَقُولُ نَهَاكُمْ». وحديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: «أَلَا إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا» على شرط مسلم
لا على شرطه.
(2/76)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: اتفق فقهاء الأمصار على القول بهذا، وأجازه بعضهم.
قال ابن سحنون: سمعت سليمان بن ربيعة وهو ساجد يقول {بسم الله الرحمن الرحيم} ما
لو شاء رجل يذهب إلى أهله يتوضأ ثم يجيء وهو ساجد، وقال عطاء: رأيت ابن عمر يقرأ
وهو راكع في المكتوبة، قال: وأجازه الربيع بن خُثَيْم، وقال النخعي في الرجل ينسى
الآية فيذكرها وهو راكع، قال: يقرأها وهو راكع.
وفي «الحاوي» للماوردي: من قرأ في الركوع والسجود كُرِهَ ولم تبطل صلاته، وفيه وجه
عن الخراسانيين أنها تبطل، وقال الطبري: من أجاز ذلك لعلَّ الحديث لم يبلغه أو
بلغهم فلم يروه صحيحًا ورأوا قراءة القرآن العظيم حسنة في كل حال، قال أبو جعفر:
والخبر عندنا بذلك صحيح وعليه أئمة الأمصار.
(بَابُ مَا يَقُولُ الإِمَامُ وَمَنْ خَلْفَهُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرُّكُوعِ)
795 - حَدَّثَنا آدَمُ، حدَّثَنَا ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَالَ: سَمِعَ
اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ: اللهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَكَعَ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ
يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ، قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ». [خ 795]
وفي حديث مالك عن سُميٍّ عن أبي صالح عنه: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّهُ مَنْ
وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ».
(2/77)
وفي
لفظ: «ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ
الرُّكُوْعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ». وفي حديث
أنس عند الشيخين: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ،
فَقُولُوا: اللهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» وقد تقدم، وعن أبي سعيد عِنْدَ
مُسْلِمٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ
مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْض ... » الحديثَ.
ولفظ ابن خزيمة: «وَلَكَ الحَمْدُ». ولفظ ابن ماجه من حديث ابن عَقِيْل: «إِذَا
قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللهُمَّ رَبَّنَا
لَكَ الْحَمْدُ». وعند الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ
وفيه سنة عزيزة وهو أن يقف المأموم حتى يكبر الإمام ولا يكبر معه، فذكر عن
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ:
اللهُ أَكْبَرُ، فَقُولُوا: اللهُ أَكْبَرُ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ».
(2/78)
وفي
«سنن البزار» بعد «وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ
وَالْمَجْدِ، حَقًّا مَا قَالَ العَبْدُ: كُلُّنَا لَكَ عَبْدُ، اللهُمَّ لَا
مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا رَادَّ لِمَا
قَضَيْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». قال أبو بكر: وقد روي عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أحاديث في هذا الباب، ورُوِيَ عن ابن عمر وأنس
وأبي هريرة من طرقٍ ورُوِيَ عن علي بن أبي طالب، وعن ابن أوفى عِنْدَ مُسْلِمٍ:
«كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ
الْحَمْدُ، مِلْء السَّمَاوَاتِ وَمِلْء الْأَرْضِ، وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ
شَيْءٍ بَعْدُ». وعن ابن عباس مرفوعًا: «كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرُّكُوعِ قَالَ: اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْء السَّمَاوَاتِ وَمِلْء
الْأَرْضِ». زاد الطبراني في «الأوسط»: «وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ».
وعن أبي موسى: عَلَّمَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصَّلاَةَ،
وَفِيْهِ: «وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا
لَكَ الْحَمْدُ».
(2/79)
وعن
أبي جُحَيْفَةَ عند ابن ماجه بسند فيه مجهولان: «لمَّا رَفَعَ رَسُوْلُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الصَّلاَةَ مِنْ آخِرِ الرَّكْعَةِ قَالَ: اللهُمَّ
رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْء السَّمَاوَاتِ وَمِلْء الْأَرْضِ، وَمِلْء مَا
شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ
لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَطَوَّلَ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَوْتَهُ بِالجَدِّ». وعن علي: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ
لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْء السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ومَا
بَيْنَهُمَا وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ». خرَّجه مسلم.
وعن ابن عمر ورفاعة: «إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنَ
الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». ذكرهما البخاري، وعن محمد بن
مسلمة عند النسائي: «أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ
الْحَمْدُ».
وعن جابر: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: سَمِعَ
اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ».
وعن حذيفة: «كَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ
الرُكُوْعِ قَالَ: لِرَبِّيَ الحَمْدُ».
وعن بريدة عند الدَّارَقُطْني بسند ضعيف قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «يَا بُرَيْدَةُ إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُلْ:
سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ, اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ
السَّمَاءِ والْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ بَعْدُ».
(2/80)
مذهب
أبي حنيفة حذف الواو من قوله «ولك الحمد»، وفي «المحيط»: اللَّهمَّ ربنا لك الحمد
أفضل لزيادة الثناء، وعن أبي حفص لا فرق بين قوله: (لك)، وبين قوله: (ولك)، ويقتصر
الإمام على سمع الله لمن حمده، والمأموم على ربنا لك الحمد، وعن الحلواني أن شيخَ
شيخه كان يميل إلى الجمع بين التسميع والتحميد في حق الإمام، والمقتدي لا يأتي
بالتسميع بلا خلاف، وأما المنفرد فيجمع بينهما، قال ابن المنذر: وهو قول ابن مسعود
وأبي هريرة والشعبي ومالك وأحمد والثوري والأوزاعي، وعن أحمد يجمع بين الذكرين
وكذلك الشافعي ويأتي بالواو، وعنده قال: ولو أسقطها جاز، وكان شيخنا القشيري يميل
إلى ثبوتها ويرجحه، وقال الأصمعيُّ: سألت أبا عمرو بن العلاء عن هذه الواو فقال هي
زائدة.
وفي «شرح المهذب»: هي عاطفة على محذوف أي: أطعناك ربنا أو حمدناك ولك الحمد، فلو
قال ولك الحمد، أو لك الحمد، أو اللَّهمَّ ربنا لك الحمد كان ذلك كله جائزًا، وفي
«المعرفة» للبيهقي كان عطاء يقول: يجمعهما الإمام والمأموم أحب إلي وبه قال ابن
سيرين وأبو بردة وأبو هريرة.
(بابٌ)
كذا هذا الباب في أصل سماعنا وفي غيره بغير إضافة إلى شيء، وأما ابن أبي أحدَ
عشرَ، فقال: بَابُ التَّكْبِيرِ إِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ وذكر فيه الأحاديث
المذكورة فيه فينظر.
797 - حَدَّثَنا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «لَأُقَرِّبَنَّ صَلاَةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ، وَصَلاَةِ
العِشَاءِ، وَصَلاَةِ الصُّبْحِ، بَعْدَ مَا يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الكُفَّارَ». [خ 797]
(2/81)
وفي
لفظ: «يَدْعُو لِرِجَالٍ يُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَيَقُولُ: اللهُمَّ
أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي
رَبِيعَةَ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ
عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، وَأَهْلُ
المَشْرِقِ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُضَرَ مُخَالِفُونَ لَهُ».
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ، فَقُلْتُ: أُرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ، قَالَ: فَقِيلَ: وَمَا تُرَاهُمْ
قَدْ قَدِمُوا.
وفي لفظه: «كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلاَةٍ مِنَ
المَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ،
ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ
يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ
يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ
يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا».
وفي لفظ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَانَ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ
مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي
الصَّلاَةِ كُلِّهَا». وفيه: «اللهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ، وَرِعْلًا،
وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ
تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:
128] الآية.
حكم هذا الحديث والذي بعده يأتي إن شاء الله تعالى في الوتر.
(بَابُ الطُّمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ)
(2/82)
وَقَالَ
أَبُو حُمَيْدٍ: «رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَاسْتَوَى حين
يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ». هذا منقطع من حديث يأتي عنده إن شاء الله تعالى
في باب سنة الجلوس مسندًا.
800 - حَدَّثَنا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ: «كَانَ
أَنَسٌ يَنْعَتُ لَنَا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَكَانَ
يُصَلِّي فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ
نَسِيَ» هذا تفرد به البخاري. [خ 800]
وعند الإسماعيلي: «فإذا قالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه يقومُ نَقُولَ: قَدْ
نَسِيَ» وزعم الْمِزِّيُّ أن البخاريَّ يروي هذا اللفظ عن أبي الوليد عن شعبة،
والذي رأيت هنا وفي عدة نسخ من كتاب البخاري ما بدأت به أولًا، وكذا ذكره أصحاب
الأطراف قبله وأبو نعيم في «المستخرج» فمن ظفر به فليفدناهُ.
وحديث البراء تقدم في باب استواء الظهر، رواه عن بَدل بن الْمُجَبِّر، ورواه هنا
عن أبي الوليد كلاهما عن شعبة، وزعم المزيُّ أن البخاري رواه عن بدل وعن سليمان بن
حرب عن شعبة ولم يذكر أبا الوليد الذي رواه عنه في هذا الباب وفيه نظر في موضعين:
الأول: سليمان لم أرَ له ذكرًا هنا ولا في الأول كما رأيت من أصول الصحيح لمحمد بن
إسماعيل ولا ذكره صاحبا الأطراف قبله.
الثاني إغفاله حديث أبي الوليد ولا ينبغي لثبوته فيما رأيت من النسخ والله تعالى
أعلم.
وحديث مالك بن الحويرث تقدم في مواضع ولفظه هنا: «ثمَّ رفعَ رَأْسَهُ فَأَنْصَتَ
هُنَيْئَةً».
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: ضبطه بعضهم بوصل الألف وتشديد الياء، وضبطه بعضهم بقطعها
وفتحها وتخفيف التاء من الإنصات وهو السكوت قال: والأول الوجه عندي.
(2/83)
قال
في «شرح الهداية»: الاستواء قائمًا ليس بفرض والطمأنينة بعده سنة عند أبي حنيفة
ومحمد، وقال أبو يوسف: ذلك فرض كقول الشافعي وأحمد استدلالًا بالأحاديث المتقدمة،
وفي «الجواهر» لابن شاس: لو لم يرفع من ركوعه وجبت الإعادة في رواية ابن القاسم،
ولم تجب في رواية علي بن زياد، ولابن القاسم فيمن رفع من الركوع والسجود ولم يعتدل
يجزئه ويستغفر الله تعالى ولا يعود، ولأشهب: لا يجزئه، وقال إمام الحرمين: في قلبي
شيء من وجوب الطمأنينة في الاعتدال.
(بابٌ يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ)
وَقَالَ نَافِعٌ: «كَانَ ابنُ عُمَرَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» هذا
التعليق رواه الحاكم فقال: حَدَّثَنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بطة، حَدَّثَنا
عبد الله بن محمد بن زكرياء، حَدَّثَنا مُحْرِز بن سلمة، حَدَّثَنا عبد العزيز بن
محمد بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ
رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَفْعَلُ
ذَلِكَ». وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وله مُعَارِضٌ من حديث أنس ووائل بن
حجر.
وقال الحازميُّ: هذا حديث يُعَدُّ في مفاريد عبد العزيز، قال: والمشهور عن ابن عمر
في هذا ما حَدَّثَنا أبو الحسن المقري، حَدَّثَنا الحسن بن محمد بن إسحاق،
حَدَّثَنا يوسف بن يعقوب القاضي، حَدَّثَنا سليمان بن حرب، حَدَّثَنا حماد بن زيد
عن أيوب بن نافع عن ابن عمر قال: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ،
فَإِذَا رَفَعَ فَلْيَرْفَعْهُمَا، فَإِنَّ الْيَدَيْنِ يَسْجُدَانِ كَمَا
يَسْجُدُ الْوَجْهُ».
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا محمد بن يزيد العدل، أخبرنا إبراهيم بن أبي
طالب
%ج 1 ص 321%
(2/84)
حَدَّثَنا
المؤمل بن هشام، حدَّثَنَا ابن علية، حَدَّثَنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رفعه:
«إِنَّ الْيَدَيْنِ يَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ فَإِذَا وَضَعَ
أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ، فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ، فَلْيَرْفَعْهُمَا».
انتهى.
هذا الأخير خرَّجه ابن خزيمة في «صحيحه» وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ثم
قال ابن خزيمة: ذِكْرُ الدليل على أن الأمر بوضع اليدين عند السجود منسوخ وإن وضع
الركبتين قبل اليدين ناسخ فذكر حديثًا عن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن
كُهَيْلٍ عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد عن سعد قال: «كُنَّا نَضَعُ اليَدَيْنِ
قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ فَأُمِرْنَا الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ اليَدَيْنِ».
قال الحازمي: حديث سعد في سنده مقال ولو كان محفوظًا لدلَّ على النسخ، غير أن
المحفوظ عن مصعب عن أبيه نسخ التطبيق وكذا ذكره البيهقي وغيره، وفي «المغني»: لابن
قدامة ما يشدُّ قول ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري قال: «كُنَّا نضعُ اليَدَيْنِ
قبلَ الرُّكْبَتَيْنِ فَأُمِرْنَا بوضعِ الرُّكْبَتَيْنِ قبلِ اليدينِ».
(2/85)
وعن
وائل بن حجر: «رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ
وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ رَفَعَ
يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ». قال الحاكم: قد احتجَّ مسلم بشريك وعاصم بن كليب
ولعلَّ متوهمًا يتوهم أنه لا يعارَض حديثٌ صحيح الإسناد بإسناد صحيح، وهذا المتوهم
ينبغي أن ينظر في كتاب الصلح من كتاب مسلم حتى يرى من هذا النوع ما يمل منه، فأما
القلبُ في هذا فإنه إلى حديث ابن عمر أميل لروايات في ذلك كثيرة عن الصحابة
والتابعين، وقال البزار في «السنن»: لا نعلم رواه عن عاصم إلا شريك، ولا نعلم رواه
عن شريك إلا يزيد بن هارون، وقد روى أبو هريرة: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَجَدَ تَقَعُ يَدَاهُ إِلَى الأَرْضِ قَبْلَ
رُكْبَتَيْهِ». وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غَرِيبٌ لا نعرف أحدًا روى مثل
هذا غير شريك -يعني عن عاصم بن كليب- والعمل عليه عند أكثر أهل العلم.
وروى همام عن عاصم هذا مرسلًا لم يذكر فيه وائلًا. انتهى كلامه.
ويفهم منه أن همامًا رواه عن عاصم مشافهة كما رواه شريك وليس كذلك إنما رواه عن
شقيق أبي الليث حَدَّثَنا عاصم كذا ذكره أبو داود في «المراسيل» والحازمي وقال:
وهو المحفوظ، والبيهقي.
وقال ابن القطان: وشقيق هذا لا يعرف بغير رواية همام عنه، ولما رواه
الدَّارَقُطْني في «سننه» قال: قال عفان: هذا الحديث غريب، ورواه أيضًا من حديث
حجاج بن منهال عن همام عن محمد بن جحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه بلفظ:
«وقعتْ رُكْبَتَاهُ عَلَى الأرضِ قبلَ أن يقعَ». وقال ابن أبي داود: تفرد به يزيد
بن هارون عن شريك ولم يحدث به عاصم غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به، وقال
البيهقي: هذا حديث يُعَدُّ في أفراد
%ج 1 ص 322%
(2/86)
شريك،
وإنما تابعه همام مرسلًا كذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين وهو المحفوظ،
وقال الخطابيُّ: حديث وائل أثبت من حديث تقديم اليدين وهو أرفق بالمصلي وأحسن في
الشكل ورأي العين.
وعن أنس: «رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ انْحَطَّ
بِالتَّكْبِيرِ فَسَبَقَتْ رُكْبَتَاهُ يَدَيْهِ». قال الدَّارَقُطْني: تفرد به
العلاء بن إسماعيل العطار، وزعم النووي أن البيهقي أشار إلى ضعفه. انتهى.
الذي رأيت في كتابيه تفرد به العلاء وهذا ليس يوجب ضعفًا للحديث فينظر، وقال
الحاكم: وهو صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة وصححه ابن حزم.
وعن أبي هريرة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا
سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قبلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ
بُرُوكَ الْجَمَلِ». قال البيهقي: ورواه من حديث عبد الله بن سعيد المقبري وكذا
رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن فضيل عنه والذي يعارضه يتفرد به محمد بن عبد الله
بن الحسن، وعند الدراوردي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يرفعه: «إِذَا
سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ
قَبْلَ رُكْبَتَيْه».
وقال الترمذيُّ: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه،
وقال البخاريُّ: محمد بن عبد الله بن حسن لا يُتَابِعُ عليه ولا أدري سمع من أبي
الزناد أم لا؟.
وقال ابن أبي داود: هذه سنة تفرد بها أهل المدينة ولهم فيها إسنادان هذا أحدهما
والآخر عن عبد الله بن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهذا
قول أصحاب الحديث وضع اليدين قبل الركبتين.
(2/87)
وقال
الدَّارَقُطْني: وهذا تفرد به الدَّرَاوَرْدي عن عبيد الله بن عمر، وفي موضع آخر
تفرد به أصبغ بن الفرج عن الدراوردي، ولِمَا خرَّجه الحاكم عن ابن بطة حَدَّثَنا
عبد الله بن محمد بن زكريا، حَدَّثَنا بحر بن سلمة، حدثنا الدراوردي قال: صحيح على
شرط مسلم، ورواه البيهقي أيضًا من حديث الدراوردي بلفظ: «وليضع يديهِ عَلَى
رُكْبَتَيْهِ» ثم قال: كذا على ركبتيه فإن كان محفوظًا كان دليلًا على أنه يضع
يديه على ركبتيه عند الإهواء إلى السجود.
قال الحازميُّ: اختلف أهل العلم في هذا الباب فذهب بعضٌ إلى أن وضع اليدين قبل
الركبتين أولى، وبه قال مالك والأوزاعي والحسن، قال في «المغني»: وهي رواية عن
أحمد وبه قال ابن حزم وخالفهم في ذلك آخرون ورأوا وضع الركبتين قبل اليدين أولى،
منهم عمر بن الخطاب والنخعي ومسلم بن يسار وسفيان بن سعيد والشافعي وأحمد وأبو
حنيفة وأصحابه وإسحاق وأهل الكوفة، زاد في «المصنف»: أبا قلابة ومحمد بن سيرين،
وقال أبو إسحاق: كان أصحاب عبد الله إذا انحطوا للسجود وقعت ركبهم قبل أيديهم
وحكاه البيهقي أيضًا عن ابن مسعود وحكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الفقهاء، وحكاه
ابن بطال
%ج 1 ص 323%
عن ابن وهب قال: وهي رواية ابن شعبان عن مالك، وقال قتادة: يضع أهون ذلك عليه، وفي
الأَسْبِيجابي عن أبي حنيفة: من آداب الصلاة وضع الركبتين قبل اليدين، واليدين قبل
الجبهة، والجبهة قبل الأنف ففي الوضع يقدم الأقرب إلى الأرض وفي الرفع يقدم الأقرب
إلى السماء الوجه ثم اليدان ثم الركبتان وإن كان لابس خُفٍّ يضع يديه أولا
المتعذر.
الحديثان اللذان في الباب تقدم ذكرهما وفي حديث جحش شقه، قال المزيُّ: رواه
النسائي عن هشام بن عمار عن ابن عيينة عن الزهري. انتهى.
إنما هذا سند ابن ماجه والله تعالى أعلم.
(بَابُ فَضْلِ السُّجُودِ)
(2/88)
806 - حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تَمَارَونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَبَاركَ وتعَالى فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ ويُضْرَبُ السِّرَاطُ عَلَى ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ المَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى
(2/89)
النَّارِ
أَنْ تَأْكُلَ آثَارَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ، فَكُلُّ ابنِ
آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ
النَّارِ، قَدِ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ
كَمَا تَنْبُتُ الحبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللهُ مِنَ
القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ
أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الجَنَّةَ مُقْبِلًا بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ،
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا
وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَقُولُ: قدْ عَسَيْتُ أنْ أَفَعَلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ
تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي اللهَ مَا شَاءُ
مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا
أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الجَنَّةِ، ورَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ
يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ
اللهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العَهْدَ
%ج 1 ص 324%
(2/90)
وَالمِيثَاقَ،
أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ
أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ
لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ، لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ،
فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ
الجَنَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا، ورَأَى زَهْرَتَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ
النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ:
يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: وَيْحَكَ يَا
ابنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العَهْدَ وَالمواثيقَ،
أَلَّا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي
أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللهُ سبحانهُ وتعالى مِنْهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ
فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ
أُمْنِيَّتُهُ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: زِدْ مِنْ كَذَا، أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ
رَبُّهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: لَكَ
ذَلِكَ وَمِثْلُهُ». [خ 806]
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ
أَمْثَالِهِ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَّا قَوْلَهُ: «لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ». قَالَ
أَبُو سَعِيدٍ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: قال أبو هريرة: «وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الجَنَّةِ
دُخُوْلًا الَجَنَّةَ».
(2/91)
وفي
لفظٍ: «إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ:
تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى، وَيَتَمَنَّى، فَيَقُولُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ،
فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ».
ومن حديث ابن مسعود عند الشيخين واللفظ لمسلم يرفعه: «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ
أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا، رَجُلٌ
يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللهُ تعالى: اذْهَبْ فَادْخُلِ
الجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى، فَيَرْجِعُ
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى، فَيَقُولُ اللهُ تعالى: اذْهَبْ
فَادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا -
أَوْ: إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا- قال: فَيَقُولُ:
أَتَسْخَرُ مِنِّي -أَوْ: تَضْحَكُ مِنِّي- وَأَنْتَ المَلِكُ» قال: فَلَقَدْ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ
نَوَاجِذُهُ، فَكَانَ يَقُولُ: «ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً».
(2/92)
وفي
لفظ: «آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً،
وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا،
فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ، لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا
كثيرًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَتُرْفَعُ لَهُ
شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
فَلِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، فَيَقُولُ اللهُ تعالى:
يَا ابنَ آدَمَ، لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَ سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا، فَيَقُولُ:
لَا يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ
يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا،
ثُمَّ يُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ أخرى، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ
الشَّجَرةِ، فَيَقُولُ كَمَقَالَتِه الأولى، ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ أُخْرى عندَ
بَابُ الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ مِثْلَهُ فَإِذَا
أَدْنَاهُ مِنْهَا
%ج 1 ص 325%
سَمِعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِيهَا،
فَيَقُولُ: يَا ابنَ آدَمَ مَا يُرْضِيْنِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ
الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: أي رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ بي وَأَنْتَ
رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فقالَ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى
مَا أَشَاءُ قَادِرٌ».
(2/93)
وعند
الدَّارَقُطْني في كتاب «الرواة» عن مالك: من حديث الملك بن الحكم عن مالك عن نافع
عن ابن عمر: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّ آخِرَ مَنْ
يَدْخُلِ الجَنَّةِ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ: جُهَيْنَةَ، فَيَقُوْلُ
أَهْلُ الَجَنَّةِ عِنْدَ جُهَيْنَةَ الخَبَرُ اليَقِيْنُ سَلُوْهُ هَلْ بَقِيَ
مِنَ الخَلاَئِقِ أَحَدٌ».
وزعم السُّهَيلي: أن آخر من يدخل الجنة رجل اسمه هَنَّاد.
وفي «الحليلة» لِأَبِي نُعَيْمٍ من حديث ليث عن مجاهد عن أبي هريرة يرفعه:
«يَخْرُجُ أَهْلُ الكَبَائِرِ مِنَ النَّارِ إِلاَّ رَجُلًا وَاحِدًا يَمْكُثُ
أَلْفَ سَنَةٍ ينادي: يَا حَنَّانُ، يَا مَنَّانُ فَيَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا
فَيَخُوْضُ فِي النَّارِ فِي طَلَبِهِ سَبْعِيْنَ عَامًا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ
حَتَّى يَدُلَّهُ عَلَيْهِ رَبُّ العِزَّةِ عَزَّ وَجَلَ».
وسيأتي حديث أبي سعيد مطولًا عند البخاري.
قوله: (تَمَارَوْنَ) بتخفيف الراء، قال الخطابي: هو من الْمِرْيَة وهو الشك، وأصله
تتمارون وليس هو من المراء. قَالَ ابنُ التِّيْنِ: والذي ضُبِطَ في هذا الموضع بضم
التاء وهو خلاف قول أبي سليمان كان أصله يتمارون وهي في رواية الأَصِيلي بالفتح.
و (الطَّوَاغِيْت) قال ابن سِيْدَه: جمع طاغوت وهو ما عُبِدَ من دون الله عز وجل،
يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وزنه: فَعْلوت، وإنما هو طَغْيوت قدمت
الياء قبل الغين وهي مفتوحة وقبلها فتحة فقلبت ألفًا. انتهى.
(2/94)
يَخْدِشُ
في هذا ما في «صحيح البخاري» وغيره فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر فلو
كان كما قال أبو الحسن لما احتاج إلى تكرار ذلك، وقال القَزَّازُ: هو فاعول من
طاغوت، وأصله طاغوو، فحذفوا وجعلوا التاء كأنها عوض من المحذوف فقالوا طاغوت،
وإنما أجازوا به التذكير والتأنيث، لأن العرب تسمي الكاهن والكاهنة طاغوتًا،
وسُئِلَ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فيما رواه جابر بن عبد الله عن الطاغوت
التي كانوا يتحاكمون إليها فقال: «كَانَتْ في جُهَيْنَةَ واحدةً، وفي أَسْلَم واحدةً،
وفي كلِّ حيٍّ واحدة».
وقيل: الطاغوت الشيطان، وقيل: كلُّ معبود من حجر وغيره فهو جِبْتٌ وطاغوت، وفي
«الغريبين»: الطاغوت الصنم، وَفِي «الصِّحَاحِ»: هو كل رأس في الضلال، وفي
«المغيث»: هو الشيطان أو ما زَيَّن الشيطان لهم أن يعبدوه، وفي «تفسير الطبري»:
الطاغوت الساحر قاله أبو العالية ومحمد بن سيرين، وعن سعيد بن جبير وأبي العالية
وابن جريج هو الكاهن.
%ج 1 ص 326%
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي أنه كل طغيان طغى على الله عز وجل فَعُبِدَ
من دونه إما بقهر منه لمن عبده وإما بطاعة ممن عبده له، إنسانًا كان ذلك المعبود
أو شيطانًا أو وثنًا أو صنمًا أو كائنًا ما كان من شيء. وفي «المعاني» للزجاج
الطاغوت مَرَدَةُ أهل الكتاب.
وفي «ديوان الأدب»: تاؤه غير أصلية.
قوله: (وتَبْقَى هذهِ الأمةُ فَيْهَا مُنَافِقُوها) قال القرطبي: ظن المنافقون أن
تَسَتُّرَهم بالمؤمنين في الآخرة ينفعهم كما نفعهم في الدنيا جهلًا منهم فاختلطوا
معهم في ذلك اليوم، أو يحتمل أن يكونوا حشروا معهم لما كانوا يظهرونه من الإسلام
فَحُفِظَ ذلك عليهم حتى يميز الله الخبيث من الطيب، أو يحتمل أنه لما قيل ليتبع كل
أمة ما كانت تعبد والمنافقون لم يعبدوا شيئًا فبقوا هنالك حيارى حتى مُيِّزُوا.
وقيل: هم المطرودون عن الحوض المقول فيهم سحقًا سحقًا.
(2/95)
وقوله:
(فَيَأْتِيهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ) وفي موضع آخر في الصحيح: «فَيَأْتِيهِمُ فِي
غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ».
قال القرطبي: التسليم الذي كان عليه السلف أسلم لكن مع القطع بأن هذه الظواهر
يستحيل حملها على ظواهرها لما يعارضها من ظواهر أُخَرَ، ومنهم من يتأوَّل ذلك على
ما يليق بها على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان عارفًا بلسان العرب
وقواعد الأصول والفروع، وزعم عياض أن الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه
إتيانًا، وقيل: الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أن من غاب عن غيره لا
يمكنه رؤيته إلا بالإتيان فَعَبَّر بالإتيان عن الرؤية مجازًا، وقيل: يأتيهم بعض
ملائكته قال القاضي: وهذا الوجه عندي أشبه بالحديث، قال: ويكون هذا الملك الذي
جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة عليه، أو يكون معناه يأتيهم
في صورة لا تشبه صفات الإلهية ليختبرهم وهو آخر امتحان المؤمنين، فإذا قال لهم هذا
الملك أو هذه الصورة أنا ربكم رأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه
ليس ربهم فيستعيذون بالله تعالى منه.
وقال القرطبي: هذا مقام هائل يمتحن الله تعالى فيه عباده ليميز المحق من المبطل،
وذلك أنه لما بقي المنافقون والمراؤون مُتَلَبِّسِين بالمؤمنين المخلصين زاعمين
أنهم منهم امتحنهم الله تعالى بأنه أتاهم بصورة هائلة قالت للجميع: أنا ربكم،
فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك لما سبق لهم من معرفته به تعالى وأنه مُنَزَّهٌ عن صفات
هذه الصورة إذ سماتها سمات المحدثات فلذلك قالوا في حديث أبي سعيد: نعوذ بالله منك
لا نشرك
%ج 1 ص 327%
بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا.
(2/96)
حتى
أن بعضهم ليكاد أن ينقلب، وهذا البعض الذي همَّ بالانقلاب لم يكن لهم رسوخ العلماء
ولا ثبوت العارفين، ولعلَّ هذه الطائفة هي التي اعتقدت الحق من غير بصيرة فلذلك
كان اعتقادهم كان قابلًا للانقلاب ثم يقال بعد هذا للمؤمنين هل بينكم وبينه آية
تعرفونها؟
فيقولون: نعم، فَيُكْشَفُ عنْ ساقٍ أي: يوضح الحق ويتجلَّى لهم الأمر إذا حقَّ
ووضح وعند هذا يسجد الجميع، فمن كان مخلصًا في الدنيا صحَّ له سجوده على تمامه
وكماله، ومن كان منافقًا أو مرائيًا عاد ظهره طبقةً واحدةً كُلَّمَا رام السجود
خَرَّ على قفاه، فعلى هذا تكون الصورة التي لا يعرفونها مخلوقة، والفاء التي دخلت
عليها بمعنى الباء، ويكون معنى الكلام: أن الله تعالى يجيئهم بصورة كما في قوله
تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ
الْغَمَامِ} [البقرة: 210] أي: يظلون، ويكون معنى الإتيان هنا يحضر لهم تلك
الصورة، وأما الصورة الثانية التي يعرفون عندما يتجلَّى لهم الحق فهي صفته تعالى
التي لا يشاركه فيها شيء من الموجودات وهذا الوصف الذي كانوا عرفوه في الدنيا وهو
الْمُعَبَّرُ عنه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ولهذا قالوا:
إذا جاء ربنا عرفناه، فقيل لهم في الحديث: وكيفَ تعرفونه؟ قالوا: إنَّه لا
شَبِيْهَ له ولا نظير، ولا يستبعد إطلاق الصورة بمعنى الصفة، والمجيء والإتيان
المضاف إلى الرب جلَّ وعزَّ ثانيًا هو عبارة عن تَجَلِّيْه لهم فكأنه كان بعيدًا
فقرب أو غائبًا فحضر، وكلُّ ذلك خطابات على وجه الاستعارة جارية على المتعارف من
توسعات العرب فإنهم يُسَمُّون الشيء باسم الشيء إذا جاوره أو قاربه، والتحول
المنسوب إلى الله تعالى عبارة عن إزالة عن تلك الصورة الأولى الْمُتَعَوَّذِ منها،
فيكون قوله تحول حالًا متقدمة قبل سجودهم بمعنى وقد كان يحول أي حول تلك الصورة
وأزالها وتجلى هو بنفسه فيكون المراد بهذا الكلام أن
(2/97)
الحق
سبحانه لما تجلَّى لعباده المؤمنين أول مرة رأوه فيها لم يزل كذلك لكنهم انصرفوا
عن رؤيته عند سجودهم ثم لما فرغوا منه عادوا إلى رؤيته مرة ثانية، وعند الخطابي:
الإتيان هنا كشف الحجاب لهم حتى رأوه، والصورة تتأوَّلُ على وجهين أحدهما: أنها
بمعنى الصفة كقول القائل صورة هذا الأمر كذا وكذا، والثاني: أن المذكور من
المعبودات صور فخرج الكلام على نوع من المطابقة.
وقوله: (فِي أَدْنَى صُوْرَةٍ) يدل على أن المراد بالزيادة الصفة، لأنهم ما رأوه
قبلها فعلم أن المراد الصفة التي عرفوه بها.
وقوله: (نعوذُ بالله مِنْكَ) يؤكد ما تأوَّلْنَاه من أنه قول المنافقين، ولفظه عام
ولكن المراد خاص والرؤية تكون بمعنى العلم
%ج 1 ص 328%
قالَ تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] أي: علمنا، وعند أبي الفرج:
يأتيهم بأهوال يوم القيامة وصور الملائكة وما لم يعهدوا مثله في الدنيا فيستعيذون
من تلك الحال، ويقولون: إذا جاء ربنا أي: أتانا بما نعرفه من لطفه وهي الصورة التي
يعرفون فيكشف عن ساق، أي: عن شدة كأنه يرفع تلك الشدائد فيسجدون شكرًا.
وعندَ الآجُرِّيِّ في كتاب «التصديق»: النظر إلى الله عز وجل عن أبي موسى سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ مُثِّلَ لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا,
وَيَبْقَى أَهْلُ التَّوْحِيدِ, فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَنْتَظِرُونَ وَقَدْ
ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنَّ لَنَا رَبًّا كُنَّا نَعْبُدُهُ فِي
الدُّنْيَا لَمْ نَرَهُ قَالَ: وَتَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ؟
فَيَقُولُونَ: نَعَمْ, فَيُقَالُ لهُم: وَكَيْفَ تَعْرِفُونَهُ وَلَمْ تَرَوْهُ؟
قَالُوا: لأنَّهُ لَا شِبْهَ لَهُ فَيُكْشَفُ لَهُمُ الْحِجَابُ, فَيَنْظُرُونَ
إِلَى اللهِ تباركَ وتعالى فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا».
(2/98)
ولما
ذكره الكلاباذي من حديث ابن جدعان قال: يجوز أن يكون معنى الآية أنهم عرفوا الله
في الدنيا بقلوبهم من غير كيفية ولا تشبيه بتعريفهم له باسم نفسه، لأنهم عرفوه
بصفاتهم من حيث هم، ولكنهم عرفوه بأنه أَحْدَثَ فيهم لطائف عَرَّفهم بها نفسه
يدلُّ على هذا ما رواه عبد الله بن مسعود: «فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ تَعْبُدُوْنَ؟
قَالُوْا: نَعْبُدُ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، فَيَقُوْلُ: هَلْ
تَعْرِفُوْنَهُ؟ فَيَقُوْلُوْنَ: سُبْحَانَهُ إِذَا اعْتَرَفَ لَنَا عَرَفْنَاهُ».
قَالَ: وَكَشْفُ السَّاقِ زوال الخوف عنهم والهول الذي غَيَّبهم عن كثير من حالهم
كما غابوا عن رؤية عوراتهم إذ هم عراة.
وقوله: (ثُمَّ يُنْصَبُ الصِّرَاطُ) ذكر الصراط يأتي إن شاء الله تعالى في ذكر
البعث.
وقوله: (بَيْنَ ظَهْرَانَي جَهَنَّمَ) قال ابن قُرْقُولٍ: كذا للعذري ولغيره:
(ظَهْرَي).
قال ابن الجوزي: أي على وسطها، يقال: نزلت بين ظهريهم وظهرانَيهم -بفتح النون- أي
في وسطهم متمكنًا بينهم لا في أطرافهم.
قوله: (فَأَكُونُ أَولُ مَنْ يُجِيْزُ بأمتِهِ) بضم الياء وكسر الجيم ثم زاي بمعنى
أول من يمضي عليه ويقطعه يقال: أجزيت الوادي وجزته لغتان بمعنًى، وقال الأصمعي:
أَجَزْتُه قطعته، وجُزْته مشيت عليه، قال القرطبي: إذا كان رباعيًا معناه لا يجوز
أحد على الصراط حتى يجوز صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأمته فكأنه يجيز الناس، وفي
الثلاثي المعتل من «المحكم» جاز الموضعَ جَوْزًا وجُؤْزًا وجوازًا ومجازًا
وجَازِيةً وجاوزه جوازًا وأجازه وأجاز غيرَه، وقيل: جازَهُ سار فيه، وأجازه
خلَّفَه وقطعه، وأجازه أنفذه، قال أَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ:
%ج 1 ص 329%
ولَا يَريمون للتعريفِ موضعَهم حَتَّى يُقَالَ أَجِيزُوا آلَ صَفْوَانَا
يمدحهم بأنهم يجيزون الحاج بمعنى أنقذوهم.
(2/99)
قوله:
(وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ يومَ القِيْامَةِ إِلَّا الرُّسُل صلوات الله عليهم
وسلامه) هذا في حال الإجازة وإلا ففي يوم القيامة مواطن يتكلم الناس فيها وتجادلُ
كلُّ نفسٍ عن نفسها ويسأل بعضهم بعضًا ويتلاومون ويخاصم التَّابِعُون
الْمَتْبُوعين.
و (الكَلَالِيْبُ) جمع كَلُّوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة ذكره عياض، وفي
«الْمُحْكَمِ»: الكُلَّاب والكَلُّوب السَّفُّودُ، لأنه يعلق الشِّواء ويتخلله،
هذه عن اللِّحْياني، والكَلُوب والكُلَّاب حديدة معطوفة كالخطاف، وفي «المنتهى»
لأبي المعاني الكَلُّوبُ: المِنْشالُ، والخطاف وكذلك الكُلَّاب والجمع كلاليب. و
(السَّعْدَانُ) قال أبو حنيفة في كتاب «النبات»: واحدته سَعْدَانة، وقال أبو زياد
من الأحرار السَّعْدَانُ به ضُرِبَ المثل (مَرْعًى ولا كالسَّعْدَان) وهي غبراء
اللون حلوة يأكلها كل شيء وليست بكبيرة، ولها إذا يَبِسَت شوكة مُفَلْطَحَةٌ كأنها
درهم وهي شوكة ضعيفة، ومنابت السعدان السهول، وقيل: للسعدان حَسَكٌ كحسك القطب غير
أنه غليظ مفلطح كالفَلْكَة وبه سميت سعدانة الحلمة وهو ما استدار حولها مما خالف
لون الجسد، وفي «الْمُحْكَمِ»: عن أبي حنيفة ولم أره في كتاب «النبات» السعدان شوك
النخل، والسعدان نبت ذو أشواك فينظر، وقال المبرد: هو نبت كثير الحسك، وقال
الأخفش: لا ساق له، وفي «الجامع» للقَزَّاز: له شوك وحسك عريض.
وقوله: (لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلا اللهُ تعالى) قال القرطبي: قيدناه عن
بعض مشايخنا بضم الراء على أن يكون استفهامًا خبرًا مقدمًا، و (قدرُ) مبتدأ،
وبنصبها على أن تكون (ما) زائدةً و (قدرَ) مفعول.
(2/100)
وقوله:
(تَخْطَفُ النَّاسَ) اختار ثعلب في «الفصيح» خَطِفَ بكسر العين في الماضي وفتحها
من المضارع، وحكى غلامه والقزَّاز عنه خَطَفَ بفتح العين في الماضي وكسرها في
المضارع، قالا: والكسر أفصح، وحكاه الجوهري عن الأخفش وقال: هي قليلة رديئة لا
تكاد تعرف، قال: وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى: {يَخْطِفُ أَبْصَارَهُمْ}
[البقرة: 20] وفي «الواعي»: الخطف الأخذ بسرعة على قدر ذنوبهم.
وقوله: (يُوْبَقُ) قال ابن قُرْقُولٍ بباء موحدة عند العذري ومعناه المهلك،
وللطبري بثاء مثلثة من الوثاق.
وقوله: (يُخَرْدَلُ) بخاء معجمة ودال مهملة، وقال يعقوب: بذال معجمة، وقال ابن
قُرْقُولٍ كذا هو لكافة الرواة
%ج 1 ص 330%
وهو الصواب إلا الأَصِيلي فإنه ذكره بالجيم ومعناه الإشراف على السقوط والهلاك،
وفي «الْمُحْكَمِ»: خَرْدَلَ اللحم قطع أعضاءه وافرة، وقيل: خردل اللحم قطعَه
وفرَّقه، والذال فيه لغة، ولحم خراديل، والمخردَل المصروع، وَفِي «الصِّحَاحِ»
خردل اللحمَ أي قطَّعه صغارًا، وعند أبي عبيد الهروي: المخردل المَرْمِيُّ،
والمعنى أنه يقطعه كلاليب الصراط حتى يهوي إلى النار، وقال الليث وأبو عبيد:
خردلْتُ اللحم إذا فَصَّلْتُ أعضاءه زاد القاسم بن سلَّام: وخردَلْتُه بالدال
والذال قطعتُه وفرَّقته، وفي «مجمع الغرائب» لعبد الغافر يحتمل أن يكون مأخوذًا من
الخَردَل أي جعلت أعضاءه كالخردل، وفي «الجمهرة»: والجمع خرادل، وفي «سير ابن
إسحاق»:
أَحْيَا أَبَاهُ هَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَهْ ... يَوْمَ الْهَبَاءَاتِ وَيَوْمَ
الْيَعْمَلَهْ
تَرَى الْمُلُوكَ حولهُ مُخَرْدَلَهْ ... يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ
لَهْ
وقوله: (ثمَّ يَفْرُغُ اللهُ منَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ) قال القرطبي: أي تمم
عليهم حسابهم وكمله وفصله، لأن الله تعالى لا يشغله شيء عن شيء، وعند القرطبي كمل
خروج الموحدين من النار.
(2/101)
وقوله:
(تَأْكُلُ النَّارُ ابنَ آدَمَ إلاَّ أثَرَ السُّجُودِ) هو موضوع الترجمة وظاهره
يقتضي أنها لا تأكل الأعضاء السبعة المأمور بالسجود عليها وخالف ذلك عياض وقال:
المراد الجبهة خاصة، وكأنه اعتمد على ما في مسلم: «إِنَّ قَوْمًا يُخْرَجُونَ مِنَ
النَّارِ يَحْتَرِقُونَ فِيهَا، إِلَّا دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ».
ولقائل أن يقول: لعله أراد المرئي أو أنه أراد قومًا مخصوصين بأعيانهم إما لأنهم
أخلصوا في غسل وجوههم فقط ولم يخلصوا في الباقي، وإما لأمر غير هذا، وحديث السجود
على سبعة أعضاء وأن النار تأكل إلا آثار السجود عام والعمل بالعام أولى إلى أن
يأتي مخصصًا.
قَالَ السَّفَاقُسيُّ: وإنما تأكل النار الجلود دون غيرها قال تعالى: {كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] وهذا شأن
الكفار لا المؤمنين.
وقوله (امْتَحشُوا) بتاء مفتوحة وحاء وشين معجمة ذكره عياض عن متقني شيوخه قال:
وهو وجه الكلام وبه، ضبط الخطابي وغيره ومعناه: احترقوا، قال: ورواه بعض شيوخنا
بضم التاء وكسر الحاء، وعند الداودي امتحشوا انقبضوا واسْوَدُّوا، وفي بعض
الروايات صاروا حممًا، وفي «الْمُحْكَمِ»: الْمَحْشُ تناول من لهب يحرق الجلد
ويبدي العظم فيشيط أعاليه ولا ينضجه، وفي «الجامع»: مَحَشَتْهُ النار تمحَشُه إذا
أحرقته، وحُكِيَ أمحشته و (الْحبَّةُ) تقدم ذكرها في كتاب «الإيمان».
و (مَاءُ الحَيَاةِ) قال القرطبي: هو الذي من شربه
%ج 1 ص 331%
أو صُبَّ عليه لم يمت أبدًا.
قوله: (قَشَبَنِي) بقاف مفتوحة ثم شين معجمة مخففة مفتوحة، قَالَ السَّفَاقُسيُّ:
كذا هو عند المحدثين وكذا ضبطه بعضهم، والذي في اللغة تشديد الشين ومعناه:
سَمَّنِي. انتهى.
(2/102)
قال
الفارابي [13]: في باب فَعَلَ بِفتح العين من الماضي وكسرها من المستقبل، قَشَبَه
أي: سقاه السُّم، وقَشَبَ طعامه أي سَمَّهُ، وفي «المنتهى» لأبي المعاني: القشب
أخْلاط يخلط للنشر فيأكلها فيموت فيؤخذ ريشه، يقال: ريش قشيب ومقشوب، قال أبو خراش
الهذلي:
بِهِ تَدَعُ الْكَمِيّ عَلَى يَدَيْهِ ... يخرُّ تَخَالُهُ نَسْرًا قَشِيبًا
وكل مسموم قشيب، وقال أبو عمرو: القشيب السم وقشبه سقاه السُّم، وفي «النوادر»
للهجري ومعنى القشب هو السُّم لغير الناس يُقْشَبُ به السِّباع والطير فيقتلها،
وفي «الْمُحْكَمِ»: القِشْبُ والقَشْبُ السُّمُّ والجمع أقشاب، وقَشَبَ له سقاه
السم، وقشب الطعام يَقْشِبُه قشبًا وهو قشيب، وقشبه خلطه بالسم، وكلما خُلِطَ فقد
قُشِبَ، وفي «كتاب ابن طريف»: قشب الشيء خلطه بما يفسده من سُمٍّ أو غيره، قال
النابغة الذبياني:
فبتُّ كأنَّ العائذاتِ فَرَشْنَ لِي ... هَرَاسًا به يُعْلى فراشي ويُقْشَبُ
وعند أبي حنيفة القَشْبُ نبات شبه المقر يقتل سباع الطير.
قوله: (وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا) قال النواوي: كذا وقع في جميع روايات الحديث
ذكاؤها بالمد وبفتح الذال المعجمة ومعناه: لهبها واشتعالها وشدة وهجها، والأشهر في
اللغة: ذَكَاَها مقصور، وذكر جماعات أن المد والقصر لغتان. انتهى كلامه.
(2/103)
وفيه
نظر من حيث إن يعقوبَ السِّكِّيتيَّ وابنَ ولَّاد في كتابيهما «المقصور والممدود»
وابنَ سِيْدَه في «المخصص» وابنَ دُرَيد وكلَّ من رأيت كتابه في اللغة «كالتهذيب»
و «المنتهى» و «الْمُوعِبِ» و «الواعي» و «جامع القزَّاز» و «الْمُحْكَمِ» و
«الفارابي» و «الجوهري» الذي كتابه بيد صغار الطلبة، وشروحِ دواوين الشعر كشرح
الآمديِّ شعرَ المُسيَّب، والسُّكَّريِّ أشعارَ الهُذليِّين، ويعقوبَ شعرَ زهير،
والثوريِّ لرجز أبي بجيلة في آخرين، كأنهم نصوا على قَصْره لا يذكرون المد في
وِرْد ولا صَدَرٍ حاشى ما وقع في كتاب «النبات» لأبي حنيفة الدِّيَنَوَرِيِّ فإنه
قال في موضع السُّعار: حرُّ النار وذكاؤها، وفي آخر ولهيبها، وفي آخر مع ذكاء وقود،
وفي آخر وقد ضربت العرب المثل بجمر الغضا لذكائه، وردَّ ذلك عليه أبو القاسم علي
بن حمزة الأصبهاني فقال: كل هذا غلطٌ، لأن ذكا النار مقصور يكتب بالألف، لأنه من
الواو من قولهم: ذكت النارُ تذكو، وذُكُوُّ النارِ وذكا النارِ بمعنًى وهو
التهابها قال أبو خراش:
وعارَضَها يومٌ كأنَّ أُوارَه ... ذكا النارِ من فيح الفروع طويل
ويقال أيضًا ذكت النار تذكو ذُكُوَّا وذَكِّها يا مُوقِدُ لتذكو ذَكْوًا وذُكُّوا،
فأما ذكاء بالمد فلم يأت عنهم في النار وإنما جاء في الفهم والسن، وفي «كتاب ابن
خالويه»: ليس أحد يمدُّ ذكا النار إلا ما حكي عن أبي حنيفة وحده، وفي «فوائد ابن
هشام» كاتب أبي العلاء المعري: لم يأتِ مَدُّه عن أحد إلا عن صاحب «النبات» وهو
غلط بإجماع.
(2/104)
وقوله:
(عَسَيْتَ) بفتح السين ذكره أبو علي الدِّيَنَوَرِيُّ وثعلب في كتابيهما «المنعوت
بالفصيح» وفي «الْمُوعِبِ»: لم يعرف الأصمعي عسِيت بالكسر قال: وذكره بعض القراء
وهو خطأ، وعن الفراء: لعلها لغة نادرة، وفي «شرح المطرز» عن الفراء: كلام العرب
العالي عسَيتُ بفتح السين ومنهم من يقول عَسِيت، وقال ابن دُرُسْتُويه في كتابه
«تصحيح الفصيح»: العامة تقول عَسِيت بكسر السين وهي لغة شاذة، وقال السِّكِّيتي في
«كتابه فعلت وأفعلت» عَسِيت بالكسر لغة رديَّة، وقال ابن قتيبة: ويقولون ما عَسِيت
والأجود بالفتح وكذا قاله ثابتٌ في «ما يلحن فيه»، وقال أبو عبيد بن سلام في كتابه
في «القراءات»: كان نافع يقرأ {عَسِيتم} بالكسر، والقراءة عندنا بالفتح، لأنها
أعرب اللغتين، ولو كانت {عَسِيتم} بالكسر لقُرِئَ {عَسِي ربُّنا} بالكسر أيضًا،
وهذا الحرف لا نعلمهم اختلفوا في فتحه وكذلك سائر القرآن، وقد حُكِي عن أبي عمرو
أنه كان يحتج بهذه الحجة، وفي كتاب «الواعي»: عسى من الآدميين يكون للترجي وللشك
ولليقين، قال الكلاباذي في كتابه «بحر الفوائد»: وقول الرب جل وعلا للرجل: (لعلك)
و (ما أغدرك!) وشبهَه تلطُّفًا بعبده وتأنيسًا ليكثر إدلاله عليه وسؤاله، والضحك
بمعنى الرضا قاله القرطبي، وأما التغير الذي أوجبه سرور القلب بحصول كمال لم يكن
حاصلًا قبل، فسرور القلب حرارة ينبسط لها الوجه ويضيق عنها الفم فينفتح متبسمًا،
فإذا زاد ولم يضبط فهو قهقهة من خواص البشر، وهو محال على رب العالمين.
وقوله: (لاَ أَكُوْن أَشْقَى خَلْقِكَ) قَالَ السَّفَاقُسيُّ: عند أبي الحسن:
(لَأَكُونَنَّ) ولعلَّه يريد إن أنت أبقيتني على هذه الحالة ولم تدخلني الجنة
لأكونن أشقى خلقك الذين دخلوا الجنة والألف زائدة، وقول أبي سعيد وعشرة أمثاله
يحتمل أن يكون جميع ما أُعِطي عشرة أمثاله ويحتمل أن يكون هو وعشرة أمثاله. انتهى.
(2/105)
وجه
الجمع بين قول أبي هريرة وقول أبي سعيد أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أخبر
أولًا بما في حديث أبي هريرة ثم أطلعه تعالى بعدُ تكرمًا منه بما في حديث أبي سعيد
ولا يجوز العكس، لأنه إخبار عن فضل الله تعالى لأمة محمد صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ والفضائل لا تنسخ.
قال الكلاباذيُّ لما رواه من حديث ابن جَدْعان: إمساك العبد عن السؤال حياءً من ربه
تعالى، والله تعالى يحبُّ سؤاله، لأنه يحب صوته فيباسطه بقوله: (لَعَلَّكَ إِنْ
أُعْطِيتَ تَسَلْ غَيْرَهُ) وهذا حال الْمُقَصِّر، فكيف حال المطيع؟ وليس نقض هذا
العبد عهده وتركُه إقسامَه جهلًا منه ولا قلةَ مبالاة بل علمًا منه بأن نقض هذا
العهد أولى من الوفاء، لأن سؤاله ربَّه أفضل من إبرار قسمه، لأنه علم قول نبيه:
«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ». وقول ربه له (أين عهودك؟) إيناس منه
له وبسط. وقوله: (أَتَهْزَأُ بي) نفى عنه جلَّ وعزَّ الاستهزاء الذي لا يجوز على
الله تعالى كأنَّه قال أعلم أنك لا تهزأ لأنك رب العالمين وقولك: (لكَ مِثْلُ
الدنيا وعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ) حق ولكن العجب من فضلك، و (أتهزأ) أَلِفُهُ أَلِفُ
نفيٍ على هذا كقوله {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف:
155] وهي لفظة منبسطٍ متدلل.
(2/106)
وقوله
في الحديث فرأى هواءً فيخر ساجدًا فيقال ما لك؟ فيقول: أليس هذا ربي؟ فإذا بشخص
عظيم، قال: ليس سجوده للشخص القائم الذي هو قَهْرُمانه، ولا قوله أليس هذا ربي
إشارة منه إليه، وكيف يكون كذلك وهو لله موحد وبه عارف وإنما سجد لله كأنه قال
أليس هذا الضوء علامة تجلِّيه لي؟ كأنه قال أليس عند هذا النور يكون تجلِّي ربي لي
وراء هذا ألا ترى إلى حديث جابر: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ،
سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَإِذَا الرَّبُّ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ»
فسجود العبد يجوز أن يكون استدعاءً لرؤية ربه وذلك لأنه سمع الله تعالى فيقول
{وفيها ما تشتهي الأنفس} فلم يشر بقوله (هذا ربي) إلى عين قائمة بل أراد به ذاتًا
موجودة، وذلك أنه طلب الجنة المخلوقة له تصريحًا وطلب الرؤية للذي ليس كمثله شيء
تعريضًا وحشمةً، لأنها لم تكن جزاء كالتي هي جزاء الإيمان بل فضلًا، فمن محبته
لربه وشوقه إذا سطع له نور يهيج شوقه فيرى أن وراءه يكون محل ربه فيسجد شكرًا
لإنجازه وعده ومسارعة إلى استنجاز الموعود، لأنه لما سكتت نفسه وأنمى زرعه انبعثت
محبته التي جعلها الله في قلبه فسها عن نعيم الجنة، لأنه نال
ما اشتهته فيها نفسه وتطلع إلى ما تلذُّ به عينه، فلو أعطي ما تلذُّ عينه وهو
النظر إلى الله لَسَهَا عن نعيم الجنة ولم يلتذ به.
الأبواب الثلاثة تقدم ذكرها فيها.
(بَابُ السُّجُودِ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ)
809 - حَدَّثَنا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قال: «أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ، وَلاَ يَكُفَّ شَعرًا وَلاَ
ثَوْبًا: الجَبْهَةِ، وَاليَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ». [خ 809]
وفي حديث شعبة عن عمرو: «أُمِرْنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ».
(2/107)
وفي
حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الجَبْهَةِ، وَأَشَارَ
بِيَدِهِ إلى أَنْفِهِ» الحديثَ.
وعند ابن ماجه قال ابن طاوس: فَكَانَ أَبِيْ يَقُوْلُ: «الْيَدَيْنِ،
وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، وَكَانَ يَعُدُّ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ
وَاحِدًا».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةٍ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ».
وعن العباس بن عبد المطلب سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَقُوْلُ: «إذَا سَجَدَ العبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرابٍ وجْهُهُ وكفَّاهُ
وركبتَاه وقدماهُ».
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: اختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد
إجماعهم على أن السجود على الأرض فريضة. انتهى.
كان ينبغي أن يقيده بعدم الضرورة وإلا ففي مذهبه ومذهب غيره تجوز الصلاة على
الراحلة إذا خاف من سَبُعٍ أو غيره اعتمادًا على حديث يعلى بن مُرَّة من عند
الترمذي الذي فيه «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَذَّنَ
وَأَقَامَ وَصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ». وهو حديث أفردت الكلام عليه قديمًا في
سنة عشرين جزءًا ولله الحمد والمنة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وقالت طائفة إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه رُوِي ذلك عن
ابن عمر وعطاء وطاوس والحسن وابن سيرين والقاسم وسالم والشعبي والزهري، وفي
«المصنف» من حديث إسماعيل بن عياش عن جابر قال: «رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَسْجُدُ فِي أَعْلَى جَبْهَتِهِ عَلَى قُصَاصِ الشَّعْرِ».
(2/108)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: وهو قول مالك ومحمد وأبي يوسف والشافعي في أحد قوليه وأبي ثور
والمستحب عندهم أن يسجد على أنفه مع جبهته، وروي عن أبي حنيفة إن اقتصر على أحدهما
الأنف والجبهة جاز هذا هو الصحيح من مذهبه، وروى أسد بن عمرو عنه لا يجوز الاقتصار
على الأنف إلا من عُذْرٍ وهو قول تلميذيه، وفي «شرح الهداية» عنه أنه وضع الجبهة
وحدها من غير عذر جاز بلا كراهة، وفي الأنف وحده يجوز مع الكراهة، والمستحب الجمع
بينهما، وفي «الأسرار» للدَّبُّوسي: يجزيه وقد أساء، وفي «المنظومة» عنه يجوز بلا
عذر، وفي
«شرح المهذب» و «المغني» لابن قدامة لا يُعْلَم أحد سبق أبا حنيفة إلى قوله.
انتهى.
حكى ابن شاس في «الجواهر»: أنه قول لمالك، وقال ابن جرير في «تهذيب الآثار»: حكم
الجبهة والأنف سواء فواضع الأنف دون الجبهة كواضع راحتيه دون الأصابع أو الأصابع
دونهما لا فرق بين ذلك قال وبنحو الذي قلناه قال جماعة من السلف، وعند ابن بطال به
قال طاوس وابن سيرين وهو قول ابن القاسم، وفي «المبسوط»: ونُقِلَ عن ابن عمر مثل
قول إمامنا النعمان، وذكر أصحاب التشريح أنَّ عَظْمَا الأنف يبتدئان من قرنة
الحاجب وينتهيان إلى الموضع الذي فوق الثنايا والرباعيات فعلى هذا يكون الأنف
والجبهة التي هي أعلى الخدِّ واحدًا وهو المعني المشار إليه في الحديث على الجبهة
وأشار بيده إلى أنفه فقد سوَّى بينهما، ولأن أعضاء السجود سبعة إجماعًا ولا يكُنَّ
سبعة إلا إذا كان الجبهة والأنف عضوًا واحدًا، وكان شيخنا فخر الدين عثمان
المارديني يذكر حين البحث أن في الحديث: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً لِمَنْ لَمْ يَمَسَّ أَنْفُهُ
الْأَرْضَ كَمَا يَمَسُّ جَبِيْنُهُ». قال: وبهذا يصح عدد السبعة الآراب والله
تعالى أعلم، انتهى.
(2/109)
الذي
رأيت في كتاب الترمذي والدَّارَقُطْني وغيرهما من كتب الحديث: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ
لَا يُصِيبُ أَنْفُهُ مِنَ الْأَرْضِ مَا يُصِيبُ الْجَبِينُ» وقالوا: الصحيح مرسل
عن عكرمة من غير ذكر ابن عباس.
وذكر ابن بطال أن في بعض طرق حديث ابن عباس: «أُمِرْتُ أنْ أسجدَ على سبعةٍ منها
الوجه» انتهى.
يؤيده قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو ساجد فيما رواه مسلم: «سَجَدَ وجْهِي
للذي خَلَقَهُ» الحديثَ.
وفي «المعارضة» لابن أبي العربي في بعض طرقه: «الجبهة أو الأنف» وفي «شرح
الهداية»: السجود على اليدين والركبتين والقدمين غير واجب، وفي «الواقعات»: لو لم
يضع ركبتيه على الأرض عند سجوده لا يجزئه. وعند الشافعي في وجوب وضع هذه الأعضاء
قولان أشهرهما أنه لا يجب، ونص في «الإملاء»: أن وضعهما مستحب، قال أبو الطيب:
مذهب الشافعي أنه لا يجب وهو قول عامة الفقهاء، وعند زفر وأحمد بن حنبل يجب وعند
أحمد في الأنف روايتان، وفي «الترمذي» قال أحمد: وضعها سنة، وقال العلامة أبو بكر
بن العربي في قوله: أُمِرَ أو أُمِرْتُ أو أُمِرْنَا هو مخصوص به في الظاهر،
واختلف الناس فيما فُرِضَ عليه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هل تدخل الأمَّة معه،
فقيل: تدخل معه، وقيل: لا تدخل إلا بدليل وهو الأصح، وقيل: إذا خوطب بأمر أو نهي
فالمراد به الأمة معه وهذا لا يثبت إلا بدليل، والدليل على توجبه ذلك عليه إجماع
الأمة على وجوب
%ج 1 ص 336%
السجود على هذه الأعضاء ولعلَّ ذلك أخذ من قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«صَلُّوْا كَمَا رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّيْ» أو من دليل آخر سواه، ولا اختلاف
أعلمه في الأعضاء السبعة إلا في الوجه. انتهى.
(2/110)
هذا
الذي قاله يتمشى على ما ذكره وكأنَّه غفل عما في الصحيح: «أَمَرَنَا النبيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنْ نسجدَ على سبعةٍ» الحديثَ. فلا نحتاج إلى قوله
إنه مخصوص بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ويؤيد هذه الرواية ما تقدم من حديث
العباس، وفي قوله إجماع الأمة على وجوب السجود على هذه الأعضاء يردُّه ما أسلفناه
من الخلاف.
قوله: (عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ) وفي رواية: (أعْظُمٍ) قال العلامة القشيري:
سَمَّى كل واحد من هذه الأعضاء عظمًا باعتبار الجملة، وإن اشتمل كل واحد منها على
عظام، قال: ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها.
وقوله: «وَلَا يَكُفُّ شَعرًا، وَلَا ثَوْبًا». وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «وَلَا يُكْفِتُ
الثِّيَابَ، وَلا الشَّعَرَ» وهما بمعنى واحد وهو الجمع والضم، وفي «شرح المهذب»:
اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مُشَمَّر وكُمّه أو رأسه معقوص أو مردود
شعره تحت عمامته أو نحو ذلك كل ذلك منهيٌّ عنه باتفاق العلماء وهو كراهة تنزيه،
ولو صلَّى كذلك فقد أساء وصحت صلاته، واحتج الطبري في ذلك بالإجماع، وحكى ابن
المنذر الإعادة فيه عن الحسن بن أبي الحسن، وعند ابن التين: هذا مبنيٌّ على الاستحباب
وليس من الوجوب، وذلك إذا صنع ذلك من أجل الصلاة، فأما إذا فعله فحضرت الصلاة فلا
بأس أن يصلي كذلك، وقال أبو جعفر: إذا كان ينوي أنه يعود لعمله.
وعند أبي داود بسند جيد: رأَىَ أَبُوْ رَافِعٍ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يُصَلِّي قدْ
غَرَزَ ضَفِيرَتَهُ فِي قَفَاهُ فَحَلَّهَا وَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ: «ذَلِكَ كِفْلُ الشَّيْطَانِ -أَوْ قَالَ:
مَقْعَدُ الشَّيْطَانِ- يَعْنِي مَغْرَزَ ضَفيْرَتِهِ».
(2/111)
وفي
«المعرفة»: روينا في الحديث الثابت عن ابن عباس أَنَّه رَأَى عبدَ الله بنَ
الحارثِ يُصَلِّي ورَأْسُه مَعْقُوصٌ منْ ورائِهِ، فَقَامَ وراءَهُ فَجَعَلَ
يَحُلُّهُ، وقال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِنَّما مثلُ هذا مثلُ
الذي يصلي وهو مكتوف».
وقال ابن الأثير: قوله: (أنْ لَا أَكُفَّ شَعْرًا، وَلَا ثَوْبًا) يعني في الصلاة،
ويحتمل أن يكون بمعنى ألا أمنعهما من الاسترسال حال السجود ليقعا على الأرض، قال:
ويحتمل أن يكون بمعنى الجمع أي لا يضمهما ويجمعهما. وقوله: (وَاليَدَيْنِ) يريد
الكفين خلافًا لمن زعم أنه يحمل على ظاهره، لأنه لو حُمِلَ على ذلك لدخل تحت
المنهي عنه من افتراش السبع والكلب، فإن صلَّى وهما في الثياب فذكر ابن بطال
الإجماع على جوازه
%ج 1 ص 337%
قال: وإنما كرهه سالم وأبوه وبعض التابعين محتجين بأن حكمهما حكم الوجه لا حكم
الركبتين قياسًا على اليدين من المرأة في كشفهما تبعًا للوجه في الإحرام، وللشافعي
قولان في وجوب كشفهما وعدمه، قال البيهقيُّ: إنما أوجب كشف الجبهة لما روى صالح بن
خَيْوانَ وغيره: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا
يَسْجُدُ عَلَى عَمَامَتِهِ فَحَسَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْ
جَبْهَتِهِ». قال البيهقيُّ: وهذا المرسل شاهد لحديث ابن عباس المذكور، قال: ولم
يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في السجود على كور العمامة شيء، وروينا
عن عبادة بن الصامت وابن عمر قريبًا من حديث صالح، وقال الشافعي في القديم: بلغنا
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ: «إِذَا سَجَدتَ
فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ حَتَّى تَجِدَ حَجْمَ الأَرْضِ».
(2/112)
وحجة
الجماعة ما رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه:
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُكْشَفَ الثَّوْبُ
عَنْ يَدِهِ إِذَا سَجَدَ». وقال الحسن: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على عمامته ذكره في
«المعرفة»، وإجماع الأمة على جواز السجود على الركبتين مستورتين، لأنهما آلتا عورة
على ما قاله أبو حنيفة أو لأنهما مظنة كشفها، وأما القدمان فلأن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلَّى وهو لابس خفه، وَوَقَّتَ في المسح عليهما، ومن لازِمِ
ذلك تغطية القدمين، واحتج الطحاوي بهذا الحديث على جواز السجود على كور العمامة،
قال: لأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «أُمِرْتُ أنْ أسجدَ عَلَى
سَبْعَةِ آرابِ» وإذا سجد واليدان والرجلان مستورتان جاز فكذلك إذا سجد على الجبهة
مستورة، ومالك يفرق بين الستر الكثيف في الجبهة والخفيف فيمنع الأول ويجوز الثاني.
حديث البراء تقدم، وكذلك الباب الذي بعده.
وحديث أبي سعيد الذي فيه السجود على الأنف يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام،
والأبواب التي بعده تقدم ما فيها.
(بَابُ لاَ يَفْرِشُ ذِرَاعَيْهِ فِي السُّجُودِ)
وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: «سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
وَوَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلاَ قَابِضَهُمَا».
حديث أبي حميد تقدم أنه مسندٌ عنده.
822 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي
السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الكَلْبِ». [خ 822]
(2/113)
هذا
حديث خرَّجَه الستة في كتبهم، وفي حديث معاذ عن شعبة عن أبي نعيم عن قتادة سمعت
أنسًا، وعند الطُّوسي والترمذي محسنًا من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَفْتَرِشْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ». قال شعبة:
فيما ذكره من المراسيل حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة، وفي لفظٍ: سمع من
جابر أربعة أحاديث وكذا قاله ابن المديني في «العلل الكبير»، ويقال إنه أخذ صحيفة
جابر صحيفة سليمان اليشكري.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن عائشة: «نَهَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ يَفْتَرِشَ
الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ».
وعند ابن خزيمة عن أبي هريرة يرفعه: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ، فَلَا يَفْتَرِشْ
يَدَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ، وَلْيَضُمَّ فَخْذَيْهِ». وعن البراء: قَالَ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا سَجَدْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ
مِرْفَقَيْكَ» ذكره مسلم.
وعند الحاكم صحيحًا عن عبد الرحمن بن شبل قال: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَأَنْ
يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ».
(2/114)
ويعارض
هذا الحديث ما خرَّجه ابن خزيمة في «صحيحه» والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم من
حديث ابن عجلان عن أبي صالح عن أبي هريرة: «شَكَا أَصْحَابُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَشَقَّةَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ، إِذَا انْفَرَجُوا،
فَقَالَ: اسْتَعِينُوا بِالرُّكَبِ». قال ابن عجلان: وذلك أن يضع مرفقيه على
ركبتيه إذا طال السجود واعيًا، وفي لفظٍ: «قَالُوْا يَا رَسُوْلَ اللهِ، إِنَّ
تَفْرِيجَ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ يَشُقُّ عَلَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَسْتَعِينُوا بِالرُّكَبِ». وزعم أبو داود في «السنن»: أن هذا كان رخصة، وأما أبو
عيسى فإنه فَهِمَ منه ما قاله ابن عجلان فذكره في باب ما جاء في الاعتماد إذا قام
من السجود وقال: هذا حديث لا نعرفه من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا من هذا الوجه من حديث الليث عن ابن عجلان.
وقد روى هذا الحديث ابن عيينة وغير واحد عن سُمَيٍّ عن النعمان بن أبي عياش عن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نحو هذا، وكأن رواية هؤلاء أصح من رواية الليث،
وكذا قاله أبو حاتم في كتاب «العلل»، وقال ابن سيرين: وسئل الرجل يعتمد بمرفقيه
على ركبتيه فقال: ما أعلم به بأسًا.
وكان ابن عمر يضع يديه إلى جنبه إذا سجد، وقال قيس بن سكن: كل ذلك قد كانوا يفعلون
ينضمون ويتجافون.
وَسُئِلَ ابنُ عُمَرَ أَضَعُ مِرْفَقَيَّ عَلَى فَخْذَيَّ إِذَا سَجَدْتُ؟
فَقَالَ: اسْجُدْ كَيْفَ تَيَسَّرَ عَلَيْكَ. وأسانيدها جيدة لا بأس بها، وعند أبي
القاسم في «الأوسط» من حديث سعيد بن جبير عن أبي هريرة: «نَهَانِي خَلِيلِي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنْ أُقْعِيَ كَإِقْعَاءِ الْقِرْدِ أَوْ أَنْقُرَ نَقْرَةَ
الْغُرَابِ، وأَلْتَفِتَ الْتِفَاتَ الثَّعْلَبِ».
(2/115)
وقال:
لم يروه عن سعيد إلا حبيب بن أبي ثابت، ولا عنه إلا ليث بن أبي سُلَيْم، ولا عن
ليث إلا موسى بن أَعْين، تفرد به الْمُعَافى بن سليمان.
وعند ابن ماجه من حديث الحارث بن علي يرفعه: «لَا يَقَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ».
وفي لفظ: «لَا يُقْعِي إِقْعَاءَ الْكَلْبِ». وعنده أيضًا بسند ضعيف عن أنس: قَالَ
لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ
السُّجُودِ، فَلَا تُقْعِي كَمَا يُقْعِي الْكَلْبُ، ضَعْ أَلْيَتَيْكَ بَيْنَ
قَدَمَيْكَ، وَأَلْزِقْ ظَاهِرَ قَدَمَيْكَ بِالْأَرْضِ».
وعن سمرة بسند جيد عند البيهقي: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عَنِ الإِقْعَاءِ». ولفظه مصححًا عند الحاكم: «أُمِرْنَا بأنْ نعتدلَ في السجودِ
وأنْ لا نَسْتَوفِر».
وفي «كتاب الترمذي» باب الرخصة في الإقعاء فذكر حديث ابن عباس: «الإِقْعَاءُ على
القَدَمَيْنِ منْ سُنَّةِ نبيكم» وحسَّنَه وهو عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وفي «المشكل» للطحاوي عن عطية العوفي قال: رأيت العبادلة ابن عباس وابن عمرو ابن
الزبير: «يُقْعُوْنَ فِي الصَّلاَةِ وَيَرَاهُمُ الصَّحَابَةُ فَلاَ
يُنْكِرُوْنَهُ».
(2/116)
وعند
الخَلَّال عن ابن مسعود قال: «هُيِّئتْ عِظَامُ ابنِ آدَمَ لِلسُّجُودِ،
فَاسْجُدُوا حَتَّى تَسْجُدُوا على الْمَرَافِقِ» وقال: قال أحمد: تركه الناس، قال
القرطبي: افتراش السبع لا شك في كراهة تلك الهيئة واستحباب نقيضها وهو التجنح يعني
ما روى مسلم عن ميمونة: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان إِذَا
سَجَدَ جَافَى يَدَيْهِ فَلَوُ أَنَّ بَهْمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ
يَدَيْهِ لَمَرَّتْ». وفي لفظ: «خَوَى بِيَدَيْهِ» يعني: جنَّح حتى يَرى إبطَيه
مَن وراءَه، وحديث ابن بحينة عند الشيخين: «كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ
يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوْ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ». وحديث أبي حميد: «إذا سجدَ جافى
بين يديه» وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وعن ابن أَقْرَمَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَكُنْتُ
أَنْظُرُ إِلَى عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ كلما سَجَدَ».
قال الترمذي: حديث حسن ولا نعرف لابنِ أَقْرَم غير هذا الحديث. انتهى كلامه.
وفيه نظرٌ، لأن البغوي ذكر له في كتاب «الصحابة» حديثًا آخر مرفوعًا في قوله
تعالى: {تُسَاقَطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] الحديثَ. ولما ذكر عبدَ
الله بنَ أقرمَ أبو علي بنُ السكن في كتاب «الصحابة» المسمى بالحروف قال: له رواية
ثابتة، وعن الحسن حَدَّثَنا أحمر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال:
«إنْ كُنَّا لَنَأْوِي للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما يُجَافِي بِيَدَيْهِ
عنْ جَبِيْنِهِ إذا سجدَ». ألزم الدَّارَقُطْني البخاري تخريجه، وخرَّجه محمد بن
عبد الواحد المقدسي في «مستخرجه» المسمى بالجياد، وقال البزار في «السنن»: لا
نعلمه يُرْوَى عن الأحمر إلا بهذا الإسناد، ولفظه عنده: «إِذَا سَجَدَ، جَافَى أو
خَوَّى» وعنْ أبي هريرة: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
(2/117)
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ رُئِيَ وَضْحُ إِبْطِهِ» قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وعن
ابن عباس من عنده أيضًا «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ منْ
خَلْفِهِ فَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ وَهُوَ مُجَخٍّ قَدْ فَرَّجَ يَدَيْهِ».
وعن جابر من «صحيح ابن خزيمة»: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
إِذَا سَجَدِ جَافَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ» وصححه أيضًا أبو زرعة، وأما
أحمد فإن مُهَنَّأ حكى عنه أنه ليس بصحيح، وقال البزار في «السنن»: لا نعلم رواه
عن منصور عن سالم عن جابر إلا معمر، وقد رُوِيَ في هذا الباب عن قيس بن حازم عن
رجل من الصحابة، وعن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
وعن عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ في «صحيح ابن خزيمة»: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ إِذَا سَجَدِ يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ». وعنده أيضًا عن البراء:
«كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا صلَّى جَخَّى». وقال
النَّضْرُ بنُ شُمَيْل: جَخَّى لا يَتَمَدَّدُ في ركوعه ولا سجوده.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وهو معدود في أفراد النضر بن شميل،
قال القرطبي: والحكمة في استحباب هذه أنه إذا جخَّى كان اعتماده على يديه فيخفُّ
اعتماده على وجهه فلا يتأذَّى بملاقاة الأرض ولا يتشوش في الصلاة بخلاف ما إذا بسط
يديه فإنَّ اعتماده يكون على وجهه فحينئذ يتأذَّى ويُخَافُ عليه التشويش، وعند
النووي: ولا يتبسط -بزيادة التاء المثناة من فوق- انبساط الكلب أي: لا يتخذها
بساطًا، قال: وهو لفظ صحيح والله تعالى أعلم.
البابان اللذان بعد هذا تقدَّما.
(بَابُ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَنْهَضُ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ)
(2/118)
وَكَانَ
ابنُ الزُّبَيْرِ: «يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ». قال ابن أبي شيبة، حَدَّثَنا عبد
الوهاب الثقفي عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أن ابْن الزُّبَيْرِ: «كَانَ
يُكَبِّرُ لِنَهْضَتِهِ».
825 - حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنا فُلَيْحُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الحَارِثِ، قَالَ: صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ
رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَحِينَ سَجَدَ، وَحِينَ قَامَ مِنَ
الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ. [خ 825]
هذا تفرد به البخاري عن أصحاب الكتب ولِمَا ذكره الإسماعيلي عن أبي يعلى،
حَدَّثَنا أبو خيثمة، حَدَّثَنا يونس، حَدَّثَنا فليح عن سعيد بطوله فَقَالَ:
«اشْتَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ -أَوْ غَابَ- فَصَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ» الحديثَ
«فَلَمَّا انْصَرَفَ قِيلَ لَهُ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى صَلَاتِكَ، فَخَرَجَ
حَتَّى قَامَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يا أَيُّهَا النَّاسُ إني وَاللهِ مَا
أُبَالِي اخْتَلَفَتْ صَلَاتُكُمْ أَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ، إني رَأَيْتُ رسولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هكذا يُصَلِّي».
وذكر الحميدي في «الجمع بين الصحيحين» أن البرقاني خرَّجه في «صحيحه»: بلفظ:
«أَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفَوا فِي صَلَاتِكَ» انتهى.
وفي سياق هذه القصة دلالة أن أبا هريرة كان يصلي خلاف هذه الصلاة ويَخْدِشُ في
روايته السابقة في باب إتمام التكبير كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع.
الحديث الذي بعده تقدم.
(بَابُ سُنَّةِ الجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ)
وَكَانَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: «تَجْلِسُ فِي صَلاَتِهَا جِلْسَةَ الرَّجُلِ
وَكَانَتْ فَقِيهَةً».
قال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا وكيع عن ثور عن مكحول: «أَنَّ أُمَّ الدَّرْدَاءِ
كَانَتْ تَجْلِسُ فِي الصَّلَاةِ كَجِلْسَةِ الرَّجُلِ» انتهى.
(2/119)
القائل
(وكانت فقيهة) البخاري فيما أرى، وكان أنس يقول: تَجْلِسُ المَرْأَةُ كَمَا
يَجْلِسُ الرَّجُلُ وبه قال النخعي ومالك، وقالت طائفة: تجلس كيف شاءت إذا تجمعت
منهم: عطاء والشعبي والحنفيون والشافعيون، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وكانت صَفِيَّةُ
مُتَرَبِّعَةً، ونساء ابن عمر كُنَّ يَفْعَلْنَهُ، وقال الشعبي: تجلس كيف شاءت
وتيَسَّر، وقال حماد وعطاء ذكره ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا عبد الله بن مسلمة عن
مالك عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ
اللهِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَتَرَبَّعُ فِي الصَّلاَةِ
إِذَا جَلَسَ، قَالَ: فَفَعَلْتُهُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ،
فَنَهَانِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: إِنَّمَا سُنَّةُ الصَّلاَةِ أَنْ
تَنْصِبَ رِجْلَكَ الْيُمْنَى، وَتَثْنِيَ رِجْلَكَ الْيُسْرَى، فَقُلْتُ لَهُ:
إِنَّكَ تَفْعَلُ ذلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ رِجْلَاي لاَ تحْمِلانني.
وعند النسائي: «مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ تَنْصِبَ الْقَدَمَ الْيُمْنَى،
وَاسْتِقْبَالكَ بِأَصَابِعِهَا الْقِبْلَةَ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْيُسْرَى». وفي
لفظ: «إِنَّ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ تُضْجِعَ رِجْلَكَ الْيُسْرَى
وَتَنْصِبَ الْيُمْنَى».
وعند البيهقي أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ «كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي
التَّشَهُّدِ نَصَبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَثَنَى رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَجَلَسَ
عَلَى وَرِكِهِ الْيُسْرَى، وَلَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَانِي
عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَحَدَّثَنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ».
رواه من جهة مالك عن يحيى بن سعيد عنه.
(2/120)
وعند
الإسماعيلي عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الله، وكذا رواه عن نافع
والأكثرون عن القعنبي فقالوا عن أبيه، وفي «الموطأ» للدارقطني، وقال عبد الرزاق عن
مالك: «صَلَّى َابنُ عُمَرَ مُتَرَبِّعًا فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهَا
لَيْسَتْ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ وَلَكِنَّ سُنَّةَ الصَّلَاةِ» الحديثَ. ولفظ
عبد الرحمن عن مالك: «مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ» الحديثَ.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يتربعون في الصلاة منهم
كما فعله ابن عمر منهم ابن عباس وأنس وسالم وعطاء وابن سيرين ومجاهد، وجوَّزه
الحسن في النافلة، وفي رواية كرهه هو والحكم وابن مسعود، قَالَ ابنُ التِّيْنِ:
المروي عن ابن عمر أنَّ رجلاي ويحتمل وجهين، أن تكون أنَّ بمعنى نعم كقوله:
وقالوا قد كَبِرَتْ فقلت: إنَّهْ
أي نعم، ويحتمل أن يريد قول الشاعر:
إنَّ أباها وأَبَا أَبَاها ... قد بلغا في المجد غايتاها
والصحابي إذا قال من السنة فلا يكون إلا سنة الرسول إما بقوله أو بفعله شاهده كما
قاله ابن التين، وقد قال عليٌّ لما جلد الوليد بن عقبة: جلد رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كذا وجلد أبو بكر كذا وكلٌّ سُنَّة، فَسَمَّى فعل أبي بكر
سنة وهو ظاهر في بعض قوله اللَّهمَّ إلا لو قال في قول صحابي لم يتأمَّر عليه غير
سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لساغ له ذلك والله أعلم.
ولفظ: عبد الرحمن عن مالك من سنة الصلاة الحديثَ.
(2/121)
828 – حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قال: وَحَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَيَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ أَبُوْ حُمَيْدٍ: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ, رَأَيْتُهُ إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، وإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشِهِمَا وَلاَ قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةَ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى، وَنَصَبَ الأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» قال أبو عبد الله: سمع الليث يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد بن حَلْحَلَةَ وابن حَلْحَلَةَ من ابن عطاء وقال: أبو صالح عن الليث: «كلُّ فَقَارٍ»، هذا التعليق رويناه في «معجم أبي القاسم الكبير» قال: حَدَّثَنا مطلب بن شعيب الأزدي، حَدَّثَنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث عن يزيد بن محمد القرشي ويزيد بن أبي حبيب فذكره، وقال ابن المبارك: عن يحيى بن أيوب، حدثني يزيد بن أبي حبيب أن محمد بن عمرو بن حَلْحَلَةَ حَدَّثه: «كلُّ فَقَارٍ».
(2/122)
هذا
التعليق خرجه ابن خزيمة من حديث سهل بن سعد وأبي حميد وأبي أُسَيْدٍ الساعدي، وفي
لفظ عبد الحميد وفيهم أبو قتادة، واعترض ابن القطان على هذه اللفظة بأن أبا قتادة
توفي زمن عليٍّ وسنُّ محمد بن عمرو يَقْصُرُ عن إدراك ذلك، وقد قيل في وفاة أبي
قتادة سنة أربع وخمسين وليس بصحيح والصحيح ما ذكرناه، وقد ذكر هذا القول الطحاوي
ويزيد هذا تأكيدًا
أن عطاف بن خالد روى هذا الحديث عن محمد بن عَمْرو فقال: حدثني رجل أنه وجد عشرة
الحديثَ وفي كلامه نظرٌ في مواضع: [خ 828]
الأول: الذي ذكره البخاري وابن بكير وابن نمير والبَاوَرْدي والترمذي والطبري
والواقدي والقراب ومن لا يحصى أن أبا قتادة توفي سنة أربع وخمسين، وقال البيهقي:
أجمع أهل التواريخ على ذلك، وقال البغوي: هو الصواب، وقال ابن حزم: من زعم غيره
وَهِم.
الثاني: لما ذكر ابن حبان محمد بن عمر في كتاب «الثقات»: صرح بسماعه من أبي قتادة
وكذا ابن خزيمة في «صحيحه» والبزار والبخاري.
(2/123)
الثالث:
إدخالُ عطَّاف الرجل في روايته قولي البيهقي ردَّها في كلام طويل ملخصه: ضَعْفُ
عَطَّافٍ وهذا ذكرناه مستوفى في كتابنا «الإعلام بسننه عليه الصلاة والسلام»، وقال
ابن حبان: سمع هذا الخبر محمد بن عمرو عن أبي حميد وسمعه من عباس بن سهل عن أبيه
فالطريقان جميعًا محفوظان ومتناهما متباينان ثم خرَّجهما في «صحيحه» قال: وقد
يتوهم غير المتبحر في صناعة الحديث أن حديث أبي حميد مَعْلُولٌ وليس كذلك، وعند
أبي داود: «ثُمَّ كَبِّرَ حَتَّى يَقِرَّ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ
مُعْتَدِلًا، ثُمَّ يَقْرَأُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ، ثُمَّ يَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ،
وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ إِذَا سَجَدَ، ثُمَّ إِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ
كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَهُ كَمَا كَبَّرَ
عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَتِ الرَّكْعَةُ الَّتِي فِيهَا
التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ
الْأَيْسَرِ».
وفي لفظ من حديث ابن لهيعة: «فَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ كَفَّيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ
وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ هَضمَ ظَهْرَهُ غَيْرَ مُقْنِعٍ رَأْسَهُ،
وَلَا صَافِحٍ خَدَّهُ، وإِذَا قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَعَدَ عَلَى بَطْنِ
قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَفْضَى
بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إِلَى الْأَرْضِ وَأَخْرَجَ قَدَمَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ
وَاحِدَةٍ».
وفي لفظ: «ثُمَّ رَكَعَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ
عَلَيْهِمَا، وَوَتَّرَ يَدَيْهِ مُتَجَافِي عَنْ جَنْبَيْهِ، ثُمَّ سَجَدَ
فَأَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَوَضَعَ
يدهُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ».
(2/124)
وفي
حديث عباس بن سهل فَقَالَ: «اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ قَالَ: اللهُ
أَكْبَرُ فَسَجَدَ فَانْتَصَبَ عَلَى كَفَّيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ
قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، ثُمَّ كَبَّرَ فَجَلَسَ فَتَوَرَّكَ وَنَصَبَ قَدَمَهُ
الْأُخْرَى، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى إِذَا هُوَ أَرَادَ أَنْ
يَنْهَضَ لِلْقِيَامِ قَامَ بِتَكْبِيرَةٍ» ولم يذكر التورك في التشهد، وفي لفظٍ:
وفيهم أبو هريرة ومحمد بن مسلمة هيئة الجلوس فيها عند أبي حنيفة أن يفرش رجله
اليسرى على الأرض فيجلس عليها وتكون بين إليتيه وينصب اليمنى ويوجِّهُ أصابعها نحو
القبلة.
وفي «المبسوط»: أصابع رجله اليمنى كأنه لمح ما في مسلم عن عائشة: «كانَ رسولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ
رِجْلَهُ الْيُمْنَى» وهذا الحديث مما ينبغي أن يستدرك على صاحب العمدة لأنه
عِنْدَ مُسْلِمٍ فقط، وما في كتاب الترمذي مصححًا عن وائل لَأَنْظُرَنَّ إِلَى
صَلاَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَفِيْهِ: «ثُمَّ جَلَسَ
فَافْتَرَشَ اليُسْرَى وَنَصَبَ رِجْلَهُ اليُمْنَى».
ولفظ سعيد بن منصور في «السنن»: «فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ اليُسْرَى وَجَلَسَ
عَلَيْهَا».
وما في «مسند أحمد» عن رِفَاعَةَ بنِ رافعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: «إِذَا جَلَسْتَ فَاجْلِسْ عَلَى رِجْلِكَ
اليُسْرَى».
(2/125)
وعند
مالك: يجلس فيهما متوركًا، وعند الشافعي: إن كانت الصلاة ركعتين جلس متوركًا، وإن
كانت أربعًا افترش في الأولى وتورك في الثانية، وقال أحمد: إن كانت ركعتين افترش
وإن كانت أربعًا فكقول الشافعيِّ، والحكمة عندهما في ذلك أنه أقرب إلى تذكر الصلاة
وعدم اشتباه عدد الركعات، ولأن السنة تخفيف التشهد الأول ليسهل قيامه، ولأن الثاني
لا قيام بعده فيتورك ليكون أمكن فيتوفر للدعاء، ولأن المسبوق إذا رآه عَلِمَ في أي
التشهدين، وأصله حديث أبي حميد المذكور، وحديث ابن الزبير من عِنْد مُسْلِمٍ
مرفوعًا: «كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ، جَعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى بَيْنَ
فَخِذَيْهِ وَسَاقِهِ، وَفَرَشَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى» وحديث ابن عمر المذكور
أولًا.
وفي «الموطأ» عنه: «جَلَسَ عَلَى وركِهِ اليُسْرَى».
قال الشافعيُّ: حديث أبي حميد صريح في الفرق بين التشهدين وبقية الأحاديث مطلقة
فيجب حملها عليه، فمن روى التورك أراد التشهد الآخر، ومن روى الافتراش أراد الأول.
و (الفَقَارُ) قال ابن قُرْقُول: جاء عند الأَصِيلي هنا فقار بفتح الفاء وكسرها
ولا أعلم لذلك معنى، قال: وقول البخاري: وقال أبو صالح عن الليث: «كلُّ قَفَار»
بتقديم القاف كذا للأَصِيلي هنا، وعند ابن السكن: «فِقَار» بكسر الفاء، ولغيرهما:
«فَقَارٌ» وهو الصواب، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: هو الصحيح وهو الذي رويناه.
وروينا في رواية أبي صالح عن الليث قِفَار بتقديم القاف وكسرها وليس بَيِّنًا،
لأنه جمع قَفْرٍ وهي المفازة، وفي «الجامع» للقَزَّاز: الفِقْرَة بكسر الفاء،
والفَقَارة بفتحها إحدى فِقَار الظهر وهي العظام المنتظمة التي يقال لها خرز الظهر
فجمع الفِقَارة فَقَار، وجمع الفِقْرة فِقَرٌ، وقالوا: أَفْقِرة، يريدون جمع
فِقَار كما تقول: قذال وأَقْذِلة،
(2/126)
وفي
«الْمُحْكَمِ»: الفِقْرة والفَقْرة ما انتضد من عظام الصُّلْب من لدن الكاهل إلى
العَجْب، والجمع فِقْر وفِقَار، قال ابن الأعرابي: أقل فِقْر البعير ثمان عشرة
وأكثرها إحدى وعشرون، وفقار الإنسان سبع. انتهى.
الذي رأيت في «نوادر الأعرابي» رواية ثعلب فِقَار الإنسان سبع عشرة وأكثر فقر
البعير ثلاث وعشرون، وفي «المخصص»: الفِقَر ما بين كل منفصلين قال الشاعر:
على متونٍ صَلبٍ لأم الفِقَر
وقيل الفقار أطراف رؤوس الفِقَر، وكل فَقْرة خَرَزَةٌ، وفي «أمالي» أبي إسحاق
الزَّجَّاجي: هن سبع أمهات غير الصغار التوابع، وفي كتاب «الفصوص» لصاعد: هن أربع
وعشرون سبع منها في العنق وخمسٌ منها في الصُّلْب واثنتا عشرة وهي الأضلاع، وقال
الأصمعيُّ: هن خمس وعشرون فقرة، وفي «التشريح» لجالينوس: جميع خَرَزِ الظهر من لدن
منكت الدماغ من النخاع وإلى عظم العجز أربع وعشرون خرزة، سبع منها في العنق، وسبع
عشرة في الظهر منها في القَطَن خمسٌ، وفي كتاب علي بن عباس المعروف بالمكي فجميع
الفقارات أربع وعشرون فَقَارةً متصلةً بعضها ببعض اتصالًا مفصليًّا ما خلا
الفقارتين الأوليين من الرقبة فإنهما تتصلان بالرأس وتتصل إحداهما بالأخرى اتصالًا
غير مفصلي، ففي العنق سبع، وفي الظهر اثنا عشر، والحَقْو فمركَّب من فقارات خمس هن
أعظم من فقارات الظهر وأضيق تجويفًا.
(بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ التَّشَهُّدَ الأَوَّلَ وَاجِبًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَرْجِعْ)
(2/127)
829
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ، مَوْلَى بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ
-وَقَالَ مَرَّةً: مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الحَارِثِ- أَنَّ عَبْدَ اللهِ ابنَ
بُحَيْنَةَ -وَهُوَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ-
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ، فَقَامَ
فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ ولَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ
حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاَةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ
جَالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ». [خ 829]
هذا الحديث خرجه الستة في كتبهم، وذكره البخاري أيضًا في باب إذا حنث ناسيًا من
كتاب الإيمان والنذور. وعِنْدَ مُسْلِمٍ: وقال الليثُ عن ابن شهابٍ: «قَامَ فِي
صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ، قَبْلَ أَنْ
يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الْجُلُوسِ».
قال النووي: قوله: (حَلِيفِ بَنِي عبد المُطَّلِبِ) كذا وقع هنا، وفي مسلم والذي
ذكره
ابن سعيد وغيره أنه حليف عبد المطلب، وكان جده حالف المطلب بن عبد مناف. انتهى.
(2/128)
كأنَّ
الشيخ رحمه الله تعالى اعتقد أن هذا ينصرف إلى ابن بُحَيْنَةَ فذكر ما عند ابن سعد
وإنما هو ينصرف إلى الأعرج وهو الموصوف بولاء بني عبد المطلب، ومن نظر كتاب
«الصحيحين» تبين له ذلك ببادئ الرأي من غير رؤية ولا عقد نية، وقال ابن القصار:
فيما حكاه ابن بطال وغيره أجمع فقهاء الأمصار أبو حنيفة ومالك والثوري والشافعي
وإسحاق والليث وأبو ثور على أن التشهد الأول ليس بواجب حاشى أحمد فإنه أوجبه، ونقل
ابن الأثير وجوبهما عن أحمد وإسحاق، ونقله ابن التين أيضًا عن الليث وأبي ثور.
وفي «المغني»: إن كانت الصلاة مغربًا أو رباعية فهما واجبان فيهما على إحدى
الروايتين وهو مذهب الليث وإسحاق، لأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فعله
ودام عليه وأمر به في حديث ابن عباس بقوله: «قولوا التحيات لله» وجبره بالسهو حين
نسيه وقال: «صَلُّوْا كَمَا رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّيْ».
وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها: «وكانَ يقولُ في كلِّ رَكْعَتَيْنِ التحيةُ».
وعند النسائي عن ابن مسعود يرفعه: «إذا قَعَدْتُمْ في كلِّ رَكْعَتَيْنِ فقولوا
التَّحِيَّات» الحديثَ.
وحديث المسيء صلاته، وحديث رفاعة المذكورين قبل، قال ابن قدامة والآجُرِّي: ليسا
بواجبين.
(2/129)
وفي
«شرح الهداية»: قراءة التشهد في القعدة الأولى واجبة عند أبي حنيفة وهو المختار
والصحيح، وقيل: سنة وهو أقيس لكنه خلاف ظاهر الرواية، وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: ليس
تأويل من لم ير الجلوس الأول فرضًا بينًا، لأن عائشة قالت فُرِضَتِ الصلاة ركعتين،
ولأن المسافر فرضه أن يجلس في الركعتين، وليس جَعْلُ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
السجود بدلًا منه مما يوجب زوال فرضيته، ولأن من تعمد ترك الجلوس بطلت صلاته
واستدلَّ البخاري على أنه لو كان واجبًا لرجع إليه حين سبح به ولم يَنُبْ مَنَابه
سجود السهو، لأنه لا ينوب عن الفرض ألا ترى أنه لو نسي تكبيرة الإحرام وسجد لم
يَنُبْ عنها سجود السهو وحكم السهو يأتي إن شاء الله في موضعه.
(بَابُ التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَةِ)
831 - حَدَّثَنا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ
عَبْدُ اللهِ: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، قُلْنَا: السَّلاَمُ على اللهِ قبل عبادهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ،
فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ
لِلهِ وَالصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ
الصَّالِحِينَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمُوهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلهِ
صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ». وفي لفظ: «ثُمَّ
لِيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُوَ بِهِ». [خ 831]
(2/130)
هذا
حديث خرَّجه الستة في كتبهم, وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ:
إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ».
وفي «المنتقى»: «السَّلاَمُ عَلَى إِسْرَافِيْلَ».
وفي «المصنف»: «مَا كُنَّا نَكْتُبُ في عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ منَ الحديثِ إِلَّا التَّشَهُّدَ والاستخارةَ».
وقال الترمذي: هو أصح حديث رُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في
التشهد، وقال الخطابي: أصح الحديث وأشهرها رجالًا تشهُّد ابن مسعود، وقال ابن
المنذر وأبو علي الطُّوسي: قد رُوِيَ حديث ابن مسعود من غير وجه، وهو أصح حديث
رُوِيَ في التشهد عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
قال أبو عمر: بتشهد ابن مسعود أخذ أكثر أهل العلم لثبوت نقله عن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقال علي بن المديني: لم يصح في التشهد إلا ما نقله أهل
الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى وبنحوه.
قال ابن طاهر: وقال النووي أشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود من حديث ابن
عباس، وقال ابن قدامة: قد رُوِيَ من غير وجه وهو أصح حديث روي عن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في التشهد، وقد رواه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
معه ابن عمر وأبو موسى وجابر وعائشة رضي الله عنهم.
(2/131)
وفي
«الأوسط» لأبي القاسم من حديث العلاء بن المسيب عن أبيه قال: «كَانَ ابنُ
مَسْعُودٍ يُعَلِّمُ رَجُلًا التَّشَهُّدَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَشْهَدُ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ
عَبْدُ اللهِ: هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ نَنْتَهِي إلى مَا عُلِّمْنَا». وقال: لم
يروه عن العلاء إلا الْمُفَضَّل بن مُهَلْهَل تفرد به يحيى بن آدم. ومن حديث أبي
حمزة عن إبراهيم عن علقمة عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ وَيَقُولُ: تَعَلَّمُوا فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا
بِتَشَهُّدٍ». وقال: لم يروه عن أبي حمزة إلا صُغْدِيُّ بنُ سنان، وعند البزار:
قَالَ عَبْدُ اللهِ: «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ
الرَّجُلُ: وأن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ عَبْدُ
اللهِ مِرَارًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُوْلُ: وَأَشْهَدُ أن مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، وَالرَّجُلُ يَقُوْلُ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَكَذَا عُلِّمْنَا»، وقال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنا وكيع عن
إسحاق بن يحيى عن ابن المسيب بن رافع سَمِعَ ابنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا يَقُولُ فِي
التَّشَهُّدِ: بِاسْمِ اللهِ، فَقَالَ: «إِنَّمَا يُقَالُ هَذَا عَلَى
الطَّعَامِ».
وعند أبي داود: «كُنَّا لاَ نَدْرِي مَا نَقُوْلُ إِذَا جَلَسْنَا فِي الصَّلاَةِ
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَدْ عُلِّمَ».
(2/132)
ومن
حديث زهير: حَدَّثَنا الحسين بن الحرِّ عن الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عن علقمةَ
أنَّ عبدَ الله أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ عبد الله فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وفيه: «إِذَا قُلْتَ
هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ
فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ».
وقال الدَّارَقُطْني: رواه زهير عن ابن الحر فزاد في آخره كلامًا أدرجه بعضهم عن
زهير في الحديث ووصله بكلام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفَصَلَهُ
شَبَابَةُ عن زهير وجعله من كلام عبد الله.
وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه، ولأن ابن ثوبان رواه عن الحسن كذلك وجعل آخره
من قول عبد الله، ولاتِّفَاقِ حسين الجُعْفِي وابن عجلان ومحمد بن أبان في روايتهم
عن الحسن على ترك ذكره في آخر الحديث مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وعن غيره
عن عبد الله على ذلك، وقال البيهقي: ذهب الحفاظ إلى أن هذا وَهْمٌ، وأن ذلك من قول
ابن مسعود أُدْرِجَ في الحديث، وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك كان قبل أن ينزل
التسليم.
وقال الخطيب في كتابه «الفصل للوصل الْمُدْرَجِ في النقل»: قوله: (إِذَا قُلْتَ
ذلكَ فقدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ) إلى آخره ليس من كلام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وإنما هو قول ابن مسعود أُدْرِجَ في الحديث، وقد بَيَّنَه شَبَابَةُ في
روايته عن زهير بن معاوية وفصَل كلام ابن مسعود من كلام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
وكذلك رواه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن الحسن بن الحر مفصلًا مبينًا.
قال الخطابي: قد اختلفوا في هذا الكلام هل هو من كلام ابن مسعود أو من قوله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟
فإن صح رفعه ففيه دلالة على أن الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ غير
واجبة.
(2/133)
وقوله:
(قَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ) يعني: معظم صلاتك من القرآن العظيم والذكر والرفع
والخفض وإنما بقي عليه الخروج منها بالسلام، فَكَنَّى عن التسليم بالقيام إذ كان
القيام إنما يقع عقيبه ولا يجوز أن يقوم بغير تسليم، لأنه يبطل صلاته لحديث: «تَحْرِيمُهَا
التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ».
وقال أبو محمد الإشبيلي: الصحيح في هذه الزيادة أنها من قول عبد الله، وزعم أبو
زيد الدبوسي وغيره أن هذه الزيادة رواتها أبو داود الطيالسي وموسى بن داود
الضَّبِّي وهاشمي بن القاسم ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن يحيى النيسابوري في آخرين
متصلًا، فرواية مَنْ رواه مفصولًا لا يقطع بكونه مدرجًا لاحتمال أن يكون نَسِيَهُ
ثم ذكره فسمعه هؤلاء متصلًا وهذا منفصلًا أو قاله ابن مسعود فُتْيا كعادته.
وقد وجدنا في كتاب النسائي من حديث الإفريقي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «أَنَّهُ إِذَا جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ قَبْلَ أَنْ
يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلاَتُهُ». ولفظ أبي داود: «تَمَّتْ صَلاَتُهُ».
وفي كتاب البيهقي من حديث عاصم عن علي مثله، ولما ذكره أبو حاتم في «العلل» قال:
هذا حديث منكر ولا أعلم روى الحكم عن عاصم شيئًا وقد أنكر شعبة على أبي عوانة
روايته عن الحكم، فقال: لم يكن ذاك الذي لقيه الحكم، قال أبو حاتم: ولا يشبه هذا
الحديث حديث الحكم، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لَمَّا علَّم المسيء
صلاته لم يذكر السلام.
(2/134)
قال
الطحاويُّ: والذي يدل على أن ترك التسليم ليس بمفسد للصلاة: «أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَلَمَّا أُخْبِرَ
بِصَنِيْعِهِ ثَنَى رِجْلَهُ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» فقد خرج منها إلى الخامسة لا
بتسليم، ولو جاء بالخامسة وقد بقي عليه مما قبلها سجدة كان ذلك مفسدة للأربع فلو
كان واجبا كالسجدة لكان حكمه كالسجدة فَعُلِمَ أنه ليس بركن بل هو سنة، ولَمَّا
ذكر الشافعي حديث علي قال: ليسوا يقولون به، وقد رُوِيَ عن رجل فيه كلام كثير هم
ينكرونه، وقال أبو جعفر في «المشكل»: لم يقل أحد من رواة هذا الحديث عن عبد الله،
فلما فُرِضَ التشهد قال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ غير ابن عيينة،
قال أبو جعفر: ويحتمل أن يراد بالفصل هذه العطية من الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ
الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85] وفي حديث أبي معمر عن عبد الله:
«كُنَّا نقولُ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بينَ ظَهْرَانَيْنَا السلامُ
عليكَ أيُّهَا النبيُّ، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا السلامُ على النبيِّ».
قال أبو جعفر: وإنما جاء الغلط في هذا من دون أبي معمر، لأنه جليل بالمقدار.
وعند أبي موسى المديني في كتاب «الترغيب والترهيب» ما يَسُدُّ حديث أبي معمر من
حديث سعد بن إسحاق بن كعب قال: «كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم
يَقُوْلُوْنَ إِذَا سَلَّمُوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: هَذَا السَّلاَمُ عَلَيَّ وَأَنَا حَيٌّ فَإِذَا
مِتُّ فَقُوْلُوْا: السَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ».
وقال أبو عمر: أكثر طرق حديث عبد الله: «وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ» وأنكر
ذلك الطحاوي.
(2/135)
وفي
«مسند أحمد» من حديث أبي عبيدة عن أبيه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ عُلِّمَ التَّشَهُّدَ وَأمره أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ».
وفي «مسند أبي قرة» بسند صحيح: «فإذا قَالَهَا أصابَتْ كلَّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ،
وكلَّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وكلَّ عبدٍ صالحٍ».
وفي «سنن الدَّارَقُطْني» بسند فيه ضعف: «اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى
أَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَيْنَا مَعَهُمْ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَيْنَا مَعَهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ وَصَلَوَاتُ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأَمين , السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ».
وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: إِذَا سَلَّمَ فَبَلَغَ وَعَلَى عِبَادِ اللهِ
الصَّالِحِينَ فَقَدْ سَلَّمَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ.
وفي «صحيح ابن خزيمة»: ثم يدعو لنفسه ثم يسلم وينصرف.
وفي لفظ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ التَّشَهُّدَ فِي
وَسَطِ الصَّلَاةِ وَفِي آخِرِهَا فإِنْ كَانَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ نَهَضَ حِينَ
يَفْرُغُ مِنْ تَشَهُّدِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهَا دَعَا في تَشَهُّدِهِ بِمَا
شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْعُوَ ثُمَّ يُسَلِّم».
(2/136)
وعند
أبي عيسى مُحَسَّنًا: كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرَّضْف قال: قلنا حتى
يقوم، قال: حتى يقوم. وعنده أيضًا قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «منَ
السُّنَّةِ أنْ يُخْفِي التشهدَ» وقال: حسن غريب، وعند الحاكم عن عبد الله: «منَ
السُّنَّةِ أنْ يُخْفِي التشهدَ» وقال: صحيح على شرط مسلم، ولَمَّا خرجه ابن خزيمة
في «صحيحه»: زاد عن عائشة قال نزلت هذه الآية في التشهد: {وَلا تَجْهرْ بِصَلاتِكَ
وَلا تُخافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110].
وعند الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن عبد الله: «كَانَ يُعَلِّمُنَا -يَعْنِي
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- كَلِمَاتٍ كَمَا يُعَلِّمُنَا
التَّشَهُّدَ وَلَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُنَاهُنَّ: اللهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ
قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ» الحديثَ.
وعند ابن بطال: رُوِيَ عن أبي هريرة مرفوعًا في التشهد كحديث عبد الله بن مسعود،
وقد ورد في التشهد أحاديث منها عن ابن عباس عِنْدَ مُسْلِمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا
السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ، الصَّلَوَاتُ
الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهُ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ،
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللهِ».
وفي النسائي: «سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ،
أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللهِ».
وفي النسائي: «سلامٌ عَلَينَا» بغير ألف ولام وقال الترمذي: صحيح حسن غريب.
(2/137)
وقال
الطحاوي: رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فوقفه، والذي رفعه أبو الزبير وحده،
ولا يكافئ الأعمش ولا منصورًا ولا المغيرة وشبههم وممن روى حديث ابن مسعود ولا
قتادة في حديث أبي موسى ولا أبا بشر في حديث ابن عمر.
وفي «المصنف»: حَدَّثَنا معاذ عن حبيب بن الشهيد عن محمد عنه بزيادة: «البركات».
وعند ابن ماجه: «عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
وعن أبي موسى خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: إِذَا
صَلَّيْتِم فَذَكَرَ حَدِيْثًا فيه: «وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ فَلْيَكُنْ
مِنْ قَوْلِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ
لِلَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عَبَّادِ اللهِ الصَّالِحِينَ،
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ».
وعند أبي داود: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ
لَهُ».
وعند ابن ماجه: «سَبْعُ كَلِمَاتٍ مِنْ تَحِيَّةِ الصَّلاَةِ».
وفي «المصنف»: بسند جيد قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ
فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ، فَقُلنْا: عَلِّمْنَاها يا رسول
الله، قَالَ: فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ».
(2/138)
وعن
جابر بن عبد الله: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا
التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ بِاسْمِ اللهِ،
وَبِاللهِ، التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ
عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ
عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَسْأَلُ اللهَ
الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ».
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما، لأن أيمن احتج به محمد، وأبو الزبير احتج
به مسلم، وقال البيهقي: كتبناه من حديث المعتمر وأبي خالد الأحمر وأبي داود
الطيالسي وبكر بن بكَّار وغيرهم عن أيمن بلفظ: «باسم الله وبالله». وقال حمزة
الكناني في روايته سنن النسائي: قوله عن جابر خطأ والصواب أبو الزبير عن سعيد بن
جبير وطاوس عن ابن عباس ولم يقل في التشهد بسم الله وبالله إلا أيمن عن أبي
الزبير. وقال الترمذي في «العلل»: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: هو غير محفوظ
وهو خطأ والصحيح ما رواه الليث عن أبي الزبير عن سعد وطاوس عن ابن عباس وكذا رواه
عبد الرحمن بن حميد عن أبي الزبير مثل ما روى الليث.
وفي «الجامع» و «الأحكام»: للطوسي حديث أيمن غير محفوظ، وروينا عن البغوي في «شرح
السنة» أنه قال: ذكر التسمية غير صحيح عند أصحاب الحديث وكذا قاله أبو إسحاق في
«المهذب» وغيره.
(2/139)
وقال
القاسم بن عساكر: رأيت بخط النسائي لا نعلم أحدًا تابع أيمن على هذا الحديث وخالفه
ليث بن سعد وأيمن عندنا لا بأس عندنا به والحديث خطأ، وقال الدَّارَقُطْني: أيمن
خالف الناس لو لم يكن إلا حديث التشهد، وقال أبو الوليد الباجي في كتاب «الجرح
والتعديل»: غمزه غير يحيى بن معين لحديثه عن أبي الزبير في التشهد، وقال
الشافعيُّ: وقد روى ابن مسعود وجابر وأبو موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ في التشهد أحاديث كلها تخالف بعضه بعضًا واختلافها
إنما هو اختلاف في زيادة حرف أو نقصه وإنما أخذنا بهذا -يعني حديث ابن عباس-
لأنَّا رأينا أجمعها وهو أحبها إلينا، لأنه أكملها، زاد في كتاب «اختلاف الحديث»:
واحتمل أن يكون كلها ثابتة وأن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يعلم
الجماعة والمنفردين التشهد فيحفظه أحدهم على لفظ، ويحفظه الآخر على لفظ يخالفه لا
يختلفان في معنى، أنه أريد به تعظيم الله تعالى.
وفي «أطراف الغرائب» لأبي الفضل ابن طاهر: ورواه أبو عاصم عن عَزْرَةَ بن ثابت أو
ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر وقال: حديثٌ غريبٌ تفرَّد به حميد بن الربيع عن
أبي عاصم، وقال النووي: لا يُقْبَلُ من الحاكم تصحيحه حديثَ جابر فإنَّ الذين
ضَعَّفُوه أجلُّ من الحاكم وأتقنُ. انتهى.
وقد وجدنا لحديث أيمن في التسمية مُتَابِعًا من حديث علي عند البيهقي عن سعدان بن
نصر، حَدَّثَنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عنه: «أَنَّه كانَ إِذَا
تَشَهَّدَ قالَ باسم الله» قال: وروى عن وكيع عن الأعمش عن أبي إسحاق عن الحارث
مثله وزادوا: «بالله».
(2/140)
وفي
«الأوسط» من حديث عبد الله بن عطاء عن البَهْزي قال: سَأَلْتُ الْحُسَيْنَ عَنْ
تَشَهُّدِ عَلِيٍّ فَقَالَ: هُوَ تَشَهُّدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «التَّحِيَّاتُ لِلهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ وَالْغَادِيَاتُ
وَالرَّائِحَاتُ، وَالزَّاكِيَاتُ وَالنَّاعِمَاتُ السَّابِغَاتُ الطَّاهِرَاتُ
لِلَّهِ» الحديثَ.
وقال: لم يروه عن ابن عطاء إلا عَمْرو بن هاشم، وفي «الاستذكار»: رُوِيَ عن علي
تشهد هو أكمل هذه الروايات كلها، وفي «الأوسط» من حديث نَهْشَل بن سعد عن الضحاك
عن الحارث عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ
لاَ تَشَهُّدَ لَهُ». وقال: تفرد به عامر بن إبراهيم عن نهشل.
وفي «المصنف» من حديث الحارث: أَنَّ عَلِيًّا كًانَ يَقُوْلُ إِذَا تَشَهَّدَ:
«بِاسْمِ اللهِ، خَيْرُ الْأَسْمَاءِ اسْمُ اللهِ عز وجل». وفيه: «كَانَ سَعِيْدُ
بْنُ جُبَيْرٍ يَقُوْلُ فِي تَشَهُّدِهِ: بِاسْمِ اللهِ».
ومن حديثِ عائشةَ أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا تَشَهَّدَتْ قَالَتْ: «بِاسْمِ اللهِ،
التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ، وَالزَّاكِيَّاتُ لِلَّهِ»
الحديثَ. قال البيهقي: الرواية الصحيحة عن عبد الرحمن بن القاسم، ويحيى بن سعيد عن
القاسم عنها ليس فيها ذكر التسمية إلا ما انفرد بها محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن
عن أبيه.
قال البيهقيُّ: ورُوِيَ عن محمد بن صالح بن دينار عن القاسم بن محمد مرفوعًا:
«هَذَا تَشَهُّدُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ التحياتُ لله» إلى آخره،
وقال في آخره: قال محمد بن صالح قلت باسم الله، قال القاسم: باسم الله كل ساعة،
قال البيهقي: والصحيح موقوف وكذا قاله الدَّارَقُطْني، ورواه مالك موقوفًا وفيه:
«وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ».
(2/141)
ومن
حديث عمر بن الخطاب: «أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَلَّمَهُ
التَحِيَّاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ الْمُبَارَكَاتِ للهِ، السَّلاَمُ عَلَى
النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهُ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ».
قال أبو عمر: لما علم مالك أن التشهد لا يكون إلا توقيفًا من النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ اختار تشهد عمر، لأنه كان يعلمه الناس وهو على المنبر من غير نكير
من أحد من الصحابة، وكانوا متوافرين في زمانه ولم يأتِ عن أحد منهم أنه قال ليس
كما وصفت وفي تسلميهم له ذلك مع اختلاف رواياتهم عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ دليل على الإباحة والتوسعة فيما جاء عنه في ذلك صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مع أنه أمر متقارب كله قريب المعنى بعضه من بعض إنما فيه كلمة زائدة في
ذلك المعنى أو ناقصة.
وقَالَ ابنُ التِّيْنِ: هذا خبر يجري مجرى التواتر، لأن الصحابة أقروه عليه ولو
كان غيره يجري مجراه لقال له الصحابة ضَيَّقْتَ واسعًا وكان من الحاضرين ابن مسعود
وابن عباس الذين رويا التشهد.
وقال ابن حزم: اختار مالك موقوف عمر وقد خالف عمر ابنه فيه.
وعند البيهقي من حديث الدراوردي عن هشام عن أبيه: «أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُعَلِّمُ
النَّاسَ التَّشَهُّدَ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الرَسُولِ فَيَقُولُ: إِذَا
تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ،
التَّحِيَّاتُ الزَّاكِيَاتُ» الحديثَ.
(2/142)
وفيه:
قَالَ عُمَرُ: «ابْدَؤوا بِأَنْفُسِكُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وَسَلِّمُوا عَلَى عَبَّادِ اللهِ الصَّالِحِينَ». قال أبو بكر: ورواه
ابن إسحاق عن الزهري وهشام عن أبيه عن عبد الرحمن بن عبد عن عمر: «فَلْيَقُلْ:
بِاسْمِ اللهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ» وزاد وقدَّم وأخَّرَ، ورواه مالك ومعمر ويونس
وعمرو بن الحارث عن ابن شهاب فلم يذكر التسمية، وقدموا كلمتي التسليم على كلمتي
الشهادة، قال معمر: وكان الزهري يأخذ به ويقول: عَلَّمَه عمر الناس على المنبر
والصحابة متوافرون ولا ينكرونه، قال معمر: وأنا آخذ به.
ولَمَّا ذكر الحاكم التسمية فيه قال: صحيح على شرط مسلم، وإنما ذكرته، لأن له
شاهدًا على ما شرطنا في الشواهد.
وعن سَمُرَةَ: «أَمَرَنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا كَانَ فِي
وَسَطِ الصَّلَاةِ، أَوْ حِينَ انْقِضَائِهَا، فَابْدَؤوا قَبْلَ التَّسْلِيمِ،
فَقُولُوا: التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالْمُلْكُ لِلَّهِ،
ثُمَّ سَلِّمُوا عَلَى الْيَمِينِ، ثُمَّ سَلِّمُوا عَلَى قَارِئِكُمْ، وَعَلَى
أَنْفُسِكُمْ» رواه أبو داود بسند صحيح على شرط ابن حبان.
ومن حديث زيدٍ العَمِّيِّ عند ابن أبي شيبة عن أبي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عن ابن
عمر: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه كَانَ يُعلِّمُهُمُ
التَّشَهُّدَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْكِتَابِ:
التَّحِيَّاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ» الحديثَ.
وعن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في التشهد: «التَّحِيَّاتُ
للهِ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ
وَرَحْمَةُ اللهِ» قال ابن عمر: وزِدْتُ فيها: «وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ
عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
اللهُ».
(2/143)
قال
ابن عمر وزِدْتُ فيها: «وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» رواه أبوداود بسند صحيح، ورواه مالك في «الموطأ» عن نافع
عنه موقوفًا عنه بلفظ: «بِاسْمِ اللهِ، التَّحِيَّاتُ للهِ، الصَّلَوَاتُ للهِ،
الزَّاكِيَاتُ للهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّها النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ، شَهِدْتُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، شَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا
رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ، قَالَ: السَّلاَمُ عَلَى
النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ
اللهِ الصَّالِحِينَ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ». زاد رَزِينٌ في كتابه وقال: «إنَّ
رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ».
وقال البيهقيُّ: أما التسمية في هذا عن ابن عمر فهي وإن كانت صحيحة فيحتمل أن تكون
زيادة من جهته، فقد روينا عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حديث التشهد
ليس فيه التسمية، قال: وروى ثابت بن زُهْر عن نافع عن ابن عمر وهشام عن أبيه عن
عائشة كلاهما عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في التسمية قبل التحية، وثابت
منكر الحديث، والصحيح عن ابن عمر موقوف كما رويناه، قال وروينا عن ابن عباس:
«أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُوْلُ: بِاسْمِ اللهِ التَّحِيَّاتُ للهِ
فَانْتَهَرَهُ».
وفي «المصنف» حَدَّثَنا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنا عبد الرحمن بن إسحاق عن مُحَارِبٍ عن
ابن عمر: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا
التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا يُعَلِّمُ الْمُكْتِبُ الْوِلْدَانَ».
ولما ذكر الدَّارَقُطْني لفظ أبي داود قال: هذا إسناد صحيح، وقد تابع عليًّا أبا
نصر على رفعه ابنُ عدي عن شعبة ووقفه غيرهما. انتهى.
قد رواه أبو القاسم من حديث أبان بن يزيد عن قتادة مرفوعًا وقال تفرد به سهل بن
بكار.
(2/144)
وفي
حديث موسى بن عُبَيْدَةَ وَخَارِجَة وهما ضعيفان: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ
الزَّاكِيَاتُ للهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ،
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ».
وقال الترمذي: سألت محمدًا عن حديث شعبة يعني هذا، فقال: روى شعبة عن أبي بشر عن
مجاهد عن ابن عمر، وروى سفيان عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود وهو المحفوظ
عندي، قلت: فإنه رُوِيَ عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ورُوِيَ
عن ابن عمر عن أبي بكر قال: يحتمل هذا وهذا، قال: محمد وعبد الرحمن بن إسحاق الذي
روى عن محارب عن ابن عمر في التشهد هو الكوفة وهو ضعيف الحديث، ووقفه ابن عدي قد
تقدم من عند
الدَّارَقُطْني أن ابن عدي رفعه فينظر.
وعند أبي سعيد التحيات لله مثل حديث ابن مسعود سواء وفي آخره قال أبو سعيد: كنا لا
نكتب شيئًا سوى القرآن والتشهد رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح.
(2/145)
رجح أصحاب أبي حنيفة حديث ابن مسعود وزعموا أن حديث ابن عباس مضطرب المتن، فمن اضطرابه أنَّ الشافعي رواه بتنكير السلام وأحمد بتعريفه، وقال أحمد والشافعي: «وأن محمدًا». وفي مسلم وغيره: «وأشهدُ أنَّ محمدًا». وفي رواية عِنْدَ مُسْلِمٍ: «وأن محمدًا رسول الله». والسلام معرف، فإن قالوا: رجحناه لزيادة المباركات لموافقتها الآية الكريمة تحية من عند الله مباركة، فيقال: قال الطحاوي: لم تُشْرَعْ حيَّاكم الله وإن وافق ذلك لفظ القرآن في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] وفي حديث جابر المذكور قبلُ زياداتٌ أيضًا كان ينبغي أن يعتمد في حديث غيره، قال البيهقي: حديث ابن عباس متأخر عن حديث ابن مسعود فيقال في حديث ابن مسعود ما يدل على تقدمه على حديث ابن عباس: وهو كان لا يعلمنا، وكان يشعر بالاستمرار ولو علمه مرة في آخر عمره لما حَسُنَ أن يقال كان يعلمنا بخلاف ابن مسعود فإنه قال: عَلَّمَنِي، فلو علمه في آخر عمره مرة لصدق ووافقه عليٌّ وكذا ذكرناه عن أبي بكر أنه كان يعلمه الناس على المنبر، ولأنه لا اضطراب فيه كغيره، ولأن أكثر أهل العلم قال به واختاره حين قال الخطابي والعجب من الشافعي كيف اعتمد حديث ابن عباس وترك حديث ابن مسعود، قال أبو سليمان: فيه إيجاب التشهد، وإليه ذهب الشافعي خلافًا لأبي حنيفة ومالك، قال أبو حنيفة: التشهد والصلاة على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مستحب والقعود قدر التشهد واجب رجع إلى ترجيح حديث ابن مسعود ولأنه بواو العطف في مقامين والمعطوف ينبغي فيه المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فيكون ثناءً مستقلًا بفائدته، وإذا سقطت واو العطف كان ما عدا اللفظ الأول صفة له فيكون الثناء واحدًا بيانه، ولو قال: واللهِ والرحمن والرحيم كانت أيمانًا ثلاثًا، ولو قال: والله الرحمن الرحيم كانت يمينًا واحدة يلزمه كفارة واحدة ولهذا كان دخول
(2/146)
الواو
بين الصفات أقوى في المعنى كقوله:
إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي
المُزْدَحَمْ
وأكثر النحاة منعوا دخول الواو بين الصفة والموصوف، وقالَ ابن مالك:
ربما عطفت نعتًا على منعوته، فإذا جعلت التحيات مبتدأ ولم تكن صفة لموصوف محذوف
كان قوله والصلوات مبتدأً كيلا يعطف نعتًا على منعوته فيكون من باب عطف الجمل
بعضها على بعض وكل جملة مستقلة بفائدتها وهذا المعنى لا يوجد إن كانت بغير واو،
وزعم بعضهم أن واو العطف قد تسقط وأنشد:
كَيفَ أَصبَحت كَيفَ أمسيت مِمَّا ... يُثْبِتُ الوُدَّ فِي فُؤَادِ الْكَرِيم
المراد كيف أصبحت وكيف أمسيت وهذا أولى من إسقاط الواو العاطفة في عطف الجمل،
وأيضًا في حديث ابن مسعود بالسلام معرف في الموضعين بالألف واللام وهو يفيد
الاستغراق والعموم، وأَمَرَهُ أنْ يعلمه الناس فيه زيادة على التعليم الذي في
التشهدين والأمر للوجوب وإن لم يجب فيه زيادة استحباب وحث وتأكيد وكذا قوله كفِّي
بينَ كَفَّيْهِ وكذا أخذ ابن مسعود أصحابه بذلك.
قيل: دخل أعرابي على أبي حنيفة وهو مع أصحابه فقال: بواو أو بواوين، فقال: أبو
حنيفة بواوين، فقال الأعرابي: بارك الله فيك كما بارك في لا ولا فلم يعلم أحد من
أصحابه ما قالاه فسألوه، فقال: سألني عن التشهد هل هو بواو واحدة كتشهد أبي موسى
أو بواوين كتشهد ابن مسعود، فلما قلت: بواوين قال: بارك الله فيك كما بارك في
الشجرة المباركة لا شرقية ولا غربية.
(2/147)
و
(التَّحِيَّاتُ) جمع تحية وهي السلامة من جميع الآفات، وقيل: البقاء الدائم، وقيل:
العظمة، وفي «الْمُحْكَمِ»: التحية السلام، وقال الخطابي: روي عن أنس في تفسيرها
هي أسماء الله السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الأحد، قال: التحيات لله تعالى
بهذه الأسماء وهي الطيبات لا يُحَيَّا بها غيره، وقال ابن الأثير: التحياتُ كلماتٌ
مخصوصةٌ كانتِ العربُ تُحَيِّي بها الملوك كقولهم: (أَبَيْتَ اللَّعْنَ وانْعَم
صباحًا، وعِمْ ظلامًا وزه هزاز)، سأل أن يعيش عشرة آلاف سنة وكلها لا يصح منها
شيءٌ للثناء على الله تعالى فَتُرِكَتْ واسْتُعْمِلَ معنى التعظيم، فقيل: قولوا
التحيات لله أي: الثناء والعظمة والتمجيد كما يستحقه ويجب له.
وقوله: (لله) هذه اللام لام الملك والتخصيص وهي للأول أبلغ وللثاني أحسن، وقال
القرطبي: فيه تنبيه على أن الإخلاص في العبادات والأعمال لا تُفْعَل إلا لله
تعالى، ويجوز أن يراد به الاعتراف بأن ملك ذلك كله لله تعالى.
وقوله: (والصَّلَوات) قيل: أراد الصلوات الخمس، وقيل: النوافل، قال ابن الأثير:
والأول أقوى، وقال الأزهري: العبادات
وفي «المنافع» لحافظ الدين: التحيات العبادات القولية، والصلوات العبادات الفعلية،
والطيبات العبادات المالية. وقوله: (السَّلَامُ عَلَيْنَا) أراد الحاضرين من
الإمام والمأمومين والملائكة عليهم السلام وغيرهم.
و (الصَّالِحِيْنَ) جمع صالح، قال الزجاج: هو القائم بما عليه من حقوق الله تعالى
وحقوق العباد.
وقال القرطبيُّ: فيه تنبيه على أن الدعاء يصل من الأحياء إلى الأموات، وذكر الفخرُ
الفارسيُّ والخُبْرِيُّ معنى السلام على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أي:
اسم الله عليك، وتأويله لا خَلَوتَ من الخيرات والبركات وسَلِمْتَ من المكاره
والمذامِّ والآفات فإذا قلنا: اللَّهمَّ سلم على محمد إنما يريد اللَّهمَّ اكتب
لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص.
(2/148)
وقال
حافظ الدين: يعني السلام الذي سَلَّمَه الله تعالى عليك ليلة المعراج، ورُفِعَ
ليدل على الثبوت بالابتداء. وقال ابن الأثير: السَّلامُ الْمُنَكَّرُ أراد سلامًا
عظيمًا لا يُدْرَكُ كُنْهُهُ ولا يُعْرَفُ قَدْرُهُ فهو جليل في بابه خطير في
شأنه، وأكثر ما جاء في القرآن مُنَكَّرًا، ومن رواه مُعَرَّفًا فلأنه أراد إما
سلامًا معهودًا أو جنس السلام ليكون مستغرقًا لأنواع السلام.
و (العِبَادِ) جمع عبد، وذكر أبو القاسم القشيري فيما رويناه في كتاب «الرسالة»:
سمعت أبا علي الدقاق يقول: ليس شيء أشرف من العبودية ولا اسم أتم للمؤمن من الوصف
بالعبودية ولهذا قال الله للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليلة المعراج وكانت
أشرف أوقاته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الدنيا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وقال في تلك الليلة: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا
أَوْحَى} [النجم: 9].
وفي «الْمُحْكَمِ»: العبد الإنسان حرًّا كان أو رقيقًا، يذهب إلى أنه مربوب لباريه
جلَّ وعزَّ، والجمع أعبُدٌ وعبيد وعِبَاد وعُبْدٌ وعِبْدَانٌ وعُبْدَان، وأعابدُ
جمع أَعْبُد، والعِبِدَّى والعِبِدَّاء والمعبوداء والمَعْبَدَةُ أسماء الجمع،
وجعل بعضهم العباد لله وغيره من الجمع لله وللمخلوقين، وخَصَّ بعضهم بالعِبِدَّى:
العبيد الذين وُلِدوا في الملك، والعَبْدل العبد، لامه زائدة، والأنثى عبدة.
(بَابُ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلاَمِ)
(2/149)
832
- حَدَّثَنا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ
بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ
مِنَ المَغْرَمِ، فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ،
وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ». [خ 832]
وعن الزهري: أخبرني عروة أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ».
وزعم الشيخ ضياء الدين وأبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن تيمية في كتابيهما
«الأحكام»: أن هذا الحديث خرَّجه الشيخان، وعندهما أيضًا من حديث أبي هريرة
مرفوعًا بلفظ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ
فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَالِ».
وعند ابن ماجه: «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ،
فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ: ... ) الحديثَ.
وعند ابن خزيمة وصححه الحاكم على شرطهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ لرجلٍ: «ما تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ
اللهَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ باللهِ مِنَ النَّارِ، أَمَا واللهِ مَا أُحْسِنُ
دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ».
قال ابن خزيمة: والدَّنْدَنَةُ الكلام الذي لا يفهم.
(2/150)
وعند
البخاري أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو عن أبي بكر قَالَ يَا رَسُوْلَ اللهِ:
عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ في صلاتي، فَقَالَ: «قُل اللهُمَّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذَّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ،
فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ».
وخرجه النسائي في «اليوم والليلة» عن أبي الطاهر فقال (عن ابن عمر أن أبا بكر)
فجعله من مسند ابن عمر، ورواه مسلم عن أبي الطاهر فجعله من مسند أبي بكر مما ذكره
البخاري فالله تعالى أعلم مِمَّن الوهم من أبي الطاهر أو من الآخذ عنه؟.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ عن ابن عباس: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان
يُعَلِّمُهُمْ هذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ،
يَقُولُ: قُوْلُوْا اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ،
وأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ
الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ».
وعن عائشةَ أَنَّ فَرْوَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، سَأَلَهَا عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدْعُوْ بِهِ، فَقَالَتْ: َانَ يَقُولُ: اللهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ».
زاد النسائي: «حَدِّثِيْنِي بِشَيءٍ كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِهِ».
(2/151)
وعن
مِحْجَنِ بْنِ الْأَذْرَعِ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ، وَهُوَ يَتَشَهَّدُ
وَهُوَ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا أللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ،
الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ
تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ» ثَلَاثًا أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه»،
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وعن شداد بن أوس: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ نَدْعُو بِهِنَّ فِي صَلَاتِنَا، اللهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ،
وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا
سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ
مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ». رواه أحمد من
حديث رجل من بني حنظلة عنه.
وعند النسائي بإسقاط هذا المجهول: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
كَانَ يَقُوْلُ فِيْ صَلاَتِهِ» الحديثَ.
(2/152)
وعن
عمار بن ياسر: وَصَلَّىَ صَلَاةً فَأَوْجَزَ فِيْهَا، وَفِيْهِ: أَمَا إِنِّي
دَعَوْتُ فيها بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَدْعُوْ بِهِ: «اللهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ،
أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إذا كانت الْوَفَاةَ
خَيْرًا لِي، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ
الحَقِّ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا وَالقَصْدَ فِي الفَقْرِ وَالغِنَى، وَلَذَّةَ
النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، والشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ
ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَمن فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهُمَّ ربنا زَيِّنَا بِزِينَةِ
الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ».
رواه أيضًا من حديث عطاء بن السائب عن أبيه عنه.
وعن أبي طلحة: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنَّ
فِي صَلاَتِيْ قَالَ: «سَبِّحِي اللهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشْرًا، وَكَبِّرِيهِ
عَشْرًا، ثُمَّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ، يَقُولُ: نَعَمْ، نَعَمْ» خرجه ابن خزيمة وقال
الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وعن عبيد بن القعقاع قال: «رَمَقَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّيْ فَجَعَلَ يَقُوْلُ فِي صَلاَتِهِ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي
ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي ذَاتِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي» رواه أحمد
في «مسنده».
وعن معاذ بن جبل: «قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِنِّي
أُوْصِيْكَ بِكَلِمَاتٍ تَقُوْلُهُنَّ فِي كُلِّ صَلاَةٍ اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى
ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ». رواه أحمد وهذا لفظه.
وعند أبي داود والنسائي: «يَقُوْلُهُنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ».
(2/153)
وعن
علي: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مِنْ آخِرِ مَا
يَقُوْلُهُنَّ مِنَ التَّشَهُّدِ والتَّسْلِيْمِ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا
قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ،
وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ،
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» رواه مسلم.
اختلف العلماء فيما يدعو به الإنسان في صلاته:
فعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز الدعاء فيها إلا بالأدعية المأثورة أو الموافقة
للقرآن العظيم لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من «صحيح مسلم»: «إِنَّ
صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا
هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيْرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ». وذكره ابن أبي شيبة
عن إبراهيم وطاوس ومحمد بن سيرين، وقال الشافعي ومالك: يجوز أن يدعو فيها بكل ما
يجوز الدعاء به خارج الصلاة
من أمور الدنيا والدين مما يشبه كلام الناس ولا تبطل صلاته بشيء من ذلك عندهما.
وأما ابن حزم فقال بفرضية التعوذ الذي في حديث عائشة، ولأن مسلمًا ذكر عن طاوس أنه
أمر ابنه بإعادة صلاته التي لم يَدْعُ فيها.
وفيه إثبات عذاب القبر وهو مذهب الجماعة وقد بَيَّنَّا في كتاب الطهارة أنه أيضًا
مذهب المعتزلة وأن من يستثنيهم في ذلك غير مصيب، قال الطبري: فإن قيل قد عارض هذا
ما رواه جعفر ترجمة عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَرْفَعُهُ:
«إِنَّ اللهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ، مَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا
يَكْرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ».
وكانَ ابنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ لِخَازِنِهِ: اذْهَبْ فَخُذْ لِي بِدَيْنٍ فَإِنِّي
أَكْرَهُ أَنْ أَبِيتَ اللَيْلَةَ إِلَّا وَاللهُ مَعِي.
قال الطبري: وكلا الحديثين صحيح وقد بَيَّنَ في نفس الحديث معناهما.
وأما (الْمَغْرَم) الذي استعاذ منه فله أوجه ثلاثة:
(2/154)
إما
أن يكون في مباح ولكن لا وجه عنده لقضائه فهو متعرضٌ لهلاكِ مال أخيه، أو مستدين
وله إلى القضاء سبيل غير أنه يرى ترك القضاء وهذا غير صحيح بالنسبة إلى النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اللَّهمَّ إلا أن يترك على التعليم للأمة، والثالث
كرهت ذكره والله أعلم.
وقوله: (منْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ) أرشد أمته إلى قول ذلك ويريد الحياة
والموت، ويَحتمل زمانَ ذلك، لأن ما كان معتلَّ العين من الثلاثي فقد يأتي منه
المصدر والزمان والمكان بلفظ واحد، ويريد بذلك محبة الدنيا وما بعدها، ويريد بذلك
حالة الاحتضار وحالة الْمُسَاءلَةِ في القبر فكأنَّه لما استعاذ من فتنة هذين
المقامين سأل التثبيت فيهما كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:
27].
وأما (الْمَأَثَم) فهو الإثم يجر إلى الذَّمِّ والعقوبة، والمغرم الدَّيْنِ،
غَرِمَ -بكسر الراء- أدان.
وقوله: (مَغْفِرَةً منْ عِنْدِكَ) قال ابن الجوزي: فإن قيل وهل تكون المغفرة إلا
من عند الله؟
فالجواب: أن المعنى هَبْ لي الغفران بفضلك وإن لم أكن أهلًا له بعملي.
وقوله: (ظُلْمًا كَثِيْرًا) وفي مسلم بالباء الموحدة، قال النووي: فينبغي أن يقول
كثيرًا، وأما تعوذه من فتنة الدجال فذكر أبو الفرج إن قيل كيف احتاج أن يستعيذ من
الدجال وقد ثبت أن الدجال إذا رأى المسيح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يذوب ونبينا
أعلى منه منزلة؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أراد أن يعلمنا.
الثاني: أن يكون تعوذ منه لأمته.
الثالث: لأن عصمته من الله وهو محتاج إلى الاستعاذة من كل شيء. انتهى.
الجواب المرضي هو الأول والله تعالى أعلم.
(2/155)
وأما
الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا ذُكِرَ ومن قال بوجوبها تعلق
بما رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه «عمل اليوم والليلة» من حديث عبد الرحمن بن
سلام، حَدَّثَنا إبراهيم بن طهمان، حَدَّثَنا أبو إسحاق عن أنس قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَلَيَّ».
وعن جابر من حديث عبد الرحمن بنِ مَغْرَاءَ عن الفضل بن مبشر عنه قال: سمعت
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ
عَلَيَّ فَقَدْ شَقِيَ».
وأما الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الصلاة:
فمذهب الشافعي رحمه الله تعالى أنها فرض في التشهد الآخر، قال في «شرح المهذب»:
ونقله أصحابنا عن عمر بن الخطاب وابنه ونقله الشيخ أبو حامد عن ابن مسعود وأبي
مسعود البدري وهو أحد الروايتين عن أحمد، وقال إسحاق: إن تركها عمدًا لم تصح صلاته
وإن تركها سهوًا رجوت أن تجزئه، وقال ابن أبي زيد عن ابن الْمَوَّازِ: الصلاة على
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فريضة.
قال أبو محمد: يريد ليست من فرائض الصلاة، وحكى ابن القصار أنَّ ابن المواز يراها
فريضة في الصلاة لقول الشافعي، وقال أبو حنيفة ومالك وأكثر العلماء: هي مستحبة.
وقال ابن حزم: فإن قال قائل: لِمَ لَمْ تجعلوا الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ في إثر التشهد فرضًا كما يقول الشافعي؟
قلنا: لأن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يقل إن هذا القول فرض في الصلاة
ونحن نقول إنه فرض على كل مسلم أن يقوله مرة في الدهر، وزعم محمد بن جرير الطبري
والطحاوي أنه لا سلف لمحمد بن إدريس في قوله ولا سنة يتبعها.
(2/156)
وقال
الخطابيُّ: ليست بواجبة في الصلاة وهو قول جماعة من الفقهاء إلا الشافعي، ولا أعلم
له فيها فائدة والدليل أنها ليست من فروض الصلاة عَمَلُ السلف الصالح قبل الشافعي
وإجماعهم، وقد شَنَّع الناس عليه في هذه المسألة جدًا. انتهى.
لقائل أن يقول بل للشافعي في قوله سنة يتبعها وسلفٌ قاله قبله، فأما السنة فما خرجه
ابن خزيمة وابن حبان في «صحيحهما»، وقال الدَّارَقُطْني: هذا إسناد حسن، وقال
الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال البيهقي: إسناد صحيح عن أبي مسعود قال: «أَقْبَلَ
رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَقَدْ عَرَفْنَاهُ،
فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا فِي صَلَاتِنَا صَلَّى الله
عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَصَمَتَ حَتَّى أَحْبَبْنَا أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَسْأَلْهُ،
ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَنْتُمْ صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى
مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» الحديثَ.
وعند الدَّارَقُطْني من حديث جابر عن أبي جعفر عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّىَ صَلاَةً لَمْ يُصَلِّ فِيْهَا عَلَيَّ لَمْ
تُقْبَلْ مِنْهُ» وقال: الصحيح من كلام أبي جعفر.
وعند ابن حزم مصححًا بسكونه: «أُمِرْنَا أنْ نُصَلِّي عَلَيْكَ ونسلم».
وفي مسند الشافعي من حديث إبراهيم، أخبرني صفوان عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه
قال: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ -يَعْنِي: فِي الصَّلَاةِ-
فَقَالَ: تَقُولُونَ: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» الحديثَ.
(2/157)
وعن
فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ: سَمِعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا
يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: -أَوْ لِغَيْرِهِ- «إِذَا
صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ اللهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَيَدْعُوْ لِنَفْسِهِ» قال الحاكم، وقد
أسند هذا عن ابن مسعود أنه قال يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ثم يدعو بما شاء خرجه ابن خزيمة وابن حبان في «صحيحهما»، وقال الترمذي
والحاكم والطُّوسي صحيح، زاد أبو عبد الله الحاكم على شرط الشيخين ولا نعرف له علة
وله شاهد صحيح على شرطهما عن ابن مسعود أنه قال يتشهد الرجل ثم يصلي على النبي صلى
لله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه.
قال الحاكم: وقد أسند هذا عن ابن مسعود بإسناد صحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلِ:
اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ» الحديثَ ثم ذكر حديثًا من
جهة عبد المهيمن بن عباس بن سهل سمعت أبي يحدث عن جدي: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَقُوْلُ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي صَلاَتِهِ».
وقال: لم أخرجه على شرطهما فإنهما يُخَرِّجَان عن عبد المهيمن، ولما خرَّجه
الدَّارَقُطْني قال: عبد المهيمن ليس بالقوي. انتهى.
وقد وقع لنا هذا الحديث من طريق صحيحة ذكرها أبو موسى المديني في كتاب «الترغيب
والترهيب» من حديث أُبَيِّ بن عباس بن سهل وحديثه مخرجٌ في صحيح البخاري وأثنى
عليه غير واحد من الأئمة.
(2/158)
وعن
بُرَيْدَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يَا بُرَيْدَةَ
إِذَا جَلَسْتَ فِي صَلَاتِكَ فَلَا تَتْرُكَنَّ التَّشَهُّدَ وَالصَّلَاةَ
عَلَيَّ فَإِنَّهَا زَكَاةُ الصَّلَاةِ» الحديث رواه الدَّارَقُطْني من حديث
عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، ولفظ البزار من طريق الجعفي: «إِذَا جَلَسْتَ فِي صَلَاتِكَ
فَلَا تَتْرُكَنَّ التَّشَهُّدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ
وَالصَّلاَةَ عَلَيَّ» الحديثَ. وعن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَقُوْلُ فِي الصَّلاَةِ: اللهُمَّ صَلِّ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ
إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». رواه الشافعي عن
إبراهيم بن محمد حدثني سعد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه.
وعن عائشة قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لاَ صَلاَةً إِلاَّ
بِطُهُوْرٍ وَبِالصَّلاَةِ عَلَيَّ».
رواه أبو الحسن من حديث عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ أيضًا وعن زيد بن حارثة الأنصاري قال:
قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ
نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: صَلُّوْا عَلَيَّ وَقُوْلُوْا اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى
مُحَمَّدٍ» الحديثَ.
رواه القاضي إسماعيل بسند صحيح.
وأما (السَّلَفُ) فهو ما ذكره البيهقي عن الشعبي بسند جيد أنه قال: «مَنْ لَمْ
يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ
فَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ، أَوْ قَالَ: لَا تُجْزِي صَلَاتُهُ» وما تقدم.
(2/159)
وأما
(الْمَسِيْحُ الدَّجَّالُ) لعنه الله فزعم أبو الخطاب بن دحية في كتاب «التنوير»
أنه سُمِّيَ بذلك لأنه ممسوح العين، وقيل: لجولاته في الأرض، قال ومنهم من يقرؤه
بكسر الميم وتثقيل السين، وحكى الأزهري مِسِّيحٌ بالتشديد على وزن فِعِّيْلٌ، وعن
أبي عمر ومنهم من قال بالحاء المعجمة وذلك كله عند أهل العلم خطأ، وقيل: سُمِّيَ
مَسِيْحًا، لأنه لا عين له ولا حاجب، وقيل: لتمرده، وقيل: شُبِّه بالدرهم الأطلس
الذي لا نقش عليه والله تعالى أعلم.
الباب الذي بعده يأتي إن شاء الله تعالى.
(بَابُ التَّسْلِيمِ)
837 - حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ،
حَدَّثَنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الحَارِثِ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ
قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَامَ
النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ، وَمَكَثَ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»
قَالَ ابنُ شِهَابٍ: وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ يَنْفُذَ النِّسَاءُ
قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ القَوْمِ. [خ 837]
عِنْدَ مُسْلِمٍ عن عائشة: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا
سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ، إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ
وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
وعند ابن خزيمة عن ابن مسعود: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
إِذَا سَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ لَمْ يَجْلِسْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ:
اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ».
(2/160)
وعند
أبي نعيم الحافظ في كتاب «عمل يوم وليلة» بسند ضعيف عن أبي سعيد: «كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ لَا يَجْلِسُ
إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا
يَصِفُونَ وَسَلَّامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180]». التعليق الذي ذكره هنا ذكرناه بعد في باب مكث
الإمام في مُصَلَّاه بعد السلام وكذا الاختلاف في هذه، وعند الشافعي أن السلام ركن
وكذا أحمد.
وقال النووي: لو أخلَّ بحرف من حروف (السلام عليكم) لم تصح صلاته، وعن أبي حنيفة
واجب، وقيل: سنة وفي «العُتبيَّةِ»: عن ابن القاسم إذا أحدث الإمام متعمدًا قبل
السلام صحت صلاته كقول أبي حنيفة، وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وبالأول قال ابن مسعود
وعطاء والزهري ومالك، وفي «المغني» لابن قدامة: التسليم واجب لا يقوم غيره مقامه
والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: إنما حديث التسليمتين زمن بني هاشم، وقال الطبري: هو
مُخَيَّرٌ في الخروج بسلام أو غيره، وقال ابن المنذر: وأجمع العلماء على أنَّ
صلاةَ من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة، وعند الطحاوي عن الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ
هما واجبتان، وهي رواية عن أحمد وبها قال بعض أصحاب مالك استدل أصحاب الشافعي ومن
قال بقوله بحديث ابن عقيل وهو متكلم فيه: «تَحْرِيْمُهَا التَّكْبِيْرُ
وَتَحْلِيْلُهَا التَّسْلِيْمُ».
(2/161)
وقول
النووي: سنده صحيح إلا أنَّ فيه ابن عقيل لا أدري معنى هذه العبارة فإن السند
الصحيح لا يكون فيه علة لا سيما عند من استلزم صحته وبفعله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ الوارد في عدة أحاديث رواها ابن مسعود وأبو موسى وعمار ووائل بن حجر وأبو
حميد الساعدي وأبو رَمْثَةَ وواثلة وابن عمر وجابر بن سمرة والبراء ابن عازب
وقبيصة بن ذُؤَيب ويعقوب بن الحُصَيْن وعدي الحضرمي وسهل بن سعد وأبي مالك الأشعري
وعائشة وسلمة بن الأكوع وأنس بن مالك وبعضها عِنْدَ مُسْلِمٍ وابن خزيمة وابن حبان
وغالبها عند الطبراني والطبري وليس في شيء منها ما يقتضي الوجوب، والسُّنَّةُ يقول
بها الحنفي فيبقى النظر في الوجوب أي دليل اقتضاه وكذا الاقتصار على تسليمة واحدة
أو وجوبها إنما أُخِذَا من فعله لا من قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولكنا
نقول مواظبته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقتضي الكمال وذكر التسليمة الواحدة
تحمل على بيان الجواز، ورواية من روى ثلاث تسليمات أعلَّها غير واحد من الأئمة،
ولقائل أن يقول أخذنا الوجوب من قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «صَلُّوْا
كَمَا رَأَيْتُمُوْنِي أُصَلِّيْ» وممن كان يسلم تسليمتين أبو بكر وعلي وعمار وابن
مسعود ونافع بن عبد الحارث وعلقمة وأبو عبد الرحمن السُّلَمي وعطاء والشعبي
والثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق قال ابن المنذر وبه أقول، وكانت عائشة تسلم
واحدة وكذا محمد بن سيرين والحسن وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي ومالك، وقال عمار
بن أبي عمار: كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين وكان مسجد المهاجرين يسلمون فيه
تسليمة.
وفي «المحيط»: لما كانت التسليمة الثانية أخفض من الأولى خَفِيَتْ على من كان
بعيدًا عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
البابان اللذان بعد هذا تقدَّما.
(بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ)
(2/162)
841
- حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
ابنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابنِ
عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ ابنَ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ
حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ». وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا
انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ». [خ 841]
وفي حديثِ علي بن عبد الله عن سفيان حَدَّثَنا عمرو: «كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ
صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ».
وعند أحمد في مسنده عن عبد الرزاق وابن بكير، حدَّثَنَا ابن جريج إلى قوله: على
عهد رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثم قال: وإنه -يعني أَبَا
مَعْبَدٍ- قال: قال ابن عباس: «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوْا بِذَلِكَ إِذَا
سَمِعْتُهُ». وعِنْدَ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنا زهير، حدَّثَنَا ابن عيينة، عن عمرو قال
أخبرني بذا أَبُو مَعْبَدٍ ثم ذكره بعد عن ابن عباس قال: «كُنَّا نَعْرِفُ
انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِالتَّكْبِيرِ».
وحدَّثَنَا ابن أبي عمر، حدَّثَنَا ابن عيينة عن عمرو عن أبي مَعْبَدٍ مولى ابن
عباس سمعه يخبر عن ابن عباس قال: «مَا كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلاَّ بِالتَّكْبِيرِ» قَالَ عَمْرٌو:
فَذَكَرْتُ لِأَبِي مَعْبَدٍ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ: لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهَذَا،
قَالَ عَمْرٌو: وَقَد أَخْبَرَنِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ.
وحدثني محمد بن حاتم، أخبرنا محمد بن بكير، أخبرنا ابن جريج، أخبرني عمرو أن أبا
معبد مولى ابن عباس أخبره الحديثَ.
(2/163)
وفي
«مسند الشافعي» قال عمرو: وكان أبو معبد من أصدق موالي ابن عباس، قال الشافعيُّ:
كأنه نسيه بعد ما حدثه إياه، قال الجياني: وأما ما وقع في نسخة أبي العلاء بن
ماهان عن عمرو قال: أخبرني جدي أبو معبد فتصحيفٌ، وصوابه أخبرني بذا يريد بهذا
وليس لعمرو جدٌّ يروي عنه. انتهى.
واحتجاج مسلم بهذا الحديث مع روايته الإنكار دليل عنده أنَّ نسيانَ الشيخِ أو
شكَّه وما أشبهه غير مؤثر في صحة الحديث، إذا كان راوي ذلك عنه ثقة وهو قول
الجمهور حاشى الكرخي الحنفي فإنه قال: لا يحتج به اللَّهمَّ إلا أن يكون إنكار
الشيخ جازمًا بتكذيب الفرع أو أنه لم يحدثه قط وشبهه.
وعند الترمذي من رواية عكرمة ومجاهد عنه: «جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الأَغْنِيَاءَ
يُصَلُّونَ ... » الحديثَ وفيه: «فَقُولُوا: سُبْحَانَ اللهِ ثَلاَثًا
وَثَلاَثِينَ، وَالحَمْدُ لِلهِ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاللهُ أَكْبَرُ
أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ عَشْرًا» وقال: حسن غريب.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع
الصوت بالتكبير والذكر حاشى ابن حزم، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه جهر ليعلمهم
صفة الذكر لا أَنَّه كان دائمًا قال: وأَخْتَارُ للإمام والمأموم أن يذكرا الله
تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويخفيان ذلك إلا أن يَقْصدَا التعليم فَيُعْلِمَا ثم
يُسِرَّا، وقال الطبري: فيه الإبانة عن صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء
والولاة يكبر بعد صلاته ويكبر من خلفه، قال غيره: لم أجد أحدًا من الفقهاء قال
بهذا إلا ما ذكره ابن حبيب في «الواضحة»: كانوا يستحبون التكبير في العساكر
والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء، وروى ابن القاسم عن مالك أنه مُحْدَثٌ، وعن عبيدة
هو بدعة، ويؤخذ من هذه أنه لم يكن مُسَمِّع جهيرُ الصوت بلَّغَ السلام.
(2/164)
قَالَ
ابنُ بَطَّالٍ: وقول ابن عباس هذا فيه دلالة أنه لم يكن يفعل حين حدث به، لأنه لو
كان يفعل لم يكن لقوله معنى، فكان التكبير بأثر الصلوات مما لم يواظب الرسول
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عليه طول حياته، وفَهِمَ أصحابه أن ذلك ليس بلازم
فتركوه خشية أن يَظُنَّ من قَصُرَ عمله أنه مما لا تتم الصلاة إلا به، فلذلك كرهه
من كرهه من الفقهاء والله تعالى أعلم.
وفيه دلالة أن ابن عباس كان يصلي أخريات الصفوف لكونه صغيرًا.
843 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «جَاءَ
فُقَرَاءُ المُهَاجِرِيْنَ إِلىَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَقَالُوْا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، بالدَّرَجَاتِ العُلاَ،
وَالنَّعِيمِ المقيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ،
وَلَهُمْ فَضْلُ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ،
وَيَتَصَدَّقُونَ، فَقَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِشَيءٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ
أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ
خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ
تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا
وَثَلاَثِينَ» قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلاَثًا
وَثَلاَثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا
وَثَلاَثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: تَقُولُ: «سُبْحَانَ اللهِ،
وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ
ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ». [خ 843]
(2/165)
وفي
لفظ: «أَفَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ،
وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلاَ يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ
بِهِ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «تُسَبِّح اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ،
وَاحْمَد اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّر اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ،
فَذلكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، ثمَّ قَالَ: تَمَامَ الْمئة لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
وفي لفظ: أَدْرَجَ قَوْلَ أَبِي صَالِحٍ، ثُمَّ رَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ
ولم يجعله من قول أبي صالح، وفي آخره يَقُولُ سُهَيْلٌ: إِحْدَى عَشْرَةَ، إِحْدَى
عَشْرَةَ، فَجَمِيعُ ذَلِكَ كُلِّهِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وسيأتي له تتمة في
كتاب الدعوات. وعنده أيضًا عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ يرفعه: «مُعَقِّبَاتٌ لَا
يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ -أَوْ فَاعِلُهُنَّ- دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ،
ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً،
وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً»، وزعم الدَّارَقُطْني أن منصورًا وشعبة
روياه عن الحكم موقوفًا وهو الصواب.
(2/166)
وعن
ابن عمرو قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «خَصْلَتَانِ -أَوْ
خَلَّتَانِ- لَا يُحَافِظُ عَلَيْهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ،
وَهُمَا يَسِيرٌ، وَمن العَمَلِ بِهِمَا قَلِيلٌ، قَالُوا: وَمَا هُمَا يَا
رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: أَنْ يَحْمَدَ اللهَ وَيُسَبِّحَهُ وَيُكَبِّرَهُ فِي
دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا عَشْرًا» قال الترمذي: حسن صحيح، وفي «الأذكار»:
أشار أيوب بن أبي تميمة إلى صحته، وصححه أيضًا ابن حبان والطُّوسي، وعند أبي إسحاق
الثعلبي من حديث ابن لهيعة عن أبي قبيل عنه يرفعه: «أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى
مُوْسَى مَنْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ
أَعْطَيْتُهُ أَجْرَ المُتَّقِيْنَ وَأَعْمَالَ الصِدِّيْقِيْنَ».
وعن سعد بن أبي وقاص قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا
يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يُسَبِّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيُكَبِّرَ
عَشْرًا، وَيَحْمَدَ عَشْرًا؟» الحديثَ خرجه النسائي في «اليوم والليلة» وقال:
الصواب حديث يعلى بن عُبَيْدٍ يعني عن موسى الجُهَنِي عن أبي زرعة عن أبي هريرة
الحديثَ.
(2/167)
وعن
أبي الدرداء: «قُلْتُ يَا رَسُوْلَ اللهِ ذَهَبَ أَهْلُ الأَمْوَالِ بِالدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ» الحديث وفيه: «تُسَبِّحُ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمدُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُهُ أَرْبَعًا
وَثَلَاثِينَ» رواه النسائي بسند صحيح عن أبي إسحاق عن جرير عن عبد العزيز بن
رُفَيْعٍ عن أبي صالح عنه، وسيأتي أن البخاري قال: رواه جرير عن عبد العزيز عن أبي
صالح عنه عن أبي الدرداء، قال ابن عساكر: ورواه التيمي عن أبي صالح عن أبي هريرة،
ورواه الثوري عن عبد العزيز عن أبي صالح عن أبي عمر الصِّيني عن أبي الدرداء،
ورواه شريك عن عبد العزيز عن أبي عمر عن أم الدرداء عن أبي الدرداء.
وعن ابن عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، أَي شَيْءٍ
أَمَرَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَ: «أَمَرَنَا أَنْ
نُسَبِّحَ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ» الحديثَ فَقَالَ: «سَبِّحُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ،
وَاحْمَدُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَكَبَّرُوا خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَهَلِّلُوا
خَمْسًا وَعِشْرِينَ , فَتِلْكَ مِئَةٌ، فَلَمَّا أَصْبَحَ, ذَكَرَ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: افْعَلُوا كَمَا قَالَ الأَنْصَارِيُّ» خرجه ابن حبان في «صحيحه».
ورواه زيد بن ثابت بنحوه من عند ابن خزيمة، وقال الحاكم: صحيح الإسناد بزيادة:
«فَلَوْ جَعَلْتُمْ فِيهَا التَّهْلِيلَ، فَجَعَلْتُمُوهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ».
(2/168)
وعند
أبي نُعَيْمٍ بسند فيه ضعف أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ
لِقَبِيصَة في حديث طويل فيه: «يَقُوْلُ حِينَ يُصَلِّي الْفَجْرَ سُبْحَانَ اللهِ
العظيم وَبِحَمْدِهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
يَدْفَعُ اللهُ عَنْكَ أَرْبَعَ: ثلاثًا عِظَام من الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ
وَالْجُذَامِ والعَمَى وَالْفَالِج».
وعن أبي ذرٍّ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -وَرُبَّمَا قَالَ
سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ-: قُلْتُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذَهَبَ
أَهْلُ الْأَمْوَالِ وَالدُّثُورِ بِالْأَجْرِ، يَقُولُونَ كَمَا نَقُولُ،
وَيُنْفِقُونَ وَلَا نُنْفِقُ، فَقَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ إِذَا
فَعَلْتُمُوهُ أَدْرَكْتُمْ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَفُتُّمْ مَنْ بَعْدَكُمْ،
تَحْمَدُونَ اللهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتُسَبِّحُون، وَتُكَبِّرُون
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» قَالَ
سُفْيَانُ: لَا أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ أَرْبَعٌ. خَرَّجه ابن خزيمة في «صحيحه»، وهو
في «الأوسط» للطبراني من حديث أبي هريرة عن أبي ذر بنحو.
وعند الترمذي: «مَنْ قَالَ دُبُرِ صَلَاةِ الفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ
قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ» الحديثَ. وقال: حسن غريب.
(الدُّثُورِ) جمع دَثْرٍ وهو المال الكثير، قال ابن سِيْدَه: لا يُثنى ولا
يُجْمَع، وقيل: هو الكثير من كل شيء.
وزعم أبو عمر الْمُطَرِّز أنه يُثنى ويجمع، قال ابن قُرْقُولٍ: وقع في رواية
المروزي: (أهلُ الدُّورِ) وهو تصحيف، وعند الخطابي: (البُدُورِ) وقال: والصواب
الدثور.
(2/169)
وقال
العلامة القشيري: يتعلق بهذا الحديث المسألة المشهورة في التفضيل بين الغني الشاكر
والفقير الصابر وقد اشتهر فيها الخلاف، والفقراء ذكروا للرسول صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ما يقتضي تفضيل الأغنياء بسبب القُرُبَات المتعلقة بالمال وأقرهم صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ على ذلك، لكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة فلما قالها
الأغنياء ساوَوهم فيها وبقي معهم رجحان قربات المال، فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21]، فظاهره القريب من النصِّ أنه فَضَّلَ
الأغنياء بزيادة القربات المالية وبعض الناس تَأَوَّلَ قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21] بتأويل يخرجه عما ذكرنا من الظاهر، والذي
يقتضيه الأصل أنهما وإن تساويا وحصل الرجحان بالعبادات المالية أن يكون الغني أفضل
ولا شك في ذلك، وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط وانفرد كل واحد منهما
بمصلحة ما هو فيه، وإذا كانت المصالح مقابلة عن ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل،
فإن فُسِّرَ بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أنَّ المصالحَ الْمُتَعَدِّية أفضل من
القاصرة وإن كان الأفضل بمعنى الأشرف بالنسبة إلى صفات النفس فالذي يحصل للنفس من
التطهير
للأخلاق والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف فيترجح الفقر، ولهذا المعنى ذهب
الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس
ورياضتها وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغنى فكان أفضل معنى أشرف.
(2/170)
وذكر
القرطبي أن في هذه المسألة خمسة أقوال: فمن قائل بتفضيل الغنى، ومن قائل بتفضيل
الفقر، ومن قائل بتفضيل الكفاف، ومن قائل يرد هذا إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك،
ومن قائل بالوقف، لأنها مسألة لها غَوْرٌ، وفيها أحاديث متعارضة، قال: والذي يظهر
لي أن الأفضل ما اختاره لنبيه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولجمهور صحابته رضي
الله عنهم وهو الفقر غير المدقع، ويكفيك من هذا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة
قبل أغنيائهم بخمس مئة عام وأصحاب الأموال محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار
يُسْأَلُون عن فضول أموالهم. انتهى.
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ آخر أحواله التي رقاه الله تعالى إليها الغنى،
لأنها جيئت خزائن الأرض وهادَتْه الملوك وفُتِحَ عليه في حياته الحجاز واليمن
وجميع جزيرة العرب وما دانى ذلك من الشام والعراق ولكنه كان يُعْطِي عطاء من لا
يخاف الفقر، ومن كان بهذه الحالة لا يقال فيه فقير، وأما الصحابة رضي الله عنهم الذين
أدركوا الفتوحات وكان المال الكثير في أيديهم لا في قلوبهم فهم بهذا الاعتبار
أغنياء لا فقراء.
وأما قوله: (فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِيْنَ) فقد جاء مقيدًا في غير حديث عِنْدَ
مُسْلِمٍ وغيره بفقراء المهاجرين.
(2/171)
وأما
(القَنْطَرَةُ) فإنما يُحْبَسُ فيها الأمة للتناصف لا للسؤال عن فضول الدنيا، قال
القرطبي: وزعم بعضهم أن الإشارة في قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ} [الحديد: 21] راجعة إلى الثواب المترتب على الأعمال التي يحصل بها
التفضيل عند الله تعالى، وكأنه قال ذلك الثواب الذي أخبرتكم لا يستحقه الإنسان
لحسب الأذكار ولا لحسب إعطاء الأموال إنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء، وذكر بعضهم
أن ثواب الذكر الذي حصل للأغنياء إنما هو بسبب مسألة الفقر فحصل للفقراء ثواب
الذكر الذي حصل للأغنياء، وحصل لهم زيادة ما سألوه، وصار سنة للأغنياء الموجودين
في ذلك الوقت ولمن عمل بعمل الجميع إلى يوم القيامة لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» فقال لهم: ذلك فضل الله أي: الأجران
الحاصلان يؤتيهما من يشاء، فعلى هذا يُفَضَّلُ الفقر على الغنى.
وقوله: (تُدْرِكُونَ مَنْ سَبَقَكُم) يحتمل أن يكون المراد به السبق المعنوي، هو
السبق في الفضيلة. وقوله: (مَنْ بَعْدَكُمْ) أي: من بعدكم في الفضيلة ممن عمل هذا
العمل، ويحتمل أن تكون القبلية الزمانية والبعدية الزمانية.
وقوله: (ولَا يَكُوْنُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ) يدل على ترجيح هذه الأذكار على
فضيلة المال. انتهى.
ينبغي أنْ يُقَيِّدَ كلامه هنا بأن يقول على فضيلة المال في حق الفقراء لا
الأغنياء، لأن النفع المتعدي لا يقاومه النفع القاصر والله تعالى أعلم.
(2/172)
844
- حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ
بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ المُغِيرَةِ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ
المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ:
«لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ
الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا
أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ
الجَدُّ». وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، بِهَذَا، وَعَنِ الحَكَمِ،
عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ وَرَّادٍ، بِهَذَا، هذان التعليقان
رويناهما في «مسند السراج» بسندين صحيحين أما الأول: فقال: حَدَّثَنا معاذ بن
المثنى، حدثني أبي، حَدَّثَنا أُبَي حَدَّثَنا شعبة عن الملك بن عمير قال سمعت
ورادًا الحديثَ. [خ 844]
والثاني: قال: وحدَّثَنَا ابن المثنى، حدثني أبي، حدثني أُبي عن شعبة قال الحكم عن
عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن وراد الحديثَ.
وزعم خلف والبيهقي أن سفيان المذكور هنا الثوري.
وعند أبي داود كتب معاوية إلى المغيرة أي شيء كان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يقول إذا سلم من الصلاة فكتب إليه المغيرة، وعند ابن خزيمة: «يَقُوْلُ
عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ».
(2/173)
وعند
السراج: حَدَّثَنا زياد بن أيوب، حَدَّثَنا محمد بن فضيل عن عثمان بن حكيم، سمعت
محمد بن كعب القُرَظِي سمعت معاوية سمعت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يقولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ إِذَا انْصَرَفَ: «اللهُمَّ لاَ مَانِعَ
لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ
مِنْكَ الجَدُّ».
وفي لفظ: «إِنَّ اللهَ لاَ مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ ولاَ مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ
وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا
الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي
الدِّينِ».
وفي لفظ: «إِنَّهُ لاَ مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمْتَ وَلاَ مُقَدِّمَ لِمَا
أَخَّرْتَ» الحديثَ. كله بتاء الخطاب وفيه إشكال من حيث إن معاوية إذا كان قد سمع
هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فكيف يسأل عنه؟ والجواب: أنه أراد
أن يستثبت ذلك وينظر هل رواه أحد غيره أو نسي بعض حروفه أو ما أشبه ذلك كما طرأ
لجابر بن عبد الله في سؤاله عقبة بن عامر عن حديث سمعه وأراد أن ينظر هل رواه
غيره، وسيأتي ذكره أيضًا إن شاء الله تعالى في كراهة السؤال من كتاب الزكاة،
وروينا في كتاب
«الحلية» لِأَبِي نُعَيْمٍ عنه مرفوعًا: «من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ دُبُرَ كُلِّ
صَلَاةٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ الْجنَّةَ إِلَّا أَن يَمُوتَ» وقال:
غريب من حديث محمد بن كعب عن المغيرة تفرد به هاشم بن هاشم عن عمر عن ابن كعب وما
كتبناه غالبًا إلا من حديث علي.
(2/174)
وعند
ابن خزيمة عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ انْقِضَاءِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: «لَا
إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمَلَكُ وَلَهُ الْحَمْدُ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَلَا نَعْبُدُ
إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ وَالْفَضْلُ وَالثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا
إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ».
وفي لفظٍ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ولا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، أَهْلُ
النِّعْمَةِ والفَضْلِ».
وهو عِنْدَ مُسْلِمٍ: «أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يَقُوْلُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ
حِيْنَ يُسَلِّمُ .. » الحديثَ وَيَقُوْلُ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ،
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ،
تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
وقال الأوزاعي: هذا الدعاء قبل السلام، وقال ابن خزيمة: فإن كان محمد بن ميمون
وعمرو بن هاشم يعني روايته لم يغلطا في لفظه قبل السلام فإن هذا الباب يرد إلى باب
الاستغفار قبل السلام، ولفظ مسلم: «كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ
وَسَلَّمَ».
(2/175)
وعن
علي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ
صَلَاتِهِ فَسَلَّمَ قَالَ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ،
وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، ومَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ
مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»
وقال أبو صالح: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» خرجه ابن خزيمة، وروينا في جزء ابن عبد
كونة حَدَّثَنا محمد بن أحمد بن الحسن، حَدَّثَنا عبد الله بن محمد بن النعمان،
حَدَّثَنا محمد بن أبي الأزهر، حَدَّثَنا الحارث بن عمير، حَدَّثَنا جعفر بن محمد
عن أبيه عن جده عن علي مرفوعًا: «إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَآيَةَ
الْكُرْسِيِّ، وَآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ يَقُوْلُ الرَّبُ تَعَالَى: بِي
حَلَفْتُ، لَا يَقْرَؤُهُنَّ أَحَدٌ في دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا جَعَلْتُ
الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ».
ورواه الحاكم في «تاريخ بلده»: من حديث نَهْشَلِ بنِ سعيد عن أبي حَيَّة عنه،
والطبراني في «الأوسط» من حديث حسن بن حسن عن أبيه عن جده، وعِنْدَ مُسْلِمٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَقُوْلُ اللفظ الأول من
التشهد والتسليم، فيحتمل أنه يقوله في الموضعين لصحة الروايتين والله أعلم.
وعن كعب الحَبْر قال: «وَالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إنَّا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ قَالَ: اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي
دِينِيَ الَّذِي جَعَلْتَهُ عِصْمَةً، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي جَعَلْتَ
فِيهَا مَعَاشِي، اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ
نِقْمَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ
(2/176)
مِنْكَ،
اللهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا
يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ». قَالَ كَعْبٌ: وَحَدَّثَنِي صُهَيْبٌ
«أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُنَّ عِنْدَ
انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ». رواه ابن خزيمة.
وعند أبي نُعَيْمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُحَرِّكُ
شَفَتَيْهِ بِشَيْءٍ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ،
نَرَاكَ تُحَرِّكُ شَفَتَيْكَ بِشَيْءٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ وَكُنْتَ لَا
تَفْعَلُهُ، قَالَ: أَقُوْلُ اللهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ وَبِكَ أُطَاوِلُ وَبِكَ
أُقَاتِلُ».
وعند البخاري عن سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيْهِ هَؤُلاَءِ الكَلِمَاتِ
كَمَا يُعَلِّمُ الْمُكْتِبُ الْغِلْمَانَ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: «اللهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ
بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ
الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ».
وعند النسائي في «اليوم والليلة»: «مَا يمْنَع أحدكُم أَنْ يُسَبِّحَ دبرَ كلِّ
صَلَاةٍ عَشْرًا، وَيُكَبِّرَ عَشْرًا، ويَحْمَدَ عَشْرًا، فَذَلِك فِي خمسِ
صلوَاتٍ خَمْسُونَ وَمئة في ِاللِّسَانِ وَألفٌ وَخَمْسمئة فِي الْمِيزَانِ «.
وعن أبي بَكْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ
يَقُوْلُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ
الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وعَذَابِ الْقَبْرِ».
(2/177)
وعن
عُقَبَةَ بنِ عَامِرٍ: قَالَ لِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«اِقْرَأِ المُعَوِّذَاتِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ» ورواهما ابن خزيمة، وقال
الحاكم في حديث أبي بكرة وحديث عقبة: صحيح على شرط مسلم، وخزيمة وابن حبان، وقال
الترمذي حسن غريب وصححه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه الكبير».
وعند النسائي: «اِقْرَأ بِالمعَوِّذَتَيْنِ».
وعن معاذ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ
وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّك، أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا
تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ،
وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» رواه ابن خزيمة وقال الحاكم: صحيح على شرط
الشيخين.
وفي كتاب «يوم وليلة» لِأَبِي نُعَيْمٍ الأصبهاني: «مَنْ قَالَ حِينَ يَنْصَرِفُ
مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحِيي ويُمِيْتُ
بِيَدِهِ الخيرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، أُعْطِيَ
بِهِنَّ سَبْعَ خِصَالٍ وكُتِبَ لَهُ بهن عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ
بِهِنَّ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ بِهِنَّ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكُنَّ لَهُ
عَدْلَ عَشْرِ نَسَمَاتٍ، وَكُنَّ لَهُ عِصْمَةً مِنَ الشَّيْطَانِ، وَحِرْزًا
مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ ذَنْبٌ إِلَّا
الشِّرْكُ بِاللهِ، وَمَنْ قَالَهُنَّ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ المغرب
أُعْطِيَ مِثْلَ ذَلِكَ».
وفي لفظٍ: «مَنْ قَالَ بَعْدَ الْفَجْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَتُوبُ
إِلَيْهِ، كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
(2/178)
وعن
مولى لأم سلمة عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَقُوْلُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِيْنَ يُسَلِّمُ: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» خَرَّجه النسائي.
وعن أبي أمامة رفعه: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ، وَ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}
دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوْبَةٍ لَم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُوْلِ الجَنَّةِ إِلاَّ
الموْتُ» قال الطبريُّ: تفرد به محمد بن حمير عن محمد بن زياد عنه، وكذا قاله
الدَّارَقُطْني في العاشر من فوائده، وفيه نظر من حيث إنَّ ابنَ السُّنِّيِّ رواه
من حديث إسماعيل بن عياش عن داود عن إبراهيم الذهلي عن أبي أمامة، وفي كتاب «عمل
يوم وليلة»: لِأَبِي نُعَيْمٍ الحافظ من حديث القاسم عنه: «مَا يُفَوِّتُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ
وَلَا يَطَوَّعُ، إِلَّا سَمِعَهُ يَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ
كُلَّهَا، اللهُمَّ اهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، إِنَّهُ لَا
يَهْدِي لِصَالِحِهَا، وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ».
وفي «الأوسط» للطبراني: «مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةِ الغَدَاةِ لاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريْكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ،
يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، مئة
مَرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَهُ، كَانَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلَ أَهْلِ
الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» وقال:
لم يروه عن أبي غالب عن أبي أمامة إلا آدم بن الحكم، ولا رواه عن آدم إلا عبد
الصمد بن عبد الوارث.
(2/179)
وعن
أنس بن مالك وجابر قالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«أَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى مُوْسَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
مَنْ دَاوَمَ عَلَى قِرَاءَةِ آيَةِ الكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ
أَعْطَيْتُهُ أَجْرَ المتَّقِيْنَ وَأَعْمَالَ الصِدِّيْقِيْنَ» رواه الثعلبي في
«تفسيره» من حديث محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيْك عن أبي مالك عن الحوشبي عنهما.
وعن أبي موسى الأشعري قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا
صَلَّىَ الصُّبْحَ رَفَعَ صَوْتَهُ حَتَّى يُسْمِعَ أَصْحَابَهُ يَقُولُ:
«اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي جَعَلْتَهُ لِي عِصْمَةً، ثَلَاثَ مَرَاتٍ،
اللهُمَّ أَصْلِحْ دُنْيَايَ الَّتي جَعَلْتَ فِيهَا مَعَاشِي، اللهُمَّ أَصْلِحْ
لِي آخِرَتِي الَّتِي جَعَلْتَ إِلَيْهَا مَرْجِعِي، اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ
مِنْ سَخَطِكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ نِقْمَتِكَ، اللهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، ثَلَاثَ مِرَارٍ، فِي كُلِّهَا اللهُمَّ لَا مَانِعَ
لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ
مِنْكَ الْجَدُّ» قال الطبراني: لم يروه عن أبي بردة يعني عن أبيه إلا إسحاق بن
يحيى بن طلحة تفرد به يزيد بن عياض.
(2/180)
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِلَّا سَمِعَتْهُ حِينَ يَنْصَرِفُ يَقُولُ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَذُنُوبِي كُلِّهَا، اللهُمَّ وَانْعَشْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، إِنَّهُ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا وَلَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» قال أبو القاسم: لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي أَيُّوبَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ: مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ يعني عن عمر بن مسكين عن نافع عن ابن عمر عنه.
(2/181)
وعَنْ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ
دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ: «اللهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنَا شَهِيدٌ
أَنَّكَ الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ: اللهُمَّ أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ
الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، اللهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ،
اجْعَلْنِي مُخْلِصًا لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، ذَا الْجِلَالِ وَالْإِكْرَامِ اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ، اللهُ
الْأَكْبَرُ الْأَكْبَرُ، اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، اللهُ أَكْبَرُ
الْأَكْبَرُ، حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ»
رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وذكر في باب ما يقول الرجل إذا سلم عن ابن عباس:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَدْعُوْ: «رَبِّ أَعِنِّي وَلَا
تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا
تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّر هُدَايَ إِليَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ
بَغَى عَلَيَّ، اللهمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكرًا، لَكَ ذَاكِرًا، لَكَ رَاهِبًا
لَكَ مِطْوَاعًا، لَكَ مُخْبِتًا -أَوْ قَالَ مُنِيبًا- رَبِّ تَقَبَّلْ
تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ
قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي» وقال الطُّوسي وأبو
عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وعنده أيضًا: «جَاءَ الفُقَراءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
فَقَالُوْا إِنَّ الأَغْنِيَاءِ يُصَلُّوْنَ كَمَا نُصَلِّيْ ... » الحديثَ. وفيه
قال: «فَقُولُوا: سُبْحَانَ اللهِ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَالحَمْدُ لِلهِ
ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاللهُ أَكْبَرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَلاَ إِلَهَ
إِلاَّ اللهُ عَشْرًا» وقال: حسن غريب.
(2/182)
وعن
مُسْلِمُ بْنُ الْحَارِثِ قال: «أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: إِذَا انْصَرَفْتَ مِنْ صَلاَةِ الْمَغْرِبَ وَالصُّبْحِ، فَقُلْ:
اللهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ» رواه أبو نعيم الحافظ من حديث
هشام بن حسان عن الحارث بن مسلم عن أبيه.
وعَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ بْنِ
رِبْعِيٍّ، عَنِ ابنِ زِمْلٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَهُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ
وَبِحَمْدِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا سَبْعِينَ مَرَّةً».
وعن سعيد بن راشد عن الحسن بن ذكوان عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب وعن إسرائيل
عن أبي سنان عن الأحوص عن أبي مسعود قالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَغْفَرَ اللهَ تَعَالَى دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
أَسْتَغْفِرُ اللهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ
وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غفرت ذُنُوبَهُ وَإِنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ».
وعن ابن مسعود بسند صحيح: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا
صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ كَالْقَمَرِ ليلة القدر ويَقُولُ: اللهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، والهَرَمِ وَالذُّلِّ،
وَالصَّغَارِ، وَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ».
وذكر الطبراني وغيره أحاديث عدة في قراءة آية الكرسي دبر الصلاة بأسانيد ضعيفة
تركناها اختصارًا.
(2/183)
(الجَدُّ)
بفتح الجيم البخت والحظوة والرزق، قال ابن سِيْدَه: يقال: فلان ذو جَدٍّ في كذا
أي: ذو حظ فيه، وفي الدعاء ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي: من كان له حظ في الدنيا
لم ينفعه ذلك في الآخرة والجميع أجدادٌ وأَجُدٌّ وجُدُودٌ، عن سيبويه وفي «مجمع
الغرائب»: هو الغنى، وفي الأمثال: جَدُّكَ ولا كَدُّك، وفي «الغريبين»: زال جَدُّ
القوم إذا زال ملكهم، وعند يعقوب جَدِّي حظي، وفي كتاب ابن التين وغيره ضبطه أيضًا
جماعة بكسر الجيم ومعناه الحرص في أمور الدنيا ولا ينفعه ذلك فيما يريده الله تعالى
به إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وزعم بعضهم أن منك بمعنى البدل وقيل: بمعنى عندك
وتقديره: ولا ينفع ذا الغنى عندك غناه قال: والصحيح عندي بقاء مِنْ على بابها ولا
تكون للبدل ولا بمعنى عندك ويكون المعنى: ولا ينفع ذا المال ماله إن أنت أردته
بسوء.
وفي «الكتاب الباهر» لابن عديس و «المثلث» لابن السيد كأنه قال: ولا ينفع ذا الجد
عندك أو لديك، ولكن جاز دخول مِنْ هاهنا إذ كان جَدُّه لا ينجيه من عذاب الله
تعالى، ويجوز أن يكون المعنى ولا ينفع ذا الجد الموهوب له منك في الدنيا جَدُّهُ.
(بَابُ يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ النَّاسَ إِذَا سَلَّمَ)
845 - حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ،
حَدَّثَنا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ». [خ
845]
(2/184)
وفي بَاب مَا قِيلَ فِي أَوْلاَدِ المُشْرِكِينَ، وفي بعض النسخ لما ذكر أولاد المشركين قال: باب ولم يترجم له ثم قال: حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ فذكره، وفيه: فَقَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟». قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: «مَا شَاءَ اللهُ» فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟» قُلْنَا: لاَ، قَالَ: «لَكِنْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يدخلهُ في شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ -أَوْ صَخْرَةٍ- فَيَشْدَخُ بِهِا رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ، قُلْتُ: ما هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا إِلَى نَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا قَرَّتِ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَوا يَخْرُجُون، فَإِذَا حَمِيَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: ما هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ -قَالَ يَزِيدُ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ: عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ- وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ
(2/185)
يَدَيْهِ
حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ
كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ
فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالاَ: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا
إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ
وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ
يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلاَنِي دَارًا لَمْ أَرَ
قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، وَنِسَاءٌ،
وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ،
وَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ منَ الأولى فِيهَا شُيُوخٌ،
وَشَبَابٌ، قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ،
قَالاَ: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ
يُحَدِّثُ بِالكَذِبَ، فَيُحْمَلُ حَتَّى يَبْلُغَ الأفُقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ ذلك
إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ
عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ
بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي
النَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ أكَلَةُ
الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ أَوْلاَدُ النَّاسِ، وَالَّذِي يُوقِدُ
النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَالدَّارُ
الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ المُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ
الدَّارُ فَدَارُ
(2/186)
الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ صلى الله عليهما وسلم، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ، قَالَ: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، فَقُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالاَ: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَهُ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ».
(2/187)
وفي حديث مُؤَمَّلِ بْنِ هِشَامٍ، حدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ في كتاب التعبير: «أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ وآخَر قَائِم عَلَى شَجَرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالشَّجَرَةِ لِرَأْسِهِ يَنْقَلِعُ رَأْسهُ، قال: وأتينا علَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّةِ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ قال: وَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللهَبُ ضَوْضَوْا، قال: وَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ –أحْسِبُ كَانَ يَقُولُ– أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، قال: وَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْأى، كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، قال: وَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاء وَإِذَا حَوْلَهُ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ، قالَ: وَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ، لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلا أَحْسَنَ، فَقَالَا لِي: ارْقَ فَارْتَقَيْنَا فِيهَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ المَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا فَفُتِحَ لَنَا
(2/188)
ودَخَلْنَاهَا،
فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ
شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا
أَنْتَ رَاءٍ، قَالَ: فَقَالاَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ،
قَالَ: وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ المَحْضُ فِي
البَيَاضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ
ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالَ: وقَالاَ لِي:
هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا فَإِذَا
قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ البَيْضَاءِ، قَالَ: قَالاَ لِي: هَذَاكَ مَنْزِلُكَ،
قَالَ: وقالَ: وأمَّا الذي يُقْلَعُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ
يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ المَكْتُوبَةِ،
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ
بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي
يَحُشُّ النَّارَ، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَأَمَّا الوِلْدَانُ
الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ، فَقَالَ: بَعْضُ
المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ النبيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: وَأَوْلاَدُ المُشْرِكِينَ، وَأَمَّا القَوْمُ
الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ منهمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ
قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، تَجَاوَزَ اللهُ تعالى
عَنْهُمْ».
قوله: (إِذَا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ). في مسلم: «إِذَا صَلَّىَ
بِنَا الصُّبْحَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ».
وعند الإسماعيلي وأبي نعيم: «إِذَا صَلَّىَ صَلَاةَ الغَدَاةَ».
(2/189)
فيه
استحباب إقبال الإمام بعد صلاته على أصحابه، وإباحة الكلام في العلم وغيره.
قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإمام لا يمكث في موضع صلاته إذا فرغ منها، وإنما
كان يسألهم عن الرؤيا لما كانوا عليه من الصلاح والصدق فَيُسْتَفادُ من ذلك
الاطلاع على الْمُغَيَّبَاتِ ليبين لهم بالفعل الاعتناء بالرؤيا والتشوف إلى
فوائدها، وأن تعبيرها إنما يكون على ذي وُدٍّ.
قوله: (هَلْ رَأَى مِنْكُم الليلةَ رُؤْيَا) وفي جميع كتاب نُسَخ مسلم:
«البَارِحَةَ».
قال ابن الجوزي: الصحيح كما في البخاري، ويجوز أن يكون الآخر من تغيير بعض الرواة،
لأنهم كانوا يروون بالمعنى وهو غلط ممن ظن استواء اللفظين، يدلُّ على صحة ذلك
قوله: (أَتَانِي الليلةَ آتِيَانِ) وقد قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: من
الغلط أن تقول فيما بين صلاة الفجر إلى الظهر فعلت البارحة كذا والصواب أن تقول:
فعلت الليلة كذا إلى الظهر، وتقول بعد ذلك فعلت البارحة إلى آخر اليوم.
وقال القرطبي: المراد بقوله: البارحة يعني به الليلة الذاهبة اسم فاعل من برح
الشيء إذا ذهب، ومنه قولهم: برح الخفاء أي ذهب، وإذا دخل حرف النفي على برح صار من
أخوات كان التي ترفع الاسم وتنصب الخبر، ووقع في غير مسلم الليلة بدل البارحة،
واستدلَّ به بعض الناس على أن ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس هو من الليل وليس
بصحيح، لأنه إنما أشار إلى الليلة البارحة لا للساعة الحاضرة بدليل الرواية التي
فيها البارحة ومعناها الماضية أو المنصرفة، ولما كانت قريبة الانصرام أشار إليها
لما كان هذا معلومًا اكتفى بذكر الليلة عن صفتها، ولما كانت البارحة صفة معلومة
لليلة استعملها غير تابعة استعمال الأسماء وكان الأصل الجمع بين التابع والمتبوع
فيقال: الليلة البارحة، لكن جاز ذلك لما ذكرناه. انتهى.
(2/190)
أنكر
اللغويون قاطبة أنه لا يقال: البارحة إلا بعد الزوال فيشبه أنهم أرادوا الحقيقة
ولا يمنعوا من إطلاقه مجازًا، وعليه تحمل رواية مسلم رحمه الله تعالى.
وقال ابن العربي: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يسأل عن الرؤيا
استشرافًا للبشرى واستطلاعًا لما يكون وحرصًا على الخير، فلما ذكر له ابن زِمْل
تلك الرؤيا وعلم ما فيها من الشدائد ترك السؤال حتى يأتي الله بما شاء من أمره،
وهو حديث مُظْلِم السند فيه.
قال: رأيتُ كأنكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى مِنْبَرٍ فِيهِ سَبْعُ دَرَجَاتٍ،
وَأَنْتَ فِي أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَعَنْ يَمِينِكَ رَجُلٌ آدَمُ طُوالٌ، إذَا
تَكَلَّمَ يَفْرُعُ الرِّجَالَ طُولًا، وَعَنْ يَسَارِكَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ
كَثِيرُ خِيْلَانِ الْوَجْهِ، إذَا تَكَلَّمَ أَصْغَيْتُمْ لَهُ وأمامَ ذلكَ
شَيْخٌ تقتدونَ بهِ، وَإِذَا أَمَامَ ذَلِكَ نَاقَةٌ عَجْفَاءُ شَارِفٌ، وَإِذَا
أَنْتَ كَأَنَّكَ تَبِعْتها، قَالَ: فَامْتَقَعَ لَوْنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سَاعَةً، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ وقَالَ: أَمَّا الْمِنْبَرُ
فَالدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَأَنَا فِي آخِرِهَا أَلْفًا، وَأَمَّا
الرَّجُلُ الطويلُ فَمُوسَى، والرَّبْعَةُ عيسى، والشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ صلى الله
عليهم وسلامه، وَأَمَّا النَّاقَةُ العَجْفَاءُ فَهِيَ السَّاعَةُ عَلَيْنَا
تَقُومُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا أُمَّةَ بَعْدَ أُمَّتِي».
(2/191)
قال
ابن العربي: فما سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أحدًا عن رؤيا إلا أن
يجيء الرجل متبرعًا فيحدثه بها، وذكر أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أحمد المعروف
بابن الحذاء في كتابه «البشرى في تأويل الرؤيا» في قوله: (هَلْ رَأَى مِنْكُمْ
أَحَدٌ الليلةَ رؤيا) دليل أن تأويل الرؤيا والإخبار بها في صبيحة الليلة التي
رُؤِيَتْ فيها أولى لقرب ذلك من رؤيتها، وإذا بَعُدَتْ دخل ذلك النسيان والسهو،
وتأويل الرجل المضطجع يدلُّ على غفلة في الدين، ولا غفلة أكثر من تضييع القرآن
والصلاة، والذي يشقُّ شِدْقه فالشدق موضع الكلام، وفيه وقعت العقوبةُ كما وقعت في
رأس النائم، إذ الرأس موضع النوم والغفلة، وأما الزناة وعريهم، فلأن اللباس ستر
الله الذي كان يسترهم به فلما كشفوه كشفه الله تعالى وفضحهم، وأما النهر من الدم
ومنه آكل الربا فسألت جماعة عن تأويله فما رأيت أحدًا قال شيئًا فألقي في قلبي أن
آكل الربا يؤذن بحرب من الله ورسوله
ومن حارباه قُتِل، ومنْ قُتِلَ سال دمه فكأنه غرق فيه لكثرة به، والرؤيا يقال: لما
كان في النوم، وهي في النوم رؤية.
وقوله: (أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ) وعند الإسماعيلي: <أَرْضٌ مُسْتَويةٌ>.
وقوله: (يُدْخِلُ ذَلِكَ الكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ) وفي رواية: <فَيُشَرْشِرُ
شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ،
فَيَشُقُّ ثُمَّ يُحَوَّلُ إِلَى الجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَمَا
فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ>.
قوله: (وقالَ بعضُ أَصْحَابِنَا عنْ مُوْسَى بنِ إِسْمَاعِيْلَ) هذا ذكره أبو نعيم
فقال: حَدَّثَنا الطبرانيُّ، حَدَّثَنا العباس بن الفضيل، حَدَّثَنا موسى بن
إسماعيل فذكره.
(2/192)
وقوله:
(ثُمَّ يَفْعَلُ الآخرُ بِشِدْقِهِ) هكذا وقع في نسخة سماعنا وفي غيرها ثم يفعل
بشدقه الآخر وهو الصحيح، ووقع هنا: (فَيُشْدَخُ حَتَّى يُكْسَر) وفي رواية:
<فَيَثْلَغُ> يعني يشق.
وقوله: (يَتَدَهْدَهُ) وفي رواية <فَيَتَدَهْدِي> أي: يتدحرج، يقول
دَهْدَيْتُ الحجر ودهدهته.
و (النَّقْبُ) قال ابن قُرْقُولٍ: رواه بعضهم بثاء مثلثة وعند الأَصِيلي نقب
بالنون وفتح القاف وهو الطريق.
وقوله: (فَإِذَا اقتَرَت ارْتَفَعُوا) قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وقع في رواية أبي
الحسن <فَتَرَت> وعند أبي ذر< افْتَرَتْ> وصوابه اقترت بالقاف ومعناه
ارتفعت أي لهبت وارتفع فُوَارها، لأن القتر الغبار، قال أبو نصر: قتر اللحمُ
يَقْتِر بالكسر إذا ارتفع قُتَارُه، وقَتِر بالكسر لغة فيه.
قال: وأما فَتَرَت بالفاء فما علمت له وجهًا، لأن بعده إذا خَمِدَت، وهو معنى فترت
والله تعالى أعلم.
وأما (اقْتَرَتْ) فهو مثل فَتَرَت، وفي «المطالع»: <فَتَرَتْ> للقابِسي وابن
السكن وعبدوس، وعند أبي ذر والأَصِيلي <اقْتَرَتْ> وعند النسفي <فَإِذَا
وَقَعَتِ ارْتَفَعُوا> وهو الصحيح بدليل قوله بعد: فإذا أخمدت رجعوا، والبخاري
هنا لم يذكر أولاد المشركين الذين ترجم لهم وكأنه أحال على أنه في الحديث الذي
ذكره في كتاب التعبير على ما هو عادته.
(2/193)
846
- حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ،
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَة، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ
الجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ
اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ عزَّ وجل؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:
أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا
بِفَضْلِ اللهِ وَبرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالكَوْكَبِ،
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ
بِالكَوْكَبِ». [خ 846]
وفي «صحيح ابن حبان» عن أبي سعيد يرفعه: «لَوْ أَمْسَكَ اللهُ الْقَطْرَ سَبْعَ
سِنِينَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ لَأَصْبَحَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ،
يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ الْمِجْدح». قال أبو حاتم: المِجْدَح الدَّبَران.
وعن البراء بن عازب عِنْدَ مُسْلِمٍ قال: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ،
يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ».
وعند البيهقي مصححًا عن يزيد بن الأسود قال: «صَلَّىَ بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صَلاَةَ الصُّبْحِ ثُمَّ انْحَرَفَ جَالِسًا وَاسْتَقْبَلَ
النَّاسَ بِوَجْهِهِ».
قال الأصمعي: الحُدَيبية مخففة الياء الآخرة ساكنة الأولى، وقال الحِمْيَرِي في
كتابه بثقيف اللسان ويقولون الحديبيَّة بالتشديد والصواب بالتخفيف، وفي كتاب
«العلل» لعلي بن المديني الحجازيون يخففون الياء والعراقيون يثقلونها، الحديبية
بالتخفيف.
(2/194)
والسماء
هنا المطر، والعرب تسمي المطر سماء، لأنه يأتي من السماء.
وقوله: (أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ) هو موضع الترجمة.
قوله: (وَهَلْ تَدْرُوْنَ) لفظة استفهام ومعناه التنبيه بمعنى اعلموا ما قال ربكم.
وقوله: (أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) قال القرطبي: معناه الكفر
الحقيقي، لأنه قائله بالإيمان حقيقة وذلك في حقِّ من اعتقد أن المطر من فعل
الكواكب، فأما من اعتقد أن الله تعالى هو الذي خلق المطر واخترعه ثم تكلم بذلك
القول فهو مخطئ لا كافر وخطؤه من وجهين:
الأول: مخالفته الشرع، لأنه نهى عن ذلك.
الثاني: تَشَبُّهُهُ بأهل الكفر في قولهم وذلك لا يجوز، لأنَّا قد أُمِرْنَا
بمخالفتهم، فقال: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِيْنَ وخَالِفُوا اليهودَ» ونهينا عن
التشبه بهم، وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأفعال وفي الأقوال فلو قال غير هذا
اللفظ الممنوع منه يريد الإخبار عما أجرى الله تعالى به سببه جاز كما قال صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إِذَا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً، ثُمَّ تَشَاءَمَتْ،
فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ».
(2/195)
و
(الأَنْوَاءُ): قال أبو عبيد: واحدها نوء وهي ثمانية وعشرون نجمًا معروفة المطالع
في أزمنة السنة كلها يسقط منها في كل ثلاث عشرة نجم في المغرب مع طلوع الفجر
يقابله في المشرق من ساعته، وإنما سُمِّيَ نوءًا لأنه إذا سقط الساقط ناء الطالع
وذلك النهوض هو النَّوْءُ فَسُمِّيَ النجم نوءًا لذلك، وانقضاء هذه الثمانية
والعشرين مع انقضاء السنة، وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر
يقولون لا بد أن يكون عند ذلك مطر أو ريح، فيقولون مُطِرْنَا بنوء كذا، وقال ابن
الأعرابيِّ: الساقطة منها في الغرب هي الأنواء والطالعة منها في المشرق هي
البوارح، وفي «الْمُحْكَمِ»: بعضهم يجعل النوء السقوط كأنه من الأضداد وفي
«الأنواء الكبير»: لأبي حنيفة الذي عندي في قولهم: مطرنا بنوء كذا، أن المطر كان
من أجل أن الكوكب نأى وأنه هو الذي هاجه كما قال بعضهم:
بأسْحَمَ منْ هيجِ الذِّرَاعَيْنِ أَتْأَقَت مسايله حتى بَلَغْنَ الْمَنَاجيا
وكقولهِ الآخر:
أخرجته منَ الليالي رُجُوس ... ليلةً هاجها السِّماكُ درورا
فلو قال الإنسان مما قال الشاعر:
أصابَ الأرض منقمسُ الثُرَيَّا ... بساحته وأردفها طلالا
فليس بظاهر هذا القول بأسٌ، لأنَّه زعم أن الغيث أصاب الأرض عند سقوط الأرض فهذا
وما أشبهه إنما هو إعلام للأوقات والفصول وليس من وقت ولا زمن إلا وهو معروف بنوع
من مرافق العباد يكون فيه دون غيره وعلى شبيه هذا المذهب قال عمر بن الخطاب للعباس
وهو يستسقي للناس: يا عمَّ رسولِ الله كم بقي علينا من نوء الثريا فإن العلماء بها
يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا.
(2/196)
وقال
ابن عباس لامرأة: «خطَّأَ الله نوءَها» يريد أخطأها الغيث فلو لم يَدُلُّكَ على
افتراق المذهبين في ذكر الأنواء إلا هذان الخبران لكفى بهما دليلًا هذا وابن عباس
يقول في قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:
82] وعليٌّ كان يفسرها: وتجعلون شكركم، ويجمع النوء أنواء، ونُوآنًا، قال حسان:
ويَثْرِبُ تَعْلَمُ أنَّا بها ... إذا قَحَطَ القَطْرُ نوآنُها
ورد قول من قال: هي البوارج وقال: لم نجد العلماء يعرفون ما قالوا.
قال ابن قُرْقُولٍ: أجاز العلماء أن يقول: مطرنا في نوء كذا ولا يقال: بنوء كذا،
ويحكى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: مُطِرْنَا بِنَوْءِ اللهِ
تَعَالَى.
الحديث الذي بعده تقدم في باب وقت العشاء وفي مسنده قال ابن مُنَيَّر: سمع يزيد،
حَدَّثَنا حميد، وفي بعض طرقه حَدَّثَنا يزيد يعني بن هارون وكذا صرح به أبو نعيم
الأصبهاني وقد روى هذا الحديث عن حميد يزيد بن زُرَيْعٍ عند البخاري فيما بعد.
(بَابُ مُكْثِ الإِمَامِ فِي مُصَلَّاهُ بَعْدَ السَّلاَمِ)
848 - وَقَالَ لَنَا آدَمُ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ،
«كَانَ ابنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الفَرِيضَةَ
وَفَعَلَهُ القَاسِمُ». هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة فقال: حدَّثَنَا ابن علية عن
أيوب عن نافع: «كَانَ ابنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ مَكَانَهُ». [خ 848]
وحَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عن عبيد الله بن عمر قَالَ: «رَأَيْتُ الْقَاسِمَ
وَسَالِمًا يُصَلِّيَانِ الْفَرِيضَةَ، ثُمَّ يَتَطَوَّعَانِ فِي مَكَانِهِمَا».
وَأَنْبَأَنِي نَافِعٌ: «أَنَّ ابنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا».
(2/197)
قال
البخاري ويذكر عن أبي هريرة رفعه: «لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ». ولم
يصح هذا التعليق رواه أبو داود وابن ماجه من حديث حَمَّادٍ وَعبد الوَارِثِ عَنْ
لَيْثٍ عَنِ حَجَّاجِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ إبراهيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عن أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أَيَعْجِزُ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ
شِمَالِهِ في السُّبْحَة». وعند البيهقي: من جهة الربيع عن حماد بن يزيد حَدَّثَنا
عنه بلفظ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ
فَلْيَتَقَدَّمْ أَوْ يَتَأَخَّرْ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ».
قال البيهقي: قال البخاري: إسماعيل بن إبراهيم أصح والليث يضطرب فيه، وسئل أبو
حاتم عن إبراهيم بن إسماعيل هذا، فقال: مجهولٌ، وقال الدَّارَقُطْني: رواه القاضي
إسماعيل عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب عن يحيى بن عبيد عن إبراهيم بن
إسماعيل عن أبي هريرة رفعه ولم يتابع عليه.
وقال شيبان: عن الحجاج عن أبي عبد الله عن إسماعيل بن إبراهيم، وقال أبو جعفر الرازي:
عن ليث عن الحجاج عن أبي عبد الله بن إسماعيل، وقال محمد بن عبيد بن حساب عن حماد
عن ليث عن الحكم بن عيينة عن إبراهيم، قال يحيى الحماني: عن حماد وحفص بن غياث عن
إسماعيل بن إبراهيم عن الحجاج بن عبيد عن أبي هريرة، وقال ابن علية: عن ليث بن أبي
عبيد عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة وقال: عبد السلام بن
حرب عن ليث عن إسماعيل بن إبراهيم لم يذكر الحجاج.
قال الدَّارَقُطْني: ولا يصح الحديث والاضطراب من ليث.
(2/198)
وفي
«التهذيب» قال البخاري: لم يثبت هذا الحديث ولم يصح إسناده، ولَمَّا ذكر البخاري
حديث هند عن أم سلمة المذكور قبل زاد هنا: «وكانت من صواحباتها» وقال بعده: وقال
ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب: أخبرتني هند الفِراسيَّة.
وفي «صحيح مسلم» ما يشدُّه: رأى معاويةُ السائبَ ابنَ أُخْتِ نَمِرٍ صَلَّىَ
بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَقْصُورَةِ، قال: فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قُمْتُ
فِي مَقَامِي، فَصَلَّيْتُ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ: لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ لما
صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ، فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ
نَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ.
وعند أبي داود عن عطاء الخراساني عن المغيرة قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ
حَتَّى يَتَحَركَ» وقال: عطاءٌ لم يدرك المغيرة، وعند البيهقي عن علي قال: «مِنَ
السُّنَّةِ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ مَوْضِعِهِ حَتَّى
يَنْحَرِفَ أَوْ يَفْصِلَ بِكَلَامٍ».
ولفظه عن ابن أبي شيبة: «لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ حَتَّى يَتَحَوَّلَ مِنْ
مَكَانِهِ أَوْ يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ».
وكرهه عمر للإمام ولم ير به بأسًا لغيره وعن ابنه مثله. هذا التعليق رواه النسائي
عن محمد بن سلمة عن ابن وهب، وقال البخاري: وقال عثمان بن عمر: أخبرنا يونس عن
الزهري، حدثتني هند القرشية.
هذا التعليق رواه البخاري بعد عن عبد الله بن محمد بن عثمان عن يونس.
وفي حديث الزبيدي عن ابن شهاب هند بنت الحارث القرشية، وكانت تحت معبد بن المقداد
وهو حليف بني زُهْرَة وكانت تدخل على أزواج النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وعند ابن التين قَالَ الدَّاودِيُّ: كانت من فارس، قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ولا أعلم
له وجهًا.
(2/199)
قال
أبو حنيفة: كل صلاة يتنفل بعدها يقوم وما لا يتنفل بعدها كالعصر والصبح فلا، وقال
محمد: يتنفل في الصلوات كلها ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه من سجوده سهو ولا
غيره، وقال مالك: لا يثبت الإمام بعد سلامه، وقال أشهب: له أن يتنفل في موضعه
أخذًا بما روي عن القاسم بن محمد، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: ولم أجده لغيره من
الفقهاء، وقال الشافعي: يستحب أن يثبت ساعة.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: وأما مكث الإمام في مُصَلَّاهُ بعدَ السلام فكرهه أكثر
الفقهاء إذا كان إمامًا راتبًا، لأن مكثه لِعِلَّةٍ كما فعل النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ وهو قول الشافعي وأحمد، وقال مالك: يقوم ولا يقعد في الصلوات كلها
إذا كان إمامَ مسجدٍ جماعةٍ، فإن كان في سفر فإن شاء قام وإن شاء قعد قال ابن
خَرَّبُوذ: من غير أن يستقبل القبلة.
وعن عمر بن الخطاب جلوس الإمام بعد السلام بدعة، وعن ابن مسعود: «كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا قَضَى صَلاَتَهُ انْفَتَلَ سَرِيْعًا إِمَّا
أَنْ يَقُوْمَ وَإِمَّا أَنْ يَنْحَرِفَ».
وقال قتادة: كَانَ أَبُوْ بَكْرٍ رضي الله عنه إِذَا سَلَّمَ كَأَنَّهُ عَلَى
الرَّضْفِ حَتَّى يَنْهَضَ، وعن الحسن والزهري: لاَ يَنْصَرِفُوْا حَتَّى يَقُوْمَ
الإِمَامُ ذكرها عبد الرزاق، وفي كتاب «المنسوخ» لابن شاهين من حديث سفيان عن
سِمَاك عن جابر: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا صَلَّى
الغَدَاةَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» حسنًا، وفي
حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: «صليت مع النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ فَكَانَ سَاعَةَ يُسَلِّمُ يَقُومُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ،
فَكَانَ إِذَا سَلَّمَ وَثَبَ مِنْ مَكَانِهِ، كَأَنَّمَا يَقُومُ مِنْ رَضْفَةٍ».
(2/200)
قال
ابن شاهين: الحديث الأول عليه العمل في الصلاة التي لا تَنَفُّلَ بعدها، والثاني
في الذي بعده.
(بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُمْ)
851 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي ابنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ
عُقْبَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بِالْمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ
النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ،
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ:
«ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي،
فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ». [خ 851]
وفي باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها وقال أبو عاصم عن عمر: «إِنِّيْ كُنْتُ
خَلَّفْتُ فِي البَيْتِ تِبْرًا مِنَ الصَّدَقَةِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُبَيِّتَهُ،
فَقَسَمْتُهُ».
عُقْبَةُ هذا هو أبو مَسْرُوعة ويقال: سَرْوَعَة على مثال فَرْوقة.
وفي بَابُ تَفَكُّرِ الرَّجُلِ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ: «ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي
الصَّلاَةِ تِبْرًا عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ -أَوْ يَبِيتَ-
عِنْدَنَا» أسلم يوم الفتح.
في الحديث أن التخطي بما لا غنى بالإنسان عنه
مباح كإزالة حقنة أو رُعَاف وشبهه، وإنما المكروه إذا كان في موضع يَشْغَلُ الناس
فيه عن الصلاة أو عن سماع الخطبة.
وقوله: (فَفَزِعَ النَّاسُ) لأنهم كانوا رضي الله عنهم إذا رأوا منه غير ما يعهدون
تخوفوا أن ينزل شيء من القرآن بسببهم. وأما (التِّبْرُ) فهو الذهب كله، قال ابن
دريد في «الجمهرة»: وقيل هو من الذهب والفضة وجميع جواهر الأرض ما استخرج من
المعدن قبل أن يصاغ ويستعمل، وقيل: هو الذهب المكسور ذكره ابن سِيْدَه.
(2/201)
وفي
كتاب «الاشتقاق» لأبي بكر ابن السراج أملى علينا ثعلبٌ عن الفَرَّاءِ عن الكسائي
فقال: هذا تِبْرٌ للذهب المكسور والفضة المكسورة ولكلِّ ما كان مكسورًا من
الصُّفْر والنحاس والحديد.
وفي «الجامع»: كل ما كان مستورًا من ذهب أو فضة، وإنما سُمِّيَ ذهب المعدن تبرًا،
لأنه هناك بمنزلة التَّبْرَة وهي عروق تكون بين ظهري الِأرض مثل النُّوْرَة وفيها
صلابة، وزعم أصحاب المعدن أن الذهب في المعدن بهذه المنزلة كذا حكى أبو جعفر
النحاس في كتاب «الاشتقاق» عن الأصمعي، وحكاه أيضًا عن الْمُبَرِّدِ. انتهى.
الْمُبَرِّدُ ذكره في «الاشتقاق» تأليفه عن الأصمعي فينظر، قال القَزَّازُ: وقيل:
سُمِّيَ تبرًا من التَّتبير وهو الهلاك والتبديد، فكأنه قيل له ذلك لافتراقه في
أيدي الناس وتبديده عندهم، وسُمِّيَ بذلك لأن صاحبه يلحقه من التغرير ما يوجب
هلاكه فهو فعل من التَّبَار وهو الهلاك.
وَفِي «الصِّحَاحِ»: ولا يقال تِبْرٌ إلا للذهب، وبعضهم يقول للفضة أيضًا، وفي
«مجمع الغرائب»: هو القطعة ما لم تُطْبَع، وفي «الغريبين»: يقال لكسار الجوهر تبر.
وقوله: (فَيَحْبِسَنِي) قَالَ ابنُ التِّيْنِ أي يشغل ضميري فَيَحْبِسهُ فيما
يريده من الأعمال، قال: وقيل: يحبسني في الآخرة، وقال أبو الفرج: أي يشغل القلب
فيمنعه من إطلاقه فيما يريد، وزعم ابن بطال أن من حبس صدقة المسلمين من وصية أو
زكاة وشبهها يخاف عليه أن يحبس في القيامة.
(بَابُ الِانْفِتَالِ وَالِانْصِرَافِ عَنِ اليَمِينِ وَالشِّمَالِ)
وَكَانَ أَنَسٌ يَنْفَتِلُ عَنْ يَمِينِهِ وشِمَالِهِ، وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ
يَتَوَخَّى الِانْفِتَالَ عَنْ يَمِينِهِ.
روى أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح عن وكيع عن سفيان عن أنس: «أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِيْنِهِ».
(2/202)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ: «أَكْثَرُ مَا رَأْيُت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يَنْصَرِفُ عَنْ يِمِيْنِهِ».
وعند ابن حبان عن قَبِيْصَةَ بنِ هُلْبٍ عن أبيه قال: «أمَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَكَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ جَانِبَيْهِ جَمِيْعًا».
وعند ابن ماجه بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَنْفَتِلُ
عَنْ يَمِيْنِهِ وِيَسَارِهِ فِي الصَّلاَةِ».
852 - حَدَّثَنا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ
عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: «لاَ
يَجْعَلْ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلاَتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا
عَلَيْهِ لاَ يَنْصَرِفُ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ». [خ 852]
في هذا السند ثلاثةٌ تابعيون يروي بعضهم عن بعض الأعمش أولهم.
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: (لَا يَجْعَلَنَّ) بنون التأكيد.
وفي هذا الحديث والذي قبله جواز الفعلين من غير كراهةٍ في واحد منهما، والكراهةُ
التي اقتضاها كلام ابن مسعود هي في حقِّ من يرى وجوب أحد الفعلين.
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: وذلك بدعة والبدعة من الشيطان، وعند القرطبي: استحبَّ
الحسنُ الانصرافَ عن اليمين، وقال الترمذي: صحَّ الأمران عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ.
(بَابُ مَا جَاءَ فِي الثُّومِ النّيِّ وَالبَصَلِ وَالكُرَّاثِ)
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ
البَصَلَ مِنَ الجُوعِ أَوْ غَيْرِهِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا».
قَالَ ابنُ التِّيْنِ: ليس في شيء من الأحاديث ذكر الجوع ولا ذكر الكراث، ولكنه
يقاس على هاتين البقلتين انتهى كلامه.
(2/203)
وفيه
نظر لما في «صحيح مسلم» من حديث جابر قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ،
فَأَكَلْنَا مِنْهُ، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: مَنْ أَكَلَ
مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا».
وعند البيهقي: وزعم أنه عِنْدَ مُسْلِمٍ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
«لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ وَقَعْنَا فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ -يَعْنِي
الثُّومَ- فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا وَنَحْنُ جِيَاعٌ، ثُمَّ رُحْنَا
إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الرِّيحَ
... » الحديثَ.
وفي «صحيح ابن خزيمة» قال: «وَنَاسٌ جِيَاعٌ».
ولفظه في كتاب «التهذيب» لمحمد بن حزم من حديث حماد بن سلمة عن بشر بن حرب: «نَهَى
النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ وَالثُّوْمِ».
وروينا في «مسند عبد الله بن الزبير الحميدي» بسند على شرط الشيخين: «سُئِلَ
جَابِرٌ عَنِ الثُّوْمِ فَقَالَ: مَا كَانَ بِأَرْضِنَا يَوْمَئِذٍ ثُوْمٌ
وَإِنَّمَا الَّذِي نهى رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنْهُ
الْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ».
وعند ابن خزيمة: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ
البَصَلِ وَالكُرَّاثِ وَلَم يَكُنْ بِبَلَدِنَا يَوْمَئِذٍ الثُّوْمُ، وَإِنَّمَا
الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ الْبَصَلُ وَالْكُرَّاثُ، وَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا».
وفي «مسند السراج»: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَن أَكْلِ
الكُرَّاثِ فَلم ينْتَهوا، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أكلِهَا، فَوَجَدَ
رِيْحَهَا، فَقَالَ: أَلَم أَنْهَكُمْ ... » الحديثَ.
(2/204)
وعند
ابن خزيمة بسند صحيح وأصله عِنْدَ مُسْلِمٍ قال: حَدَّثَنا أبو مروان
العثماني، حَدَّثَنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
-يَعْنِي الثُّومَ- فَلَا يُؤْذِينَّا فِي مَسْجِدِنَا» قال إبراهيم: وكان أبي
يزيدُ فيه الكراث والبصل على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يعني أنه يزيد
على حديث أبي هريرة في الثوم.
وعند أبي حاتم في «العلل» وسُئِلَ عن حديث عمرو بن ميمون عن عمر: «كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَكْرَهُ الكُرَّاثَ، فَمَنْ أَكَلَهُ مِنْكُمْ
فَلاَ يَحْضُرِ المسَاجِدَ وَتِلاَوَةَ القُرْآنِ» فقال: إنما هو مرسل عن هلال بن
يسار، وعن عمرو عند أبي القاسم في «الأوسط» من حديث بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد
بن معدان عن جُبَيْرِ بنِ نُفَيْرٍ عن أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِي قال: غَزَوْنَا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَصَبْنَا ثُوْمًا فَأَكَلُوا
مِنْهُ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«مَنْ أَكَلَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ» الحديثَ.
وعند البستي وابن خزيمة عن حذيفة: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ البَقْلَةِ
الخَبِيْثَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، ثَلاَثًا».
وعند الترمذي من حديث أبي أيوب الأنصاري ومن حديث أبي بردة مصححًا نحوه، وعند
البيهقي: أبو أيوب، ومن حديث أبي بردة عن المغيرة بن شعبة نحوه.
(2/205)
وعِنْدَ
مُسْلِمٍ عن عمر: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَتَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا
أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ هَذَا الثُّومُ والْبَصَلُ، وَلَقَدْ كُنْتُ
أَرَى الرَّجُلَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُوجَدُ
رِيحُهُ مِنْهُ فَيُؤْخَذُ حَتَّى يُخْرَجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أكَلَهُمَا
فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا».
وعند الطبراني عن عبيد الله بن زيد يرفعه: «مَنْ أَكَلَ مِن هَذِهِ الشَّجَرَةِ
فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا» يعني الثوم، وقال: لم يروه عن الزهري عن عباد بن
تميم عنه إلا إبراهيم تفرد به معن القزَّاز، وعند البيهقي من حديث مُعَاوِيَةَ
بْنِ قُرَّةَ عن أبيه، يرفعه: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ فَلَا
يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ آكِلِيهِمَا فَأَمِيتُوهُمَا
طَبْخًا».
853 – حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حدَّثَنِي
نَافِعٌ، عَنِ ابنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ
فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يَعْنِي الثُّومَ-
فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا». [خ 853]
وعِنْدَ مُسْلِمٍ: «فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ».
وعند الطبراني: «حَتَّى يَذْهَبَ رَيْحُهَا مِنْهُ».
وذكر البخاري حديث جابر: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يُرِيدُ الثُّومَ-
فَلاَ يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا» قُلْتُ: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مَا أُرَاهُ
يَعْنِي إِلَّا نِيئَهُ، وَقَالَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ: عَنِ ابنِ جُرَيْجٍ:
«نَتْنَهُ».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق