ج7.وج8. إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
ج7. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
ثم
ذكر حديث زهير بن معاوية، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: «مَنَعَتِ
الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّامُ مُدَّهَا
وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ أَرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ
حَيْثُ بَدَأْتُمْ»
انتهى. ذكر أبو داود هذه اللفظة: «وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ» وقال: قاله
زهير ثلاث مرات.
وقوله: (مَنَعَتِ الْعِرَاقُ) إلى آخره، فيه قولان:
الأول: المنع؛ لأن أهلها أسلموا فسقطت عنهم الجزية ذكره النووي[هذا رأي ضعيف قاصر بل المنع يفسر بما بعده وهو جفاف نهر النيل فتنعدم الزراعة وتمنع مصر عائداتها] وهو الحاصل في أيامنا هذه -- وأنكره ابن الجوزي يعني تفسير النووي
وقال: هذا إخبار عن اجتماع الكل في الإسلام قال: وليس هو بشيء، واستدل بحديث:
«كَيْفَ أنَتُم إِذَا لَمْ تَجْبُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا» انتهى.
لقائل أن يقول: قوله (إِذَا لَمْ تَجْبُوا) يوافق قول النووي؛ لأنهم إذا أسلموا لم
يجدوا من يجبون منه.
القول الثاني: وهو الأشهر أن معناه: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر
الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، وقد روى مسلم عن جابر بيانه وهو: «يُوشِكُ
أَهْلُ الْعِرَاقِ أَلَّا يَجِيءَ إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ وَلَا دِرْهَمٌ، قُلْنَا:
مِنْ أَيْنَ ذَلكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ».
(بَابٌ)
3181 - حَدَّثَنا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ
قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: أَشَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَسَمِعْتُ
سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ: «اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ». [خ 3181]
(1/324)
وفي
لفظ: «اتَّهِموا أَنْفُسَكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ
أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ
يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرِ أَمْرِنَا
هَذَا». وفي لفظ: «يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا،
فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ».
وفيه: «فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ،
أَوَ فَتْحٌ هُوَ قَالَ: نَعَمْ».
قال الْمُهَلَّبُ: قوله: (اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ) يعني: إنكم
إنما تقاتلون إخوانكم برأي رأيتموه، فلو كان الرأي يقتضى به لقضيت برد أمر النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يوم أبي جندل، إذ ردَّه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يوم الحديبية حين قاضى أهل مكة شرفها الله تعالى.
قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: غرض البخاري في هذا الباب أن يعرفك أن الصبر على المفاتن،
والصلة أقطع للفتنة وأحمد عاقبة، فكأنه قال: باب الصبر وعاقبته، ألا تراه صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أخذ يوم الحديبية في قتال المشركين بالصبر والوقوع تحت
الدنية التي ظنها عمر في الدين، وكان ذلك الصبر واللين أفضل عاقبة في الدنيا
والآخرة بأن دخلوا في الإسلام، وأوجب لهم أجرهم في الآخرة، قال صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ
حُمْرِ النَّعَمِ» فكيف بأهل مكة أجمعين.
وأمر المقاضاة وكتبها تقدم في الصلح، وكذا (المُصَالَحَة عَلَى ثَلاَثَةِ
أَيَّامٍ) و (طَرْحِ جِيَفِ المُشْرِكِينَ فِي البِئْرِ) تقدم في الطهارة.
(1/325)
(بَابُ:
إِثْمُ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ)
3186 - حَدَّثَنا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، وَعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ يرفعانه: «لِكُلِّ
غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ» القائل وعن ثابت هو شعبة بن الحجاج. [خ 3186]
وحديث ابن عمر يرفعه: «لكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بِغَدْرَتِهِ» تقدم.
وحديث ابن عباس قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يوم فتح مكة: «لاَ هِجْرَةَ
وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَامٌ» الحديث تقدم في الحج.
وقد وقع لنا حديث آخر رواه ابن عساكر، من حديث الفضل بن موسى، عن شريك، عن أبي
إسحاق، عن عُمَارةَ بنِ غَزِية، عن علي، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلٍّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ نَكَثَ بَيْعَتَهُ
لَقِيَ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ أَجْذَمَ».
وعند الترمذي، من حديث علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد نحوه، وقال: حديث
حسن.
قال ابن المنير: مطابقة دخول حديث ابن عباس هنا أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ نصَّ على أنَّ مَكَّةَ شرفها الله تعالى اختصت بالحرمة إلا في
الساعة المستثناة، وليس المراد قتل المؤمن البر فيها، إذ كل بقعة كذلك، فالذي
اختصت به حرمة قتل الفاجر المتأهِّلِ للقتل، فإذا استقر أنَّ الفاجر قد حرم قتله
لعهد الله الذي خصها به، فإذا خص أحد فاجرًا بعهد الله في غيرها لزم نفوذ العهد له
بثبوت الحرمة في حقه، فيقوى عموم الحديث الأول في الغادر بالبر والفاجر.
وقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: مطابقته أن محارم الله عهوده إلى عباده، فمن انتهك منها
شيئًا لم يَفِ بما عاهد الله عليه، ومن لم يَفِ فهو من الغادرين.
(1/326)
وأيضًا
فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما فتح مكة شرفها الله تعالى منَّ على
أهلها كلهم، ومعلوم أنه كان فيهم من في قلبه شيء، ثم أخبر أن مكة حرام بحرمة الله
إلى يوم القيامة، وأنه لا يَحِلُّ قتال أحد منها، فإذا كان كذلك لا يجوز الغدر ببر
ولا فاجر، وتبويب البخاري (بَابُ: إِثْمِ الغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ) لعموم
قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ» يدخل فيه من غدر من
بَرٍّ وفاجرٍ، ودلَّ أن الغدر حرام.
وقال القرطبي: هذا خطاب منه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ للعرب بنحو ما كانت تفعل،
وذلك أنهم يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء؛ ليعظموا الأول، ويذموا
الثاني.
قال: وقد شاهدنا هذا عادة مستمرة إلى اليوم. انتهى.
قال الشاعر:
~ أسُمَيَّ ويحك هل سمعتِ بغدرةٍ نُصِبَ اللِّوا كنا بها في مجمع؟!
قال القرطبي: فمقتضى هذا الحديث أن الغادر يُفْعَلُ به ذلك، لِيُشْهَرَ بالخيانة
والغدر فيذمه أهل الموقف، ولا يبعد أن يكون الوفي بالعهد يرفع له لواء يُعْرَفُ به
وفاؤه وبره فيمدحه أهل الموقف.
وقال النووي: اللواء لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب ويكون الناس تبعًا له.
قالوا: فمعنى: (لكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ) أي: علامة يشتهر بها في الناس؛ لأن موضع
اللواء شهرة مكان الرئيس، قال: والغادر هو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، يقال:
غَدَرَ يَغْدِر، بكسر الدال في المضارع. انتهى. يخدش في هذا ما ذكره الأصبهاني، أن
عمر سئل: من أشعر العرب؟ فقال: زهير. فقيل له: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال: «امْرُؤُ الْقَيْسِ صَاحِبُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ» فقال عمر: اللواء
لا يكون مع الأمير.
وفي الحديث بيان تغليظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره
يتعدى ضرورةً إلى خلق كثير، وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء، كما
في الحديث في تعظيم كذب الملوك.
(1/327)
والمشهور
أن هذا الحديث وارد في ذمِّ الإمام الغادر، إما لمن عاهده من المحاربين أو لرعيته
إذ لم يقم عليهم ولم يُحِطْهُم، فمن فعل ذلك فقد غدر بعهده أو يكون نهي للرعية عن
الغدر بالإمام.
قال القرطبي: وقد مال أكثر العلماء إلى أنه لا يقاتل مع الأمير الغادر بخلاف
الخائن والفاسق، وذهب بعضهم إلى الجهاد معه، والقولان في مذهب مالك.
دعاء الناس بآبائهم في الموقف، تقدم في الحد.
(1/328)
(كتاب:
بَدْءُ الْخَلْقِ)
(بَابُ: مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ جلَّ وَعَزَّ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27])
قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل في هذه الآية الكريمة غير قول، فمنها أن
الهاء تعود على الخلق، والمعنى: الإعادة والبعث أهون على الإنسان من إنشائه؛ لأنه
يقاسي في النشء ما لا يقاسي في البعث والإعادة.
وقال أبو عبيدة وكثير من أهل اللغة: إن معناه وهو هين عليه، أي: كل ذلك هين عليه،
وإن {أَهْوَنُ} ههنا ليس معناه أن الإعادة أهون عليه من الابتداء؛ لأن الابتداء
والإعادة كلٌ سهلٌ عليه.
قالوا: ومثل ذلك من الشعر:
لعمرك ما أدري وإني لأوجَلُ على أيِّنا تعدو المنيَّةُ أوَّلُ
ومعنى لأوجل: لوَجِلٌ، وقالوا: الله أكبر بمعنى الله كبير، وهذا غير منكر، وأحسن
من هذين الوجهين: أنه جلَّ وعزَّ خاطب بما يعقلون، وأعلمهم أنه يجب عندهم أن يكون
البعث أسهل وأهون من الابتداء والإنشاء، وجعله مثلًا لهم فقال: {وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] أي قوله: {هُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ} فضربه لهم مثلًا فيما يصعب ويسهل.
قال البخاري: (هَيْنٌ وَهَيِّنٌ مِثْلُ: لَيْنٍ وَلَيِّنٍ، وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ،
وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ).
قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللين مخففين، قال الشاعر:
هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسَارٌ بَنُو يسْر سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أَبْنَاءُ
أَيْسَارِ
وتذم بهما مثقلين.
(1/1)
3191
- حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ، حَدَّثَنا أَبِي، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ،
حَدَّثَنا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّهُ
حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ
بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ» فقَالُوا: قَدْ
بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ
اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِن لَمْ
يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ» قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فقَالُوا:
جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، فقَالَ: «كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ
شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ
شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ
يَا ابنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ. [خ 3191]
3190 - وفي لفظ: «جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَبْشِرُوا، فقَالُوا:
بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ،
فَقَالَ). الحديث [خ 3190]
قوله: (أَبْشِرُوا) قال ابن التين: يريد ما يجازي به المسلمون وما تصير إليه
عاقبتهم.
وقوله: (اقْبَلُوا البُشْرَى) زعم عياض أنه روي كذا عند الجماعة بباء موحدة وشين
معجمة، إلا الأَصِيلي فإنه عنده بياء مثناة من تحت وسين مهملة، والصواب الأول،
وجواب بني تميم يدل عليه، وقوله: (أَبْشِرُوا) يدل عليه أيضًا، وكان قدوم بني تميم
في سنة تسع من الهجرة، والقائل: (فَأَعْطِنَا) هو الأقرع بن حابس.
(1/2)
وفي
كتاب «المغازي» قال أبو موسى: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
بالجعرانة ومعه بلال، فأتاه أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟! فقال له:
«أَبْشِرْ» فقال: أكثرت علي من البشرى، فأقبل علي وعلى بلال كهيئة الغضبان، فقال:
«رَدَّ البُشْرى، فَاقْبَلَاهَا» فقالا: قبلنا.
قال أبو الفرج: تغير وجهه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لقلة علم أولئك؛ لأنهم
عَلَّقُوا آمالهم بعاجل الدنيا دون الآخرة.
والقائل (جِئْنَاكَ
نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ): الأشعريون.
وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس: على أي شيء كان الماء؟ فقال: على متن الريح،
وذلك أن الله أول ما خلق اللوح والقلم، فقال للقلم: اكتب ما يكون، فكتب ذلك في
الذكر، وهو اللوح المحفوظ.
وفي «تاريخ الطبري» صحيحًا عن عبادة بن الصامت يرفعه: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ
تَعَالَى الْقَلَم».
وعن ابن إسحاق: أول ما خلق الله النور والظلمة، ثم مَيَّزَ بينهما، فجعل الظلمة
ليلًا أسود مظلمًا، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا.
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب عندي قول من قال: بالقلم، ثم خلق سحابًا رقيقًا
وهو الغمام، ثم العرش، وقيل: خلق الماء قبل العرش. انتهى.
وقيل: أول ما خلق الله تعالى الدواة، ثم خلق نونًا وبسط الأرضين عليه فمادت، فخلق
الجبال.
وعن الْمُهَلَّبِ: أن السؤل عن مبادئ الأشياء والبحث عنها جائز في الشريعة، وجائز
للعالم أن يجيب عنها بما يعلم، فإن خشي من السائل إيهام شكٍ أو تقصير فهم فلا
يجبه، ولْيَنْهَهُ عن ذلك ويزجره.
قال البخاري:
(1/3)
3192
- وَرَوَى عِيسَى، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ
شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: «قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الخَلْقِ، حَتَّى
دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ
ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ». [خ 3192]
قال أبو علي الجياني: هكذا في النسخ كلها عن البخاري.
وقال أبو مسعود الدمشقي: إنما رواه عيسى يعني ابن موسى الغُنْجَار البخاري، عن أبي
حمزة يعني السكري، عن رقبة.
وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: عيسى بن موسى غنجار يحدث عن أبي حمزة، عن رقبة بن
مَصقَلة.
وفي «مستخرج أبي نعيم»: حدثنا أبو إسحاق،
حدثنا محمد بن المسيب، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا أحمد بن أيوب الضبي، حدثنا أبو
حمزة، عن رقبة بلفظ: «فَأَخْبَرَنَا بأهلِ الجنةِ وما يَعْمَلُونَ، وبأهلِ
النَّارِ وما يعملونَ». ثم قال: ذكره البخاري بلا رواية عن أبي حمزة، ولأبي حمزة
عن رقبة نسخة، ولا يعرف لعيسى عن رقبة نفسه شيء، وقد روى إسحاق ابن حمزة البخاري،
عن غنجار هذا، عن أبي حمزة، عن رقبة بن مَصقَلة نسخةً.
وقال خلف: قال ابن الفلكي: ينبغي أن يكون بين عيسى ورقبة، أبو حمزة.
وقال أبو العباس الطَرْقي: إنما يروي عيسى بن موسى هذا الحديث، عن أبي حمزة، عن
رقبة، وليس أبو حمزة في كتاب الجماعة عن الفَرَبْرِيِّ، وفي «كتاب حماد بن شاكر»
عن البخاري، و «كتاب ابن رُمَيْح» عن الفَرَبْرِيِّ، جميعًا عن عيسى، عن أبي حمزة،
عن رقبة.
قال البخاري:
3193 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ
سُفْيَانَ) فذكر حديث: «يشْتُمنِي عَبْدِي». [خ 3193]
أبو أحمد اسمه محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم الأزدي الزبيري، وسفيان
هو ابن سعيد الثوري.
(1/4)
3194
- وقوله في حديث أبي هريرة: «لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَه فِي كِتَاب
فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي». [خ 3194]
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قوله: (لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ) يريد: لما خلقهم، قال
تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] أي: خلقهن، وكل صنعة وقعت في
شيء على سبيل إتقان وإحكام فهو قضاء.
وقوله: (فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) كان بعض العلماء يقول: إن معناه دون
العرش استعظامًا أن يكون شيء من الخلق فوق عرش الله جل وعز، وكان يحتج في ذلك
بقوله جل وعز: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً
فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] قال معناه: فما دونها.
والذي قاله المحققون في تأويل الآية قولان: أحدهما أنه أراد بـ {مَا فَوْقَهَا} في
الصغر؛ لأن المطلوب هنا والغرض الصغر،
وقال بعضهم: فوق تزاد في الكلام وتلغى، كقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}
[الأنفال: 12] وكقوله: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11].
وأجمعوا أن الاثنتين يراد الثنتين، فلم يك لحرف {فَوْقَ} فيه أثر.
وهذا أيضًا لا يتوجه في معنى الحديث، لأنك إذا نزعت منه هذا الحرف وألغيته لم يصح
معنى الكلام؛ لأنه لا يجوز أن يقول: فهو عنده العرش، كما لا يصلح أن يقال: فإن كن
نساء فوق اثنتين.
(1/5)
والقول
فيه - والله تعالى أعلم - أنه أراد بالكتابة أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه الله
جل وعز وأوجب، كقوله: {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:
21] أي: قضى الله وأوجب، ويكون معنى قوله: (فَوْقَ الْعَرْشِ) أي: علم ذلك عند
الله فوق العرش لا ينسخ ولا يبدل كقوله: {قالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي
كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] وإماأن يريد بالكتاب اللوح
المحفوظ الذي فيه ذكر أصناف الخلق والخليقة، وآجالهم وأرزاقهم وشبهه، ويكون معنى
قوله: (فَهُوَ عِنْدُهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) أي فذكره عنده فوق العرش، ويضمن فيه الذكر
أو العلم.
كل ذلك جائز في الكلام على أن العرش مخلوق، فلا يستحيل أن يمسه كتاب مخلوق، فإن
الملائكة الذين هم حملة العرش لا يستحيل أن يماسوه إذا حملوه؛ لأنه جاء أنه على
كواهلهم، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو الله جل وعز. والله تعالى أعلم.
حديث عائشة وابن عمر تقدما في المظالم، وكذا حديث سعيد بن زيد.
وأما قول البخاري في آخره:
3198 - (قَالَ ابنُ أَبِي الزِّنَادِ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ لِي
سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ) ففائدته تصريح عروة بسماعه إياه من سعيد. [خ 3198]
وحديث أبي بكر تقدم في الحج.
(بَابٌ فِي النُّجُومِ)
وَقَالَ قَتَادَةُ: قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] أَي: خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ: زِينَةً،
وَرُجُومًا، وَعَلاَمَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ
فَقَدْ أَخْطَأَ، وَأَضَاعَ نَصِبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ.
هذا التعليق رويناه في «تفسير عبد بن حميد»، عن يونس، عن سفيان، عن قتادة بلفظ:
فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال رأيه.
(1/6)
وروينا
في كتاب «ذم النجوم» للحافظ أبي بكر الخطيب، من حديث إسماعيل بن عياش، عن البختري
بن عبيد، عن أبيه، عن أبي ذر، عن عمر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يقول: «لَا تَسْأَلُوا عَنِ النُّجُومِ».
ومن حديث عبيد الله بن موسى، عن الربيع بن حبيب، عن نوفل بن عبد الملك، عن أبيه،
عن علي: «نَهَانِي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ».
وعن أبي هريرة وعائشة وابن مسعود وابن عباس نحوه بأسانيد لا بأس بها.
وعن الحسن أن قيصر سأل قيس بن ساعدة الإيادي: هل نظرت في النجوم؟ قال: نعم نظرت
فيما يُرَادُ به الهداية، ولم أنظر فيما يراد به الكهانة.
وقد قلت في النجوم أبياتًا وهي:
علم النجوم على العقول وبال وطِلَابُ شيء لا ينال ضلال
ماذا طِلابك علم شيء غيبت من دونه الخضر أليس ينال
هيهات ما أحد بغامض فطنة يدري كم الأرزاق والآجال
إلا الذي من فوق عرش ربنا فلوجهه الإكرام والإجلال
وفي «الأنواء» لأبي حنيفة: المنكر في النجوم المذموم منه نسبة الأمر إلى الكواكب،
وأنها هي المؤثرة، فأما من نسب التأثير إلى خالقها وزعم أنه نصها أعلامًا وضربها
أمارا على ما يحدثه فلا جناح عليه، وقال المأمون: علمان نظرت فيهما وأنعمت فلم
أرهما يصحان: النجوم والسحر.
وفي «التنوير» لابن دِحْية: قول أهل السنة والجماعة أن الشمس والقمر والدراري
والبروج والنجوم جارية في الفلك، وأن السماء الدنيا مختصة بذلك كله.
وروى ابن عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي أنه قال: النجوم كلها معلقة كالقناديل من
السماء الدنيا في الهواء كتعليق القناديل في المساجد.
فإن قيل: كيف قال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16] والقمر في
إحداهن؟
(1/7)
ويجاب:
بأن معنى فيهن: معهن، كما يقال: زيد في القوم أي: معهم، وقيل: إنه إذا جعل النور
في إحداهن فقد جعله فيهن، كما يقال: أعطه الثياب المعلمة، وإنما أعلم منها ثوب،
وقيل: كما يقال: في هذه الدور وليمة، وهي في واحدة، كما يقال: قدم في شهر كذا،
وإنما قدم في يوم منه.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: هَشِيمًا مُتَغَيِّرًا) هذا التعليق ذكره
إسماعيل بن أبي زياد، عن ابن عباس في «تفسيره».
قال: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَلْفَافًا: مُلْتَفَّة) هذا التعليق رواه أبو جعر محمد
بن جرير، عن محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عيسى، وحدثني الحارث، حدثنا
الحسن، حدثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، فذكره.
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في واحد الألفاف، فكان بعض نحوي البصرة يقول:
واحدها لِفٌ. وقال بعض نحوي الكوفة: واحدها لِفٌ ولفيف.
قال: وإن شئت كان الألفاف جمعًا، وواحده جمع أيضًا، تقول: جنة لفاء، وجنان لُف، ثم
جمع اللف: ألفافًا، وقال آخر منهم: لم يسمع شجرة لِف، ولكن واحدها لفاء، وجمعها
وجمع لف: ألفاف، فهو جمع الجمع، والصواب من القول في ذلك: أن الألفاف جمع لِف أو
لفيف، وذلك أن أهل التأويل مجمعون على أن معناها: ملتفة، واللفاء هي الغليظة، وليس
الالتفاف
من الغلظ في شيء إلا أن يوجه إلى أنه غَلُظ بالالتفاف فيكون ذلك حينئذ وجها.
(بَابُ: صِفَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ بِحُسْبَانٍ)
قَالَ مُجَاهِدٌ: (كَحُسْبَانِ الرَّحَى) هذا التعليق رواه عبد، عن شبابةَ، عن
وَرقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بحسبان قال كحسبان الرحى.
وأخبرنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: {الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [القمر: 5] قال: يدوران في مثل قطب الرحى.
(1/8)
وقول
البخاري: (وَقَالَ غَيْرُهُ: بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ) كأنه - والله أعلم - يشير
بالغير إلى قول عبد حدثنا جعفر بن عون، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن
أبي مالك: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [القمر: 5] قال: بحساب ومنازل.
قال البخاري: (وَقَالَ الحَسَنُ: {كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]: تُكَوَّرُ حَتَّى
يَذْهَبَ ضَوْؤهَا) هذا التعليق رواه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، حدثنا
إسماعيل بن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن به.
قال: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ، وَرُؤْبَةُ: الحَرُورُ بِاللَّيْلِ، وَالسَّمُومُ
بِالنَّهَارِ) هذا التعليق ذكره ابن أبي زياد، في «تفسير ابن عباس».
3199 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ:
«أتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. [خ 3199]
قَالَ: «فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ
فَيُؤْذَنَ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا،
وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، فيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ
جِئْتِ. فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} الآية [يس: 38]».
قال ابن الجوزي: ربما أشكل الأمر في هذا الحديث على من لم
يتبحر في العلم فقال: نحن نراها تغيب في الأرض وقد أخبر القرآن العزيز أنها تغيب
في عين حمئة، فإذا دارت تحت الأرض وصعدت فأين هي من العرش؟ فالجواب: إن الأرضين
السبع في ضرب المثال كقطب رحى، والعرش لعظم ذاته كالرحى، فأينما سجدت الشمس سجدت
تحت العرش وذلك مستقرها.
(1/9)
وقال
أبو بكر بن العربي: أنكر قوم من أهل الغفلة اقتداءً بأهل الإلحاد سجودها وهو صحيح
ممكن، وتأَوَّلَه قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم وأنه يعني بالعرش الملك،
يعني: المخلوقات، وعلى مذهب الملحدة أنه تحتها في التحت غيرها، وفوقها في الفوق
غيرها في جميع سيرها، فلا يصح أن تكون ساجدة تحت العرش، وعلى التأويل الأول يصح أن
تخرج عن مجراها، والقدرة تشهد له، وعلى التأويل الثاني يكون المعنى في وجه المجاز
ساجدة أبدًا.
وقوله: (تَحْتَ الْعَرْشِ) يريد تحت الملك أي: القهر والسلطان، وهي تستأذن في
المسير فيؤذن لها حتى يقال لها: ارجعي، فترجع من مغربها، وتذهب الهيئة المدبرة
فيها، وبعد الرجوع يكون التكوير.
وقوله: (تَحْتَ الْعَرْشِ) صحيح؛ لأن الكل من الأرض تحت العرش، بل العالم جميعه.
وقراءة الجماعة: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] أي: في حركة دائمة إن طلعت غربت
أو سجدت سارت، وعن ابن عباس أنه قال: (لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا) أي هي تطلع كل يوم
في مطلع، وتغرب في آخر، لا تعود إليه إلا في مثل ذلك اليوم من العام الآخر، حتى
يكون طلوعها من حيث غروبها، وقرأ ابن مسعود وعكرمة وعلي بن الحسين والكسائي في
رواية الدوري: (لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا) يعني تجري أبدًا لا تثبت في مكان.
وفي «ربيع الأبرار» قال طاوس: وربِّ هذه البَنِيَّةأن هذا القمر يبكي من
خشية الله تعالى ولا ذنب له.
وسيأتي الكلام على طلوع الشمس من مغربها في سورة الأنعام وفي الحشر.
3200 - حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ المُخْتَارِ،
حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ الدَّانَاجُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
«الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ». [خ 3200]
(1/10)
قَالَ
الْخَطَّابِيُّ: روي في هذا الحديث زيادة لم يذكرها أبو عبد الله، وهي ما أخبرنا
ابن الأَعْرَابيّ، حدثنا عباس الدُّوري، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد العزيز بن
المختار، عن عبد الله الداناج: شهدت أبا سلمة قال: حدثنا أبو هريرة، عن رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ
يُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وروينا في «مسند أبي داود الطيالسي» عن يزيد الرَّقَاشي، عن أنس يرفعه: «إِنَّ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي النَّارِ».
وذكره أبو مسعود الدمشقي في بعض نسخ كتاب «الأطراف» موهمًا أن ذلك في الصحيح،
وكأنَّهُ غير جيد لعدم سلف ومتابع فينظر.
وذكر ابن وهب في كتاب «الأهوال» عن عطاء بن يسار أنه تلا هذه الآية: {وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] قال: يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار
فتكون نار الله الكبرى.
وعن كعب الحبر: يجاء بالشمس والقمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار.
وروى عكرمة، عن ابن عباس عنه تكذيب كعب في قوله، وقال: هذه يهودية يريد إدخالها في
الإسلام، الله أكرمُ وأجلُّ من أن يعذب على طاعته، ألم تر إلى قوله جل وعز:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] يعني: دأبهما
في طاعته، فكيف يعذب عبدين أثنى الله عليهما؟! ثم حدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ حديثًا فيه: «أَنَّ اللهَ لَمَّا أَبْرَمَ خَلْقَهُ فَلَمْ يَبْقَ
مِنْ خَلْقِهِ غَيْرُ آدَمَ، خَلَقَ الشَّمْسَ مِنْ نُورِ عَرْشِهِ، فَإنَّمَا
كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَدَعهَا شَمْسًا فَإِنَّهُ خَلَقَهَا
(1/11)
مِثْلَ الدُّنْيَا مَا بَيْنَ مَشَارِقِها وَمَغَارِبِهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَطْمِسُهَا وَيُسَخِّرُ لَهَا قَمَرًا فَإِنَّهُ دُونَ الشَّمْسِ فِي الْعِظَمِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرَى صِغَرُهُمَا مِنْ شِدَّةِ ارْتِفَاعِ السَّمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَ اللهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَمَا كَانَ خَلَقَهُمَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ وَلَا النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَرْسَلَ جِبْرِيلَ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ شَمْسٌ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْءَ وَبَقِيَ فِيهِ النُّورُ، فَالسَّوَادُ الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْقَمَرِ شِبْهَ الْخُطُوطِ فَهُوَ أَثَرُ الْمَحْوِ، ثُمَّ خَلَقَ الشَّمْسَ عَجَلَةً مِنْ ضَوْءِ نُورِ الْعَرْشِ، لَهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عُرْوَةً، وَوَكَّلَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَلَكًا، كُلُّ مَلَكٍ مُعَلَّقٌ بِعُرْوَةٍ مِنْ تِلْكَ الْعُرَى، وَوَكَّلَ بِالْقَمَرِ وَعَجَلَتِهِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَلَكًا، كَالشَّمْسِ، وَخَلَقَ لَهُما مَشَارِقَ وَمَغَارِبَ فِي قُطْرَيِ الْأَرْضِ وَكَنَفَيِ السَّمَاءِ، ثَمَانِينَ وَمِائَةَ عَيْنٍ فِي الْمَغْرِبِ طِينَةً سَوْدَاءَ، وَثَمَانِينَ وَمِائَةَ عَيْنٍ فِي الْمَشْرِقِ مِثْلَ ذَلِكَ طِينَةً سَوْدَاءَ تَفُورُ غَلْيًا كَغَلْيِ الْقِدْرِ، فَكُلُّ يَوْمٍ وَكُلُّ لَيْلَةٍ لَهَا مَطْلَعٌ جَدِيدٌ وَمَغْرِبٌ جَدِيدٌ، وَخَلَقَ اللهُ بحْرًا دُونَ السَّمَاءِ بِمِقْدَارَ ثَلَاثِ فَرَاسِخَ، وَهُوَ بُرج مَلْفُوفٌقَائِمٌ فِي الْهَوَاءِ لَا يَقْطُرُ قَطْرُهُ، وَالْبِحَارُ كُلُّهَا سَاكِنَةٌ، وَذَاكَ الْبَحْرُ جَارٍ فِي سُرْعَةِ السَّهْمِ وَانْطِلَاقُهُ فِي الْهَوَاءِ مُسْتَوِيًا كَأَنَّهُ جَبَلٌ مَمْدُودٌ، تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ والحُسْنُ
(1/12)
فِي
لُجَّتِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]-
والفلك: دوران العجلة في لجة ذلك البحر- فَلَوْ بَدَتِ الشَّمْسُ مِنْ ذَلِكَ
الْبَحْرِ لَأَحْرَقَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَلَوْ بَدَا الْقَمَرُ لَافْتَتَنَ بِهِ
أَهْلُ الْأَرْضِ حَتَّى يَعْبُدُوهُ». وفي آخره: «يُجَاءُ بِالْقَمَرِ
وَالشَّمْسِ أَسْوَدَيْنِ مُكَدَّرَيْنِ تَرْعُدُ فَرَائِصُهُمَا، فَإِذَا كَانَا
حِيَالَ الْعَرْشِ سَجَدَا وَقَالَا: إِلَهُنَا قَدْ عَلِمْتَ طَاعَتَنَا لَكَ
فَلَا تُعَذِّبْنَا بِعِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّانَا، فَيَقُولُ جَلَّ
وَعَزَّ: صَدَقْتُمَا وَإِنِّي مُعِيدُكُمَا إِلَى مَا بَدَأَتْكُمَا مِنْهُ،
وَإِنِّي خَلَقْتُكُمَا مِنْ نُورِ عَرْشِي، ارْجِعَا إِلَيْهِ، فَيَرْجِعَانِ
وَيَخْتَلِطَانِ بِنُورِ الْعَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ
جَلَّ وَعَزَّ: {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [الْبُرُوجِ: 13]».
وفي آخره: «أَنَّ كَعْبًا جَاءَ إِلَى ابنِ عَبَّاسٍ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ
ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ كِتَابٍ دَارِسٍ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ عَنْ كِتَابٍ مَحْفُوظٍ
حَدَّثَهُ عَنْ سَيِّدِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وسَلَامُهُ،
وَسَأَلَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ بِالْحَدِيثِ لِيَحْفَظَهُ، فَأَعَادَهُ لَهُ فَلمْ
يَخْرِمْ حَرْفًا».
(1/13)
وفيه: «فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فَيُرِي الْعِبَادَ آيَةً فَيَسْتَغثهُمْ خَرَّتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعَجَلَةِ، قال: فَتَقَعُ فِي غَمْرِ ذَلِكَ الْبَحْرِ وَهُوَ الْفَلَكُ، فَإِذَا أَحَبَّ اللهُ أَنْ يُعَظِّمَ الْآيَةَ وَيُشَدِّدَ تَخْوِيفَ الْعِبَادِ، وَقَعَتِ الشَّمْسُ كُلُّهَا، فلَا يَبْقَى مِنْهَا عَلَى الْعَجَلَةِ شَيْءٌ، فَذَلِكَ حِينَ يُظْلِمُ النَّهَارُ وَتَبْدُو النُّجُومُ، وَهُوَ الْمُنْتَهَى مِنْ كُسُوفِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ آيَةً دُونَ آيَةٍ، وَقَعَ مِنْهَا النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثُ أَوِ الثُّلُثَانِ فِي الْمَاءِ، وَيَبْقَى سَائِرُ ذَلِكَ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَهُوَ كُسُوفٌ دُونَ كُسُوفٍ، فَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ صَارَتِ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْعَجَلَةِ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ مِنْهَا يُقْبِلُونَ عَلَى الشَّمْسِ فَيَجُرُّونَهَا نَحْوَ الْعَجَلَةِ، وَالْأُخْرَى يُقْبِلُونَ عَلَى الْعَجَلَةِ فَيَجُرُّونَهَا نَحْوَ الشَّمْسِ، فَإِذَا أَخْرَجُوهَا كُلَّهَا اجْتَمَعَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ، فَاحْتَمَلُوهَا حَتَّى يَضَعُوهَا عَلَى الْعَجَلَةِ فَيَحْمَدُونَ اللهَ عَلَى مَا قَوَّاهُمْ، وَيَتَعَلَّقُونَ بِعُرَى الْعَجَلَةِ، وَيَجُرُّونَهَا فِي الْفَلَكِ بِالتَّسْبِيحِ، فَإِذَا بَلَغُوا بِهَا الْمَغْرِبَ أَدْخَلُوهَا تِلْكَ الْعَيْنَ، فَتَسْقُطُ مِنْ أُفُقِ السَّمَاءِ فِي الْعَيْنِ، قَالَ: فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ رُفِعَ بِهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ فِي سُرْعَةِ طَيَرَانِ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَبْلغ بِهَا السَّمَاءَ السَّابِعَةَ الْعُلْيَا حَتَّى تَكُونَ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَيَسْجُدُ مَعَهَا الْمُوَكَّلُونَ بِهَا، فَإِذَا وَصَلَتْ إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ فَذَلِكَ حِينَ يَنْفَجِرُ الصُّبْحُ،
(1/14)
فَإِذَا
وَصَلَتْ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ السَّمَاءِ فَذَلِكَ حِينَ يَمْضِي
النَّهَارُ».
قال أبو جعفر: في سنده، وعن مجاهد: السواد الذي في القمر كذلك خلقه الله، وكذا روي
عن قتادة. انتهى.
ليس من قول ابن عباس وما أسلفنا عن غيره خلف، ويؤيد قول غيره قوله جل وعز:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية
[الأنبياء: 98] وأيضا فليس تكويرهما في النار عذابًا لهما، ولكنه تبكيت لعبدتهما
الذين عبدوهما في الدنيا، ليعلموا أن عبادتهم إياهما كانت باطلًا، وهذا كما روي أن
الذباب كله في النار، ولا ذنب للذباب، والمعنى في ذلك: لتكون عقوبة لأهل النار
يتأذون بها كما يتأذون بالحيات وشبهها.
قال الإسماعيلي: وقد جعل الله جلَّ وعزَّ في النار ملائكة وليست تتأذى بالنار ولا
تعذب بها، وحجارة يعذب بها أهل النار، فيجوز أن يجعل الشمس والقمر عذابا في النار
لأهل النار، أو آلة من آلات التعذيب، نعوذ بالله من النار.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: معنى التكوير في الشيء البسيط: لف بعضه على بعض كالثوب
ونحوه، وعند المفسرين في قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] قالوا:
جمع ضوؤها ولُفَّ كما تلف العمامة، يقال: كورت العمامة على رأسي أكورها كورًا،
وكورتها تكويرًا: إذا لففتها.
وفي «الموضوعات» للنقاش عن ابن مسعود: تكلم ربنا بكلمتين صَيَّر أحدهما شمسًا
والأخرى قمرًا، وكلاهما من النور، ويعودان يوم القيامة إلى الجنة.
حديث ابن عمر وعائشة وابن مسعود تقدما في الكسوف، وحديث ابن عباس تقدم في أوائل
الصلاة.
(بَابُ: ما جَاءَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48])
ثم ذكر حديث ابن عباس: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا» وقد تقدم في الاستسقاء، ثم قال:
(1/15)
3206
- حَدَّثَنا مَكِّيُّ، حَدَّثَنا ابنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ:
كَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ،
أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا
أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ، فَقَالَ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمٌ:
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا} [الأحقاف: 24]» [خ 3206]
وفي موضع آخر رواه البخاري، عن سليمان أيضًا، عن عائشة وعنده: «مَا يُؤَمِّنُنِي
أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ».
وَفِي «كِتَابِ النَّسَائِي»: «إِذَا رَأَى مَخِيلَةً» يَعْنِي: الْغَيْمَ.
وعن الداودي: المخيلة سحاب وريح متغيرة على غير ما يُعهد.
وعند الهروي: جاء في التفسير: أمطرنا في الرحمة، ومُطِرنا في العذاب، وكلام العرب:
مطرت السماء من المطر، وعند أبي ذر: فإذا أمطرت.
وزعم عياض أن المفسرين وجدوه في القرآن في مواضع بالألف، والصحيح أنهما بمعنى، ألا
تراهم قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] وإنما ظنوه مطر رحمة فقيل
لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 24].
وقوله: (سُرِّيَ عَنْهُ): أي كشف عنه ما خامره من الوجل، يقال: سروت الجُلَّ عن
الفرس: إذا نزعته عنه.
وقوله: (مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ) قال ابن العربي: كيف يلتئم
هذا مع قوله جل وعز: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}
[الأنفال: 33].
والجواب: أن الآية قبل الحديث؛ لأن الآية كرامة لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ ودرجة رفيعة لا تحط بعد أن رفعت، فإن الله لم يعذب أسلافهم لكونه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في أصلابهم، ولم يعذبهم لحرمة وجوده فهم، ولم يعذبهم
وهم يستغفرون بعد ذهاب نبيهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. انتهى كلامه.
(1/16)
وفيه
نظرٌ من حيث قوله: أن الآية قبل الحديث، ولو قال بعد الحديث لكان حسنًا، وأما قوله
فلا وجه له، قال ابن العربي: وقالت الصوفية: وكما أن كون سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بين أظهرهم مُنِع من عذابهم فالإيمان
الذي في القلوب أيضًا يمنع من تعذيب أبدانهم، والله تعالى أعلم.
(بَابُ: ذِكرِ المَلَائِكَةِ)
(وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلاَمٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلاَئِكَةِ صَلواتُ اللهِ
عَليهِم وَسَلامُهُ).
هذا التعليق رواه البخاري عن قريب مسندًا مطوَّلًا عن محمد بن سلام، عن مروان بن
معاوية، عن حميد عنه.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ} الملائكةُ)
هذا التعليق رواه الطبري عن محمد بن سعد: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني
أبي عن أبيه عن ابن عباس، فذكره بزيادة الملائكة صافون تسبح لله جلَّ وعزَّ.
وروي نحو ذلك عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من حديث عبيد بن
سليمان عن الضحاك بن مزاحم، قال: كان مسروق يروي عن عائشة بلفظ: «مَا فِي
السَّماءِ الدنيا موضعُ قَدَمٍ إلا عليه ملكٌ ساجدٌ أو قائِمٌ، فذلك قوله تعالى:
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ}».
وحدثي أبو السائب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق، قال: قال عبد
الله: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا ابن عُلَيَّةَ، أخبرنا الجريري عن أبي نضرة
قال، كان عمر بن الخطاب، فذكرا نحوه.
ورواه أيضًا عن مجاهد وقتادة والسدي وابن زيد.
ثم إن البخاري قال:
(1/17)
3207
- حَدَّثَنا هُدْبَةُ، حَدَّثَنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: وقَالَ لِي
خَلِيفَةُ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنا سَعِيدٌ، وَهِشَامٌ،
قَالاَ: حَدَّثَنا قَتَادَةُ، حَدَّثَنا أَنَسُ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ،
قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا عِنْدَ البَيْتِ بَيْنَ
النَّائِمِ، وَاليَقْظَانِ - وَذَكَرَ: بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ - أُتِيتُ بِطَسْتٍ
مِنْ ذَهَبٍ، مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ
البَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً
وَإِيمَانًا، وَأُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، دُونَ البَغْلِ وَفَوْقَ الحِمَارِ:
البُرَاقُ، فَانطَلَقتُ مَعَ جِبرِيلَ».
وَفيه: «عيسى ويحيى في السماءِ الثَّانيةِ، وفي الثالثةِ يوسفَ، وفي الرابعةِ
إدريس، وفي الخامسةِ هارون، وفي السادسةِ موسى، وفي السابعة إبراهيم، صلوات الله
عليهم وسلامه». الحديث مطولًا. [خ 3207]
وفي موضع آخر من حديث شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، سَمِعْتُ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةِ الإِسراءِ مِنْ مَسْجِدِ
الكَعْبَةِ: «جَاءَهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، قَبْلَ أَنْ
يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي المسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ:
أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، وَقَالَ آخِرُهُمْ:
خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاؤُوا لَيْلَةً
أُخْرَى فِيمَا يرى النَّائِمُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَائِمَةٌ
عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ صَلَواتُ اللهِ
عَلَيهِم وَسَلامُهُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ،
فَتَوَلَّاهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ».
(1/18)
وفي
حديث أبي ذرٍّ الغفاري: «أَنَّه رأى إبراهيمَ في السماءِ السادسةِ صلى الله عليهما
وسلم».
وقال في موضع آخر: أَخْبَرَنَا ابنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، وقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ،
حَدَّثَنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، حَدَّثَنا ابنَ
عَبَّاسٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ
بِي مُوسَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا آدَمَ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ
شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الخَلْقِ إِلَى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ،
سَبِطَ الرَّأْسِ» الحديث.
قال الإسماعيلي: جمع البخاري بين حديثي شعبة ويزيد وسعيد على لفظ سعيد ولم يفصله،
وفي حديث سعيد زيادة ظاهرة على ما في حديث شعبة، ولفظه: «مُوْسَى رجلٌ آدمُ طُوالٌ
كَأنَّه مِن رجالِ شَنوءَةَ» وقال عيسى: «جَلْد»، وفي لفظ: «جَعْد مَربوع».
وقال ابن حزم: ثم لم نجد للبخاري شيئًا لا يحتمل مخرجًا
إلا حديث شريك هذا؛ فإنه تم عليه في تخريجه الوهم مع إتقانه وحفظه وصحة معرفته،
وألفاظ هذا الحديث مقحمة منكرة، والآفة من شريك في ذلك، أولها قوله: (إن ذلك قبل
أن يوحى إليه، وإنه حينئذ فرضت عليه الخمسون صلاة).
قال أبو محمد: وهذا بلا خلاف من أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد
أن أوحي إليه باثنتي عشرة سنة، فكيف يكون ذلك قبل أن يوحى إليه؟! وقد أورد مسلم في
«صحيحه» حديث شريك هذا، لكن بغير هذه الزيادة.
ومنها قوله: (فَدَنَى فَتَدَلى، فكانَ منه قابَ قَوسَين أَو أَدنى) وقال عبد الحق:
زاد شريك زيادة مجهولة، وأتى بألفاظ غير معروفة، وقد روى حديث الإسراء جماعة من
الحفاظ المتقنين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة عن أنس، فلم يأتِ أحد منهم بما
أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث.
(1/19)
وقال
أبو الفرج: لا يخلو هذا الحديث من أمرين، إما أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ قد رأى في المنام ما جرى له مثله في اليقظة بعد سنين، أو يكون في
الحديث تخليط بين الرواة.
وقد انزعج لهذا الحديث الخطابيُّ وقال: هذا الحديث منام، ثم هو حكاية يحكيها أنس
ويخبر بها من تلقاء نفسه لم يعزها إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ولم يروها عنه. انتهى
لقائل أن يقول: قوله: (قبل أن يوحى إليه) أي: من أمر الإسراء شيء، ولم يعرف به حتى
وقع بعضه، أو قبل أن يوحى إليه في أمر الصلاة شيء؛ لأنها إنما فرضت ليلة الإسراء،
ولم يُنقل أنه فرض سواها، فكأنها من أهم المقصود منه، وهذا وإن بَعُدَ من ظاهر
اللفظ، فإن ظاهره العموم، فالمصير إليه أولى؛ سَحبًا لحكم الصحة على جميع ما تضمنه
الكتاب، وذلك أولى من إسقاطه أو وصفه بالغلط والزيادة فيه ما ليس بصحيح، أو يكون
قوله: (جاءَه ثلاثةُ نَفر قَبْلَ أنْ يُوْحَى إِلَيْهِ) على ظاهره، ثم جاؤوا إليه
مرة أخرى بعد البعثة فيما يرى قلبه كما في الحديث، قال: فلم يَرَهُم حتى جاؤوا
إليه ليلة أخرى، فلا منافاة بين قوله: (قبل أن يوحى إليه) وبين فرض الصلاة، والله
أعلم.
وقول ابن حزم: (وهذا بلا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة) فيه
نظر؛ لما ذكره هو في موضع آخر عن ابن سعد: أنه كان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا
لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ليلة السبت.
وقال الوَاقِدِيُّ: ليلة سبع عشرة من ربيع الأول، وقال الحَرْبِيُّ: ليلة سبع
وعشرين من ربيع الآخر.
وقال ابن قتيبة: بعد سنة ونصف من رجوعه من الطائف، وقال عياض: بعد البعثة بخمسة
عشر شهرًا.
وقال ابن فارس: فلما أتت عليه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر أُسري به.
(1/20)
وعن
السُّدِّيِّ فيما ذكره أبو الربيع بن سالم في كتابه «الناسخ والمنسوخ»: كان الإسراء
قبل الهجرة بستة أشهر، وروينا في «كتاب الوفاء» لأبي الفرج: كان الإسراء قبل
الهجرة بثمانية أشهر، وقيل: كان في ليلة سبع وعشرين من رجب، وعند ابن الأثير قبل
الهجرة بثلاث سنين، وعند أبي عمر بعد المبعث بثمانية عشر شهرًا، وقال الزهري: بعد
البعثة بخمس سنين.
ولما ذكر الحاكم حديث شريك قال: هذا فيه وهم في مواضع أربعة:
أحدها: ذِكر إدريس في السماء الثانية، والأخبار تواترت بأنه في الرابعة.
الثاني: ذكر هارون في السماء الرابعة, والأخبار تواترت بأنه في الخامسة.
الثالث: ذكر إبراهيم في السماء السادسة وموسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في
السابعة, والأخبار متواترة أن موسى في السادسة وإبراهيم في السابعة. انتهى
لقائل أن يقول: هذا يدل على تعدد الإسراءات، وإذا حمل على هذا فلا خلف في
الروايات، وذكر عياض عن بعضهم: أن هذه الزيادات مِن ذكر النوم وذِكرِ شَق البطن
ودنوِّ الربِّ جل وعز الواقعةِ في هذا الحديث، إنما هي من رواية شريك عن أنس، فهي
منكرة من روايته؛ إذ شق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، مع أن أنسًا قد بيَّن من غير طريق أنه إنما رواه عن غيره، وأنه لم
يسمعه من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال مرة: عن مالك بن صعصعة، وفي
«كتاب مسلم» لعله عن مالك بن صعصعة على الشك، وقال مرة: كان أبو ذر يحدِّث. انتهى
كلامه، وفيه نظر من حيث إن الحاكم قال في «الإكليل»: المعراج صحَّ سنده بلا خلاف
بين أئمة الحديث فيه، ومدار الروايات الصحيحة فيه على أنس، وقد سمع بعضه عن رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولم يسمع تمام الحديث، فسمع بعضه من أبي ذر
وبعضه من مالك بن صعصعة، وبعضه سمعه من أبي هريرة.
(1/21)
وأما
قوله: (إذ شَق البطن في الأحاديث الصحيحة إنما كان في صغره) ففيه نظر من حيث إن
الشيخين رويا حديث قتادة عن أنس عن مالك بن صَعْصَعَةَ المذكور أول الباب بلفظ:
«فَشَقَّ ما بينَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فاستخرجَ قلبي، ثم أُتيتُ بِطِسْتٍ منْ
ذَهَبٍ فغسلَ قلبي» الحديثَ.
وفي «الصحيحين» أيضًا من حديث محمد بن مسلم عن أنس عن أبي ذر بلفظ: «فنزلَ جبريلُ
فَفَرَجَ صدري، ثم غَسَلَهَ منْ ماءِ زَمْزَم».
وفي «مغازي موسى بن عقبة»: أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول ما
رأى أن الله جلَّ وعزَّ أراه رؤيا في المنام فشَقَّ ذلك عليه، فذكرها لخديجة
فعصمها الله جل وعز من التكذيب، ثم خرج من عندها فأخبرها أنه رأى بطنَه شُق ثم
طُهر وغُسل ثم أُعيد كما كان، فقالت:
هذا والله خير، فأبشِر، ثم استعلن له جبريل صلى الله عليهما وسلم.
وذكره محمد بن إسحاق أيضًا في «كتاب المبتدأ»، وروينا في «كتاب الصحيح» للحافظ
ضياء الدين من حديث أُبِيِّ بنِ كَعْب: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال:
«شُقَّ صَدْرِي وأنا ابنُ عَشْرِ سنين»، وكذا هو مذكور في «كتاب الدلائل» لأبي
نعيم الحافظ وأشار إلى غرابته.
وأما ذكر النوم فقد ورد في «الصحيح» من غير حديثه، ولئن كان منفردًا فلا إنكار
فيه؛ لأن أبا نعيم الحافظ ذكر من حديث أبان عن إبراهيم عن علقمة: «أول ما يؤتى به
الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه في المنام حتى تهدأ قلوبُهم، ثم يأتي الوحي
بعدُ»، فيحتمل أن يكون رآه أولًا منامًا، ثم جاءه الوحي بعدُ يقظةً، كذا ذكره
علقمة، يؤيده ما في كتاب «البستان في التعبير» للقيرواني عن سعيد بن المسيب، قال
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مَا مِنْ شيءٍ يجري لابنِ آدمَ إلا ويَرَاهُ في
مَنَامِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَه، ونسيَه مَن نسيَه».
(1/22)
وذكر
العزفي (1) في كتابه «الدر المنظم في مولد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
المعظم»: «أنَّ حَلِيْمَةَ رضي الله عنها رأتْ شقَّ صَدْرِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ في المنامِ على الهيئةِ التي أَخْبَرَهَا بها في اليقظةِ فَقَصَّتْهَا
على زَوْجِهَا» الحديث.
ولفظة الدُّنوِّ جاء في «الصحيح» تفسيرُها بشيء سائغ لا إنكار فيه: أن عائشة لما
سُئلت عنها قالت: «ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ،
وَإِنَّهُ رآهُ هَذِهِ المَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ
أُفُقَ السماءِ». وإنما ذكره مسلم في «صحيحه» عن ابن مسعود.
__________
(1) أبو العباس أحمد بن القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد اللَّخمي، عرف
بابن أبي عزفة، وإليها يُنسب، يرجع أصله ـ على أشهر الروايات ـ إلى المناذرة
اللّخميين من عرب اليمن، ثم استقرّ بعض أفراد أسرته بسبتة، وعرفت هذه الأسرة
بالعلم أولا حتى منتصف القرن السابع الهجري، ثم بالعلم والسياسة معا حتى أواخر
العقد الثالث من القرن الثامن. (557 - 633 هـ
ترك مصنفات نافعة رائقة بديعة، أهمها «برنامجه» الحافل الذي صنعه للتعريف بشيوخه
ومروياته عنهم؛ رواه عنه تلامذته، وهو إلى حدود اليوم معدود من الكتب المفقودة،
وكتاب «الدر المنظم في مولد النبي المعظم» وضعه لما رأى المسلمين يعظمون أعياد
النصارى وعوائدهم، وأكمله بعده ابنه أبو القاسم، حُقّق قسم منه بجامعة محمد الخامس
بالرباط ولم يطبع، ومنها «دعامة اليقين في زعامة المتقين» وهو مطبوع، و «منهاج
الرسوخ على علم الناسخ والمنسوخ»، وغيرها من المؤلفات
المصادر: برنامج شيوخ الرعيني (ص 42)، وبرنامج أبن أبي الربيع (ص 260) ضمن مجلة معهد
المخطوطات مج 1، وتاريخ الإسلام (14/ 100)، وتوضيح المشتبه (6/ 232)، ونيل
الابتهاج (ص 77)، وكفاية المحتاج (ص 33)، وأزهار الرياض (2/ 374)، والأعلام (1/
218)، ومعلمة المغرب (18/ 6068).
(1/23)
وقوله:
(لا خلافَ أنَّ خديجة صلَّتْ معه بعد فرض الصلاة) فيه نظر؛ لأن الزبير ذكر من حديث
يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: أن خديجة رضي الله عنها توفيت قبل أن تفرض
الصلاة.
وقول البخاري: (وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي البَيْتِ المَعْمُورِ)
رواه أبو نعيم الحافظ عن أبي عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هُدبة،
حدثنا همام بن يحيى عن قتادة، حدثنا الحسن عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «أَنَّه رَأَى البيتَ المعمور يَدْخُلُهُ كلَّ يومٍ سَبْعُوْنَ
ألفَ مَلكٍ، وَلَا يَعُوْدُونَ فيه» انتهى.
لقائل أن يقول: هذا الحديث مرسل؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة على ما هو شائع
في ألسنة المحدثين، فكيف ساغ لأَبِي نُعَيْمٍ ذكره في «مستخرجه»، ومن شرط المستخرج
على الصحيح الاتصال مع صحة الإسناد، وأما البخاري فلا لوم عليه؛ لأنه ذكره
معلَّقًا، والتعليق المجزوم به عند جماعة من العلماء ليس ملتحِقًا بالصحيح، فيُجاب
بأن الحسن صحَّ سماعه من أبي هريرة من غير تردد ولا شكٍّ، بينت ذلك في كتابي
«إكمال تهذيب الكمال»، وكتابي «الإعلام بسنته عليه الصلاة والسلام» مُلَخِّصًا ما
ذكره أبو داود الطيالسي بسند على شرط الشيخين عن عباد بن راشد، حدثنا الحسن قال:
«حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ونحنُ إِذْ ذَاكَ بالمدينةِ»، وفي لفظ: «وهُو في
مَجْلِسِ أبي هُرَيْرَةَ».
وعند أبي القاسم في «الأوسط» بسند لا بأس به عن الحسن، قال: «خَطَبَنَا أبو
هُرَيْرَةَ، قالَ أبو القَاسِمْ» هذا الحديث يؤيد قول من قال: إن الحسن سمع من أبي
هريرة بالمدينة.
(1/24)
وفي
موضع آخر عن جسر بن فرقد عن الحسن قال: سألت أبا هريرة عن قوله تعالى:
{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة: 72] الحديث، وعن ابن مهدي فيما ذكره ابن خلفون:
كان الحسن يقول: حدثنا أبو هريرة ونحن بالمدينة وهو الثَّبت.
وعند أبي موسى في «كتاب الترغيب» من حديث حماد بن عبد الله، سمعت الحسن قال: سمعت
أبا هريرة، فذكر حديثًا.
وعند ابن حبان في «صحيحه» عن الحسن قال: حدثني سبعة رهط من الصحابة، أبو هريرة
وأنس وابن عمر، وذكر آخرين، وعند ابن القطان نحوه من حديث عثمان الأعرج عنه.
وعند ابن شاهين من حديث يونس بن عبيد، عن الحسن عن أبي هريرة، فذكر الحديث ثم قال:
هذا صحيح غريب, وقال الدَّارَقُطْني: حدثنا دعلج، سمعت موسى بن هارون يقول: سمع
الحسن من أبي هريرة. وعند ابن أبي حاتم، قال قتادة: إنما أخذ الحسن - يعني العلم -
من أبي هريرة.
وعند ابن ماجه من حديث إسماعيل قال: دخلنا على الحسن فقال: دخلنا على أبي هريرة
نعوده.
وعند ابن أبي خَيْثَمَةَ عن سالم الخياط قال: سمعت الحسن وابن سيرين قالا: سمعنا
أبا هريرة، الحديث. قال ابن أبي خَيْثَمَةَ: أردنا منه قول الحسن: سمعت أبا هريرة،
ولما ذكر الدارمي حديثه مع حديث غيره في اجتناب المطاعم السوء قال: وهذه الأسانيد
قد ثبتت عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
ومن أطراف حديث الإسراء ما ذكره البيهقي بأسانيد ثمانية إلى ابن حبان في «صحيحه»:
«فحملَهُ جبريلُ صلى الله عليهما وسلَّمَ على البُرَاقِ أَحَدُهُمَا رَدِيفُ
صَاحِبِهِ، حَتَّى أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَأُرِيَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ ثُمَّ رَجَعَا عَوْدَهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا ولم يُصَلِّ فيه، ولو
صَلَّى لكانت سُنَّة».
(1/25)
وعند
البيهقي بأسانيد ثابتة عن شداد بن أوس، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ
أُسْرِيَ بِكَ؟ قالَ: «صَلَّيْتُ لِأَصْحَابِي الْعَتَمَةَ بِمَكَّةَ مُعْتِمًا،
فَأَتَانِي جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ
فَاسْتَصْعَبَتْ، فَأَدَارَهَا بِأُذُنِهَا، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا حَتَّى
بَلَغْنَا أَرْضًا ذَاتِ نَخْلٍ، فَأَنْزَلَنِي فَقَالَ: صَلِّ فَصَلَّيْتُ،
فَقَالَ: أتدري أَيْنَ صَلَّيْتَ؟، قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ، قَالَ: صَلَّيْتَ
بِيَثْرِبَ صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا فأنزلني فَصَلَّيْتُ
وقَالَ: أتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ صَلَّيْتَ بِمَدْيَنَ عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثُمَ أنزلني فَصَلَّيْتُ فَقَالَ: صَلَّيْتَ
بِبَيْتِ لَحْمٍ ثم دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الثَّامِنِ، فَأَتَى
قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ فيه دَابَّتَهُ، وَدَخَلْنَا مِنْ بَابٍ فِيهِ
تَمِيلُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللهُ،
وأَخَذَنِي منَ العَطَشِ أَشَد مَا أَخَذَنِي فأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ».
وفي «مسلم»: «فأتاني جبريلُ بإناءٍ منْ لَبَنٍ، وإناءٍ منْ خَمْرٍ، فاخترتُ اللبنَ»
وفيه: «فَإِذا سِدرةُ الْمُنْتَهَى ورقُها كآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا نبقُها
كالقِلال».
وفي حديث شداد المتقدم: «ثمَّ انْصَرَفْنَا فمرَرنا بعِيرٍ لقريشٍ، فسلَّمت عليهم،
فقال بعضهم: هذا صَوْتُ محمد، ثم أتيتُ أصحابي قبلَ الصبحِ، فأتاني أبو بكر،
فقالَ: يا رسولَ الله أينَ كُنْتَ الليلةَ؟ فَقَد التَمَسْتُكَ في مظانِّك».
(1/26)
وفي
حديث عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس، وذكر مسيرَه: «فإذا بعجوزٍ على جانبِ
الطريقِ فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: سِرْ، فسارَ، فإذا بشيء يدعوه متنحِّيًا عنِ
الطَّرِيْقِ يقول: هَلُمَّ يا محمد، فقال جبريل: سِر، فسار، فلقيه خَلْقٌ منَ
الخلقِ، فقالوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا أولُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يا آخرُ،
السَّلَامُ عَلَيْكَ يا حاشِرُ، فقال له جبريل: اردُدِ السلامَ، ثم ساروا حتى أتوا
بيتَ المقدسِ، فعرض عليه الماء والخمر واللبن، ثم قال له جبريل: أما العجوزُ فهي
الدنيا، وأما الذي أرادَ أنْ تميلَ إليه فذاك إبليسُ، وأما الذين سَلَّمُوا
عَلَيْكَ فإبراهيمُ وموسى صلى الله عليهما وسلم».
وفي حديث حذيفة: «أُتي بالبراقِ، فلم يزايلا ظهره هو وجبريل حتى أتيا به بيتَ
المقدسِ، فصعد به جبريلُ إلى السَّمَاءِ» قيل لحذيفة: أربطَ البراق؟، فقال: أكان
يخاف أن يذهب منه وقد أتاه الله بها؟!
وفي حديث أبي عمران الْجَوْنِي عن أنس، قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«جاءني جبريلُ، فقمْتُ إلى شجرةٍ فيها مثل وكري الطير، فقعدَ جبريلُ في أحدهما
وقعدتُ في الآخر، فسَمَتْ وارتفعَتْ حَتَّى سَدَّتِ الخَافِقَيْنِ، وأنا أُقلِّبُ
طرفي، فلو شئتُ أنْ أمسَّ السماءَ مَسَسْتُ، فالتفتُ إلى جبريل، فإذا هو كأنه
حِلس، فعرفتُ فضلَ علمه بالله، ففُتح لي بابٌ منْ أبوابِ السماءِ، فرأيتُ النورَ
الأعظَمَ، وإذا دوني حجاب رفرف الياقوت والدر» وأسانيدها ثابتة.
وعند مسلم من حديث ابن مسعود: «انتهى إلى السدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة».
وفي حديث أبي هارون العبدي، وفيه كلام عن أبي سعيد يرفعه: «بينما أَنَا أسيرُ
(1/27)
إذْ دَعَانِي داعٍ عنْ يميني، يا محمد انظرني أسألك، فلم أُجِبْهُ، ثم دعاني داعٍ عنْ يساري فلم أجبه، وإذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها منْ كلِّ زينةٍ، فقالت: يا محمد، انظُرني أسألُك، فلم ألتفتْ إليها حتى أتيتُ بيتَ المقدس»، وفيه: «وسألتُ جبريلَ عنِ الذي دَعَانِي عن يميني، فقالَ: ذاكَ داعي اليهود، أمَا إنك لو أجبتَه لتهوَّدَتْ أمَّتُك، والذي عن يسارك داعي النَّصَارى، أمَا إنك لو أجبتَه لتنصَّرتْ أمتُك، والمرأةُ الحاسِرَةُ الدنيا، أمَا إنك لو أجبتَها لاختارتْ أمتُكَ الدنيا على الآخرة»، وفيه: «رأيتُ في سماءِ الدنيا أَخوِنة عليها لحمٌ مُشَرَّحٌ ليس يقربها أحد، وإذا أنا بأخوِنة عليها لحمٌ قد أَروَح ونَتِنَ عندها أناس يأكلون منها، قال جبريل: هؤلاء من أمتِكَ يتركونَ الحلالَ ويأتونَ الحرامَ، ثم مضيتُ هُنية، فإذا أنا بأقوام بطونهم مثال البيوت، كلما نهض أحدُهم خرَّ، وهمْ على سَابِلَةِ آلِ فرعونَ، فهؤلاء منْ أُمَّتِكَ الذين يأكلون الربا، قال: ثم مضيت هُنية، فإذا أنا بقوم مشافرُهم كَمَشَافِرِ الإبلِ يلتقمون الجَمْرَ ويخرجُ منْ أسافلهم، فقالَ: هؤلاءِ منْ أمتكَ الذين يأكلون أموالَ اليتامى ظُلْمًا، ثم مضيتُ هُنية، فإذا بنساءٍ مَعَلَّقَاتٍ بِثَدْيِهِنَّ، فقال: هؤلاءِ الزناة من أمتِك، ثم مضيتُ هُنية، فإذا أنا بأقوام يُقطَع من جنوبهم ويُلقَمون، ويُقَالُ لهم: كُلُوا ما كُنْتُمْ تأكلونَ منْ لحومِ إخوتكم، قلتُ: مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاءِ الغَمَّازونَ اللمَّازون من أمتك، وأنه رأى في السماء الثانية يوسف، وفي الثالثة ابنَي الخالة، قال: وفي السابعة فإذا أمتي شطرين، شطرٌ عليهم ثيابٌ بيضُ كأنها القراطيس، وشطر عليهم ثياب رُمْدٌ، قال: فدخلتُ البيتَ المعمور، ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحُجِبَ الآخرون، وهم على خير، فصليتُ أنا ومن معي في البيتِ المعمورِ، ثم رُفِعْتُ إلى السِّدرةِ الُمْنَتَهى، فإذا
(1/28)
كل
ورقة منها تكادُ أنْ تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري يقال لها: سلسبيل
يَنْشَقُّ منها نهران، أحدهما الكوثر والآخر يقال له: نهر الرحمة، فاغتسلتُ فيه
فغُفر لي ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبِي وما تأخرَ، ثم إني رُفِعْتُ إلى الجنة، ثم
عُرِضْتُ عليَّ النار»، وفيه: «لما راجعتُ ربي في الصلواتِ نادى ملك عندها: تمتْ
فريضتي وخفَّفتُ عن عبادي»، وفيه: «البراقُ صغيرُ الأذنين».
وفي حديث أبي جعفر الرازي، وفيه كلام عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي
هريرة: «أُتي بفرسٍ فَحُمِلَ عليه، ومرَّ في طريقهِ بقومٍ يَزْرَعُونَ في يومٍ ويحصدونَ
في يومٍ، كُلَّمَا حَصَدُوا عادَ كما كانَ، فقال جبريلُ: هؤلاءِ المجاهدونَ في
سبيلِ الله تُضَاعَفُ لهم الحسنةُ بسبعمائةِ ضعفٍ، ثم أَتى على قومٍ تُرضخُ رؤوسهم
بالصخرِ، كُلَّمَا رضختْ عادتْ، فقال جبريلُ: هؤلاءِ الذين تَتَثَاقلُ رؤوسُهُمْ
عنِ الصلاةِ، ثم أتى على قومٍ على أقبالِهِمْ رِقَاعٌ وعلى أَدْبَارِهِمْ رقاعٌ،
يَسْرَحُوْنَ كما تسرحُ الأنعامُ عنِ الضَّرِيْعِ والزَّقُومِ، فقال جبريلُ:
هؤلاءِ الذينَ لا يؤدونَ زكاةَ أموالهم، ثم أتى على قومِ بين أيديهم لحمٌ نَضِيْجٌ
ولحمٌ آخَرُ خبيثٌ، فجعلوا يأكلونَ من الخبيثِ ويدعون النَّضِيْجَ، فقال جبريلُ:
هؤلاء الذين يدعون النساءَ الحلالَ، ويأتي أحدُهم المرأةَ الخبيثةَ، ثم مرَّ على
رجلٍ قد جمعَ حُزمةَ حطبٍ عظيمةٍ لا يستطيع حملها، وهو يريدُ أنْ يزيدَ عليها،
فقالَ: هذا رجلٌ منْ أمتكَ عليه أمانةٌ لا يستطيع أداءَهَا، وهو يريد أن يزيد
عليها، ثم أتى على قوم تُقْرَضُ ألسنتهم وشفاههم بمقاريضَ من حديدٍ، كلما قرضت
عادت كما كانت، فقال: هؤلاء خطباء الفتنة، ثم أتى على جُحر
(1/29)
صغير
يخرج منه ثور كبير، فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: هذا
الرجل يتكلم بالكلمة فيندم عليها، فيريد أن يردها فلا يستطيع، ثم أتى على وادٍ
فوجد منه ريحًا باردة طيبة، ووجد ريح المسك، فقال: هذه الجنة، ثم مرَّ على واد،
فسمع صوتًا منكرًا فقال: هذه جهنم، قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس، قال: فصليت مع
الملائكة، ثم أُتي بأرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، فأثنوا على ربهم جل
وعز، ثم إن نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أثنى على ربه، قال إبراهيم في آخره:
بهذا فضلكم محمد صلى الله عليهما وسلم. ثم أُتي بآنية معه ثلاثة مغطَّاة أفواهُها،
فأُتي بإناء منها فشرب منه يسيرًا، ثم رُفع له إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى
رُوِيَ، ثم رُفع له إناء آخر فيه خمر فقال: قد رويت لا أريده، فقيل له: قد أصبتَ،
أما إنها ستحرُم على أمتِك، فلو شربتها لم يتبعك من أمتك إلا قليل».
وفيه: «ثم صعد إلى السماء السابعة: فإذا برجل أشمط جالس على كرسي عند باب الجنة،
وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه، وفي ألوانهم شيء، فأتوا نهرًا فاغتسلوا
فيه، فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء، ثم إنهم أتوا على نهر آخر فاغتسلوا منه،
فخرجوا منه وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم، فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم، هو
أول رجل شمط على وجه الأرض، والبيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما الذين
في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فتابوا فتاب الله عليهم،
والنهر الأول رحمة الله، والنهر الثاني نعمة الله، والنهر الثالث فسقاهم ربهم
شرابًا طهورًا، ثم انتهى إلى السدرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار
من لبن لم يتغير طعمه،
وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، قال: وهي شجرة يسير الراكب في
أصلها مائة عام لا يقطعها، وإن الورقة منها مغطية الخلق، فَكَلَّمَه رَبُّه عند
ذلك وقال له: سَل».
(1/30)
وفي
آخره: «اصبر على خمس، فإنهن يجزين عنك بخمسين، كل خمس عشر أمثالها، فكان موسى
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أشد عليهم حين مرَّ به، وخيرهم حين رجع إليه».
وفي «طبقات ابن سعد»: «بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نائم في بيته
ظهرًا أتاه جبريل وميكال فقالا: انطلق إلى ما سألت الله جلَّ وعزَّ، فانطلقا به
إلى ما بين المقام وزمزم فَأُتِيَ بالمعراج، فإذا أحسن شيء منظرًا فَعَرَجَا به
إلى السماوات». وفيه: «لما انتهيتُ إلى السماء السابعة لم أسمع إلا صريف الأقلام»،
ولما ذكر البراق قال: «في فخذيها جناحان تحفر بهما رجليها، وهي طويلة الظهر طويلة
الأذنين، ومعي جبريل لا يفوتني ولا أفوته، فانتهى البراق إلى موقفه الذي كان يقف
فربطه فيه، وكان مربط الأنبياء، قال: ورأيت الأنبياء جمعوا لي، فرأيت إبراهيم
وموسى وعيسى، فظننت أنه لا بدَّ من أن يكون لهم إمام، فقدمني جبريل حتى صليتُ بين
أيديهم».
و «قال بعضهم: فُقد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تلك الليلة، فتفرقت بنو عبد
المطلب يطلبونه ويلتمسونه، وخرج العباس حتى بلغ ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمد يا
محمد، فأجابه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لبيك، فقال يا بن أخي عنَّيت
قومَك منذ الليلة، فأين كنت؟ قال: أتيت بيت المقدس، قال: في ليلتك؟! قال: نعم،
قال: هل أصابك الأخير؟»
وقالت أم هانئ: «ما أُسري به إلا من بيتنا، نام عندنا تلك الليلة».
وفي «كتاب عياض»: «رأى
موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في السماء السابعة بتفضيل كلام الله جل وعز له،
ثم علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله تعالى، فقال موسى: لم أظن أن يُرفع عليَّ
أحدٌ».
قال عياض رحمه الله تعالى: اختلف السلف والعلماء، هل كان إسراء بروحه أو جسده؟ على
ثلاث مقالات:
(1/31)
فذهبت
طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء صلى
الله عليهم وسلم حقٌّ ووحي، وإلى هذا ذهب معاوية وحُكي عن الحسن، والمشهور عنه
خلافُه، وإليه أشار محمد بن إسحاق، وحجتهم قوله جل وعز: {وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] انتهى
ذكر ابن مردويه من حديث الحسن بن الحسن عن أمه فاطمة، عن أبيها الحسين بن عليٍّ،
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «رأيت في المنام كأن بني أمية
يتعاورون منبري هذا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60].
وذكره أيضًا من حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيب مرسلًا.
وما حكوا عن عائشة: «ما فقدتُ جسدَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ»،
وقوله: «بينا أنا نائم» وقول أنس: وهو نائم في المسجد الحرام، وذكر القصة ثم قال
في آخرها: «فاستيقظتُ وأنا بالمسجدِ الحرامِ».
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا هو الحق، وهو
قول ابن عباس فيما صححه الحاكم وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن
صَعْصَعَةَ وأبي حَبَّة البدري وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن
المسيب وابن شهاب وابن زيد وإبراهيم والحسن ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج، وهو
دليل قول عائشة، وقول الطبري وأحمد بن حنبل وجماعة عظيمة من المسلمين، وهو قول
أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمتكلمين.
(1/32)
وقالت
طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظةً إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، واحتجوا
بقوله جل وعز: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1]، فجعل إلى المسجد الأقصى
غايةَ الإسراء الذي وقع التعجُّب فيه بعظيم القدرة والتمدُّح بتشريف النبي محمد
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ به وإظهاره الكرامة له بالإسراء إليه، قال هؤلاء: ولو
كان الإسراء بجسده إلى زائدٍ على المسجد الأقصى لذكره فيكون أبلغ في المدح، ثم
اختلفت هذه الفرقتان: هل صلى ببيت المقدس أم لا؟ ففي حديث أنس وغيره صلاتُه فيه،
وأنكر ذلك حذيفة وقال: والله ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا.
قال القاضي: والحق من هذا والصحيح إن شاء الله تعالى: أنه إسراء بالجسد والروح في
القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يُعْدَلُ عن الظاهر
والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته
استحالةٌ؛ إذ لو كان منامًا لقال: بروح عبده، ولم يقل: {بِعَبدِهِ}، وقوله: {مَا
زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى}، ولو كان منامًا لم يكن فيه معجزة ولا آية، ولما
استبعده الكفار ولا كذبوه، ولا ارتدَّ به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به؛ إذ مثل هذا
من المنامات لا يُنكر، بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه
وحال يقظته إلى ما ذكر في الحديث من صلاته بالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ببيت
المقدس في رواية أنس، أو في السماء على ما روى غيره.
وذكر مجيء جبريل له صلى الله عليهما وسلم بالبراق وشبه ذلك من مراجعته مع موسى
ودخوله الجنة، قال ابن عباس: هي رؤيا عين رآها النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
لا رؤيا منام.
وعن الحسن فيه: «بينا أنا جالسٌ في الحِجْرِ جاءني جبريل فهمزني
بعقبه فقمتُ فجلستُ فلم أر شيئًا، فعدتُ إلى مضجعي- ذكر ذلك ثلاثًا- قال في
الثالثة:
(1/33)
فأخذ
جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بعضُدِي، فجرني إلى باب المسجد، فإذا بدابة ...
».
وعن أم هانئ: «ما أُسري برسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا وهو في بيتي
تلكَ الليلةَ، صلَّى العشاءَ الآخرة ونام بيننا، فلما كان قبل الفجر أهبنا النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلما صلى الصبح قال: يا أم هانئ، لقد صليتُ معكم
العشاء كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئتُ بيت المقدس فصليتُ فيه، ثم صليتُ الغداة
معكم الآن كما ترون»، فهذا بيِّن في أنه بجسمه.
وعن أبي بكر الصديق في رواية شداد: أنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ليلةَ أُسْرِيَ به: «طلبتُك يا رسول الله البارحةَ في مكانك فلم أجدك، فأجابه:
أنَّ جبريلَ حمله إلى المسجد الأقصى».
وعن عمر، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «صليتُ ليلةَ أُسريَ بي في
مقدم المسجد، ثم دخلتُ الصخرةَ، فإذا بِمَلَكٍ قائمٌ معه آنيةٌ ثلاث».
وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة، فتُحمل على ظاهرها.
ثم ذكر حديث أبي ذر في شرح الصدر، وحديث أبي هريرة وجابر في بعثة بيت المقدس.
وقد روي عن عمر في حديث الإسراء عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «ثم
رجعتُ إلى خديجةَ رضي الله عنها وما تحوَّلت عن جانبها».
ومن قال: إنها نوم، احتج بقوله جل وعز: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} [الإسراء:
60] فسمَّاها رؤيا، قلنا: قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء: 1] يردُّه؛
لأنه لا يقال في النوم: أَسرى، وقوله: {فِتْنَة} يؤيد أنها رؤيا عينٍ وإسراء شخصٍ،
وليس في الحكم فيه ولا يكذب به أحد؛ لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في
ساعة واحدة في أقطار متباينة، على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية، فذهب
بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من قبلُ غير هذا.
(1/34)
وأما
قولهم: إنه قد سماها في الحديث منامًا، وقوله: (بَيْنَ النَّائِمِ واليَقْظَان)،
وقوله أيضًا: (وهو نائم)، وقوله: (ثم استيقظتُ) فلا حجة فيه؛ إذ قد يحتمل أن يكون
أول وصول الملك إليه كان وهو نائم، أو أول حمله والإسراء به وهو نائم، وليس في
الحديث أنه كان نائمًا في القصة كلها إلا ما يدل عليه: (ثم استيقظتُ وأنا في
الْمَسْجِدِ الحرامِ) فلعل قوله: (استيقظتُ) بمعنى أصبحتُ، أو استيقظَ من نوم آخر
بعد وصوله بيته، ويدلُّ عليه أنَّ مَسْرَاه لم يكن طول ليله وإنما كان في بعضه،
وقد يكون قوله: (استيقظتُ وأنا في المسجد) لما كان غَمَرَه من عجائب ما طالع من
ملكوت السماوات والأرض، فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام،
أو يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه، ولكنه أُسري بجسده وقلبُه حاضر،
ورؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه حقٌّ، وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو
منٍ هذا، قال: تغميض عينيه؛ لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله، ولا يصح هذا أن
يكون في وقت صلاته بالأنبياء، ولعلَّهُ كانت له في هذه الإسراء حالات، أو
يُعَبَّرُ بالنوم هنا عن هيئة النائم من الاضطجاع، ويقويه قوله في رواية عبد بن
حميد عن همام: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ» وربما قال: «مضطجع»، وفي رواية هدبة:
«مُضْطَجِعٌ» , وفي الرواية الأخرى: «بينَ النَّائِمِ واليقظانِ» فيكون سَمى هيئته
بالنوم؛ لما كانت هيئة النائم غالبًا.
وقول عائشة: (ما فُقِدَ جَسدُه)، فلم تُحدِّث عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن حينئذ زوجةً
ولا في سِنِّ مَن يضبط، ولعلها لم تكن ولِدت بعدُ، فإذا لم تشاهد ذلك دلَّ أنها
حدثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها، وغيرها يقول خلافه مما وقع
نصًا في حديث أم هانئ وغيره، وأيضًا فليس حديث عائشة بالثابت. انتهى.
(1/35)
حديث
عائشة في «صحيح مسلم» فكيف لا يكون ثابتًا؟ قال عياض: والأحاديث الأخر أثبتُ، لسنا
نعني حديث أم هانئ وما ذكرت فيه خديجة، انتهى.
حديث أم هانئ، ذكره ابن عساكر بسند لا بأس به.
قال عياض: وأيضًا فقد روي في حديث عائشة: (ما فقدتُ) ولم يدخل بها النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا بالمدينة، وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح صريح
قولها: إنه بجسده؛ لإنكارها أن تكون رؤياه لربه رؤيا عين، فلو كانت عندها منامًا
لم تنكره.
فإن قيل: فقد قالَ جلَّ وعزَّ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] فقد
جعل ما رآه للقلب، وهذا يدل على أنه رؤيا نوم ووحيٍ لا مشاهدة عينٍ وحسٍّ.
قلنا: يقابله قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} [النجم: 17]، فقد أضاف الأمر
للبصر، وقد قال أهل التفسير في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفُؤادُ} [النجم: 17] أي:
لم يوهمِ القلبُ العينَ غيرَ الحقيقة، بل صدق رؤيتها، وقيل: ما أنكر قلبه ما رأته
عينه. انتهى.
وقد أسلفنا من الاعتراضات على كثير من هذا الكلام، فلا حاجة لإعادته، والله أعلم.
وذكر ابن أبي خالد في كتابه «الاحتفال» في أسماء الخيل وصفاتها: أنَّ البُرَاقَ
ليس بذكر ولا أنثى، ووجهه وجه الإنسان، وجسده كجسد الفرس، وقوائمه للجوهري.
أخبرنا الرُّحْلة حسن الكردي، أخبرنا أبو المُنَجَّا ابنُ اللتَيِّ أخبرنا ابن
السَّرَّاجِ، أخبرنا ابن شاذان، أخبرنا ابن السماك، حدثنا يحيى، حدثنا علي بن
عاصم، حدثنا التيمي عن أنس، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أتاني
جبريلُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالبُراقِ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: قد
رأيتَها يا رسول الله، قال: هي بَدَنة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّ:
صَدَقت، قد رأيتها يا بابكر».
(1/36)
وأما
بكاء موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلأمَّته إذ قصر عددهم عن مبلغ عدد أمتنا،
وذلك من ناحية شفقته على أمته وتمني الخير لهم، وذلك من شيم الأخيار.
قال الداودي: فيه جواز تمني الخير والتنافس فيه.
وإنما قال: (يدخلُ منْ أمته أكثر) لأنَّ لكلِّ نبيٍّ أجرَ من اتبعه واهتدى به.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وقوله: (هَذَا الغُلَامُ) إنما هو على تعظيم المنة لله جل
وعز عليه فيما أناله من الكرامة من غير عمر طويل بلغه في عبادته وأفناه مجتهدًا في
طاعته، وقد تُسمي العربُ الرجلَ المستجمع السنِّ غلامًا ما دامت فيه بقية من قوة،
وذلك في لغتهم مشهور.
وقول ابن التين: قوله: (فَنُودِيَ أنْ قَدْ مضيتُ فريضتي) يحتج به من قال: إن الله
جل وعز كلَّم محمدًا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليلة الإسراء، فيه نظر؛ لما
أسلفنا من أنه نادى ملك فقال ذلك.
قال أبو الفرج: إن قيل: كيف رأى الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه في السماء وهم
مدفونون في الأرض؟ فقال ابن عقيل: إن الله تعالى شكَّل أرواحهم على هيئة صور
أجسادهم، زاد ابن التين: وإنما تعود الأرواح إلى الأجساد يوم البعث إلا عيسى صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فإنه لم يمت.
وقولهم: (الأخُ الصَّالحُ) لأن الصلاح يشمل سائر الخلال الحسنة، واستحب من هذا
لقاء أهل الفضل بالبشر والدعاء والترحيب وإن كانوا أفضل من الداعي، ومنه جواز مدح
الإنسان في وجهه إذا أُمن عليه من أسباب الفتنة.
و (الْمَلَائِكَةُ) جمع مَلَك، قال ابن سِيْدَه: هو مخفَّف عن مَلأك، وقال
القَزَّازُ: هو مأخوذ من الألوك وهي الرسالة، وقد زعم قوم أنه يجوز أن يكون من
الْمُلك؛ لأن الله جل وعز قد جعل لكل ملَكٍ مُلكًا كملك الموت مَلَّكه قبض
الأرواح، وكإسرافيل صلى الله عليهما وسلم مَلَّكه الصُّوْرَ، وكذا سائرهم صلى الله
عليهم وسلم، ويفسد هذا قولهم: ملْأَكَة بالهمز، ولا أصل له على هذا القول في
الهمز. انتهى
(1/37)
الأَنْبِيْاءُ
أحياء، والحياة تستلزم الروح فيها، وقد جاء الملك جمعًا كما قال جل وعز:
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17].
وذكر الزَّجَّاجُ في «المعاني»: أن الرسل من الملائكة صلوات الله عليهم وسلامُه:
جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.
وفي كتاب «ربيع الأبرار» للزمخشري عن سعيد بن المسيب: الملائكة صلوات الله عليهم
ليسوا بذكور ولا إناث، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون.
وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل للريح والجنود، وميكال
للنبات والقطر، وملك الموت لقبض الأنفس، وإسرافيل صلى الله عليهم وسلم ينزل إليهم
بما يؤمرون.
وعن أنس من حديث الفضل بن عيسى عن عمه يزيد بن أبان عنه عند الكلاباذي في كتاب
«الإخبار بفوائد الأخبار» يرفعه: «يقولُ اللهُ جلَّ وعزَّ لِمَلَكِ الموتِ بعدَ
فَنَاءِ الخلقِ: مَن بقي؟ فيقول: جبريل وميكال، فيقول: خذ نفس ميكال، فيقع في
صورته التي خلقه الله فيها مثل الطَّود العظيم، ثم يقول: مَن بقي؟ فيقول: جبريل
وملك الموت، فيقول: يا ملك الموت مُت، فيموت ويبقى جبريل، فيأخذُ اللهُ جلَّ وعزَّ
روحَه فيقع على ميكائيل، وإنَّ فَضْلَ خَلْقِهِ عَلَى خَلْقِ مِيْكَالَ كَفَضْلِ
الطُّودِ العظيمِ على الظربِ من الظِّرابِ».
قال محمود بن عمر: ويروى أن صنفًا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان يلفون بهما
أجسادهما، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله تعالى، وجناحان مرخيان على
وجوههم حياءً من الله جل وعز.
وفي كلام لعلي بن أبي طالب يصفُ الملائكة: منهم الأمناء على وحيه، ومنهم الحفظة
لعباده والسدنة لأبواب جنانه، ومنهم الثابتة في الأرض السفلى أقدامهم والمارقة من
السماء العليا أعانقهم والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش
أكتافهم.
وعن أبي العالية: الكروبيون سادة الملائكة، منهم جبريل وإسرافيل صلوات الله عليهم
وسلامه، ويقال لجبريل: طاوس الملائكة.
(1/38)
قال
الكَلَابَاذِيُّ سمعت بعض شيوخ المتكلمين يقول: إن جبريل يخلقه الله جل وعز في وقت
نزوله على النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنسانًا وبشرًا.
قال الكَلَابَاذِيُّ: وهذا لا يستقيم؛ لأنه لو كان كما قاله لكان قول المشركين:
إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، صدقًا، والله عز وجل يقول: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوَى} [النجم: 5]، و {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]،
فجبريل جبريل وإن كانت الصورة صورة إنسان، إذًا فالصورة لهذا الملك وإن كان الملك
هي ذلك الصورة. روينا عن علي يرفعه: «إنَّ في الجَنَّةِ سُوْقًا مَا فِيْهَا
شِرَاءٌ ولَا بَيْعٌ إِلَّا صورُ الرجالِ والنِّسَاءِ، مَنِ اشْتَهَى صورةً دَخَلَ
فِيْهَا» فأخبر أن الصورة غير التي يدخل فيها.
واختلف في البيت المعمور وفي مكانه:
فقيل: هو البيت الذي بناه آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول ما نزل إلى الأرض،
فرفع إلى السماء في أيام الطوفان، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، والملائكة تسميه
الضراح بالضاد المعجمة؛ لأنه ضُرح عن الأرض إلى السماء، أي أُبْعِدَ، ومنه نيةٌ
ضرح وطرح: بعيدةٌ، وقال أبو الطفيل: سمعت عليًا وسئل عن البيت المعمور فقال: ذاك
الضراح بيت بحيال الكعبة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم
القيامة.
قال محمود بن عمر: ويقال له: الضريح أيضًا، ومن قال: الصراح فهو اللحن الصُّراح.
وعن ابن عباس والحسن: أنه البيت الذي بمكة شرفها الله تعالى معمورٌ بمن يطوف به.
وعن محمد بن عباد بن جعفر: أنه كان يستقبل الكعبة ويقول: وا حبذا بيت ربي ما أحسنه
وأجمله!
هذا والله البيت المعمور.
وقيل: البيت المعمور في السماء الدنيا، وقيل: في الرابعة، وقيل: في السادسة، وقيل:
في السابعة.
وعن جعفر بن محمد عن آبائه: هو تحت العرش.
تقدم طرف منه في أول كتاب الصلاة.
(1/39)
3208
- حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: حَدَّثَنا رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ: «إِنَّ خَلْقَ
أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ
عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ
اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ
عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ
الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ
أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ
إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الجَنَّةِ». [خ 3208]
قال الخطيب في كتابه «الفصل للوصل»: رواه أبو عوانة وابن عيينة وعبد الواحد بن
زياد ويحيى بن سعيد ووكيع بن الجراح وحماد بن أسامة ويوسف بن خالد وغيرهم عن
الأعمش.
قال: حدثنا زيد، فذكره مطولًا، وكذا رواه عن الأعمش عبد الرحمن بن عبد الله
المسعودي وزائدة بن قدامة وزهير بن معاوية وشريك وعيسى بن يونس وجرير بن عبد
الحميد وعبد الله بن إدريس ومحمد بن عبيد الطنافسي وخلقٌ يطول ذكرهم.
(1/40)
ومن
أول الحديث إلى قوله: (شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ) كلام سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، وما بعده إلى آخره كلام ابن مسعود، وقد رواه عبد الرحمن بن حميد
الرؤاسي عن الأعمش، فاقتصر من المتن على المرفوع حسبُ، ورواه بطوله سَلَمَةُ بنُ
كُهَيْلٍ عن زيد بن وهب ففصل كلام ابن مسعود من كلام النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وهو عند قوله: (واكتبْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيْدًا) ثم قال: قال عبد الله:
«والذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة» الحديثَ إلى آخره.
وذكر أبو بكر أحمد بن موسى بن مَرْدَوَيْه وهو في مجالسهِ من حديث بكر بن يحيى بن
زيان، حدثنا يعقوب بن مجاهد عن أبي الطفيل قال: أتيت حذيفة بن أسيد الغفاري، فذكرت
له ما سمعته من ابن مسعود: الشقيُّ من شقي في بطن أمه، فقال: وما تُنكر من ذلك؟!
سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ
في بَطْنِ أُمِّهِ خَمْسَةً وأربعينَ يومًا، ثم يكون علقةُ مثلَ ذلكَ، ثم يكون
مضغةً مثل ذلك» الحديث.
قوله: (الصَّادِقُ المَصْدُوقُ) معناه: الصادق في قوله الصادق فيما يأتيه من
الوحي.
وقال ابن التين: يريد بالمصدوق أن الله جل وعز صدقه في وعده.
الكلام على هذا الحديث تقدم في كتاب الطهارة.
3209 - وذكر البخاري حديث أبي هريرة: (إِذَا أَحَبَّ اللهُ العبدَ) الحديث، قال
الطرقي: ذكر البخاري الحب في كتابه ولم يذكر البغض، وهو في رواية غيره: «وَإِذَا
أَبْغَضَ عَبْدًا نَادَى جبريلَ: إني أبغضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قال: فيبغضه
جبريل، ثم ينادي في أهلِ السماءِ: إنَّ اللهَ يبغضُ فلانًا فَأَبْغِضُوهُ
فَيُبْغِضُوْهُ، ثم يوضعُ له البُغْضُ في الأرضِ». [خ 3209]
(1/41)
3210
- حَدَّثَنا ابنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنا ابنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، سَمِعَت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ المَلاَئِكَةَ تَنْزِلُ فِي العَنَانِ: وَهُوَ
السَّحَابُ، فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ
الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ، فَتُوحِيهِ إِلَى الكُهَّانِ،
فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ». [خ 3210]
تفرد البخاري بهذا السند، وروى نحوه في كتاب الأدب من حديث يحيى بن عروة عن عروة
عن عائشة، وكذا مسلم، وليس ليحيى عن أبيه في الكتب الستة غير هذا، وعلَّقه في صفة
إبليس لعنه الله تعالى فقال: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال،
أنَّ أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة ترفعه: (الملائكةُ سَجَدَتْ في العَنانِ)
الحديث، وهو موصول أيضًا من حديث خالد عند أبي نُعَيْمٍ فقال: حدثنا سليمان، حدثنا
طالب بن شعيب، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني خالد، فذكره، قال أبو
نعيم: ذكره - يعني البخاري - عن الليث بلا رواية، قال: ويقال: إنه سمعه من عبد الله
بن صالح عن الليث فعدل عن ذكره وتسميته.
وفي «الصحيحين» عنها قالت: «سألتْ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ناسٌ
عنِ الكُهَّان فقال: ليس بشيء، فقالوا: يا رسولَ الله إِنَّهُم يُحَدِّثُونَا
أحيانًا بشيء فيكون حقًا! فقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: تلك الكلمةُ منَ
الحقِّ يخطفها الجنيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ معها مئة
كذبة»، وفي لفظ: «كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ».
قال الداودي: قوله: (فَيَكْذِبُونَ عَلَيْهَا مئةَ كذبة) يحتمل أنه عَنَى الكاهن
أو السلطان.
قال ابن الجوزي: قوله: (لَيْسَ بِشَيْءٍ) أي: ليس لهم قول بشيء يُعْتَمَدُ عليه
ولا حقيقة له.
(1/42)
وأُخِذَ
من هذا جواز إطلاق هذا اللفظ على ما كان باطلًا، والعرب تقول لمن عمل شيئًا لم
يحكمه: ما عملت شيئًا.
وقوله: (فَيَقُرُّهَا) بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء، ذكرها النووي، وقال أبو
الفرج: بضم الياء، وقَرّ الدجاجة، أي كصوتها إذا قطَّعته، يقال: قرت الدجاجة
تَقَرُّ قَرًّا، فإن ردَّدَتْهُ قيل: قَرْقَرَتْ قَرْقَرَةً، والقُرُّ ترديدك
الكلام في أذن الأطروش حتى يفهم كما يستخرج ما في القارورة شيئًا بعد شيء إذا
فرغت، وعند الإسماعيلي: قَزَّ الزجاجة بالزاي، وكأنه اعتبره باللفظ الذي فيه كما
تقر القارورة، ويكون قر الزجاجة معناه: صوتها إذا فرغ ما فيها، قال
الدَّارَقُطْني: وهو تصحيف من الإسماعيلي، والصواب بالدال.
وعن أبي سليمان: الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم
الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم ما في وسعها.
وذكر البخاري في كتاب الطب، باب الكهانة، وذكر فيه حديث المرأتين مِن هُذيل، وقال
فيه: وعن ابن شهاب عن ابن المسيب: أن النبي قضى في الجنين، مرسل رواه الإسماعيلي
من حديث معن عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد مرسلًا، ثم قال: قد أسنده ابن أبي ذئب
ويونس، وأرسله مالك وفُلَيْح.
قال البخاري إثر حديث علي عن هشام: أخبرنا معمر عن الزهري عن يحيى بن عروة عن أبيه
عن عائشة: (سألَ النبيَّ ناسٌ من الكُهَّانِ) الحديث، وقال علي: قال عبد الرزاق:
مرسل. انتهى.
قال الإسماعيلي: بلغني أن عليًا أسنده بعدُ، ورواه أبو نعيم عن سليمان عن إسحاق بن
إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، فذكره مسندًا.
وزعم عياض: أن الكهانة كانت في العرب ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترق من السمع، وهذا القسم بطل
بمبعث نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/43)
والثاني:
أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عليه مما قرب أو بَعُد، وهذا لا
يبعد وجوده، ونفت هذا كلَّه المعتزلةُ وبعض المتكلمين وأحالوهما، ولا استحالة في
ذلك ولا بُعد في وجوده، لكنهم يكذبون ويصدقون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم
عامٌّ.
والثالث: المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله فيه لبعض الناس قوة وشدة ما، لكن الكذب
في هذا [199/ب]
[200/أ] الباب أغلب، وفي «الموعب»: كَهنَ الرجل يكهَن ويكهُن كهانة وكهونًا، وكهُن
كهانة: صار منجمًا، قال الأزهري: الكاهن أيضًا في كلام العرب الذي يقوم بأمر الشخص
ويسعى له في حوائجه، وفي «المحكم»: تكهُّنًا، وتكهينًا الأخيرة نادرة: قضى له
بالغيب، وقوم كهنة وكهان.
وفي «الجامع»: الكاهن: الذي يضرب بالحصى، والمصدر: الكهانة، وكان بعض العرب تسمي
الكاهن طاغوتًا ويسمى كل من أخبر بشيء قبل حدوثه كاهنًا، والمرأة كاهنة.
وقال صاحب «مجمع الغرائب»: الكاهن: هو الذي يدعي معرفة الأشياء المغيبة، فتصديقه
فيما يدعي من علم الغيب قرع باب الكفر نعوذ بالله منه.
قال عياض: ومن هذا الباب: العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب
ومقدمات، يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر، والطرق
والنجوم وأسباب معتادة في ذلك، وهذا الفن هو العيافة بالياء، وكلها ينطلق عليها
اسم الكهانة.
قال القرطبي: فإذا كان كذلك فسؤالهم عن غيب ليخبروا عنه حرام، وما يأخذون على ذلك
حرام بغير خلاف لأنَّه كحلوان الكاهن المنهي عنه، قاله أبو عمر، ويجب على من ولي
الحسبة أن يقيمهم من الأسواق وينكر عليهم أشد الإنكار، وإن صدق بعضهم في بعض
الأمر، فليس ذلك بالذي يخرجهم عن الكهانة فإن تلك الكلمة إما خطفة جني أو موافقة
قدر؛ ليغتر به بعض الجهال.
والكَِذبة -بفتح الكاف وكسرها وسكون الذال فيهما- قال عياض وأنكر بعضهم الكسر إلا
إذا أراد الحالة [200/ب] أو الهيئة.
(1/44)
قال
ابن الأثير: إنَّما جرى المثل بالكهان لأنهم كانوا يرجون أقاويلهم بالباطل، فأما
إذا وضع السجع مواضعه فلا ذم، قال ابن الأثير في حديث الهذلية ذم الكهان وذم من
تشبه بهم وولى المرأة ليستحق بسجعه الذي احتج به على رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بالباطل شدة العقوبة في الدنيا والآخرة، غير أنه مجبول على الصفح عن
الجاهل وترك الانتقام لنفسه فلم يعاقبه لاعتراضه عليه كما لم يعاقب الذي قال له:
«اعدل».
والأمة مجمعة على «حُلوانِ الكَاهن»، وقال القرطبي: سؤال الكاهن والعراف والمنجم
عما يغيب ليخبروا به حرام وما يأخذون على ذلك حرام من غير خلاف.
3211 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ
حَدَّثَنا ابنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالْأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فذكر حديث: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى
كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ ... » الحديث، المذكور في كتاب الجمعة [ح:
929]، وزعم الحياني أن عند أبي ذر من طريق أبي الهيثم وحده: ابن شهاب عن أبي سلمة
والأعرج عن أبي هريرة، والصواب الأول، والحديث به مشهور، وكذا ذكره مسلم فقال في
رواية: أخبرني أبو عبد الله الأغر قال ابن السكن، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن
الزهري عن أبي سلمة وسعيد والأغر فصحَّ بهذا كله أن الحديث حديث الأغر. وحديث
الأعرج المذكور خرجه النسائي في موضعين. [خ 3211]
3212 - حديث عمر في إنشاد حسان الشعر، تقدم في كتاب الصلاة [ح: 453]. [خ 3212]
3214 - وحديث أنس في موكب جبريل يأتي في المغازي إن شاء الله تعالى [ح: 4118]، [خ
3214]
3215 - وحديث الحارث بن هشام تقدم أول الكتاب [ح: 2]. [خ 3215]
3216 - وحديث أبي هريرة من أنفق زوجين تقدم في الجهاد [ح: 2841]. [خ 3216]
(1/45)
3217
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ [201/أ]
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ
عَلَيْكِ السَّلَامَ، فَقَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ
وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لَا أَرَى، تُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ). [خ 3217]
وهذا الحديث لما رواه النسائي عن نوح بن حبيب عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن
عروة عن عائشة قال: هذا خطأ، يعني أن الصواب حديث الزهري عن أبي سلمة، ورواه
الشعبي عن أبي سلمة وليس للشعبي عن أبي سلمة عن عائشة في الصحيح غيره، وقال
الترمذي: وفي الباب عن رجل من بني نمير عن أبيه عن جده؛ روى: «يا عائشُ» مرخمًا
فيجوز في الشين فتحها وضمها، و (يَقْرَأُ عَلَيْكِ) ثلاثي، وفي رواية: «يُقرئك»
-بضم الياء-.
وفيه: استحباب بعث السلام، ويجب على الرسول تبليغه، وبعث سلام الأجنبي إلى
الأجنبية الصالحة إذا لم يخف ترتب مفسدة، وأن الذي يبلغه السلام يرد عليه.
قال النووي: الرد واجب على الفور، ويستحب في الردِّ أن يقول: وعليك أو وعليكم
السلام بالواو، فلو قال: عليك السلام أو عليكم السلام أجزأه على الصحيح، وكان
تاركًا للأفضل، وقال بعض أصحابنا: لا يجزيه، قال أبو الفرج: فإن قال قائل: فهلا
واجهها جبريل بالسلام كما واجه مريم، فالجواب من وجهين: أحدهما أنه لما قدر وجود
عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا من أب بعث جبريل ليعلمها كونَه قبل كونِه
لتعلم أنه مكون بالقدرة، فتسكن في زمن الحمل ثم بعث إليها عند الولادة لكونها في
وحدة، فقال: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]
فكان خطاب الملك لها في الحالتين ليسكن انزعاجها.
(1/46)
[الثاني:
أن مريم كانت خالية من زوج، فواجهها] بالخطاب، وأم المؤمنين
احترمت لمكان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كما احترم الرسول
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قصر عمر الذي رآه في المنام خوفًا من الغيرة، وهذا
أبلغ في فضل عائشة؛ لأنه إذا احترمها جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الذي لا
شهوة له حفظًا لقلب زوجها كانت عما قيل عنها من الإفك أبعد، أو يكون خاطب مريم
لأنها على قول أنها نبية، وعائشة لم يذكر عنها ذلك.
3219 - حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ فيأتي إن شاء الله تعالى في فضائل
القرآن العظيم [ح: 4991]. [خ 3219]
3220 - وحديثه في جوده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ َتقدم أيضًا. وتأخير عمر بن
عبد العزيز الصلاة تقدم في أبي هريرة كتاب الصلاة [ح: 521]. [خ 3220]
3222 - وحديث أبي ذر: «من مات من أمتك» تقدم في الاستقراض [ح: 2388] [خ 3222]
3223 - من حديث أبي هريرة الملائكة يتعاقبون تقدم في الصلاة [ح: 555]. [خ 3223]
بَاب إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ فَوَافَقَتْ
إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه
3224 - حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، فذكر حديث النُّمْرُقَةِ الذي تقدم في كتاب البيوع،
وزعم أبو نعيم وأبو علي ليس محمدًا هو ابن سلَام. [خ 3224]
3225 - (حَدَّثَنَا ابنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمَا سَمِعْتُ أَبَا طَلْحَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا
صُورَةُ تَمَاثِيلَ). [خ 3225]
(1/47)
قال
الدَّارَقُطْني: ورواه أيضًا من حديث بشر بن سعيد أن زيد بن خالد حدثه عن أبي
طلحة؛ رواه البخاري عن أحمد: حدثنا ابن وهب، قال أبو نعيم: أحمد هذا، أحمدُ بن
صالح المصري، وقال غيره: هو أحمد بن عيسى. قال الدَّارَقُطْني وافق معمرًا جماعه،
وخالفهم الأوزاعي فرواه عن بن شهاب عن عبيد الله عن أبي طلحة لم يذكر ابن عباس،
والقول قول من ذكره. ورواه سالم أبو النضر عن عبيد الله نحو رواية الأوزاعي ...
[202/أ]
عن يزيد بن المهلب محمد بن عبد الصمد عن هشام بن اسماعيل عن هقل عن الأوزاعي
كرواية الجماعة، وقال: هذا خطأ، ثم رواه عن محمد بن هاشم عن الوليد عن الأوزاعي عن
الزهري عن عبيد الله، قال حدثني أبو طلحة فذكره، وعند الترمذي صحيحًا عن عبيد الله
قال: دخلت على أبي طلحة أعودُه وعنده سهل بن حُنيف فدعا أبو طلحة إنسانًا ينزع
نمطًا تحته، فقال له سهل: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقال فيه النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ما قد علمت، قال سهل: أولم يقل: «إِلَّا ما كان رَقْمًا فِي
ثَوْبٍ» قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي.
وعند النسائي: قال عبيد الله: خرجت أنا وعثمان بن حنيف نعود أبا طلحة، وفيه: فقال
له عثمان: أما سمعت يا أبا طلحة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين نهى عن
الصور يقول: «إِلَّا رَقْمًا».
قال أبو سليمان: أصل الرقم الكتابة، رقمت الكتاب أرقمه رقمًا، وقال تعالى:
{كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 9] والصورة غير الرقم، ولعله أراد أن الصورة
المنهي عنها إنما هي ما كان له شخص ماثِلٌ دون ما كان منسوجًا في ثوب، وهذا قد ذهب
إليه قوم، ولكن حديث القاسم، عن عائشة يفسد هذا التأويل [ح: 3224].
(1/48)
وقال
النووي: هؤلاء الملائكة الذين لا يدخلون بيتًا فيه كلب ولا صورة هم الذين يطوفون
بالرحمة والتبرك والاستغفار، بخلاف الحفظة، قال أبو سليمان: إنما لم تدخل في بيت
إذا كان فيه شيء من هذه مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، وأما ما ليس بحرام من
كلب الصيد أو الزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا
يمتنع دخول الملائكة بسببه.
وقال أبو زكريا: الأظهر أنه عام في كلّ كلب وكل صورة [202/ب]
وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث، فإن الجِروَ والذي لم يعلم به صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تحت السرير المذكور عند مسلم كان العذر فيه ظاهرًا، ومع هذا
فقد امتنع جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من دخول البيت، وعللّ بالجِروَ، فلو
كان العذر في وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ثم قيل: سبب امتناع الملائكة من دخول البيت الذي منه ذلك لكونها معصية
فاحشة، وكونها مضاهاة لخلق الله جلّ وعز، وفيها ما يعبد من دون الله جلَّ وعز،
وامتناعهم من الدخول في بيت فيه كلب لكثرة أكله النجاسات؛ ولأن بعضها يسمى
شيطانًا، والملائكة صلوات الله عليهم ضدٌّ لهم؛ ولقبح رائحة الكلب، والملائكة تكره
الرائحة الكريهة؛ ولأنها منهي عن اتخاذها، فعوقب متَّخذُها بحرمانه دخول الملائكة
بيته وصلاتها فيه واستغفارها له، وتبريكها عليه، ورفعها أذى الشيطان. وقول
البخاري: <حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابنُ وَهْبٍ حدثني
عَمْرٌو عن سالم>، كذا في بعض النسخ، ابن وَهْبٍ حدثني عمرٌو، وزعم أصحاب
الأطراف أنه عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولما رواه أبو نعيم
عن ابن حَمْدان حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا أحمد ابن عيسى حدثنا ابن وهب قال:
أخبرني عمر بن محمد.
حديث أبي هريرة تقدم في الصلاة [ح: 796]، وحديث يعلى يأتي إن شاء الله تعالى
(1/49)
3231
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
قَالَ: ما لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ كانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُ يَوْمَ
الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابنِ عَبْدِ كُلَالٍ [203/أ]
فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى
وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ
رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا
جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ،
وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ
بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ الله قد سمع قولَ قومك وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك
ربك لتأمرني بما شئتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِم الْأَخْشَبَيْنِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ
مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا). [خ
3231]
(1/50)
في
«مغازي موسى بن عقبة» عن بن شهاب: لما مات أبو طالب عمد رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ لثَقِيف بالطائف رجاء أن يؤوه، فوجد ثلاثة نفَر وهم سادة ثَقيف
يومئذٍ، وهم إخوة عبد يَاليل بن عمرو، وحبيب بن عمرو، ومسعود ابن عمرو، فعرض عليهم
نفسه وشكى إليهم ما انتهك منه قومه، فردوا عليه أقبح رَدٍّ، وفي «الطبقات» خرج إلى
الطائف في ليالٍ بقين من شوال سنة عشر من النبوة، فأقام به عشرة أيام لا يدع أحدًا
من أشرافهم إلا جاءه وكلمَّه فلم يجيبوه، وخافوا على أحداثهم وقالوا: اخرج من
بلدنا وأغروا به سفَهَاءَهم، وفي قَرْن الثعالب دعا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
دعاءه الطويل المشهور، فما استتمَّه حتى أتاه جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقول البخاري: (ابنِ عَبْدِ يَالِيل) فيه نظر من حيث أن الذي في «السير»: عبد
ياليل كما قد عيناه، ويوضحه ما في كتاب «البلاذِري» و «أبي عُبيد» وكتاب
«الجمْهَرة» للكلبي: عبد ياليل بن عمرو بن عُمَير بن عوف بن عقدة بن غَيَرة بن عوف
بن ثقيف، وعند الزجاج في قوله جل وعز {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ [203/ب]
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] المعنى على رجل من رَجُلي القريتين عظيم،
فالرجلان الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، والآخر عبد ياليل بن عمرو بن
عُمير الثقفي من أهل الطائف.
و (قَرْنِ الثَّعالِبِ) هو قَرنُ المنازل مِيقاتُ أهل نجد على من جلس من مكة شرفها
الله تعالى، وأصل القرن كل جبل صغير منقطع من جبل كبير، وقيل: هو على يوم من مكة،
وذكر عياض أنه يقال فيه: قرن، غير مضاف، على يوم وليلة من مكة. قال ورواه بعضهم
بفتح الراء وهو غلط، وعن القابسي من سكن الراء: أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن
فتح الراء: أراد الطريق التي يتفرق منه، فإنه موضع فيه طُرُق متفرقة.
(1/51)
و
(الأخْشَبانِ) -بفتح الهمزة وبخاء وشين معجميتين- جبلان بمكة شرفها الله تعالى؛
أبو قبيس والجبل الذي يقابله، وسُمِّيا أخشبين لصلابتهما وغلظ حجارتهما.
حديث ابن مسعود تقدمت الإشارة إليه أول الاسراء [ح: 4856]، وأما إنكار عائشة رضي
الله عنها للرؤية فلم تذكره رواية إذ لو كان معها فيه رواية لذكرته وإنما اعتمدت
على الاستنباط من الآيات، وهو المشهور من قول ابن مسعود، قال: عياض ومثل قولها عن
أبي هريرة واختلف عنه، وعند اللَّالُكائي بسند لا بأس به عن أبي هريرة قال رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «رأيت ربي جل وعز في أحسن صورة»، وفي تفسير بن
مردويه بسند جيد عن الضحاك وعلقمه عن ابن عباس قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فذكر حديثًا طويلًا، فيه: «فلما أكرمني ربي برؤيته بأن أثبت بصري في قلبي احتدَّ
بصري لرؤية نور العرش ... » الحديث، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جل وعز في
الدنيا: جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وعن ابن عباس أنه صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: رآه بعينه، وروي عن عطاء عنه: رآه بقلبه. انتهى.
وكذا رواه عكرمة عند الترمذي [204/أ]
وقال حسن، وفي صحيح مسلم عن أبي العالية عنه: «رآه بفؤاده مرتين، وذكر ابن إسحاق:
أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس يسأله: هل رأى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ربه جل وعز؟ فقال: نعم. والأشهر عنه: أنه رآه بعينه، روي ذلك عنه من طرق،
وقال: إن الله جل وعز اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخُلة، ومحمدًا صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ بالرؤية. وحجته: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} الآية
[النجم: 11 - 13].
قال الماوردي: قيل إن الله قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم،
فرآه محمد مرتين، وكلمه موسى مرتين.
(1/52)
وحكى
أبو الفتح الرازي وأبو الليث السمرُقَندي هذِه الحكاية عن كعب، وروى عبدالله بن
الحارث قال: اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول: إن
محمدًا قد رأى ربه مرتين، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، وقال: إن الله قسم رؤيته
وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم، فكلمه موسى ورآه محمد بقلبه، وروى
شريك عن أبي ذر في تفسير الآية، قال: «رأى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ربه».
وحكى السمرقندي عن محمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ سُئِل: هل رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي، ولم أره بعيني».
وروى مالك بن يُخامِر عن معاذ: عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «رأيت
ربي»، وذكر كلمة.
وحكى عبد الرزاق: أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ربه جل وعز، وكذا ذكره مقاتل، وحكاه عبد في «تفسيره» عن هَوذَة، عن عون
عنه في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} [النجم: 11] قال: رآه مرتين بقلبه، وذكره
أيضًا عن أبي صالح، وعن محمد بن كعب: رآه بفؤاده مرتين.
وعن إبراهيم التيمي: رآه بقلبه، ثم قال: حدثني أبي، [204/ب]
عن أبي ذر: رآه بقلبه ولم يره بعينيه.
وفي «تفسير ابن عباس» لابن أبي زياد الشامي: روى أبان، عن أنس، أن النبي صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «لما انتهيت إلى الحجاب نامت عيناي ونظرت بقلبي، وفؤادي
يقظان لم ينم منذ يومئذٍ»، وحكاه أيضًا جوهر، عن الضحاك وعند الزجاج عن أحمد ابن
حنبل: رآه بقلبه.
(1/53)
وهو
فضل خُصَّ به كما خص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخُلة صلى الله عليهم أجمعين، وعند
اللَّالكائي بسند لا بأس به عن أم الفضل امرأة أبي بن كعب قالت: سمعت رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يذكر أنه: «رأى ربه بعين قلبه». قال عياض: وحكى أبو
عمر الطَّلَمَنْكي هذا عن عكرمة، وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود. عن
داود بن حصن، وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة هل رأى محمد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ ربه؟ قال: نعم، وحكى النقَّاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول
بحديث ابن عباس بعينيه رآه رآه، حتى انقطع نفس أحمد.
وقال أبو عمر قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا
بالأبصار. وعن سعيد بن جبير: لا أقول رآه ولا لم يره، وقد اختلف في تأويل الآية
الكريمة عن ابن عباس وعكرمة والحسن وابن مسعود، وعن ابن عباس ومولاه: رآه بقلبه
وعن الحسن وابن مسعود رأى جبريل، وحكى عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه قال: رآه، وعن
ابن عطاء في قوله {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] قال شرح صدره
للرؤية، وقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه: أنه رآه ببصره وعيني رأسه، وقال
كل آية أوتيها نبيٌّ من الأنبياء فقد أوتي مثلها نبينا صلى الله عليهم أجمعين،
وخُصَّ من بينهم بتفضيل الرؤية، ووقف بعض المشايخ في هذا فقال: ليس عليه دليل واضح
[205/أ]
ولكنه جائز أن يكون. قال أبو الفضل: والحق الذي لا امتراء فيه أن رؤيته جل وعز في
الدنيا جائزة عقلًا وليس في العقل ما يحيلها، والدليل على جوازها في الدنيا سؤال
موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لها، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا
يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزًا غير مستحيل، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذي
لا يعلمه إلا من علمه الله جل وعز. وليس في الشرع دليل قاطع على استحالتها، ولا
امتناعها؛ إذ كل موجود فرؤيته جائزة، غير مستحيلة. انتهى.
(1/54)
روينا
في كتاب اللَّالَكَائي بسند صحيح عن حمَّاد بن سلمة حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن
عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال «رأيت ربي جل وعز»، وروى
الترمذي من حديث الحكم بن أبَان عن عكرمة عنه رأى محمد صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ربه، قال: فقلت: الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:
103] ... ) الحديث، وقال حسن: غريب.
وعند هبة الله الطبري، عن عبد الرحمن بن عايش قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يقول: «رأيت ربي جل وعز»، وقال أبو زكريا روي بسند لا بأس به عن
شعبة عن قتادة عن أنس أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رأى ربه جل
وعز، قال أبو الفضل لا حجة لمن استدل على منعها بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لاختلاف التأويلات في الآية، إذ ليس يقتضي قول من
قال في الدنيا الاستحالة، وقد استدل بعضهم بهذِه الآية نفسها، على جواز الرؤية
وعدم استحالتها على الجملة، وقد قيل: لا تدركه أبصار الكفار وقيل: لا تدركه الأبصار:
لا تحيط به، وهو قول ابن عباس، وقيل: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وإنما يدركه
المبصرون، [205/ب]
وكل هذِه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ولا استحالتها، وكذلك لا حجة لهم بقوله:
{لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقوله: {تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] لما
قدمناه؛ ولأنها ليست على العموم؛ ولأن من قال: معناها: لن تراني في الدنيا، إنما
هو تأويلٌ أيضًا، فليس فيه نص الامتناع، وإنما جاءت في حق موسى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وحيث تتطرق التأويلات، وتتسلط الاحتمالات فليس للقطع إليه سبيل وقوله:
{تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] أي من سؤال ما لم تقدره لي.
(1/55)
وذكر
القاضي أبو بكر أن موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رأى الله جلَّ وعزَّ، فلذلك
صعق، وأن الجبل رأى ربه، فصار دكًّا، قال أبو الفضل استنبطه والله أعلم من قوله:
{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي} [الأعراف: 143] ثم قال: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ
دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] وتجليه للجبل هو ظهوره حتى رآه على
هذا القول.
وقال جعفر بن محمد: شغله بالجبل حتى تجلى، ولولا ذلك لمات صعقًا بلا إفاقة، وقوله
هذا يدل على أن موسى رآه، وقد وقع لبعض المفسرين في الجبل أنه رآه، وبرؤية الجبل
له استدل من قال برؤية نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إذ جعله دليلًا على
الجواز، ولا مرية على الجواز؛ إذ ليس في الآيات نص بالمنع وذكر ابن العربي أن
بعضهم قال في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] لدخول مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين فلما
رجع من الحديبية افتتن بعض الناس.
حديث سمُرة: (أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَجُلَانِ) تقدم في الصلاة [ح: 845]، وحديث أبي
هريرة: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ) يأتي إن شاء الله تعالى في النكاح [ح:
845]، وحديث جابر في فترة الوحي تقدم [ح: 4] وفيه الرُّجْز وزعم عياض أن رآه تضم
وتكسر، ومنهم من قال بالكسر العذاب [206/أ]
وحديث ابن عباس في الإسراء تقدم [ح: 3396].
وقول البخاري: (وقَالَ أَنَسٌ وَأَبُو بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: تَحْرُسُ الْمَلَائِكَةُ الْمَدِينَةَ مِنَ الدَّجَّالِ) يريد
الحديثين المسندين المذكورين في الحج عنده [ح: 1879 و 1881].
بَاب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ
(1/56)
تقدم
حديث: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ يُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ
حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ إليه يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [ح: 1379]، وعند أبي داود بسند
صحيح عن أبي هريرة يرفعه: «لما خلق الله جل وعز الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر
إليها، فذهب فنظر إليها، ولما خلق النار قال اذهب فانظر إليها ... » الحديث، وعند
مسلم من حديث أبي سعيد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «اختصمت الجنة
والنار، فقالت الجنة: يا رب ... » الحديث، وعند البخاري عن أبي هريرة قالت النار:
يا رب أكل بعضي بعضًا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ... » الحديث
[ح: 537].
وقال البخاري رضي الله عنه: (وقال مجاهد: {سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 18]: حَدِيدَةُ
الْجِرْيَةِ)، هذا التعليق رويناه في مسند الطبري، فقال حدثنا ابن بشار حدثنا عبد
الرحمن حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عنه، وفي لفظ: سلسة الْجِرْيَةِ، قال البخاري:
(وقال ابن عباس: {دِهَاقًا} [النبأ: 34] ممتلئًا)، هذا التعليق رواه الطبري عن أبي
كريب حدثنا مروان حدثنا يحيى بن ميسرة عن مسلم بن نَسْطاس قال ابن عباس لغلامه:
اسقني دِهَاقًا، قال: فجاء بها الغلام ملأى، فقال ابن عباس: هذا الدِّهَاق.
وحدثني محمد بن عبيد المحاربي [206/ب]
حدثنا موسى بن عمير عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {كَأْسًا دِهَاقًا}
[النبأ: 34] قال: ملأى، وفي رواية عمرو بن دينار عنه، وسئل عن قوله: {كَأْسًا
دِهَاقًا} [النبأ: 34]، قال: دراكًا، قال ابن وهب: يريد الذي يتبع بعضه بعضًا.
(1/57)
قال
البخاري: (وقال مجاهد: رَوْحٌ: جَنَّةٌ وَرَخَاءٌ، والرَّيْحَان: الرزق)، قال عبد
بن حميد في تفسيره: حدثنا شبابة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}
[الواقعة: 89]، قال: رزق، وحدثنا أبو نعيم عن عبد السلام بن حرب عن ليث عن مجاهد
قال: الرَّوح: الفرح، والرَّيحان: الرزق، قال البخاري: ({وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}
[الواقعة: 34]: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) انتهى، روى أبو عيسى عن أبي سعيد الخدري:
«عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ}
[الواقعة: 34]، قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام»، وقال
حديث حسن غريب، ولما خرجه ابن حبان صححه، قال القرطبي: قال بعض أهل العلم في تفسير
هذا الخبر: الفرش في الدرجات وبين الدرجات كما بين السماء والأرض، وقيل الفرش هنا:
النساء المرتفعات الأقدار في حسنهن وجمالهن والعرب تسمي المرأة فراشًا على
الاستعارة، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الولد للفراش» [ح: 6749]، وذكر ابن
المبارك عن معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي فذكر الحديث طويلًا فيه:
«ويعطى ولي الله جل وعز سريرًا طوله فرسخ في عرض مثل ذلك في غرفة من ياقوتة من
أسفلها إلى أعلاها مائة ذراع، على ذلك السرير من الفرش كقدر خمسين غرفة بعضها فوق
بعض»، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: فذلك قوله جل وعز: {وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] وهي من نور وكذلك السرير».
حديث نافع عن ابن عمر تقدم في الجنائز [ح: 1379]، ورواه مسلم أيضًا من حديث
[207/أ] سالم عن أبيه.
(1/58)
3241 - (حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ حَدَّثَنا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ). [خ 3241]
(1/59)
ولما خرَّجه في النكاح [ح: 5198]: عن عثمان حدثنا الهيثم حدثنا عوف عن أبي رجاء، قال: تابعه أيوب وسَلْمُ عن أبي رجاء، قال أبو مسعود الدمشقي إنما رواه عن أيوب كذلك عبدالوارث، وسائر أصحاب أيوب يقولون أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس، وقد رواه مسلم عن زهير حدثنا إسماعيل بن إبراهيم وحدثنا إسحاق حدثنا الثقفي عن أيوب عن أبي رجاء عن ابن عباس، وحدثنا شيبان حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو رجاء وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن ابن أبي عروة سمع أبا رجاء عن ابن عباس، ... فذكره، قال الترمذي: وكلا الإسنادين ليس فيهما مقال، يحتمل أن يكون أبو رجاء سمع منهما جميعًا. وقد روى غير عوف أيضًا هذا الحديث عن أبي رجاء عن عمران، وفي كتاب «الفصل للوصل» رواه أبو داود الطيالسي عن أبي الأشهب وجرير بن حازم ومسلم وحماد بن نجيح وصخر بن جويرية عن أبي رجاء عن عمران وابن عباس قالا: قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «نظرت في الجنة ... » الحديث، قال: كذا رواه أبو داود وخلط في جمعه من روايات هؤلاء الخمسة؛ وذلك أن أبا الأشهب وحمَّادًا وصخرًا كانوا يروونه عن أبي رجاء عن ابن عباس وحده، وسَلْم بن زَرِير يرويه عن أبي رجاء عن عمران وحده، وأما جرير فلا نعلم كيف كان يرويه لأنه لم يقع إلينا حديثه إلا من رواية أبي داود هذه والحديث عند أبي رجاء عن ابن عباس وعمران جميعًا إلا أنا لا نعلم أحدًا اجتمعت له الروايتان عن أبي رجاء غير أيوب رواه عن أبي رجاء عن [207/ب] عمران وعن أبي رجاء عن ابن عباس وقد رواه ابن أبي عَروبة ومطير عن أبي رجاء عن ابن عباس، ورواه قتادة وعوف الأعرابي عن أبي رجاء عن عمران انتهى.
(1/60)
فلو
أن البخاري ذكر متابعة لأبي رجاء عن عمران ما في كتاب النسائي من حديث يزيد بن عبد
الله ومطرف بن عبدالله كان حسنًا ولفظه: «أقل ساكني الجنة النساء»، وفي لفظ: «عامة
أهل النار النساء»، وعند البخاري حديث أسامة [ح: 5196]، ولفظه: «قمت على باب
الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجَدِّ مَحبُوسُون»، وفي رواية:
«محتَرسون» -بفتح التاء والراء- اسم مفعول من احتُرِس أي موثق لا يستطيع الفرار.
قال الداودي: أرجو أن يكون هؤلاء أهل التفاخر لأن أفاضل [الصحابة] كانت لهم أموال
ووصفهم الله بأنهم سابقون، رجع إلى تكملة الحديث، «غير أن أصحاب النار قد أمر بهم
إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء»، وعند النسائي حديث
عمرو بن العاص: «أنَّ النبي رأى أغْربَة كثيرة فيها غُراب أعصم أحمر المنقار
والرِّجلين، فقال: لا يدخل الجنة من النساء إلا كعدد هذا الغُراب مع هذه
الغِربان»، وفي «كتاب الإخبار بفوائد الأخبار» لأبي بكر الكَلَابَاذِيبسند جيد عن
عبدالرحمن بن شبل قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن الفساق هم أهل
النار، قالوا: يا رسول الله وما الفساق؟ قال: النساء، قالوا يا رسول الله، ألسن
أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا؟، قال: بلى، ولكن إذا أُعطين لم يشكرن، وإذا ابتلين لم
يصبرن»، وروينا في صحيح ابن حبان من حديث حكيم بن حزام يرفعه: «قال للنساء: تصدقن،
فإنكن أكثر أهل النار»، وفي «كتاب النكاح» للفِرْيابي من حديث بقِيَّة عن بَحِير
عن ابن مَعْدان عن كثير بن مرة عن أبي شجرة يرفعه: «إن النار خلقت للسفهاء، وإن
[208/أ]
(1/61)
النساء أسفه السفهاء، إلا صاحبة القسط والسراج»، قال بقِيَّة: هي التي تقوم على رأس زوجها وتُوَضِّئُه، ومن حديث ابن لهيعة ويحيى بن أيوب أن ابن الهاد حدثهما عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر يرفعه: () يا معشر النساء تصدقن، وأكثرن الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار»، وتقدم حديث أبي سعيد الخدري [ح: 304]، ومن حديث أبي هريرة مرفوعًا: «مائلات مميلات، رؤوسهن كأسْنِمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجِدْن ريحها، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام»، ومن حديث علي بن يزيد عن القسم عن أبي أمامة يرفعه: () ألا إن النار خلقت للسفهاء، ألا إن النساء هم السفهاء ثلاثًا»، قال ابن المهلب: إنما استحق النساء النار لكفرهن العشير، ألا ترى أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قد فسره بقوله: «لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدهر كله لجازت ذلك بالكفران» فغلَّب استيلاء الكفران على دهرها فكأنها مصرَّةٌ على الكفران، والإصرار من أكبر أسباب النار وذلك أن حق زوجها عظيم عليها يجب عليها شكره، والاعتراف بفضله لستره وصيانته لها، وقيامه بمؤونتها، وبذل نفسه في هذا، ومن أجله فضلت الرجال على النساء، وقد أمر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من أسديت إليه نعمة أن يشكرها فكيف نعم الزوج التي لا تنفك المرأة منها دهرها كله، وقد قال بعض العلماء: شكر الإنعام فرض، محتجًّا بقوله جل وعز: {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] فقرن بشكره شكر الآباء، قال: وكذلك شكر غيرهم واجب وقد يكون شكر النعمة في نشرها ويجزئ من ذلك الإقرار بالنعمة والمعرفة بقدر الحاجة. وذكر الحكيم أبو عبدالله وغيره أن الإخبار بكون النساء أكثر أهل النار كان قبل [208/ب]
(1/62)
الشفاعة
فيهن، وإلا فليس في الجنة عزب، ولكل رجل زوجتان، وقال أبو عبد الله القرطبي: قال
علماؤنا: إنما النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى والميل إلى عاجل
زينة الدنيا لنقصان عقولهن فيضعفن عن عمل الآخرة والتأهب لها لميلهن إلى الدنيا
والتزيُّن بها ولها ثم هن مع ذلك أقوى الأسباب التي تصرف بها الرجال عن الأخرى،
لما لهم فيهن من الهوى، وأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن
سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى
الآخرة وأعمالها من المتقين، قال علي بن أبي طالب: أيها الناس لا تعطوا النساء
أمرًا، ولا تدعوهن يدبرن أمر عسير، فإنهن إنْ تُركن وما يردن أفسدن الملك وعصين
المالك، وجدناهن لا دين لهن في خلواتهن، ولا ورع لهن عند شهواتهن، اللذة بهن
يسيرة، والحيرة بهن كثيرة، فأما صوالحهن ففاجرات، وأما طوالحهن فعاهرات، وأما
المعصومات فهن المعدومات، فيهن ثلاث خصال: من يهود: يتظلمن وهن ظالمات، ويحلفن وهن
كاذبات، ويتمنعن وهن راغبات، فاستعيذوا بالله من شرارهن، وكونوا على حذرٍ من
خيارهن.
وعند الترمذي عن أبي سعيد: «يدخل فقراء المهاجرين الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة
عام» وقال: حسن غريب، وعن أبي هريرة: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة
عام، نصف يوم» وصححه.
وعن عمر مثله بزيادة: «يا رسول الله، وما نصف يوم؟ قال: خمسمائة عام، قيل: فكم
السنة من شهر؟ قال: خمسمائة شهر. قيل: فكم اليوم؟ قال: خمسمائة مما تعدون»، ذكره
ابن قتيبة في «عيون الأخبار».
وعند الترمذي عن جابر: «يدخل فقراء المسلمين [209/أ]
(1/63)
قبل
الأغنياء بأربعين خريفًا» وصححه، وخرجه أيضًا عن أنس واستغربه. وعند مسلم: «يسبقون
الأغنياءَ يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا»، قال القرطبي اختلاف هذه
الأحاديث يدل على أن الفقراء مختلفو الأحوال وكذلك الأغنياء، ووجه الجمع أن يقال:
إن سُبَّاق الفقراء المهاجرين يسبقون سُبَّاق الأغنياء منهم بأربعين خريفًا، وغير
سباق الأغنياء بخمسمائة عام.
وقد قيل: إن حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وجابر يعم جميع فقراء المسلمين، فيدخل
الجنة سباق فقراء كل قرن قبل غير السباق من أغنيائهم بخمسمائة عام على حديث أبي
هريرة وأبي الدرداء، وفي كتاب «البعث والنشور» للبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو
بسند لا بأس به مرفوعًا: «سبق المهاجرون الناس بأربعين خريفًا، يتنعمون فيها،
والناس محبوسون بالحساب، ثم تكون الزمرة الثانية مائة خريف». وفي حديث سعيد بن
عامر بن حِذْيَم يرفعُه: «يجمعُ اللهُ النَّاس للحسابِ، فيجيءُ فقراءُ المسلمين
فيَذِفُون كما يَذِفُ الحمامُ، فيقال لهم: قفوا للحساب، فيقولون: والله ما عندنا
من حساب، ولا تركنا شيئًا، فيقول لهم: صدقوا. فيفتح لهم أبواب الجنة، فيدخلونها
قبل الناس بسبعين عامًا».
وقال أبو الفرج لما كان الفقيرُ فاقدًا للمال الذي يتسبب به إلى المعاصي، ويحصل به
البطر والشبع والجهل واللهو الذي يقرب إلى النار، وكان هذا الأغلب على النساء
فلذلك قربن من النار، فيدخلونها قبل الناس بسبعين عامًا، فإن قيل: إذا كان هذا فضل
الفقر فلم استعاذ منه رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فالجواب: أنه إنما
استعاذ من [فقر النفس] والصواب أن يقال إن الفقر مصيبة من مصائب [209/ب] الدنيا
والغنى نعيم من نعيمها، كالمرض والعافية، فالمرض فيه ثواب ولا يمنع سؤال العافية،
قال القشيري في الرسالة: وسئل أبو علي الدقاق: أي الوصفين أفضل: الغنى أو الفقر؟
فقال: الغنى لأنه وصف الحق، والفقر وصف الخَلْقِ.
(1/64)
قال
أبو عبد الله: الغني المتعلق البال بالمال الحريص عليه هو الفقير، وعادمه الذي
يقول ليس لي رغبة فيه إنما هي ضرورة العيش، هو الغني.
قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى
النفس»، وقد بقيت هنا درجة ثالثة وهي الكفاف، التي سألها سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بقوله: «اللَّهمَّ اجعل رزق آل محمد قوتًا» وفي رواية:
«كفافًا»؛ خرَّجه مسلم، ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال وأسنى المقامات
والأعمال، وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى
مذموم. وعند ابن ماجه عن أنس يرفعه: «ما من غني ولا فقير إلا ودَّ يوم القيامة أنه
أُوتى من الدنيا قوتًا»؛ فالكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، وخير الأمور
أوساطها، وهي حالة سليمة من آفات الغنى المطمع، وآفات الفقر المدقع التي كان يتعوذ
منهما النبي.
3242 - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنا اللَّيْثُ قَالَ
حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ
عِنْدَ النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إِذْ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ
رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ،
فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ،
فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ
اللهِ؟). [خ 3242]
وعنده أيضًا عن بريدة دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بلالًا فقال:
[210/أ]
(1/65)
«يا
بلال بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، ودخلت
البارحة الجنة سمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب، فقلت: لمن هذا
القصر؟ قالوا: لرجل من العرب. قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من قريش.
قلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد. فقلت: أنا محمد، لمن هذا؟
قالوا: لعمر».
وعند الترمذي من حديث أنس صحيحًا قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «دخلت الجنة
فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لشاب من قريش. فظننت أني أنا هو،
فقلت: من هو؟ قالوا: عمر»
زعم المزي أنه من أفراد الترمذي، وأغفل كونه ناسيًا في سنن النسائي في مناقب عمر.
قال أبو عيسى: معنى هذا: أني رأيت في المنام، هكذا روي في بعض الحديث.
وعند أحمد بسند جيد عن مصعب بن سعد عن معاذ قال: إن كان عمر لمن أهل الجنة إن رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان ما رأى في نومه أو يقظته فهو حق، وإنه قال:
«بينا أنا في الجنة إذ رأيت فيها دارًا، فقلت: لمن هذِه؟ فقيل: لعمر».
قال أبو سليمان: إنما هو: (رأيت امرأة شوهاء)، وإنما أسقط الكاتب منه بعض حروفه،
فصار (يتوضأ) لالتباس ذلك في الخط؛ لأنه لا عمل في الجنة. قال ابن التِّين: ذُكر
عن الحسن أنه قال تشبه أن الوضوء موصل إلى هذا القصر.
وقال القرطبي: الرواية الصحيحة: (تَتَوضَّأ) وإنما ابن قتيبة فقال مكان
(تَتَوضَّأ) (شَوْهَاء).
قال ابن الأعرابي: وهي: الحسنة والقبيحة ضد، ووضوء هذِه إنما هو لتزداد حسنًا
ونورًا لا أنها تزيل وسخًا ولا قذرًا؛ إذ الجنة منزهة عن ذلك.
قال ابن بطال [210/ب]:
فيه الحكم لكل رجل مما يعلم من خلقه، ألا ترى أنه لم يدخل القصر لغيرة عمر مع علمه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه لا يغار عليه؛ لأنه أبو المؤمنين، وكل ما نال
بنوه المؤمنون من خير فبسببه وعلى يديه، لكنه أراد أن يأتي بما يعلم أنه يوافق
عمر.
(1/66)
وقد
قال ابن سيرين: من رأى أنه يدخل الجنة فإنه يدخلها؛ لأن ذلك بِشَارة لما قدم من
خير أو يقدمه.
قال الكرماني: وأما نساؤها فهي أجور، وأعمال بر على قدر جمالهن.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعبر: من رأى أنه يتوضأ فإنه وسيلة إلى
سلطان، وهو للخائف أمان.
قال ابن التين: وفيه فضل الغيرة، وبكاء عمر يحتمل أن يكون سرورًا، ويحتمل
3243 - (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنا هَمَّامٌ سَمِعْتُ أَبَا
عِمْرَانَ الْجَوْنِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي موسى عن أبيه أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: في الجنةِ خَيْمَةٌ من دُرَّة
مُجَوَّفَة طُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ
مِنْهَا لِلْمُؤْمِنِين أَهْلٌ لَا يَرَاهُم الْآخَرُونَ). [خ 3243]
(وقَالَ أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ:
سِتُّونَ مِيلًا).
التعليق: عن أبي الصمد واسمه عبد العزيز بن عبد الصمد، رواه البخاري في تفسير سورة
الرحمن عن محمد بن مثنى عنه به [ح: 4879]، والتعليق عن الحارث بن عبيد رواه مسلم
في صحيحه عن سعيد بن منصور عنه.
(1/67)
وينظر
في رواية البخاري حديث همام حيث قال: «ثلاثونَ ميلًا» [ح: 3243]، والذي في مسلم عن
أبي بكر بن شيبة عن يزيد بن هارون وعاصم بن علي، وعند مسلم: «طولها ستون ميلًا»
وفي رواية: «عرضها»، قال شارحوه: لا معارضة بينهما، لأن عرضها يريد مسافة أرضها،
وطولها في السماء لا في العلو، متساويان [211/أ] والْخَيْمَةُ: بيت مربع من بيوت
الأعراب، قال أبو زياد الكلابي يزيد بن عبد الله بن الحر في كتابه: المسمى بالبيت
وما فيه للأعراب خيمتان: وأما أحدهما فيكون من صوف وربما كانت من شعر وربما كانت
من صوف وشعر مخلطان، وربما كانت من أوبار الإبل خالصًا، وهي تسمى المظَلَّة،
وجمعها المظالُّ، وهذه المظالُّ التي يظعنون بها في البلاد ويحملونها حيث ما
أرادوا، والخيمة الأخرى هي التي يتجمعون على المياه، وهي من الشجر والخشب وأضخم
المظالِّ التي تكون على ستة عشر عمودًا، ولها أربع طرائق في كل طريقة أربعة أعمدة
والطريقة نسجه عرضها شبر، وهي طول البيت عرضًا، فإذا عملت، بسطت على الأرض ثم
خيطت، تلك الطريق في بطن البيت ثم يرفع البيت فيبنى، وفي رواية: «من لؤلؤة
ومجوفة»، كذا الرواية، قال عياض: وعند السمرقندي: بالباء الموحدة وهي المثقوبة
التي قطع داخلها.
قال ابن التين: قال ابن عباس: الخيمة: درة مجوفة فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف
مصراع من ذهب، وفي «نوادر الترمذي» بلغنا في الرواية: «أن سحابة مطرت من العرش
فخلق منها الحور، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار، سعتها: أربعون ميلًا
وليس لها باب، حتى إذا دخل ولي الله بالخيمة انصدعت عن باب؛ ليعلم الولي أن أبصار
المخلوقين من الملائكة والخدم لم يأخذوا».
وعند ابن المبارك: أنبأنا همَّام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، وعن أبي
الدرداء: الخيمة: لؤلؤة واحدة لها سبعون بابًا كلها دُرّ.
(1/68)
قال
القرطبي: ومن هذا الحديث يعلم أن نوع النساء المشتمل على الحور والآدميات في الجنة
أكثر من نوع رجال بني آدم [ ... ] البخاري لحديث أبي هريرة: (أَعْدَدْتُ
لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ) يدل على [211/ب]
وجود الجنة؛ لأن الإعداد غالبًا لا يكون إلا لشيء حاصل، ثم أعاد ذكره في تفسير
السجدة بزيادة: «ذخرًا، بَلْه ما أُطلِعتُم عليه» [ح: 4780]، ثم قال: قال أبو
معاوية: عن الأعمش، عن أبي صالح: قرأ أبو هريرة رضي الله عنه: «قُرَّات أعين»، وهو
تعليق مسند في «صحيح مسلم».
قال أبو الفرج: إن الله جل وعز وعد الصالحين من جنس ما يعرفونه من مطعم ومشرب
ومنكح وشبهه، ثم زادهم من فضله ما لا يعرفونه، وهو قوله: «مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وقال القرطبي: ذخرًا هو بذال معجمة مضمومة،
أي: مدخرًا، وهو مصدر، يقال: ذَخَرْتُ الشيءَ أَذْخُرُه ذُخْرًا، واذَّخَرْتُهُ
أَذْخَرُهُ اذِّخَارًا بالإدغام، ووقع في طريق الفارسي: ذكرًا بالكاف، ولبعضهم:
ذخر. بغير تنوين وليسا بشيءٍ.
(بَلِهَ) أي: سوى، وهي من أسماء الأفعال، قال أبو الفرج: المعنى: أن ما اطلعتم
عليه محقر بالإضافة إلى ما لم تطلعوا عليه، وإنما ذكر ما يعرفونه لشيئين؛ أحدهما:
لأنسهم بما يعرفون، والثاني: لوعدهم بما يعرفون اشتاقوا إلى ما لم يعرفوا, ولطلبوا
ما يعرفون فوعدهم بهما، وذهب بعض المتكلمين إلى انحصار الأجناس، وأنه لا موجود
يخرج عما وجد في هذا العالم. انتهى. وكأنه غير جيد فينظر، في الفهرست: له من
الكتب: «كتاب النوادر. كتاب الفرق. وكتاب الابل. وكتاب خلق الإنسان».
(1/69)
3245
- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حدثنا عَبْدُ اللهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ هَمَّامِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ
صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا
وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ،
وأَمْشَاطُهُمْ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُم الْأَلُوَّةُ،
وَرَشْحُهُم الْمِسْكُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ يُرَى مُخُّ
سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ
وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْب رجلٍ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللهَ جلَّ وعزَّ بُكْرَةً
وَعَشِيًّا). [خ 3245]
وفي حديث أبي الزناد عن الأعرج: (وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ [212/أ]
كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إضاءةً)، وفيه: (لا يَسقُمُون ووقود مجامِرهِم الألُوَّة،
قَالَ أَبُو الْيَمَانِ: يَعْنِي الْعُودَ)، وفي رواية: «إنما هو عرَقٌ يجْري من
أعراضهم مثل المِسْك»، وفي رواية: «هم بعد ذلك منازل أخلاقهم على خلق رجلٍ واحد
على طول أبيهم»، وفي رواية: «على صورة أبيهم ستون ذراعًا في السماء»، قال مسلم:
ابن أبي شيبة يرويه بضم الخاء واللام، وأبو كريب يقوله بفتح الخاء وسكون اللام
انتهى. يرجح الضم قوله: «لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تبَاغُضَ» ويرجح الفتح،
قوله: «على صورة أبيهم» و «على طوله».
(1/70)
وعند
الترمذي عن ابن مسعود: «إن المرأة من أهل الجنة ليُرى بياض ساقها من وراء سبعين
حلة حتى يرى مخها، وذلك أن الله جل وعز يقول: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ
وَالْمَرْجَانُ (58)} [الرحمن: 58]»، قال أبو عيسى وقد روي موقوفًا، وفي حديث شهر
بن حوشب، عن أبي هريرة: «أهل الجنة جردٌ مردٌ كُحْلٌ لا يفنى شبابهم ولا تبلى
ثيابهم» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وعن معاذ: «يدخل أهل الجنة الجنة جردًا
مردًا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين».
و قال: غريب، وروي عن قتادة مرسلًا، وعن أبي سعيد: «من مات من أهل الجنة من صغير
أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها، وكذلك أهل النار» وقال:
حديث غريب، وعنه: «إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنان
وسبعون زوجة»، وقال: حديث غريب، ومثله عن أبي أمامة في مسند الدارمي، وعن المقدام
بن معدي كرب: «ويزوج الشهيد ثنتين وسبعين زوجة من الحور»، وفي «الأوسط» لأبي
القاسم الطبراني: حدثنا بكر بن سهل عن ابن إشكاب، حدثنا محمد بن فضيل، عن عمارة بن
القعقاع، عن أبي صالح عن أبي هريرة يرفعه [212/ب] وذكر أهل الجنة: «مجامرهم اللؤلؤ
وأزواجهم الحور»، قال وحدثنا مقدام بن داود حدثنا أسد بن موسى حدثنا عدي بن الفضيل
عن الجُريري عن أبي نضر عن عقيل بن شُمير عن أبي هريرة مرفوعًا: «يدخل فقراء أمتي
قبل أغنيائهم بنصف يوم؛ خمسمائة عام، قال: ويدخلون جميعًا على صورة آدم صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قلت: يا رسول الله، وما كانت صورته؟ قال: كان اثنا عشر
ذراعًا طولًا في السماء، وستًا عرضًا، قلت: يا رسول الله بأي ذراع؟ قال: الذراع
كطول الرجل الطويل منكم» قال: لم يروه عن الجُريري إلا عدي تفرد به أسد بن موسى.
(1/71)
وفي
كتاب «البعث والنشور» للبيهقي من حديث الجريري ولفظه: «على خلق آدم ثمانية عشر
ذراعًا في سبعة، قال شمير: وما ذاك الذراع؟ قال: كأطولكم رجلًا»، وبعضهم يقول:
شُتير -بالتاء- بن نهار، وقال البيهقي: ورواية: «ستين ذراعًا أصح» انتهى. ويمكن أن
نخرج قوله على وجه صحيح، وذلك أنا نجعل طول الرجل خمسة أذرع بذراعنا اليوم، فيكون
ستين ذراعًا، وعلى رواية الثمانية عشر يكون بالنسبة إلى طول الشخص وقصره، وعند
البيهقي بسند لا بأس به من حديث المقدام مرفوعًا: «ما من أحدٍ يموت سقطًا ولا
هرمًا ولا غيره إلا بعث ابن ثلاثين سنة، فإن كان من أهل الجنة كان على مسحة آدم
وصورة يوسف وقلب أيوب صلى الله عليهم وسلم»، وأما الحور فأصناف صغار وكبار على ما
اشتهته أنفس أهل الجنة، قال أبو عبد الله القرطبي، روي أن سيدنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وصف حوراء رآها ليلة الإسراء: «كأن جبينها الهلال، طولها ألف
وثلاثون ذراعًا، في رأسها مائة ضفيرة، ما بين الضفيرة والضفيرة [أ/213]
سبعون ألف ذؤابة. وفي رواية ابن عباس: «الحوراء تلبس سبعون ألف حلة مثل شقائق
النعمان، إذا أقبلت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من
المسك لكل ذؤابة وصيفة ترفع ذيلها». وروي: أن الآدميات مع هذا كله أفضل منهن
بسبعين ألف ضعف.
قوله في الحديث: (لَيْلَة البَدْرِ): يريد ليلة أربع عشرة، وسميت بذلك؛ لأن القمر
يبادر طلوعه غروب الشمس، وقيل: لامتلاء القمر وحسنه وكماله، ومنه قولهم: عين بدرة،
إذا كانت ممتلئة جيدة. قال امرؤ القيس:
وعينٌ لها حَدْرَةٌ بَدْرَةٌ شقَّتْ مآقِيهِما مِنْ أُخُرْ
وإنما لا يبصقون وشبهه؛ لأن أغذيتهم في الجنة في غاية اللطافة والاعتدال ليست بذي
فضلة تستقذر، بل تستطاب وتستلذ.
(1/72)
والمجامر
والمباخر والأَلوَّة: فارسي معرب؛ قال ابن التين بفتح الهمزة وضمها، وقيل: بكسرها،
وتخفف وتشدد، وعند الهروي؛ قال بعضهم: لوَّه، وليَّه، وهو الند، فإن قيل: أي حاجة
لهم في البخور والامتشاط؛ لعدم تلبد شعرهم وطيب ريحهم؟ فيجاب: بأن نعيم أهل الجنة،
وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، وكذا أكلهم ليس عن جوع ولا شربهم عن ظمأ، إنما هي
لذات متوالية ونعم متتابعة قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا
تَعْرَى وأنَّك لا تظمأ فيها ولا تضحى} [طه: 118]. والحكمة في ذلك أن الله جل وعز
نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم عليه ما لا يعلمه إلا
الله جل وعز، قال محي الدين: مذهب أهل السنة وعامة المسلمين [213/ب]
أن أهل الجنة يأكلون منها، ويشربون ويتنعمون بذلك وبغيره من ملاذها تنعمًا دائمًا
لا نفاد له.
وقوله: (زَوْجَتَانِ) كذا هو في الروايات بالتاء، وهو لغة متكررة في الأحاديث
وكلام العرب، والأشهر حذفها، ولقد كان الأصمعي ينكر دخول التاء، فذكر له قول ذي
الرُّمة:
أذو زوجة في المصر أم ذو قرابة فأنت لها بالبصرة العام ثاويا
فقال: إن ذا الرُّمَّة طالما أكل الفجل في دكان البقالين، فقيل له فقد قال الفرزدق
همام بن غالب:
وإِنَّ الذي يَسْعَى ليُفْسِدَ زَوْجَتِي كسَاعٍ إِلى أُسْدِ الشَّرَى
يَسْتَبِيلُها
فلم يحر جوابًا. قال أبو حاتم: وقد قرأنا عليه قبل هذا لأفصح العرب وهو أبو ذؤيب:
تبكي بناتي شجوهن وزوجتي والطامعون إلي ثم تصدعوا
ولم ينكره، وأنشد أبو حاتم:
زَوْجة أَشْمَطَ مَرْهوبٍ بَوادِرُه قد صار في رأْسه التَّخْويصُ والقَزَعُ
وقال آخر: من منزلي قد أخرجتني زوجتي، وقال آخر:
يا صاحِ بَلِّغ ذَوِي الزَّوْجاتِ كُلَّهُمُ أَنْ ليس وصْلٌ إِذا استرخت عُرا
الذَّنَبِ
(1/73)
وقوله:
(ويُسَبِّحُونَ الله بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي: قدرهما، قال القرطبي: وهو ليس عن
تكليف وإلزام؛ لأن الجنة ليست بمحل ذلك، وإنما هو إلهام كما هو في الرواية الأخرى:
«يُلهَمُون التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفَس»، وذلك أن تنفس الإنسان لابُدَّ
له منه ولا كلفة عليه ولا مشقة [214/أ]
في فعله، وسر ذلك أن قلوبهم تنورت بالمعرفة وأبصارهم بالرؤية، ومن أحب شيئًا أكثر
من ذكره.
وقوله: (وَالَّذِينَ يلونهم كأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً) قال القرطبي: معناه أن
أبدان أهل الجنة متفاوتة بحسب درجاتهم.
قال البخاري: وقال مجاهد: الإبكار: أول الفجر والعشيُّ ميل الشمس، هذا التعليق
ذكره الطبري عن محمد بن عمرو حدثنا أبو علقم، حدثنا عيسى، وحدثنا مثنى، حدثنا أبو
حذيفة، حدثنا شبل: قالا: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال أبو جعفر: الإبكار:
مصدر من قول القائل أبكر فلان في حاجته يبكر إبكارًا، وذلك [6] إذا خرج فيها من
بين مطلع الفجر إلى وقت الضحى فذلك إبكار، يقال منه: قد أبكر فلان وبكر يبكر
بكورًا، قال ابن أبي ربيعة:
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكِرُ ... غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّرُ
ومن البكور قول جرير: ألا بكرت سلمى فجدَّ بكورها وشق العصا بعد اجتماع أميرها
ويقال من ذلك بكر النحل يبكر بكورًا، وأبكر، مثل إبكارًا، والباكورة من الفواكه:
أولها إدراكًا، والعشي من حين تزول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تذوق.
(1/74)
3247 - (حَدَّثَنَا الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: لَيَدْخُلَنَّ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفٍ لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وُجُوهُهُمْ، عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) [214/ب] هذا الحديث من أفراد البخاري، وعند الإسماعيلي: <وجُوهُهُمْ عَلَى ضُوء القَمَرِ> وعنده أيضًا: <سَبْعُونَ أَلْفًا، أو سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ بغير حساب>، وعند الحميدي: <سَبْعُونَ أَلْفًا، وسَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، سماطين آخذ بعضهم ببعض>، وقال ابن التين: هو شكٌّ من الراوي، وفي رواية: «هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، وهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب» [ح: 6541]. وعند مسلم: عن عمران بن الحصين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب»، وفيه: «فقال عكاشة: يا رسول ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم ... »
(1/75)
الحديث، وأما قول أبي عبدالله الحسين ابن خالويه في كتاب «ليس»، وعكاشة صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ والعامة يخففونه، وإنما هو مشدد، وذلك أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يجعله معه في الجنة، فدعا له، فقام آخر، فسأله، فقال: «سبقك بها عُكَّاشة»، فغير جيد، بينا ذلك في كتابنا «الميس إلى كتاب ليس» والصواب ما أسلفناه من عند مسلم وغيره، وعند الترمذي عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا بلا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفًا، وثلاث حَثَيَات من حَثَيَات ربي جلَّ وعزَّ» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وعند البزار من حديث أنس بلفظ: «مع كل واحد من السبعين ألفًا، سبعون ألفًا». وعند الحكيم الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن الله جل وعز أعطاني سبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عمر: فهلا استزدته؟ قال: قد استزدته فأعطاني مع كل واحد من السبعين الألف سبعون ألفًا قال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته؟ قال: قد استزدته فأعطاني هكذا». [خ 3247] قال أبو وهب راويه عن هشام، وفتح يديه قال هشام: وهذا من الله لا يدري ما عدده. وعند البيهقي في «البعث والنشور» من حديث عتبة بن عبد السلمي يرفعه: «إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، ويشفع كل ألف لسبعين ألفًا، ثم يحثي له بكفه ثلاث حثيات، فكبر عمر، وقال: إن السبعين الألف الأولين شفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر». وروينا في «الحلية» من حديث قتادة عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «وعدني ربي أن يُدخل من أمتي الجنة مائة ألف، فقال أبو بكر: يا رسول الله لو استزدته، قال: وهكذا، وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك.
(1/76)
قالوا: يا رسول الله، زدنا. فقال عمر: إن الله قادر أن يدخل الخلق كلهم الجنة بحثية واحدة، فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: صدق عمر»، قال: هذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس تفرد به عن [216/ب] قتادة أبو هلال محمد بن سليم الراسبي وهو ثقة. وروينا في كتاب «الشفاعة» للقاضي إسماعيل عن أحمد بن منصور حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن أنسٍ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف فقال أبو بكر: زدنا، فقال: وهكذا، فقال عمر: حسبك يا أبا بكر، فقال: دعني يا عمر، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا؟ قال عمر: إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بحفنة واحدة، فقال النبي: صدق عمر». وحدثنا ابن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي بكير بن عمير، عن أبيه يرفعه: «إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي ثلاثمائة ألف، قال عمير: يا رسول الله زدنا، قال: وهكذا بيده، فقال عمر بن الخطاب: حسبك يا عمير». [ ... ] ابن مثنى، هكذا حدثنا معاذ من كتابه [ ... ] من مكة، أبا بكر بن أنس عن أبي بكير بن عمير عن أبيه وحدثنا حجاج حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن أبي يزيد الحربي عن عمرو بن عمير يرفعه: «وعدني الله أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفًا بغير حساب قالوا: من هم؟ قال: الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلي ربهم يتوكلون، وإني سألته أن يزيدني، قال: وإن لك بكل رجل من السبعين ألفًا سبعون ألفًا»، فقلت: إذًا لا يكملوا ذلك فقال: أكملهم من الأعراب. ثم ساق من حديث حميد، عن أنس مرفوعًا: «يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا»، قالوا: يا رسول الله زدنا، قال: «لكل واحد سبعون ألفًا»، قالوا: يا رسول الله زدنا. قال: «لكل واحد سبعون ألفًا»، قالوا: يا رسول الله زدنا، فملأ كفيه من الرمل، قال: «وعدد هذا»، فقالوا: زدنا.
(1/77)
فقال أبو بكر وعمر: أبعد الله من دخل النار بعد هذا. قال الحكيم وعن نافع أن أم قيس حدثته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خرج آخذًا بيدها حتى انتهى بها إلى بقيع الغرقد فقال: «يبعث من هذِه سبعون ألفًا يوم القيامة في صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب، فقام رجل فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقام آخر فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عُكَّاشة»، قال الترمذي: هذا من مقبرة واحدة، فما ظنك بجميع مقابر أمته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وذكر ابن خالويه في كتاب «ليس» أن سيدنا إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: يحشر من بانقيا سبعون ألف شهيد. وروينا في «تاريخ الرقة» للقشيري: حدثني الميموني، حدثنا أبي، سمعت عمي، عن عمرو بن ميمون، وكان بالكوفة، بلغني أنه يحشر من ظهرها سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب، فأحببت أن أموت بها، فمات ودفناه بها. وقال [217/أ] أبو بكر الكلاباذي: حدثنا أحمد بن سهل، حدثنا علي بن موسى القمي، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن مصعب القَرْقَساني، حدثنا الحكم بن عطية عن أبي سنان عن عبد العزيز اليمامي، عن عائشة، قالت: «فقدت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذات ليلة، فاتبعته فإذا هو في مشرُبة يصلي، فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار، فلما قضى صلاته قال: من هذِه؟، قلت: عائشة، فقال: هل رأيت الأنوار؟، قلت: نعم.
(1/78)
قال: إنَّ آتٍ أتاني من ربي جلَّ وعزَّ فبشرني أن الله جلَّ وعزَّ يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثاني آتٍ من ربي فبشرني أن الله جل وعز يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثالث آتٍ من ربي فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، ثم أتاني في اليوم الثالث آت من ربي جل وعز فبشرني أن الله جل وعز يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفًا المضاعفة سبعين ألفًا بغير حساب ولا عذاب، فقلت: يا رب، لا تبلغ هذا أمتي. قال: يُكمَّلون لك من الأعراب ممن لا يصوم ولا يصلي»، قال الكلاباذي: اختلف الناس في الأمة من هم؟ فقال قوم: أهل الملة، وقال آخرون: كل مبعوث إليه ولزمته الحجة بالدعوة، ويجوز أن تكون الأمة كل مبعوث إليه، ولكن تختلف أحوالهم، فمنهم من بعث إليه ودعي فلم يجب كأهل الأديان من أهل الكتاب وسائر المشركين، فهؤلاء لا يدخلون الجنة أبدًا، ومنهم من دعي فأجاب ولم يتبع من جهة استعمال ما لزمه بالإجابة، فهو مؤمن بإجابته إلى ما دعي إليه من التوحيد والرسالة، وإن لم يستعمل ما أمر به تشاغلًا عنه وخلاعة وفجورًا، فهؤلاء من أمة الدعوة والإجابة، وليسوا من أمة الاتباع، ومنهم من أجاب إلى ما دعي واستعمل ما أُمر به، فهذا من أمة الدعوة والإجابة [217/ب] والاتباع، فيجوز أن يكون هؤلاء الأعراب من أمة محمد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من طريق الإجابة له إيمانًا بالله ورسوله وبما جاء به ولم يستعملوا ما جاء به، فهؤلاء ليسوا من أمته على معنى الاتباع؛ لأنهم لم يتبعوه ولم يسلكوا طريقه.
(1/79)
فمعنى: «يكمَّلون لك من الأعراب» أي: من آمن بك ولم يتبعك استعمالًا لما جئت به؛ لأن قوله: «لا تبلغ هذا أمتي» وقوله: «يكملون لك من الأعراب» يشير إلى أن هؤلاء الأعراب ليسوا من أمته، فيجوز أن يكون ذلك على معنى ما قلناه. ومعنى قوله: «لا تبلُغُ هَذَا أُمَّتي»: يعني من اتبعني وآمن بي، فكأنه يقول: لا يبلغ هذا العدد من اتبعني استعمالًا لما جئت به، وهذا كالحديث الذي حدثنا الحسين بن علي العطار، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي، حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد شك الأعمش، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «اشهدوا ألا إنه إلا الله وأني رسول الله، من لقي الله بها غير شاك لم يحجب عن الجنة»، وذكر الشيخ أبو العباس أحمد بن القسطلاني في «كتاب جمع فيه أخبار مشايخ لقيهم»: سمعت الشيخ أبا الربيع: كان الشيخ أبو الحكم يتكلم يومًا في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] واستطرد إلى حديث الشفاعة الذي يقول منه: «وأعطيت هكذا وهكذا يمينًا وشمالًا ووراءً عن يمينه وشماله، وحثا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن يمينه وشماله وورائه، فقال أبو بكر: يا رسول الله، يكفينا، فقال عمر: يا أبا بكر، دع النبي يبشرنا، فقال أبو بكر: يا عمر، إنما نحن حثية من حثيات ربنا، قال: فكان أبو بكر أنبه الرجلين؛ لأنه علم أنه إحراج [6] فخاف التطويل؛ فقال: يكفينا».
(1/80)
قال
الشيخ أبو الحكم: وأقول أنا: ما استثناها إلا لعليمة تقتضيها لم يطلع عليها اللوح
ولا القلم، يعني: الاستثناء في [218/أ] 3248 - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ
حَدَّثَنا أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ جُبَّةُ سُنْدُسٍ وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ
مِنْهَا فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا). [خ 3248]
(قال: وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: إِنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ
أَهْدَى للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
هذا التعليق رواه الإسماعيلي مسندًا، فقال: رواه سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لبسها، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، قال الإسماعيلي:
وسعيد أثبت في قتادة وأضبط من شيبان، لا سيما إذا رواه عنه الثقات، وذكروا عنه
الخبر، وهو أشبه؛ لأنه لا ينهى عنه وهو يلبسه إلا أن يبين أنه مخصوص به، ثم ذكر
سنده إلى يزيد ابن زريع عن سعيد، حدثنا أنس: «أن أكيدر أهدى لرسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ جبة من سندس قبل أن ينهى عن لبس الحرير، فلبسها ... »
الحديث. وفي رواية: «وذلك قبل أن يُحرَّمَ الحرير»، وفي حديث البراء عند البخاري:
(أُتيَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بثوب من حرير ... ) الحديث [ح: 3249].
3250 - وحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ تقدم في الجهاد [ح: 2892]. [خ 3250]
3251 - وكذا حديث أنس. [خ 3251]
(1/81)
3253
- وحدثه عبدالرحمن بن أبي عميرة عن أبي هريرة وفيه: (وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ
فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ تَغْرُبُ)، وقد ذكر
الطرْقي أن هذا من زيادة ابن أبي عَميرة في الحديث انتهى. وهذا مما يزاد على
الخطيب في كتابه. وعند ابن المبارك عن ابن أبي خالد، عن زياد مولى بني مخزوم، سمع
أبا هريرة يقول: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلِّها مائة عام»، فبلغ ذلك
كعبًا، فقال: صدق والذي أنزل الفرقان على لسان محمد، لو أن [218/ب] رجلًا ركب
حقَّة أو جذْعَة، ثم سار في أصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرمًا، إن الله
تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من روحه، وما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصلها، وفي
لفظ: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين»، أو قال: «مائة سنة»، وهي:
شجرة الخلد. [خ 3253]
وعند الترمذي عن أسماء سمعت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وذكر سدرة المنتهى
قال: «يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب»، شكيحيى،
وقال: حسن صحيح، وعند أبي عمر بسند صحيح عن عتبة بن عبد السلمي يرفعه: «شجرة طوبى
تشبه الجوزة، قال رجل: يا رسول الله ما عظم أصلها؟ قال: لو رحلت جذعة ما أحطت
بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا»، وعند ابن وهب من حديث شهر بن حوشب، عن أبي أمامة
قال: «طوبى شجرة في الجنة ليس فيها دار إلا وفيها غصن منها, ولا طعم حسن ولا ثمرة
إلا وهو فيها»، قال القرطبي: معنى ظلها: نعيمها، وراحتها، من قولهم: عز ظليل، وقيل
معنى ظلها: ذراها وناحيتها وكنفها، كما يقال: أنا في ظلك أي في كنفك، وإنما أحوج
هذا التأويل لأن الظل المتعارف عندنا إنما هو وقاية حر الشمس وأذاها وليس في الجنة
شمس، وإنما هي أنوار متوالية، لا حر فيها ولا قر، بل لذات متوالية ونعم متتابعة.
3255 - حديث البراء تقدم في الجنائز [ح: 1382]. [خ 3255]
(1/82)
3256
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكُ عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ
الْجَنَّةِ ليَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ
الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابر في أفق السماء)، وفي لفظ: <الْغَابِرَ فِي
الْأُفُقِ بين الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ>،
قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ [219/أ] الْأَنْبِيَاءِ لَا
يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ
آمَنُوا بِاللهِ جلَّ وعزَّ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ). [خ 3256]
قال أبو عبد الله: محمد بن يحيى هذا حديث محفوظ غريب من رواية مالك، ورواه فليح،
عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، ولست أدفع حديث فليح أن يكون عطاء قد حفظه عنهما، وعند الثعلبي زيادة من
حديث أبي سعيد: «وأن أبا بكر وعمر منهم، وأنعما»، وعند مسلم حديث سهل بن سعد مثله،
زاد الحكيم أبو عبد الله عن صالح بن محمد حدثنا سليمان بن عمر عن أبي حازم عن سهل
بن سعد يرفعه: «في قوله جل وعز: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان:
75]، قال: الغرفة من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء، أو درة بيضاء، ليس فيها فصم
ولا وصل، وإن أهل الجنة ليتراءون ... » الحديث، وفيه: «وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما».
(1/83)
قال: وحدثنا صالح بن عبدالله وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن ابن مسعود يرفعه: «المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء، في رأس العمود سبعون ألف غرفة يضيء حُسنهم لأهل الجنة، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا»، وعند الترمذي عن علي يرفعه: () إن في الجنة لغرفًا يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام»، وخرجه أيضًا صاحب «الحلية» أيضًا من حديث جابر، وعند البيهقي في كتاب: «البعث والنشور» من حديث إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا قرة بن حبيب بن فرقد عن الحسن عن عمران بن حصين وأبي هريرة، سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} [التوبة: 72] قال: [219/ب] «قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء، في كل بيتٍ سريرٌ، على كل سرير سبعون فراشًا، على كل فراش زوجة من الحور، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونًا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة ... » الحديث، وهو يوضح لك أن الغرف مختلفة في العلو والصفة، وذلك بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال.
(1/84)
وقوله:
(الْغَابِرَ): يروى بالياء، اسم فاعل من غار، وروي: «الغارِب» بتقديم الراء
والمعنى واحد، وروي: (الغَابِر) -بباء موحدة- ومعناه: الذاهب أو الباقي؛ لأن غَبَر
من الأضداد، يريد أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه يبعد عن الأبصار فيظهر صغيرًا
لبعده، وقد بينه بقوله: (بين المَشْرِقِ أو الْمَغْرِبِ) وروي: «العازب» -بعين
مهملة وزاي- ومعناه: البعيد، وروي: «العَايِر» ذكره ابن الحذاء، قال أبو زكريا:
عامة نسخ مسلم: «من الأفق»، وقال القاضي: لفظه: «مِن» هنا لابتداء الغاية، وفي
البخاري: (فِي الأفُقِ)، قال: وقال بعضهم: هو الصواب، قال القرطبي: لم يروَ في
مسلم إلا بـ «مِن»، ورواه البخاري (فِي) وهي أوضح، قال ابن التين: إنما تغور
الطوالع في المغرب خاصة فكيف ذكر المشرق. و (الأفقِ): ناحية السماء، وهو واحد
الآفاق.
و (الدُّريَّ): فيه لغات، الأول وهو الأكثر ضم الدال، وتشديد الياء بغير همز، قال
الكسائي: شبه بالدُّرِّ. الثاني: بضم الدال مهموز ممدود. الثالث: بكسر الدال مهموز
ممدود، قال عياض وغيره: من همزه أخذه من درا؛ أي دفع لاندفاعه وخروجه عند طلوعه،
ومن لم يهمز نسبه كما قال الكسائي وشبه الكوكب بالدُّرِّ لكونه أرفع من باقي
النجوم كما أن الدر [220/أ] أرفع الجواهر.
(1/85)
قوله:
(بَلَى)، قال القرطبي: كذا وقع هذا الحرف، بلى التي أصلها: حرف جواب وتصديق، وليس
هذا موضعها لأنهم لم يستفهموا وإنما أخبروا أن تلك المنازل للأنبياء صلوات الله عليهم
وسلامه لا لغيرهم، فجواب هذا يقتضي أن يكون (بَل) التي هي للإضراب عن الأول،
وإيجاب المعنى للثاني فكأنه تسومح فيها، فوضعت (بَلَى) موضع (بَل). و (رِجَالٌ)
مرفوع بالابتداء المحذوف، تقديره هم رجال، وعند أبي ذر <بل>، وفيه أيضًا
تَوسُّع أي: تلك المنازل منازل رجال (آمَنُوا بِاللهِ)، أي: حق إيمانه
(وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ)، أي: حق تصديقهم، وإلَّا فكل من يدخل الجنة آمن
بالله، وصدق رسله. انتهى. لقائل أن يقول: هذه الغُرَف لأمة محمد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ جميعهم، والذين ينظرونهم من أسفل هم بقية الأمم، قال الداودي: يعني
أنهم يبلغون هذه المنازل التي وصفت، وأن منازل الأنبياء فوق ذلك.
(باب صِفَةِ أَبوَابِ الجَنَّةِ)
(وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ
دُعِيَ مِنْ بَابِ الجَنَّةِ)، هذا التعليق ذكره البخاري مسندًا عن أبي هريرة وقد
تقدم في الصيام [ح: 1897]، قال البخاري: (فيه عُبادة، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ).
حديث عبادة وهو ابن الصامت هذا رويناه في معجم أبي القاسم من طريق أبي سلام عن أبي
أمامة عنه ولفظه: «وعليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله
به الهم والغم».
3257 - وذكر البخاري حديث سهل بن سعد: (فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ)، وقد
تقدم في الصيام [ح: 1896] كم باب للجنة أدخلناها الله تعالى في خير وعافية آمين
[220/ب] وعند أبي بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش في كتابه «فضائل
عاشوراء» في حديث مرفوع عن ابن عباس: «أن لله جل وعز ثمانِ جِنَان ... » الحديث.
[خ 3257]
(1/86)
3257
- وذكر البخاري حديث سهل بن سعد: (فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ)، وقد تقدم
في الصيام [ح: 1896] كم باب للجنة أدخلناها الله تعالى في خير وعافية آمين [220/ب]
وعند أبي بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش في كتابه «فضائل عاشوراء» في
حديث مرفوع عن ابن عباس: «أن لله جل وعز ثمانِ جِنَان ... » الحديث. [خ 3257]
بَاب صِفَةِ النَّارِ وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ
(وَقَالَ عِكْرِمَةُ {حَصَبُ جَهَنَّمَ}: [الأنبياء: 98] حَطَبُ بِالْحَبَشِيَّةِ)
هذا التعليق ذكره ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الأشج، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن
عبدالملك بن أبجر، سمعت عكرمة. (وَقَال ابنُ عَبَّاسٍ: سِرَاطُ الجَحِيمِ}
[الصافات: 23]: سَوَاءُ الجَحِيمِ)، قال الطبري: حدثنا علي، حدثنا أبو صالح، حدثني
معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عباس: «في قوله في سواء الجحيم: يقول: في وسط الجحيم»،
قال وبه عن ابن عباس: «قوله: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:
23]، يقول: وجهوهم»، فينظر في الذي علقه البخاري أتداخل عليه التفسيران أم لا؟.
وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي: ثور عن خالد بن معدان، عن معاذ: () سُئل
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: من أين يجاء بجهنم؟ قال: يجاء بها يوم
القيامة من الأرض السابعة لها سبعون ألف زمام ... » الحديث.
قال: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] تُوقَدُ بِهِم النَّارُ).
هذا التعليق رواه عبد عن روح، عن شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد به.
3258 - 3259 - 3260 - الأحاديث التي بعده تقدم ذكرها في كتاب الصلاة [ح: 535 و 538
و 537]. [خ 3258 - 3259 - 3260]
(1/87)
3261
- (حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنا
هَمَّامٌ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُجَالِسُ ابنَ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ،
وأَخَذَتْنِي الحُمَّى، فَقَالَ: أَبْرِدْهَا عَنْكَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: الحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ
فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ بِمَاءِ زَمْزَمَ. شَكَّ هَمَّامٌ). انتهى، روينا
في كتاب «الطب» لأبي نعيم الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن علي بن حسن، حدثنا أبو
شعيب الحراني، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا همام فذكره من غير شك ولا تردد وكذا هو
[221/أ]
في صحيح الرجال، ورواه أبو نعيم أيضًا من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا عفان به
ولم يشك. ومن حديث أبي عبيدة بن حذيفة عن عمته فاطمة قالت: «عدتُّ رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقد حُمَّ، فأمر بسقاء، فعلق على شجرة، ثم اضجع تحته
فجعل يقطر الماء على فؤاده، فقلت: ادع الله يكشف عنك، قال: إنَّ أشد الناس بلاء
الأنبياء ثم الذين يلونهم». [خ 3261]
وعن طارق بن شهاب سمعت أنسًا به، يقول: «قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: ائتيني في وجه الصبح بماءٍ أصبه عليَّ، لعلي أجد خُفًّا، فأخرج إلى
الصلاة في الأصل: «أمن»، ولكن في الطب النبوي، 2/ 575 - 576 (606) كما أثبتت.».
3263 - 3262 - وفي كتاب البخاري عن عائشة يرفعه: (الحُمَّى مِن فَيْحِ جَهَنَّمَ،
فَأبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ)، وفي حديث رافع بن خديج: (الحُمَّى مِن فَوْرِ
جَهَنَّمَ). [خ 3263 - 3262]
وفي لفظ: «مِن فَوْحِ جَهَنَّمَ» عند البخاري [ح: 5726].
(1/88)
3264
- وفي حديث ابن عمر: «فَأطفِئُوهَا بالماءِ، قَالَ نافعٌ: وكانَ عبدُالله يقول:
اكْشِفْ عنِّي الرِّجْز» [ح: 5723]، وفي حديث أسماء: «كانَ رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ يأمرنا أن نبرُدَها بالماء، وكانت إذا أُتيت بالمرأة قد حُمَّت أخذت
الماء فصبته بينها وبين جنبها» [ح: 5724]، قال أبو عمر: من فعل هذا وكان معه يقين
صادق رجوت له الشفاء، وفي خبر الأنصاري حدثنا إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن، عن
سمُرة أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «الحمى قطعة من النار فأبردوها
عنكم بالماء البارد»، «و كان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إذا حُمَّ دعا
بقُربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل»، وصححه الحاكم، وعند ابن ماجه من طريق
الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: «الحمى كير من كير جهنم، فنحُّوها عنكم
بالماء البارد»، وعند الطحاوي بسند جيد عن أنس يرفعه: «إذا حُمَّ أحدكم [221/ب]
فليسُنَّ عليه الماء البارد من السَّحر ثلاثًا» وصححه الحاكم، وعند قاسم بن أصبغ
بسند لا بأس به عن أم خالد بنت سعيد: «كان رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
يأمرنا إذا حُمَّ الزبير أن نَبرُد له الماء، ثم نصبه عليه». [خ 3264]
قوله: (فَابرُدُوهَا) -بهمزة وصل وراء مضمومة- هو الصواب من قولهم: برد الماء
حرارة جوفي مبردها، ذكره ثعلب، وذكر ابن التياني أن في «مختصر الجمهرة»: بردت
الشيء برَّدته -بالتشديد- وجاء في الشعر أبردته: صيرته باردًا، وفي «الكتاب
الواعي»: زعم بعض أهل العربية أنك تقول: بردت الماء من الإبراد وبردته من الإسخان،
قال: وهو من الأضداد، وزعم ابن سِيْده في «المخصص» أن هذا القول قاله قُطْرب ورُد
عليه، وقال عياض: يقال أيضًا بهمزة قطع وراء مكسورة، قال الجوهري: وهي لغة رديئة،
قال ابن التين: هو بخلاف: «أبْرِدُوا عَنِ الصَّلاة» [ح: 533]؛ لأن معنى ذاك:
ادخلوا في وقت الإبراد مثل أظلم: دخل في الظلام.
(1/89)
وقوله: (فَأطفِئُوهَا): هو مهموز رباعي، قال ابن العربي: فإن قيل: فنحن نجد علماء الطب يمنعون اغتسال المحموم، ويقولون لا يجوز مقابلة الأشياء بضدها بغتة، والنبي لا يقول إلا حقًّا، وقد ذكر عن بعض من ينسب إلى العلم أنه حُمَّ فاغتسل، فاختنقت الحرارة في بدنه، فزاد مرضه، وأخرجه ذلك إلى التكذيب بالحديث، والجواب أن النبي إنما خاطب بهذا قومًا كانوا يعتادون مثل هذا في تلك الأرض، قال القرطبي: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بقوله: استعمال المحموم الاغتسال بالماء خطٌر مقربٌ من الهلاك؛ [222/أ] لأنه يجمع المسام ويحقن البخار، ويعكس الحرارة لداخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف، قال وجوابه: أن هذا صدر عن مرتاب في صدق نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فيقال له: تفَهَّم مراده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من هذا الكلام، فإنه لم ينص على كيفية تبريد الحمى بالماء، وإنما أرشد إلى تبريدها به مطلقًا، فإن أظهر الوجود أو صناعة الطب أن غمس المحموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو الذي قصده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وإنما قصد استعمال الماء على وجه ينفع، فيبحث عن ذلك الوجه، وتجرب الوجوه التي لا ضرر فيها، فإنه سيظهر نفعه قطعًا، قال: وقد ظهر هذا المعنى في أمره للعائن بالغسل، فإنه وإن كان قد أمره أن يغتسل مطلقًا، فلم يكن مقصوده أن يغسل جميع جسده بل بعضه، وإذا تقرر هذا: فلا يبعد أن مقصوده أن يرش على بعض جسد المحموم، أو يفعل كما ذكرنا عن أسماء، فيكون من باب النشرة الجائزة، قال: ولئن سلمنا أنه أراد جميع جسد المحموم، فيجاب بأنه يحتمل أن يريد بذلك بعد إقلاع الحمى عنه، وفي وقت مخصوص وبعدد مخصوص، فيكون ذلك من باب الخواص التي اطلع عليها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، كما روي أن رجلًا شكى إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الحمى، فقال: «اغتسل ثلًاثا قبل طلوع الشمس، وقل: بسم الله اذهبي يا أم
(1/90)
ملدم،
فإن لم تذهب فاغتسل سبعًا» انتهى. كأن الشيخ لم ير ما أسلفناه في حديث سمرة وفاطمة
وما يأتي في حديث ثوبان قال: وقد يكون ذلك من باب الطب، فإن الأطباء سلموا أن
الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء الشديد البرودة حتى يعالجوه وبسقي الثلج،
ويغسل أطرافه [222/ب]
بالماء البارد، فعلى هذا لا يبعد أن يكون هذا المقصود بالحديث؛ لأجل الحميات
المتولدة عن البلغم، وذكر أبو سليمان بن الأنباري كان يقول: معناه: تصدقوا بالماء
عن المريض، يشفيه الله جل وعز؛ لما روي أن: «أفضل الصدقة سقي الماء». انتهى.
(1/91)
لقائل أن يقول: الخطاب لقوم معتادين مثل هذا في مثل تلك البلاد، وقد علم أنهم يستشفون بأشياء لا توافق غيرهم، ولو استشهد بما روي: «داووا مرضاكم بالصدقة» لكان أقرب إلى الصواب، ومن المعلوم أن الطب منه قياسي كما ذهب إليه اليونانيون، ومنه تجريبي وهو طريق العرب ومن جانسهم، ومنه إلهام وشبهة، ومنه توقيفي، وأما ابن حبَّان فذهب في ذلك إلى الإبراد بماء زمزم لا غيره. وحديث أسماء وسمرة وفاطمة يرد قوله؛ لأن هذا إنما كان بالمدينة، ولا زمزم هناك، والصحابة أعرف بمقصوده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقد روى الترمذي حديثًا استغربه؛ لأن في سنده رجلًا اسمه سعيد غير منسوب، فلم يعرفه، فعرفه البخاري وابن حبان لما ذكره في «كتاب الثقات» وسميا أباه زرعة، فصح سنده بهذا عن ثوبان، يرد ما ذكره القرطبي، ويبين أنه أراد غسل الجسد كله أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إذا أصاب أحدكم الحمى، وهي قطعة من النار، فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار، وليستقبل جريته ويقول: بسم الله، اللَّهمَّ اشف عبدك وصَدِّق رسولك، بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ في خمس فسبع، فإن لم يبرأ في سبع فتسع فإنها لا تكاد [223/أ] تجاوز تسعًا بإذن الله جلَّ وعزَّ»، ورؤي عبادة بن الصامت يبكي على سور بيت المقدس الشرقي، فقيل: ما يبكيك؟ قال: من هنا أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه رأى جهنم، وفي لفظ: «هذا وادي جهنم»، وفي لفظ: من هنا حدثنا أنه رأى ملكًا يُقَلِّبُ جمرًا كالقِطْفِ وسنده في «فضائل القدس» لأبي بكر الواسطي لا بأس به، ويأتي لهذا تكملة في الطب.
(1/92)
3265
- (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: (نَارُكُمْ جُزْءٌ مِنْ
سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كَانَتْ
لَكَافِيَةً، قَالَ: «فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا،
كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا). [خ 3265]
عند ابن ماجه عن أنس يرفعه: «ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم، ولولا أنها
أطفيت بالماء مرتين ما انتفعتم بها، وإنها لتدعو الله جل وعز أن لا يعيدها فيها»،
وذكره ابن عيينة في «جامعه» من حديث أبي هريرة بنحوه، وعن ابن عباس فيما ذكره ابن
عبد البر: «هذِه النار قد ضرب بها البحر سبع مرات، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد»،
وعن ابن مسعود: «ضُربَ بها البحر عشر مرات»، و «سُئل ابن عباس أيضًا عن نار
الدنيا: مم خلقت؟ قال: من نار جهنم، غير أنها طُفئت بالماء سبعين مرة، ولولا ذلك
ما قُرِبت؛ لأنها من نار جهنم».
وعند الترمذي عن أبي سعيد يرفعه: «ناركم هذِه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم لكل
جزء منها حرها»، قال القرطبي: يعني أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي
يوقدها الآدميون، لكانت جزءًا من أجزاء جهنم، المذكورة ببابه: لو جمع حطب [223/ب]
الدنيا وأوقد كله حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من
سبعين جزءًا أشد منه.
(1/93)
وقولهم: (إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً) (إِنْ) في هذا الموضع مخففة من الثقيلة عند البصريين، وهذه اللام هي المفرقة بين: (إنْ) النافية والمخففة من الثقيلة، وهي عند الكوفيين بمعنى مَا، و (اللام) بمعنى إلا، تقديره عندهم: ما كانت إلا كافية، وعند البصريين: إنها كانت كافية، فأجابهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: بأنها كما (فُضِّلَتْ عَلَيهَا) في المقدار والعدد بـ (تِسْعَة وسِتِّينَ جُزءًا)، فضلت عليها في الحر بتسعة وستين ضعفًا. روى ابن المبارك، عن معمر، عن محمد، عن ابن المنكدر قال: لما خلقت النار فزعت الملائكة عليهم الصلاة والسلام وطارت أفئدتهم، فلما خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سكن ذلك عنهم. وقال ميمون بن مهران: لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة فلم يبق في السموات السبع ملك إلاَّ خرَّ على وجهه، فقال لهم الربُّ: ارفعوا رءوسكم، أما علمتم أني خلقتكم للطاعة، وهذِه خلقتها لأهل المعصية؟ فقالوا: ربنا لا نأمنها حتى نرى أهلها، فذلك قوله جل وعز: {هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57].
(1/94)
وعند
الترمذي عن عائشة رضي الله عنها صحيحًا: «سألت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
عن قوله جَلَّ عزَّ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
[الزمر: 67] قلت: فأين الناس يومئذٍ؟ قال: على جسر جهنم»، وعن عبد الله بن عمرو
يرفعه: «إنَّ تحت البحر نارًا»، قال عبد الله: البحر طبق جهنم. ذكره أبو عمر
وضعفه، وفي «تفسير ابن النقيب»: في قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ} [إبراهيم:
48] تجعل الأرض جهنم، وتجعل السموات الجنة. وعند الترمذي: «أُوقِد على النارِ ألف
سنة حتى ابيضَّت [224/أ] ثم أُوقِد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة».
زاد ابن المبارك: «وألف سنة حتى احمرَّت»، وعن سليمان: لا يفنى لهيبها ولا جمرها،
ثم قرأ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا}
وفي «البعث والنشور» بسند فيه رجل غير مسمى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى قال النبي:
«البحر هو جهنم»، وسماه أبو عاصم في رواية محمد بن حيي، ومن حديث العرزمي عن سلمة
عن أبي في الأصل: إضافة: «و»، وليست موجودة في الآية الكريمة.
الزعراء، قال عبد الله: الجنة في السماء السابعة، والنار في الأرض السابعة.
3266 - حديث يعلى: يأتي في التفسير [ح: 4819]. [خ 3266]
(1/95)
3267 - (حَدَّثَنَا عَلِيٌّ بن عبدالله، حَدَّثَنا سُفْيَانُ حدثنا الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِأُسَامَةَ: لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ، وَلَا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ كَانَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. قَالُوا: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ؟ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ إِلَيْهِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ. قال البخاري: رَوَاهُ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ). [خ 3267]
(1/96)
هذا التعليق رواه البخاري في الفتن عن بشر بن خالد عن غندر، ورواه عن الأعمش أيضًا عند مسلم: أبو معاوية وجرير، قال المهلب: الرجل المبهم هنا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأراد أن يكلمه في شأن أخيه لأمه؛ الوليد بن عقبة، لما شُهِدَ عليه بما شُهِدَ، فقيل لأسامة ذلك [224/ب] لكونه كان من خواص عثمان، وفي نسخة: <لا أكلمه إلا بسمعكم>. وفي أخرى: <إلا سمعكم>، قال محي الدين: وكله بمعنى أتظنون أني لا أكلمه إلا وأنتم تسمعون، قال ابن بطال: فقال: قد كلمته فيما بيني وبينه، وقوله: (إِنِّي لَأُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ) يعني: المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ، فيكون بابًا من القيام على أئمة المسلمين، فتفترق الكلمة وتتشتت الجماعة، كما كان بعد ذلك من تفريق الكلمة بمواجهة عثمان بالنكير، وفيه: الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سرًّا، وتبليغهم قول الناس فيهم؛ ليكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن، فإن لم يمكن الوعظ سرًّا فليفعله علانية؛ لئلا يضيع الحق كما روى طارق بن شهاب، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد بسند حسن، قال الطبري: معناه: إذا أمن على نفسه من قتل وشبهه، أو أن يلحقه من البلاء ما لا قِبَل له به.
(1/97)
روي ذلك عن ابن مسعود وحذيفة، وهو مذهب أسامة. وروي عن مطرِّف أنه قال: والله لم يكن لي دين حين أقوم إلى رجل معه ألف سيف، فأنبذ إليه كلمة فيقتلني، إن ديني إذًا لضَيِّق. وقال آخرون: الواجب على من رأى منكرًا من ذي سلطان أن ينكره علانية، وكيف أمكنه. روي ذلك عن عمر وأُبي بن كعب، احتجا بقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» انتهى، الاستدلال بهذا على العلانية فيه نظرٌ، قال: احتجا أيضًا بقوله: «إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تُودِّعَ منهم» [225/أ] ذكره البزار من طريق منقطعة، وقال آخرون: الواجب أن ينكر بقلبه، لحديث أم سلمة مرفوعًا: «يستعمل عليكم أمراء بعدي تعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالو: يا رسول الله، أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلَّوا».
(1/98)
وأقتاب بطنه: يريد أمعاؤه، واحدها: قِتب -وقيل: قَتِيب- قال ابن التين: قافه مكسورة، وهي مؤنثة، تصغيرها: قتيبة، وعن الهروي: القتب: ما يجري من البطن، يعني: استدار، وهي الحوايا والمصارين؛ أي: تنصب أمعاؤه من جوفه، ويخرج من دبره بسرعة، ومنه دلق السيف واندلق: إذا خرج من غير أن يُسَل، وعند مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: «يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها»، وعند ابن وهب، عن زيد بن أسلم، عن علي مرفوعًا: «فبينما هم يجرونها إذ شردت عليهم شردة، فلولا أنهم أدركوها لأحرقت من في الجمع»، وفي «كتاب الغزالي»: «يؤتى بها تمشي على أربع قوائم، تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف حلْقة، لو جمع حديد الدنيا ما عدل منها حلْقة واحدة، على كل حلقة سبعون ألف زباني، فإذا انفلتت لم يقدر أحد على إمساكها لعظم شأنها، فيجثوا الناس على الركب، يقول كل واحد منهم: نفسي نفسي، فيتقدم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بأمر الله، فيأخذ بخطامها ويقول لها: ارجعي مدحورة إلى خلفك حتى يأتيك أفواجك، فتقول: خل سبيلي فإنك حرام عليَّ، فينادي مناد: اسمعي وأطيعي له، ثم تجذب، وتجعل شمال العرش وينجذب أهل الموقف [225/ب] بجذبتها فيخف وجلهم، فهو قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وهناك ينصب الميزان».
(1/99)
وفي
حديث إبراهيم بن هدبة، عن أنس يرفعه، فذكر حديثًا فيه: «يقول الله لها تكلمي،
فتقول: وعزتك لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك وعبد غيرك»، وفي حديث عبد الغني بن سعيد،
عن أبي سعيد الخدري: «أقبلت النار يركب بعضها بعضًا وخزنتها يكفونها، وهي تقول:
وعزة ربي، ليخلَّيَّن بيني وبين أزواجي، أو لأغشين الناس، فيقولون: مَن أزواجك؟
فتقول: كل متكبر جبار»، وعند الترمذي غريب: عن ابن عمر يرفعه: «لجهنم سبعة أبواب،
باب منها لمن سل السيفَ على أمتي». وفي «كتاب القرطبي»: «بين الباب والباب خمسمائة
عام، الأول اسمه جهنم، الثاني لظى، الثالث سقر، الرابع الحطمة، الخامس الجحيم،
السادس السعير، السابع الهاوية، على كل باب سبعون ألف جبل، في كل جبل سبعون ألف
شعب، في كل شعب سبعون ألف شق، في كل شق سبعون ألف واد، في كل واد سبعون ألف قصر،
في كل قصر سبعون ألف عقرب، لكل عقرب سبعون ألف ذنب، لكل ذنب سبعون ألف منقار، لكل
منقار سبعون ألف قُلة من سمٍّ، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء، فيطير سرادق
من عن يمين الثقلين وآخر عن شمالهم، وأمامهم وخلفهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك
جثوا على ركبهم».
بَاب صِفَةِ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ
(1/100)
قال أبو جعفر محمد بن جرير: كان الله جل وعز قد حسَّن خلقه، وشرفه، وكرمه وملكه على سماء الدنيا والأرض، وجعله مع ذلك من خُزَّان الجنة، فاستكبر على ربه، وادعا الربوبية، ودعا من كان [225/أ] تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله شيطانًا رجيمًا، وشوَّه خلقه، وسلبه ما كان خوله، ولعنه، وطرده عن سماواته في العاجل، ثم جعل مسكنه ومسكن شيعته وأتباعه في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله من غضبه، ثم ذكر من حديث حجاج عن ابن جريج: قال ابن عباس: كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلةً، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض. وعن ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة وشريك عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها. وعن ابن صالح، عن ابن عباس، ومرة عن عبد الله وغيرهما من الصحابة: إنما سمي قبيلة الجن؛ لأنهم خزان الجنة، وقال ابن جريج: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء: 29] لم يقل هذا إلا إبليس، وفيه نزلت هذه الآية، وكذا قاله قتادة. وعن ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم، وكان اسمه الحارث، وخلقت الملائكة كلهم من النور، غير هذا الحي، ومارج النار: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. وأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا، فبعث الله جل وعز إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن، فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقوهم بجزائر البحر وأطراف الجبال، فلما فعل ذلك اغتر في نفسه، وقال: قد صنعت شيئًا لم يصنعه أحد.
(1/101)
فأطلع
الله على ذلك من قبله، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، وقال الربيع بن
أنس: إن الله جل وعز خلق الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن [226/ب] يوم الخميس،
وذكر ابن مسعود وغيره أنه لما ملَّكَه سماء الدنيا وقع في صدره كِبْر، وقال: ما
أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة، وعن ابن عباس: كان اسمه عزازيل، وكان
من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، وفي كتاب «ليس» لابن خالويه: إبليس يكنى
أبا الكُردوس، ويقال: أبو مرة، ومن أسمائه أيضًا العِلب، والسفيه، والحارث، وأبلس
من رحمة الله تعالى أي: يَئِس، والإبلاس أيضًا: الانكسار والحزن. يقال: أبلس فلان:
إذا سكت عما قال، قال الراجز:
يا صاح هل تعرف رسْمًا مكرسًا قال: نعم أعرفه، وأبلِسًا،
وفي «تفسير» الماوردي: هو شخص روحاني، خلق من نار السموم، وهو أبو الشياطين، وقد
ركَّب فيهم الشهوات. وعن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس،
وكان من الجن الذين طردتهم الملائكة، وكان صغيرًا فتعبد مع الملائكة، فلما أمروا
بالسجود لآدم أبى هو من ذلك، قال أبو جعفر: وقيل: إن سبب هلاكه كان من أجل أن
الأرض كان فيها قبل آدم الجن، فبعث الله جل وعز إبليس قاضيًا بينهم فلم يزل يقضي
بينهم بالحق ألف سنة حتى سمي حكمًا، فسماه الله جل وعز به، وأوحى إليه أسمه، فعند
ذلك دخله الكِبْر فتعظم وألقى بين الذي كان بعثه إليهم حكمًا البأسَ والعداوةَ،
فاقتتلوا في الأرض ألفي سنة حتى إن خيولهم كانت تخوض في دمائهم وذلك قوله جل وعز:
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15] فبعث الله عند ذلك إليهم نارًا
فأحرقتهم، فلما رأى اللعين ما نزل بقومه عرج إلى السماء مجتهدًا في العبادة، حتى
خلق آدم. وفي «تفسير الجوزي»: [227/أ]
(1/102)
قسم
إبليس جنده فريقين، فبعث فريقًا منهم إلى الإنس، وفريقًا إلى الجن، وكلهم أعداء
لرسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وفي «كتاب الديباج» للخُتلي عن مجاهد:
كان إبليس على سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مكتوب في الرفيع الأعلى أن
الله جل وعز سيجعل في الأرض خليفة، وأنه ستكون دماء وأحداثًا، فوجده إبليس وقرأه
دون الملائكة، فلما ذكر الله أمر آدم للملائكة أخبرهم إبليس بما رأى، وأسر في نفسه
أنه لا يسجد له أبدًا، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فيهل مَن يُفسِدُ فيها ... }
الآية [البقرة: 30]. وفي «تفسير الماوردي»: هو روحاني، وهو أبو الشياطين، وفيهم
شهوة مركبة مشتق من الإبلاس، وهو الإياس من الخير.
قال البخاري: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ {يُقْذَفُونَ} [سبأ: 53] يُرْمَوْنَ)، هذا
التعليق ذكره أبو جعفر عن الحارث؛ قال حدثني الحسن، حدثنا ورْقاء، عن ابن أبي
نَجِيح، عن مجاهد به.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ {مَدْحُورًا} [الأعراف: 19] مَطْرُودًا)؛ قال
أبو جعفر: الدحور: مصدر من قولك: دحرته، أدحره، دحرًا ودحورًا، والدَّحر: الدفع
والإبعاد، يقال منه، ادحر عنك الشيء؛ أي: ادفعه عنك وأبعده، وفي «تفسير عبد بن
حميد» عن قتادة: دحورًا، قال: قذفًا في النار.
3268 - حديث عائشة في السحر تقدم الكلام عليه في كتاب الوقف [ح: 3175]، وذكره في
هذا الباب للعلم بأن السحر من تعليم الشياطين. [خ 3268]
3269 - 3270 وحديث: (يَعقِدُ الشَّيطَانُ). وحديث: (رَجُلٌ نَام). [خ 3269 - 3270]
3272 - وحديث (إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ)، قال في أوله: (حَدَّثَنَا
مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ)، قال أبو نعيم وأبو علي هو ابن سلام. [خ 3272]
3274 - وحديث: (إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ شَيءٌ). [خ 3274]
(1/103)
3284
- 3285 - 3291 - وحديث [227/ب] (صَلَّى صَلاةً)، وحديث (إِذَا نُودِيَ
بِالصَّلاةِ)، وحديث (الالتفات): تقدم ذكرها في كتاب الصلاة [ح: 461 و 608 و 751].
[خ 3284 - 3285 - 3291]
3295 - وحديث (إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ)، وحديث (إذا أتى أحدكم أهْلَه):
تقدما في الطهارة، وحديث (وكَّلَني بِحفْظِ زَكَاة الفِطْر) تقدم في الوكالة [ح:
2311]، وحديث (إذَا دَخَلَ رمَضَانُ) تقدم في الصوم [ح: 1899]، وحديث (لَا
تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُم) يأتي في الاستئذان إن شاء الله تعالى [ح:
6293]، وحديث (آتِنَا غَدَاءَنا): تقدم [ح: 74]، وحديث صفية: تقدم في الصوم [ح:
2035]، وحديث (عمار): لا يحتاج إل في الأصل: «بحفض».
ى كلام لظهور معناه، وحديث (حذيفة): يأتي في المغازي. [خ 3295]
3276 - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ
ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: يَأْتِي
الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى
يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ،
وَلْيَنْتَهِ). [خ 3276]
(1/104)
وخرجه
أيضًا في الاعتصام عن أنس [ح: 7296]، وعند مسلم: «لا يزال الناس يسألون حتى
يقولوا: هذا خلْقُ الله، فمن خلق الله؟»، وفي رواية: «فليقل آمنت بالله»، وعند أبي
داود: «فإذا قالوا ذلك، فيقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن
له كفوًا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعِذ بالله من الشيطان»، وقال
الخطابي: وفي رواية محمد بن سيرين عنه زيادة لم يذكرها أبو عبدالله، لا يُستغنَى
عنها في بيان معنى الحديث حدثناها ابن السماك، حدثنا عبدالملك بن محمد الرَّقَاشي،
حدثنا عامر العقدي، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا يزال الناس يسألون حتى يقولوا: هذا
الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟»، قال أبو هريرة: فقد سُئِلَت عنها مرتين، وحدثنا
ابن السماك [228/أ]
أخبرنا محمد بن سليمان الواسطي، حدثنا مُعَلَّى بن أسد حدثنا وهيب عن أيوب عن محمد
عن أبي هريرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا يزال الناس يسألون
عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟»، فبينما أبو هريرة ذات يوم
آخذ بيد رجل وهو يقول: صدق الله ورسوله، قال أبو هريرة: لقد سألني عنها رجلان وهذا
الثالث، قال أبو سليمان: وجه هذا الحديث: ترك التفكير فيما يخطر في القلب من وساوس
الشيطان، والامتناع عن قبولها، والكف عن مجاراته في ذلك، وحسم المادة في ذلك
بالإعراض عنه والاستعاذة بذكر الله جل وعز، ولو أذن صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
في مراجعته والرد عليه لكان الأمر على كل موحد سهلًا؛ وذلك أن جوابه متلقى من
سؤاله، وذلك أنه إذا قال ما تقدم، فقد نقض بأول كلامه آخره؛ لأنه يلزم منه أن
يقال: ومن خلق ذلك الشيء، ولامتدَّ القول في ذلك إلى ما لا يتناهى، والقول بما لا
يتناهى فاسد، فسقط السؤال من أصله.
(1/105)
3280 - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أَوْ قَالَ جُنْحُ اللَّيْلِ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ جَلَّ وعَزّ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ، وَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ وَلَوْ أن تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا)، هذا الحديث خرَّجه الستة، وعند أبي عيسى: «فإن الشيطان لا يفتح غُلقًا، ولا يحِلُّ وكاءً، ولا يكشف آنية، وإن الفويسقة تضرم على الناس [228/ب]
(1/106)
بيتهم»، وفي حديث ابن عمر عند البخاري: «لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون» [ح: 6293]، قال ابن العربي: هذا من القدرة التي لا يؤمن بها إلا من وحد الله؛ وذلك أن الشيطان يتصرف في الأمور الغريبة ويتولج في المسام الخفية، فيعجزه الذكر عن حل الغَلَق وشبهه، وفي رواية: «فإن النار عدوٌ». قوله: (جُنْحُ) قال ابن سيدَهْ: جنح الليل يجنح جنوحًا: أقبل، وجُنْحُه: جَانِبُه، وقيل: قطعة منه نحو النصف، وعند القاضي: (إذا اسْتَجنَحَ) أو قال (جُنْحُ) كذا لكافتهم، وعند النسفي وأبي هيثم والحموي: (إذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيلِ)، ويقال معنى (جُنْحُ): مال، وعند ابن التين: (جُنْحُ اللَّيلِ) أول ما يظلم، وقوله: (فَكُفُّوا).
(1/107)
وفي
رواية: «فاكفتوا صبيانكم»: أي: ضموهم إليكم واقبضوهم، وكل شيء ضممته فقد كفته،
ومعناه: امنعوهم من الخروج في ذلك الوقت، وقال أبو الفرج: إنما خيف على الصبيان؛
لأن النجاسة التي يلوذ بها الشيطان موجودة معهم، الثاني: الذكر الذي يستعصم به
معدوم عندهم، والشياطين عند انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به، فإذا ذهبت
اشتغل كل منهم بما اكتسب، ومضى إلى ما قدر له التشاغل به، وفي رواية: «لا ترسلوا
فَواشِيكُم وصبيانكم إذا غابت الشمس»، والفَواشِي: كل شيء منتشر من المال، كالإبل
والبقر وسائر البهائم وغيرها، جمع فاشية؛ لأنها تَفشُوا، أي: تنتشر، قال ابن
الأعرابي: أفشى وأمشى وأوشى بمعنى واحد، إذا كثرت مواشيه، قال ابن العربي:
الشياطين تستعين بالظلمة، وتكره النور، وتتشاءم به؛ لأن الله تعالى أظلم قلوبها،
وفي رواية: «فإذا ذهب فَحْمَة العشاء» -بسكون الحاء المهملة وفتح الفاء- شدة
[229/أ] سوادها وظلمتها، وزعم بعضهم أنه أراد أول ظلامها، ويقال للظلمة التي بين
صلاتي المغرب والعشاء: فَحْمَة، والتي بين العشاء والفجر: عَسْعَسَة، قوله:
(أَغْلِقْ بَابَكَ): رباعي، والباب مغلق ولا يقال مغلوق، قال أَبو الأسود الدؤلي
يصف نفسه بالفصاحة: [خ 3280]
ولا أَقولُ لقِدْرِ القوم قد غَلِيَتْ ولا أَقولُ لباب الدَّار مَغْلوقُ
(1/108)
وفي رواية: «أجِيفُوا»: وهو بمعنى الأول، «تَضْرِم»: أي تلهب وتحرق، يقال: ضرِمت النار: -بكسر الراء- وتضرَّمت، واضطرمت، وأضرمتها أنا وضرَّمتها تشدد للمبالغة، وهو عام يدخل فيه نار السِّراج وغيره. فأما القناديل المُعلَّقة فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأكثر بالإطفاء وإن أمن ذلك كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بها؛ لانتفاء العلة، وذكر ابن العربي: أن سبب قوله هذا أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صلى على خمرة فجرت الفتيلة الفأرة. فأحرقت من الخمرة قدر الدرهم؛ (فقالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ... ) الحديث. والإيكاء: الشَّد، والوِكَاء: اسم ما يشد به فم القُرْبة، وهو ممدود مهموز، فلذلك يجب أن يكون رباعيًا، وتخمير الإِنَاء: تغطيته، و (تَعرُضُ) -بضم الراء وكسرها- يقال: عَرَضت الشيء أعرِضه -بكسر الراء- قول الأكثرين، والأصمعيُّ يضمه وكذلك يعقوب، في رواية: «عودًا»، وذلك عند عدم ما يجد ما يغطيه به، وهو مطلق في الآنية التي فيها شراب أو طعام. روى الأعمش، عن أبي صالح وأبي سفيان، عن جابر قال: جاء أبو حُمَيد بِقدَح لبن من النَّقِيع، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ألَا خَمَّرْتَه» [ح: 5605]، وفيه فوائد: الأول: صيانته من الشيطان ومن [229/ب]
(1/109)
الوَبَاء
الذي ينزل في ليلة من السنة، كما جاء في الحديث عند أبي داود: «إن في السنة ليلة،
-وفي رواية: يومًا- ينزل وباء فلا يمر بإناءٍ ليس عليه غطاء أو بشيء ليس عليه
وِكَاء إلا نزل فيه ذلك الوباء»، قال الليث بن سعد: والأعاجم يتقون ذلك في كانون
الأول، وفيه أيضًا صيانته من النجاسات و غيرها من الحشرات والهوامِّ، وقد قال أبو
حُمَيد: «إنما أُمِرنا بالأسقية أن تُوكَأ ليلًا وبالأبواب أن تُغلَق ليلًا»، قال
محي الدين: وهذا التخصيص ليس في لفظ الحديث ما يدل عليه، والمختار عند الأصوليين
وهو مذهب الشافعي: أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة ولا يلزم
غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره، وأما إذا كان في ظاهر الحديث ما يخالفه فإن
كان مجملًا رُجع إلى تأويله ويجب الحمل عليه؛ لأنه إذا كان مُجملًا لا يحل له
حملُه على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي عندنا، والأمر
بتغطية الإناء عام فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي بل يتمسك بالعموم. انتهى.
وفيه نظر من حيث أن أبا حُميد قال: «إنما أمرنا»، وهذا رواية لا تفسير، قال محي
الدين: رواية أبي حُميد، والرواية الأخرى: «وأنه يَنزلُ في يوم من السنة وباءً»،
لا منافاة بينهما، إذ ليس في أحدهما نفيٌ للآخر، فهما ثابتان، قال القرطبي: جميع
أوامر هذا الباب من باب الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية، لقولهتعالى: {وَأَشْهِدُوا
إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وليس على الإيجاب وغايته أن يكون من باب
النَدْب، بل قد جعله كثير من الأصوليين قسمًا منفردًا بنفسه عن الوجوب والنَدْب،
وينبغي للمرء امتثال أمره صلى الله عليه [230/أ] وسلم فمن امتثل سلِم من الضرر
بحول الله وقوته، فمتى -والعياذ بالله- خالف إن كان عِنادًا خُلد فاعله في النار،
وإن كان عن خطأ أو غلط فلا يحرم شرب ما في الإناء أو أكله.
(1/110)
3282
- (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ
ثَابِتٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، وأَحَدُهُمَا احْمَرَّ
وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ؛
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، فَقَالُوا لَهُ:
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ كذا وكذا، فَقَالَ: وَهَلْ
بِي جُنُونٌ). [خ 3282]
قال ابن بطَّال: الاستعاذة من الشيطان تذهب الغضب، وذلك أن الشيطان هو الذي يزين
للإنسان الغضب، وكل ما لا تحمد عاقبته، فالاستعاذة بالله من أقوى السلاح على دفع
كيده، وقد قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في حديث أبي ذرٍّ: «إذا غضبَ أحدكم وهو
قائم فليجْلِس، فإن ذهب عنه، وإلا فليضَّجِع». وفي حديث عطية قال صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تُطفَئ النار
بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». وعن أبي الدرداء: أقرب ما يكون العبد من غضب
الله جل وعز إذا غضب. وقال بكر بن عبد الله: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم. وفي
بعض الكتب: قال الله تعالى: «ابنَ آدم اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ».
وفي كتاب «الترغيب» للجوزي عن معاوية بن قُرَّة، قال: قال إبليس: أنا جمرة في جوف
ابن آدم إذا غضب حمَّيتُه، وإذا رضي منَّيتُه.
(1/111)
ولما
قال عثمان [230/أ] بن أبي العاصي: «يا رسول الله، أوصني قال: لا تغضب، فأعاد عليه
فقال: لا تغضب»، قال عثمان: فنظرت فإذا رأس كل شر الغضب، وقال الحسن: ابن آدم كلما
غضبت وثبت أوشك أن تثب وثبة تقع منها في النار. و (الأَوْدَاجُ): جمع ودَج، وإنما
هما ودَجَان، وهما العِرقان اللذان يقطعهما الذابح، وذكرهما بلفظ الجمع كقوله جل
وعز: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْشَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] أو لأن كل قطعة من الودَج
تسمى ودَجًا كما جاء في الحديث: «أَزَجُّ الحواجِب».
وقول الرجل: (أَبِي جُنُون؟) يحمل على أنه كان من جُفاة العرب، أو ممن لم يتفقه في
الدين أو من المنافقين. ذكره عبد العظيم.
3286 - وذكر حديث: الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: (كُلُّ بَنِي آدَمَ
يَطْعُنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى
ابنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ فِي
الْحِجَابِ)، وفي موضع آخر: من حديث خِلَاس عنه: «كل بني آدم قد طعن الشيطان فيه
غير عيسى بن مريم وأمه، حين ولدا، جعل الله دون طعنته حجابًا فأصاب الحجاب، ولم
يصبهما»، وفي لفظ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ
حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا
مَرْيَمَ وَابْنَهَا»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ:
{إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل
عمران: 36] [ح: 4548]. [خ 3286]
قال القرطبي: يشعر الشيطان بالتمكُّن والتسلُّط، فمنعهما الله منه ببركة دعوة
أمِّها حنة بنت فاقود امرأة عمران بن حاثان حين قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36].
(1/112)
وذكر
عبد الرزاق في «تفسيره» شيئًا ينظر فيه؛ وهو أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس، سمع
وهْب بن منبه يقول: لما ولد عيسى أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحَت [231/أ]
الأصنام منكسة. فقال: هذا حادث، مكانكم. وطار -لعنه الله- حتى بلغ خافقي الأرض فلم
يجد شيئًا، ثم جاء البحار فلم يقدر على شيء، ثم طار فوجد عيسى قد ولد عند مزود
حمار، وإذا الملائكة قد حَفت به، فرجع إليهم؛ فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، وما
حملت أنثى ولا وضعت قط إلا وأنا بحضرتها إلا هذِه، فأيِسُوا من أن تعبد الأصنام
بهذِه البلدة.
وفي «تفسير» عبد عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لولا
أنها قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا} [آل عمران: 36] إذن لم يكن
لها ذرية. قال محيي الدين: هذه فضيلة ظاهرة لسيدنا عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وأمه، و أشار القاضي إلى أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه
يشاركونه في ذلك، ولما ذكر القرطبي قول قتادة: لما أراد أن يطعن جعل بينهما حجاب
فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لهما منه شيء. قال: قال علماؤنا: وإن لم يكن كذلك
لبطلت الخصوصية، ولا يلزم من نخسه إضلال الممسوس وإغواؤه، فإن ذلك ظن فاسد فكم
تعرَّض الشيطان لخواصِّ الأولياء بأنواع الإغواء والفساد ومع ذلك فعصمهم الله
بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، وزعم أبو
الفرج أن (الحِجَاب) المذكور هنا: المشيمة.
(1/113)
3288
- قال البخاري: (وَقَال اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِلالٍ، عن أَبي الأَسْوَدِ ... ) فذكر حديث نزول الملائكة في
العَنَان، المتقدم في بدء الخلق [ح: 3210]، عن سعيد بن أبي مريم عن الليث عن عبيد
الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود، وحديث الليث عن خالد رواه أبو نُعيم [231/ب] عن
سليمان، حدثنا بجالة بن سعيد حدثنا عبدالله بن صالح حدثنا الليث، حدثني خالد عن
سعيد به، قال أبو نعيم ذكره أبو عبدالله بلا رواية، ويقال أن سماعه من عبدالله بن
صالح عن الليث فعدل عن ذكره وتسميته. [خ 3288]
3292 - وذكر حديث أبي قتادة: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، وَالحُلُمُ
مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ
عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لَا
تَضُرُّهُ)، وفي مسلم: «إذا رأى أحدكم ما يحب، فلا يحدِّث بها إلا من يحب، وإن رأى
ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثًا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يحدث بها
أحدًا فإنها لا تضره»، وعند النسائي: «إذا رَأَى أحدُكم الشيءَ يعجبُه فليعرِضْهُ
على ذي رأي ناصحٍ، فليُؤَوِّل خيرًا وليقل خيرًا». وخرجه البخاري أيضًا من حديث
أبي سعيد الخدري بنحوه [ح: 7045]، ومسلم من حديث جابر بلفظ: «إذا رأى أحدكم الرؤيا
يكرهها، فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثًا، وليتحول
عن جنبه الذي كان عليه». قال أبو الفرج: (الرُّؤْيَا والحُلْمُ) بمعنى واحد، لأن
(الحُلْم) ما يراه الإنسان في نومه، غير أن صاحب الشرع صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ خص الخير باسم (الرُّؤْيَا)، والشر باسم (الحُلْم)، ولام «الحُلْم) ساكنة
ومضمومة. انتهى. [خ 3292]
أنشد صاحب «الباهر»:
أرؤيا ما رأيت أم أحلام؟
ويروى: أحق ما رأيت؟
(1/114)
قال
القرطبي: وهو مصدر حَلَمت -بفتحتين- ويُجمع على أحلام في القِلة، والكثير حُلُوم،
وإنما جمع وإن كان مصدرًا لاختلاف أنواعه، وهو في الأصل عبارة عما يراه الرائي في
منامه حسنًا كان أو مكروهًا، وإضافته إلى الله جل وعز [232/أ]
إضافة اختصاص وإكرام؛ لسلامتها من التخليط وطهارتها عن حضور الشيطان؛ لكونها
مكروهة. وقيل: لأنها لا توافق الشيطان ويستحسنها لما فيها من شَغل بال المسلم لا
أن الشيطان يفعل شيئًا، ولا خالق إلا الله.
وقوله: (فَإِذَا حَلَمَ) -هو بفتح اللام- وقوله: (فَلْيَبْصُقْ) يريد: زجرًا
للشيطان بذلك كرمي الجِمار، قال الطبري: كما تتفل عند الشيء القذر تراه؛ ولا شيء
أقذر من الشيطان. وذكر الشِّمال؛ لأن العرب عندها أن تأتِّي الشر كله من قبل
الشمال، ولذلك سمتها الشُّؤمى، وكانوا يتشائمون مما جاء من قبلها من الطير. وأيضًا
فليس فيها كبير عمل ولا بطش ولا أكل ولا شرب. انتهى.
لقائل أن يقول: الشيطان تسليطه على قلب ابن آدم إنما هو من جهة الشمال، ولهذا
شواهد في الحديث كثيرة، فيكون التفلُ عليه حقيقة.
قال القرطبي: الرؤيا الثانية: هي التي تكون عن حديث النفس وشهواتها، ولا التفات
إليها، وكذلك الثالثة: فإنها تحزين وتهويل وتخويف يدخله الشيطان على الإنسان؛
ليشوش عليه في اليقظة.
وقد يجتمع هذان الشيئان، أعني: هموم النفس والتياث الشيطان، وهذا النوع هو المأمور
بالاستعاذة منه؛ لأنه من تخيلاته، فإذا فعل المأمور به صادقًا أذهب الله عنه ما
أصابه من ذلك، وتحوله إلى الجانب الآخر؛ ليكمل استيقاظه وينقطععن ذلك الم في
الأصل: «فليؤل»، والمثبت من النسائي.
في الاصل: «يقع»، والظاهر أن الصواب ما أثبت، والله أعلم.
نام المكروه، والله تعالى أعلم، وسيأتي له تكملة في الرؤيا [ح: 6984].
(1/115)
3294
- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ
الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ عن [232/ب] أَبيه: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ
وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ
قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ:
أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ
اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، قَالَ
عُمَرُ: أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ
عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا
إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ). [خ 3294]
في هذا السند أربعة تابعيون، بعضهم عن بعض؛ صالح بن كيسان فمن بعده.
ورواه النسائي فنزل نزولًا كثيرًا، رواه عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب
بن الليث عن أبيه عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن إبراهيم بن سعد عن صالح.
(1/116)
قوله:
(يَسْتَكْثِرْنَهُ): يعني: يطلبن كثيرًا من كلامه وجوابه، ويحتمل أنهن يسكثرنه من
العطاء، بيَّن ذلك ابن التِّين فقال في بعض الروايات: «أنَّهُنَّ يُرِدْنَ
النَّفَقَة»، وعُلوُّ أصواتهن يحمل على أنه قبل النهي عن رفع الصوت، أو يحتمل أنهن
لاجتماعهن حصل لغط من كلامهن أو يكون فيهن من هي جَهِيرة الصوت؛ كنعيم النحام أو
يحمل على أنهن لما علمن عفوه وصفحه تسمَّحن في رفع الصوت.
والفَظَاظَة والغِلَظ: بمعنى، وهي عبارة عن شدة الخُلُق وخشونة الجانب، و (أَفَظُّ
وَأَغْلَظُ) ليسا للمفاضلة، بل بمعنى فظٌّ غليظ. وقيل: يصح حملها على المفاضلة،
وأن القدر الذي بينهما في النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو ما كان من إغلاظه
على الكفار والمنافقين قال [233/أ] تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. وفيه: فضيلة لين الجانب والرِّفْق، والفَجُّ:
الطريق الواسع، وقيل: هو الطريق بين الجبلين. قال عياض: يحتمل أنه ضرب مثلًا لبعد
الشيطان وأعوانه عن عمر، وأنه لا سبيل لهم عليه.
بَاب ذِكْرِ الْجِنِّ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ لِقَوْلِهِ جل وعزَّ {يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِي ... } الآية [الأنعام: 130]
(1/117)
قال
الثعلبي: قرأ الأعرج وابن أبي إسحاق: {تَأتِكُم} -بالتاء- الباقون: بالياء،
واختُلف في الجن هل أرسل إليهم رسول أم لا؟ فقال عبيد بن سليمان: سُئِلَ الضحاك عن
الجن هل كان فيهم مؤمن قبل أن يبعث النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فقال: ألم
تسمع قول الله جَلَّ وعَزَّ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] يعني: رسلًا من الإنس ورسلًا من الجن،
وقال الكلبي: كانت الرسل قبل مبعث سيدنا رسول الله يبعثون إلى الجن والإنس جميعًا،
وقال مجاهد: الرسل من الإنس والنُّذُر من الجن، ثم قرأ: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]؛ يعني أن الجن يستمعون دينهم من الرسل، ويبلغونه إلى
سائر الجن، وهم النُّذُر، كالذين استمعوا القرآن فبلغوه قومهم، فهم رسل إلى قومهم.
وقال أهل المعاني: لم يكن من الجن رسول، وإنما الرسل من الإنس خاصة، وهذا كقوله:
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من
الملح دون العذب. وذكر علي بن حمزة في كتاب «التنبيهات»: أن المرجان يخرج أيضًا من
العذب، فينظر. وفي «تفسير القرآن العظيم» لقوام السنة: إسماعيل بن محمد بن الفضل
الجوزي: قال قوم: في الجن رسل، مستدلين بالآية الكريمة، وقال [233/ب]
أكثر أهل العلم: الرسل من الإنس، ومن أولئك النُّذُر، وقيل: إن من الجن شياطين ومن
الإنس شياطين، فإذا عَيِيَ شيطان الجن من المؤمنين استعان بشيطان الإنس عليه.
يؤيده هذا ما رواه أبو ذر قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يا أبا
ذر، هل تعوَّذْت بالله من شياطين الإنس والجن؟ قلت: وهل للإنس شياطين؟ قال: نعم،
وهي شر من شياطين الجن».
وأما مقاتل بن سليمان فلم يذكر في «تفسيره» غير ما في الآية الكريمة، وفي «تفسير»
الضحاك الكبير: أرسل إلى الجن نبيٌ اسمه يوسف.
(1/118)
وفي
مسند البزار في: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بُعثتُ إلى الجن
والإنس». وقال الزَّجَّاج: قوله: {رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130]؛ لأن الجماعة
تعقل وتخاطب، فالرسل هم بعض من يعقل. واختلف في مؤمنهم: هل يدخل الجنة أم لا؟
فالشافعي وغيره ذهبوا إلى أنهم يدخلون الجنة، استدلالًا بقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ
دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] بعد ذكره الجن والإنس، وبقوله تعالى:
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وبقوله تعالى: {لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] قالوا: فلو لم يدخلوا
الجنة لما قال هذا. وأما أبو حنيفة: فعنه روايتان: الأولى: أنه تردَّد، وقال: لا
أدري أين مصيرهم. الثانية: قال: يصيرون يوم القيامة ترابًا؛ لقوله عزَّ وجلَّ:
{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31].
قال القرطبي: قال عمر بن عبد العزيز والزهري والكلبي ومجاهد: مؤمنو الجن في رُبض
ورياض جانب الجنة وليسوا فيها. واختلف فيهم أيأكلون حقيقة أم لا؟ فزعم بعضهم أنهم
يأكلون ويغتذون بالشم. ويرد هذا ما في الحديث: «يصير العظم كأوفر ما كان لحمًا
وشحمًا، وكذلك الروث لدوابهم»،، ولا يصير كذلك إلا للآكل حقيقة، وهو المرجح عند
[234/أ] جماعة العلماء. ومنهم من قال: هم طائفتان: طائفة تشم، وطائفة تأكل.
قال البخاري: (قَال مُجَاهِدٌ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا}
[الصافات: 158]، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ جلَّ
وعزَّ، وَأُمَّهَاتُهُنَّ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الْجِنِّ).
(1/119)
هذا
التعليق رواه محمد بن جرير عن محمد بن عمرو حدثنا أبو عاصم حدثنا عيسى بن جريج عنه
بزيادة: «فقال أبو بكر: من أمهاتهن؟ فقالوا: بنات سرَوَات الجن، يحسبون أنهم خلقوا
مما خلق منه إبليس»، وفي «تفسير عبد بن حميد»: الجِنَّة بطن من بطون الملائكة؛
رواه عن رَوح عن شبل عن ابن أبي نَجيح عنه، وفي «تفسير الطبري»: وعن قتادة: قالت
اليهود لعنهم الله: إن الله جَلَّ و عَزَّ تزوج إلى الجن فخرج منها الملائكة.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا}
[الصافات: 158] زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى وإبليس إخوان، رواه عن محمد بن
سعد: حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه عنه.
3296 - حديث أبي سعيد تقدم في الأذان [ح: 609]. [خ 3296]
بَاب
لم يذكر فيه إلا قَوْله جَلَّ وَعَزَّ {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ
الْجِنِّ} الآية [الأحقاف: 29].
قرأت على الإمام مجد الدين إبراهيم بن علي بن أبي طالب عن الحافظ المنذري عن
الإمام صدر الدين البكري، قال: كتب إلينا الحافظ أبو يزيد السُّهَيلي، وأنبأنا به
عاليًا: ابن عجلان عن ابن السراج عنه، قال: قوله جل وعز: {وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] يقال: هم جن نَصِيبِينَ، ويروى: جن
الجَزيرة.
(1/120)
وروى
ابن أبي الدنيا أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال في هذا الحديث، وذكر فيه
جن نَصِيبِينَ، فقال: «رفعت إليَّ حتى رأيتها فدعوت الله جل وعز أن يكثر مطرها
[234/ب] وينضر شجرها ويعذب نهرها»، ويقال: كانوا سبعة وكانوا يهود فأسلموا، ولذلك
قال: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] وهم: سامر، وماصر، وميشا،
وماشي، والأحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم: عمرو بن جابر؛ ذكره ابن سلام
في «تفسيره» عن ابن مسعود، ومنهم: زوبعة؛ ذكره ابن أبي الدنيا. ومنهم: سِرف. وفي
«تفسير عبد»: كانوا من نينوى، وافوه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بنخلة، وقيل:
بشِعب الحُجون.
بَاب قَوْلِ اللهِ جل وعز: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]
قال المسعودي: ما كان له نفس، ويقال: إن في البحر ستمائة أمة وفي البر أربعمائة،
وأول ما يهلك منها الجراد. وذكر أن عمر بن الخطاب أبطأ عليه الجراد سنة من السنين
فخاف الساعة، فأرسل البُرُد في الآفاق حتى أتى بشيء منه فسكن جأشه.
قال البخاري: (قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ الْحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا)،
ذكر الطبري في «تفسيره»: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج عن أبي بكر بن
عبدالله عن شهْر بن حوشب عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ
مُبِينٌ} [الأعراف: 107]. يقول مبين: له خلق حية.
قال البخاري: (يُقَالُ الْحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ الْجَانُّ وَالْأَفَاعِي
وَالْأَسَاوِد)
قال ابن خَالوَيهِ: ليس في كلام العرب اسم الحيات وصفاتها، إلا ما أذكره:
(1/121)
الحبوت،
المصِن، المَسلت، الشجاع، الأرقم، ابن فترة، الأسود، أسود شالخ، الجارية،
الطريفانة، الأفعى، الأفعو، الأفعوان، والحُضاب، والأبتر، والأعيرج، والأصلة،
والصَّل، والدساس، والمرعامة، والمرعافة، والجاث، والجِنَّان، والجأنُ -بالهمز-
والثعبان، والشيطان، والنكار، والأيْم، والأيِّم [235/أ]،والأين، والأيِّن،
والحباب، والجريش، والحريس، والأصم، والقصيري، وقصيري، وقصري، قبال، والعثمان،
والرقطا، والخنفس، والحُرف، والجراف، والجِعْب، وذو الطرتين، وذو الطفنين، والحصب،
والقرة، والعربدُّ، والأرقش، والجرشُب، والخُرْشُب، والمروس، والأصيلة، والخرسا،
والخشاش، والنضناض، والنهديَّة، والجرارة، والطلْع، والطِل، وابنة الجَبل،
والعرفج، والصُميلة، والفاعوس، والدَّودَمِسْ، والعِوار، والطوط، والغُريرا،
والرتلاء، والريلا، والعرمل، والصميل، والمَرسِن، والطِلع، والهَدْعَل، والدُّحة،
والدُحلَّة، والنَّحة، والعمَّة، والكلثور، والداخس، والسهبلة، والرقشاء.
وذكر الجاحظ أيضًا أن الحياتِ أنواع، فمنها: المكللة الرأس طولها شبران إلى ثلاثة
ورأسها حاد، وعيناها حمراوان، ولونها إلى سواد وصفرة، تحرق كل ما ينساب عليهاـ ولا
ينبت حول جحرها شيء، وإن حاذى جُحْرها طائر سقط، ولا يحس بها حيوان إلا هرب، فإن
قَرَّب منها خدِر ولم يتحرك، وتقتل بضفيرها، ومن وقع عليه نظرها مات، ومن نهشته
ذاب بدنه وانتفخ وسال صديدًا، ومات في الحال، ومات كل من قرب من ذلك الميت من
الحيوان، فإن مسها بعصا هلك بواسطة العصا، ولقد قيل: إن رجلًا طعنها برمح فمات هو
ودابته.
قال رحمه الله: وهذا الجنس كثير ببلاد الترك، وإنما تقتل من بُعد بسم ينفصل من عين
(1/122)
3297
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ
أخبرنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أبيه أَنَّه سَمِعَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
(اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ، وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ،
فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ وَيسْقِطَانِ الْحَبَلَ). [خ 3297]
3298 - وفيه: قال أبو لبابة: (نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ البُيُوتِ، وَهِيَ
العَوَامِرُ). [خ 3298]
3299 - (وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ
زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ). [خ 3299]
هذا التعليق عن عبد الرزاق؛ رواه مسلم في صحيحه عن عبد بن حميد عنه.
قال البخاري: (وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَابنُ عُيَيْنَةَ وَالزُّبَيْدِيُّ).
يونس حديثه عند مسلم، وكذا ابن عيينة وَالزُّبَيْدِيُّ.
قال البخاري: (وَقَالَ صَالِحٌ وَابنُ أَبِي حَفْصَةَ وَابنُ مُجَمِّعٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ: رَآنِي أَبُو أمامة وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ).
حديث صالح خرجه مسلم، وعند الترمذي: «يلتمسان البصر ويُسقطان الحبل»، وقال ابن
المبارك: إنما يكره من قتل الحيات الحية التي تكون دقيقة كأنها فضة، ولا تلتوي في
مشيها. وعند أبي داود من حديث عائشة: «اقتلوا الجِنَّان كلَّهن، فمن تركهن خيفة
ثأرهن فليس مني». وعن أبي هريرة: ما سالمناهن منذ حاربناهن.
و (الْحَيَّاتُ) جمع حية يقع على الذكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء؛ لأنه واحد
كدجاجة. وقد روي عن العرب: رأيت حيًّا على حيًّة. أي: ذكرًا على أنثى.
قال قائل: فإذا رأيت في البيت حية ليست بتراء، ولا بذي طفيتين فقتلها، وقد جاء
النهي عن قتل جِنَّان البيوت، أفآثَم؟
(1/123)
فالجواب:
إن قتل جِنَّان البيوت لا يجوز إلا بعد الإيذان [236/ب] بالقتل، ماعدا الأبتر
والطفيتين، فإنهما يقتلان من غير إيذان، وقد دل على إيذان باقي الحيَّات: حديث أبي
سعيد من عند مسلم: «إن لهذِه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئًا فحرجوا عليه
ثلاثًا، فإن ذهب، وإلا فاقتلوه؛ فإنه كافر».
والمراد بـ: (الْعَوَامِرُ) الجن، يقال للجن عوامر البيت وعُمَّار، والمراد: طول
لبثهن في البيوت، مأخوذ من العُمر، وهو طول البقاء. والتحريج: هو أن يقول لها: أنت
في حرج؛ أي: في ضيق إن عدت إلينا. فأما في الصحاري والأودية فيقتل من غير إيذان؛
لعموم قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ... »،
فذكر منهن الحية. وفي لفظ: «من تركهن مخافة شرهن فليس منا».
وقال القرطبي: الأمر بقتلهما من باب الإرشاد إلى دفع المضرَّة المخوفة من الحيات
فما كان منهما متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، كما أرشد إليه: (اقْتُلُوا
الحَيَّاتِ، وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ) خصهما بالذكر مع
دخولهما ونبه على أن ذلك بسبب عظم ضررهما. وقد بيَّن ابن عباس سبب العدَاوة بيننا
وبين الحية.
فذكر الطبري من حديث أبي صالح عن ابن عباس وغيره، ومن حديث سلمة عن ابن إسحاق، عن
ليث، عن طاوس عنه؛ أن عدو الله إبليس عرض نفسه على دواب الأرض أيها يحمله حتى يدخل
الجنة فكل الدواب أبى ذلك، حتى كلم الحية فقال لها: أمنعك من بني آدم وأنت في
ذمتي، إن أنت أدخلتني الجنة. فأدخلته. قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها، اخفروا
ذمة عدو الله.
و (ذُو الطُّفْيَتَيْنِ) ضرب من الحيات، في ظهره خطان أبيضان، وبهما عُبر عنه بـ:
(ذِي الطُّفْيَتَيْنِ)، والطُّفية -بضم الطاء- أصلها: خوص المقل، فشبه الخط الذي
على ظهر هذه الحية به، وربما قيل لهذه الحية: طُفية، على معنى ذات طفية، وقد
[237/أ]
(1/124)
يسمى
الشيء باسم ما يجاوره. قال عياض: هما نقطتان. قال الخليل: (ذُو الطُّفْيَتَيْنِ)،
حيَّة خبيثة. وأما (الأَبْتَرَ) فذكر النَّضر بن شميل: أنه صنف أزرق مقطوع الذنب،
ولا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. وقيل: (الأَبْتَر) الأفعى يفر من كل
أحد، ولا يراه أحد إلا مات. فيما ذكره أبو الفرج.
قال ابن التين: هي من شرار الحيات، وعن الداودي: هي التي تكون قدر شبر أو أكثر
شيئًا، وقلما تكون في البيوت.
وفي لفظ: «لا تقتلوا الحيات إلا كل أبتر ذي طُفْيتين»؛ وظاهره يقتضي أنهما واحد،
وأكثر الروايات، كما سبق من التفرقة، وإنما أمر بقتلهما لأن الجن لا يتمثل بهما،
على هذا أدخل البخاري حديث ابن عمر في هذا الباب، و (الجِنَّان) الحيات الطوال
البيض. وقلما تضر، فلذلك أمسك عن قتلها. وقال ابن فارس: حية صغيرة، و «يلتَمِسان»،
ويروى: (يلتَمعَان، ويخْطِفان البَصَر)
قال القرطبي: أي يخطفانه، وظاهره أن هذين النوعين، لها من الخاصية ما ذكره صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عنهما، وهو غير بعيد.
(1/125)
3300 - حديث أبي سعيد: تقدم [ح: 19]، وقد تقدم ذكر الحباب في كتاب الحج. [خ 3300] 3301 - وقوله في حديث أبي هريرة: (رَأْسُ الكُفْرِ نحوَ المَشْرِقِ، وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ الخَيْلِ وَالابِلِ، وَالْفَدَّادِينَ أَهْلِ الوَبَرِ، وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الغَنَمِ). وفي حديث أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: (أَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: الْإِيمَانُ يَمَانٍ هَا هُنَا، أَلَا إِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ)؛ يريد أن رأس الكفر كان في عهده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حين قال ذلك. وأن خروج الدجال من المشرق أيضًا من قرية تسمى رُسقاباد [237/ب] فيما ذكره الطبراني، وهو فيما بيَّن ذلك منشأ الفتن العظمية. و (الفَخْرُ) الافتخار وعد المآثر القديمة تعظمًا. و (الخُيَلاءُ) الكبر، واحتقار الناس؛ قال جلَّ وعزَّ: {واللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]. [خ 3301] و (الوَبَرِ) وإن كان من الإبل دون الخيل، فلا يمتنع أن يكون وصفهم به؛ لكونهم جامعين بينهما، وكأنه إخبار عن أكثر حال أهل الغنم وأهل الإبل. و (الفَدَّادُونَ) -بتشديد الدال- جمع فداد، قال أبو عبيدة: هم المكثرون من الإبل، وهم جفاة وأهل خيلاء، وهو الذي يملك من المائتين إلى الألف. وقال أبو العباس: هم الجمَّالون، والبقَّارون، والحمَّارون، والرِّعيان. وقال الأصمعي: هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم وأموالهم ومواشيهم. قال: والفديد: الصوت الشديد.
(1/126)
وقال أبو عمرو الشيباني: هو بالتخفيف جمع فدَّاد بالتشديد، وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها، حكاه أبو عبيد وأنكر عليه، وعلى هذا المراد بذلك أصحابها، بحذف مضاف؛ قال القرطبي: أما الحديث فليس فيه إلا رواية التشديد وهو الصحيح على ما قاله الأصمعي وغيره، قال ابن التين: إنما ذم ذلك وكرهه؛ لأنه يشغل عن الدين ويلهي عن الآخرة فتكون معها قساوة القلب. و (السَّكِينَة) السكون والطمأنينة والوقار والتواضع بخلاف ما ذكره في (الفَدَّادِينَ)، قال ابن خالويه: وهو مصدر سكن سكينة، وليس في المصادر له شبيه. إلا قولهم: عليه ضريبة. وقد رددنا هذا القول في كتابنا المسمى بـ «الميس إلى كتاب ليس» بأن أبا علي الفارسي قال في كتاب «الحجة»، وذكر قوله: شبيه هذا كثير جدًّا مثل النذير والنكير وغدير الحي، ولا اعتداد بالهاء.3302 - وقال القرطبي: قيل إن هذه الإشارة [238/أ] صدرت عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو بتبوك، وبينه وبين اليمن مكة والمدينة، يؤيد هذا قوله في حديث جابر: «والإيمان في أهل الحجاز»، فعلى هذا يكون المراد بأهل (اليَمَن) أهل المدينة، ومن عند يَلَمْلَم إلى أوائل اليمن. وقيل: كان بالمدينة؛ ويؤيده أن كونه بالمدينة، كان غالب أحواله، وعلى هذا فتكون الإشارة إلى سُبَّاق أهل اليمن أو إلى القبائل اليمنية الذين وفدوا على أبي بكر بفتح الشام وأوائل العراق، وإليه الإشارة بقوله: «إني لأجدُ نَفَس الرحمن من قبل اليمن»، وزعم الحكيم الترمذي أن هذا إشارة إلى أويس القرني. [خ 3302]
(1/127)
قال
النووي: فـ: (أشَارَ إلى نَاحِيةِ اليَمَن) وهو يريد مكة والمدينة، ونسبهما إلى
اليمن؛ لكونهما حينئذ من ناحية اليمن، كما قالوا الركن اليماني، وهو بمكة، شرفها
الله تعالى لكونه إلى ناحية اليمن. وقيل: أراد مكة، فإنه يقال: إن مكة من تِهامة،
وتِهامة من أرض اليمن، وقيل: المراد بذلك: الأحبار؛ لأنهم يمانيون الأصل، فنسب
الإيمان إليهم، لكونهم أنصاره؛ قاله أبو عبيد.
قال ابن الصلاح: لو جمع أبو عُبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث كما جمعها مسلم وغيره
وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه، ولما تركوا الظاهر، ولقضوا بأن المراد اليمن
وأهله على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك، إذ من ألفاظه: «أتاكم أهل اليمن»، والأنصار
من جملة المخاطبين بذلك. فهم إذًا غيرهم، وكذا قوله: «جاء أهل اليمن»، وإنما جاء
حينئذٍ غير الأنصار، ثم إنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وصفهم بما يقضي بكمال
إيمانهم، ورتب عليه: «الإيمان يَمَانٍ»، فكان ذلك إشارة للإيمان إلى من أتاه من
أهل [238/ب] اليمن لا إلى المدينة ومكة شرفهما الله تعالى، ولا مانع من إجراء
الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة؛ لأن من اتصف بشيء، وقوي إيمانه به،
وتأكد اضطلاعه به، نسب ذلك الشيء إليه؛ إشعارًا بتميزه به فكذا حال أهل اليمن
حينئذٍ في الإيمان، وحال الوافدين منه في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وفي أعقابه موته؛ كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني وشبههما، ممن سلم
قلبه وقوي إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك؛ إشعارًا بكمال إيمانهم من غير
أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم؛ فلا منافاة بينه وبين قوله: «الإيمان في أهل
الحجاز»، ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذٍ لا كل أهل اليمن في كل زمان، فإن
اللفظ لا يقتضيه، وهذا هو الحق في ذلك.
(1/128)
وقوله:
(الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ القُلُوبِ) زعم السُّهَيلي أنهما لمسمى واحد كقوله:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: 86] والبثُّ: هو الحزن.
قال القرطبي: يحتمل أن يقال: (الْقَسْوَةَ) يراد بها أن تلك القلوب لا تلين ولا
تخشع لموعظة، وغلظها؛ لعدم فهمها، وقوله: (في رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) هو بدل من
(الفَدَّادِينَ) أي: القسوة في ربيعة ومضر الفدادين.
و (قرْنَا الشَّيطَانِ) جانبا رأسه، وقيل: هما جمْعَاه اللذان يغو بهما الناس.
وقيل: شيعتاه من الكفار. والمراد بذلك: اختصاص المشرق بمزيد تسلط من الشيطان ومن
الكفر. قال الخطابي: ضرب المثل بقرن لشيطان فيما لا يحمد من الأمور، وقيل: المراد
به ما ظهر بالعراق من الفتن كوقعة الجمل وصفين والخوارج، فإن أصل ذلك ومنبعه
بالعراق ومشرق نجد، وهي مساكن ربيعة ومضر، [239/أ]
إذ ذاك.
(1/129)
3303
- وقوله في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ
فَاسْألوا الله مِنْ فَضْلِهِ، فَإنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ
نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأى
شَيْطَانًا»، وعند ابن حبان في صحيحه: من حديث زيد بن أرقم مرفوعًا: «لا تسبوا
الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة»، وعند البزار: «صرخ ديك قريبًا من سيدنا رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال رجل: اللَّهمَّ العنه، فقال النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: مه، كلا إنه يدعو إلى الصلاة»، وفي كتاب «الترغيب والترهيب» لأبي
موسى الأصبهاني من حديث مُعمَّر بن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع: حدثني أبي، عن
أبيه أبي رافع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لا ينهق الحمار
حتى يرى شيطانًا، أو يتمثل له شيطان، فإذا كان كذلك فاذكروا الله تعالى، وصلوا
عليَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ»، و (الدِّيَكَة) جمع دِيَك -بكسر الدال وفتح
الياء- على وزن قردة، قال ابن سيده: وهو ذَكَر الدجاج، وقوله: وزقه الديك بصوت
زقًا، إنما أنث على إرادة الدجاجة؛ لأن الديك دجاجة أيضًا، والجمع القليل: أدياك،
والكثير: ديوك وديكة. وأرض مداكة: كثيرة الديكة، وعن الداودي: وقد يسمى الديك
دجاجة. [خ 3303]
أنشد المبرد:
[وليلةً بتُّ] بالدَّيْرَيْنِ أَرَّقَني ... صَوْتُ الدَّجاجِ وضَرْبٌ
بالنَّواقيس.
وقال أبو نواس:
اسقني والليل داجِ قبل أصوات الدجاجِ
قال: والدجاجة تقع على الذكر والأنثى، قال القرطبي: في الحديث دلالة؛ لأن الله جل
وعز خلق للديك إدراكًا كما خلق للحمير، ويفيد [239/ب]
(1/130)
وأن
كل نوع من الملائكة والشياطين موجودان، وهذا معلوم في الشرع قطعًا، والمنكر لشيء
منهما كافر، قال: وكأنه إنما أمر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالدعاء عند صراخ
الديكة لِتؤمِّنَ الملائكة على ذلك، وتستغفر له وتشهد له بالتضرع والإخلاص،
فتتوافق الدعوتان فتقع الإجابة، قال عياض: وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين،
والتعوذ عند نهيق ال في الأصل: «الدجاجة».
كذا في الأصل، ووجدت لجرير البيت نفسه، وطرفه: «لَمَّا تَذَكَّرْت».
حمار؛ لأن الشيطان إذا حضر يُخاف شره، فيتعوذ منه، وذكر البخاري هنا:
3304 - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ حدثنَا ابنُ جُرَيْجٍ) حديث:
(إذَا كَانَ جُنح الَّلَيلِ) المذكور قريبًا في صفة إبليس، ولم يذكره المزي تبعًا
لخلف وأبي مسعود، إنما ذكروه في صفة إبليس [ح: 3280]، وهو ثابت هنا كما تراه فيما
رأيت من نسخ كتاب البخاري، ثم زعموا أن البخاري رواه في الأشربة [ح: 5623] عن
إسحاق بن منصور عن روح، وهو كما تراه غير منسوب، ولما رواه أبو نعيم هنا عن أبي
أحمد: حدثنا ابن شيرويه، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح. وقال
الجيَّاني: قال البخاري في باب ذكر الجن وتفسير البقرة [ح: 4505] والرقاق [ح:
6472] حدثنا إسحاق، حدثنا روح، ولم أجد إسحاق هذا منسوبًا عند أحد من شيوخنا في
شيء من هذه المواضع، وقد حدث البخاري في تفسير سورة الأحزاب [ح: 4799] وسورة (ص)
[ح: 4808] عن إسحاق بن إبراهيم عن روح، وحدث أيضًا في الصلاة في موضعين [ح: 1115 و
1221]، وفي الأشربة [ح: 5623] وغير موضع [ح: 6134] عن إسحاق بن منصور عن روح
فينظر. [خ 3304]
(1/131)
3305
- (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ
مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا
يُدْرَى مَا فَعَلَتْ، وَإِنِّي لَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَار [240/أ] إِذَا وُضِعَ
لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ
شَرِبَتْ، قَالَ: فَحَدَّثْتُ كَعْبًا، فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فقَالَ لِي: مِرَارًا؟
فَقُلْتُ: أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ؟)، عند مسلم: «الفأرة مسخ، وآية ذلك أنه يوضع
بين يديها لبن الغنم، فتشربه ... » الحديث، والظاهر أنه صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال هذا، ولا ثم أعلم بعد بما رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وذكر عنده صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ القِردة والخنازير أهن مَسْخ؟ فقال: «إن الله تعالى لم يجعل
لمسخ نسلًا ولا عقبًا»، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك. وقول ابن قتيبة رحمه
الله تعالى: أنا أظن أن القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت، إلا أن يصح
حديث أم حبيبة يعني به حديث ابن مسعود، فغير جيد لأنَّا أسلفناه من عند مسلم، وسبب
امتناع المسخ من شرب لبن الإبل؛ لأن لحومها وألبانها حرمت علي بني إسرائيل دون
الغنم، وقوله: (أَأَقْرَأُ التَّوْرَاةَ): هو بهمزة استفهام، وهو استفهام إنكار
معناه: ما لي علم ولا عندي شيء إلا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولا
أنقل من التوراة. [خ 3305]
3306 - 3307 - حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها وأم شريك ذكر في الحج [ح: 1931]. [خ
3306 - 3307]
(1/132)
3308
- 3309 - 3310 - وحديث ذي الطُّفْيَتَيْنِ عن عائشة وابن عمر تقدما قريبًا [ح:
3297]، وقوله: (سِلْخَ حَيَّةٍ) قال ابن التين: ضُبط في بعض الروايات -بنصب السين-
وفي بعضها بالكسر وهو أولى لأنه اسم. بَابٌ: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ تقدمت
أحاديثه في الحج وغيره [ح: 1826]. [خ 3308 - 3309 - 3310]
3317 - وقوله في حديث ابن مسعود: (عن يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ: كُنَّا مَعَ النبي صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فِي [240/ب]
(1/133)
غَارٍ
فَنَزَلَتْ: {وَالْمُرْسَلَاتِ} [المرسلات: 1] فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا رطبةً
مِنْ فِيهِ، إِذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا،
فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ في جُحْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ، كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا)، ثم قال: (قَالَ:
حَفْصٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ،
عَنْ عَبْدِ اللهِ) التعليق عن حفص ذكره البخاري مسندًا عن ولده عمر عنه، والتعليق
عن أبي معاوية، فرواه مسلم عن يحيى بن يحيى وأبي بكر وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم
كلهم عنه، قال ابن مسعود: «نزلت {وَالْمُرْسَلَاتِ} [المرسلات: 1] على سيدنا رسول
الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ليلة الجن، ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار
بمنى، فنزلَت»، وقوله: «رطْبةً»: أي مستطابة سهلة كالثمرة الرطبة السهلة الجَنى،
وقيل معنى: (نَتَلَقَّاهَا) لنسمعها منه لأول نزولها كالشيء الرطب في أول أحواله،
والأول أوقع بسببها، ويدل عليه قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في الخوارج:
«يقرؤون القرآن رطْبًا لا يجاوز حناجرهم»، أي يستطيبون تلاوته ولا يفهمون معانيه،
وقوله: (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ) أي: قتلكم إياها؛ فإنه شر بالنسبة إليها، وإن كان
خيرًا بالنسبة إلينا، وفيه دليل: على صحة قول من قال باستصحاب الحال في أصل الضرر
في نوع الحيات. [خ 3317]
(بَاب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ)
(1/134)
3320
- (حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ
حَدَّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ،
فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى [241/أ] جَنَاحَيْهِ
دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً). [خ 3320]
وفي «كتاب الطب» لأبي نعيم الحافظ من حديث ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن أبي
سلمة حدثني أبو سعيد أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إذا وقع الذباب
في الطعام فامقلوه، فإن في أحد جناحيه سمًا، وفي الآخر شفاء، وإنه يقدم السمَّ،
ويؤخر الشفاء»، وعند الدَّارَقُطْني من حديث سعيد بن المسيب عن سلمان نحوه. الشراب
هنا: يدخل فيه كل المائعات، قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ}
[النحل: 69] والجناح حقيقة للطائر، ويستعار للآدمي يقال جناح الآدمي؛ قال:
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].
(1/135)
وقوله: (في إحدى جناحيه داء وفي الآخَر شِفَاءً) دليل لمن يجوز العطف على عاملين، وهو رأي الأخفش والكوفيين، فعلى هذا يقر الجر (والآخرِ)، ونصب (شِفَاء)، فعطف (الآخَرِ) على (أحَدِ) وعطف (شِفَاء) على (دَاء)، والعامل في (أحَدِ) حرف الجر الذي هو (فِي)، العامل في (دَاء): (إِنَّ)، فقد شركت الواو في العطف على العاملين اللذين هما (فِي) و (إِنَّ). وسيبويه لا يجيز ذلك، يؤيد قوله ما وقع في رواية (وفِي الآخَرِ شِفاءٌ) بإعادة حرف الجر، وقد أجازوا في المثل: ما كل سوداء تمرةً ولا بيضاء شحمة، فتمرة بالنصب على إعمال ما، ولا بيضاء شحمة بالرفع فيهما على الاستئناف، فإن كان روي في الحديث: «والآخَرُ شِفَاءٌ» -بالرفع فيهما- فهو على هذا الوجه، ويخرج به عن العطف على عاملين، ولكنه يحتاج إلى حذف مضاف في قوله: «وَالآخر شِفَاءً»؛ أي: ذو شفاء. وأيضًا ففي اللفظ مجاز وهو كون الداء في إحدى الجناحين.
(1/136)
واختلف
العلماء فيما له نفس إذا مات في ماء قليل أو مائع؛ كالذباب والعقرب والنمل [241/ب]
والخنفساء والزنبور، هل ينجس الماء؟ قال ابن المنذر: أجمعوا أنه لا ينجس بوقوع
الذباب فيه، واستدلوا بهذا الحديث انتهى. عند الشافعي قولان: الأول: ينجس، قال
شيخنا القشيري: وهو القياس، قال: واختلفت الشافعيون في القولين، هل يجريان في
نجاسة هذا النوع من الحيوان في نفسه أم لا؟ فمنهم من قال: نعم، ومنهم من أبى ذلك،
والمذهب أنها تنجس بالموت قولًا واحدًا، وإنما الخلاف في نجاسة ما وقع فيه من
المائعات لعموم البلوى، ولتعذر الاحتراز، واستدل بهذا الحديث على عدم نجاسة ما لا
نفس له سائلة بالموت، وطريقه أن يقال: لو نجس بالموت وهو قول أبي حنيفة، وقاسوا
على هذا البقُّ والزنبور والنمل والبعوض والقراد والجراد والعقرب والخنفساء
والصراصير والجعلان وحمار قبان ونبات وردان والنحل والبراغيث والنحل، وأما الشافعي
فعمدته أنها تتنجس بالموت، واختلف في روث السمك والجراد وما ليس له نفس سائلة، هل
هو نجس أم لا؟ وفي الحديث أمر مجزوم به، وإن لم يكن اللفظ دالًّا عليه بنفسه، وهو
أن الأمر بالغمس إنما هو لمقابلة الداء بالدواء، أو على رواية من روى: «وفي الآخر
دواء» يؤخذ منه أمرٌ آخر، وهو أن الأمر بالغمس ما يقتضي نفع الدواء من الداء؛ لأنه
لو لم يكن كذلك لما صح التعليل، ولو لم يذهبه لما كان في الأمر به.
فائدة: وإذا أردنا النظر في إلحاق غير الذباب به في حكم الغمس، فذلك يتوقف على
أمرين: أحدهما: أن نثبت العلة فيما نريد إلحاقه به، وهذا متعذر لا يرشد الطب إليه،
وإنما يدرك بنور النبوة، الثاني: [242/أ]
(1/137)
أن
يكون غمسه فيه مما يقيد في ذلك الداء، وهو أيضًا لا يعلم، ويؤخذ من الحديث إباحة
التداوي؛ لأن الغمس إذهاب ضرر الداء، فكان أصلًا في التداوي، ويحتمل أن يكون الداء
ما يعرض في أنفس المترفهين من التكبر عن أكله، حتى ربما كان سببًا لترك ذلك الطعام
وإتلافه، والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع، وهذا مجاز، والحقيقة
أنه أمر يتعلق بالأمراض وبرئها. وقال ابن الجوزي: تعجب قوم من اجتماع داء ودواء في
شيء واحد، وليس ذلك بعجيب؛ فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقي السم من أسفلها؛
والحية القاتل سمها يُدخلون لحمها في الترياق؛ والذباب يُدخلونه في أدوية العين
يسحقونه مع الإثمد؛ ليقوي البصر، ويأمرون بستر وجه الذي يعضه الكلب من الذباب، ويقولون:
إن وقع بصره عليه تعجل هلاكه.
وقال ابن بحر الجاحظ: عمر الذباب أربعون يومًا وهو في النار، وليس تعذيبًا له،
وإنما ليعذب به أهل النار، بوقوعه عليهم، فإنه لا شيء أضر على المكلوم من وقوعه
على كلمه، وفي «المنتهى» لأبي المعاني: الذُب -بالضم- الذباب، وجمع الذُّباب:
ذِبان، ولا يقال: ذِبَّانة، والجمع القليل: أذِبة، كغُراب وأغربة وغربان. قال
الشاعر:
ضرَّابةٌ بالمشفَر الأذبَّةُ
وقال هلال العسكري: الذباب واحد، والجمع: ذبان، والعامة تقول: ذبانة للواحد،
والذُبان للجمع، وهو خطأ. وفي «كتاب» أبي حاتم السجستاني: يقول: هذا ذباب للواحد
وذبابان في التثنية، ولا يقال: [242/ب]
(1/138)
ذُبانة
ولا ذِبانة. وفي «المحكم»: لا يقال ذبانة، إلا أن أبا عبيدة رواه عن الأحمر:
ذبابة، والصواب: ذبابٌ وهو واحد، وفي التنزيل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئًا} [الحج: 73] فسروه بالواحد، وحكى سيبويْهِ عن العرب: ذب في جمع ذباب. وفي
«الجامع» لأبي محمد عبدالله بن أحمد المالقي النباتي: ذباب الناس يتولد من الزبل،
وإن أخذ الذباب الكثير فقطعت رؤوسها، ويحك بجسدها الشعيرة التي تكون في الأجفان
حكًّا شديدًا، فإنه يبرئه. وإن سحق الذباب بصفرة البيض سحقًا ناعمًا، وضمدت به
العين التي فيها اللحم الأحمر من داخل؛ فإنه يسكن من ساعته، وإن حك بالذباب في
موضع داء الثعلب حكًّا شديدًا فإنه برؤه، وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن وجعه.
قال الخطابي: قال بعض من لا خلاق له: كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحيه؟ وكيف
تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم الداء وتؤخر الدواء؟ وما أداها إلى ذلك؟ قال أبو
سليمان: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل؛ وذلك أن عامة الحيوان جمع فيها من الحرارة
والبرودة والرطوبة واليبوسة في أشياء متضادة، إذا تلاقت تفاسدت، لولا تأليف الله
جل وعز لها. انتهى.
هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه بقراط فمن بعده، حتى قال الرئيس أبو علي في
«أرجوزته» المطولة التي اختصر منها القانون محتجًا لهذا ورادًا على من خالفه:
أما الطبيعتان والأركان يقوم من مزاجها الأبدان
وقول بقراط بها صحيح ماء ونار وثرى وريح
دليله في ذا بأن الجسما ... إذا ثوى عاد إليه رغما [243/أ]
ولو يكون الركن منها واحدًا .... لم تر بالآلام حيًّا فاسدًا
قال رحمه الله: ويقال لهذا الجاهل إن الذي ألهم النحلة وشبهها من الدواب إلى بناء
البيوت وادخار القوت، هو الملهم للذباب ما تراه في الكتاب.
3321 - حديث أبي هريرة ذكر معناه في الطهارة. [خ 3321]
3322 - وحديث أبي طلحة تقدم قريبًا [ح: 3225]. [خ 3322]
(1/139)
3323
- وذكر البخاري من حديث ابن عمر: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الكِلاَبِ). [خ 3323]
3324 - وفي حديث أبي هريرة: (مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا نقَص مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ
يَوْمٍ قِيرَاطٌ إِلَّا كَلْبَ حَرْثٍ، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ). [خ 3324]
3325 - وفي حديث السائب بن يزيد عن سفيان بن أبي زهير الشَّنَئِي: (مَنِ اقْتَنَى
كَلْبًا لَا يُغْنِي عَنْهُ زَرْعًا وَلَا ضَرْعًا نَقَصَ مِن عَمَلِهِ كُلَّ
يَوْمٍ قِيرَاطٌ، قال السَّائِبُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَ إِي وَرَبِّ هذه القبلة)، وعند الترمذي
مصححًا: «من اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بضارٍ ولا كَلْبِ مَاشِيَةٍ نَقَصَ من أجره
كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ»، رواه من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر وعنده أيضًا
مصححًا من حديث الحسن عن عبد الله بن مُغفَّل: «لولا أن الكلاب أمةٌ من الأمم
لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم»، قال ويروى في بعض الحديث: «أن الكلب
الأسود البهيم شيطان»، والبهيم: الذي لا يكون فيه شيء من البياض، وقد كره بعض أهل
العلم صيد الكلب الأسود البهيم، وعند مسلم: «أمر بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم
وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم»، وعن جابر: «أمرنا رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله،
ثم نهى [243/ب] صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن قتلها، ولولا أن الكلاب أمة من
الأمم لأمرت بقتلها»، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين اللتين بحاجبه». [خ
3325]
(1/140)
قرئ على الإمام أبي النون عن أبي المكارم بن الحسن بن منصور أخبرنا الحافظ زين الدين أبو بكر، أخبرنا محمد بن إبراهيم بن علي أخبرنا أبو الطاهر الكاتب أخبرنا أبو الشيخ حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا إسحاق بن محمد القروي حدثنا الحكم بن طهير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لخالد بن الوليد: «انطلق فلا تدع بالمدينة كلبًا إلا قتلته، فانطلق فلم يدع كلبًا بها إلا قتله إلا كلبًا لعجوز في أقصى المدينة في مكان وحش، فخبرت النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إنما تركناه لموضع العجوز يحرسها، قال: ارجع فاقتله، قال: فرجعنا فقتلناه، ثم قال: لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها، ولكن اقتلوا منها كل أسود بهيم، فإنه شيطان»، دخول الحديث الكلاب في هذا الموضع لما يأتي عن ابن عباس وغيره أنهم من الجن، والترجمة كلها في ذكر الجن.
(1/141)
قال
القرطبي: حديث ابن عمر هنا روي مطلقًا، وفي رواية عبد الله بن دينار عنه: «إلا كلب
صيد، وكلب غنم أو ماشية»، فيجب على هذا رد مطلق إحدى الروايتين إلى المقيد، فإن
القصة واحدة، وما كان كذلك وجب ذلك فيه بالإجماع، وإلى الأخذ بهذا الحديث ذهب مالك
وأصحابه وكثير من العلماء، فقالوا بقتل الكلاب إلا ما استثني منها، ولم يرو بقتل
ما عدا المستثنين منسوخًا، بل محكمًا، وقال أبو زكريا: أجمع العلماء على قتل الكلب
الكلِب والعقور واختلفوا [244/أ] في قتل ما لا ضرر فيه فقال إمام الحرمين: أمر
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أولًا بقتلها كلها، ثم نسخ ذلك، ونهى عن قتلها،
إلا البهيم، ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها سوى
الأسود، لحديث ابن مغفل، وقال أبو عمر: البهيم شيطان أي بعيد عن المنافع، قريب من
المضرة، وهذه أمور لا تدرك بنظر، ولا يوصل إليها بقياس، وإنما ينتهى إلى ما جاء
عنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقد روي عن ابن عباس: «أن الكلاب من الجن، وهي
ضَعَفَة الجن، فإذا غشيتكم عند طعامكم، فألقوا إليها الشيء فإن لها أنفسًا». يعني:
أعينَا، وفي لفظ: «السود منها جن والمبقع منها جن»، قال صاحب «العين»: الحن: حي من
الجن منهم الكلاب البهم، وفي «الباهر»: الحن: -بالكسر- ضرب من الجن. قال ابن
الأعرابي: هم سفلة الجن وضعفاؤهم. وأنشد:
مختلف نجواهم حن وجن
(1/142)
قال
ابن عديس: يقال كلب جني، قاله أبو عمر، وروي عن الحسن وإبراهيم أنهما يكرهان صيد
الكلب الأسود البهيم؛ قال النووي: وإليه ذهب أحمد وبعض أصحابنا قالوا: ولا يحل
الصيد إذا قتله، وقال الشافعي ومالك وجماهير العلماء: يحل صيد الأسود كغيره، وليس
المراد بالحديث إخراج الأسود عن جنس الكلاب، ولهذا لو ولغ في الإناء وجب غسله كما
يغسل من الكلب الأبيض. قال أبو عمر: الذي نختاره: ألا يقتل منها شيء إذا لم يضر؛
لنهيه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يتخذ بشيء فيه روح غرضًا؛ ولحديث الذي سقى
الكلب؛ ولقوله: «في كل كبد حرَّى أجر»، وترك قتلها في كل الأمصار وفيها العلماء،
ومن لا يسامح في شيء من المنكر والمعاصي الظاهرة. وما علمت [244/ب]
فقيها من فقهاء المسلمين جعل اتخاذ الكلاب جرحة، ولا رد قاض شهادة متخذها، قال أبو
زكريا: مذهبنا إنه يحرم اقتناء الكلب لغير حاجة، ويجوز اتخاذها للصيد والزرع
والماشية، وهل يجوز لحفظ الدور والدروب ونحوها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لتصريح
الأحاديث بالنهي إلا ما استثنى، وأصحهما: يجوز، قياسًا على المستثنى عملًا بالعلة
المفهومة من الأحاديث، وهي الحاجة.
(1/143)
وهل يجوز اقتناء الجرو وتربيته للصيد أو للزرع أو للماشية؟ فيه وجهان: أصحهما: جوازه، قال أبو عمر: في الأمر بقتل الكلاب دلالة على أنها لا تؤكل، ألا ترى إلى الذي جاء عن عمر وعثمان في ذبح الحمام وقيل الكلاب، وفي هذا دليل على اقتراف حكم ما يؤكل وما لا يؤكل؛ لأنه ما جاز ذبحه وأكله لم يجز الأمر بقتله، قال: وأما قول من ذهب إلى قتل الأسود منها، فإنه شيطان، فلا حجة فيه؛ لأن الله جل وعز قد سمَّى من غلب عليه الشر من الإنس والجن شيطانًا، ولم يجب بذلك قتله، وقد جاء في الحديث المرفوع: «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رأى رجلًا يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانه»، وليس في ذلك ما يدل على أنه كان مَسخًا من الجن، ولا أن الحمامة مسخت من الجن، ولا أن ذلك واجب قتله، قال ابن العربي: نهى عن اقتنائها إلا لحراسة أو كسب، حتى لو كان مع الرجل شاة واحدة، لجاز له اتخاذ كلب يحرسها، روى ذلك الترمذي عن عطاء مقطوعًا، ولما ذكر حديث الذي سقى الكلب، قال: هذا يحتمل أن يكون قاله قبل النهي عن قتلها، ويحتمل أن يكون بعد، فإن كان الأول: فليس [245/أ]
(1/144)
بناسخ
له لوجهين: أحدهما: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أمر بقتل الكلاب، لم
يأمر إلا بقتل كلاب المدينة، لا بقتل كلاب البوادي، وهو الذي نسخ، وكلاب البوادي
لم يرد فيها قتل ولا نسخ، وظاهر الحديث يدل عليه. الثاني: لو وجب قتله لوجب سقيه،
ولا يجمع عليه حر العطش والموت، كما يفعل بالكافر والعاصي، فكيف بالكلب الذي لم
يعص، وفي الحديث الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أمر بقتل يهود
شكوا العطش، فقال: «لا تجمعوا عليهم حرَّ السيف والعطش» فسقوا، ثم قتلوا، قال ابن
التين: وفي حديث قتلها دلالة على أن قاتلها مأجور، ولا قيمة عليه، وإنما الجمع بين
قوله: «ينقص من أجره قيراطان»، وفي حديث أبي هريرة وسفيان: «قيراط»، فيحتمل أنه
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما ذكر القيراط لم ينته الناس، فزاد في التغليط، أو
أن يكون راجعًا لكثرة الأذى من الكلب وفلته، وقال أبو عمر: أو يحمل على اختلاف
المواضع، فالقيراطان بالمدينة خاصة لزيادة فضلها، والقيراط في غيرها، أو أن يكون
القيراطين في المدن والقيراط في البوادي، وجاء في بعض الروايات: «نقص من أجره
قيراطان»، وهو صحيح؛ لأن نقص جاء لازمًا ومتعديًا، قال أبو زكريا: قال الروياني:
اختلفوا في المراد بما ينقص منه، فقيل: ينقص مما مضى من عمله، وقيل من مستقبله،
قال: واختلفوا في محل نقص القيراط، فقيل: ينقص قيراط من عمل النهار، وقيراط من عمل
الليل، وقيل: قيراط من عمل الفرض، وقيراط من عمل النفل، قال القرطبي: أقرب ما قيل
في ذلك قولان: أحدهما: أن جميع ما عمله من عمل ينقص لمن اتخذ ما نهي عنه [245/ب]
من الكلاب بإزاء كل يوم يمسكه جزآن من أجر ذلك العمل، وقيل: من عمل ذلك اليوم الذي
يمسكه فيه.
الثاني: أن يحط من عمله عملان أو من عمل يوم إمساكه عقوبة له على ما اقتحم من
النهي.
(1/145)
والقِيرَاط:
أصل لمقدار معلوم عند الله تعالى لكن جرى العرف في بلاد يعرف فيها القيراط؛ بأنه
جزء من أربعة وعشرين جزءًا ولم يكن هذا العرف عند العرب غالبًا، قال أبو زكريا
سفيان بن أبي زهير الشنائي: -بشين معجمة مفتوحة، ثم نون مثلها، وهمزة مكسورة- في
بعض النسخ المقيدة بالواو، وهو صحيح على إرادة التسهيل، ورواه بعضهم: شُنوي -بضم
الشين على إرادة الأصل-.
باب خَلْقِ آدَمَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَذُرِّيَّتِهِ
في كتاب «الاشتقاق» لأبي جعفر النحاس، قيل: إنه اسم سرياني، وقيل: هو أفعل من
الأدمة، وقيل: أخذ من لفظ الأديم؛ لأنه خُلِقَ من أديم الأرض، قاله ابن عباس، وقال
قطرب: لو كان من أديم الأرض لكان على وزن فاعل، وكانت الهمزة أصلية، ولم يكن يمنعه
من الصرف مانع، وإنما هو على وزن أفعل من الأدمة، ولذلك جاء غير مجري، قال أبو
جعفر: وهذا القول ليس بشيء؛ لأنه لا يمتنع أن يكون من الأديم، ويكون على وزن أفعل،
تدخل الهمزة الزائدة على الهمزة الأصلية، كما تدخل على همزة الأدمة، فإن الأدمة
همزة أصلية؛ ولذلك أول الأديم همزة أصلية، فلا يمتنع أن يبنى منه أفعل، فيكون غير
مجرى كما يقال: رجل أعين، وعند الأنباري: يجوز أن يكون أفعل من أَدَمتُ بين
الشيئين إذا خلطت بينهما، وكان ماء وطينًا. فخلطا جميعًا، وفي «تفسير» محمد بن
جرير: أولى الأشياء فيه [246/أ]
(1/146)
أن يكون فعلًا ماضيًا. وقال النضر بن شميل: سمي آدم لبياضه، وروينا وعن ابن بري فيما «كتب على المعرب» لأبي منصور الجواليقي: آدم: اسم عربي؛ لقول ابن عباس: خلق من أديم الأرض، ولولا ذلك لاحتمل أن يكون مثل آزر أعجميًّا، وبكون وزنه أفعل أو فاعل مثل: فالخ. ويكون امتناع صرفه للعجمة والتعريف إذا جعل وزنه فاعل، وهو بالعبراني: آدام -بتفخيم الألف- على وزن خاتام، في «الوشاح» لابن دريد: خلق آدم مختونًا وكذا نبينا وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وسليمان وشعيب ويحيى وهود وصالح صلى الله عليهم أجمعين، زاد أبو الفرج في الكتاب «المنتظم»: وزكريا وبني أهل الرس صلى الله عليهما وسلم، وفي «تاريخ الطبري»: من حديث أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس: «أمر الرب جل وعز بتربة آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فرفعت، فخلق آدم من طين لازب، ثم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين كانوا في السموات اسجدوا لآدم، فسجدوا إلا إبليس»، وفي حديث سعيد بن جبير عنه: «بعث رب العزة جل وعز إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم، ومن ثم سمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض، ومن ثم قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينًا؟!» أي: هذِه الطينة أنا جئتُ بها، رواه عن ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عنه، زاد الخُتّلي في «الديباج»: فقال له الله: ألم تعوذني منك الأرض؟ قال: بلى. قال: لأخلقن خلقًا يسوؤك منها». وروينا في «تاريخ ابن عساكر» قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أهل الجنة ليس لهم كنى إلا آدم، فإنه يكنى أبا محمد»، وعن كعب: ليس أحد في الجنة له لحية إلا هو، وقيل: موسى. ذكره الطبري، وقيل: هارون [246/ب]
(1/147)
ومن
حديث أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس. وعن مرة الهمداني،
عن ابن مسعود. وعن أناس من الصحابة قالوا: أرسل الله جل وعز جبريل؛ ليأتيه بطين
منها فعاذت بالله أن ينقصها، فرجع. وكذا قالت لميكال بعده، فأرسل ملك الموت، فلما
عاذت قال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم
يأخذ من مكان واحد، وفي حديث حبَّة [عن] علي: خلق آدم من أديم الأرض، ومن حديث عوف
الأعرابي، بسند صحيح عن قسامة بن زهير، عن أبي موسى قال رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «إن الله جل وعز خلق آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من قبضة
قبضها من جميع الأرض»، وعن سلمان بسند جيد: خمر الله طينة آدم أربعين يومًا ثم
جمعه بيده، وعن ابن إسحاق: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن
ينفخ فيه الروح.
قال ابن فورك: كان خلقه على الصورة التي كان عليها من غير أن كان ذلك حادثًا أو
شيئًا منه عن توليد عنصر أو تأثير طبع أو فلك أو ليل أو نهار إبطالًا لقول
الطبائعيين: إن بعض ما كان عليه آدم من صورته وهيئته لم يخلقه الله، وإنما كان ذلك
من فعل الطبع أو تأثير الفلك، فنبه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بقوله: «إن الله
خلق آدم على صورته على ما كان فيه لم يشاركه في خلقه أحد»، واستفدنا بذلك بطلان
قول من قال بتوليد الطبع وإيجابه، وتأثير الفلك وتغييره، وخص آدم بالذكر بينها على
أن من شاركه من المخلوقات في معناه، هذه طريقة للعرب في التفهيم، بذكر أعلى ما في
الباب للدلالة على الأدنى، فإذا علم ذلك في آدم، علم أن سائر التصويرات من أولاده
وغيرهم حكمهم ذلك، وعند ابن منده من حديث جويبر عن الضحاك، [247/أ]
(1/148)
عن
ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق آدم من طين بيده، وخلق الطين من الزبدة،
والزبدة من الموج، والموج من البحر، والبحر من الظلمة، والظلمة من النور، والنور
من الحر، والحر من الآية، والآية من المصورة، والمصورة من الياقوتة، والياقوتة من
الكن، والكن من لا شيء.
ومن حديث أبي صالح، عن ابن عباس ومرة، عن عبد الله: خلق الله آدم بيده؛ لكي لا
يتكبر إبليس عنه، فجعله بشرًا أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة
ففزعوا منه، وكان أشدهم منه فزعًا إبليس، ويقول: لأمرٍ ما خلقت، لئن سلطت عليه
لأهلكنه. قال ابن منده: وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نحوه، وفي لفظ
عن ابن عباس: أربعين سنة طينًا، وأربعين صلصالًا، وأربعين من حمأ مسنون، وتم خلقه
بعد مائة وعشرين سنة، وقال ابن مسعود: بعد مائة وستين سنة. وعن ابن عباس: مكث أربعين
ليلة جسدًا مُلقًى، وعن ابن سلام: خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل.
قال البخاري: (قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] إِلَّا
عَلَيْهَا حَافِظٌ)
هذا التعليق رواه محمد بن جرير عن محمد بن سعد، حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه
عن ابن عباس: قوله جل وعز: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:
4]، قال: كل نفس لما عليها حافظ: حفظةٌ يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن
آدم قُبضت إلى ربك جلَّ وعزَّ، وفي «تفسير» ابن عباس جمع ابن أبي زياد لما عليها
حافظ يداه ورجلاه وملكاه اللذان يحفظان عليه عمله، قال أبو جعفر: اختلفت القراء في
قراءة ذلك، فقرأه أبو جعفر وحمزة: {لمَّا} -بالتشديد- وذكر الحسن أنه قرأه كذلك،
يقول: إلا عليها حافظ، وكذا كل شيء بالقرآن بالتثقيل، وقرأه أبو عمرو ونافع
بالتخفيف، بمعنى: إن كل [247/ب]
(1/149)
نفس
لعليها حافظ، وعلى أن اللام جواب (إنْ) و (مَا) التي بعدها صلة، وإن كان كذلك لم
يكن مشددًا، والقراءة التي من اختار غيرها في ذلك بالتخفيف؛ لأن ذلك هو الكلام
المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعة أهل المعرفة بكلام العرب أن يكون
معروفًا من كلام العرب، غير أن الفراء كان يقول لا يعرف جهة التثقيل في ذلك، قال:
ونرى أنها لغة في هذيل، يجعلون (إلا) مع (إن) المخففة (لما)، ولا يجاوزون ذلك كأنه
قال: ما كل نفس إلا عليها حافظ، فإن كان صحيحًا ما ذكر الفراء من أنها لغة هذيل،
فالقراءة بها جائزة صحيحة، وإن كان الاختيار أيضًا إذا صح ذلك عندنا بالقراءة
الأخرى وهي التخفيف؛ لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، ولا ينبغي أن نترك الأعرف
إلى الأنكر، وروينا في كتاب «المعاني» لأبي زكريا يحيى بن زياد قرأه العوام
{لمَّا} بالتشديد، وخففها بعضهم، وذكر الماوردي في «تفسيره»: أن الشجرة التي نُهي
عنها آدم هي البر، وقيل السن، وقيل الكافور، وقيل الكرم، وقيل العلم: وهو علم كل
شيء، وقيل: علم ما لا يُعلم، وقيل: شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة.
قال البخاري: (وقَالَ مُجَاهِدٌ {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8]
النُّطْفَةُ فِي الْإِحْلِيلِ).
هذا التعليق رواه أبو جعفر من طرق منها: عن نصر الوشاء، حدثنا أبو قطن عمرو بن
الهيثم عن ورقا عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن أبي بكر عن مجاهد، ولفظ ليث عنه
على أن يرد الماء في الإحليل، وعن الضحاك: أي إن شئت رددته كما خلقته من ماء، وفي
رواية: «إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الصبي إلى النطفة»، وقال ابن زيد:
يعني أنه على حبس ذلك الماء لقادر، وعن قتادة معناه: أن الله تبارك وتعالى لقادر
على بعثه وإعادته، قال أبو جعفر: وأولى الأحوال [6] بالصواب قول من قال: معناه أن
الله تعالى على رد [248/أ]
(1/150)
الإنسان
المخلوق من ماء دافق من بعد مماته حيًّا كهيئته قبل مماته لقادر، وفي «تفسير» عبد
عن علي قال: أن يرده نطفة في صلب أبيه.
قال البخاري: (وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ {فَتَلَقَّى آدَمُ} [البقرة: 37] فَهُوَ
قَوْلُهُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23])
3326 - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ، طُولُهُ
سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فهي تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ
ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ
وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ إلَى الْآنَ).
[خ 3326]
وقد أسلفنا قدر الذراع في باب صفة الجنة، وذكر القرطبي: إن الله جل وعز يعيد أهل
الجنة إلى خلقة أصلهم الذي هو آدم، وعلى صفته وطوله الذي خلقه الله عليه في الجنة،
وكان طوله فيها ستين ذراعًا في الارتفاع من ذراع نفسه، قال: ويحتمل أن يكون هذا
الذراع مقدرًا بأذرعتنا المتعارفة عندنا، وقال أبو زكريا: خُلق آدم في أول نشأته
على صورته التي كان عليها في الأرض، وتوفي عنها وهي ستون ذراعًا، ولم ينتقل
أطوارًا كذريته، كانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير، وكأنهما تبعا
ابن فورك في هذا، لكنه قال كلامًا جيدًا خيرًا مما قالاه وهو: صورة آدم صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كهذه الصورة إبطالًا لقول من زعم أنها كانت على هيئة أخرى
كما في بعض الروايات من ذكر طوله، وذلك مما لا يوثق به؛ إذ ليس [248/ب]
(1/151)
في
ذلك خبر صحيح، وإنما المعوَّل في مثله على كعب، أو وهب من حديث التورية ولا يعتد
بشيء من ذلك، ولم يثبت من جهة أخرى أنه كان على خلاف هذِه الخلقة، انتهى كلامه.
وفيه نظر من حيث أن الطبري روى من حديث سوار، حدثنا ختن عطاء عن عطاء بن أبي رباح،
قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، يسمع كلام
أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله ذلك في دعائها،
فخفضه الله إلى الأرض، وكذا قاله قتادة وأبو صالح عن ابن عباس وأبو يحيى القتات عن
مجاهد عن ابن عباس، فهذه الآثار ليس فيها عن كعب ووهب شيء والله أعلم.
وقوله: وفي كتاب «العرش» تأليف ابن أبي شيبة: حدثنا القاسم بن خليفة، حدثنا عمرو
بن محمد، حدثنا طلحة بن عمر الحضرمي عن ابن عباس به.
(اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ): فيه دلالة على تأكيد السلام، وأنه مما شرع،
ثم لم ينسخ، وجعل سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إفشاءه سببًا
للمحبة الدينية ودخول الجنة العلية، وهذا يشهد لمن قال بوجوبه، وهو أحد القولين
للعلماء ذكره القرطبي.
وفيه: أن الوارد على جلوس يسلم عليهم، والأفضل أن يقول: السلام بالألف واللام، قال
أبو زكريا: فلو قال: سلام عليكم كفاه، ورد السلام يستحب أن يكون بزيادة على
الابتداء، وأنه يجوز في الرد أن تقول: السلام عليكم، ولا يشترط أن يقول: وعليكم
السلام، وسيأتي له زيادة في الاستئذان [ح: 6227].
3328 - حديث أم سليم تقدم في الطهارة [ح: 130]. [خ 3328]
(1/152)
3329
- وقول ابن سلام: (إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا
نَبِيٌّ؛ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، قال: وَمَا أَوَّلُ
طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ فقال: زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ»، قال:
وَمِنْ [249/أ] أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَمِنْ أَيِّ
شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ، فقال: «إِذَا غَشِيَ الَّرجُلُ الْمَرْأَةَ
فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَت كَانَ الشَّبَهُ
لَهَا، فقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ... » الحديث. [خ 3329]
وفي لفظ: «أخبرني جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ عبدالله: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ»، وعند البيهقي في «الدلائل»: «سأله عن السواد الذي في القمر»،
بدل: (أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟) وفيه: «لما قالت اليهود ما قالوا في ابن سلام قال
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أجزنا الشهادة الأولى، وأما هذِه فلا».
وعند مسلم أن يهوديًا قال: يا رسول الله أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض
والسموات؟ فقال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «في الظلمة دون الجسر، قال: فمن أول
الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟
قال: زيادة كبد نون، قال: فما غداؤهم على أثره؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان
يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين منها تسمى سلسبيلًا، وسأله عن
الولد ... » فذكر الحديث. وفيه: «سألني هذا عن الذي سألني، وما أعلم منه شيئًا حتى
أتاني الله به». وعند البيهقي من حديث أبي ظبيان عن أصحابه من الصحابة: «أما نطفة
الرجل فبيضاء غليظة، منها العظام والعصب، وأما نطفة المرأة، فحمراء رقيقة، منها
اللحم والدم، فقال: أشهد أنك رسول الله».
(1/153)
وعند
البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مسندًا: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً فيَكَفَؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا
يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ،
وإدامهم بالامٌ ونون، قالوا: ما هذا؟ قال: ثور وحوت يأكل من زيادة كبده سبعون
ألفًا» [ح: 6520]، وعن أبي هريرة مرفوعًا: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ
طَرَائِقَ رَاغِبِينَ ورَاهِبِينَ وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ
بَقِيَّتَهُم النَّارُ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ
قَالُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ
أَمْسَوْا».
ولما ذكر عياض قول قتادة: الحشر الثاني: نار تحشرهم من [249/ب]
المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من تخلف
منهم، قال: هذا في الدنيا قبل قيام الساعة، وهو آخر أشراطها، كما ورد عند مسلم،
وفيه: «وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن، ترحل الناس»، وفي رواية: «تطرد الناس إلى
محشرهم»، وفي حديث آخر: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ بأرض الحجاز»، ويدل على
أنها قبل القيامة قوله: «تقيل معهم حيث قالوا»، وفي لفظ: «فإذا سمعتم بها فاخرجوا
إلى الشام».
(1/154)
ولما
ذكر الحَلِيمي في «المنهاج» حديث: «يحشر الناس على ثلاث طرائق»، قال: هذا في
الآخرة، والثلاث طرائق إشارة إلى الأبرار والمخلصين والكفار، فالأبرار: على
النجائب، والمخلصون: على الأبعرة، والكفار: يبعث الله جل وعز إليهم ملائكة يقيض
لهم نارًا تسوقهم»، قال: وفي حديث أبي هريرة عند الترمذي: «تحشر الناس ثلاثة
أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم»، وفيه: «أما أنهم يتقون بوجوههم كل
حدب وشوك»، وعند الغزالي: «قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس؟ قال: اثنان على
بعير، وخمسة على بعير، وعشرة على بعير»، وعند النسائي عن أبي ذر: «يحشرون ثلاثة
أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوج يمشون
ويسعون»، وعند ابن الجوزي من حديث الضحاك عن ابن عباس: «إذا اجتمع أهل الجنة تحت
شجرة طوبى، أرسل الله جل وعز إليهم الحوت الذي قرار الأرض عليه، والثور الذي تحت
الأرضين، فينطح الثور الحوت بقرنيه فيزكيه لأهل
الجنة، فيأكلونه فيجدون فيه ريح كل طيب، وطعم كل ثمرة»، وقال كعب: «يقول الله جل
وعز لأهل الجنة إن لكل ضيف جزورًا، وإني أجزَرُكُم اليومَ ... » الحديثَ، قال:
فكأنهم أعلموا أن الدنيا ذهبت وذهب ما كان يحملها فلا رجوع إليها، وهذه الدار هي
دار الإقامة، وسيأتي لهذا تتمة في كتاب الرقاق.
3330 – (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، نَحْوَهُ، يَعْنِي: لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ
اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنَّ أُنْثَى زَوْجَهَا). [خ 3330]
قال القرطبي: (خَنَز) بفتح النون في الماضي، وقد تكسر. انتهى كلامه، وفيه نظر؛ لما
ذكره ابن سيده: خَنِزَ اللحم والتمر والجوز خُنُوزًا فهو خَنِز وخَنَز فَسَدَ،
الفتح عن يعقوب.
(1/155)
قال
القرطبي: كان المن والسلوى يسقط على بني إسرائيل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس،
فيؤخذ منه بقدر ما يغني ذلك اليوم إلا يوم الجمعة فإنهم يأخذون له وللسبت، فإن
قعدوا به إلى أكثر من ذلك فسد ما ادخروا، فكان ادخارهم فسادًا للأطعمة عليهم وعلى
غيرهم. انتهى.
يخدش في هذا ما رويناه في كتاب «الحلية» عن وهب بن منبه: وجدت في بعض الكتب عن
الله جل وعز: لولا أني كتب النتن على الميت لحبَسَه أهلُه في بيوتهم، ولولا أني
كتبت الفساد على الطعام لخزَنَته الأغنياء عن الفقراء.
و (حَوَّاء) -بالمد- قال ابن عباس: سُميت بذلك؛ لأنها أمُّ كل حيٍّ، وقيل: لأنها
خُلقت من ضلع آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ القصرى الأيسر، وهو حي قبل دخوله
الجنة، وقيل: في الجنة.
ومعنى (خُلقَت) أي: أُخرجت كخروج النخلة من النواة، قال: ويحتمل أن يكون قصد بهذا
المثل، أي: فهي كالضلع، يوضحه قوله في حديث أبي هريرة: «لن تستقيم لك على طريقةٍ،
فإن استمتعتَ بها استمتعتَ وبها عَوَج، فإن ذهبتَ تُقيمُها كسرتَها وكسرُها
طلاقُها».
والعَوَج بالفتح في الأجسام المحسوسة، وبالكسر في المعاني، وقال ثعلب: هو عند
العرب بكسر العين في كل ما لا يُحاط به، وبفتح العين في كل ما يُتحصَّل، فيقال: في
الأرض عَوج، وفي الدين عَوج؛ لأن هؤلاء يتسعان ولا يُدركان، وفي العصا عِوج، وفي
السِّن عِوج؛ لأنهما يُحاط بهما ويُبلغ كُنههما.
3331 - وقوله: (استَوصُوا بالنِّسَاء) قال أبو الفرج: يحتمل وجهين، أحدهما: أن
يكون معناه: أوصوا بهن، وقد جاء استفعل بمعنى افعل، قال جل وعز:
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة: 186]، وقال: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا}
[الشورى: 26]، قال الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيبُ [خ 3331]
(1/156)
قال:
والثاني: أن يكون استفعل على أصله وهو طلب الفعل، فيكون معناه: اطلبوا الوصية من
المريض بالنساء؛ لأن عائد المريض يستحب له أن يحثَّ المريض على الوصية، وإنما خَص
النساء بالذكر لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن. قال القرطبي: يعني اقبلوا
وصيتي فيهن واعملوا بها، واصبروا عليهن وارفقوا بهن وأحسنوا إليهن.
3332 - حديث عبد الله تقدم في باب ذكر الملائكة [ح: 3208]. [خ 3332]
3333 - وحديث أنس تقدم في الطهارة [ح: 318]. [خ 3333]
(1/157)
3335 - (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابنِ مَسعُودٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ) [خ 3335] (الكِفل) -بكسر الكاف- النصيب والجُزء، وعن الخليل: الكفل من الأجر والإثم هو الضعف. وقوله: (أولُ مَن سَنَّ القَتْل) جارٍ في الخير والشر كما في الصحيح: «مَن سَنَّ في الإسلام سُنة حسنة كان له أجرها وأجر 212 من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سَن في الإسلام سُنًّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وهذا والله أعلم ما لم يتب ذلك الفاعل الأول من تلك المعصية؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. وابن آدم المذكور هنا هو قابيل؛ إذ قتل أخاه هابيل لما تنازعا في تزويج إقليميا، وقصتهما مشهورة. انتهى. قال الطبري: وأهل العلم يختلفون في اسم القاتل، فبعضهم يقول: هو قين بن آدم، وبعضهم يقول: هو قَاينُ بن آدم، وبعضهم يقول: هو قابيل. واختلفوا أيضًا في سبب قتله هابيلَ، فقال عبد الله بن عمرو: إن الله جل وعز أمر ابني آدم أن يقربا قربانًا، وأن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه، وصاحب الحرث قرَّب شرَّ حرثه، فتقبل الله قربان الأول. وقال ابن عباس: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل، فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا: لو قربنا قربانًا، فقرَّبا، فتُقبل من أحدهما. وقال الحسن: لم يكن الرجلان اللذان قال الله جل وعز فيهما: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} [المائدة: 27] كانا من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القربان في بني إسرائيل، وكان آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول من مات.
(1/158)
قال أبو جعفر: وذُكر أن في التوراة أن هابيل قُتل وله عشرون سنة، وأن أخاه الذي قتله كان ابن خمس وعشرين سنة. وفي «تفسير الثعلبي» قال معاوية بن عمار: «سألت الصادقَ: أكان آدم يزوِّج ابنتَه من ابنه؟ فقال: معاذ الله! وإنما هو لما أهبط إلى الأرض ولدت حواء بنتًا فسمتها عناقًا، وهي أول مَن بغى على وجه الأرض، فسلط الله عليها مَن قبلها فولدت له على إثرها قابيل، فلما أدرك أظهر الله له جنية يقال لها: جمانة، وأوحى الله إليه زوِّجها منه، فعتب قابيل على أبيه وقال: أنا أسنُّ منه وكنت أحقَّ بها، فقال: يا بني إن الله أوحى إليَّ بذلك، فقرّبا قربانًا ... » الحديثَ. قال ابن عباس: فقتله عند نود. وقال غيره: عند عقبة حرا. وقيل: عند المسجد الأعظم بالبصرة. وقال ابن عباس: من قال: إن آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال شعرًا فقد كذب على الله وعلى رسوله، إن الأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء نبيُّنا فمَن قبله صلى الله عليهم أجمعين. وقال السُّهَيلي: تفسير هابيل هبة الله، فلما قتل وولد شيث سمَّاه بذلك، ومعناه: عطية الله بدلًا من الهبة. وفي «تاريخ ابن واصل» الذي على السنين: ذكر بعض المؤرخين أن المقتول قابيل بن آدم، واشتق اسمه من قبول قربانه. (بَابٌ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)
(1/159)
3336 – (قَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» قَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا). [خ 3336] قال الإسماعيلي: أخبرني عبد الله بن صالح، حدثنا محمد بن إسماعيل وليس بالبخاري، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد به. وأما حديث يحيى بن أيوب فإن أبا يعلى حدثنا إملاءً من أصله العتيق، حدثنا يحيى بن معين، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، حدثني يحيى بن سعيد عن عمرة قالت: كان بمكة امرأة مزَّاحة ونزلت على امرأة مثلها، فبلغ ذلك عائشة فقالت: صدق حِبي، سمعته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «الأرواح جنود مجنَّدة» الحديث، وفي «اعتلال القلوب»: أن المزاحة كانت بمكة، وأنها لما قدمت من المدينة نزلت على امرأة مثلها مزاحة، فذكرت ذلك عائشة للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقال: «سبحان الله! الأرواح جنود مجندة ... » الحديث. قال الإسماعيلي: أبو صالح ليس من شرط الكتاب، ويحيى بن أيوب المصري أيضًا هو عنده ممن لا يخرجه في هذا الكتاب في الرواية إلا استشهادًا، ثم جاء بهذا الحديث وهما راوياه مرسلًا بلا خبر صار أقوى منه إذ لو ذكرهما، وبنحوه ذكره أبو نعيم ثم قال: كلتا الروايتين ذكرهما مرسلًا بلا رواية، وأراه كان عنده عن أبي صالح عن الليث، فكف عن ذكره.
(1/160)
ورواه مسلم في «صحيحه» من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقال ابن منده في كتاب «الأرواح»: رواه إسحاق الفروي عن علي اللَّهَبي، عن الزهري عن عروة عن عائشة بزيادات، ورواه أبو هلال المصري عن الزهري عن عروة، ورواه أيضًا من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن بُرْقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة، قال: رواه جماعة عن جعفر منهم المعافى وعمر بن أيوب، ومن حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ومن حديث عبد الأعلى بن أبي المُسَاوِر عن عكرمة عن الحارث بن عميرة عن سلمان، ومن حديث محمد بن أبي المهاجر عن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود، ومن حديث أبي هاشم الزماني عن زاذان عن ابن عمر، ومن حديث عبد الرحمن بن مغراء عن أزهر بن عبد الله الأزدي، عن ابن عجلان عن سالم عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، ومن حديث درّاج عن عيسى بن مالك عن ابن عمرو. قال الخطابي: هذا تأول على وجهين، أحدهما: أن يكون إشارة إلى معنى التشاكل في الخير أو الشر والصلاح أو الفساد، فإن كلَّ أحد يحنُّ إلى شكله. انتهى، قد أسلفنا هذا بيِّنًا في الحديث، فلا حاجة إلى التخرُّص، قال: والوجه الآخر: أنه إخبار عن رد الخلق في حال العبد على ما روي في الأخبار: «أن الله جل وعز خلق الأرواح قبل الأجسام، فكانت تلتقي فتشامُّ كما تشامُّ الخيل، فلما التبست بالأجسام تعارَفَت بالذكر الأول، فصار كلٌّ منهما إنما يعرف وينكر على ما سبق له من العهد القديم».وقال بعضهم: (جُنودٌ مجَنَّدَة) أي: أجناس مجنَّسة، وقيل: جموع مجمَّعة، وهذا التعارف لأمر جعله الله جل وعز فيها وجبلها عليه، وأشبه ما فيه أن يكون تعارفها موافقة صفاتها التي خلقت عليها وتشابهها في شيمها التي خلقت بها، وقيل: لأنها خلقت مجتمعة ثم فرقت في أجسادها، قال ابن الجوزي: فمن وافق قسيمه أَلِفه، ومن باعده نافره وخالفه، وفي هذا دليل على أن الأرواح ليست بأعراض؛ فإنها كانت موجودة قبل الأجسام.
(1/161)
يؤيده «أن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر».قال القرطبي: يستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح يفتش عن الموجب لتلك النفرة فإنه ينكشف له، فيتعين عليه أن يسعى في إزالة ذلك حتى يتخلص من ذلك الوصف المذموم، وكذلك القول فيما إذا وجد من نفسه ميلًا لمن فيه شر وشبهه. وشاع في كلام الناس قولهم: المناسبة تؤلف بين الأشخاص، والشكل يألف شكله. ولما نزل علي بن أبي طالب الكوفة قال: يا أهل الكوفة، قد علمنا خَيِّركم من شريركم، فقالوا: بم ذلك؟ قال: كان معنا ناس من الأخيار فنزلوا عند ناس فعلمنا أنهم من الأخيار، وكان معنا ناس من الأشرار فنزلوا عند ناس فعلمنا أنهم من الأشرار. وكان كما قال رضي الله عنه. عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن مقتديبَابُ قَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25] ذكر أبو الفرج الأموي في «تاريخه» أنه ورد في بعض الأحاديث، أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «كان اسم نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يشكر، ولكثرة بكائه أوحى الله جل وعز إليه: كم تنوح؟ فسُمي نوحًا»، وزعم أبو القاسم السُّهَيلي: أن اسمه كان عبد الغفار، وسُمي نوحًا لكثرة نوحه. وفي «تاريخ الطبري» عن ابن عباس: كان بين نوح وإدريس صلى الله عليهما وسلم ألف سنة. وعن الحكم: كان بين نوح وآدم صلى الله عليهما وسلم ثماني مئة سنة. قال الثعلبي: أرسله الله جل وعز إلى ولد قابيل ومَن معهم من ولد شيث وله خمسون سنة، ولما أُمر باتخاذ السفينة قيل له: اغرس الساج فغرسه حتى أتى عليه أربعون سنة، فلما أدركَ صنع السفينة ثمانين ذراعًا، وعرضها خمسين ذراعًا، وسمكها في السماء ثلاثون، والذراع إلى المنكب. وعن ابن عامر: طولها ستمئة ذراع وستون ذراعًا، وعرضها ثلاث مائة وثلاثون ذراعًا، وسمكها ثلاثة وثلاثين ذراعًا.
(1/162)
وعن
وهب: كان نجارًا إلى الأدمة ما هو رقيق الوجه، في رأسه طول، عظيم العينين، غليظ
الفصوص، دقيق الساقين، طويل اللحية عريضها. وأرسل الطوفان على قومه في سنة ست مئة
من عمره، ولبث في السفينة مئة وخمسون يومًا. وفي «الوشاح»: أسماء كنائن نوح، اسم
امرأة سام محْلَث مَرْبُوا، وامرأة حام أزَيْف نسا، وامرأة يافث زَدْ قَتْ
نَبَّتْ. وفي «الترمذي» محسَّنًا من حديث سمرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ قال: «سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم».- قال البخاري:
(قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {بَادِيَ الرَّأي} [هود: 27] ما ظهر لنا). هذا التعليق رواه
ابن أبي حاتم عن العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني محمد بن شعيب، أخبرني عثمان بن
عطاء عن أبيه به.- قال البخاري: (قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {أَقْلعِي} [هود: 44]
أَمسكي). رواه أيضًا عن أبيه، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي
طلحة عنه.- قال البخاري: (وَقَالَ مُجاهِدٌ: {الْجُودِيِّ} [هود: 44] جَبَلٌ
بِالجَزيرَةِ). رواه أيضًا عن حجاج بن حمزة، حدثنا شبابة، حدثنا ورقاء عن ابن أبي
نجيح عنه بلفظ: الجوديُّ جبلٌ بالجزيرة، تشاممت الجبالُ يوم الغرق وتطاولت، وتواضع
هو لله جل وعز فلم يغرق، فأرست عليه سفينة نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وسيأتي ذكره في التفسير مطولًا [ح: 4680].3337 - 3338 - حديث الدجال تقدم في
الجنائز [ح: 1377] [خ 3337 - 3338]
3339 - وحديث الشهادة يأتي في التفسير [ح: 4487]. [خ 3339]
(1/163)
3340
- وقول ابن التين في حديث الشفاعة: (فَرُفِعَ إِلَيْه الذِّرَاعُ) الصواب: رفعت
إليه، إلا أنه جائز في المؤنث الذي لا فرج له التأنيث والتذكير، والذراع مؤنثة،
ولذلك قال: (كَانَتْ تُعْجِبُهُ). قال: وهذا على ما في بعض النسخ بضم (الذِّرَاعُ)
ونصبها بيِّنٌ يكون صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو رافعها، ويقرأ: (فَرُفِعَ) بنصب
الراء. انتهى، قد تقدم أن اللغويين جميعهم على تأنيث (الذِّرَاعُ) وتذكيره إلا
سيبويه فإنه لا يرى فيه إلا التأنيث، فلا حاجة إلى القاعدة التي ذكرها؛ لأن مثل
هذا لا يكون في المسموع، وقوله:: (وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ). قال عياض: محبته لها
لنضجها وسرعة استمرائها مع زيادة لذتها وحلاوة مذاقها وبُعدها عن مواضع الأذى. وقد
روى الترمذي عن عائشة قالت: «ما كان الذراعُ أحبَّ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غِبًّا،
فكانت تعجل إليه؛ لأنها أسرعها نضجًا». [خ 3340]
وقوله: (فَنَهَس) أكثر الرواة رووها بالمهملة، وفي رواية ابن ماهان: بالمعجمة،
وكلاهما صحيح بمعنى: أخذ بأطراف أسنانه بالمهملة، وأما المعجمة فبالأضراس.
(1/164)
وقوله:
«أَنَا سَيِّدُ النَّاس» يريد الذي يفوق قومه ويُفزع إليه في الشدائد. قال عياض:
وخص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيها وتسليم جميعهم له، ولكون آدم وجميع ولده تحت
لوائه، فإن قيل: كيف يجمع بين هذا وقوله: «لا تفضلوني على يونس»؟ قيل: لعل هذا كان
قبل إعلامه بسيادة ولد آدم، والفضائل لا تنسخ إجماعًا، فتعينت القبلية ولله الحمد،
وزعم بعضهم أنه نهى عن تفضيله عليه لأمور، منها أن التفضيل لشخص يقتضي تنقيص
الآخر، كأنه قال: قولوا ما قيل لكم ولا تخيروا برأيكم، وليس المراد أنكم لا
تعتقدوا تفضيل شخص على شخص، فقد قال جل وعز: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، ومنها أن يفضل عليه في صبره ومعاناة
قومه، فإن نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فضل الأنبياء صلوات الله عليهم
وسلامه بموهبة من الله، ومنها أن يكون دل الناس على التواضع، أو يقال: إن السيادة
التقدُّم، فكأنه أشار بتقدمه في القيامة بالشفاعة على الخلق ولم يتعرض لذكر فضل.
قال عياض: منع التفضيل في حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء فيها على حد واحد؛ إذ
هي شيء واحد لا تفاضل، وإنما التفاضل بزيادة الأحوال والكرامات والرتب والألطاف.
وقال بعض أهل العلم: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن
تكون آياته ومعجزاته أبهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأطهر، أو يكون في ذاته أفضل
وأظهر.
وفي «يونس» ست لغات: ضم النون وفتحها وكسرها مع الهمز وتركه، والفصيح ضمها بغير
همز. و «متَّى» أبوه بتشديد التاء الثانية.
وفي «الوشاح» لابن دريد: أم يونس عربية واسمها قوشه بنت البرك بن سلمان بن نمارة
بن لخم.
(1/165)
وفي
«أبي داود» من حديث عبد الله بن جعفر: «ما ينبغي أن يقول: أن خير من يونس» والضمير
في «أنا» هل هو عائد إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أو إلى
القائل؟ أي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المتعبدين في عبادة أو علم، فإنه لو بلغ
من الفضائل ما بلغ لم يبلغ درجة من درجات النبوة.
وقوله: «يَنفذهُم البَصر» بفتح الياء وبذال معجمة هو الأكثر، وروي بضم الياء، قال
أبو عبيد: معناه ينفذهم بصر الرحمن حتى يأتي عليهم كلهم. انتهى، وهو غير جيد؛ لأن
الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والصواب قول من قال: بصر الناظر من
الخلق. وعن أبي حاتم: إنما هو بدال مهملة، أي: يبلغ أولهم وآخرهم. قال ابن الأثير:
والصحيح فتح الياء وإعجام الذال.
وقوله: (أَلَا تَرى ما بلغنا) بفتح الغين هو الصحيح المختار؛ لأنه تقدم (مَا قَدْ
بَلَغَكُمْ)، ولو كان بسكون الغين لقال: بلغهم، وضبطه بعض المتأخرين بالسكون وله
وجه.
وقوله: «ثلاث كذبات»، وعند مسلم رابعًا هو قوله للكوكب. قال القرطبي: وإنما لم
يعدها صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مع أولئك؛ لأنه قالها حين الطفولية، قال: وهذا
ليس بشيء؛ لأن الله جل وعز خص الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه بسلامة الفطرة
والحماية عن الجهل بالله تعالى من أول نشأتهم وإلى تناهي أمرهم. وقيل: إنه قال ذلك
لقومه على جهة الاستفهام الذي يقصد به التوبيخ لهم والإنكار عليهم، وحذفت همزة
الاستفهام اتساعًا. وقيل: إنه قال ذلك على طريق الاحتجاج على قومه تنبيهًا على أن
ما يتغير لا يصلح للربوبية. قال ابن الأنباري: معناه قلت قولًا يشبه الكذب في ظاهر
القول وهو صدق عند البحث، وذلك أن الكذب لا يجوز على الأنبياء بحال، واستعير هنا
ذكر الكذب؛ لأنه بصورته، فسماه كذبًا مجازًا.
(1/166)
وقوله:
«{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]» أي: سأسقم كقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30]
أي: ستموت، قال القرطبي: ويحتمل أنه يريد سقيم الحجة عن الخروج معكم؛ إذ لا يصح
ذلك حجة على جوازه، فاعتذر عما دعوه إليه حتى يخلو بالأصنام فيكسرها. قال النووي:
سقيم بما قدر عليَّ من الموت. وقيل: كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت، ولو كان الذي
قاله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا تورية فيه لكان جائزًا في دفع الظالمين، فقد
اتفق العلماء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانًا مخيفًا ليقتله، أو يطلب وديعة
لإنسان ليأخذها غصبًا، أو سأل عن ذلك وجب على من علم ذلك إخفاؤه، وهو كذب جائز بل
واجب.
وفي حديث آخر عند البخاري: «ثنتين في ذات الله، وواحدة في شأن سارة» قال بعضهم:
شأن سارة هو أيضًا في ذات الله؛ لأنها سبب دفع كافر عن مواقعة فاحشة، وصيانة
لفراشه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ} [الأنبياء: 63] قال الكسائي: يقف عند قوله: {بَلْ
فَعَلَهُ} ويقول: فعله مَن فعله. وقال ابن قتيبة: معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله
كبيرهم.
وقوله للجبار المجوسي: «أختي» ومن مذهبُهم أن الأخت إذا كانت زوجة كان أخوها الذي
هو زوجها أحق بها من غيره. قال
بعضهم: كان من مذهب الجبار أن من له زوجة لا يجوز أن تتزوج إلا أن يُقتَل الزوج
فاتقاه سيدنا إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بهذا القول، وقد تقدم زيادة
لهذا القول في كتاب البيوع.
و «المصراع» -بكسر الميم- جانب الباب، وفي رواية: «كما بين مكة وحمير»، وفي أخرى:
«كما بين مكة وبصرى»، وفي أخرى: «كما بين مكة وهجر» وهي ألفاظ متقاربة بالنسبة إلى
أول البلد وآخرها.
(1/167)
وقولهم
لنوح: «أنت أول نبي أرسل إلى أهل الأرض» يخدش فيه ما ذكره الطبري في «تاريخه»: زعم
بعضهم أن الله جل وعز ابتعث إدريس صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى جميع أهل الأرض
في زمانه، وجمع له علم الماضين، وأن الله زاده مع ذلك ثلاثين صحيفة، قال: وذلك قول
الله جل وعز: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19]، قال: يعني بالصحف الأولى الصحفَ التي أنزلت على ابني
آدم شيث وإدريس صلى الله عليهم وسلم، ولا يخدش هذان القولان في رسالة نبينا
العامَّة إلى الجن والإنس.
قال عياض: وذكر ابن عباس: أنه إذا دخل أهل النار النارَ وأهل الجنة الجنة فتبقى
آخر زمرة من الجنة وآخر زمرة من النار، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة: ما نفعكم
إيمانكم، فيدعون ربهم ويضجون، فيسمعهم أهل الجنة، فيسألون آدم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ وغيره بعده في الشفاعة لهم، فكلٌّ يعتذر حتى يأتوا محمدًا صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ فيشفع لهم، فذلك المقام المحمود. ونحوه أيضًا عن ابن مسعود ومجاهد،
وذكره علي بن الحسين عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وذكر الغزالي: أن بين
إتيانهم من آدم إلى نوح ألف سنة، وكذا بين كل نبي حتى يأتوا نبينا صلى الله عليه
وعليهم أجمعين، قال: والرسل يوم القيامة على منابر، والعلماء العاملون على كراسي،
وهؤلاء هم الذين يطلبون من آدم فمن بعده الشفاعة.
وقال ابن بَرَّجان في كتاب «الإرشاد»: يليهم رؤساءأهل المحشر طلب من يشفع لهم، وهم
رؤساء أتباع الرسل.
(1/168)
وأما
الحديث الذي رواه أبو الزعراء عن ابن مسعود: «يشفع نبيكم رابع أربعة: جبريل ثم
إبراهيم ثم موسى أو عيسى، ثم نبيكم» صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعليهم أجمعين،
فذكر البخاري: أن أبا الزعراء لا يتابع عليه، والمشهور والمعروف: أن نبينا صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أول شافع. انتهى، يحمل على تقدير الصحة على شفاعة من
الشفاعات عن الشفاعة العظمى.
وقوله في حديث ابن مسعود: (إنَّ رسُولَ الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَرأَ:
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] مثل قراءة العامَّة) بيَّنه أبو داود فقال:
بضم الميم وفتح الدال وكسر الكاف، وقال الفراء في «المعاني»: المعنى مذتكر، وإذا
قلت مفتعل فيما أوله ذال صارت الذال وتاء الافتعال دالًا مشددة، قال: وبعض من أسد
يقولون: {مُذَّكرْ} فيقلبون الدال فتصير ذالًا مشددة، وحدثني الكسائي عن إسرائيل
والعرزمي عن أبي إسحاق عن الأسود قال: قلنا لعبد الله: {فَهَلْ مِن مُدَّكِر} أو
{مُذَّكر}؟ فقال: أقرأني رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ {مُدَّكر}
–بالدال-.
(1/169)
(بَابُ {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ} [الصافات: 124]) قال محمد بن إسحاق بن يسار: هو إلياس بن بتسي بن فيحاص بن العيْزار بن هارون بن عمران صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وقال بعض أهل العلم: بعثه الله إلى بني إسرائيل بعد مَهلك عزقيل. وقال وهب: إن الله لما قضى حَزقِيل وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله جل وعز إليهم حتى نصبوا الأوثان وعبدوها، فبعث الله إليهم إلياس رسولًا، وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة، فكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل اسمه آحاب وله امرأة اسمها أَزَبل، وكان يسمع منه ويصدقه، وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنمًا يقال له: بعل.
(1/170)
قال ابن إسحاق: وسمعت بعض أهل العلم يقول: ما كان بعل إلا امرأة يعبدونها من دون الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله تعالى وهم لا يسمعون منه شيئًا إلا ما كان من ذلك الملك، ثم إنه قال يومًا لإلياس صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: والله ما أرى ما تدعو إليه إلا باطلًا، والله ما أرى فلانًا وفلانًا - فعدد ملوكًا مثله من ملوك بني إسرائيل متفرقين بالشام يعبدون الأوثان - إلا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ملوكًا ما ينقص دنياهم، فيزعمون أن إلياس استرجع ثم رفضه وخرج عنه، ففعل ذلك الملك فعل أصحابه من عبادة الأوثان، فقال إلياس: اللَّهمَّ إن بني إسرائيل قد أَبَوا إلا الكفر، فذُكر لي أنه أوحي إليه: إنا جعلنا أمرَ أرزاقهم بيدك حتى تكون أنت الذي تأذن لهم في ذلك، فقال إلياس: اللَّهمَّ أمسك عنهم القطر، فحُبس عنهم ثلاث سنين حتى هلكت المواشي والهوام والشجر، ولما دعا عليهم استخفى شفقًا على نفسه منهم، فكان حيثما كان وضع له رزق، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبر في مكان قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فيطلبوه ويلقى أهلُ ذلك المنزل منهم شرًّا، ثم إنه استأذن الله جل وعز في الدعاء لهم فأذن له، فجاءهم وقال: إن كنتم تحبون أن الذي أدعوكم إليه هو الحق وأنكم على باطل، فأخرجوا أوثانكم وما تعبدون واجأروا إليهم، فإن استجابوا لكم فهو كما تقولون، وإن هي لم تفعل عَلِمتُم أنكم على باطل فنزعتم عما أنتم عليه، ودعوتُ الله ففرَّج عنكم ما أنتم فيه، قالوا: أنصفت، فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم، فعرفوا ما هم عليه من الضلالة، ثم سألوا إلياسًا الدعاء فدعا، قال: فمطِرُوا لساعتهم فحيت بلادهم، فلم ينزعَوا ولم يَرْجِعوا وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فدعا الله أن يقبضه، فكساه الله الريش وألبسَه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فكان إنسيًا ملكيًا أرضيًا سمائيًا يطير مع الملائكة صلوات الله عليهم وسلامه.
(1/171)
وذكر الحاكم حديثًا صحح إسناده عن أنس: أنه اجتمع مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في بعض السفرات. وإنما ابن الجوزي مخالف في الصحة.- قال البخاري: (يُذكَرُ عَنِ ابنِ مَسعُودٍ وَابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِليَاسَ هُوَ إِدريسُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).التعليق عن ابن مسعود رواه عبد بن حُميد في «تفسيره» بسند صحيح فقال: حدثنا نعيم، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عُبيدة بن ربيعة، عن عبد الله به. والتعليق عن ابن عباس ذكره جويبر عن الضحاك عنه.
(1/172)
قال أبو جعفر واختلفت القراءة في {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] فقرأه عامة قرَّاء مكة شرفها الله تعالى والبصرة والكوفة {إِلْ يَاسِينَ} -بكسر الألف- وكان بعضهم يقول: هو اسم إلياس، ويقول: إنه كان يسمى باسمين: إلياس وإلياسين مثل إبراهيم وإبراهام، ويستشهد بأن جميع ما في السورة من قوله: {سَلَامٌ} إنما هو سلام على النبي الذي ذكر دون إله، فكذلك {إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] إنما هو سلام على إلياس دون إله، وكان بعض أهل العربية يقول: إلياس اسم عِبراني، والألف واللام منه، ويقول: لو جعلتهعربيًا من الألسن فجعله إفعالًا من الإخراج والإدخال جري، ويقول: قال {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] فجعله بالنون، والعجمي من الأسماء قد يفعل به العرب هذا، وهي في بني أسد، تقول: هذا إسماعين قد جاء، وسائر العرب باللام، قال: وإن شئت ذهبت بـ {إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] إلى أن تجعله جمعًا، فتجعل أصحابه داخلين في اسمه كما تقول لقوم رئيسُهم المهلب: جاءكم المهالبة والمهلبون، فيكون بمنزلة قولهم: الأشعريين والسعديين بالتخفيف وشبهه، قال الشاعر: أنا ابن سعد سيد السعدينقال: وعامة قراء المدينة {إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] بقطع {إِلْ} من {يَاسِينَ}، وعن بعضهم أنه كان يقرأ {اليَاسَ} بترك الهمز في ألف {اليَاسَ}، ويجعل الألف واللام داخلتين على ياسين للتعريف، ويقول: إنما كان اسمه ياسين أُدخلت عليه ألف ولام. وقال السُّدي: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] قال: {إليَاسَ}، وفي قراءة عبد الله بن سلام {عَلَى إدْرَاسِين} لأن عبد الله كان يقول: إلياس هو إدريس، دلالة واضحة على خطأ من قال: عنى بذلك سلام على آل محمد، وفساد قراءة من قرأ {وإنالياس} بوصل النون من {إِنَّ} بـ {إِليَاسَ}.
(1/173)
ذِكْرُ إدْريِسَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَواسمه حنوخَ، ويقال: أخنَخ، ويقال: أهنخ، ويقال: أحنوخ -بحاء مهملة وبعد النون والواو خاء معجمة- كذا ضبطه أبو الخطاب في «مرج البحرين»، وذكر ابن قتيبة عن وهب: أنه كان طوالًا ضخم البطن والصدر، قليل شعر الجسد كثير شعر الرأس، وكانت إحدى أذنيه أكبر من الأخرى، وكانت في جسده نكتة بيضاء من غير برَص، وكان رقيق الصوت والنطق قريب الخطو، واستجاب له ألفا إنسان ممن كان يدعوه، فلما رفعه الله اختلفوا بعده وأحدثوا الأحداث، ورُفع وهو ابن ثلاث مئة سنة وخمسة وستون سنة. وفي «تاريخ الطبري» عن ابن عباس: كان بين نوح وإدريس صلى الله عليهما وسلم ألف سنة. قال أبو جعفر: وكان أول بني آدم أعطي النبوة فيما زعم ابن إسحاق، وخط بالقلم بعد آدم وقد مضى من عمر آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ست مئة سنة واثنتان وعشرون سنة، وأنزلت عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من خاط الثياب، وكان قبله يلبسون الجلود، وأول من سبى ولد قابيل واسترقَّ منهم، ودعا حنوخ قومه وأمرهم بطاعة الله جل وعز فلم يقبلوا منه. وذكر عن أبي ذر مرفوعًا بسند صحيح: «أربعة من الرسل سِريانيون: آدم وشيث وخنوخ، وهو أول من خط بالقلم ... » الحديث. وفي «مصنف ابن أبي شيبة» عن عكرمة قال: سألت كعبًا عن رفع إدريس، فقال: كان عبدًا تقيًا يُرفع له من العمل الصالح ما يُرفع لأهل الأرض في زمانه، قال: فعجب الملَك الذي كان يصعد بعمله فقال: رب ائذن لي أزوره، فلما جاءه قال: يا إدريس أبشر، فإنه يرفع لك من العمل ما يرفع لأهل الأرض، فسأله أن يشفع له عند ملك الموت في تأخير أجله ليزداد عبادة، فقال الملك: إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، قال: قد علمت ولكنه أطيب لنفسي، فصعد به الملك وسأل ملك الموت في أمره، فنظر في كتاب معه فقال: والله ما بقي من أجل إدريس شيء، فمات مكانه.
(1/174)
انتهى، وفيه نظر من حيث إن في زمانه كان آدم وشيث صلى الله عليهم أجمعين، ووقع في نسخة: «ما لا يُرفع لأهل الأرض» وهذا له وجه؛ لاحتمال أنه حفظ أذكارًا لم يذكرها غيره، أو يكون الرفع المذكور من عمله بعد وفاتهما، فإنه لم يرفع في زمنهما، إنما رفع بعد وفاتهما بمدة طويلة. وقال بعضهم: ذكره ربنا جل وعز فقال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، وصح: أنه في السماء الرابعة، وغيره من الأنبياء أرفع مكانًا منه، قال: ويجاب بأنه لم يرفع إلى السماء مَن هو حيٌّ غيره. انتهى، وهو غير جيد؛ لأن الله وصف مكانه بالعلو، وهو كذلك من غير شك، ولم يذكر أنه أعلا من كل أحد، وقوله: لم يرفع إلى السماء حيٌّ غيره غير جيد؛ لأن عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رفع إلى السماء وهو حيٌّ إلى الأن لم يمت. وسُمي إدريس لكثرة درسه الصحف التي أنزلت عليه وعلى أبويه صلى الله عليهم، قال ابن العربي: ليس إدريس جدًا لنوح صلى الله عليهما وسلم ولا لنبينا، ويستشهد بحديث الإسراء؛ إذ قال له: (مَرْحَبًا بالأخِ الصَّالح) ولم يقل: الابن كما قاله إبراهيم وآدم صلى الله عليهم أجمعين. انتهى كلامه وفيه نظر في موضعين، الأول: لقائل أن يقول: لعله خاطبه بالأخوة تلطفًا وتأدبًا، وهو أخ وإن كان أبًا، فالأبناء إخوة وكذلك المؤمنون. الثاني: وجداننا عن الشيخ أبي العباس أحمد بن منصور المالكي قال: ذكر لي الشيخ القدوة المرسي أنه صحت له طريق أنه خاطبه فيها بالابن الصالح كمخاطبة أبويه صلى الله عليهم وسلم، تقدم طرف منه أول الصلاة [ح: 349].3342 - حديث أبي ذر تقدم في الإسراء وغيره [ح: 3887].
(1/175)
[خ 3342] (بَابُ قَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]) هود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال ابن هشام: اسمه عابره، ويقال: عَيْبر بن أرفخشد، ويقال: أنفخشد، ويقال: الفشخد بن سامبن نوح صلى الله عليهم وسلم، وفي «تفسير عبد بن حميد» عن قتادة: كانت عاد أحياء باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. وقال ابن قتيبة: هود هو ابن عبد الله بن رباح بن يحاود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكان أشبه ولد آدم بآدم صلى الله عليهما خلا يوسف، وكانت عاد ثلاثة عشر قبيلة ينزلون الرمل، وبلادهم أخصب بلاد، وديارهم بالدو والدهناء وعالج ويبرين ووبار وعمان إلى حضرموت إلى اليمن، فلما سخط الله عليهم جعلها مفاوز وغيطانًا، فلما هلكوا لحق هود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بمكة حتى توفي بها.- قال البخاري: (فِيهِ عَطَاءٌ وَسُلَيمَانُ عَن عَائِشَةَ عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ). يريد بحديث عطاء ما تقدم عنده مسندًا في كتاب الخلق [ح: 3206]، ويريد بحديث سليمان بن يسار ما ذكره أيضًا في سورة الأحقاف مسندًا [ح: 4829].- قال البخاري: (قَالَ ابنُ عُيَينَةَ: عَتَتْ عَلَى الخُزَّانِ). هذا التعليق ذكره ابن عيينة في «تفسيره» بالسند الذي أسلفناه عنه.3343 - حديث ابن عباس: (نُصِرتُ بالصَّبا) تقدم في الاستسقاء [ح: 1035]. [خ 3343]
(1/176)
3344 - قالَ البُخاريُّ: (وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ: الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ، وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ، وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ، وَقَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا! قَالَ: إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ، نَاتِئُ الجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ، فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللهَ إِذَا عَصَيْتُ؟! أَيَأْمَنُنِي اللهُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِي؟!» فَسَأَلَهُ رَجُلٌ - أَظُنُّهُ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ- قَتْلَهُ، فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا، قَوْمًا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ». [خ 3344] كذا هو في روايتنا في غير ما نسخة، وقال ابن كثير: وزعم أصحاب الأطراف أن البخاري رواه هنا وفي سورة براءة عن محمد بن كثير [ح: 4667]، وكذا ذكره أبو نعيم في «مستخرجه»، ورواه البخاري أيضًا في موضع آخر عن قبيصة عن الثوري [ح: 7432]، وفي آخر عن قتيبة عن عبد الواحد بن زياد عن عمارة بن القعقاع عن عبد الرحمن بن أبي نعم [ح: 4351]، وفي «الأوسط» من حديث عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص: «يخرج قوم من أمتي يمرقون من الدين مُروق السهم من الرمية، يقتلهم علي بن أبي طالب».
(1/177)
قوله: (بِذُهَيبَة) قال ابن التين: أُنِّث على نية القطعة من الذهب، وقد يؤنث الذهب في بعض اللغات، وقال غيره: هي تصغير ذهب، والمؤنث الثلاثي إذا صُغر ألحق في تصغيره الهاء كقويسة وشميسة. قال ابن الأثير: وقيل: هي تصغير على اللفظ، وفي رواية: «بذَهَبَة» -بفتح الذال-.وفي الصحيح: أن الذي سأل قتله خالدٌ من غير تردد، وفي روايةٍ عمرُ، وكأنه ليس بينهما تعارض؛ إذ يحتمل أن كلًا منهما سأل. و (الأقرعُ بنُ حَابِس) اسمه فراس فيما ذكره ابن دريد، ومن خط منصور بن عثمان الخابوري: الصواب حصين. وقال أبو يوسف في كتابه «لطائف المعارف»: كان أصمَّ مع قرَعه وعوره. وفي «الكامل»: كان في صدر الإسلام سيد خِندف، وكان محله فيها محل عيينة بن حصن في قيس. وقال المرزباني: هو أول من حرَّم القمار، وكان يحكم في كل موسم، ولما ذكره الكلبي في كتاب «أئمة العرب» قال: كان آخر من قضى من تميم وعليه قام الإسلام. وفي كتاب «العرجان» لعمرو بن بحر: ومن أشراف العُرجان الأقرعُ بن حابس أحد الفرسان الأشراف، ساير سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرجعَه من فتح مكة شرفها الله تعالى. وقال أبو عبيدة: هو أول من جار في الجاهلية؛ لأنه نفر جريرًا على الفرافصة حين وجده أقرب إلى مضر، وكان سنوطًا أعرج الرجل اليسرى، قتل باليرموك سنة ثلاث عشرة مع عشرة من بنيه. وذكر أبو عبيدة في كتابه «أنساب العجم»: أن المُكَعِيَر الضبي أدخل جماعة في المجوسية منهم الأقرع. وقال ابن دريد: استعمله عبد الله بن عامر بن كُرَيز على جيش أنفذه إلى خراسان، فأصيب بالجوزجان.
(1/178)
و (عُيَينَةُ) اسمه حذيفة بن حصن بن حذيفة بن بدر، ولقب (عُيَينَةُ)؛ لأنه طعن في عينه فشترت، وكنيته أبو مالك، أسلم قبل الفتح، وارتد مع طليحة بن خويلد وقاتل معه، وكان من الجرارين يقود عشرة آلاف، وتزوج عثمان بابنته، وهو عريق في الرئاسة، ابنه وابن ابنه وهو وأبوه وجد أبيه كلهم جرار ربع وهو المقول فيه: الأحمق المطاع. و (عَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ): هو ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، كان من أشراف قومه حليمًا عاقلًا، ولم يكن فيه ذاك الكرم، فتنافر هو وعامر بن الطفيل، فنفر عليه عامر، وفيه يقول الأعشى: علقم ما أنت لعامر النافض الأوتار والواتروهي من الشعر الذي نهى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن روايته، ارتد لما رجع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من الطائف ولحق بالشام، ثم أسلم أمام أبي بكر وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران فمات بها. و (زَيدَ الخَيرِ) هكذا سماه النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان يعرف بزيد الخيل؛ لأنه لم يكن في العرب أكثر من خيله، قال أبو عبيد البكري في «فصل المقال»: كانت له ستة أفراس، يكنى أبا مكنف، وكان له شعر وخطابة وشجاعة وكرم ولَسَن، وكان بينه وبين كعب بن زهير مهاجاة، توفي لما انصرف من عند النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالحمى، وقيل: توفي آخر خلافة عمر بن الخطاب، يدل على ذلك ما ذكره الواقدي من ثلاثة في بني حنيفة هو وعدي بن حاتم، وفي «الردة» لوَثِيمةَ أرسله النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو وعدي بن حاتم على صدقات أسد وطيِّئ.
(1/179)
وفي كتاب أبي الفرج: قال أبو عمرو: كان لثعلب رئيس يقال له: الجرار امتنع من الإسلام، فيقال: إن النبي بعث إليه زيدًا فقتله زيد، وذكر أيضًا أنه لما احتضر قال: والله لا أقاتل مسلمًا حتى ألقى الله عز وجل، وتوفي بالحرم يقال له فرده، ولما جيء براحلته إلى زوجته وفيها كتاب النبي وكانت على الشرك أضرمتها بالنار، فيقال: إن النبي لما بلغه ذلك قال بؤسًا لبني نبهان، وكان زيد لما دخل على النبي طرح له متكأ فأعظم أن يتكئ أن يرى النبي فرده، فأعاده عليه ثلاثًا، وعلمه دعوات كان يدعو بها فيعرف بها الإجابة ويستسقي فيُسقى، وقال: يا رسول الله، أعطني ظهر فارس أغير بهم على الروم، فقال: أي رجل أنت، ولكن أنت الكلبة تقتلك، فلم يلبث بعدانصرافه إلا قليلًا حتى حم فمات، وكان في الجاهلية أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته ثم أعتقه. وفي «الوشاح» لابن دريد: كان زيد إذا ركب خطت رجلاه الأرض، وكذا أبو زبيد الطائي وعدي بن حاتم ومالك الأشتر وعامر بن الطفيل وعيينة بن حصن وقيس بن سلمة بنشراحيل وقيس بن سعد بن عبادة، وكان زيد لا يدخل مكة إلا معتمًا من خيفة النساء عليه، وكذا قيس بن سلمة بن شراحيل وامرئ القيس بن حجر وذو الكلاع الحميري وجرير بن عبد الله وسبيع الطهوي وأعيفر اليربوعي وحنظلة بن فاتك الأسدي وقيس بن حسان بن مرثد والزبرقان بن بدر. وقوله: (غَائِرُ العَينَينِ) يعني ضد الجاحظ، و (المُشْرِفُ الوَجْنةَ) يعني ناتئ الوجنتين مرتفعهما، وأصله من الشرف وهو العلو، والوَجْنة: -بفتح الواو وضمها وكسرها- ذكره يعقوب، ويقال: أجْنة، قال ابن جني: أراها على البدل، وهي أعلى الخد، وقيل: لحم الخد، وفي «كتاب ثابت»: الوجنتان ما فوق الخدين والمدمع إذا وضعت يدك وجدت حجم العظم تحتها وحجمه نتوؤه. وقال أبو حاتم: هو ما نتأ من لحم الخدين بين الصدغين وكنفي الأنف. وعن ابن الأعرابي: وهي الوجنة، وفي «الباهر»: ووجنة -بفتح الجيم وكسرها- عن كراع.
(1/180)
و (كَثُّ اللِّحْيَة) أي: كثرة شعرها. وقوله: (مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا) أي: من أصله ونسله وعقبه، وحكى عياض أن بعض رواة مسلم ضبطه بالمعجمتين وبالمهملتين كأنه يستغربه، وليس كذلك بل هو صواب من فعله، فإن ابن سيده قال في حرف الضاد من «المحكم»: الضِّئضِئ والضُّؤْضُؤ الأصل والمعدن، وقيل: هو كثرة النسل، وقال في المهملة: والصيصي والصئصئ كلاهما الأصلُ عن يعقوب، قال: والهمز أعرف، قال ابن الأثير: وحكى بعضهم ضِيضِين بوزن قنديل. وفي «الطبقات»: «قال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عُدل فيها، أو ما أُريد بها وجه الله»، وهو من تميم يقال له: ذو الخويصرة، واسمه حرقوص بن زهير. وفي «الكامل» للمبرد: «لما أتي بالذُّهَيبَة قسمها أرباعًا، وفيه: بينما هو يقسم غنائم خيبر، ولم تكن إلا لمن شهد الحديبية»، وفيه: «فقام إليه رجل مضطرب الخلق أسود فقال: لقد رأيت قسمة ما أريد فيها وجه الله، فغضب حتى رئي الغضب في وجهه، فقال عمر: ألا أقتله يا رسول الله؟ قال: «إنه يكون لهذا ولأصحابه بناء» ورأيت بخط أبي الفتح ابن سيد الناس رحمه الله تعالى: أخبر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه لا يدخل النار من شهد بدرًا ولا الحديبية حاشا رجلًا معروفًا منهم قيل: هو حرقوص السعدي. وعند الثعلبي بسند جيد: «بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقسم غنائم هوازن جاءه ذو الخُويصرة التميمي أصل الخوارج فقال: اعدل ... » الحديث. وزعم ابن أعثم وغيره من المؤرخين أن حرقوصًا يلقب ذا الثدية، وفيه يقول ابن عمه مالك بن الوضاح الشاري: إني لبائع ما يفنى بباقيه ولا أريد لذي الهيجاء تربيصاوأسأل الله بيع النفس محتسبًا حتى أوافق في الفردوس حرقوصاوالزبرقان ومرداسًا وإخوته إذ فارقوا زهرة الدنيا مخاميصاوسماه أبو داود نافعًا، قال السُّهَيلي: وهو أصح، وقد استدللنا على ترجيح الأول في كتابنا «الزهر الباسم في سير أبي القاسم» صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بأمور منها ما تقدم.
(1/181)
قال السُّهَيلي: وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: أنه أعطاهم من خمس الخمس، وهذا مردود؛ لأن خمس الخمس ملك له صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فلا كلام لأحدٍ فيه. الثاني: أنه أعطاهم من رأس الغنيمة، وأن ذلك مخصوص به صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لقوله جل وعز: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، وهذا القول مردود؛ لأن هذه الآية منسوخة، غير أن بعض العلماء احتج لهذا القول؛ لأن الأنصار انهزموا يوم حنين، فأيد الله رسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأمده بالملائكة، فلم يرجعوا حتى كان الفتح، رد الله جل وعز أمر الغنائم إلى رسوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من أجل ذلك، فلم يعطهم منها شيئًا وقال لهم: «أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلى رحالكم!؟» فطيَّب نفوسهم بذلك بعدما فعل ما أُمر به. الثالث: وهو الذي اختاره أبو عبيد: أن إعطاءهم كان من الخمس لا من خمس الخمس ولا من رأس الغنيمة، وأنه جائز للإمام أن يصرف عن الأصناف المذكورة في آية الخمر حيث يرى أن فيه مصلحة للمسلمين. انتهى كلامه. وفيه نظر من حيث إن هذا الذهب ليس من غنائم حنين ولا خيبر في شيء ولا من الخمس؛ لأنه فرقها كلها كما في الحديث، والله تعالى أعلم. و (الحَنجَرة) رأس الغلصمة حيث تراه ناتئًا من خارج الحلق، والجمع الحناجر، قال عياض: يعني لا تفقه قلوبهم ولا ينتفعون بما يتلون منه ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم، وقيل: معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يتقبل. وقوله: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) وفي رواية: «من الإسلام» أي: يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ من الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق بالسهم من دمه شيء، وبهذا سميت طائفة الخوارج المراق، و (الرَّمِيَّة): الصيد المرمي فعيلة بمعنى مفعولة.
(1/182)
قال الخطابي: (الدِّين) هنا الطاعة، أي: يمرقون من طاعة الإمام، قال المازري: وقد اختلف العلماء في تكفير الخوارج، وقال القرطبي: حكم بتكفيرهم جماعة من أئمتنا وتوقف في تكفيرهم كثير من العلماء. قال الخطابي: فإن قيل: أليس قد قال: (لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ)؟ وكيف ولم يدع خالدًا أن يقتله وقد أدركه؟ قيل: إنما أراد إدراك زمن خروجهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واعترضوا الناس بالسيف، ولم تكن هذه المعاني مجتمعة إذ ذاك فيوجد الشرط الذي علق به الحكم، وإنما أنذر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن سيكون ذلك في الزمان المستقبل، وقد كان كما قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وقوله: (قَتْلَ عَادٍ) وفي رواية: «ثمود» ووجه الجمع: أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال هذا على عادته ثلاث مرار، وفي إحدى المرات ذكر ما لم يذكره قبل، أو يكون قالهما في مجلسين، فحفظ أحد الرواة شيئًا لم يحفظه الآخر، يريد قتلهم قتلًا عامًّا بحيث لا يبقي منهم أحدًا في وقت واحد كما فعل بهاتين القبيلتين حيث أهلك كل واحد منهم في وقت واحد، واستدل على كفرهم بهذا؛ لأن عادًا قتلوا على الكفر، وستأتي له تكملة في قتل المرتدين [ح: 6930].3345 - حديث ابن مسعود تقدم قريبًا [ح: 3341]. [خ 3345]
(1/183)
(بَابُ قَولِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف: 83]) روينا في «كتاب ابن مردويه» بسند حسن من حديث عبيد الله بن موسى، حدثنا بسام الصيرفي عن أبي الطفيل، قال: سأل ابن اللواء علي بن أبي طالب: أرأيت ذا القرنين، أنبيًا كان أم ملكًا؟ فقال: لا نبيًا كان ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا، أحب الله فأحبه ونصح لله فنصحه، ضُرب على قرنه الأيمن فمات، فبعثه الله جل وعز، ثم ضرب على قرنه الأيسر فمات، وفيكم مثله. ومن حديثه أيضًا عن عبيدة بن حميد، حدثنا عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال: سُئِلَ علي عن ذي القرنين مَن هو؟ فقال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسمل يقول: «هو عبد ناصَحَ اللهَ فنصحه».ومن حديث عبد الرزاق عن معمر، عن ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي هريرة يرفعه: «ما أدري ذو القرنين نبيًا كان أم لا» ولما خرجه الحاكم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة. ومن حديث جابر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: كان ذو القرنين نبيًا. ومن حديث سفيان عن الفضل بن عطية عن عبد الله بن عبيد بن عمير: أن ذا القرنين حج ماشيًا، فسمع به إبراهيم الخليل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فتلقاه. ومن حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذو القرنين اسمه عبد الله بن الضحاك بن معد. وفي «مصنف ابن أبي شيبة»: قيل لعلي: كيف بلغ ذو القرنين المشرق والمغرب؟ قال: سخِّر له السحاب وبسط له النور ومدَّ له الأسباب. وفي كتاب «السحاب» لعبد الملك بن هشام: ذو القرنين اسمه الصعب بن ذي مراثد. قال ابن هشام: حدثنا بذلك أسد بن موسى عن أبي إدريس، عن وهب عن ابن عباس أنه سُئل: ممن كان ذو القرنين؟ فقال: من حِميَر، وهو الصعب بن ذي مراثد، وهو الذي مكن الله تعالى له وآتاه من كل شيء سببًا، وبنى السدعلى يأجوج ومأجوج، قيل: فالإسكندر الرومي؟ قال: كان رجلًا صالحًا.
(1/184)
وقال كعب الأحبار: الصحيح عندنا من علوم أحبارنا وأسلافنا أنه من حِميَر، وأنه الصعب بن ذي مراثد، والإسكندر رجل من بني يونان من ولد عِيصُو بن إسحاق صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ورجاله أدركوا المسيح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، منهم أرسطاطاليس ودانيال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وفي رواية وهب عن ابن عباس: أنشدني نافع بن الأزرق لأبي كرز أسعد يذكر بيت الله ويذكر جده الصعب ذا القرنين: بيت له يوفي الحجيج نذورهم ... ويودعون طوافه للموعدوأقام ذو القرنين فيه حجه ... خوفًا يطوف من اللظى المتوقدإذا لم يزل من كان جدي مسلمًا ... ملكًا متى تره المقاول يسجدطاف المشارق والمغارب ... عالمًا يبغي علومًا من كريم مرسَّدويرى مغار الشمس عند غروبها ... في عين ذي حلب وناط قرمدفلقد أذل الصعب صعب زمانه ... وأناط عنوًا عزه بالفرقدحكم الأمور وأحكمت آياته ... يجري إلى أجل له وبموعدوقال امرئ القيس حجر من أبيات يذكره: وأنشبها المخالب كل ملك مع الصعب الذي نقب الجبالاهمام طحطح الآفاق مشيًا وقاد إلى مشارقها الرعالاوسد بحيث ترقى الشمس سدًا ليأجوج ومأجوج الجبالاوقال قس بن ساعدة الإيادي: أودى أبو كرب وعمرو قبله وأباد ملك دبيَّة الصباحوأباد أفرنيقيس بعد مقامه بالمغرب المستغرب الفياحوالصعب ذو القرنين أصبح ثاويًا بالحنو بين ملاعب الأرياحوقال الربيع بن صبع الفزاري وكان معمَّرًا: رأيت قرونًا من قرون تقدمت فلم يبق إلا ذكرها حين ولتألا أين ذو القرنين أين جموعه لقد كثرت أسبابه ثم قلتوقال أيضًا:
(1/185)
سد ركن ما أدرك المرء تبعا ويغتالني ما اغتال أنسر لقمانوألوى بذي القرنين بعد بلوغه مطالع قرن الشمس بالإنس والجانوقال: أين بنو هود النبي وأين من شمر عن راحتيه وابتكراوالصعب لما علت أرومته وحان ريب الزمان واذكرالم يدفع الموت بالجنود ولا رد أسباب علمه القدراوقال أيضًا: هلا ذكرت له العرنجح حميرا ملك الملوك على القليب مقيماوالصعب ذا القرنين عُمِّر ملكه ألفين أمسى بعد ذاك رميماوقفت به أسبابه حتى رأى وجه الزمان بما يسُؤْه شتيماوقال أيضًا: ألم تعلموا ما حاول الصعب مرة وما صبح الساعي وآل دراجفهل بعد ذي القرنين ملك مخلد وهل بعد ذي الملكين يوم فلاحتريش له الأطيار عند غدوه وتجمح إن أوما لها برواحوقال طرَفَة بن العبد: وللصعب أسباب تجل خطوبها أقام زمانًا ثم قامت مطالبهيسير بوجه الحتف والعيس جمعه ويمضي على وجه البلاد كتائبهوقال أوس بن حجر السعدي: حنانيك يا أوس بن حجر فإنه سيبعد من جاري الأمور ويهلكويجري الليالي بانتقاص وفرقة وإن سُئِلَ الصعب لا بد يسلكقال عبد الملك بن هشام في كتاب «التيجان»: لما ولي الصعب ذو القرنين تجبر تجبرًا عظيمًا حتى إنه لم يكن في التبابعة أشد تجبرًا منه ولا أعظم سلطانًا ولا أشد سطوة، وكان له عرش من ذهب مصمت مرصع بالدر والياقوت، وكان يلبس ثيابًا منسوجة بالذهب منظومة بالدر والياقوت، وكان عظيم الحجاب، فبينا هو ذات ليلة رأى رؤيا عظيمة وقومًا تخطفهم النيران، فسأل فقالوا: هؤلاء الجبارون، ثم رأى الجنة وما أعد الله فيها لأوليائه، وقيل له: يا صعب اخلع رداء الكِبْر وتواضع، فلما أصبح تواضع وبرز للناس، وأمر بالعرش فهُتك ونُهب، ثم رأى الليلة الثانية كأنه نُصب له سلم إلى السماء فرقي إلى السماء ومعه سيف صلت فعلقه بالثريا، ثم أخذ القمر بيده اليسرى والشمس بيده اليمنى، ثم سار وتبعه الدراري والنجوم ونزل بهما إلى الأرض، فلم يزل يمشي بهما والنجوم تتبعه، فلما كان في الليلة الثالثة رأى كأنه
(1/186)
جاع جوعًا شديدًا فصارت له الأرض غداء، فأقبل عليها يأكلها جبلًا جبلًا وأرضًا أرضًا حتى أتى عليها كلها، ثم عطش عطشًا شديدًا فأقبل على البحار يشربها بحرًا بحرًا حتى أتى على السبعة الأبحر، ثم أقبل على البحر المحيط يشربه، فلما أمعن فيه رأى طينًا وحمأة سوداء فلم يسغ له فتركه، ورأى في الليلة الرابعة كأن الإنس والجن أتوه من الأرض كلها، وكذلك البهائم والأنعام، وأقبلت الرياح فاستدارت فوقه، فأرسل أممًا من الجن والإنس مع ريح الصبا إلى المغرب، وأممًا من الجن والإنس مع الدبور إلى يمين الأرض، وأمر البهائم والأنعام فذهبت بهم الأرياح في كل وجه، ثم أمر الهوام فذهبت في سبيل من مضى، فلما أصبح أرسل إلى أهل مشورته فقص عليهم ما رأى، فقالوا: اجمع العلماء بهذا الأمر، فجمعهم فقالوا: لم تدرك عقولنا هذه الرؤيا، فقال له شيخ منهم: ليس على وجه الأرض من يفسر تأويل رؤياك إلا نبي ببيت المقدس، فأمر بالجنود فجُمعت وجعل على مقدمته ألف ألف فارس، فلما انتهى إلى البيت الحرام طاف به حافيًا راجلًا، ثم سار إلى القدس يسأل عن النبي الذي وصف له، فلما رآه سأله عن اسمه فقال: الخضر بن خضرون بن عموم بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق، فقال له الصعب: أيوحى إليك؟ قال: نعم يا ذا القرنين، فقال: ما هذا الذي دعوتني به؟ قال: أنت صاحب قرني الشمس، فكان أول من سماه بذلك، وأخبره بمنامه فقال: تملك الأرض ومَن عليها والبحر المحيط تبلغ منه غاية حتى يأتيك شيء لا تستطيعه فترجع، والإنس والجن ينقلهم من مكان إلى مكان، والأنعام والبهائم تسخر لك والرياح كذلك تصرف ضرها عن أي بلد شئت، وتصرفها إلى أي بلد شئت، وتجاوز مغرب الشمس، فانهض بأمر الله، فإن الله جل وعز يعينك، وسار معه الخضر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فطاف الأرض كلها، وعمل السد وعرضُه خمسة آلاف ذراع وطوله ألف ذراع، وبنى جسرًا إلى أرمينية مسيرة سبعة أشهر.
(1/187)
وعن وهب: لما نزل الصعب حنو ثم أقر من أرض العراق مرض ثمانية أيام، فلما مات غاب الخضر فلم يظهر بعده إلا لموسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال النعمان بن الأسود يرثيه من أبيات: وجاوزت العقيق من أرض نجد إلى العنوان والنحل الدوانهناك الصعب ذو القرنين ثاوٍ ببطن تنوفه الحنو بن عانألم تر أن حنو الرمل أمسى لملك الدهر والدنيا معانوقال اليحموم بن زيد بن غالب بن السائب بن عمرو بن زيد بن عملاق بن الحارث ذي مراثد يرثي ذا القرنين: اسمع ذا القرنين لما علا على العلا بالبناة الشاملةفيا لها من كرية لم تكن مصروفة عنه ولا حائلةوأصبح السعد دليلًا بها صبَّحه من هذه النازلةلم يدفع الموت الذي جاءه بسكسك العز ولا عاملةسألوا عن الدنيا كمثل الدبا ونفسه من بينهم سائلةوقال أعشى بن قيس بن ثعلبة أبو نصير: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويًا بالحنو في جدث أميم مقيمقال ابن هشام: فلما مات بعد تعميره ألفي سنة فيما ذكره قس بن ساعدة ولي مكانه ابنه أبرهة الوضاح، وكان سماه باسم إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وقال السُّهَيلي: كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا. وذكر ابن إسحاق: أن اسمه مرزبا بن مرذبة -بذال مفتوحة- وقيل: اسمه هرمس، وقيل: هرديس، وقيل: أفريدون بن أثفيان. وفي «المحبَّر في ذكر ملوك الحيرة»: الصعب بن قرين هو ذو القرنين. وفي «تفسير مقاتل»: اسم ذي القرنين قيصر. وفي «مقامات التنزيل» لأبي العباس: روى العنقزيعن أسباط عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: «أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: أخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال: «ومن هو؟» قالوا: ذو القرنين ... ) الحديث.
(1/188)
وفي «غرر الكتاب»: اسمه الإسكندريس، وهو من بني عيصو، وقيل له ذو القرنين؛ لأنه ملك قرني الدنيا الشرق والغرب، وقيل: كانت له ذُؤَابتان، وقيل: كان لتاجه قرنان، وقيل: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: كان في رأسه ما يشبه القرنين. وفي كتاب «فضائل القدس» لأبي بكر محمد بن أحمد بن محمد الواسطي الخطيب: كان ذو القرنين أوسع أهل الأرض عدلًا، وكان آخر الملوك الخيرين، ومات ببيت المقدس، وزعم أهل العلم أنه بدومة الجندل رجع إليها من القدس، ولم يكن له بالقدس كثير عمر، وكان عدد ما سار في البلاد منذ يوم بعثه الله إلى أن قبض خمس مئة عام، وذكر حديثًا مرفوعًا من حديث إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده: «كان الفيلسوف من أهل الملك تزوج امرأة من غسان، وكانت على دين الروم، فولدت ذا القرنين فسماه أبوه الإسكندر»، وإنما نسب إلى الروم؛ لأن أباه خلفه صغيرًا في حجر أمه يتيمًا، فلذلك جُهِل أبوه ونسبوه إلى أمه. وفي «الوشاح» لأبي دريد: ذو القرنين اسمه الصعب بن الهمال.- قال البخاري: (يُقَالُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ الجبلين، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: النُّحَاسُ).هذان التعليقان ذكرهما جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. ذِكر يأجوجَ ومأجوجَ. قال ابن مردويه في «تفسيره»: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثنا أبي حدثنا عمي، حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس، عن أبي سعيد الخدري قال: نبي الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -وذكر يأجوج ومأجوج- «لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل».ومن حديث محمد بن يزيد، حدثنا مجالد عن أبي الرضي عن أبي سعيد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يخرج مأجوج ومأجوج فيقتلون الناس ويهلكوهم إلا بقية يلحقون بالجبال، ثم يبعث الله عليهم النَّغْف فيخرج في كواهلهم فيموتون أجمعون، وتأكل مواشي الناس جيفهم كما يأكل الحشيش أو الخضر».
(1/189)
بسند جيد صحيح عن حذيفة، سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن يأجوج ومأجوج: «أمة، كل أمة أربع مئة ألف أمة، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صلبه كلهم قد حملوا السلاح، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم ثلاثة أصناف، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير ولا إنسان إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم, تكون مقدمتهم بالشام وساقتهم بموضع كذا وكذا -يعني المشرق- فيشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية».ومن حديث مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «بعثني الله ليلة أسري بي إلى يأجوج ومأجوج، فدعوتهم إلى دين الله جل وعز فأبوا أن يجيبوني، فهم في النار مع من عصى من ولد آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وولد إبليس».ومن حديث النعمان بن سالم عن ابن عمرو بن أوس عن جده، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا».وعن عبد الله بن عمرو بسند صحيح: «الإنس عشرة أجزاء، تسعة أجزاء يأجوج ومأجوج، وسائر الناس جزء واحد».ومن كتاب «الفتن» لنعيم بن حماد: حدثنا ابن وهب عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إن يأجوج ومأجوج حين يخرجون يمرُّ أولهم ببحيرة طبرية فيشربوها، ثم يأتي آخرهم عليها فيقولون: كأنه كان هنا مرة ماء».وعند ابن بطال عن ابن عباس: الأرض ستة أجزاء، فخمسة أجزاء ليأجوج ومأجوج، وجزء لسائر الخلق.
(1/190)
وفي «التيجان» لابن هشام في كلام للخضر مع ذي القرنين: وستلقى قومًا يرون أن أهل الأرض عبيد لهم، وأنهم شركاء الله جل وعز في خلقه، وهم يأجوج ومأجوج، فلما بلغ أطراف جزائر البحر المحيط لقي بها أممًا من يأجوج ومأجوج يقال لهم: الأحرار، وهم قوم سود الوجوه زرق الأعين طوال الوجوه والأنف، وجوههم وجوه الخنازير، يختفون بالنهار من حر الشمس ويظهرون في الليل، فدعاهم ذو القرنين إلى الله تعالى فآمنوا، ثم لحج في أرضهم فأنابت منهم أمة يقال لهم: بنو عجلان بن يافث إلى الله، فتركهم في جزيرة أرمينية إلى ناحية جابرص، فسموا الترك لأن ذا القرنين تركهم، ثم بلغ جزائر الأرض الزوراء التي تزاور عنها الشمس، فوجد عندها قومًا صغار الأعين صغار الوجوه مشعرة، وجوههم كوجوه القرود، ولا يظهرون في النهار. وفي «تفسير الضحاك» عن معاذ وواثلة بن الأسقع، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف كالنخل طولًا، وصنف طول كل واحد منهم أربعة أذرع في عرض أربعة أذرع يفترش إحدى أذنيه ويتجلل بالأخرى، وصنف في غاية القصر، لهم أرزاق غير أرزاقكم ومعايش غير معايشكم بمنزلة البهائم يتشاورون فيما بينهم، خلق لا حاجة لله فيهم».وعند ابن أبي شيبة عن عمرو بن العاصي: «منهم من طوله شبر، ومنهم من طوله شبران وثلاثة».وعن عطية بن حسان: هم أمتان، في كل أمة أربعمائة ألف أمة ليس منها أمة تشبه الأخرى. وقال الأوزاعي عن ابن عباس فيما ذكره علي بن معبد: الأرض ستة أجزاء، خمسة فيها يأجوج ومأجوج، وجزء فيه سائر الخلق. وعند القرطبي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يأجوج أمة لها أربع مئة أمير، وكذلك مأجوج، صنف منهم طوله مئة وعشرون ذراعًا».
(1/191)
قال القرطبي ويروى: «أنهم يأكلون جميع حشرات الأرض من الحيات والعقارب وكل ذي روح من الطير وغيره، وليس لله خلق ينمى نماءهم في العام الواحد، يتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب، ومنهم من له قرن وذنب وأنياب بارزة يأكلون اللحوم نيئة».وفي كتاب «القصد والأمم» لابن عبد البر: هم أمم لا يقدر أحد على استقصاء ذكرهم لكثرتهم، ومقدار الربع العامر من الأرض مئة وعشرون سنة، وإن تسعين منها ليأجوج ومأجوج، وهم أربعون أمة مختلفو الخلق والقدود، في كل أمة ملك ولغة، منهم من مشيه وثب، وبعضهم يغير على بعض، ومنهم من لا يتكلم إلا تمتمة، ومنهم مشوهون، وفيهم شدة وبأس، وأكثر طعامهم الصيد، وربما أكل بعضهم بعضًا. وذكر الباجي عن عبد الرحمن بن ثابت قال: الأرض خمس مئة عام، منها ثلاث مئة بحورٌ، ومئة وتسعون ليأجوج ومأجوج، وسبع للحبشة، وثلاث لسائر الناس. وعن علي بن أبي طالب: غطاء أحدهم بستون بها وجلده تسعون. وذكر عياض: أن يأجوج ومأجوج رجل، ابنا يافث بن نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مشتقان من تأجج النار وهي حرارتها، سموا بذلك لكثرتهم وشدتهم، وهذا على قراءة من همزه، وقيل: من الإجاج وهو الماء الشديد الملوحة، وقيل: هما اسمان أعجميان غير مشتقين. انتهىوأما قول من قال: إن سيدنا آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ احتلم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك، فباطل لا أصل له؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يحتلمون. وفي «المنتهى» في اللغة من همزها جعل وزن يأجوج يفعولًا من أجيج النار أو الظليم أو غيره ومأجوج مفعولًا، ومن لم يهمزها جعلهما عجميين. قال الأخفش: من همزهما جعل الهمزة أصلية، ومن لا يهمز جعل الألِفَين زائدتين بجعل يأجوج فاعولًا من يججت ومأجوج فاعولًا من مججت الشيء من فمي، والأول أشبه بالواجب، فكأنهم سموا بذلك لاختلاف أصواتهم، فشبهوا بأجيج النار، وهما غير منصرفين؛ لأنهما اسمان لقبيلتين.
(1/192)
وفي كتاب «الفتن» لنُعَيم عن كعبٍ: أن النتن إذا أذى أهل الأرض نقله الله إلى يأجوج ومأجوج فجعله رزقًا لهم. زاد عمرو البكالي: فيجتزرونها كما تجتزرون الإبل والبقر. قال نعيم: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثني سليمان بن عيسى قال: بلغني أنهم أربعة وعشرون أمة يأجوج ومأجوج، ومأجيج وأجيج، والغسيلانين والغسينين والفزانيين، والقوطيين وهو الذي يلتحف أذنه، والزريطيين والكنعانيين والدفرائيين والخاخوئين والأنطارنين والتغاسيين وهم رؤوس الكلاب. قال البخاري: (وقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: رَأَيْتُ السَّدَّ مِثْلَ البُرْدِ المُحَبَّرِ، قَالَ: رَأَيْتَهُ).هذا التعليق رواه ابن مردويه في «تفسيره» عن سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن رجلين عن أبي بكرة الثقفي، أن رجلًا أتى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقال: «يا رسول الله، إني قد رأيته، يعني السد، فقال: كيف هو؟ قال: كالبُرد المحبَّر، قال: قد رأيته». قال: وحدثنا قتادة أنه قال: طريفة حمراء من نحاس، وطريفة سوداء من حديد. وفي كتاب «الفتن» لنعيم بن حماد: حدثنا مسلمة بن عُلَيٍّ عن سعيد بن بشير عن قتادة قال رجل: «يا رسول الله قد رأيت الردم، وإن الناس يكذبونني، فقال: كيف رأيته؟ قال: رأيته كالبُرد المحبَّر، قال: صدقتـ، والذي نفسي بيده لقد رأيته ليلة الإسراء لَبِنَة من ذهب ولَبِنَة من رصاص».وفي «تفسير الحوفي»: بُعدُ ما بين الجبلين مئة فرسخ، فلما أخذ ذو القرنين في عمله حفر له أسًّا حتى بلغ الماء، وجعل عرضه خمسين فرسخًا، وجعل حشوه الصخور وطينه النحاس المذاب، فبقي كأنه عرق من جبل تحت الأرض، ثم علاه وشرفه بزُبَر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عِرقًا من نحاس فصار كأنه بُرد محبَّر.
(1/193)
قرأت على أبي النون عن ابن المقير عن الحافظ السلامي عن الحبال عن ابن داود وابن الأنباري عن أبي بكر محمد بن أحمد بن المسور عن المقدام بن داود عن علي بن معبد، حدثنا ابن وهب عن ابن أنعم عن سعد بن مسعود عن شيخين من قومه عن عقبة بن عامر الجهني، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لطائفة جاؤوه من اليهود: «جئتم تسألوني عن ذي القرنين وكيف كان أول شأنه، وسأخبركم بما تجدونه في كتابكم، إنه كان غلامًا من الروم، فأتى ساحلًا من سواحل مصر فبنى به مدينة تسمى الإسكندرية». وفيه: «وأتى السدين وهما جبلان زلقان يزل عنهما كل شيء فبناهما ... » الحديث. وعند الطبري: الإسكندر هو إسكندروس بن فيلفوس. وعند المسعودي: فيليس، وكانت أمه زنجية أهديت لدابا الأكبر، فوجد منها نكهة استثقلها فعولجت ببقلة يقال لها: اندروس، فحملت منه بدارا الأصغر، فلما رضعت ردها فتزوجها فيليس، فحملت منه بالإسكندر اشتق اسمه من تلك البقلة.3346 – (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِه وَحَلَّقَ بِإِصْبعَيهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، فَقَالَتْ زَيْنَبُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ). [خ 3346] ولما رواه مسلم في «صحيحه» عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيينة عن الزهري عن عروة عن زينب قال عن حَبيبَة بنت أم حَبيبَة عن أمها أم حَبيبَة عن زينب بنت جحش.
(1/194)
وقال الترمذي: قال الحميدي عن سفيان: حفظت من الزهري في هذا الإسناد أربع نسوة، قال الترمذي: جرده سفيان. قال الدَّارَقُطْني: وكذا رواه عن سفيان جماعة منهم إبراهيم بن بشار وإبراهيم بن سعيد الجوهري وابن مصفى والحسن بن الصباح وعبد الجبار بن العلاء ويحيى بن السري وسعيد بن عمرو الأشعثي وعبد الله بن أيوب ونصر بن علي ومحمد بن أبي عون وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، قال أبو الحسن: وأما مسدد وسعيد بن نصر وعمرو فأسقطوا حبيبة في روايتهم عن سفيان، قال: وأظنه ربما أسقطها وربما ذكرها، يعني ابن عيينة، قال: وأما الجراح بن منهال فإنه: «رواه عن الزهري عن عروة عن زينب بنت جحش ... » الحديث. وفي «كتاب ابن مردويه»: حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا إسماعيل بن زكريا عن عبد الله بن محرز عن يزيد بن الأصم عن ميمونة عن زينب بنت جحش قالت: «قام رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ذات ليلة من نومه فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، ثلاث مرار، فُرج الليلة من ردم يأجوج فرجة. قلت: يا رسول الله، أيعذبنا وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث».وفي «كتاب نعيم بن حماد» عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة، عن زينب بنت جحش، وفيه: «وعقد ثنتي عشرة».3347 – (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنا ابنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرفَعُهُ، قَالَ: فَتَحَ اللهُ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذِهِ وَعَقَدَ بِيَدِهِ تِسْعِينَ). [خ 3347] ولما رواه مسلم من حديث سفيان عن ابن شهاب قال: وعقد سفيان عشرة، وفيه أيضًا: أن وهيبًا عقد تسعين. قال عياض: لعل حديث أبي هريرة متقدم فزاد قدر الفتح بعده، أو يكون المراد تقريب التمثيل لا حقيقة التحديد.
(1/195)
وقول ابن العربي هذا يدل على أن السد مذ بني لم يفتح منه شيء إلا يوم إخباره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بمثل ثقب عشرة في العدِّ، وفقهه: أنه لم يقصد به العدد، فيعارض قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إنا أمَّة أمية، وإنما جاء لبيان صورة خاصة معينة» فيه نظر من حيث أنا أسلفنا أن هذه الإشارة مدرجة ليست من قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وإنما ذكر إشارة عبر عنها الراوي الذي لم يشاهد تلك الإشارة. وخروج يأجوج ومأجوج يكون بعد خروج عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، جاء ذلك في حديث مرتب رواه الحاكم وصحح إسناده من حديث مُؤثِر بن عَفَازَة عن ابن مسعود، قال: «لما كان ليلة أُسري بالنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لقي إبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم أجمعين، فتذاكروا أمر الساعة فردوا الحديث إلى عيسى، فذكر خروج الدجال، قال: فأهبط فأقتله ويرجع الناس إلى بلادهم، فيستقبلهم يأجوج ومأجوج، فيجْأر إليَّ الناسُ، فأدعو الله جل وعز فيميتهم، فتجأر الأرض من ريحهم إليَّ، فأدعو الله جل وعز، فيرسل السماء فتلقي أجسامهم في البحر ... » الحديث. وفي «تفسير ابن مردويه» بسند جيد عن أبي هريرة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ينقرون السد، يعني يأجوج ومأجوج، حتى يكادوا يروا شعاع الشمس، فيقولون: نرجع إليه غدًا، فيرجعون فيجدونه أشد ما كان، فإذا بلغ مدتهم وأراد الله جل وعز أن يبعثهم على الناس قالوا: نرجع إليه إن شاء الله غدًا، فيرجعون إليه كهيئته حين تركوه فيحفرونه».وفي حديث حذيفة عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «إن يأجوج ومأجوج ينقرون بمعاولهم دائبين، فإذا كان الليل قالوا: نفرغ، فيصبحون وهو أقوى منه بالأمس، حتى يُسلِم رجل منهم حين يريد الله جل وعز أن يبلغ أمره، فيقول المؤمن: غدًا نفتحه إن شاء الله ... » الحديث.
(1/196)
وفي «تفسير مقاتل»: «يغدون إليه كل يوم فيعالجونه حتى يولد فيهم رجل مسلم، فإذا غدوا عليه قال لهم المسلم: قولوا بسم الله، فيعالجوه حتى يتركوه رقيقًا كقشر البيض ويرى ضوء الشمس، فيقول المسلم: قولوا بسم الله نرجع غدًا إن شاء الله فنفتحه ... » الحديث. قالوا: في هذا ثلاث آيات الأول: أن الله منعهم أن يوالوا الحفر ليلًا ونهارًا. الثاني: منعهم الله جل وعز أن يحاولوا الرُّقِيَّ عليه بآلة أو سلم، ولا ألهمهم ذلك ولا علمهم إياه. الثالث: صدهم عن قول إن شاء الله تعالى. والشر المقترب كأنه يريد به قتل عثمان، فلذلك أخبر بقربه. وقولها: (أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟) قال أبو الفرج: يموتون بآجالهم لا بذنوبهم. قال ابن العربي: ويحشر كل أحد على نيته. و (الخَبَثُ) -بفتح الخاء والباء- وفُسر بالفجور والفسوق، وقيل: الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، ومطلقه المعاصي. قال القرطبي: ويروى: (الخبْث) -بسكون الباء- وهو مصدر.3348 - وذكر حديث أبي سعيد، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (يَقُولُ اللهُ جل وعز يوم القيامة: " يَا آدَمُ، قمْ فَابعثْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟، قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَالوَاحِدُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا.
(1/197)
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ " فَكَبَّروا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ» فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ). [خ 3348] وفي حديث أبي هريرة: «من كل مئةٍ تسعة وتسعين».وروى الترمذي مثله عن عمران وصححه، وعن أنس كذلك، رواه ابن حبان في «صحيحه»، وقال الحاكم: هما صحيحا الإسناد، وأكثر أئمة البصرة على أن الحسن سمع من عمران. وعند ابن مردويه من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي موسى نحوه، وفي «مقامات التنزيل» عن جابر بن عبد الله نحوه. وفي حديث عمران: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة. ثم قال: بل أرجو أن تكونوا أكثر أهل الجنة». وفي حديث عبد الله بن عمرو: «أخرجوا بعث النار» فيحتمل أن آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما أمر أولًا بالإخراج أمر هو الملائكة أن يخرجوا ويميزوا أهل الجنة من النار. وفي «تفسير ابن مردويه» من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: «بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في مسيره في غزوة بني المصطلق، إذ نزل عليه {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج: 1] فوقف على دابته ورفع بها صوته، وقال: أتعلمون أيَّ يوم ذاك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك يوم يقول الله: يا آدم قم فابعث بعث النار ... » الحديث، وفيه: «إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة».ومن حديث هلال بن حبَّاب عن عكرمة عنه بلفظ: «هل تدرون أي يوم ذاك؟ يوم يقول الله لآدم ... »
(1/198)
الحديث، وفيه: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، إنما أنتم في الناس أو الأمم كالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة، وإنما أمتي جزء من ألف جزء من سائر الناس». ولما ذكره الطبري في «التهذيب» قال: قد يجب أن يكون هذا على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح لعلتين، إحداهما: أنه جزء لا يعرف له مخرج عن عكرمة إلا من هذا الوجه. الثانية: أنه من نقل عكرمة، وفي نقل عكرمة عندهم نظر يجب التثبت فيه. وعند الطبري من حديث الحسن: «لما قفل النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من غزوة العشيرة قرأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج: 1] ... » الحديث، وفيه: «لم يكن رسولان إلا بينهما فترة من الجاهلية، فهم أهل النار، وإنك بين ظهراني خليقتين لا يعادلهما أحد من أهل الأرض إلا كثروهم يأجوج ومأجوج، وهم أهل النار، ويكمل العدد من المنافقين».وفي «البعث» للبيهقي عن أبيه بسند جيد: «نزلت هذه الآية على النبي وهو في سرية».وعند ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومئة صف، أنتم منها ثمانون صفًّا» في إسناده الحارث بن حصِيرة وفيه كلام. وعند الترمذي محسنًا عن بريدة مرفوعًا مثله، وعن ابن مسعود عند الطبري بسند صحيح: «نصف أهل الجنة» كحديث أبي سعيد. وفي «عيون الأخبار» للقَتَبِيِّ: روي عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «تكون الخلائق يوم القيامة مئة وعشرين صفًّا، طول كل صف مسيرة أربعين ألف سنة، وعرض كل صف ألف سنة. قيل: يا رسول الله كم المؤمنون؟ قال: ثلاثة صفوف، والمشركون مئة وسبعة عشر صفًّا» قال القرطبي: هذا غريب جدًّا مخالف لصفوف المؤمنين الواردة في الأحاديث. انتهى، يحمل هذا على حالهم في الموقف كما في الأحاديث، وكلام القرطبي على حالة الانفصال ودخول الجنة يحمل، فلا تباين بين القولين.
(1/199)
قال الطبري: اختلف أهل العلم في وقت كون الزلزلة، فقال عطاء وعامروعلقمة: هي كائنة في الدنيا قبل القيامة. وروي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نحو معنى ما قالوا خبر في إسناده نظر، ثم ذكره من حديث يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن رجل عن أبي هريرة، قال أبو جعفر: والصواب في ذلك ما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فذكر حديث أبي سعيد وأشباهه. وقال الزجاج: قيل: إن هذه الزلزلة في الدنيا، وإنه يكون بعدها طلوع الشمس من مغربها، وقيل: إنها الزلزلة التي تكون معها الساعة. وقول البخاري في كتاب التفسير: وقال جرير وعيسى بن يونس وأبو معاوية، يعني عن الأعمش: {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج: 1] [ح: 4741]. التعليق عن أبي معاوية وجرير رواه ابن مردويه في «تفسيره» عن عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا محاضر وجرير، حدثنا الأعمش. وحدثنا دَعْلَج، حدثنا محمد بن علي بن زيد، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد به، ورواية المسيب بن شريك والفُقَيمي عن الأعمش: {سُكَارى وَمَا هُم بِسُكَارى} [الحج: 1]، قال الأعمش: وهي قراءتنا، وبها قرأ حمزة والكسائي. وقال الطبري: حدثنا أبو السائب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، والتعليق عن عيسى عن الأعمش، وقال الفرَّاء: أجمعت القراء على {سُكَارى وَمَا هُم بِسُكَارى} [الحج: 1].
(1/200)
وحدثني هشيم عن مغيرة عن إبراهيم عن ابن مسعود أنه قرأ: {وَتَرى النَّاسَ سَكْرى وَمَا هُم بِسَكْرى} [الحج: 1] وهو وجه جيد في العربية؛ لأنه بمنزلة الهلكى والجرحى، وليس هو بمذهب النسوان والنساوي، فاختير سكرى بطرح الألف من هول ذلك اليوم وفزعه كما قيل: موتى، ولو قيل: سكرى على أن الجمعيقع عليه التأنيث فيكون كالواحدة كان وجهًا كما قال: {الأَسماءُ الحُسْنى} [الأعراف: 180] وقد ذكر أن بعض القراء قرأ: {ويُرى النَّاسُ} وهو وجه جيد، وعند الزجاج: {تَذْهَلُ} ويجوز {تُذْهَلُ} ووجه لم يُقرأ به: {وَيَرى النَّاسَ سَكْرى} المعنى: يرى الإنسان الناس ويرى الناس سكرى وما هم بسكارى، ويجوز: {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} والقراءة الكثيرة: {وترى الناس سكرى وما هم بسكارى} {وترى الناس سَكَارى وما هم بسَكَارى}.قال ثعلب: امرأة حامل إذا أردت حبلى، فإذا أردت أنها تحمل شيئًا ظاهرًا قلت: حاملة، وحمل النخلة أو الشجرة بفتح وبكسر. قال أبو الفرج: فإن قيل: فهل تبقى حاملٌ يوم القيامة؟ فالجواب: أنه لو حضرت حامل يومئذ لوضعت، ولو حضر مولود يعقل أهوال القيامة لشاب، قال تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17].قال ابن التين: قوله: (أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ)، وفي حديث آخر: «كالرقمة في جلد ثور» إما أن يكون وهمًا من بعض النقلة، أو يكون هذه الأمة كالشعرة، وتكون هي وسائر المسلمين من الأمم السالفة كالرقمة.
(1/201)
انتهى كلامهقد أسلفنا أن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة، فإذا كانوا ثلثيهم كيف يكونوا شعرة من رقمة؟ إذ الرقمة فيها شعر كثير، فلا يتجه هذا القول بحال، وتكبيرهم للسرور بما ذكره لهم، وقوله: (رُبُع) ثم قال: (نِصفَ أهلِ الَجنَّة) ولم يقل النصف أولًا؛ لأن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، أو يكون أخبره الله أولًا بالربع، ثم زاده إلىما سلف ذكره. وقوله: «ألف» ثم قال: «تسع مئة وتسعة وتسعين» هو من العدد الذي يتسامح فيه العرب عادة. بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] (وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: الرَّحِيمُ بِلِسَانِ الحَبَشَة) هذا التعليق رواه ابن المنذر عن أبي يحيى عن أبي ميسرة، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا إبراهيم بن سعد عنه، ثم إني رأيت جماعة من الحبش يقولون: إنهم لا ينطقون بالحاء، إنما يقولونها بالخاء فينظر، وفي بعض النسخ: <وقال أبو مَيسرَةَ: الرَّحِيم> لا ذكر فيه لـ (عَائِشَةَ).
(1/202)
3349
– (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنا
المُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ
عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّكُمْ
مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ
إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِي
يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي أَصْحَابِي، فَيُقَالُ:
إِنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ،
فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا
دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم}
[المائدة: 117]. [خ 3349]
وفي موضع آخر: «مُشَاةً» [ح: 6524] وفيه قال سفيان: هذا مما كنا نعد أن ابن عباس
سمعه من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، زاد البيهقي في كتاب «البعث والنشور»:
«فقالت زوجة ابن عباس: أينظر بعضنا إلى عورة بعض؟! فقال: يا فلانة، لكل امرئ منهم
يومئذ شأن يغنيه». ولما خرجه الترمذي صححه.
وعند البخاري أيضًا عن عائشة: «يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلًا. فقلت: يا رسول
الله الرجال مع النساء؟! قال: يا عائشة الأمر يومئذ أشد من ذلك» [ح: 6527].
وعند البيهقي بسند لا بأس به، عن سودة زوج النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «يبعث الناس حفاة عراة غرلًا،
قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان. قلت: يا رسول الله، واسوأتاه! ينظر بعضنا إلى
بعض؟! قال: شُغل الناس عن ذلك».
وعند
الترمذي عن معاوية بن حيدة: «تحشرون ركبانًا ومشاة، وتحشرون على وجوهكم يوم
القيامة على أفواهكم الفدم» قال البيهقي: وذكر حديثًا من أبي داود بسند صحيح عن
أبي سعيد، أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يقول: «إن الميت يُبعث في ثيابه التي يموت فيها»، وخرجه ابن
حبان أيضًا في «صحيحه»، الجمع بينهما: أنهم يكونون أو بعضُهم عراة إلى موقف الحساب
أو قبله، ثم يكسى إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ثم الأنبياء صلوات الله
عليهم وسلامه ثم الأولياء، فتكون كسوة كل إنسان من جنس ما يموت فيه، حتى إذا دخلوا
الجنة أُلبسوا من ثياب الجنة، أو يبعثون من قبورهم في ثيابهم التي يموتون فيها، ثم
عند الحشر تتناثر عنهم ثيابهم فيحشرون أو بعضهم إلى موقف الحساب عراةً، ثم يكسَون
من ثياب الجنة، وقد حمله بعض أهل العلم على العمل، أي في أعماله التي يموت فيها من
خير أو شر، قال الله جل وعز: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر} [الأعراف: 26]،
وقال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} [المدثر: 4] يقول: عملَك أخلِصه.
ثم ذكر من عند مسلم عن جابر يرفعه: «يبعث كل عبد على ما مات عليه»، قال: وروينا عن
فضالة بن عبيد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «من مات على
مرتبة من هذه المراتب بُعث عليها يوم القيامة» قال: وهذان الخبران يؤكدان قول من
حمل الخبر الأول على العمل، والله أعلم.
وقال أبو عمر: يُحشر العبد عبدًا وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قُطع منه
عضو يرد في القيامة حتى الختان، وقد احتج بحديث أبي سعيد من قال: إن الموتى يبعثون
على هيئاتهم، وحمله الأكثر من العلماء على الشهيد الذي أُمر أن يزمل في ثيابه
ويدفن بها ولا يغير شيء من حاله، بدليل حديث ابن عباس وعائشة، قالوا: ويحتمل أن
يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم، انتهى
(1/204)
ومما
يدل على قول الجماعة مما يوافق حديث عائشة وابن عباس قولُه جلَّ وعز: {وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] وقوله:
{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] والملابس في الدنيا أموالٌ ولا مالَ
في الآخرة، زالت الأملاك بالموت والملابس يومئذ فلا غناء فيها، اللَّهمَّ إلا ما
كان من لباس الجنة.
وأما الغزالي فذهب إلى حديث أبي سعيد وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«بالغوا في أكفان موتاكم، فإن أمتي تُحشر في أكفانها وسائر الأمم عراة» رواه أبو
سفيان مسندًا. انتهى، إن صح هذا الحديث - وما إخاله - فيكون معناه: فإن أمتي
الشهداء تحشر بأكفانها، وأما ما روى أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي في
كتابه «الإبانة» عن هبة الله بن إبراهيم بن عمر، حدثنا علي بن الحسن بن بندار،
حدثنا أبو عروبة، حدثنا محمد بن المصفى، حدثنا معاوية، حدثنا إبراهيم بن معاوية عن
أبي الزبير عن جابر، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أحسنوا أكفان
موتاكم، فإنهم يتباهون بها ويتزاورون في قبورهم» محمول على أن ذلك
يكون في البرزخ كما في نفس الحديث، فإذا قاموا من قبورهم خرجوا كما في حديث ابن
عباس إلا الشهداء.
وقوله: (وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) فيه
فضيلة عظيمة لإبراهيم وخصوص له كما خص موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فإن
النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يجده متعلقًا بساق العرش، مع أن سيدنا سيد
المخلوقين أول من تنشق عنه الأرض، ولا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه، بل هو أفضل
من وافى القيامة، قال القرطبي: يجوز أن يكون أراد بالناس ما عداه صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، فلم يدخل تحت خطاب نفسه، انتهى.
(1/205)
يعكر
على هذا ما رواه عبد الله بن المبارك في كتاب «الرقائق» عن سفيان بن عمرو بن قيس،
عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن علي بن أبي طالب، قال: «أول من
يكسى خليل الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قبطيتين، ثم يكسى محمد صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ حُلة حبرة عن يمين العرش».
وفي «منهاج الحليمي» من حديث عباد بن كثير عن أبي الزناد عن جابر: «أول من يكسى من
حلل الجنة إبراهيم ثم محمد، ثم النبيون صلى الله عليهم وسلم». ثم قال: «إذا أثنى
محمد أُتي بحُلة لا يقوم لها البشر؛ لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة»، فيكون كأنه
ليس مع إبراهيم صلى الله عليهما وسلم.
وعند أبي نعيم عن ابن مسعود، قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فذكر حديثًا فيه: «فيكون أول من يكسى إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، فيقول ربنا جل وعز: اكسوا خليلي، فيُؤتى بِريطَتين بيضاوين فيلبسهما، ثم
يقصد مستقبل العرش، ثم أوتى بكسوتي فألبسها، فأقوم عن يمينه مقامًا يغبطني فيه
الأولون والآخرون».
وفي كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي عن ابن عباس، قال رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «أول من يكسى إبراهيم حُلة من الجنة، ويؤتى بكرسي فيُطرح عن يمين
العرش، ويؤتى بي فأُكسى حُلة لا يقوم لها البشر ... » الحديث.
(1/206)
فهذا
إخبار من الصادق صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بأولية أبيه ثم هو، والله أعلم،
والحكمة في ذلك على ما ذكره العلماء: أنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يكن في
الأولين والآخرين عبدٌ أخوف لله منه، فيُجعل له كسوته أمانًا ليطمئن قلبه، ويحتمل
أن يكون ذلك كما جاء في بعض الأحاديث من أنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى
مبالغةً في التستر وحفظًا للفرج من مَسِّ المصلَّى، فلما فعل ما أمر به جُوزي بأن
يكون أول من يستر يوم القيامة، ويحتمل أن يكون الذين ألقوه جردوه من ثيابه كما
يُفعل بمن يُراد قتله، وكان ذلك في ذات الله جل وعز، فلما صبر وتوكل على الله دفع
عنه شر النار، وجزاه بذلك التجريد أن جعله أول مَن يُدفع عنه العري يوم القيامة
على رؤوس الأشهاد.
قوله: (غُرلًا) -بضم الغين المعجمة وسكون الراء- جمع أغرل، هو الذي لم يختتن، قال
الأزهري: الأغرَل والأرغَل والأغلَف والأقلف والأعرم بالمهملة كلُّه واحد. وقال
أبو هلال العسكري: لا تلتقي الراء مع اللام في العربية إلا في أربع كلمات: أرل اسم
جبل، وورل دابة، وجرل وهو ضرب من الحجارة، والغُرلة. انتهى كلامه. وفيه نظر
لوجداننا خامسًا وهو برل الديك، وهو الريش الذي يستدير بعنقه، وسادسًا قال أبو
نصر: عيش أغرل، أي واسع، وسابعًا: رجل غرلٌ مسترخي الخلق، وثامنًا وهو الهرل، قال
القاليُّ: هو ولد الزوجة.
قال ابن الجوزي: لذة جماع الأقلف تزيد على لذة جماع المختون، قال ابن عقيل: بشرة
263
(1/207)
حشفة
الأقلف موقَّاة بالقلفة، فتكون بشرتها أرقَّ، وموضع الحسِّ كلما رقَّ كان الحس
أصدقَ كراحة الكف إذا كانت مرفَّهة من الأعمال صلحت للحِسِّ، وإذا كانت يد قصار أو
نجار خفي فيها الحس، فلما أبانوا في الدنيا تلك البضعة أعادها الله جل وعز ليذيقها
من حلاوة فضله، قال: والسر في الختان مع كون القلفة معفو عما تحتها من النجس أنه
سنة إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حيث بلي بالترويع بذبح ولده، فأحب أن
يجعل لكل والد من أهل ملته ترويعًا بقطع عضو وإراقة دم، ويبتلى أولادهم بالصبر على
إيلام الآباء لهم، فتكون هذه الحالة مظهرة للصبر والتسليم من الآباء والأولاد
تأسيًا بإبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
قال ابن التين: طول الغرلة يدل على نجابة الصبي.
وقوله: (ويُجَاء برِجَالٍ مِن أمَّتي، فيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) وفي آخر
الحديث: (إن هؤلاء لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ) ذهب الخطابي إلى أن الارتداد هنا
التأخُّر عن بعض الحقوق اللازمة والتقصير فيها، ورُد عليه بأن هذا الذي قاله فيه
نظر من وجهين، أحدهما: أن قوله: (مُرْتَدِّينَ) يعطي الكفر كقوله تعالى: {أَفَإِنْ
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] أي: رجعتم
إلى الكفر. الثاني: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «بُعدًا لهم
وسُحقًا» وهذا لا يقال للمسلمين؛ لأن شفاعته للمذنبين، فإن قيل: كيف خفي عليه
حالهم وقد قال: «تُعرض عليَّ أعمالُ أمتي»؟ فيجاب: بأنه إنما تعرض عليه أعمال
الموحدين لا المنافقين والمرتدين، قال النووي: المراد به المنافقون والمرتدون،
فيناديهم للسِّيما التي عليهم من غرة وتحجيل، فيقال: ليس هؤلاء ممن وُعِدت بهم، إن
هؤلاء بدلوا بعدك، أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم، انتهى.
المنافق لا غرة له ولا تحجيل؛ لأن ذلك لا يكون إلا لمريد وجه الله تعالى، وأما
المرتد فزالتا عنه بحبوط عمله، فيُنظر.
(1/208)
قال
النووي: الثاني: المراد من كان في زمنه صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مسلمًا ثم
ارتد، فيناديهم لما كان يعرفه في حياته من إسلامهم، فيقال: ارتدوا بعدك. انتهى،
يعكر على هذا عرض الأعمال، فإنه إذا فقد عملهم أو حبه في قلبهم شيء من ذلك.
الثالث: أصحاب المعاصي الكبار الذين ماتوا على التوحيد، أو أصحاب البدع الذين لم
يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء المُذَادين بالتأويل
يجوز أن يذادوا عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله فيدخلهم الجنة. انتهى.
أصحاب الكبائر لا يدعى عليهم كما سبق، وقال أبو عمر: كل من أحدث في الدين فهو من
المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة
المسرفون في الجور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر.
وقول محمد بن أسعد الجواني: روي عن ابن عباس وعن علماء الإسلام وأهل الكتاب أن
النسب فيما بين آدم وإسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صحيح على ما سنورده، وهو
إبراهيم بن تارح وهو آزر بن ياحور بن ساروح بن راغوا بن فالغ بن عيبر بن شالخ بن
أرفخشد بن سام بن نوح بن يرد بن يهليل بن قيتر بن يابس بن شيث بن آدم صلى الله
عليهم وسلم، قال: لا خلاف في هذا بينهم، ولا خلاف إلا في أسماء الآباء لأجل ثقل
الألسنة، وإنما الخلاف فيما بين إسماعيل وعدنان فيه نظر؛ لما ذكره ابن حبان في
«كتاب السير»: اختلفوا فيما فوق إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فمنهم من
قال: آزر بن الناحر بن سارغ بن الراغ بن القاسم الذي قسم الأرض بن يعبر بن السائح
بن الرافد بن السائح وهو سام، ومنهم من قال: آزر بن صاروح بن أرغوا ابن فالغ بن
أرفخشد، ومنهم من ذكر شيخنا بني عنبر وأرفخشد.
ثم اختلفوا فيما بعد نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فمنهم من قال: نوح بن ملكان
بن متوشلخ بن إدريس بن الرائد بن مهلهل بن قينان بن الطاهر بن شيث، ومنهم من قال:
نوح بن لامكر بن متوشلخ بن حنوخ.
(1/209)
وقال
الجواليقي: هو إبراهِيْمُ وإبراهِمُ وإبْرَهَمُ وإبراهام، وقال الزجاج: تفسيره أبٌ
راحمٌ لرحمته الأطفال، ولذلك جُعل هو وسارة كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون
إلى يوم القيامة.
وفي «تاريخ ابن عساكر»: أن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولد بغوطة دمشق
بقرية يقال لها: برزة قاسيون، والصحيح ولادته بكوثا من إقليم بابل بالعراق.
3350 - وقوله: (آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ) أي: ظُلمة، وقال أبو إسحاق الزجاج: هي
سواد كالدخان، وقيل: الغبار، وعن مقاتل: سواد وكآبة. و (الذِّيخُ) -بذال معجمة
مكسورة وخاء معجمة بعد ياء مثناة من أسفل- ذَكَر الضباع. قال ابن سيده: والجمع
أذياخ وذيوخ وذيخة، والأنثى ذيخة، والجمع ذيخات، ولا يُكَسَّر، وأراد بالمتلطخ، أي
متلطخ بالرجيع أو بالطين. [خ 3350]
3351 - 3352 - حديث ابن عباس تقدم في الحج [ح: 398]، وإنكاره استقسام هذين
الشيئين؛ لأن الأزلام إنما كانت في أيام الجاهلية بعد عيسى، فأنى حينذاك إبراهيم
وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم. [خ 3351 - 3352] 3353 – (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا عُبَيْدُ اللهِ،
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ ... )
الحديث. [خ 3353]
- ثُم قَالَ: (وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَمُعْتَمِرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
هذا التعليق رواه البخاري في «صحيحه» مسندًا عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة حماد
بن أسامة، وقال في موضع آخر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان عن
عبيد الله، فذكره، وممن تابعهما أيضًا عبيد بن إسماعيل وعبيد الله بن نمير ومحمد
بن بشر والحسن بن عياش، قال الدَّارَقُطْني: والقول يحيى بن سعيد.
(1/210)
الكرم هنا معناه: الشرف، وذلك أن من اتقى ربه عز وشرف؛ لأن التقى يحمله على أسباب العز لأنها تبعده عن الطمع في كثير من المباح فضلًا عن غيره من المأثم، وما ذل إلا من أسره هواه، وأما قول القرطبي: يخرج من هذا الحديث أن إخوة يوسف ليسوا أنبياء؛ إذ لو كانوا كذلك لشاركوه في هذه المنقبة، فيحتاج إلى تثبُّت، وذلك أن الشخص قد يفضل غيره من إخوته لمعنًى فيه، لا سيما على قول من قال: إن يوسف صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان رسولًا، والرسالة أرفع درجة من درجة النبوة.
(1/211)
3354 - حديث سمرة تقدم في الجنائز [ح: 745]. [خ 3354] 3355 - وحديث ابن عباس تقدم في الحج [ح: 1555]. [خ 3355] 3356 - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وَهُوَ ابنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالقَدُومِ. مُخَفَّفَةً). [خ 3356] قال أبو زكريا: رواة مسلم متفقون على تخفيف (القَدُوم) قال القاضي: هي قرية بالشام، وقيل: هي آلة النجار المعروفة، وهي مخففة لا غير. وحكى الباجي التشديد وقال: هو موضع. وضبطه القابسي والأَصِيلي في حديث قتيبة بالتشديد، قال الأَصِيلي: وكذا قرأه علينا أبو زيد المروزي. وأنكر يعقوب بن شيبة التشديد، قال ابن التين: وروي بضم القاف وتشديد الدال يريد المكان بغير ألف ولام، وهو مقيل لإبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ومن رواه مخففًا أراد الآلة. وقال الدَّاودي: من رواه بالتخفيف أراد الفأس الصغيرة. قال القرطبي: الذي عليه أكثر الرواة التخفيف، يعني به الآلة، وهو قول أكثر أهل اللغة في الآلة. وقال أبو جعفر: المكان مشدد لا يدخله الألف واللام. قال يعقوب: الآلة لا مشدد. قال القرطبي: وهو اسم موضع مخفف، قال: ويحصل من أقوالهم أنه إن أريد به الآلة فهو مخفف، وإذا أريد به الموضع ففيه التشديد والتخفيف، ويحتمل أن يراد بالذي في الحديث الآلة والموضع، قال الحازمي: المخفف قريةٌ كانت عند حلب، وقيل: هو اسم مجلس إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بحلب، وفي الحديث: «اختتن إبراهيم بالقدوم» أراد به الموضع، كذا جاء مفسَّرًا في الحديث، والقدوم: جبل بالحجاز، والمشدد الدال قال ثعلب: اسم موضع، قال الحازمي: إن أراد ثعلب أحد هذين الموضعين فلا يتابع عليه؛ لاتفاق أئمة النقل على خلاف ذلك، وإن أراد موضعًا ثالثًا صح ما قاله.
(1/212)
وقوله: (وهُو ابنُ ثَمَانِينَ) قال عياض: جاء في هذا الحديث من رواية مالك والأوزاعي: «اختتن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو ابن مئة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثماني سنة» إلا أن مالكًا ومن تبعه وقفوه على أبي هريرة، قال النووي: الموقوف متأول أو مردود، قال ابن قتيبة: عاش إبراهيم مئة وسبعين سنة. قال القرطبي: وكان إبراهيم أول من اختتن، وصار سنة معمولًا بها في ذريته، وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم، ولم يزالوا يختتنون إلى زمن عيسى صلوات الله عليه وسلامه، غيَّرت طائفة من النصارى ما جاء في التوراة من ذلك وقالوا: المقصود غلفة القلب لا قلفة الذَّكَر، فتركوا المشروع من الختان بضرب من الهذيان.3358 - وقول أبي هريرة: (تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) يريد هاجر، وماء السماء: المرعى، قال: ويقال: إنه أراد زمزم، أنبطها الله تعالى لهاجر فعاشوا به، فكأنهم أولادها، وقال غيره: سُموا بذلك لخلوص نسبهم وصفائه كماء السماء. قال عياض: والأظهر عندي أنه أراد بذلك الأنصار، نسبَهم إلى جدهم عامر وكان يعرف ماء السماء، والأنصار كلهم من ولده، وهو حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نَبْت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان. انتهى كلامه، وفيه نظر من حيث إن الأنصار ليسوا من ولد إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ابن هاجر، ولا يعلم لها ولد غيره، والله أعلم، اللَّهمَّ إلا على قول من يقول: إن العرب جميعها من ولد إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إلا قبائل استثنيت، يتجه على هذا وهو قول شاذ. [خ 3358] 3361 - حديث الشفاعةتقدم قريبًا، قال آخره: (تَابَعَهُ أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ).
(1/213)
انتهى، متابعة أنس هذه خرجها هو في «صحيحه» من حديث قتادة عنه [ح: 7440]، وخرجه الترمذي محسَّنًا عن أبي سعيد الخدري، وأبو داود الطيالسي من حديث علي بن زيد عن أبي نصرة عن ابن عباس، وأبو عبد الله البخاري عن ابن عمر أيضًا [ح: 4718]. [خ 3361] حديث الكافر وسارة تقدم في البيوع [ح: 2217]، وحديث الأوزاع تقدم في الحج [ح: 1831].3360 – (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ، حَدَّثَنا أَبِي، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] ... ) الحديث. [خ 3360] قال الإسماعيلي: لا أعلم في هذا الحديث شيئًا من قصة إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ إذ هو مذكور في الباب المترجم بإبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. انتهى. لقائل أن يقول: هذه الآية الكريمة المذكورة في سورة الأنعام كلها في سيدنا إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكذا ما بعدها لما حاجه قومه فقال: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 80، 83] الآية، ولهذا أن علي بن أبي طالب روى عنه الحاكم أنه قرأ هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا} قال: هذه في إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأصحابه ليس في هذه الأمة، وقال: صحيح الإسناد.
(1/214)
وقال الثعلبي في قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وهي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُواإِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} فلعل البخاري لمح أحد هذين، والله تعالى أعلم. قال الخطابي: إنما شق على الصحابة؛ لأن ظاهر الظلم ظلم النفس من ارتكاب المعاصي وأخذ أموال الناس، فظن الصحابة رضي الله عنهم أنه يُراد بها ظاهرها، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.3362 – (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ: يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْلاَ أَنَّهَا عَجِلَتْ، لَكَانَ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا ... ) الحديث. رواه النسائي عن أحمد بن سعيد شيخ البخاري، عن وهب بن جرير عن ابن عباس عن أبي بن كعب، ورواه أيضًا عن أبي داود سليمان بن سعيد عن علي بن المديني عن وهب به، وفيه: قلت لأبي: حمادٌ لا يذكر أبي بن كعب ولا يرفعه، قال: أنا أحفظ كذا كذا حدثني به أيوب. [خ 3362] قال وهب: وحدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن ابن عباس نحوه، ولم يذكر أُبيًا ولم يرفعه، قال وهب: فأتيت سلام بن أبي مطيع فحدثني بهذا الحديث عن حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الله بن سعيد، فردَّ ذلك ردًا شديدًا ثم قال لي: فأبوك ما يقول؟ قلت: أبي يقول: أيوب عن سعيد، فقال: العجب والله! ما يزال الرجل من أصحابنا الحافظ قد غلط، إنما هو أيوب عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير.
(1/215)
وقال أبو مسعود: رأيت جماعة اختلفوا على وهب بن جرير في هذا الإسناد، قال الجياني: لم يذكر أبو مسعود إلا هذا، وأنا أذكر ما انتهى إليَّ من الخلاف على وهب وعلى غيره في هذا الإسناد، فرواه حجاج الشاعر عن وهب عن أبيه عن أيوب عن عبد الله بن سعيد بن حمير عن أبيه عن ابن عباسعن أبي بن كعب مرفوعًا، ورواه عن وهب بهذا الإسناد أحمد بن سعيد الرباطي، وهو حديث هذا الباب، إلا أن البخاري لم يذكر عنه أبيًّا، ورواه ابن المديني عن وهب فذكر أبيًا، ورواه حماد بن زيد عن أيوب فلم يذكر أبيًا ولا النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ورواه ابن علية عن أيوب فقال: نبئت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: «أول من سعى بين الصفا والمروة ... »
(1/216)
الحديث بطوله، نحوًا مما رواه معمر عن أيوب عن سعيد، وفيه قصة زمزم، ورواه سلَّام بن أبي مطيع عن أيوب عن عكرمة بن خالد ولم يذكر ابن جبير، قال أبو علي: وكيف يصح هذا وفيه من الخلاف ما تقدم؟! فنقول: إذا تميَّزه الناظر ميَّز منه ما ميَّزه البخاري وحكم بصحته، وعلم أن الخلاف الظاهر فيه إنما يعود إلى وفاق، وأنه لا يدفع بعضه بعضًا، فأما من أوقفه فقليل، والذين أسندوه أئمة حفاظ، وكذلك من أسقط من سنده أبيًا؛ لأن في الحديث إسقاطه، والحديث إذا اتصل إلى ابن عباس متصلًا وكان محفوظًا فلا نبالي سمى لنا من رواه عن ابن عباس أو لم يسم، وليس يعد مرسل الصحابة مرسلًا، وأما من أسقط عبد الله بن سعيد فليس بشيء، قد صح أن أيوب رواه عن عبد الله بن سعيد عن أبيه، وقد أتى به في الإسناد حماد بن زيد وجرير بن حازم، وقال ابن علية عن أيوب: نبئت عن سعيد، فهذا يصحح أن أيوب إنما أخذه من عبد الله بن سعيد عن أبيه، وإنما كان يسقطه وهب في بعض الأحايين ويسوقه معنعنًا على طريق التخفيف وتقريب الإسناد، وكان أحمد بن سعيد يحدث به على الوجهين بسقوطه وإثباته، وأما إنكار سلام أن يكون مخرج الحديث عن سعيد وأنه عن عكرمة فلا يلتفت إليه؛ لأنه ليس من حمال المحافل.3364 – (حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ المُطَّلِبِ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ النُّطُقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ... ) الحديث. [خ 3364]- (قال الأنصاريُّ: حَدَّثَنا جُرَيجٌ قال: أَخبَرَنا كَثيرُ بنُ كَثيرٍ، فَحَدَّثَني بالحديثِ ولم يرفعه).
(1/217)
هذا التعليق عن محمد بن عبد الله الأنصاري رواه أبو نعيم الحافظ عن فاروق بن عبد الكبير: حدثنا أبو خالد عبد العزيز بن معاوية القرشي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا ابن جريج. قال: أما كبير فذكره وقال: ذكره - يعني البخاري - عن الأنصاري بلا رواية: «تعفيةِ هاجر أثرَها»، بمعنى تسحب طرف الثوب على التراب كما قال امرؤ القيس: خرجت بها تمشي تجر وراءنا على أثر منا ذيل مرط مرجَّلِوذلك أن سارة أبطأ عنها الولد، فوهبت هاجر لإبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلما ولدت إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالت: لا تساكنِّي في بلد، فكانت هاجر أول من خفض النساء، وأول امرأة جرَّت ذيلها، وأول امرأة ثقبت أذناها، وذلك أن سارة غضبت عليها، فحلفت أن تقطع ثلاثة أعضاء من أعضائها، فأمرها إبراهيم أن تبر قسمها بثقب أذنها وخفاضِها، قال ابن أبي زيد في «نوادره»: فصارت سنة في النساء. و (الجِرَاب) -بكسر الجيم- حتى قيل في بعض الأقوال: لا تفتح الجِراب ولا تكسر القَصعة، وحكى بعضهم فيه الفتح. والسِّقاء: إهاب فيه ماء، وفي رواية: (شَنَّة) أي: خَلَقَة. وقوله: (يَتَلَوَّى) وقال الراوي: (يَتَلبَّطُ)، أي: يتمرَّغ ويتقلب، قال ابن التين: وقيل: (يَتَلَوَّى) يتقلَّب ظهرًا لبطن، واللويُ: وجع البطن، ويتلبَّط: يتضوَّغ. وقولها: (صَهٍ -تُريدُ نَفسَها-) أمرتها بالسكوت لتسمع ما فيه فرج. وقولها: (غَوَاثٍ) -بفتح الغين المعجمة- قال أبو الفرج: قاله لنا ابن الخشاب. والغِياث -بالكسر- من الإغاثة، قال ابن الأثير: وروي: (غُواث) -بالضم والكسر- وهما أكثر ما يجيء في الأصوات كالنباح والنداء، والفتح فيها شاذ، قال القاضي: الفتح للأَصِيلي والضم لأبي ذر. وقوله: (تُحوِّضُه) أي: تجعله حوضًا لئلا يذهب الماء. و (يَفُورُ) ينبع، قال أبو الفرج: إجراء زمزم كان إنعامًا محضًا لم يشبه كسب البشر، فلما دخل الحوض ذهبت تلك النعمة ووكلت إلى تدبيرها.
(1/218)
وفي «ربيع الأبرار» للزمخشري: أنبط جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ زمزم مرتين، مرةً لآدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حتى انقطعت زمن الطوفان، والمرة الثانية لإسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. والضَّيعة: الضَّياع، والرابية: المكان المرتفع. وقوله: (مِنْ طَريقِ كَدَاءٍ) -بفتح الكاف والمد- وهو موضع بأعلى مكة شرفها الله تعالى، وكُدا -بالضم والقصر- أسفلها، قال ابن الجوزي: وهو المراد هنا؛ لأنه قال: فنزلوا أسفل مكة، وأما كُدَي -مصغر- فموضع مَن يخرج من مكة إلى اليمن. وأما (جُرْهُمَ): فهو ابن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. و (الطَّيرُ العَائِفُ): الذي يتردد ويحوم حول الماء ولا يبرح. وقوله: (فَأرْسَلُوا جَرِيًّا) يريد الرسول والوكيل، وقيل: الأجير. و (سَارَةَ): هي ابنة عمه توبيل بن ناحور، وقيل: هي بنت هاران الأكبر بن ناحور، وأما قول ابن قتيبة وغيره: إن سارة بنت هاران بن تارح فغير جيد؛ لأن الله تعالى حرم نكاح بنت الأخ على لسان نوح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكان إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مرسَلًا، أرسله الله جل وعز إلى أخواله من جُرهم وإلى العماليق الذين كانوا بأرض الحجاز، فآمن بعض وكفر آخرون. قال ابن قتيبة: عاش مئة وسبعة وثلاثين سنة، ودفن مع أمه بالحجر. قال السُّهَيلي: التي أمره أبوه بطلاقها اسمها جدا بنت سعد، والتي أمره بإمساكها اسمها السيدة، وقيل: عاتكة، وقيل: سامة بنت مهلهل. وعند ابن سعد: أم ولد إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رِعْلة بنت مُناضر بن عمرو الجرهمي. وعند الكلبي: رِعْلة بنت يعرب بن يسحب بن لوذان بن جرهم. وعند الجوَّاني: هالة بنت الحارث بن مغاض، ويقال: سلمى، ويقال: الخيفاء.
(1/219)
ولما ذكر أبو عمر أن ابن إسحاق ذكر عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عثمان عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أول من كتب بالعربية إسماعيل» قال: هذه الرواية أصح من رواية من روى: «أول من تكلم بالعربية إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» انتهى كلامه، وفيه نظر من حيث إن أبا عبد الله ذكر في «مستدركه» صحيح الإسناد عن ابن عباس، قال: «أول من نطق بالعربية إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ»، وفي «أدب الكاتب» لأبي جعفر النحاس: حدثنا المبرد، حدثنا المازني، حدثنا أبو عبيدة عن مسْمَع المعروف بكردين المسمعي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «أول من أنطق الله جل وعز لسانه بالعربية المبيَّنة إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وهو ابن أربع عشرة»،وقال المبرد: قال لي المازني: قال لي أبو عبيدة: اكتب هذا الحديث يا بكر، فوالله ما كذبت ولا كذب كردين، وحسبك من بعد يرووه عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. انتهى، هذا سند حسن لما أسلفناه، ولأن عمرو بن بحر في «الهاشميات» قرن كردين في المعروض بالصدق مع الزهري وابن إسحاق، وقال الزبير بن أبي بكر: حدثنا أبو الحسن الأثرم عن أبي عبيدة، حدثنا مسمع، فذكره، فقال يونس لمسمع: صدقت يا با سيار، هكذا حدثني أبو جزي. وذكر ابن عبد البر في كتاب «القصد والأمم» له متابعًا آخر من حديث سفيان بن وكيع عن يزيد بن هارون عن قيس عن عقبة بن بشير عن أبي جعفر. وقال ابن سعد: أخبرنا الأسلمي عن غير واحد من أهل العلم أن إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أُلهم من يوم ولد لسان العرب. وقال هشام بن محمد: قال الشرقي: عربية إسماعيل أفصح من عربية يعرب بن قحطان. وقال النحاس: عربية إسماعيل هي التي نزل بها القرآن العظيم، وأما عربية حمير وبقايا جرهم فغير هذه العربية وليست فصيحة.
(1/220)
وعن عمرو بن العلاء قال: أول من فتق الله جل وعز لسانه بالعربية المبينة إسماعيل. قال أبو عمر: لا يصح غير هذا. وفي «الوشاح» لابن دريد: أول من تكلم بالعربية القديمة يعرب بن قحطان، ثم إسماعيل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.3365 - قوله: (وأنفَسَهم) أي: أعجبهم. [خ 3365] وقوله: (كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلمَوتِ) قال ابن فارس: هو مثل الشهيق عند السوق من شدة ما يرد عليه منه. وقيل: معناه يمتص بفيه، من نَشَغْتُ الصبيَّ دواءً وأنشغتُه. وقال ابن التين: هو شهيق من ناحية الصدر حتى يبلغ الغشي. وقيل فيه: نشغ ونشع بالمعجمة والمهملة إذا أوجر الصبي. واختلفوا في أول من بنى البيت، فقيل: آدم، وقيل: شيث، قال ابن هشام في «التيجان»: بمعناه نصب؛ لأن عليه نُصبت الدنيا، ثم بناه إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ثم قريش ثم ابن الزبير ثم الحجاج، وقيل: إن جرهمًا بنته مرة أو مرتين، وقيل: لم يكن بناءً، إنما كان إصلاحًا، والله تعالى أعلم.3366 – (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَن أَبي ذَرٍّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: المَسْجِدُ الأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الفَضْلَ فِيهِ. [خ 3366] وعند أبي نعيم: «فأينَما أدركتك الصلاة فصلَّ فإنه مسجدٌ»، وقال ابن حبان: هذا فيه دحض لقول من زعم أن بين إسماعيل وداود صلى الله عليهما ألف سنة، وتتبع عليه ذلك الحافظ ضياء الدين فقال بعد كلام: وجه هذا الحديث أن هذي المسجدين وضعا قديمًا ثم خربا ثم بُنيا.
(1/221)
وقال القرطبي: يرتفع الإشكال بأن يقال: إن الآية الكريمة والحديث لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان صلى الله عليهما وسلم ابتدأا وضعهما، بل كان تجديدًا لما أسسه غيرهما، وقد روي: «أن أول من بنى البيت آدم» وعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده رفع بيت المقدس بعده بأربعين عامًا، وبنحوه ذكره ابن الجوزي وغيره. انتهى كلامهم، وفيه نظر من حيث إن الذي ذكروه تخرصًا رأيناه منقولًا، قال ابن هشام في كتاب «التيجان»: إن آدم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما بنى البيت شرفه الله تعالى أمره جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيَه، فبناه ونسك فيه. وقد ورد عن علي بن أبي طالب ما بيَّن هذا الإشكال وأوضحه إيضاحًا لا حاجة معه إلى كلام غيره في حديثٍ أخبرنا به العلامة بدر الدين الحنفي بقراءة فريدِ دهره علي بن عبد الكافي رحمهما الله تعالى، أخبرنا المسند أبو الكرم لاحق بن عبد المنعم قراءةً عليه عن الحافظ أبي محمد المبارك، أخبرنا أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن أحمد، أخبرنا الحافظ أبو بكر، أخبرنا الحافظ أبو عبد الله، حدثنا بكر بن محمد الصيرفي، حدثنا أحمد بن حيان بن ملاعب، حدثنا عبيد الله بن موسى ومحمد بن سابق قالا: حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة قال: سأل رجل عليًا عن {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96]، أهو أول بيت بني في الأرض؟ قال: لا، كان نوح قبله وكان في البيوت، وكان إبراهيم قبله وكان في البيوت، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة والهدى ومَن دخله كان آمنًا. فهذا كما ترى قد بيَّن علي رضي الله عنه أن الوضع غير البناء، وعلى هذا ينزاح الإشكال؛ لأن مفهومه يقتضي وضع ذلك من الله جل وعز فيه قبل أن يضع مثله في المسجد الأقصى، وسياق الآية الكريمة يدل عليه أيضًا.
(1/222)
وروينا في «تاريخ البيت المقدس» للكنجي، عن أبي عمرو الشيباني، أن علي بن أبي طالب قال: «كانت الأرض ماءً، فبعث الله ريحًا فمسحت الأرض مسحًا، فظهرت على الأرض زبدة فقمسها الله جل وعز أربع قطع، فخلق من قطعة مكة، ومن الثانية المدينة، ومن الثالثة بيت المقدس ... » الحديث. وفي «فضائل البيت المقدس» لأبي بكر محمد بن أحمد الواسطي من حديث ابن لَهيعة عن يزيد عن عطاء عن عائشة: أن مكة خلقها الله وحفَّها بالملائكة قبل يخلق شيئًا من الأرض كلها بألف عام ووصلها بالمدينة، ووصل المدينة ببيت المقدس، ثم خلق الأرض كلها بعد بألف عام. انتهى. وجه الدلالة من هذا: أن الأيام التي خُلقت فيها السماوات والموجودات كلُّ يوم منها ألف سنة على ما رجحه واحتج له ابن جرير، فيكون بين خلق البيت وخلق المسجد الأقصى هذا المقدار من سِني الدنيا، لكن يخدش فيه قول أبي ذر: أي مسجد وضع في الأرض، اللَّهمَّ إلا أن يريد يضع يوضع، والله أعلم. وقول صاحب «التاريخ»: وروي عن كعب الحبر: أن سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بنى القدس على أساس قديم كان أسسه سام بن نوح صلى الله عليهما وسلم، لا يدفع ما ذكرناه، وعند النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر يرفعه: أن سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما بنى بيت المقدس سأل الله جل وعلا خلالًا ثلاثة: حُكمًا يصادف حكمةً فأوتيه، ومُلكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، فلما فرغ من بنيانه سأل الله تعالى ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه. وذكر أبو بكر بن محمد بن أحمد الواسطي في كتابه «فضائل بيت المقدس»: أن سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ اشترى أرضه بسبعة قناطير ذهبًا. قال أبو الفرج: قيل له الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، وقيل: لأنه لم يكن وراءه موضع عبادة، وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث فإنه مقدس، أي مطهَّر.
(1/223)
3366 - وقوله: (مَسجِدًا) أي: للصلاة، وهو مما خُصت به هذه الأمة، قال عياض: لأن مَن كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا في موضع تيقنوا طهارته، ونحن خصصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنَّا نجاسته. [خ 3366] 3367 - حديث أنس تقدم في الجهاد [ح: 2893]. وحديث عبد الله بن زيد تقدم في البيوع [ح: 2129]. [خ 3367] 3368 - وحديث عائشة تقدم في الحج [ح: 1583]، وقوله أخره: (وَقَال إِسْمَاعِيلُ: عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ). هذا التعليق رواه في التفسير [ح: 4484] عن إسماعيل بن أبي أويس هذا متصلًا. [خ 3368] وحديث أبي حُميد وكعب بن عجرة تقدما في الصلاة.3371 – (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ المِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ صَلى اللهُ عَليهِم وَسَلمَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ). [خ 3371] رواه النسائي من حديث جرير عن منصور عن سليمان فقال: عن المنهال عن عبد الله بن الحارث مرسل. ورواه محمد بن فضيل عن الأعمش فقال: عن المنهال عن محمد بن علي بن أبي طالب قال: «كان النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ... »، مرسل. ورواه الإسماعيلي عن إبراهيم بن موسى وعمران عن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو حفص الأبار عن الأعمش ومنصور عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: «عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ... »، الحديث.
(1/224)
كلمات الله جلَّ وعز التامَّة هي كلامه على الإطلاق، وقيل: أقضيتُه وعِداته التي يتضمنها كلامه كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] فكلمته هنا هي قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] و (التامَّة) فضلها وبركتها وأنها تمضي وتستمر ولا يردها شيء، وقيل: الكاملة، ومعنى كمالها: أنها لا يدخلها نقص ولا عيب كما يدخل كلام الناس، وقيل: (التامَّة) النافعة الكافية الشافية مما يتعوذ به، وقيل: الكلمات هنا القرآن العظيم، قال الخطابي: كان أحمد يستدل بقوله: كلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق، ويقول: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لا يستعيذ بمخلوق. وقوله: (مِن كُلِّ سُلطَانٍ) يدخل تحته شياطين الإنس والجن. و (الهَامَّة) الواحدةُ من الهوام ذوات السموم القاتلة، فأما ما له سم لا يقتل كالعقرب والزنبور فهي السَّوام، وقيل: الهامة كلُّ نسمة تهمُّ بسوء، وقد تقع الهامة على كل ما يدبُّ من الحيوان، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لكعب: «أيؤذيك هوامُّ رأسك؟» يعني القمل. و (العَينُ اللامَّة)، قال أبو عبيد أصلها من ألممت إلمامًا، ولم يقل: ملمة، كأنه أراد أنها ذات لمم، وقال ابن الأنباري: اللامَّة الملمَّة، وهي الآتية في الوقت بعد الوقت، وإنما قال: لامة وقياسها ملمة؛ ليوافق لفظ هامَّة، فيكون ذلك أخف على اللسان. وقال الخطابي: اللامَّة ذات اللمم، وهي كل داء وآفة تلم بالإنسان من جنون وخبل ونحوه. والعين اللامة: ذات لمَم بإصابتها وضرها. (بَابُ: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ... } الآية [الحجر: 52]، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ... }
(1/225)
الآيَةَ [البقرة: 260]) كذا في عدة نسخ من كتاب «الجامع»، وذكر الإسماعيلي أن في الجامع <باب: {وَنَبِّئهُم عَن ضَيفِ إِبرَاهِيمَ} الآية>، ثم قال: < (بابُ: {وِإِذ قَالَ إِبراهِيمُ} إلى قوله. {قَلبي} [البقرة: 260] >. انتهى، وكأنه الصواب، وذلك أن البخاري لم يذكر لقوله: {وَنَبِّئهُم} حديثًا، وإنما ذكر الحديث لقوله: {وَإِذ قَالَ إِبراهِيمُ} [البقرة: 260].قال قتادة فيما ذكره الطبري: ذكر لنا أن خليل الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أتى على دابة توزَّعَتْها الدواب والسباع فقال: ربِّ أرني كيف تحيي الموتى لأزداد يقينًا. وعن ابن جريج: هي جيفة حمار. وقال ابن دريد: مرَّ بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر، فالذي في البحر يأكله دواب البحر، والذي في البر تأكله دواب البر، فقال إبليس الخبيث: يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال إبراهيم: رَبِّ أَرِني كَيفَ تُحْيي الموتَى ليطمِئنَّ قلبي، ليسكن ويهدأ باليقين الذي يَستيقنُه. وقال ابن إسحاق: لما جرى بين إبراهيم وقومه ما جرى مما قصَّه الله جلَّ وعز في سورة الأنبياء، قال نمرود له: أرأيت إلهك هذا الذي تعبده ما هو؟ قال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} الآية [البقرة: 258]، فقال الكافر: هل عاينتَ هذا القول الذي تقوله؟ فلم يقدر أن يقول: نعم قد رأيته، ثم قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] عن غير شك في الله ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك ليخبر عن مشاهدة. وقال السُّدي: لما اتخذه الله خليلًا استأذن ملك الموت في أن ينشره، فلما مضى من عنده قام إبراهيم يدعو {رَبِّ أَرني كَيفَ تُحيِي الموتَى} [البقرة: 260] حتى أعلم أني خليلك، قال: {أَوَلَم تُؤمِن} [البقرة: 260] بأني خليلك؟ أي: تصدق، قال: {بَلَى} [البقرة: 260].
(1/226)
وقاله أيضًا سعيد بن جبير، زاد الواحدي عن ابن عباس وابن جبير والسُّدي: فقال إبراهيم: وما علامة ذلك؟ قال له ملك الموت: أن يُجيب الله دعاءَك ويحيي الموتى بسؤالك. وعن ابن عباس: أرجى آية لهذه الأمة {لِيَطمَئِنَّ قَلبي} [البقرة: 260]، قال عطاء: وكان ذلك ببحيرة طبرية، فقال: يا ربِّ، قد علمتُ لتجمعنَّها، فأَرِنِيهِ معاينةً. ذكره الحسن وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج. وذكر أبو الحسن بن الحصَّار في «شرح العقيدة» فيما ألفيته بخط شيخنا أبي محمد النَّصري: إنما سأل الله أن يحيي الموتى على يديه يدل على ذلك قوله: {فَصُرهُنَّ إِلَيكَ} [البقرة: 260]، فأجابه على نحو ما سأل، وعلم أن أحدًا لا يقترح على الله مثل هذا فيجيبه بعين مطلوبه إلا عن رضى واصطفاء، فقوله: {أَوَلَم تُؤمِن} [البقرة: 260]، بأنا اصطفيناك واتخذناك خليلًا؟ قال: {بَلَى} [البقرة: 260].قال القرطبي: النفوس مسوقة إلى المعاينة، يصدق ذلك قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ليس الخبر كالمعاينة» وعن ابن عطية: السؤال الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة لشيء موجود مقررًا لوجود عند السائل والمسؤول نحو قولك: كيف علم زيد ونحوه، فكيف في هذه الآية الكريمة، إنما هي استفهام عن هيئة الإحياءِ والإحياءُ متقرِّر، قال القرطبي: إنما سأل أن يشاهد كيفية أجزاء الموتى بعد تفرقها واتصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين. وذكر أبو محمد عبد الواحد بن عمر المعروف بابن التين أنه أراد بقوله: {وَلَكِن لِيَطمَئِنَّ قَلبي} [البقرة: 260] أراد قلبي رجلًا كان صاحبًا له، أراد ليطمئن صاحبي، وإلا فإبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ كان موقنًا بذلك مطمئنًا. وعند عياض: وقيل: إنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ويميت طلب ذلك من ربه ليصح احتجاجه عيانًا.
(1/227)
وقال بعضهم هو سؤال على طريق الأدب، المراد أقدرني على إحياء الموتى، وقوله: {لِيَطمَئِنَّ قَلبي} [البقرة: 260] عن هذه الأمنية. قال البخاريُّ في التفسير: <قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {فَصُرْهُنَّ إِلَيكَ} قَطِّعُهن>.هذا التعليق رواه ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن أبي سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن موسى عن إسرائيل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه، ثم قال: وروي عن سعيد ووهب وعكرمة والحسن والسُّدي نحوه، وقراءة حمزة بكسر الصاد، والباقون يضمونها، قال الفرَّاء: بكسر الصاد التقطيع خاصَّة، وبضمِّها يحتمل التقطيعوالإمالة: وعن قتادة: أي مَزِّقهن، قال: أمر أن يخلط الدَّم بالدَّم والرِّيش بالريش، وجعل على كل جبل جزءًا. قال القرطبي: ليكون أعجب، وأمسك رؤوس الطير. قال ابن إسحاق: وهي الديك والطاووس والحمَام والغُراب. وذكر ابن عباس مكان الغراب الكركي. وفي رواية مكان الحمام النسر في يده. ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الأجزاء حتى التأمت وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيًا، أي عَدْوًا. قال النحاس: يقال للطائر سعى إذا طار على التمثيل، قالوا: والفائدة في أمر الله جل وعز له بأن يدعوها إليه ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها لا تلتبس عليه بعد الإحياء.3372 – (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنا ابنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَسَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى} [البقرة: 260] وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ).
(1/228)
[خ 3372] روى مسلم هذا الحديث في «صحيحه» فقال: حدثني إن شاء الله تعالى عبد الله بن إسماعيل عن جويرية عن مالك عن الزهري، وأنكره عليه بعض من لا تحقيق لديه فقال: كيف يدخل في الصحيح شيئًا يشك فيه؟! وما علم أن مسلمًا لم يذكره للاحتجاج، إنما ذكره في المتابعات، ومن المعلوم أنه يحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول. قال النووي: اختلف العلماء في قوله: (نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ) فأحسنها وأصحها ما ذكره الشافعي وغيره: الشك مستحيل في حق إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فكأنه قال: الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقًا إلى الأنبياء صلوات الله عليهموسلامه لكنت أحق به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم لم يشك، وإنما رجح إبراهيم على نفسه صلى الله عليهما وسلم تواضعًا وأدبًا، أو يكون قال ذلك قبل إعلامه بأنه سيد ولد آدم. وعن صاحب «التحرير» قال جماعة من العلماء: لما نزل قوله تعالى: {أَوَلَم تُؤمِن} [البقرة: 260] قالت طائفة: شك إبراهيم ولم يشك نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْهُ) قال أبو زكريا: وقع لي فيه معنيان، أحدهما: أنه يخرج مخرج العادة في الخطاب، فإن من أراد المدافعة عن إنسان قال للمتكلم: ما كنتَ قائلًا لفلان أو فاعلًا معه من مكروه فقُله لي وافعله معي، ومقصوده: لا تقل ذاك فيه. الثاني: هذا الذي تظنونه شكًا أنا أولى به، فإنه ليس بشك، وإنما هو طلب لمزيد اليقين. وقال عياض: يحتمل أنه أراد أمته الذين يجوز عليهم الشك، أو أنه قاله تواضعًا مع إبراهيم صلى الله عليهما وسلم.
(1/229)
وقال أبو الفرج: أي أنا أولى أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الذي يسأل السائل في إجابة ربه فيه، وإنما صار أحق لما عانى من تكذيب قومه وردَّ عليهم وتعجبهم من ذكر البعث، فقال: أنا أحق أن أسأل ما سأل إبراهيم لعظيم ما جرى على قومي، ولمعرفتي بتفضيل الله إياي على الأنبياء ولكن لا أسأل. وفي «الوشاح» لابن دريد: أمُّ إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يونا بنت كرز بن بركوثا بن أرفخشد بن ابرسام. والنهر الذي يعرف بنهر كوثا حفره أبو أم إبراهيم قبل ولادة إبراهيم. وكان أهل إبراهيم منازلهم حران فأصابته السَّنة، فجاؤوا إلى كوثا، فولد إبراهيم بقرية بها يقال لها: هرمزجُردقريبًا من خصَّا وبختصى أحرق صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وسُمي إبراهيم؛ لأن أمه وضعته على كوثا فسمي إبرا، يعني النهر، وهيم يعني الماء، فلما نجا من النار عبر الفرات وكلامه السِّريانية، فبعث نُمروذ فقال: ردُّوا كل من تكلم بالسريانية، فأدركوه وقد أقلب الله لسانه إلى العبرانية، وإنما سُمي عِبرَاني؛ لأنه عبر الفرات، فذهب إلى عمه بنويل بن ناحور فزوجه سارة. وفي رواية أخرى عند البخاري: «يغفر الله لِلُوط» [ح: 3375] وهو إشارة إلى قوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: {أَو آوي إِلى رُكنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] والذي ذكره عن يوسف أراد به التواضع والأدب مع إخوته صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وعليهم أجمعين. ولوط هو ابن أخي إبراهيم هاران. الباب وحديثه تقدم في الجهاد [ح: 2899].
(1/230)
(بَابُ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ} إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآيَةَ [البقرة: 133]) قال الطبري: (إذْ) هذه مكررة إبدالًا من إذا لا ولا، وقوله: {وَنَحنُ لَهُ مُسلِمُون} أي: خاضعون بالعبودية والطاعة، ويحتمل قوله: {وَنَحنُ لَهُ مُسلِمونَ} أن يكون بمعنى الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه، ويحتمل أن يكون خبرًا مستأنفًا، فيكون معنى {نَعبُدُ إِلهَكَ} بعدك {وَنَحنُ لَهُ} الآن وفي كل حال {مُسلِمونَ} قال: وأحسن هذين الوجهين أن يكون بمعنى الحال، وقدم ذكر إسماعيل على إسحاق؛ لأنه كان أسنَّ. قال السُّهَيلي: سُمي يعقوب صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ إسرائيل؛ لأنه أُسري ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى، أي أُسري إلى الله تعالى، فيكون بعض الاسم عِبرانيًا وبعضه موافقًاللعربي، وكثيرًا ما يقع الاتفاق بين السِّرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ، وفي «المعرب»: إسرائيل وإسرال - كميكال - وإسرائين.3374 - حديث أبي هريرة تقدم قريبًا [ح: 3353]، وكذا الأحاديث التي بعده. [خ 3374] وصالح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو ابن عبيد بن جاثر بن ثمود بن عوص بن أرَمْ بن سام بن نوح صلى الله عليهما وسلم، قال ابن وهب: أرسله الله جل وعز إلى قومه حين راهق الحلم، وكان رجلًا أحمر إلى البياض، سبط الشعر، يمشي حافيًا كما كان يمشي المسيح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولا يتخذ مسكنًا ولا بيتًا، ولما سأله قومه آيةً أتى بهم هضبة، فلما رأته تمخَّضت كما تمخَّض الحامل وانشقت عن الناقة، ولما عقر قُدار بن سالف ومِصْدَع بن بهرح - ويقال: ابن دهر، ويقال: ابن جهم - الناقة يوم الأربعاء صعد فصيلها جبلًا ورَغا، فأتاهم العذاب يوم السبت.
(1/231)
وذكر السُّهَيلي: أن قدارًا كان ولد زنا، وهو أحمر ثمود الذي يضرب به المثل في الشؤم، وكان أحمر أسفر أزرق ساطًا قصيرًا، وأما الذين تمالؤوا معه فهم فيما ذكر في «الوشاح» لابن دريد: مصدح بن مهرح، وهويل بن عَترَه، وعرام بن بهى، ومهرب بن زمير، وعرين بن نجد، ودعير بن غنم، وكان الذي تولى عقرَها قدار، والذي رماها مصدع، فلما هلكوا قال صالح لمن معه: يا قوم إن هذه الدار مسخوط على أهلها، فالحقوا بحرم الله تعالى، فأهلُّوا من ساعتهم بالحج، فلم يزالوا بها حتى ماتوا. وفي «غرر التبيان»: صالح بن عبيد بن ثمود بن عبيد بن عوص بن عاد بن إرم، عاش مئتين وثمانين سنة، وبينه وبين هو صلى الله عليهم وسلم مئة سنة. وعند الطبري عن قتادة: لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم في عقرها.
(1/232)
3377
– (أبُو زَمْعَة) هو الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، كان من
المستهزئين فأعماه الله جل وعز لما رماه جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بورقة
خضراء. ولما ذكر البخاري في التفسير قال: وقال أبو معاوية: حدثنا هشام عن أبيه عن
عبد الله بن زمعة، قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «مثل أبي زمعة عمِّ
الزبير بن العوام» [ح: 4942] وزعم القرطبي أن أبا زمعة هذا يحتمل أن يكون البلوي،
وهو ممن بايع تحت الشجرة، وتوفي بأفريقيا مع معاوية بن خديج، فإن كان إياه فإنه
شبهه بالعاقر في عزه في قومه، وحذا حذوه أيضًا القاضي أبو بكر بن العربي وغيره،
وهو غير جيد؛ لأنا أسلفناه صحيحًا منسوبًا فلا وجه للتخرُّص بعده. [خ 3377] حديث
ابن عمر تقدم في الصلاة، وقول البخاري آخره: (رُوي عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ،
وَأَبِي الشُّمُوسِ أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أمر بإلقاء الطعام) كأنه
يريد بحديث سَبْرة ما روى أبو داود بعضه عن سليمان بن داود المهدي عن ابن وهب قال:
حدثني سبرة ابن عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن سعيد الجهني عن أبيه عن جده به.
وأما حديث أبي الشموس فرويناه في «معجم الطبراني» من حديث سليم بن مطير عن أبيه عن
أبي الشُّمُوسِ: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نهى أصحابه يوم الحجر عن
بئرهم، فألقى ذو العجين عجينه وذو الحيس حيسَه» وأحاديث الحجر كلها تقدمت.3380 -
وقول البخاري: (حَدَّثَنا مُحمَّدٌ، حَدَّثَنا عَبدُ اللهِ عَن مَعمَرٍ). قال أبو
نعيم: محمد هذا هو ابن مقاتل، وشيخه عبد الله هو ابن المبارك. [خ 3380]
(بابُ {أَم كُنتُم شُهدَاءَ} [البقرة: 133])
تقدم قريبًا [ح: 3374]، وقوله إثر حديث: «من أكرمُ الناسِ»: (حدثني محمدًا حدثنا
عبدة عن عبد الله)،رواه أبو نعيم عن أبي أحمد، حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عثمان
عن عبدة، ثم قال: رواه - يعني البخاري - عن عثمان عن عبدة. انتهى.
(1/233)
وهو
فيما رأيت من أصول الصحيح محمد أخبرنا عبدة، ورواه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان،
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبدة بن سليمان ومحمد بن بشر عن عبيد الله.
3385 - 3386 - حديث «مُرُوا أبا بكر فَليُصَلِّ» وقوله: «اللَّهمَّ أنجِ
عَيَّاشًا» تقدم ذكرهما في الصلاة [ح: 678 و 804]. [خ 3385 - 3386] وحديث لوط
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تقدم قريبًا.
(1/234)
3388 – (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، حَدَّثَنا ابنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنا حُصَيْنٌ عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ رُومَانَ، وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ، عَمَّا قِيلَ فِيهَا، قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا وَعَائِشَةُ أَخَذَتْها الحُمَّى ... ) فذكر قطعة من حديث الإفك. [خ 3388] هذا الحديث اختلف في سنده من حيث إن أم رومان دعد، ويقال: زينب، وتُفتح راؤها وتُضم، قال ابن سعد وابن حسان الزيادي: إنها ماتت في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ سنة ست ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في قبرها. زاد الزبير: في ذي الحجة. وقال عمر: سنة أربع، وقيل: سنة خمس، فعلى هذا لا يتجه سماع مسروق منها، ويكون حديثه منقطعًا. وأما على قول أبي إسحاق الحربي في كتاب «التاريخ والعلل»: سأل مسروق أم رومان وله خمس عشرة سنة، ومات وله ثمان وسبعون سنة، وهي أقدم من حدَّث عنه مسروق، وقد صلى خلف أبي بكر وعمر. وقال أبو نعيم الحافظ: بقيت بعد النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دهرًا طويلًا فيكون متصلًا، وأما الحافظ أبو بكر الخطيب فإنه قال: العجب من الحربي كيف خفي عليه استحالة سؤال مسروق لها مع علو قدره في العلم، وأحسب العلة التي دخلت عليه اتصال السند وثقة رجاله، ولم يتفكر فيما وراء ذلك، وهي العلة التي دخلت على البخاري حتى خرَّجه، وأما مسلم فلم يخرِّجه ورجاله على شرطه، وأحسبه فطِن لاستحالته فتركه، وقول الحربي: سألها وله خمس عشرة سنة فصلى، هذا كان له وقت وفاة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بضع عشرة سنة، فما الذي منعه أن يسمع من النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟!.انتهى كلامه.
(1/235)
وفيه نظر من حيث إن الحربي لم يقل: إنها توفيت زمن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حتى يورد عليه كونه ليس صحابيًا، وما يصلح الإيراد عليه بهذا إلا إذا استلزمه، وأما مع عدم استلزام ذلك فلا إيراد، وعلى تقدير أن يكون قاله واستلزمه وذلك في رواية ضعيفة عنه لا يصلح أيضًا، وذلك أن من يصلي خلف أبي بكر الصديق ويروي عنه لا يبعد أن يكون له بضع عشرة سنة وقت الوفاة، لا سيما والكوفيون لا يرون الرواية في حال الصِّغر، إنما يرونها من بعد العشرين عامًا، ومسروق من كبار التابعين، ثم إن التعارض لا يكون إلا مع التساوي، ولا تساوي بين حديث البخاري المذكور وبين ما رواه علي بن زيد بن جدعان عن القاسم: ماتت أم رومان زمن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؛ لضعف علي وانقطاع حديث القاسم، ولهذا إن البخاري لما ذكره قال: فيه نظر، وحديث مسروق أسند، فهذا البخاري قد رأى العلة ولم يعتدَّ بها، فكأنها عنده غير شيء فلم تخفَ عليه، وأما عدم تخريج مسلم إياه فليس بعلَّة؛ لأنا عهدناه ترك من الأحاديث التي عند البخاري الجم الغفير، ولم يقل أحد: إن ذلك علة، والله أعلم. قال الخطيب: لم يزل حديث مسروق هذا يتخلج في صدري وأستنكره سنين فلا أعرف له علة لثقة رجاله واتصال سنده، حتى رأيت في روايةٍ لحصين عن مسروق عن أم رُومان، فجوَّزت أن يكون مسروق أرسل الرواية عنها، وقد ذكر أن حُصَينًا اختلط في آخر عمره، فلعلَّه روى الحديث في حال اختلاطه، وفي رواية عن مسروق: «سُئلت أُمُّ رُومان»،وهذا أشبه بالصحة؛ لأن من الناس من يكتب الهمزة ألفًا مع أحوالها الرفع والنصب والخفض، ولعل بعض النقلة كتب: «سُئِلتَ» بالألف فقرأه الراوي «سألتُ» ودوَّن عليه ورواه، ووقع في كتاب «الكمال»: ورواه مسروق عن ابن مسعود عنها، قال: وهو الأشبه. انتهى.
(1/236)
لو رأينا إسناده أو من قاله من القدماء لكان جيدًا ومريحًا من هذه التمحُّلات، ومن قول أبي عمر: رواية مسروق عن أم رومان مرسلة، وقول الحميدي: كان بعض من لقينا من البغداديين الحفاظ يقول: الإرسال في هذا الحديث بيِّن، وقول ابن العربي: العنعنة في رواية هذا أصح، وقول السُّهَيلي: إنه وهم في الحديث، وكأن شبهة عبد الغني قول ابن ناصر السلامي يكون كأنه روي عن ابن مسعود عنها، ولئن كان كذلك فليس جيدًا، والله تعالى أعلم. وذكر ابن التين أن الداودي قال: رواه أبو وائل عن أم رومان، وفي حديث الباب وهمٌ؛ لأن أم مسطح من قريش، وفيه قالت: (ولجت علينا امرأة من الأنصار)، وقولها: (فانصرف النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ولم يقل شيئًا)، خلاف لقول عائشة: «فما رام رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ من محله ولا خرج أحد من البيت حتى نزلت براءتها»، والعجب من الخطيب أنه لم ينبِّه على هاتين العلتين وهما ظاهرتان! وعند أبي داود من حديث حميد الأعرج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: «أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما كشف وجهه حين جاءه جبريل قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ} [النور: 11]» ثم قال أبو داود: هذا حديث منكر، وقد روي هذا الحديث عن الزهري غير واحد لم يذكروا هذا الكلام على هذا الشرح، وأخاف أن يكون أمر الاستعاذة فيه من كلام حميد. قال ابن التين: اختلف في معنى قوله تعالى: {اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110] فقيل: استيأسوا أن يأتي قومهم العذاب، وقيل: أيسوا من إيمان قومهم، وقول عائشة: والله لقد استيأسوا وظنوا أن قومهم كذبوهم وما هو بالظن.
(1/237)
هذا قول قتادة، وهو معروف في اللغة أن الظن بمعنى اليقين، ومنه قوله جل وعز: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] وفي الآية الكريمة قول آخر على قراءة التشديد: أن الظن على بابه، وقوله قول عائشة هنا، أي طال على المؤمنين البلاء وتأخر عنهم النصر، فظن الرسل أن أتباعهم كذبوهم. وقيل: هو أحسن في قراءة عبد الله بن مسعود وابن عباس بضم الكاف والتخفيف، واختلف قول ابن عباس فيها، فذكر أنهم ضعفوا أي كُسروا، والقول الثاني: ظن قومهم أن الرسل كُذبوا، فالضمير في {كُذِبوا} يعود إلى القوم على هذا، وقرأ مجاهد بفتح الكاف والتخفيف وفسَّره: وظن قومهم أنهم كذبوهم، وهو معنى الذي قبله. وقال ابن عرفة: الكذب الانصراف عن الحق، يقال: حمل فما كذب، أي ما انصرف عن القتال، فمعنى {كذبوا} أي: تكذيبًا لا تصديق بعده. وقوله: (يا عُرَيَّة) يريد تصغير عروة وأصله عريوة. وقوله: ({لا تَيأسُوا مِن رَوح الله} [يوسف: 87]) معناه: ترجوا رحمة الله، وقول البخاري: ({اسْتَيْأَسُوا} [يوسف: 80] اسْتَفْعَلُوا، مِنْ يَئِسْتُ مِنْهُ)، قال ابن التين: ليس وزنه كذلك، وإنما استفعلوا، وكذا هو في بعض روايات الكتاب.3390 - حديث (الكريم بن الكريم) تقدم قريبًا [ح: 3382]. [خ 3390] 3391 - وحديث أيوب صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تقدم في الطهارة [ح: 279]. [خ 3391] وحديث: (ترْجُفُ بَوادِرهُ) تقدم أول الكتاب [ح: 3].3393 - وحديث الإسراء تقدم قريبًا [ح: 3207]، وقوله آخره: (تَابَعَهُ ثَابِتٌ، وَعَبَّادُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ)، أما متابعة ثابت فرواها مسلم عن شيبان عن حماد بن سلمة عنه. [خ 3393] الأحاديث التي بعده تقدم ذكرها [ح: 3239].
(1/238)
3398
- وحديث الصعق تقدم في الإشخاص [ح: 2412]، وقوله فيه: (قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ:
{انْبَجَسَتْ}: انْفَجَرَتْ)، وهو تعليق مذكور في تفسيره روايةَ ابن أبي زياد
الشامي. [خ 3398]
3400 - وحديث الخضر صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تقدم في الصلاة [ح: 74]،، الرجل
المؤمن من آل فرعون اسمه شمعان، قال الدَّارَقُطْني: لا يعرف شمعان بالشين المعجمة
إلا مؤمن آل فرعون. وقال السُّهَيلي: وهو أصح ما قيل فيه. وفي «تاريخ الطبري»:
اسمه جبر، وقيل: اسمه حابوت، وهو الذي التقطه إذ كان في التابوت. وفي تفسير عبد عن
أبي إسحاق: هو حبيب ابن عم فرعون. وفي «تفسير أبي القاسم الجَوْزِيِّ» وابن عباس:
اسمه حزبيل بن بوحائيل. وفي «تفسير مقاتل»: كان قبطيًا كتم إيمانه مئة سنة من
فرعون، وكان له الملك بعد فرعون. [خ 3400]
وفي «كتاب ليس» لابن خالويه: لم يؤمن من أهل مصر إلا أربعة: آسية، وحزبيل مؤمن آل
فرعون، ومريم بنت لاقوس الملك التي دلت على عظام يوسف صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، وقُبَّة الماشطةُ.
والأرض المقدسة: الطور وما حوله، وقيل: أريحا، وقيل: دمشق، وقيل: فلسطون والأردن.
ونوف هو ابن بكال بكسر الموحدة ابن دغمي بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زبيد بن
سدد بن رزعة بن سبأ، قال أبو العباس أحمد بن عمر: وعند أبي بحر والخشني بفتح الباء
وتشديد الكاف، قال: ونسبه بعضهم في حمير وآخرون في همذان، قال: وكان نوف عالمًا
فاضلًا وإمامًا لأهل دمشق، وهو ابن امرأة كعب الحبر، وقيل: ابن أخيه. قال ابن التين:
كان حاجبًا لعلي، وكان قاصًّا.
(1/239)
وموسى
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو ابن عمران بن قاهت بن لاوي بن يعقوب، وقيل: عمران،
وهو عمرم بن قاهت بن يصهر بن عازر بن لاوي، كان جعدًا آدم، وكان هارون صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أطول منه وأكثر لحمًا وأبيض جسمًا وأغلظ ألواحًا وأسنَّ من
موسى بثلاث سنين، وكان في جبهته شامة، وفي أرنبة أنف موسى شامة وعلى طرف لسانه
شامة، وهي العقدة التي ذكرها الله، ولا يعرف قبله ولا بعده من أحد على لسانه شامة
غيره.
قال ابن وهب: وفرعون موسى هو فرعون يوسف صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، عُمِّر أكثر
من أربع مئة سنة، واسمه الوليد بن مصعب، قال ابن قتيبة: قال غير وهبٍ: الأمرُ
بخلافه وأن فرعون موسى ليس فرعون يوسف. وفي «كتاب ليس»: كان فرعون موسى ملكًا على
مصر خمسين سنة.
ويوشع هو ابن النون بن افراثيم بن يوسف صلى الله عليهما وسلم، وكذا ذكره القتبي،
وقال مقاتل: يوشع بن نون بن اليانع بن عهود بن عيزار بن شويلح بن أفراثيم بن يوسف.
ومجمع البحرين: هما بحر الأردن وبحر القلزم، قال السُّهَيلي: وقيل: بحر العرب وبحر
الزقاق. قال ابن عباس: اجتمع البحران موسى والخضر صلى الله عليهما وسلم مجمع
البحرين.
والمساكين الذين كانوا يعملون في البحر كانوا سبعة بكل واحد منهم زمانةٌ ليست
بالآخر. وقيل: كانوا عشرة، خمسة زَمنَى، وخمسة يعملون عليها، قال في «الغرر»: كانت
تساوي ألف دينار، والملك الذي كان يأخذ كل سفينة ذكره البخاري وسماه فيما ضبط عن
أبي زيد المروزي جيسون وفي غير هذه الرواية بالحاء المهملة، قال السُّهَيلي: وفيه
رواية ثالثة وهي جيبون، وقيل: اسمه جلندان، وقيل: هدد بن بدد، وقيل: منوله، وسماه
الرضي الشاطبي: قاطع بن سارق بن ظالم بن عمرو بن شهاب بن مرة بن الهِلْقام بن
الجَلَنْدي بن المستكبر بن الجَلَنْدي. وأما الغلام فسماه ابن ماكولا جيسور بجيم
وسين مهملة وراء. انتهى.
(1/240)
كأن
هذا هو المذكور أولًا، أو أحدهما تصحف من الآخر، وفي كتاب محمد بن جرير: أخذ الخضر
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ صخرة فثلغ بها رأسه، واسم أبيه كازيري وأمه سهوى،
وقيل: اسم أبيه ملاس واسم أمه رحمى.
و {أَهلَ قَريةٍ} [الكهف: 77] يعني برقة، وقيل: أنطاكية، وقيل: أيلة، واليتيمان
اسم أحدهما أصرم، والآخر صريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله
بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل: عشرة، واسم أمهما دنيا، والكنز جاء في حديث ابن عمر
مرفوعًا عند الترمذي: أنه كان ذهبًا وفضة، وروي من وجه آخر: أنه كان علمًا وحكمة،
ويجمع بينهما ما روي من أنه كان لوحًا من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
عجبًا لمن أيقن بأن الموت حق كيف يفرح، وعجبًا لمن أيقن بالقدر كيف يحذر، وعجبًا
لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبًا لمن عرف النار ثم عصى! لا
إله إلا الله محمد رسول الله، فلما أرادا التفرق قال له الخضر: لو صبرت لأتيت على
ألف عجب، كل أعجب مما رأيت.
والصخرة هي التي دون نهر الزيت بالمغرب.
وقوله: (خيرًا منهُ زكَاة) جارية ولدت سبعين نبيًا، وقيل: تزوجت بنبي فولدت نبيًا
هدى الله جل وعز به أمة. والنَّول: العطاء بفتح النون وسكون الواو. و {تُرهِقَني}
تكلفني، وقيل: تحملني.
- وقول البخاري: (قالَ سُفيانُ: سَمِعتُهُ مِن عَمرٍو مَرَّتَينِ. رواه أبو ذر
الهروي، حدثنا أبو إسحاق المستملي، حدثنا الفربري، حدثنا علي بن خشرم عن سفيان.
لغةٌ في فلسطين ... )، فذكره.
بابٌ
(1/241)
3403 – (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {ادْخُلُوا البَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةً} [البقرة: 58] فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ). [خ 3403] عند النسائي: «فدخلوا يزحفون على أوراكهم» أي: منحرفين، قال ابن العربي: لا خلاف أن القرية بيت المقدس، والباب الذي أمروا بدخوله هو باب المسجد الثامن، وهو من جهة القبلة، وعن الضحاك يقال له: باب حطة. قال القرطبي: وقيل: هو باب القرية، وقيل: باب قرية فيها موسى. وقال مقاتل: إيلياء. (فَدَخَلُوا) منحرفين على شقِّ وجوههم، وفي «تفسير الجوزي»: هي قرية الجبارين، وقال مجاهد: طُوطِئَ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلم يخفضوا ودخلوا (عَلَى أَسْتَاهِهِمْ). وقال السُّهَيلي: هي أريحا، وقيل: مصر، وقيل: البلقاء، وقيل: الرملة. وقوله: ({سُجَّدًا}) قال ابن عباس: منحنين ركوعًا، وقيل: خضوعًا وشكرًا لتيسير الدخول. ({وَقُولُوا حِطَّةً}) قال الضحاك: أي أخطأنا فاعترفنا، قال ابن الجوزي: فقالوا: حطا سمقاتا؛ أي حنطة حمراء، استخفافًا بأمر الله جل وعز. وقال ابن التين: معناها عند ابن عباس مغفرة. وقال عكرمة: لا إله إلا الله. وقال الحسن: حط عنَّا ذنوبنا. وقال الكلبي: تَعبِّدوا بقولها، وهو -مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف- أي مسألتنا وأمرُنا حطة. وقال ابن قُرْقُولٍ: حطة بدل من حنطة.
(1/242)
قال
ابن العربي: أخبرني بعض الأحبار أنهم قالوا بلغتهم: سمقاتا أره هزبا، تفسيره: حبة
مقلوة في شعرة مربوطة، وقوله: (حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ) وروى المروزي: شعيرة، فلما
عصوا عاقبهم الله بالرجز وهو الطاعون والظلمة، هلك منهم سبعون ألفًا في ساعة
واحدة، وانظر الفرقان بين هذه الأمة وتلك، أولئك أذنبوا ودلوا على طريق التوبة
فتلاعبوا، ونحن إذا أذنبنا جعلنا الذنب نصب عيوننا ... عليه كل ما نقدر عليه،
والحمد لله على هذا. ولما أعاد البخاري ذكر هذا الحديث في التفسير [ح: 4479] رواه
عن محمد، حدثنا ابن مهدي، قال أبو علي: نسبه ابن السكن وحده ابن سلَام، قال
الجيَّانيُّ: والأشبه أن يكون [ابن] بشار أو محمد بن المثنى، وقد ذكر أبو أحمد أن
ابن بشار وابن مثنى من جملة من خرج عنهما البخاري في الجامع عن ابن مهدي ولم يذكر
ابن سلَام.3404 - حديث أبي هريرة تقدم في الطهارة [ح: 278]، وحديث ابن مسعود تقدم
في الغنائم [ح: 3150]. [خ 3404]
(بَابُ قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138])
3406 – (حَدَّثَنَا ابنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابنِ
شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ جَابِرًا قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ نَجْنِي الكَبَاثَ، فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ
بِالأَسْوَدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ» قَالُوا: أَكُنْتَ تَرْعَى الغَنَمَ
يا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَاهَا»). [خ 3406]
(1/243)
في بعض الروايات: «كنا بمر الظهران» وذكر معناه البيهقي في «الدلائل» من حديث عتبة بن عبد السلمي بسند جيد، قال أبو زياد: (الكَبَاثَ) شبيه بالتين يأكله الناس والإبل وفيه حرارة. وعن عمر: وهو حار ملاح. وعن أبي عبيد: هو ثمر الأراك إذا يبس وليس له عجمة. وفي «المحكم»: قيل: هو حمل ثمر الأراك إذا كان متفرقًا واحدته كَبَاثَة. وفي «كتاب أبي حنيفة»: هو فويق حب الكزبرة، وعنقوده يملأ كفي الرجل، وإذا الْتَقَمَه البعير فصل عن لقمته. وقول أبي زكريا: (الكَبَاثَ) -بفتح الكاف وبعدها باء موحدة مخففة ثم ألف ثم ثاء مثلثة- قال أهل اللغة: هو النضيج من ثمر الأراك، يحتاج إلى تثبت لما أسلفناه، ولما قاله القزَّاز: هو الغض من الأراك، والنضيج يقال له: المرد، وقال ابن قُرْقُولٍ: هو حِصرمه، وأما قول ابن خالويه: ليس في كلام العرب من أسماه الكمأة إلا الذي أعرفك: الدُّعلوق، والبِرنيق، والمعزود، والفقع، والحب، ونبات أوبر، والقعيل - والجمع قعائل القاف قبل العين-، والعنقل، والعسافل، والعساقيل، والكم، والحباة، والفقع، فقد تتبعناه عليه في كتابنا المسمى بـ «الميس إلى كتاب ليس»، وزدنا عليه ما ذكره كراع في «المنضد» البدأة، وما ذكره القَزَّازُ: العُرجون، والفطر، ذكره ابن سيده، وقال عبد اللطيف البغدادي: روي أن الكمأة جدري الأرض، وتسمى أيضًا نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته، وتنفطر عنها الأرض.
(1/244)
قال
ابن التين: معنى هذا أن الله جل وعز لم يضع النبوة في الملوك وأبناء الدنيا
والمترفِّهين، إنما جعلها في أهل التواضع من أصحاب الحِرَف، والله أعلم حيث يجعل
رسالاته. قال القرطبي: درَّب الله جل وعز الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه على
رعاية الغنم وسياستها؛ ليكون تدريجًا إلى سياسة العالم؛ إذ الراعي يقصد مصلحة
الغنم ويقوم بكلفتها، ومن تدرب على هذا وأحكمه تمكن من سياسة الخلق ورحمتهم والرفق
بهم، وكانت الغنم بهذا أولى لما خص به أهلها من السكينة وطلب العافية والتواضع،
وهي صفات الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «السكينة
في أهل الغنم» [ح: 3301] قال ابن بطال: كان جناهم للكباث أول الأمر عند تعذر
الأقوات، فإذ قد أغنى الله جل وعز عباده فلا حاجة بهم إليه. انتهى، ولا مناسبة بين
الباب والحديث.
(بَابُ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا
بَقَرَةً} [البقرة: 67])
(قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {عَوَانٌ} [البقرة: 68] نَصَفٌ بَيْنَ الْبِكْرِ
وَالهَرِمَةِ) هذا التعليق رواه الطبري عن سلمة عن ابن إسحاق عن الزهري عنه.
3407 - والأحاديث التي في باب وفاة موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تقدم في
الجنائز [ح: 1339 - 2411 - 4763 - 5705]، وذكر ابن إسحاق: أن يوشع لما تمنى في
حياته كره الحياة وأحب الموت. وذكر الثعلبي عن ابن مسعود وغيره من الصحابة: أن
موسى ويوشع بينما هما يمشيان إذ أقبلت ريح سوداء، فلما رآها يوشع ظن أنها الساعة
فالتزم موسى، وانسلَّ موسى وترك القميص في يده، فقالت بنو إسرائيل: قتلتَ موسى،
وأرادوا قتله، فدعا يوشع فأتى كل رجل ممن كان يحرسه في المنام فأخبر أن موسى
رفعناه إلينا. [خ 3407]
(1/245)
وعن
وهب: «خرج موسى لبعض حاجته، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرًا لم ير أحسن منه!
فقال: يا ملائكة الله لمن هذا؟ قالوا: لعبدٍ كريٍم على الله، أتحب أن يكون لك؟
قال: وددت، قال: فانزل فاضطجع فيه وتوجه إلى ربك، فلما فعل قُبض». وقيل: «إن ملك
الموت أتاه فقال: يا موسى أشربت شيئًا؟ قال: لا، قال: فاستنكهه فقبض روحه». وقيل:
«بل أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فمات، وكان عمره مئة وعشرين سنة».
(بَابُ قَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا
امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} [التحريم:
11 - 12])
3411 - (آسِيَةُ) ابنة مزاحم هي ابنة عمة فرعون، وقيل: إنها من العماليق، وقيل: من
بني إسرائيل من سبط موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال السُّهَيلي: وقيل: هي
عمة موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. [خ 3411] وقوله: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ
مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص: 76] اسم أبيه ضافر بن قاهث بن يَصْهَر بن عازر بن
لاوي بن يعقوب، وكان سكنه تنيس وما والاها من أسفل الأرض، ولما سكن عبد العزيز
الجَرَوي تنيس عثر على بعض ماله، فحصل له منه ما لا يعلمه إلا الله تعالى بحيث إنه
لما توفي تورَّع ابنه الحسن شيخ البخاري عن أخذ إرثه منه لأنه لم يستطبه، فقال
أخوه علي لما ملك تنيس: يا أخي إني قد استطبت لك من مال أبيك مئة ألف ألف دينار
فخذها، فقال: أنا تركت الكثير من ماله فكيف آخذ هذا القليل؟! ذكره صاحب تاريخها.
الأحاديث التي بعده تقدم ذكرها. قوله جلَّ وعزَّ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ
الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ} [الأعراف: 163] ذكر الكِشيُّ أنها أيلة، وقال
غيره: طبرية، وكان اعتداؤهم في السبت زمنَ داود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(بَابُ قَوْلِ اللهِ جلَّ وعزَّ: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163])
(1/246)
روى ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: «الزبور ثناء الله ودعاؤه وتسبيحه». وقال قتادة: كنا نُحدَّث أنه دعاء علمه وتحميد وتمجيد لله جل وعز، ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود، وهو مئة وخمسون سورة، وكان حمزة -يضم الزاي- وغيره من القراء -يفتحها- وهو بمعنى العطاء لداود كتبا، وقيل: أراد به العقل والسداد، وقيل: خص داود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بالذكر؛ لأنه كان ملكًا فلم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما أعطاه من الكتاب تنبيهًا على فضله، وقيل: لأنه كان في الزبور محمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وأن أمته ترث الأرض كما أخبر جل وعز بقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
(1/247)
3417 - وقوله في حديث أبي هريرة: (خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ القُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ) يريد ب (الْقُرْآنَ) القراءة في الزبور، (وقال البخاري آخره: رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يرفعه: (خُفِّفَ على داودَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ القُرآنُ، فكانَ يأمرُ بِدابَّتِه ... ) الحديث [ح: 4713]، أسند هذا التعليق الإسماعيلي فقال: حدثنا محمد بن هارون، حدثنا كنانة بن جَبلة، وحدثنا أبو بكر الشعراني وأبو عمر الحيري قالا: حدثنا أحمد بن حفص، حدثني أبي قالا: حدثنا إبراهيم بن طَهْمان عن موسى بن عقبة عن صفوان، فذكره. [خ 3417] أحاديث عبد الله بن عمرو تقدمت في الصيام [خ: 1975 - 1976 - 1977].وقول البخاري في قوله تعالى: ({وَإِلَى مَدْيَنَ} [هود: 84] إلى أهل مدين؛ لأن مدين بلد، ومثله: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} [يوسف: 82] {وَاسْأَلِ العِيرَ} [يوسف: 82]) يخدش فيه ما ذكره المؤرخون أن مدين هذا المذكور في الآية الكريمة هو مدين بن إبراهيم. وشعيب صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ هو شعيب بن صيفون، ويقال: ابن ملكا بن بوتين بن مدين بن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، والتلاوة تدل على صحة ما ذكرناه، وهو قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ} [هود: 84] يعني: وأرسلنا إلى ولد مدين أخاهم شعيبًا، فإن قلت: أصحاب الأيكة هم مدين، وهم الذين أصابهم العذاب يوم الظلة، وقد قال جل وعز فيهم: {إِذْ قَالَ لَهُم شُعَيبٌ} [الشعراء: 177] ولم يقل: أخوهم، فيجاب بأنه لما عرفهم بالنسب وهو أحدهم في ذلك النسب، قال: أخوهم، ولما عرفهم بالأيكة التي أصابتهم فيها النقمة لم يقل: أخوهم، وأخرجه عنهم تنزيهًا له وتعظيمًا.
(1/248)
وذكر ابن قتيبة: أن إبراهيم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أبو جد شعيب، وذكر وهب: أن شعيبًا كان من ولد رهط آمنوا لإبراهيم يوم أحرق وهاجروا إلى الشام، فكل نبي قبل بني إسرائيل وبعد فمن ولد أولئك الرهط وجده شعيب بن لوط بن هاران. وذكر أبو الفاخر إسحاق بن جبريل بن مردشير في «تاريخه الغريب»: أنه عاش ستمائة واثنتين وخمسين سنة. وأيوب صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال ابن إسحاق في كتاب «المبتدأ»: كان رجلًا من بني إسرائيل، ولم يرفع لنا في نسبه فوق أبيه شيئًا، وهو أيوب بن تارح بن أموص، وذكر مقاتل بعد أموص اليفرر بن العيص بن إسحاق عليه السلام، قبره مشهور بحران بقرية بقرب من نوى، قاله ابن إسحاق. وفي «وشاح ابن دريد»: أيوب بن أموص بن رازح بن اليفرز بن العيص، وكان ينزل البَثَنِيَّةَ من الشام. وعن الحسن بن أبي الحسن: «مكث أيوب في البلاء سبع سنين وستة أشهر»، وقال وهب: «ثلاث سنين لم يزد يومًا واحدًا». ومن رواية أحمد بن وهب عن عمه عبد الله، أخبرنا نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «إن أيوب صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لبث في بلائه ثماني عشرة سنة»، وعن خالد بن دريك: «أصابه البلاء على رأس ثمانين سنة من عمره». وعن ابن عباس: «مكث في البلاء سبع سنين، وكان أصابه بعد السبعين من عمره».وفي «التاريخ الغريب»: أيوب بن أموص بن رعويل، تزوج ليا بنت يعقوب صلى الله عليهما وسلم، وأمه ابنة لوط صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعاش مئتي سنة وست عشرة سنة، وقبره بمصر، وقيل: بالشام.
(1/249)
وقال
ابن العربي في كتاب «سراج المريدين»: جميع ما يقوله عنه القصاص من تسلط إبليس
-لعنة الله عليه- غير صحيح؛ لأن الله جل وعز قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَان} [الحجر: 42] وأخبر عنه أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [ص:
82، 83] فكيف يسوغ مع هذا تسلطه -لعنه الله- على من هو من كبار المخلصين؟! وفي
«كتاب ليس» لابن خالويه: كنيته أبو عبد الله، وامرأته أم زيد.3422 - حديث الباب
تقدم في الصلاة [ح: 1069]. [خ 3422]
وأما داود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فهو ابن أبشى بن عارز بن ناعر بن سلمان بن
يحسون بن عمترات بن رام بن حضرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب، كان بعد اشمويل، وكان
أصغر إخوته السبعة، وكان لقمان في زمانه، وعاش مئة وسبعين سنة، ولم يصحح العلماء
ما يذكره القصاص من أمر أوريا، وقبره بالقدس.
وسليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ملك أربعين سنة، عشرين قبل الفتنة وعشرين
بعدها، وهو الأكثر، وقيل: أربعة وعشرين سنة، وعاش ثنتين وخمسين سنة، وقبره عند
بحيرة طبرية.
قال ابن قتيبة: لم يزل الملك والنبوة في ولده وولد ولده إلى الأعرج. وقوله:
{وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] قال قتادة: هب
لي ملكًا لا أسلبه كما سلبته. قال محمد بن جرير: وكان بعض أهل العربية يوجه معنى
قوله: {لَا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِن بَعدِي} [ص: 35] أي: لا يكون لأحد من بعدي كما
قال ابن أحمر:
ما أم عفر على دعجاء ذي علق ينفي القراميد عنها الأعصم الوقل
في رأس حلقا من عنقاء مشرفة لا ينبغي دونها سهل ولا جبل
يعني: لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها.
(1/250)
وفي
«تفسير ابن عباس»: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:
35] هب لي الشياطين حتى أملكهم، وهب لي الجن حتى أملكهم، وهب لي الريح حتى أملكها،
فوهب الله جل وعز له ما لا يهبه لأحد حتى تقوم القيامة.
وقوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} الآية
[سبأ: 12] قال عبد: حدثنا روح عن عوف عن الحسن، قال نبي الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ: «إن سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لما شغلته الخيل حتى فاتته صلاة
العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله مكانها خيرًا منها وأسرع -الريحَ التي تجري
بأمره كيف يشاء-.
وقوله: ({وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ: 12]) قال قتادة: عين من نحاس
كانت بأرض اليمن. وإنما يصنع الناس اليوم ما أخرج له.
قال: وقوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيل} [سبأ:
13] قال: من رخام وشَبَه. {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} أي: الحياض. و {رَاسِيَاتٍ}
أي: ثابتات لا يزلن عن مكانهن تُرى بأرض اليمن.
قال البخاري: (وَقالَ مُجاهِدٌ: المحاريب دون القصور، {وَتَماثِيلَ} من نحاس، و
{جِفَانٍ كَالجَوابِ} كحياض الإبل) هذا التعليق رواه عبد بن حميد عن روح عن شبل عن
ابن أبي نجيح عنه.
قال البخاري: (وَقالَ مُجاهِدٌ: {الصَّافِنَاتُ} [ص: 31] صَفَنَ الفَرَسُ: رَفَعَ
إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الحَافِرِ) هذا التعليق رواه عبدة
بالسند المذكور قبل.
قال البخاري: ({كَالجَواب} [سبأ: 13] كَالْجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ) وقال في سورة
سبأ: (قال ابن عباس: {كَالجَوابِ} كالجوبة) وهو صحيح من كلام ابن عباس، وهناك
بيَّنا سنده إلى عبد الله.
حديثا أبي هريرة تقدما
3423 - الأول في الصلاة [ح: 461]. [خ 3423]
3424 - والثاني في الجهاد [ح: 2819]. [خ 3424]
3425 - وحديث أبي ذر تقدم قريبًا [ح: 3366]. [خ 3425]
(1/251)
3426
- (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنا أَبُو
الزِّنَادِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ، سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: مَثَلِي
وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الفَرَاشُ
وَهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ). [خ 3426]
3427 - قال: (وكَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ
فَذَهَبَ بِابنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ
بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى
دَاوُدَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَا عَلَى
سُلَيْمَانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي
بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ، يَرْحَمُكَ
اللهُ، لَا تَفعَلْ, هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ... ) الحديث. [خ
3427]
وهما حديثان جمع البخاري بينهما، والحديث الأول أيضًا مختصر وتمامه: (فَجَعَلَ
يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ
عَنِ النَّارِ، وَأَنتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا) [ح: 6483].
وعند مسلم عن جابر يرفعه: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعل الجنادب والفراش
يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحُجَزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي».
(1/252)
قال
الخليل: (الفَرَاشُ) يطير كالبعوض، وقيل: هو كصغار البق. وقال: (الفَرَاشُ) هو
غوغاء الجراد الذي ينفرش ويتراكب ويتهافت في النار. و (استَوقَدَ) أي: أوقد،
والسين والتاء زائدتان، وهذا مثل لاجتهاده صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وحرصه على
تخليصنا من الهلاك، ولغلبة شهواتنا وظفر عدونا اللعين بنا صرنا أحقر من الفراش
والجنادب، أي: الجراد، واحدها جُندب -بضم الدال وفتحها، وحكى عياض كسرها-.
والمقحم: الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير سبب. والحُجَز جمع حُجزة، وهو
معقد الإزار والسراويل. و «آخِذ» روي بوجهين، أحدهما: أنه اسم فاعل -بكسر الخاء
وتنوين الدال، وهو المشهور- والثاني: أنه فعل مضارع بضم الذال بغير تنوين.
قال ابن العربي: الخلق لا يأتون ذلك على قصد الهلكة، وإنما يأتونه باسم النجاة
والمنفعة كالفراش الذي يقتحم الضياء ليس مراده الهلاك ولكنها لتستأنس به وهي لا
تبصر بحال، حتى قال بعضهم: إنها في ظلمة، فتعتقد أن الضياء كوة يستطير فيها النور،
فتقصدها لأجل ذلك فتحترق وهي لا تشعر، وذلك هو الغالب من أحوال الخلق أو كله.
انتهى، سمعت بعض مشايخ الأطباء يقول: ومراد الفراش إطفاء النور المرئي، لإفراط
جهله يورط نفسه فيما لا قدرة له به.
(1/253)
وحديث المرأتين قال القرطبي: قد أشكل على كثير من الشراح حتى قال بعضهم: إن هذا لم يكن من داود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حكمًا وإنما كان فُتيا، قال: وهذا فاسد؛ لنصِّه على أنه قضاء، ولأن فتيا النبي كحكمه سواء؛ إذ يجب تنفيذ ذلك، وقالت طائفة أخرى: إن ذلك من شرع داود صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يحكم به للكبرى، يعني من حيث هي كبرى، وهذا أيضًا فاسد؛ لأن اللفظ ليس نصًّا في ذلك، ولأن الكبر والصغر طرد محض عند الدعاوي كالطول والقصر والسواد والبياض، فلا يوجب شيء من ذلك ترجيحًا لواحد من المتداعيين حتى يحكم له أو عليه لأجل ذلك، وهذا مما يقطع به من له فهمٌ، والذي ينبغي أن يقال: إنه إنما حكم به للكبرى لسبب اقتضى عنده ترجيح قولها لم يذكر في الحديث، فيمكن أن يقال: إن الولد كان في يدها، وعلم عجز الأخرى عن إقامة البينة فقضى به لها، وهذا تأويل حسن لا يمنعه اللفظ وتشهد له قاعدة الدعاوي الشرعية.
(1/254)
قال: قيل: إن كان داود قضى بسبب شرعي، فكيف ساغ لابنه صلى الله عليهما وسلم نقض حكمه؟ فالجواب: أنه لم يتعرض لنقض حكم أبيه، إنما قال: هات السكين أشقه، فقالت الصغرى: لا، فظهر له من قرينة الشفقة في الصغرى وعدم ذلك في الكبرى مع ما عساه انضاف إليه من القرائن التي حصلت له العلمُ بصدقها، أو لعله كان ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه، ولعل الكبرى اعترفت بأن الولد للصغرى عندما رأت من سليمان الجد في ذلك، ويكون هذا كما إذا حكم الحاكم باليمين مضى ليحلف حضر من استخرج من المنكر ما أوجب إقراره، فإنه يحكم عليه بذلك الإقرار قبل اليمين وبعدها، ولا يكون ذلك من باب نقض الحكم الأول، ولكن من باب تبدل الأحكام بحسب تبدل الأسباب. وذكر النووي أن سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فعل ذلك تحيُّلًا على إظهار الحق وظهور الصدق، فلما أقرت به الصغرى عمل بإقرارها وإن كان الحكم قد نفذ كما إذا اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق لخصمه. وقال أبو الفرج: إنما حكما بالاجتهاد؛ إذ لو كان بنص لما ساغ خلافه، وهذا يدل على أن الفطنة والوهم موهبة. قال القرطبي: ولا التفات لقول من يقول: إن الاجتهاد إنما يسوغ عند فقد النص، والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لا يفقدون النص، فإنهم متمكنون من استطلاع الوحي وانتظاره، والفرق بينهم وبين غيرهم عصمتُهم عن الخطأ وعن التقصير في الاجتهاد، وليس كذلك غيرهم، وفيه من الفقه استعمال الحكام الحيل التي تستخرج بها الحقوق، وذلك يكون عن قوة الذكاء والفطنة وممارسة أحوال الخلق، وقد يكون في أهل التقوى فراسة دينية وتوسمات نورية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
(1/255)
وقولها
(لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ) يقف على (لَا) دقيقة حتى يتبين للسامع أن ما بعده كلام
مستأنف؛ لأنه إذا وصل ما بعد (لَا) توهم السامع أنه دعاء عليه كما قال أبو بكر رضي
الله عنه لرجل قال له: لا يرحمك الله: لقد عَلِمتم لو علمتم، قل: لا، ويرحمك الله.
وفيه حجة لمن يقول: إن الأم تستلحق، وليس مشهور مذهب مالك؛ لأنه لا يلحق عنده
بأحدهما إلا ببينة.
والمُدْيَة: -بضم الميم وكسرها وفتحها- سُميت بذلك؛ لأنها تقطع مدى الحياة. و
(السِّكِّينِ) تذكر وتؤنث، ويقال أيضًا: سكينة؛ لأنها تسكن حركة الحيوان.
الباب الذي تقدم ما فيه، وقوله هنا: (حدثنا إسحاق، أخبرنا عيسى بن يونس) ذكر أصحاب
الأطراف أنه ابن إبراهيم.
(بَابُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا
المرسَلُونَ} [يس: 13] الآيَةَ)
قال الطبري: ذكر أنها أنطاكية, قال السُّهَيلي: نسبت إلى أنطنفس, وهو اسم الذي
بناها, غُيِّر لما عُرِّب. وقد اختلف أهل العلم في هؤلاء الرسل, فعن قتادة: أرسلهم
عيسى صلى الله عليهم وسلم, وكذا ذكره مقاتل بن سليمان وابن عباس في تفسيرهما, وقال
وهب فيما ذكره الطبري: كان بأنطاكية فرعون من الفراعنة يقال له: أنطبجنين يعبد
الأصنام, فبعث الله جل وعز إليه ثلاثة, وهم صادق وصدوق وشلوم، وقال مقاتل: هم
تَوْمان وبولس والآتي ثالثًا شمعون, وكان من الحواريين, ووَصِيَّ عيسى صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ, قال ابن عباس: فجعلهم الله جل وعز بعد عيسى أنبياء صلوات الله
عليهم وسلامه. وذكر السُّهَيلي فيهم يوحنا, وسيأتي طرف من هذا في سورة يس.
قال البخاري: (قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَعَزَّزْنَا} شَدَدْنا). روى هذا التعليق محمد
بن جرير عن محمد بن عمرو, حدثنا أبو عاصم, حدثنا عيسى, الحديث.
(1/256)
وحدثني
الحارث, حدثنا الحسين, حدثنا ورقاء جميعًا عن ابن أبي نجيح عنه ثم قال: حدثنا ابن
حميد, حدثنا حَكَّام عن عَنبسَة، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة عن
مجاهد.
قوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} قال: زدنا. قال الطبري: {فَعَزَّزْنا} بالتشديد،
قرأه القُراء سوى عاصم، فإنه قرأه بالتخفيف، والقراءة عندنا التشديد لإجماع الحجة
من القراء عليه، ومعناه إذا شُدِّد: فقوَّينا, وإذا خفف: فغلبنا, وليس لغلبنا في
هذا الموضع كبير معنا.
قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {طَائِرُكُمْ} مَصَائِبُكُم).
قال الطبري: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة عن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وعن كعب
ووهب: {طَائِركُم مَعَكُم} [يس: 19] أي: أعمالكم معكم. وفي «تفسير الضحاك» رواية
جويبر عنه عن ابن عباس: {طَائِركُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] يعنون شؤمكم معكم.
وأما زكريا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فهو ابن أدى بن ترخيا بن مسلم بن صدوق بن
نحان بن داود بن سلمان بن مسلم بن صديقه بن برخيا بن صفاينا بن ناحور بن سلوم بن
نهشافاط بن اسا بن رُحَبْعِمْ بن سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلم.
قال ابن إسحاق: كان زكريا وابنه آخر من بعث في بني إسرائيل من أبنائهم، قال ابن
إسحاق: عدت بنو إسرائيل عليه ليقتلوه، فمرَّ بشجرة فانفلقت له فدخل فيها فاصطكت
عليه، فأدركه الشيطان فأخذ بهدبة ثوبه فبرزت من ساق الشجرة، فلما جاؤوا أراهم
إبليس إياها، فوضعوا المنشار على الشجرة، فنشروه حتى قطعوه من وسطه في جوفها. قال:
وبعض أهل العلم يقول: إن زكريا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مات موتًا، والذي فُعل
به ما ذكرنا هو أشعياء الذي كان قبل زكريا صلى الله عليهما وسلم.
(1/257)
وأما
يحيى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فذكر عبد الله بن الزبير: أن قتله كان بأمر بغي
اسمها ازبل بنت إحاب، وكان ملكًا في بني إسرائيل أرادت أن يتزوجها أبوها. قال ابن
إسحاق: وكان قتله قبل رفع عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وقيل: قبل أبيه،
وقَتَل بختنصَّرُ على دمه سبعين ألفًا، فلم يسكن حتى جاء الذي قتله فقال: أنا
قتلتُه، فقتله عليه فسَكَن.
قال البخاري: (قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {لَم نَجعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} قال:
مِثْلًا} رواه ابن إسحاق عن يوسف بن مهران عنه.
3430 - حديث الإسراء تقدم قريبًا [ح: 3207]، وأما مريم فهي ابنة عمران بن ناشئ بن
أموز بن ميشى بن حزقيا بن أحزى بن عورى بن أمصا بن ياوش بن نارم بن نهقاشاط بن أسا
بن رُجَيْعِم بن سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، اختلف العلماء فيها، فمن
قائل: هي نبيَّة، وهو المرجح عند القرطبي، ومن قائل: ليست بنبيَّة، إنما هي كما
قال تعالى صِدِّيقَة. [خ 3430]
3431 - حديث الباب تقدم [ح: 3286]. [خ 3431]
(1/258)
3432
- (حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنا النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ،
حَدَّثَنِي أَبِي، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ عَلِيًّا،
سَمِعْتُ رَسُولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: خَيْرُ نِسَائِهَا
مَرْيَمُ بِنتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ). قال الدَّارَقُطْني:
رواه ابن جريج وابن إسحاق عن هشام عن أبيه فقالا: عن عبد الله بن الزبير عن عبد
الله بن جعفر عن علي. قال: والصواب مع من لم يذكرِ ابن الزبير. وذكر ابن عبد البر:
أن جريج رواه أيضًا بسقوط ابن الزبير كالجماعة فيُنظر. قال الدَّارَقُطْني: ورواه
أيضًا عبيد الله ومحمد ابنا المنذر بن عبيد الله بن المنذر بن الزبير عن هشام عن
أبيه عن ابن جعفر، وأغربا بحديث آخر بهذا السند لم يتابعهما غيرهما، وهو «أن سيدنا
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بشَّر خديجة ببيت من قصب اللؤلؤ» [ح:
3816]، وقال حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه: إن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
قال: «خير نسائها» فذكره مرسلًا. [خ 3432]
وعند النسائي من حديث علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس يرفعه: «أفضل نساء أهل
الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية»، وعند أبي عمر من حديث موسى بن عقبة عن كريب عن
ابن عباس مرفوعًا: «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم فاطمة وخديجة وآسية»، وعند
الترمذي من حديث معمر عن قتادة عن أنس يرفعه: «حسبك من نساء العالمين مريم وخديجة
وفاطمة وآسية».
(1/259)
قال
القرطبي: هذا الضمير عائد على غير مذكور، لكنه يفسره الحال والمشاهدة، يعني به
الدنيا. وفي رواية: وأشار وكيع إلى السماء والأرض يريد الدنيا، كأنه يفسر ذلك
الضمير، وهذا نحو حديث ابن عباس: «خير نساء العالمين مريم» ويشهد لهذا قول الله جل
وعلا عن الملائكة: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِين} [آل عمران: 42]، وظاهره يقتضي أنها خير نساء العالمين من
حواء إلى آخر امرأة تقوم عليها الساعة، ويعتضد هذا الظاهر بأنها صدِّيقة ونبيَّة
وهو أولى من قول من قال: إنها غير نبيَّة، وإذا ثبت ذلك ولم يُسمع في الصحيح أن في
النساء نبية غيرها فهي أفضل من كل النساء الأولين والآخرين؛ إذ النبي أفضل من
الولي بالإجماع. انتهى كلامه. وفيه نظر من حيث إن أبا عبد الله روى عن العباس بن
محمد بن يعقوب حديثًا صحيحًا سنده كالشمس لا مرية في صحته ولا لَبْس قال: حدثنا
الحسن بن علي بن عفان، حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا إسرائيل عن ميسرة بن حبيب عن
المنهال بن عمرو عن زِرٍّ عن حذيفة قال: «أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
ملكٌ استأذن جل وعز أن يسلم عليه لم ينزل قبلها، قال: فبشرني أن فاطمة سيدة نساء
أهل الجنة».
قال أبو عبد الله: تابعه أبو مريم الأنصاري عن المنهال، أخبرناه علي بن عبد الرحمن
بن عيسى، حدثنا الحسين بن الحكم الحِبَري، حدثنا الحسنُ بنُ الحُسينِ
الْعُرَنِيُّ، حدَّثنا أبو مَرْيَمٍ الأنصاريُّ، عَنِ الْمِنْهَالِ، وقال: صحِيحُ
الإِسنادِ ولم يُخَرِّجَاهُ.
(1/260)
وذكر
في كتاب جمع فيه فضائلها: أخبرنا أبو عمر الزاهد، أخبرنا محمد بن عثمان العبسي،
حدثنا عبادة بن زياد الأسدي، حدثنا يحيى بن العلاء الرازي عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن ابن عباس، قال: قال عليٌّ: لقد علمتم أني أخو النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ ووزيرُه، وأني أوَّلكم إيمانًا وأبو ولديه وزوج ابنته سيدة ولده وسيدة
نساء أهل الجنة. قال جعفر بن محمد: وكانت تسمى الصديقة، انتهى. فثبت بهذا أنها
أفضل من جميع من في الجنة؛ لأن هذه فضيلة أعطيها نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ والفضائل لا تنسخ إجماعًا، فتعين أن هذا الحديث أطلعه الله تعالى عليه
بعد أن ذكر في مريم ما ذكر، على أن في بعض طرق حديث أبي موسى أن الملك جاء نبينا
صلى الله عليهما وسلم في آخر حياته، ويترجح قول من قال في مريم: إنها خير نساء
عالم زمانها، وكذا نقول به في آسية وخديجة، وينتظم الحديثان ولا يتهاتران، والحمد
لله.
ويعضد هذا أيضًا بكونها بضعة من سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قال
مالك: لا يُعدل ببضعة منه أحدٌ. وقد قال جماعة من العلماء: إن مَن سبَّها والعياذ
بالله كفر.
(1/261)
(بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ} الآيَةَ [آل عمران: 45] قال البخاري: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: (المَسِيحُ: الصِّدِّيقُ) هذا التعليق ... .قال البخاري: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الكَهْلُ الحَلِيمُ) هذا التعليق رواه هند عن روح عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه.3433 - حديث أبي موسى تقدم قريبًا [ح: 3411]. [خ 3433] 3434 - قال البخاري: (وَقَالَ ابنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابنِ شِهَابٍ،314 حَدَّثَنِي ابنُ المُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ لنِسَاء قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ، أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ. يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ). [خ 3434] هذا التعليق رواه مسلم في «صحيحه» عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب. قال البخاري: (تَابَعَهُ ابنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقُ الكَلْبِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) زاد الإسماعيلي: وتابعه أيضًا معمر وصفوان بن عمرو، وحديث معمر عند مسلم بلفظ: «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ خطب أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله، قد كَبِرتُ ولي عيال، فقال: خير نساء» الحديث، وفي رواية عند عبد الرحمن بن مقرَّب التجيبي في كتابه «مناقب قريش»: «أحناه على يتيم» يتلمح من قول أبي هريرة: (ما ركبت مريمُ بعيرًا قط).ومن ذكر البخاري له في قصة مريم تفضيلها على خديجة وفاطمة رضي الله عنهما؛ لأنهما من العرب المخصوصين بركوب الإبل. والحُنوُّ: الشفقة، والرعي: الحفظ، وإنما يأتي ذلك من الصلاح والخير.
(1/262)
3435 - وقول البخاري إثر حديث صدقة بن الفضل عن عبادة: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ) الحديث، قال الوليد: حدثني ابن جابر عن عمير عن جنادة وزاد: (مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ)، رواه النسائي متصلًا في «كتابه الكبير». [خ 3435] قال الترمذي: روي عن الزهري أنه قال: كان هذا في أول الإسلام قبل نزول الفرائض. قال أبو عيسى: ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن أهل التوحيد سيدخلون الجنة وإن عذبوا بذنوبهم، فإنهم لا يخلدون في النار. وقد روي عن ابن مسعود وأبي ذر وعمران بن حصين وجابر وأبي سعيدوأنس مرفوعًا: «سيخرج من النار أهل التوحيد ويدخلون الجنة» وكذا روي عن سعيد بن جبير والنخعي وغير واحد من التابعين في تفسير هذه الآية: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] قالوا: إذا خرج أهل التوحيد من النار وأُدخلوا الجنة يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. وذكر ابن العربي أن معناه: أن يكون كافرًا فيؤمن ويموت قبل أن يذنب، أو يكون مذنبًا فيتوب أو يقتل في سبيل الله تعالى، أو يقول: إذا عدت لا إله إلا الله في الوزن فلا يرجحها شيء كما في حديث البطاقة، قال: وليست توزن لكل أحد، وإنما توزن لمخصوص، أو يقول كما قال وهب: لا إله إلا الله مفتاح له أسنان، إن جئت بالمفتاح وأسنانه فُتح لك، وإلا فلا. قال: وقول ابن شهاب لا وجه له، وقول وهب صحيح، انتهى كلامه. وفيه نظر من حيث قوله: إن الوزن ليس لكل أحد إلا لمخصوص، تخصيص من غير مخصص، فيحتاج إلى تثبُّت، وقول الزهري محتمل لأن يكون قاله نقلًا لا تفقُّهًا، وهو إلى الأول أقرب؛ لأنه يُستروح من فحوى لفظه النقلُ، والله أعلم. قال القرطبي: المقصود بالحديث التنبيه على ما وقع للنصارى في عيسى وأمه صلى الله عليهما وسلم، ويستفاد منه أيضًا ما يلقنه النصراني إذا أسلم.
(1/263)
وقد اختلف في وصف عيسى بأنه كلمة، فقيل: لأنه تكوَّن بكلمة: كن من غير أب، وقيل: لأن الملك جاء بكلمة البشارة عن الله تعالى إلى أمه. (بَابُ قَوْلِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: 16].قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {نَسْيًا} لَمْ أَكُنْ شَيْئًا) هذا التعليق ذكره ابن أبي زياد في «تفسيره» عن ابن عباس. قال البخاري: (وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: عَلِمْتُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهيَةٍ) هذا التعليق ذكره. قال البخاري: (وَقَالَ وَكيعٌ عَن إِسرائِيلَ عَن أَبي إِسحَاقَ).وعند ابن منده من حديث الحكم بن ظهير عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب: «بعث الله روح عيسى إلى مريم فحملته» قال: حملت بالذي ناطقها ودخل في فيها وهو روح عيسى. ورواه أيضًا من حديث المعتمر عن أبيه عن الربيع بلفظ: لما أخذ العهد على الأرواح كان روح عيسى في تلك الأرواح الذي خاطبها، فأرسل الله ذلك الروح إلى مريم، قال تعالى: {فَأَرسَلنَا إِلَيهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] قال: فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى فدخل من فيها. ومن حديث محمد بن سابق عن أبي جعفر عيسى بن ماهان عن الربيع (عن البراء: {سَرِيًّا} [مريم: 24]: نَهرٌ صَغِيرٌ بِالسِّريَانيَّة) هذا التعليق زعم خلف وتبعه شيخنا أبو الحجاج أن البخاري أخرجه في التفسير عن يحيى عن وكيع عن إسرائيل، ولفظه: نهرٌ جدول من ماء، وكأنه غير جيد؛ لأني لم أره في سورة كهيعص جملة، ولأن أبا العباس الطَّرْقي وأبا مسعود الدمشقي لم يذكراه، فينظر فيما قالاه، وفي اللفظ أيضًا، ورواه ابن مردويه من حديث بقية، حدثنا معاوية بن يحيى عن أبي سنان عن أبي إسحاق عن البراء عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه قال: «السَّريُّ: النَّهر» قال: وحدثنا أبو عمرو، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء، قال: «السَّريُّ الجدول» وهو النهر الصغير.
(1/264)
ولما
رواه الحاكم عن المحبوبي، حدثنا أحمد بن سيار، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان عن
أبي إسحاق موقوفًا بلفظ: «الجدولُ النهرُ الصغير». قال: صحيح على شرط الشيخين.
وذكره أيضًا ابن مردويه من حديث ابن عمر 317 عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ، قال: «السَّريُّ الذي قال الله جل وعز: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ
سَرِيًّا} [مريم: 24]، قال: نهر أخرجه الله تعالى لها لتشرب منه».وقوله:
{فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا} [مريم: 24] قال ابن عباس: هو جبريل صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ، ولم يتكلم عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حتى أتت به قومها.
وفي «المصنف» لأبي بكر عنه: ما تكلم عيسى إلا بالآيات التي تكلَّم بها حتى بلغ
مبلغ الصبيان.3436 - حديث أبي هريرة تقدم في المظالم [خ 3436]
3437 - وحديثه في الإسراء تقدم فيه [ح: 3394]. [خ 3437]
3438 - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ،
أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ المُغِيرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ, فذكر قطعة من حديث الإسراء، وأن عيسى
أحمر) قال أبو مسعود الحافظ: أخطأ البخاري في قوله: مجاهد عن ابن عمر، وإنما رواه
محمد بن كثير وإسحاق بن منصور السلولي وابن أبي زائدة ويحيى بن آدم وغيرهم عن
إسرائيل عن عثمان عن مجاهد عن ابن عباس، وقد نبَّه أبو ذرٍّ في نسخته على ذلك،
قاله أبو علي. قال أبو ذرٍّ: ورواه أيضًا عثمان الدارمي عن بن كثير، وتابعه نصر بن
علي عن أبي أحمد الزبيري عن إسرائيل، وكذلك رواه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن
إسرائيل عن عثمان عن مجاهد عن ابن عباس، وقد تقدم هذا الحديث في كتاب الحج [ح:
1555] وفي قصة إبراهيم من رواية ابن عون عن مجاهد عن ابن عباس على الصواب، رواه
البخاري عن محمد بن مثنى، حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون. [خ 3438]
(1/265)
وقال
أبو نعيم الحافظ: حدثنا سليمان بن أحمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن علي، حدثنا محمد
بن كثير، حدثنا إسرائيل عن عثمان عن مجاهد عن ابن عباس به، قال: ورواه أبو أحمد
الزبيري عن إسرائيل عن عثمان عن مجاهد عن ابن عمر، أن ابن عباس قال: قال رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فذكره، حدثنا أبو أحمد، حدثنا الوزان، حدثنا نصر بن
علي، حدثنا أبو أحمد به، وقال الإسماعيلي: حدثنا الوزان، حدثنا نصر بن علي، أخبرني
أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل عن عثمان عن مجاهد عن ابن عباس، وأما خلف والطرقي
فتبعا البخاري حذو القُذَّة بالقُذَّة.
وأما المسيح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فذكر ابن دحية في كتابه «مجمع البحرين»:
أنه -بسكون السين وكسر الياء على وزن مَفعِل، فأُسكنت الياء ونُقلت حركتها إلى
السين وكُسرت؛ لاستثقالهم الكسرة على الياء- وقيل: سُمي مسيحًا؛ لأنه كان لا يمسح
ذا عاهة إلا برئ، ولا ميتًا إلا حيَّ، فهو من أبنية أسماء الفاعلين مسيح بمعنى
ماسح، وقال إبراهيم النخعي: المسيح الصديق. وقال أبو عبيد: أظن هذه الكلمة مشيخا
-بالشين المعجمة- فعُرِّبت، وكذا ينطق بها اليهود.
وعن ابن عباس: سُمي مسيحًا؛ لأنه كان أمسح الرجل ليس لرجله أخمص. وقيل: لأنه خرج
من بطن أمه كأنه ممسوح بالدهن. وقيل: لأنه مسح عند ولادته بالدهن. وقيل: هو اسم
خصه الله به أو بمسح زكريا إياه. وقيل: سمي بذلك لحسن وجهه؛ إذ المسيح في اللغة:
الجميلُ الوجه، والمسيح أيضًا في اللغة: قطع الفضة، وكذا كان أبيض مشربًا بالحمرة،
وقيل: لمسحه الأرض، أي قطعها؛ لأنه كان تارة بالشام وتارة بمصر، والمهامه والقفار.
وقيل: لأن الله تعالى مسح الذنوب عنه. وقيل: لأن جبريل صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ مسحه بالبركة، وهو قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا
كُنْتُ} [مريم: 31].
(1/266)
وأما
المسيح الدجال لعنه الله، فزعم القابسي: أنه سمي مسيحًا؛ لأن عينه مُسحت، قال: ومن
الناس من يكسر ميمَه ويثقِّل السين ليفرق
بينه وبين عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. وحكى الأزهري: أنه مسِّيح على وزن
فعِّيل فرقًا بينه وبين عيسى صلى الله عليه. وعن أبي عمر: منهم من قاله بالخاء
المعجمة، قال: وذلك كله عند أهل العلم خطًّا لا فرق بينهما، كذلك ثبت عن رسول الله
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أنه نطق به، ونقله الصحابة المبلِّغون عنه، وقالته
العرب، قال ابن قيس الرقيات:
وقالوا: دع رقية واجتنبها فقلت لهم: إذا خرج المسيح
يريد: إذا خرج الدجال، كذا فسَّروه، وقال آخر:
إذا المسيحُ قَتَل المسيحا
وقيل: سمي مسيحًا؛ لأن المسيح الذي لا عين له ولا حاجب، وقيل: سمي بذلك لكذبه،
وقيل: سمي بذلك لتمرده وخبثه، وقيل: لمسحه الأرض؛ لأن عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ اختص بقطع بعض الأرض، وهذا يمسح جميع البلاد في أربعين يومًا إلا ما
استُثني، وقيل: لأن أحد شقي وجهه ممسوح وهي أشوه الحالات.
و (رِجَالِ الزُّطِّ) يريد السودان.
(1/267)
3440 - و (اللِّمَّةُ) -بكسر اللام- الشعر إذا جاوز شحم الأذنين، سميت بذلك؛ لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا بلغت المنكبين فهي جُمة، فإذا بلغت شحمة الأذنين فهي وَفرة. [خ 3440] و (السِّبِط) -بكسر الباء الموحدة وسكونها- وهو خلاف الجعد، و (القَطَط) -بفتح الطاء- وهو خلاف السِّبط.3441 - و (يَنطِفُ رَأسُهُ) قال الداودي: أي يقطر، قال: ومنه النطفة، والذي عند اللغويين: أن النطفة هو الماء الصافي. و (ابنُ قَطَنٍ) هو عبد العزى بن قطن المصطلقي، أمُّه هالة بنت خويلد أخت خديجة. (هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ) وقد قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ في حديث آخر: «رُفع إليَّ الدجال، وأشبه مَن رأيت به أكثم بن أبي الجون الخزاعي. فقال أكثم: يا رسول الله أيضرني شبهه؟ قال: لا أنت مسلم وهو كافر» وإنكار ابن عمر في الحديث بعده: (والله ما قال النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لعيسى: أحمر) يؤيد من قال بالخطأ. [خ 3441] وقول البخاري: (حَدَّثَنا أَحمَدُ بنُ مُحمَّدٍ المكِّيُّ، سَمِعتُ إِبراهِيمَ بنَ سَعدٍ) قال أبو نعيم: أحمد هذا أراه الأزرقي.3442 – (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يَقُولُ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابنِ مَرْيَمَ، وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ)، وفي رواية: «أمَّهاتُهم شَتَّى ودينُهم واحد»، وفي رواية: «في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلَّاتٍ»، وفي لفظ: «مِن عَلَّات»، وفي كتاب «الفتن» لنُعيم من حديث قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة: «وإن أولاهم بي عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وإنه نازل فيكم فاعرفوه، رجل مربوع الخلق إلى البياض والحمرة».
(1/268)
[خ 3442] قوله: (أنا أولى) أي: أخص وأقرب كما قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «فلأولى عَصبة» أي: أحق وأقرب، ولما لم يكن بينهما نبيٌّ كانا كأنهما في زمن واحد و (أَوْلَادُ العَلَّات) -بفتح العين المهملة وتشديد اللام- هم أولاد الرجل من نسوة شتى، سموا بذلك لأنهم أولاد ضرائر، و (العَلَّات): الضرائر، وقيل: لأن الذي تزوجها على الأولى كانت قبلها، ثم عَلَّ من هذه، والعَلَل: الشربُ الثاني، يقال: علل بعد نهل، وفي «التهذيب»: هما أخوان من عَلَّة، وهما أبناء علة وبنو علة وهم من علات، والعَلة: الدابة، قال ابن سِيدَه: وجمع العلة العلائل. زاد في «التهذيب» الأخياف عكسهم الأم الواحدة والآباء مختلفون، وبنو الأعيان أخوةٌ لأب وأم واحد. قال عياض: معناه أن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أزمانهم مختلفة، وبعضهم بعيد الوقت من بعض، فهم (أَوْلاَدُ عَلَّاتٍ)؛ إذ لم يجمعهم زمن واحد كما لم يجمع أولاد العلات بطن واحد، ولما كان عيسى قريب الزمن منه صلى الله عليهما وسلم، ولم يكن بينهما نبي كانا كأنهما في زمن واحد بخلاف غيرهما. قال أبو الفرج: فإن قيل: قد ذكر بعد عيسى أنبياء، فالجواب: أن هذا الحديث أصح، فالاعتماد عليه، وإن جوزنا وجود نبي بعد عيسى فهو كالتبع له والداعي إلى دينه لا ينقض شيئًا مما قرره، وليس هو بنبي ذي شرع متجدد.
(1/269)
ويستفاد من هذا الحديث إبطالُ قول من قال: قد كان بين نبينا وعيسى صلى الله عليهما وسلم أنبياء، وأراد بالدين الواحد التوحيد ولم يرد فروع الشرائع؛ لأنهم مختلفون فيها كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] 3443 - وقول البخاري: (قالَ إِبراهِيمُ بنُ طَهمَانَ عَن مُوسَى بنِ عُقبَةَ، عَن صَفوانَ بنِ سُلَيمٍ، عَن عَطاءِ بنِ يَسارٍ، عَن أَبي هُريرةَ، عَن النَّبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ) رواه الإسماعيلي عن أحمد بن حفص، والنسائي عن أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان، وزعم أبو نعيم أن البخاري ذكره عن إبراهيم مرسلًا، كذا قاله، والمعروف في الاصطلاح أنه تعليق. [خ 3443] 3444 - وقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (رَأَى عِيسَى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلَّا وَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللهِ، وَكَذَّبْتُ عَيْنِي)، وعند مسلم: «وكذَّبت نفسي» قال أبو الفرج: إن قيل: إن أعلى اليقين المشاهدة، فكيف يُقَدم عليها قول زاعم؟ فيجاب: بأن الناظر إلى الشيء قد لا يثبت نظره ولا يحصل له اليقين، أو يكون من المعاريض وتقديره: كذبت عيني في غير هذا. [خ 3444] قال القرطبي: ظاهر قوله لهذا الرجل: (سَرَقْتَ) أنه خبر عما فعل الرجل من السرقة، وأنه حقق السرقة عليه؛ لأنه رآه أخذ مالًا لغيره من حرز في خفية، ويحتمل أن يكون مستفهمًا له عن تحقيق ذلك فحذف همزة الاستفهام. وقول الرجل لعيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (كَلَّا) أي: لا، نفى ذلك ثم أكَّده بيمين.
(1/270)
وقول
عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (آمَنتُ بالله) أي: صدَّقْتُ من حلف بالله
وكذَّبت ما ظهر من ظاهر السرقة؛ فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ما له فيه حقٌّ، أو
يكون صاحبه قد أذن له فيه، أو يحتمل أن يكون أخذه ليقلِّبه وينظر إليه، ويُستفاد
من هذا درءُ الحدود بالشبهات، وقال ابن التين: قيل أراد صدقه في الحكم؛ لأنه لم
يحكم بعلمه، وهو مذهب مالك خلافًا لما ذهب إليه عبد الملك وسحنون.3446 - حديث أبي
موسى تقدم في العتق [ح: 97]. [خ 3446] 3447 - وحديث ابن عباس تقدم قريبًا [ح:
3349]، وفي آخره (قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفَرَبْرِيُّ، ذُكِرَ عَنْ أَبِي
عَبْدِ اللهِ -يعني: البخاري- عَنْ قَبِيصَةَ، قَالَ: " هُمُ المُرْتَدُّونَ
الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ) [خ 3447] التعليق
عن قبيصة رواه الإسماعيلي عن إبراهيم بن موسى الجرجاني: حدثنا إسحاق، حدثنا قبيصة
بن عقبة، حدثنا سفيان، حدثنا المغيرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، الحديث.
(بَابُ نُزُولِ عِيسَى ابنِ مَريَمَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِم وَسَلامُهُ).
(1/271)
3448 – (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُم ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الحَرْبَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159]). [خ 3448] 3449 - وفي لفظ (يُونُسَ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ نَافِعٍ، مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ. ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ عُقَيْلٌ، وَالأَوْزَاعِيُّ) [خ 3449] ذكر الجياني: أن ابن السكن نسب إسحاق هذا ابن إبراهيم، وكذا رواه أبو نعيم عن أبي أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، فذكره. ومتابعة الأوزاعي رواها مسلم في «صحيحه» عن زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثنا الزهري به. وفي لفظ: «إمامًا مقسطًا»، وفي لفظ: «حكمًا مقسطًا»، وفي لفظ: «عادلًا، وليضعن الجزية، وليتركنَّ القِلاص فلا يسعى عليها أحد، وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد»، وفي لفظ: «فأمَّكُم منكم» قال ابن أبي ذئب: يعني أمَّكم بكتاب ربكم وسُنة نبيكم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/272)
وفي لفظ: «يقول له الإمام: صلِّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء»، وعند الطبراني في «الأوسط»: «يقتل الخنزير والقرد»، وقال: لم يروه عن روح - يعني عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا - إلا محمد بن سُميع. ولفظ ابن عيينة عن الزهري عن سعيد: «يوشِكُ أن يَنزلَ فيهم»، عند نعيم بن حماد في كتاب «الفتن». وعن كعب: «يحاصر الدَّجال المؤمنين ببيت المقدس، فيصيبهم جوعٌ شديد حتى يأكلوا أوتار قِسِيِّهم، فبينا هم على ذلك إذ سمعوا صوتًا في الغلس، فينظرون فإذا عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وتقام الصلاة فيرجع إمامُ المسلمين، فيقول عيسى: تقدم، فَلَكَ أُقيمت الصلاةُ، فيصلي بهم ذلك الرجل تلك الصلاة، ثم يكون عيسى الإمام بعدُ».وفي لفظ: «ينزل عند القنطرة البيضاء على باب دمشق الشرقي، تحملُه غَمامة واضعًا يديه على منكبي ملكين صلى الله عليهم وسلم، عليه ريطتان، إذا أكبَّ رأسه قطر منه كالجمان، فيأتيه اليهود فيقولون: نحن أصحابك، فيقول: كذبتم -وللنصارى كذلك- إنما أصحابي المهاجرون بقية أصحاب الملحمة، فيجد خليفتَهم فيصلي بهم فيتأخَّر، فيقول له: صلِّ، فقد رضي الله عنك، فإني إنما بُعثت وزيرًا ولم أُبعث أميرًا، قال: وبخروجه تنقطع الإمارة».وفي حديث أبي أمامة بسند جيد مرفوعًا: «وإمام المسلمين يومئذ رجل صالح، فيقال له: صل الصبح، فإذا كبَّر ودخل فيها نزل عيسى، فإذا رآه ذلك الرجل عرفه فرجع يمشي القهقرى، فيضع عيسى يده بين كتفيه ويقول: صلِّ، ويصلي وراءه».وعن أبي هريرة بسند جيد: «وتضعُ الحربُ أوزارَها، وينزلُ بين أذانين».وعن ابن عمر موقوفًا: «المحاصرون ببيت المقدس إذ ذاك مئة ألف امرأة، واثنان وعشرون ألف مقاتل، إذ غشيتهم ضبابة من غمام، أو تُكشفت عنهم مع الصبح، فإذا عيسى بين ظهرانيهم»، وفيه: «وتبتز قريشًا الإمارة، وتكون الأرض كفاثورة الفضة».
(1/273)
قال نعيم: حدثنا أبو حيوة وأبو أيوب عن أرطاة، عن عبد الرحمن بن جبير، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ليُدركن ابنَ مريم رجالٌ من أمَّتي هم مثلكم، أو خيرُهم مثلكم».قال: وحدثنا أبو عمر عن ابن لهيعة، عن عبد الوهاب بن حسين، عن محمد بن ثابت عن أبيه، عن الحارث، عن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إذا بلغ الدجال عقبة أفيق وقع ظلُّه على المسلمين، فيوترون قسيَّهم لقتاله، فيسمعون نداءً قد أتاكم الغوث ثلاثًا، وتشرق الأرض بنور ربِّها، وينزل عيسى ورب الكعبة، فيوافقونَه وقد نزل على باب لُدٍّ، فإذا نظر الدجال إلى عيسى قال: يا نبي الله، قد أُقيمت الصلاة، فيقول عيسى: يا عدو الله، أُقيمت لك فتقدم فصلِّ، فإذا تقدم يصلي قال له: يا عدو الله، زعمتَ أنك رب العالمين، فلمن تصلي؟! ويضربه بمقرعة معه فيقتله».ومن حديث صفوان عمَّن حدثه عن أبي هريرة مرفوعًا: «يُلقى عليه مهابة الموت، يمسح وجوه رجال ويبشِّرهم بدرجات الجنة».وفي حديث رجل من الأنصار عن بعض الصحابة مرفوعًا: «يحاصِرهم الدجال في جبل من جبال الشام، إذ أخذتهم ظلمة شديدة لا يبصر امرؤ فيها كفَّه، فينزل ابن مريم فيحسر عن أبصارهم، فإذا بين أظهرهم رجل عليه لَأمَتَهُ، فيقولون: مَن أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا عبد الله ورسوله وروحه وكلمته عيسى ابن مريم، اختاروا واحدة من ثلاث: أن يبعث الله على الدجال وجنوده عذابًا من السماء، أو يخسف بهم الأرض، أو يسلط عليهم سلاحَكم ويكفَّ سلاحَهم عنكم، فقالوا: يا رسول الله هذه أشفى لنفوسنا» الحديث. وعن كعب: «يقيم عيسى أربعًا وعشرين سنة منها عشر حجج، يبشر المؤمنين بدرجاتهم في الجنة»، وفي لفظ: «يقيم أربعين سنة».وعن ابن عباس: «يتزوج إلى قوم شعيب، وهو ختن موسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وهم جُذام، فيولد له فيهم، ويقيم تسعة عشر سنة لا يكون أمير ولا شرطي ولا ملك».
(1/274)
وعن يزيد بن أبي حبيب: «يتزوج امرأة من الأزد ليعلم الناس أنه ليس بإله».قال نعيم: حدثنا عيسى بن يونس عن هشام، عن صاحبٍ لأبي هريرة عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «ينزل عيسى، فيمكث في الأرض أربعين سنة».وحدثنا المعتمر عن أبيه عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: «يلبث عيسى في الأرض أربعين سنة، لو قال للبطحاء: سيلي عسلًا سالت عسلًا) كذا ذكره موقوفًا، وأبو داود الطيالسي رواه في «مسنده» مرفوعًا: حدثنا هشام عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عنه. وعن أرطاة: «يمكث عيسى بعد الدجال ثلاثين سنة، كل سنة منها يأتي مكة شرَّفها الله تعالى فيصلي فيها».وفي «البعث» للبيهقي عن ابن عمرو مرفوعًا: «يمكث عيسى فيهم أربعين، لا يُدرى أربعين يومًا أو شهرًا أو عامًا».وعند الطبراني، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ألَا مَن أدرك منكم عيسى فليقرأ عليه السلام» قال أبو هريرة: إني لأرجو أن أكون أول مَن أُقرِئَه السلام من أبي القاسم صلى الله عليهما وسلم، وآكل من جفنته. وعند القرطبي، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «ينزل عيسى على ثمان مئة رجل وأربع مئة امرأة كصلحاء مَن مضى، ويتزوج ويولد له، ويمكث خمسة وأربعين سنة، ويدفن معي في قبري».
(1/275)
وفي حديث عبد الله بن عَمرو دلالة أنه يمكث في الأرض سبع سنين، وأنه يولد له ولدان سمى أحدهما محمدًا والآخر موسى، وقيل: إنه يدفن بالأرض المقدسة، قال القرطبي: في أيامه لا إمام ولا قاض ولا مُفت، قد قبض الله العلم وخلى الناس منه، فينزل وقد علم بأمر الله في السماء ما يحتاج إليه من علم هذه الشريعة للحكم بين الناس والعمل به في نفسه، فيجتمع المؤمنون ويحكِّمونه على أنفسهم؛ إذ لا يصلح لذلك غيره، وقد ذهب قوم إلى أن بنزوله يرتفع التكليف؛ لئلا يكون رسولًا إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم، وهذا مردود؛ لأنه لا ينزل بشريعة متجددة غير شريعة نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إنما يكون من أتباعه؛ لقوله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «لو كان موسى - وفي لفظ: وعيسى حيَّين - ما وسعهما إلا اتباعي»، ولما أسلفناه من قول عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن نفسه. فإن قيل: ما الحكمة في نزوله دون سائر الأنبياء؟ فالجواب من أوجه، الأول: يحتمل أن يكون اليهود لما كانوا يدعون قتله أراهم الله كذبهم، وأنه هو الذي يقتلهم. الثاني: يحتمل أن يكون نزوله لدنو أجله لا لقتال الدجال؛ إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها، قال الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] انتهى، وفيه نظر؛ لما أسلفناه من أنه هو ليلة الإسراء أخبر نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن الله جل وعز أنه يُنزله إلى الأرض فيقتل الدجال وغيره.
(1/276)
الثالث: لما وجد في الإنجيل صفة أمة محمد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حسبما قال جل وعلا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيل} [الفتح: 29] دعا ربه جل وعلا أن يجعله من أمة محمد صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فاستجاب دعاءه ورفعه إلى السماء إلى أن ينزله آخر الزمان مجددًا لما درس من دين الإسلام، فوافق خروج الدجال, ولا يبعد على هذا أن يقال: إن قتله الدجال يكون من حيث إنه إذا حصل بين ظهراني الناس وقد عمَّهم فرض الجهاد وهو أحدهم لزمه من هذا الفرض ما يلزم غيره، فلذلك يقوم به؛ لأنه من اتباع نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. انتهى، وهذا يرد عليه ما أسلفناه من قبل، والذي يظهر أن نزوله لتكذيب من ادعى فيه ما ادعى ليشاهدوه ويشاهدوا تزويجه وموته،329 والرب جل وعز منزَّه عن هذه الأمور. وقوله: (حتَّى تَكُونَ الَّسْجَدُة الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) قال أبو الفرج: كأنه يشير إلى صلاح الناس وإقبالهم على الخير، فهم لذلك يؤثرون الركعة على الدنيا، ولذلك قرأ أبو هريرة ما قرأ. وقال القرطبي: معناه أن الصلاة تكون حينئذ أفضل من الصدقة؛ لعدم الانتفاع بالمال يوم ذاك، وأهل الحجاز يسمون الركعة سجدة. قال أبو الفرج: ولو تقدم عيسى وصلى به لوقع في النفوس إشكال ولقالت: أتُراه قدم نائبًا أو مبتدئًا شرعًا؟ فصلى مأمومًا؛ لئلا يتدنس بغبار الشهوة. وجه قوله: (لا نَبِيَّ بَعْدِي) والله تعالى أعلم. ومعنى -وضع الحرب-: أن تكون الأديان كلها واحدة، يدل عليه قوله: (وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ) لأنه لا دين إلا الإسلام فلا جزية حينئذ، وقيل: معنى فيضِ المال أن مصرف الجزية يكون إليه، فتوضع الجزية استغناء عنها، وهو معنى قوله: (يَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ). (بَابُ مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)
(1/277)
3450
- 3451 - 3452 - (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنا أَبُو
عَوَانَةَ، حَدَّثَنا عَبْدُ المَلِكِ عَنْ رِبْعِيٍّ، قَالَ عُقْبَةُ بْنُ
عَمْرٍو لِحُذَيْفَةَ: أَلاَ تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا
خَرَجَ مَاءً وَنَارًا، فَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا النَّارُ
فَمَاءٌ بَارِدٌ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ فَنَارٌ
تُحْرِقُ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَراه نَارًا،
فَإِنَّهُ عَذْبٌ بَارِدٌ). [خ 3450 - 3451 - 3452]
وذكر البخاري حديث: (وأتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِر).
وذكر بعده حديث: «أن رجلًا حَضَرَهُ الموت، فلما يَئِسَ من الْحَيَاةِ أَوْصَى
أَهْلَهُ: إِذا أَنا مِتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثيرًا وَأَوْقِدوا فيه
نارًا، حَتَّى إِذا أَكَلَتْ لَحْمِي وَامَتَحَشَتْ وَخَلَصَتْ إِلى عَظْمِي
فَاطْحَنُوهَا وَذَرُوهَا فِي يَوْمٍ رَاحٍ في اليَمِّ، فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ
اللهُ تَعالَى وَقَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ، فَغَفَرَ
اللهُ لَهُ»، (قال عقبة: وأنا سمعته يقول ذلك، وكان نبّاشًا) هذه الأحاديث لا مدخل
لها في الرحمة فتنظر، وظاهر هذا يقتضي أن عقبة سمع هذا الحديث من رسول الله صَلَّى
اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فقط، يخدش في هذا ما رواه البخاري في كتاب الفتن عن حذيفة
مرفوعًا في الدجال: «إن معه ماءً ونارًا» الحديث [ح: 3479] ثم قال: قال أبو مسعود:
أنا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وكذا قال في حديث:
(وأتَجَاوَزُ عَنِ المُعْسِر).المتقدم في الاستقراض، فدل أن قول عقبة عائد إلى
الثلاثة الأحاديث، وخرَّج البخاري الحديث الآخر أيضًا من حديث أبي سعيد وأبي
هريرة.
(1/278)
وفي
رواية لعلِّي: «أُضِلُ اللهَ» ولما ذكر ابن حبان في «صحيحه» حديث ربعي عن حذيفة
وحده حديث المحرق، قال: «وكان نبّاشًا» فتبين أن هذه اللفظة روياها جميعًا أيضًا،
وقول البخاري فيه: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، أخبرنا عبد الملك. قال الجياني:
كذا روينا هذه المتابعة عن ابن السكن وأبي زيد وأبي أحمد، وعن بعض شيوخ أبي ذر،
وفي نسخة عن النسفي عن البخاري: حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، أخبرنا عبد الملك
جعل موسى بدل مسدد، وكذلك عن بعض شيوخ أبي ذر وهو الحموي وهو الصواب؛ لأنه ساق
الحديث أوَّلًا بكماله عن مسدد ثم ساق الخلاف في لفظه من المتن عن موسى بن
إسماعيل؛ ولذلك قال أبو ذر الصواب: موسى
هذا الرجل لم يكن منكرًا للبعث، بل هو جاهل ظنَّ أن هذا ينفعه، يدل عليه قولُه
آخرَ الحديث: (مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَب»، وذكر ابن قتيبة في كتابه «مختلف الحديث»
أن بعضهم قال: إن هذا الحديث يبطله القرآن؛ لأن هذا الرجل كافر، والله جل وعز لا
يغفر للكافر، قال: ونحن نقول: إن قوله: «أُضل الله» بمعنى أفوت الله، قال تعالى:
{فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52] أي: لا يفوت ربي، وهذا
رجل مؤمن بالله، مقرٌّ به، خائف منه، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فغفر الله له
بمعرفته ومخافته من عذابه، وقد يغلط في بعض الصفات قومٌ من المسلمين ولا يحكم
عليهم بالنار. انتهى
جاء في بعض الروايات: أنَّ قَدَرَ الله عَليَّ بمعنى ضيَّق عليَّ، قال تعالى:
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: ضُيِّق، وهذا يوضح ما تقدم.
وقوله: (فَاذْرُوهُ) قال ابن التين: هو بوصل الألف، يقال: ذرَّ الشيء سقط،
وذرَّيته طيَّرته وأذهبتُه، وأما اذْروه ارموه فهو بقطع الألف رباعي، يقال: أذريت
الرجل عن فرسه رميته، والأول أبينُ في معنى الحديث؛ لأن التطيّر والإذهاب أشد من
الإلقاء.
(1/279)
وقال
الخطابي: قيل: كان هذا الرجل في زمان الفترة. وقال أبو الفرج: جهلُه صفةً من صفات
الله كفرٌ إلَّا أنه كان يغتفر في ذلك الزمان إلى أن نزل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ
لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] أو يُحمل على أنه من شدة جزعه
وخوفه قال هذا كما قال ذاك الرجل: اللَّهمَّ أنت عبدي وأنا ربك، أو يكون قوله:
(قَدَرَ) بمعنى قدَّر مشددةً في سابق علمه أن يعذبني ليعذبني عذابًا لا يعذبه
أحدًا، أو يحمل على أنه مثبت الصانع لم تبلغه دعوة الأنبياء، فلا يؤاخذ بذلك.
فإن قيل: كيف جمعه قبل القيامة؟ فإن قيل: خاطب روحه فليس هو بجمع، وإن قلتم: جمع
أجزاءه فهو عين البعث, ثم لو بعثه لم يخاطبه؛ لأنه لا يكلمه في الدنيا، قال ابن
عقيل: الجواب: أنه إخبار عما سيجري له في القيامة.
وقوله: (امْتَحَشَتْ) أي: احترقت العظام. واليوم الراح: الكثير الريح، ويقال: الموضع
الذي تحرقه الرياح مروحة، قال ابن قتيبة: (اليَمُّ) البحر بالسريانية، وقال
الهروي: هو البحر الذي يقال له: أشاب، وفيه غرق فرعون.
وفي لفظ عند البخاري من حديث ابن عمر: «الدجال أعور العين اليمين» [ح: 7407] وقوله
آخر كتاب الفتن: فيه أبو هريرة وابن عباس [ح: 1731]، كأنه يريد بحديث أبي هريرة ما
ذكره أبو داود الطيالسي الحديث ابن عباس ما ذكره ابن أبي شيبة، وسندهما لا بأس به،
ولفظهما نذكره بعد.
وعند مسلم من حديث حذيفة: «لأنا أعلم ما مع الدجال منه، معه نهران يجريان، أحدُهما
رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجَّج، وإنه ممسوح العين، عليها ظفرة
غليظة، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب».
وفي لفظ: «أعور العين اليسرى، جُفَال الشعر».
وعند ابن أبي شيبة: «أما مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة ممسوح العين اليسرى، عريض
النحر فيه اندفاء».
وفي لفظ: «أعور جَعْد هِجان أنمر، كأن رأسَه غضة شجرة».
(1/280)
وعند
أبي داود الطيالسي عن أبي بن كعب: «إحدى عينيه كأنها زجاجة خضراء».
وفي «كتاب نعيم بن حماد» عن شريح بن عبيد: «الدجال مطموسة عينه ليست بناتئة ولا
حجراء».
وعن رجل له صحبة قال: «إن رأسه من ورائه حبكًا حبكًا».
وعن عبادة يرفعه: «هو رجل قصيرُ أفحَجُ جعد أعور»، وعن أنس: «أعور العين الشمال».
وعن ابن عمر: «أحدى عينيه مطموسة، والأخرى ممزوجة بالدم كأنها الزهرة».
وقال عبد الله بن عمرو: «هو أزبُّ الذراعين, قصير البنان, ممسوح القفا».
وقال جبير بن نفير وشريح بن عبيد والمقدام وعمرو بن الأسود وكثير بن مرة: «الدجال
ليس هو بإنسان، إنما هو شيطان في بعض جزائر البحر موثق بسبعين حلقة، لا يعلم من
أوثقه سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أم غيره، فإذا كان أول ظهوره فك الله جل
وعز عنه في كل عام حلقة، فإذا برز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعًا
بذراع الجبار وذلك فرسخ للراكب المحثِّ، فيضع على ظهرها منبرًا من نحاس ويقعد
عليه، فيبايعه قبائل الجن ويخرجون له كنوز الأرض».
وفي «كتاب العجائب» لابن وصيف: يقال: إن الدجال من ولد شق الكاهن، ويقال: بل هذا
الدجال بعينه، أنظرَه الله جل وعز وهو محبوس في بعض الجزائر، ويقال: كانت أم شق
جنية، عَشِقت أباه فأولدها الدجال، وكان مشوهًا مبذولًا، واسمه حَوْصُ، وكان إبليس
يعمل له العجائب، فلما كان سليمان صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ دعاه فلم يجبه،
فحبسه في جزيرة في البحر، وأنه ملك ديار ونار بلد الجن، وكان مجلسه في قبة بوادي
بَرْهُوت، وكانوا يحجون إليه، وقيل: إنه لم يتزوج، وكانوا يرون فوق قبته نارًا
مضيئة.
(1/281)
وقال
كعب فيما ذكر نعيم: الدجال بشر ولدته امرأة بقُوص من أرض مصر، يكون بين مولده
ومخرجه ثلاثون سنة، ولم ينزل شأنه في التوراة ولا في الإنجيل، ولكن ذكر في كتب
الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، فيوجّه نحو الشرق فينزل عند باب دمشق الشرقي،
ثم يُلتمس فلا يُقدر عليه، ثم يُرى عند المنارة التي عند نهر الكسوة، ثم يُطلب فلا
يُدرى أين سلك فيُنسى ذكرُه، ثم يأتي المشرق فيظهر ويعدل، ثم يعطى الخلافة
فيستخلف، وذلك عند خروج المسيح صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ويبرئ الأكمه
والأبرص، ثم يظهر السحر ويدعي النبوة، فيتفرق الناس عنه وتفارقه أهل الشام، فيأتي
الأمم يستمدهم على أهل الشام، وينزل نهر أبي فطرس، فيأمره أن يسيل إليه فيسيل، ثم
يأمره أن يرجع فيرجع إلى مكانه، ثم يأمره بأن ييبس فييبس، ويأمر جبل ثور وجبل زيتا
أن ينبطحا فينبطحا، ويأمر الريح أن تثير سحابًا من البحر فتمطر الأرض وتنبت، ويأمر
إبليس جنوده بأن يظهروا له الكنوز، ومعه قبيل من الجن يشبهون أنفسهم بموتى الناس،
ويخوض البحر في اليوم ثلاث خوضات فلا يبلغ حقويه، ويأتيه ملكان فيقول: أنا الرب،
فيقول له أحدهما: كذبتَ، ويقول الآخر لصاحبه: صدقتَ.
وصفةُ اللعينِ: أفحجُ، أصهبُ، مختلف الخَلق، مطموس العين اليمنى، إحدى يديه أطول
من الأخرى، يغمس الطويلة منهما في البحر فتبلغ قعرَه فيخرج الحيتان ما شاء، يسير
أقصى الأرض وأدناها في يوم، بين خطويه مدُّ بصره، تسخر له الجبال والأنهار
والسحاب، يقود الجبل بيده ويقول: تنحَّ عن الطريق فيتنحَّى، ويدرك زرعُه في يومه،
معه جنة خضراء ونار حمراء وجبل من خبز، يظهر عند عالية مرة وعند باب دمشق مرة،
وعند نهر أبي فُطرس مرة.
(1/282)
ومن
حديث ابن لهيعة عن عبد الله بن حسين، عن محمد بن ثابت عن أبيه، عن الحارث عن عبد
الله مرفوعًا: «بين أذني حماره أربعون ذراعًا، وخطوة حماره مسيرة ثلاثة أيام، يخوض
البحر على حماره كما يخوض أحدكم الساقية، يقول: أنا رب العالمين، وهذه الشمس تجري
بإذني، أفتريدون أن أحبسها لكم؟ فيحبسها حتى يجعل اليوم كالشهر والجمعة، ثم يقول:
أتريدون أن أسيرها لكم؟ فيجعل اليوم كالساعة، وتأتيه المرأة فتقول: يا ربَّها أحيي
لي أبي وأخي وزوجي، حتى إنها لتعانق السلطان وينكحها، وبيوتهم مملوءة شياطين، ومعه
جبل من مرق وعراق اللحم حارٌّ لا يبرد، واليسع صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ينذر
الناس ويقول: هذا المسيح الكذاب لعنه الله فاحذروه، ويعطيه الله جل وعلا من السرعة
والخفة ما لا يلحقه الدجال، فإذا قال: أنا رب العالمين قال له الناس: كذبت، ويقول
اليسع: صدق الناس، ويرسل الله ميكال إلى مكة وجبريل إلى المدينة صلى الله عليهما
وسلم يمنعانه منهما، فإذا رآهما ولى هاربًا، فيصيح صيحة فيخرج إليه من المدينة كل
منافق ومنافقة». قال عبد الله بن مسعود: «أذن حماره تُظِلُّ تسعين ألفًا»، وفي
لفظ: «أذن الدجال نفسِه تُظلُّ تسعين ألفًا».
وفي «تاريخ حران» لأبي الثناء حماد عن كعب قال: في الكتب المنزلة أن حران لا يقدر
عليها الدجال، إنما يشرف عليها من جبل حسمى، ويرسل عسكره إليها، فترتفع في الهواء
قبل مصيرهم إليها.
وعند الطبري من حديث عبد الله بن عمرو: «أن الدجال لا يدخل بيت المقدس»، وعند
الطحاوي: «ومسجد الطور» فإن الملائكة تطرده عن هذه المواضع.
وعن أبي عبيدة بن الجراح عند الترمذي مرفوعًا: «لعل الدجال يدركه بعض من رآني أو
سمع كلامي. قالوا: يا رسول الله، كيف قلوبنا يومئذ؟ قال: مثلها - يعني اليوم - أو
خيرٌ» وقال: حديث حسن غريب.
(1/283)
وعن
أبي بكر الصديق قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ «أن الدجال يخرج
من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان، يتبعه قوم كأنَّ وجوههم المجانُّ المُطْرَقَة»
وقال: حسن غريب.
وفي «المعجم الكبير» للطبراني من حديث تميم الداري، قال رسول الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: «يخرج الدجال من أصبهان من قرية يقال لها: رُسْتَقَابَاد»، وذكره
أيضًا في «الأوسط» من حديث أبي الأشهب عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، وقال: لم يروه
عن أبي الأشهب إلا سيف بن مسكين، تفرد به أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم شيخنا،
وعند ابن ماجه: «يخرج من قرية يقال لها: اليهودية، وهو عظيم الخِلقة، طويل القامة،
جسيم، عينه اليمنى كأنها لم تُخلَق، والأخرى ممزوجة بالدم»، وعند أبي عمر من حديث
سَمُرة بن جُنْدَب مرفوعًا: «الدَّجال أعور عين الشمال، وإنه يبرئ الأكمه والأبرص
ويحي الموتى».
وفي «كتاب نعيم بن حماد» عن أبي أمامة يرفعه: «يخرج الدجال من خلة بين الشام
والعراق» وقال أبو هريرة: «يخرج من قرية بالعراق»، وقال أبو بكر الصديق: «يخرج من
مرو بين يهود يتما». وقال يحيى بن سعيد العطار عن سلمى بن عيسى: «بلغني أنه يخرج
من جزيرة أصبهان في البحر يقال لها: مَا طُولَه». وقال عبد الله بن عمرو: «يخرج من
كوثا». وذكره التاريخي بسند لا بأس به عن ابن مسعدو أيضًا.
وقال أبو سعيد الخدري: مع الدجال امرأة تسمى طيبة، لا يؤم قرية إلا سبقته إليها
تقول: «هذا الدجال داخل عليكم فاحذروه». انتهى
الاختلاف في موضع خروجه يُحمل على ما قدمناه أنه يخرج مرة بعد مرة، والله أعلم.
وأما مَرْو و رَستَفابَاد وأصبَهان وشبهها فشيء واحد؛ لأنهم تارة عبَّروا عن
الإقليم، وتارة عن البلد، وتارة عن المكان.
(1/284)
وعند
أبي القاسم البغوي من حديثه عن محمد بن عبد الوهاب، عن حَشْرَج بن نباتة، عن سعيد
بن جمهان، عن سفينة يرفعه: «الدجال أعور العين اليسرى، وبعينه اليمنى ظفرة غليظة،
معه ملكان يشبهان نبيين، لو شئت سمَّيتهما بأسمائهما وأسماء آبائهما». انتهى، فقد
ذكرنا اسميهما من قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وتحرَّص ابن مرجان في
كتاب «الإرشاد» فقال: الذي على ظني أن أحدهما المسيح والآخر نبينا صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ. وقد تقدم في كتاب الجنائز قول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ:
«إن أمه تلدُه وهي منبوذة في قبرها».
ومن «صحيح ابن حبان» من حديث سمرة: «كأن عينه عين أبي يحيى -شيخٍ من الأنصار، بينه
وبين حجرة عائشة خشبة- وأنه متى يخرج يزعم أنه الله من آمن به وصدقه فليس ينفعه
عمل صالح من عمل سلف، وأنه سيظهر على الأرض كلها، كذا على الحرم وبيت المقدس، وأنه
يسوق الناس إلى بيت المقدس فيحاصرون حصارًا شديدًا».
وفي «المشكل» للطحاوي: لما قال عمر: يا رسول الله دعني أقتله - يعني ابن صائد-:
«إن يكون إياه فلست بصاحبه إنما صاحبه عيسى، وإن لا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا
من أهل العهد» انتهى، هنا يندفع تخرص من تخرص إنما ترك قتله لعله كان من أهل
العهد.
(1/285)
وعند
البخاري عن أبي سعيد: «يأتي الدجال وهو محرَّم عليه أن يدخل أنقاب المدينة، فيخرج
إليه يومئذ رجل هو خير الناس -أو من خيرهم- فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا
رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا
ثم أحييته، هل تشكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، يقول: والله ما
كنت فيك أشد بصيرة من اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يُسلَّط عليه»، زاد مسلم:
«فيأمر به فيُشبح ويوسع ظهره ضربًا وهو يقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به فيؤشر
بالمناشير من مفرقه حتى يفرق من بين رجليه، فيمشي بين القطعتين ثم يقول: قم،
فيستوي قائمًا، فيقول: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، ثم يقول: يا أيها
الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، قال: فيأخذه ليذبحه فيُجعل ما بين رقبته
إلى ترقوته نُحَاسٌ، فلا يستطيع إليه سبيلًا، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به في
النار، وإنما أُلقي في الجنة، قال صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: هذا أعظم الناس
شهادة عند رب العالمين»، قال أبو إسحاق السبيعي: يقال: إن هذا الرجل هو الخضر
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وعلى هذا يرد قول أبي الحسن بن القطان في كتاب
«الوَهَم والإيهام» حيث قال: إن «حَدَّثنا» ليست صريحة في الاتصال، قال: لأن هذا
الرجل قال للدجال: «أنت الذي حدثنا عنك النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ» وهذا
لم ير النبي ولا سمع منه بحال، فعلى قول أبي إسحاق هذا تكون متصلة على بابها،
والله الموفق.
قال المهَلَّب: فإن قيل: ما معنى قوله: «لا يدخل المدينة رعب الدجال» [ح: 1879]،
وقوله: (ترجف المدينة ثلاث رجفات)؟ [ح: 7124] فيجاب: أن رجفات المدينة ليست من
رُعْبه ولا خوفه، وإنما ترجف لمن يتشوف إليه من المنافقين فيُخرجهم أهلُ المدينة.
(1/286)
قال:
فإن قيل: فإذا سُلط الدجال على قتل الرجل وإحيائه فيه دلالة أن الله تعالى يعطي
الآيات وقَلْبَ الأعيان لأكذب الخلق وأعظمهم فِرْية، قيل له: ليس كذلك، إنما هذا
من نوع الفتنة لمن عاينه والاختبار لمن أبصره؛ إذ هو مشوَّه الخلق لا يقدر على
إصلاح نفسه فكيف غيره، ولهذا إن ذلك لم يستمر له في حكمه قبل غيره وحياته.
وعن النواس بن سمعان: «لَبْثُه في الأرض أربعون يومًا، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم
كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله ذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه
صلاة يوم؟ قال: اقدروا له قدره».
وإسراعه في الأرض كالغيث استدبرته الريح. وفي كتاب «البعث والنشور» عن ابن عباس
يرفعه: «الدجال هجان أزهر كأنه رأسه أصلة» يعني الأفعى.
وعن مجاهد قال: الدجال كنيته أبو يوسف، مذهب أهل السنة والجماعة الإيمان بالدجال،
وأن خروجه حق خلافًا لمن أنكر أمره من الخوارج وبعض المعتزلة ووافق السنِّيين على
إثباته بعضُ الجهمية وغيرهم، لكن زعموا أن ما عنده مَخَاريق وحِيَل، قالوا: لأنها
لو كانت أمورًا صحيحة لكان ذلك إلباسًا للكاذب بالصادق، وحينئذ لا يكون فرق بين
النبي والمتنبِّئ. قال القرطبي: وهذا هذيان لا يلتفت إليه؛ فإن هذا إنما كان يلزم
أن لو كان الدجال يدعي النبوة، وليس كذلك، فإنه إنما يدعي الإلهية، انتهى كلامه.
وفيه نظر في موضعين، الأول: قد أسلفنا قول ابن صَيَّاد: «أتشهد أني رسول الله؟»
وقدمنا في هذا الباب أيضًا أنه ادعى النبوة [ح: 3055]. الثاني: خرج البخاري عن
المغيرة «قلت: يا رسول الله، يقولون: إن معه جبل خبز ونهر ماء! قال: هو أهون على
الله من ذلك» [ح: 7122]، وفي بعض الأحاديث: «فيُخيَّل إليهم».
(1/287)
وقد
ذكرنا من عند مسلم: أن النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قال: «لأنا أعلم بما مع
الدجال منه» لأن الدجال نفسه لا يعلم حقيقة ما معه من الجنة والنار ولا من
النهرين؛ لأنه يظنهما كما يراهما غيره، فيظن جنته جنةً وماؤه ماءً وناره نارًا على
الحقيقة، والأمرُ بخلاف ذلك، فيكون قد لبس عليه فيها، والنبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ
علَّم حقيقتَه كل واحد، وقد قدمنا أنه كان ساحرًا، وعلى قول من يقول: السحر تخييل
من غير حقيقة، وإن كنا لا نقول به، لكنه يعضد قول من قال: هي مخاريق، إما من سحره
كما قال تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116]، أو أنه لبس عليه كما
قدمناه، وهو المرجح عند البيهقي.
وقول النبي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لعمر: «إن يكن هو فلن تُسلَّط عليه، وإن
لم يكن هو فلا خير لك في قتله» يدل على أن التي يشك منه وعنه جوابان، الأول: يمكن
أن يكون هذا قبل إعلامه أنه هو الناهي، وإن خرج الكلام مخرج الشك، فقد يجوز أن يراد
به التفنن والقطع؛ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْت} [الزمر: 65] وهو يعلم أنه لا
يشرك، ولقول ذي الرُّمَّة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين الندا آأنت أَمْ أمُّ سالم؟
(1/288)
وأخرج
كلامه مخرج الشك مع كونه غير شاكٍّ في أنها ليست بأم سالم، وكذا خرج كلام النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ مخرج التشكيك لصرف عمر عن قتله، وذكر عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: لقيت ابن صيَّاد فإذا عينه قد طفئت وهي خارجة
مثل عين الجمل، فقلت: أنشدك بالله متى طفئت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن، فقلت:
كذبت لا تدري وهي في رأسك؟! قال: فمسحها ونخر ثلاثًا. قال المهلب: فإن قيل: إن هذا
كله يدل على الشك في أمره. قيل: إن وقع يقتله ابن مريم، فلم يقع؛ فلذلك لم يقع
الشك في أمره وأنه الدجال الذي يقتله ابن مريم، فلم يقع شك أنه أحد الدجالين الذين
أنذر بهم صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلذلك لم ينكر النبي صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ على عمر يمينه أن ابن صيَّاد الدجال.
قال القرطبي: تأول بعض الناس قوله: «مكتوب بين عينيه كافر» فقال: معناه ما ثبت من
سمته وشواهد عجزه وظهور نقصه،
قال: فلو كان على ظاهره حقيقة لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر، قال: وهذا عدول
وتحريف عن حقيقة الحديث من غير موجب لذلك، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن
والكافر من إدراكه؛ لأن نفس الحديث بيَّنه، وهو قوله: «كل مؤمن» فكأنه قال: وأما
الكافر فلا يقرؤه ويُصرف عن قراءة سطور كفره ورمزه، وذلك أنه انصرف عن إدراك عوره
وشواهد عجزه من كونه جسيمًا وراكبًا على حمار، فلأن ينصرف عن قراءة ما بين عينيه
بطريق الأولى.
والفرق بين النبي والمتنبِّئ: أن المعجزة لا تظهر على يد المتنبِّئ بخلاف النبي؛
إذ لو كان كذلك للزم منه انقلاب دليل الصدق مع دليل الكذب وهو محال.
(1/289)
وقد
أشكل على جماعة من العلماء ما جاء: أنه أعور العين اليمنى، والآخر: اليسرى، حتى إن
أبا عمر قال: حديث مالك «أعور اليمين» [ح: 5902] أصح من رواية من روى الشمال من
جهة الإسناد، وأما ابن دحْية فقال: ليس كما قال أبو عمر، بل الطرق كلها صحيحة في
العينين. وقال عياض: الجمع بينهما عندي أن كل واحدة من عينيه عوراء من وجهٍ ما؛ إذ
العور في كل شيء العيب، والكلمة العوراء هي المعيبة، فالواحدة عوراء بالحقيقة، وهي
التي وصفت في الحديث بأنها ليست بحجراء ولا ناتئة، وممسوحة ومطموسة وطافئة على
رواية الهمز، والأخرى عوراء لعيبها اللازم لها لكونها جاحظة، أو كأنها كوكب دريٌّ،
أو كأنا عنبة طافية بغير همز، فكل واحدة منهما يصح فيها الوصف بالعور بحقيقة العرف
والاستعمال بمعنى، أو بمعنى العور الأصلي.
قال القرطبي: حاصل هذا الكلام أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء، إحداهما بما
أصابها حتى ذهب إدراكُها، والثانية عوراء بأصل خلقته معيبة، ولكن يبعد هذا التأويل
أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الرواية بمثل ما وصفت به الأخرى من العور،
فتأمله!
(1/290)
قال
أبو عبد الله القرطبي: ما قاله القاضي وتأوَّله صحيح، وأن العور في العين مختلف
كما بين في الروايات؛ فإن قوله: «كأنها لم تُخلق» هو بمعنى الرواية الأخرى: «مطموس
ممسوح العين ليست بناتئة ولا حجراء» ووصف الأخرى بالمزج بالدم، وذلك عيب لا سيما
مع وصفها بالظفرة الغليظة التي عليها، وهي جلدة غليظة تغشى البصر، وعلى هذا فقد
يكون العور في العينين سواء؛ لأن الظفرة مع غلظها تمنع من الإدراك فلا تبصر شيئًا،
فيكون الدجال على هذا أعمى أو قريبًا منه إلا أنه جاء ذكر الظفرة في اليمنى في
حديث سفينة في الشمال في حديث سمرة، وهو محتمل أن تكون كل عين عليها ظفرة، وفي
حديث حذيفة: «ممسوح العين عليها ظفرة» وإذا كانت الممسوحة المطموسة عليها ظفرة فالتي
ليست كذلك أولى فتتفق الأحاديث، والطفرة قيل فيها: إنها لحمة تنبت عند المآقي
كالعلقة، قال ابن دحية: قيدت في بعض الروايات بضم الظاء وسكون الفاء وليس بشيء.
انتهى
لقائل أن يقول: لعله أراد باليمين واليسار النسبة إلى الرأي لا إلى الدجال، فلئن
صح هذا الاحتمال فلا يبقى من الأحاديث خلف.
قال القرطبي: فتنة الدجال من نحو فتنة أهل المحشر، بالصورة الهائلة التي تأتيهم
فيقول: أنا ربكم، فيقول المؤمنون: نعوذ بالله منك. ومقتضى روايتي حذيفة: أن معه
نهرين وجنتين، وأنهما مختلفان في اللفظ والمعنى؛ لأن النهر لا يقال عليه: جنة، ولا
الجنة يقال عليها: نهر، هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يقال في ذينك: جنة ونار، فحسن أن
يعبَّر بأحدهما عن الآخر.
وذكر علي بن معبد عن عبد الله بن عمرو، عن زيد بن أنيسة، عن أشعث بن أبي الشعثاء
عن أبيه عن ابن مسعود، قال: «إذا خرج الدجال فالناس ثلاث فِرَق: فرقة تقاتله،
وفرقة تفرُّ منه، وفرقة تشايعه، فمن تحرَّز منه في رأس جبل أربعين ليلة أتاه رزقه
وأكثر من يشايعه أصحاب العيال، يقولون: إنا لنعرف ضلالته، ولكن لا نستطيع أن نترك
عيالنا، فمن فعل ذلك كان منه».
(1/291)
وعند
الطبري عن أبي أمامة مرفوعًا: «إنه يخرج فيقول: إنه بقي ثَمَّ شيء، فيقول: أنا
ربكم، فمن ابتلي به فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف وليتفل في وجهه، فإنه لا يعدو
ذلك».
ومن حديث شهر عن أسماء: «قلت: يا رسول الله، ما يكفي المرء من الطعام عند خروجه؟
قال: يكفيه ما يكفي أهل السماء، التسبيحُ والتقديس».
وأما العلامات قبل خروجه: فذكر نعيم بسند جيد عن أبي أمامة يرفعه: «بين الملحمة
وفتح القسطنطينية ست سنين، ويخرج الدجال في السنة السابعة».
وعن أبي هريرة بسند صحيح: «يكون قبل خروج الدجال سنوات خدعة، يكذَّب فيها الصادق
ويصدَّق فيها الكاذب، ويؤمَّن فيها الخائن ويخوَّن فيها الأمين، ويتكلم فيها
الرُّوَيْبِضة الوضيعُ بين الناس».
وعن معاذ بسند جيد: «الملحمة العظمى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال في سبعة أشهر».
وعن عمير بن هانئ، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «إذا صار الناس إلى
فُسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا هما اجتمعا
فانتظر الدجال اليوم أو غدًا».
وقال حذيفة بن اليمان: «تكون غزوة في البحر، من غزاها استغنى، ثم يستصعب البحر بعد
الغزو ست سنين، ثم يعود البحر بعد ست سنين كما كان، ثم يستصعب ستًا، فذلك ثمان
عشرة سنة، ثم يخرج الدجال».
وعن تُبَيعٍ: «بينَ يَدِي الدَّجال ثلاثُ علاماتٍ: ثلاثُ سنين جوع، وتغيض الأنهار،
ويصفرُّ الريحان، وتنزف العيون، وتنتقل مَذحج وهمدان من العراق حتى ينزلوا
قِنَسرين وحَلَب، فعدُّوا الدجالَ غاديًا في دياركُم أو رائحًا».
وعن كعب قال: «يخرجُ الدَّجال في سنة ثمانين».
(1/292)
وعن
أرطاة قال: «تفتح القسطنطينية، ثم يأتيهم الخبر بخروج الدجال فيكون باطلًا، ثم
يقيمون ثلاث سبع سابوع، فتُمسك السماء في تلك السنة ثُلثَ مَطرها، وفي الثانية
ثلثَيها، وفي الثالثة تمسك قطرها أجمع، فلا يبقى ذو ظفر ولا نابٍ إلا هلك، ويقع
الموت حتى لا يبقى من كل سبعين عشرة، ويهرب الناس إلى جبال الجوف إلى أنطاكية،
وتهبُّ ريح شرقية لا باردة ولا حارة، تهدم صنم إسكندرية وتقلع زيتون المغرب والشام
من أصولها، وتيبس الفرات والعيون والأنهار، وتُنسى مواقيت الأيام والشهور
والأَهِلَّة». وعن أبي الدرداء نحوه.
«وإمساكُ القطر في كل سنة الثلث» روي مرفوعًا من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية.
وعن إبراهيم بن أبي جبلة: كان يقال: بين يدي الدجال يولد مولود ببيسان من سبط لاوي
بن يعقوب، في جسده تمثال السلاح: السيف والترس والنيزك والسكين.
(1/293)
قال
ابن دحية في كتابه «مرج البحرين»: والدجال لعنه الله تعالى ينطلق في اللغة على
وجوه عشرة، أحدها: الدجالُ الكذاب، وجمعه دجالون ودجاجلة في التكسير. الثاني:
مأخوذ من الدجل، وهو طلي البعير بالقطران، سُمي بذلك لأنه يغطي الحق بكذبه وسحره
كما يغطى الرجل جرب بعيره بالدُّجالة وهي القطران يهنأ به البعير، واسمه إذا فعل
به ذلك الدجل، قاله الأصمعي. الثالث: سمي بذلك لتضربه نواحي الأرض وقطعها، يقال:
دجل الرجل إذا فعل ذلك. الرابع: الدجل التغطية، قال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد
دجَّلته، ومنه سميت دجلة لانتشارها على الأرض وتغطية ما فاضت عليه. انتهى، هذا
والثاني واحد. الخامس: سمي بذلك لقطعه الأرض؛ إذ يطأ جميعها إلا المستثنى،
والدجالة: الرفقة العظيمة، انتهى هذا والثالث واحد. السادس: سُمي بذلك؛ لأنه يعر
الناس بشرِّه كما يقال: لطخني فلان بشره. انتهى، هذا هو معنى الثاني. السابع:
الدجال الممخرق. الثامن: الدجال المموه، قاله ثعلب، يقال: سيف مموَّه إذا كان قد
طلي بالذهب، انتهى، هذا هو الذي قبله. التاسع: الدجال ماء الذهب يطلى به الشيء
فيحسن، وباطنه حزن أو عود، سمي الدجال بذلك لأنه يحسن الباطل، انتهى، هذا هو الذي
قبله. العاشر: الدجال فريد السيف، يريد جوهره.
3453 - حديث ابن عباس وعائشة تقدم في الصلاة [ح: 436]. [خ 3453]
(1/294)
3455 - وحديث أبي هريرة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: (كَانَتْبَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ). [خ 3455] السياسة: القيام على الشيء والتعاهد له بما يصلحه، وفيه جواز قول: (هَلَكَ) تبعًا لما في الكتاب العزيز، وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا ظهر فيهم فساد وشبهه بعث الله لهم نبيًا يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيروه وبدلوه من أحكام التوراة، فلم يزل أمرهم كذلك إلى أن قتلوا يحيى وزكريا صلى الله عليهما وسلم، فقطع الله ملكهم وبدد شملهم إلى زمن عيسى ونبينا صلى الله عليهما وسلم فكذبوهما، {فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين} [البقرة: 90] وهو في الدنيا ضرب الجزية ولزوم الصغار والذلة، {ولعذاب الآخرة أشق} [الرعد: 34] ولما كان نبينا آخر الأنبياء بعثًا وكتابُه لا يقبل التغيير لأن الله تولى كلامه، جعل علماء أمته قائمين ببيان مشكله وحفظ أحكامه وحدوده كما روي: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» فاكتفى بعلمائها عما كان من توالي الأنبياء عندهم. وقوله: (لَا نَبِيَّ بَعْدِي) هو عام في الأنبياء والرسل؛ لأن الرسول في الآدميين لا بد من أن يكون نبيًا، وقد جاء مبينًا عند الترمذي: «لا نبي بعدي ولا رسول».وقوله: (سَيَكُونُ خُلَفَاءُ) قال ابن خالويه في «كتاب ليس»: الخليفة من استخلفته، فإن لم تستخلفه وجلس في مكانك بعدك فهو خالفة، فمن هذا يقال لأبي بكر: خالفة رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال: لستُ خليفته، إنما أنا خالفتُه.
(1/295)
وقد رددنا هذا عليه في كتابنا المسمى بـ «الميس إلى كتاب ليس» بأن الصحابة كلهم لا يعلم بينهم خلاف، إنما كانوا يسمونه خليفة رسول الله. وقوله: (فَيَكْثُرُونَ) -بثاء مثلثة- هو المعروف، قال عياض: وضبطه بعضهم بباء موحدة، كأنه من إكبار قبيح فعلهم، وهو تصحيف، وفيه معجزة ظاهرة بإخباره صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ عن المغيب؛ لأنا رأينا الزبير بويع بالخلافة، وبويع عبد الملك بالشام، وبويع لشبيب وقطري الشامي في زمن واحد، وبعدهم بنو العباس بالعراق، وبنو مروان بالأندلس، وبنو عبيد بمصر، وبنو عبد المؤمن بالمغرب. وقوله: (فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ) معناه: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين، وسواء كانا في بلدين أو بلد أو أحدهما في بلد الإمام المنفصل والآخر في غيره، وقال النووي: هذا هو الصواب، وقيل: تكون لمن عقدت له في بلد الإمام، وقيل: يقرع بينهما، وهذان القولان فاسدان. قال القرطبي: لم يبين في هذه الرواية حكمُ الثاني، وهو مبين في رواية أخرى: «فاضربوا عنقه» وفي أخرى: «فاضربوه بالسيف كائنًا مَن كان» قال: وهذا الحكم مجمع عليه عند تقارب الأقطار. وقوله: (فُوا) مِن وفى يفي، ويقال: من أوفى يوفي. وقوله: (أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ) يعني السمعَ والطاعةَ والنصيحةَ والذب عنهم نفسًا وعِرضًا وشبهها.3456 – (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟! قَالَ: فَمَنْ؟!).
(1/296)
[خ
3456] هذا من الأحاديث المنقطعة التي في «صحيح مسلم» وذلك أنه قال في كتاب العلم:
وحدثني عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم به، ووصله عنه راوي كتابه إبراهيم بن
سفيان فقال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا ابن أبي مريم به. ذكر الضب يأتي إن شاء
الله تعالى في الأطعمة [ح: 5391].
3457 - 3458 - حديث عائشة وأنس تقدما في الصلاة [ح: 606] [ح: 1219]. [خ 3457 -
3458]
3459 - 3460 - وكذا حديث ابن عمر وحديث عمر [ح: 2223 - 2224] [خ 3459 - 3460]
تقدم في البيوع، وكذا قوله آخره: تابعه جابر [ح: 2236] وأبو هريرة.
3461 - وقوله في حديث عبد الله بن عمرو: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً،
وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ
مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) لما ذكره الطرقي قال:
وفي الباب عن عليٍّ والزبير وسعيد بن زيد وأبي هريرة وأنس والمغيرة وسمرة وابن
مسعود وأبي سعيد، وكأنه والله أعلم يريد حديث: «مَن كذب» الذي تقدم ذكره [ح: 106 -
110] وأن جماعة من الصحابة رووه بلغ عددهم أكثر من سبعين رجلًا، وأما هذا الحديث فإنا
رأينا مسلمًا وحده ذكره في «صحيحه» عن أبي سعيد يرفعه: «لا تكتبوا عنِّي، ومَن كتب
عنِّي غير القرآن فليمحُه، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» فينظر، والله تعالى
أعلم. [خ 3461]
قيل: حدثوا عنهم بما جاء في القرآن العظيم أو الحديث الصحيح، قال ابن التين: وقال
مالك: لم أسمع هذا من ثبتٍ، فأما ما كان من كلام حسن فلا بأس به. وقال الأبهري: ما
عُلِم في الغالب أنه كذب لم يجز الحديث به، وهو معنى قوله: (وَلَا حَرَجَ) أي: لا
تتحدثوا ما يُحرج الإنسان. قال: وقيل: معناه: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم. وقيل:
يجوز أن يحدث عنهم على البلاغ ثبت أم لا؛ لبعد المسافة بيننا وبينهم، بخلاف الحديث
عن نبينا صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فلا يجوز أن يحدث به عن بلاغ، ولا يجوز
(1/297)
عن
ثقة لا يلزمنا العمل به، ومسافة ما بيننا متصلة، وذكر ابن الجوزي أن وجهه أنه كان
تقدم عنه ما يشبه النهي من قوله لعمر إذ جاء ومعه كلمات من التوراة: «أَمِطها عنك»
فخشي صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ أن يُتوهم النهي عن ذكرهم جملة، فأجاز الحديث
عنهم، أو يكون معناه: ولا يضيق صدر السامع من عجائب ما جرى لهم، فقد كانت فيهم
أعاجيب، أو أنه لما قال: (حَدِّثُوا) وهي لفظة أمر، بيَّن أنه ليس على الوجوب
بقوله: (وَلَا حَرَجَ) أي: ولا حرج إن لم تحدثوا، أو يكون لما كانت أفعالهم قد يقع
فيها ما يتحرز من ذكره المؤمن أباح التحدث بذلك كقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] و {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا} [الأعراف: 138] وموسى آدر، وشبهها،
أو يكون المراد ببني إسرائيل أولاد يعقوب صلوات الله عليهم وما فعلوا بيوسف.
حديث جندب تقدم في الجنائز [ح: 278].
(حديث أبرص وأقرع وأعمى).
3464 – (حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ،
حَدَّثَنا هَمَّامٌ، وحَدَّثَنا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ،
حَدَّثَنا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ
سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ ثَلاَثَةً فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ ... ) الحديث. [خ 3464]
قال الجيَّاني: محمد هذا لعله الذهلي، وأكد ذلك أبو نعيم فقال في «مستخرجه»: حدثنا
أبو أحمد، حدثنا موسى بن العباس، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا ابن رجاء، فذكره، ولما
ذكر البخاري هذا الحديث في الإيمان والنذور [ح: 6653] علَّقه فقال: وقال عمرو بن
عاصم: حدثنا همام به.
(1/298)
قوله:
(بَدَا للهِ جَلَّ وَعَزَّ أَن يَبتَلِيَهُم) أي: أظهر ذلك وأوقعه في الخارج،
وقيل: معناه: قضى الله أن يبتليهم، قال الخطابي: ومَن قال فيه: (َبَدا لِله) غلط؛
لأن البداء على الله غير جائز، وروي: «يَبليهم» -بسقوط التاء المثناة من فوق- يريد
الاختبار.
وقوله: (قَذِروني) -بكسر الذال المعجمة- أي: كرهوني. و (النَّاقَةَ العُشَرَاءَ)
هي التي أتى على حملها عشرة أشهر من يوم أُرسل عليها الفحل وزال عنها اسم المخاض،
وهي من أنفَس الإبل.
وقوله: (فَأُنْتِجَ هَذان) كذا وقع، وهي لغة قليلة، والفصيح عند أهل اللغة: نُتجت
الناقة -بضم النون- ونَتَجها أهلُها، والمعنى: افتقد ما تلد عند ولادته.
وقوله: (تَقَطَّعَتْ به الْحِبَالُ) يعني العهود والوسائل، فكأنه قال: انقطعت بي
الأسباب التي كنت أرجو التوصل بها، وفي بعض النسخ بالجيم، قال أبو زكريا: وروي:
«الحِيَل» جمع حيلة، وكله صحيح.
وقوله: (فَلاَ بَلاَغَ) أي: لا وصول إلا ما أريد.
وقوله: (كابرٍ عَن كابرٍ) أي: كبير عن كبير في الشرف والعز، حمله بخله على نسيان
نعمة الله عليه وعلى الكذب.
وقوله: (لا أَجْهَدُكَ) أي: لا أشق عليك بالرد والمنة، كذا هو في رواية الجمهور
بجيم وهاء، وعند ابن ماهان: <أحمدك> بحاء مهملة وميم، ووقع في «البخاري»
بالوجهين، والمشهور في «مسلم» بالجيم، وفي «البخاري» بالحاء، كأنه يقول: لا أحمدك
بترك شيء يحتاج إليه أو يريده، فتكون لفظة الترك محذوفة مرادة.
وفي هذا الحديث: ذكر الرجل بما فيه من العيوب وأنه ليس غيبة، وأن النعم إنما تثبت
بالشكر وردِّها إلى المنعم، وفيه أن الصدقة تطفئ غضب الرب جل وعلا، وفيه إكرام
الضعفاء والحث على ذلك، والتحرز من كسر قلوبهم واحتقارهم.
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} [الكهف: 9]
(1/299)
قال
البخاري: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {تَقْرِضُهُم} [الكهف: 17] تتركُهم) هذا التعليق
رواه ابن أبي حاتم عن حجاج بن حمزة، حدثنا شبانة، حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد. وذكر ابن مردويه في «تفسيره» من حديث حجاج بن أرطاة عن الحكم بن عتيبة عن
مقسم عن ابن عباس، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «أصحاب الكهفِ
أعوان المهدي».
ومن حديث سماك عن عكرمة عنه: «ما في القرآن شيء إلا أعلمُه إلا أربعة أحرف:
الرقيم، فإني لا أدري ما هو، وسألت كعبًا فقال: هو القرية التي خرجوا منها».
الحديث
وروى الضحاك عنه: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:
18] قال: ستة أشهر على ذا الجنب، وستة أشهر على ذا الجنب.
وقال مقاتل في «تفسيره»: اسم الكهف بانجلوس، والرقيم كتبه رجلان قاضيان صالحان
أحدهما مانوس والآخر اسطوس، كانا يكتمان إيمانهما من دقينوس الجبار، وهو الملك
الذي فرَّ منه الفتية، فكتبا أمرهما في لوح من رصاص وجعلاه في تابوت من نحاس، ثم
صيراه في البناء الذي سدوا به باب الكهف.
وقال ابن إسحاق في «المبتدأ»: كانت الروم تعبد الأصنام وتذبح للطواغيت قبل تنصرهم،
وكان منهم دقينوس، وكان يقتل من خالفه ممن تبع عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ،
فلما نزل أقسوس وهي مدينة أصحاب الكهف كبُر عليهم فهربوا منه، فتبعهم يخيرهم بين
دينه أو القتل، فلما رأى ذلك الفتية وكانوا أحرارًا أحداثًا عبادًا من أبناء
الأشراف عظُم عليهم وحزنوا حزنًا شديدًا، وكانوا ثمانية: مَكسلَمينا وهو أكبرهم، ومحسلمينا
وتمليخا ومرطُولَسْ وكسطوس وبيروس ودينموس وبرطليس، والصالحان اللذان كتبا
أسماءهما، اسم الواحد بيدروس والآخر اروباس، وذكر أن بيانوس واسطوس هما اللذان
أدركا حياتهما ودخلا عليهما مع أتباع عيسى صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.
(1/300)
وفي
تفسير ابن عباس: اسم الكلب: كثميل، ويقال: دين. وقال السُّهَيلي: قيل: الرقيم اسم
علم للوادي، وقيل: اسم علم على كلبهم، وقيل: كتاب مرقوم كتب فيه أسماؤهم.
وفي «غرر التبيان»: الكهف قرب مدينة طرسوس، وكانت قبل تسمى اقسوس، وقيل: بين أيلة
وفلسطين، وكان بابه إلى الشمال، واسم الكلب قطمير، وقيل: ريان، وقيل: صهبا، وقيل:
ثور، وكان أنمر، وقيل: أصفر. وفي «كتاب ليس»: اسمه قطمور، وقيل: حُمران.
(1/301)
3465 - وحديث الغار تقدم في البيوع [ح: 2215]. [خ 3465] وذكر ابن مردويه في «تفسيره»: حديثًا عن النعمان بن بشير بسند ضعيف، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يحدث عن أصحاب الرَّقيم: «أن ثلاثة نفرٍ دخلوا إلى كهف فوقع عليهم، فقال قائل منهم: تذكروا أيكم عمل حسنة» فذكر مثله.3466 - حديث أبي هريرة تقدم [ح: 3436]. [خ 3466] 3467 - وحديثه الآخر تقدم في بدء الخلق [ح: 3321]. [خ 3467] 3468 – (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاويَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ عَلَى المِنْبَرِ، فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ، وَكَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ، فَقَال: يَا أَهْلَ المَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ؟ وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ). [خ 3468] هذه القُصة -بضم القاف وتشديد الصاد المهملة المفتوحة- هي شعر مقدم الرأس على الجبهة، وقيل: شعر الناصية، وفي رواية: «كُبة من شعر».وقوله: (أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟) قال أبو زكريا: هو سؤال إنكار عليهم بإهمالهم هذا المنكر وغفلتهم عن تغييره. وقال القرطبي: أراد تذكيرهم، لا أن يعلمهم. قال: ويحتمل أن يكون ذلك منه لأن عوام أهل المدينة أحدثت الزور كما في الرواية الأخرى: «إنكم قد أحدثتم زي سوء».
(1/302)
وفي
رواية: «ما كنت أرى أن أحدًا يفعله إلا اليهود، وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ
وسَلَّمَ بلغه فسماه الزور»، فنادى أهل العلم ليوافقوه على ما رواه فينزجر من أحدث
ذلك من العوام، ثم النهي عن ذلك إشارة إلى وصل الشعر، وعن قتادة: الزور ما يكثر به
النساء أشعارهن من الخِرَق، والتزوير: التمويه بما ليس بصحيح، وهذا التفسير حجة
على إبطال قول من قصر التحريم على وصل الشعر. قال القرطبي: وهذا يدل على اعتبار
أقوال أهل المدينة عندهم، وأنها مرجع يعتمد عليه في الأحكام، وهو من حجج مالك على
أن إجماع أهل المدينة حجة. قال: وقوله: (إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُوا إِسْرَائِيلَ
حِينَ اتَّخَذَ نِسَاؤُهُمْ هَذِهِ) ظاهره أن ذلك كان محرمًا عليهم، وأن نساءهم
ارتكبوا ذلك المحرم فأقرَّهن على ذلك الرجال، فاستوجب الكل العقوبة بذلك لما
ارتكبوا من العظائم، وفيه معاقبة العامة بظهور المنكر، وفيه طهارة شعر الآدمي،
وفيه تناول الخطيب الشيء في الخطبة ليري الناس إذا كان من أمر الدين.3469 - وذكر
البخاري حديث أبي هريرة: (كَانَ فِيمَا مَضَى قَبلَكُم مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ،
وَإِنَّهُ إِن كَانَ في أُمَّتي هَذِهِ فِمِنهُم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ)، وفي لفظ
في فضائل عمر: «مِن بَني إِسرائيلَ رِجَالٌ مُكَلَّمُونَ مِن غَيرِ أَن يَكُونُوا
أَنبِياءَ» [ح: 3689] وكأن ذكره هنا ليس من المبدأ بذكره. [خ 3469]
وعند مسلم: حدثنا حَرْمَلَةُ عن ابن وهب، عن سعيد بن إبراهيم، عن أبي سلمة عن
عائشة مثله.
وقال الترمذي: أخبرني بعض أصحاب ابن عيينة، قال: (مُحَدَّثُونَ) يعني مفهَّمون.
وقال أبو مسعود: حديث ابن عجلان مشهور بقوله: عن عائشة، ولا أعلم أحدًا تابع ابن
وهب عن إبراهيم بن سعد في قوله: عن عائشة. وقال الحميدي: أما حديث ابن وهب عن
إبراهيم فعندي أنه خطأ، انتهى
(1/303)
ذكر
الدَّارَقُطْني: أن الحكم بن أسلم رواه عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن
عائشة، وأن يزيد بن هارون وإسحاق الأزرق روياه عن زكريا بن زائدة عن سعد بن أبي
سلمة مرسلًا.
وقال ابن وهب: ملهَمون. وقال ابن قتيبة: يصيبون إذا ظنوا وحَدَسوا. وقال ابن
التين: هي الفراسة. وقال القابسي: تكلمهم الملائكة، واحتج بقوله: «مكلَّمون». وقال
النووي: قال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم. وقال ابن العربي: قد بينا فساد قول
من ذهب إلى أن ذلك من صفاء القلب بما يتجلى فيه من اللوح المحفوظ، وأرى ذلك دعوى،
ولو كان بالتجلي عند المقابلة بين الصافي الصقيل واللوح المحفوظ لكان مطلعًا على
جميع المعارف مقابلة لحظة أو على جملة عظيمة لا مطلعًا على كلمة. انتهى
قد رأينا من يدعي ذلك، ورأينا من ينقله أيضًا عن أحمد الرفاعي وعبد القادر
وغيرهما، والله أعلم.
قال ابن العربي: وإنما طريق ذلك أن الله جل وعز يخلق في القلب الصافي أو بوساطة
إلقاء الملك إليه الكلمة كما يلقي الشيطان إلى قلب الكاهن، وقد ينتهي الحال إلى أن
يسمع الصوت. وقال بعضهم: يرى الملك، ولم أعرف ذلك الآن، وقول عمر: يا سارية الجبل،
منزلة عظيمة وكرامة ظاهرة، وهي في جميع الصالحين مطردة إلى يوم الدين. انتهى
حديث سارية ضعفه جماعة من الأئمة، ولم نر له سندًا جيدًا، وأصلحه ما رويناه في
«سنن اللالكائي» من طريق أبي عبد الرحمن السلمي، ولولا شدة الكلام في ابن عبد
الرحمن لقلنا بصحة سنده.
(1/304)
قال ابن العربي: وقوله: «إن يكن في أمتي أحد منهم فعمر» دليل على قلة وقوع هذا وندرته، على أنه ليس المراد بالمحدَّثين من يصيب فيما يظن؛ لأن هذا كثير في العلماء والأئمة والفضلاء، بل وفي عوام الخلق كثير ممن يقوى حدسه فتصح إصابته، فترتفع خصوصية الخبر وخصوصية عمر بذلك، ومعنى هذا الخبر قد تحقق ووجد في عمر قطعًا، وإن كان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ لم يجزم فيه بالوقوع ولا صرَّح فيه بالإخبار؛ لأنه إنما ذكره بصيغة الاشتراط، وقد دل على وقوع ذلك لعمر حكايات كثيرة.
(1/305)
3470 - وحديث أبي سعيد: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين رجلًا، فسأل راهبًا: هل من توبة؟ فقال: لا، فقتله، ثم سأل آخر فقال: ومَن يحول بينك وبين التوبة؟! ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها، فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له». [خ 3470] قيل: الراهب الأول كان لقلة علمه وتجرُّئه على الفتيا بجهل فأعان على نفسه، إذ أيأس القاتل من التوبة فلما ساقه الله إلى هذا العالم دله على الخير وعلى مفارقة الأرض التي أصاب بها الذنوب والإخوان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم، وأن يستبدل به صحبة الأخيار، وبهذا يعلم فضل العالم على العابد الذي لا علم عنده؛ لأنه اغتر بوصف الناس فقط فأفتى بغير علم فهلك في نفسه، وكاد أن يهلك غيره.
(1/306)
قال عياض: مذهب أهل السنة التوبة تكفِّر القتل كسائر الذنوب، وما روي عن بعضهم من تشديد في الزجر وتورية في القول فإنما ذلك لئلا يجترئ الناس على الدماء، وهذا الحديث ظاهر فيه، وهو وإن كان شرعًا لمن قبلنا وفي الاحتجاج به خلاف، فليس هذا موضع خلاف، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعًا لنا بلا شك، وهذا فقد ورد شرعنا به وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 70] الآية، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فكل ما دون الشرك يجوز أن يغفره الله تعالى، وفي حديث عبادة: «تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذَّبه» فهذه حجج صريحة تبين فساد مذهب المكفرة بشيء من ذلك، وأما قوله جل وعز: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] فالصواب في معناه: جزاؤه إن جازاه، وقد لا يُجازي بل يعفو عنه، فإن قتل عمدًا مستحلًّا بغير حق ولا تأويل فهو كافر مخلَّد في النار بالإجماع، وإن كان غير مستحلٍّ بل يعتقد تحريمه فهو فاسق عاصٍ مرتكب كبيرة جزاؤها جهنم خالدًا فيها، لكن تفضل الله جل وعز وأخبر أنه لا يخلد من مات موحِّدًا فيها, فلا يُخلِّد هذا وقد يعفو عنه فلا يدخل النار أصلًا، وقد لا يعفو عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين ثم يخرج منها إلى الجنة. وقيل: الخلود طول المدة والإقامة لا التأبيد.
(1/307)
وقيل:
المراد بالآية رجل بعينه قتل رجلًا له عليه دم بعد أخذ الدية منه ثم ارتد. وقوله:
فنَأى (فَنَاءَ بَصَدرِهِ) أي: مال ونهض مع ثقل ما أصابه من الموت، وذلك دليل على
صحة توبته لاجتهاده في القرب من أهل الخير، فأُعين على اجتهاده. وقوله:
(فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ العَذَابِ) فيه دليل
على أن الله تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في قلبه من صحة توبته، وأن ذلك خفي
على ملائكة العذاب حتى قالت: إنه لم يعمل خيرًا قط، ولو اطلعت على ما في قلبه من
توبته لما صح لها قول ذلك، ولا تنازع ملائكة الرحمة، لكن شهادة ملائكة الرحمة على
إثبات وأولئك على نفي والمثبتُ مقدَّم، فلا جرم أنهما لما تنازعا خرجا عن الشهادة
إلى الدعوى، فبعث الله إليهما ملكًا حاكمًا يفصل بينهما في صورة آدمي، وأخفى ذلك
عنهم ليعلموا أن في بني آدم من يصلح للفصل بين الملائكة إذا تنازعوا، وفي رواية:
«فجعلوه بينهم» فيه حجة لمالك أن المتحاكمين إذا حكَّما بينهما رجلًا يصلح للحكم
لزمهما ما يحكم به، وخالفه في ذلك الشافعي، وفي رواية: «فقيسوا ما بين الأرضين،
فإلى أيهما كان أدنى فهو له» فيه دليل على أن الحاكم إذا تعارضت عنده الأقوال
وتعذَّرت الشهادات، وأمكنه أن يستدل بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوي نفذ الحكم
بذلك، ووحي الله إلى هذه بالقرب وإلى هذه بالبعد من لطفه به وعنايته، وفيه أن
الذنوب وإن عظمت تصغر عند عفو الله تعالى.3471 - حديث البقرة تقدم في المزارعة [ح:
2324]. [خ 3471]
3472 - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ
عليهِ وسَلَّمَ: اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا، فَوَجَدَ الرَّجُلُ
الَّذِي اشْتَرَى فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ الَّذِي اشْتَرَى
(1/308)
العَقَارَ:
خُذْ ذَهَبَكَ عَنِّي، فَإِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ، وَلَمْ
أَبْتَعِ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ
وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا:
لِي غُلاَمٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، فقَالَ: أَنْكِحُوا الغُلاَمَ
الجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَيهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا). [خ 3472]
العقار: أصل المال، وقيل: المنزل، وقيل: الضِّياع. قال القرطبي: هو أصل الأموال من
الأرض وما يتصل بها. وعقر الشيءِ: أصلُه، ومنه: عَقْر الأرض -بفتح العين وضمها-. و
(الجرَّة) من الفخار: ما يصنع من المدر.
والتحاكم إلى الرجل حكمه حكم المتقدم، وقال أبو حنيفة: إن وافق رأيه رأي قاضي
البلد نفذ، وإلا فلا. قال: واختلف قول الشافعي فقال بمثل قوله، وقال أيضًا: لا
يلزمه حكمه، ويكون ذلك كالفتيا منه، وبه قال شريح. ثم إن هذا الرجل لم يحكم على
أحد منهما، إنما أصلح بينهما، وذلك أن هذا مال ضائع إذ لم يَدَّعه أحدهما، ولعلهم
لم يكن لهم في زمنهم بيت مال، فظهر لهذا الرجل أنهما أحق به لزهدهما وورعهما وحسن
حالهما، ولما ارتُجي من طيب نسلهما وصلاح ذريتهما.
قال المازري: اختلف عندنا فيما إذا ابتاع أرضًا فوجد فيها شيئًا مدفونًا، هل يكون
ذلك للبائع أو للمشتري؟ فيه قولان، قال القرطبي: يعني بذلك ما يكون من أنواع الأرض
كالحجارة والعُمُد والرخام، وأما ما كان كالذهب والفضة؛ فإن كان من دفن الجاهلية كان
ركازًا، وإن كان من دفن المسلمين فهو لُقَطة، وإن جُهل ذلك كان مالًا ضائعًا، فإن
كان هناك بيت مال حُفظ فيه، وإلا صُرف في الفقراء والمساكين وفيمن يُستعان به على
أمور الدين وفيما أمكن من مصالح المسلمين. قال
ابن التين: ولعل هذا كان من شرعهم.
(1/309)
3473
– (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ
عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فِي الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى
طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا
سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ
وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ. قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لاَ
يُخْرِجْكُمْ إِلَّا فِرَارًا مِنْهُ). [خ 3473]
3474 - وفي حَدِيثِ عَائِشَةَ: (هُوَ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ، وَأَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ
مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا،
يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ
أَجْرِ شَهِيدٍ). [خ 3474]
وعند النسائي من حديث إبراهيم بن سعد عن سعد وأسامة وخزيمة بن ثابت، عن النبي
صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بمثل الحديث الأول، وعند البخاري عن عبد الرحمن بن
عوف: «إِذا سَمِعتُم بِهِ بَأَرضٍ فَلَا تَقدموا عَليه، وَإذا وَقَعَ بِأَرضٍ
وَأَنتُم بها فَلا تَخرُجُوا مِنهَا فِرارًا».
(1/310)
وعن حفصة قال لي أنس بن مالك: يحيى بِمِ مات؟ قلت: من الطاعون، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: «الطَّاعُونُ شَهادَةٌ لِكلِّ مُسلم». وقد تقدم الحديث في هذا في الجهاد [ح: 2830]، وأن يحيى مات بعد أنس بن مالك, وهناك تقدم الكلام على الطاعون وأنه شهادة.
(1/311)
[كتاب
التفسير] [سورة البقرة]
عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]،
قال: «من القنوت: الركوع والسجود وخفض الجناح وغض البصر رهبة الله».وعن جابر بن
زيد: «الصلاة كلها».وحديث زيد بن أرقم تقدم في الصلاة. وكذا قوله: {فَإِنْ
خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] قال البخاري رحمه الله:
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: كُرْسِيُّهُ، عِلْمُهُهذا التعليق رواه عبد بن حميد عن
حسن بن موسى، عن يعقوب، عن جعفر عن سعيد به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد
الأشج، حدَّثنا ابن إدريس، عن مُطرِّف بن طَريف، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة: 255] قال: «علمه».قال البخاري
رحمه الله: {بَسْطَةً} [البقرة: 247]: زِيَادَةً وَفَضْلًا. اللفظة الأخيرة ذكرها
ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند فيه ضعف. قال البخاري رحمه الله: {يَؤودُهُ}:
يُثْقِلُهُ. هذه أيضًا ذكرها عن ابن عباس بسند جيد: «لا يؤوده، لا يثقل عليه»، وعن
مجاهد: «لا يكرهه حتى يثقله»، وعن أبي العالية والضحاك ومكحول والسدي والربيع
والحسن وقتادة أنهم قالوا: «لا يثقل عليه».وفي «تفسير عبد» أن الحسن وقتادة: «لا
يثقل عليه» .... (1) صلى الله عليه وسلم، تقدم ذكره. وكذلك الشك في إبراهيم صلى
الله عليه وسلم. وقول البخاري رحمه الله: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {صَلْدًا}:
لَيْسَ عَلِيْهِ شَيءٌ. رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة، حدَّثنا مِنْجاب بن
الحارث، أنبأنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس بلفظ: «فتركه يابسًا
جاسيًا لا ينبت شيئًا».وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَابِلٌ}: مَطَرٌ شَدِيدٌ. هذا
التعليق رواه عبد، عن رَوح، عن عثمان بن غياث قال: [13/أ] سمعت عكرمة به.
__________
(1) () كلمات غير واضحة، لعلها: سحر النبي صلى الله عليه وسلم.
(1/1)
قوله
تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنَابٍ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266] قال جار الله
الزمخشري (1): همزة {أَيَوَدُّ} للإنكار، وقرئ: «له جنات»، «وذرية ضعاف»، والواو
في «وأصابه الكبر» واو الحال، معناه: أيود أحدكم أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر.
وقد يقال: وددت أن يكون كذا، ووددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى كأنه قال:
أيود لو كانت له جنة وأصابه الكبر. وذكر السدي في هذا مثلًا آخر لنفقة الرياء: أنه
ينفق ماله يرائي به الناس، فيذهب ماله منه، فلا يأجره الله تعالى فيه، فإذا كان
يوم القيامة واحتاج إلى نفقته، وجد فيها السموم فأحرقت جنته، فلم يجد فيها شيئًا،
وكذلك الرياء. وعن مجاهد: مثل المفرِّط في طاعة الله جلَّ وعزَّ حتى يموت كمثل هذا
حين احترقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، فذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء
عليه حسرة. قال الطبري: وهذا القول أقرب للصواب وأحسن آياته للمعنى، وخص النخل
والعنب بالذكر لشرفها وفضلها على سائر الشجر وذلك أن النخل يسمى بذلك ـ فيما ذكره
الراغب ـ لأنه معمول الأشجار وصفوها وأكرم ما ينبت، ولا يشبه الحيوانات في
الاحتياج إلى التلقيح، ولأن رأسه إذا قطعت لم ينبت بعد. والحديث الذي ذكره البخاري
رحمه الله تعالى عن: 4538 - ابْنُ عَبَّاسٍ: «ضُرِبَتْ مَثَلًا لِيُعمَل، قَالَ
عُمَرُ بن الخطاب: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ الله، ثُمَّ بَعَثَ الله
عز وجل لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ بالمعاصي (2)».
[خ 4538]
ذكر أبو مسعود هذا الكلام في مسند ابن عباس، وفي مسند ابن عمر أسعد (3).
وعن [13/ب] (4) ......... وهذا لا أعلم فيه خلافًا.
__________
(1) () في الأصل: الخوارزمي.
(2) () في «البخاري»: أغرق أعماله.
(3) () هذا ما ظهر لي في قراءة الكلمة.
(4) () في بداية هذه الورقة سطران استعصى علي قراءتهما.
(1/2)
وذكر
البخاري رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة مرفوعًا:
4539 - «لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ،
وَلاَ اللُّقْمَةُ وَلاَ اللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي
يَتَعَفَّفُ، وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {لاَ يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا}. [البقرة: 273]. [خ 4539] عن ابن أبي مريم، حدَّثنا محمد بن
جعفر، حدثني شريك، أن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة حدثناه عنه. والقائل ـ
يعني لما أخبره ـ هو سعيد ابن الحكم بن أبي مريم، ذكره الإسماعيلي وأبو نعيم في
«مستخرجيهما» من طريق الحسن بن سفيان قال: «قلت لابن أبي مريم: ما تقرأ ـ يعني في
قوله: «واقرؤوا إن شئتم» قال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا} [البقرة: 273]
الآية. قال الإسماعيلي: حديث إسماعيل بن جعفر ـ يعني المذكور عنده، وإن كان عن
عطاء وحده ـ فإنه أولى بالتفسير الذي أراد من هذا الباب؛ لإتيانه بالآية في
الرواية تصحيحًا لما قاله. وحديث محمد بن جعفر الذي رواه هو هكذا، وهو من «تفسير
ابن أبي مريم»، كما ذكرته. واستدل ابن حزم بهذا الحديث على أن المسكين الذي له
أدنى شيء لا يقوم بحاله يصبر ولا يسأل. وقال أبو الفرج: قد جعل في هذا الحديث من
لا يسأل أعظم حاجة من السائل. ذكر الربا [4540]، تقدم. قوله جلَّ وعزَّ: {وَإِنْ
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] اختلف أهل العلم
في هذه الآية، فذكر الواحدي أن بني عمرو قالوا لبني المغيرة: «هاتوا رؤوس أموالنا،
فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسرة، فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة، فأبوا أن
يؤخروهم [14/أ] فنزلت».وقراءة نافع: «ميسُرة» بضم السين، والباقون بفتحها. وزعم
ابن عباس وشُريح أن الإنظار في دين الربا خاصة واجب. وعند الطبري عن قتادة:
{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}: برأس ماله. وقال أبو جعفر محمد: يعني الموت.
(1/3)
وعن إبراهيم النخعي: في الرجل يزوج إلى ميسرة؟ قال: إلى الموت، أو قال: فُرْقة. وقال مجاهد: يؤخره ولا يزد عليه، قال: كان إذا حل دين بعضهم فلم يجد ما يعطيه؛ زاد عليه وأخَّره. وقال النحاس: عارض قول من قال: إنها في الربا، لأن الربا أبطل فكيف يقال فيه: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم؟ واحتج من طريق النحو بأنه لو كان في الربا لكان: وإن كان ذا عسرة؛ لأنه قد تقدم ذكره فلما كان في السواد: وإن كان ذو عسرة علم أنه منقطع من الأول عام لكل من كان ذا عسرة، وكانت كان بمعنى وقع وحدث. قال أبو جعفر: هذا ظاهره حسن، وإذا فتشته لم يلزم، وذلك أن قوله الربا قد أبطله الله صحيح إن أراد ألا يعمل به، وإلا فقد قال: «ولكم رؤوس أموالكم» فما الذي يمنع أن يكون الإعسار في مثل هذا؟، وأما النحو فيجوز أن يكون التقدير: وإن كان منهم ذو عسرة، وقد قالوا المرء مقتول بما قتل به إن خنجر فخنجر. وقيل: إنها ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر فيما عليه من الديون وإن كان حرًا. قال الطحاوي: كان الحر يباع في الدين أول الإسلام حتى نسخ ذلك. روى الدارقطني من حديث مسلم بن خالد، عن ابن البَيْلَماني وفيهما كلام عن سُرَّق قال: «كان لرجل علي دين فذهب بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [14/ب] فلم يجد لي مالًا فباعني منه».وهي عامة في جميع الناس، فكل من أعسر أنظر، وهو قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء، قال النحاس: وأحسن ما قيل في الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خُثيم: هي لكل معسر، ينظر في الربا وفي الدين كله.
(1/4)
وعند
القرطبي: من كثرت ديونه وطلب غرماؤه مالهم فللحاكم أن يخلعه عن ماله كله إلا ما
كان من ضرورته ويحبس المفلس، وهو قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبين
غرمه، ولا يحبس عند مالك إن لم يتهم أنه غيب ماله ولم يتبين لدده، وكذلك لا يحبس
إن صح عسره، وذهب الحنفيون إلى أنه يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه، وإن كان
موسرًا نُزل في الحبس أبدًا حتى يقضيه، وإن كان معسرًا خلي عنه. وروى ابن رستم عن
محمد أن المعسر إذا قال: أنا معسر وأقام البينة على ذلك، أو قال: سل عني، فلا يسأل
عنه أحدًا بل يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه إلا أن يكون معروفًا بالعسر فلا
يحبسه. وعند الطحاوي: كان متأخرو (1) أصحابنا - منهم محمد بن شجاع - يقولون: إن كل
دين كان أصله من مال وقع في يد المديون كثمن المبيع والقروض ونحوها فإنه يحبسه
فيه، وما لم يكن كذلك مثل المهر والجعل من الخلع والصلح من دية العمد والكفالة لم
يحبسه حتى يثبت وجوده وملاءته. وعند الشافعي: إذا ثبت عليه دين بيع ما ظهر ودُفع
لغريمه، وإن لم يظهر يحبس وبيع ما قدر عليه من ماله، فإن ذكر عسرة قبلت منه البينة
والحلف مع ذلك، وأحل ومنع غرماؤه من لزومه. وعند الحنفيين: للطالب أن يلزمه، قال محمد:
واللزوم في الدين لا يمنع من دخوله للغداء والغائط والبول، فإن [83/ب] أدى الذي
يلزمه، وموضع الخلاف فيه من كان منزله، وهو قول الزهري. قال أبو الوليد بن رشد:
المفلس الذي لا مال له أصلًا أجمع على أن العُدْمَ له تأثير في إسقاط الدين إلى
وقت الميسرة، إلا ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أن لهم أن يؤاجروه، وهو قول أحمد بن
حنبل، انتهى. هو قوله في رواية، وأصحابه يصححون الأول. ثم ذكر البخاري رحمه الله
تعالى هنا حديث:4541 - عَائِشَةَ: «لَمَّا نْزِلَتِ آيَاتُ الربا قَامَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الخَمْرِ».
__________
(1) () في الأصل: متأخري.
(1/5)
[خ 4541] وقد ذكر الإسماعيلي أنه لم يقف على وجه دخول هذا الخبر في هذا الباب في تفسير الآيات التي ذكرها، ويمكن أن يقال في العذر للبخاري في إخراجه هذا الحديث: أن هذه الآيات متعلقة بآيات الربا، فالإشارة في ذلك إلى الجميع. قوله جلَّ وعزَّ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة: 281] في «تفسير عبد» عن الضحاك عن ابن عباس: «هي آخر آية نزلت».وفي رواية أبي صالح عنه: «نزلت بمكة شرفها الله تعالى وتوفي بعدها صلى الله عليه وسلم بأحد وثمانين يومًا».زاد أبو بكر بن المنكدر: هذا مستبعد لما فيه من انقطاع الوحي هذه المدة، انتهى. ليس في هذا تعرض للوحي، إذ الوحي يكون بالقرآن، وبغير قرآن هو أعم، والله تعالى أعلم. وقيل: نزلت يوم النحر في حجة الوداع. ثم ذكر البخاري عن: 4544 - ابْنِ عَبَّاسٍ: «آخِرُ [15/ب] آيَةٍ نَزَلَتْ آية الربا». [خ 4544] وفي «تفسير ابن أبي حاتم» من حديث ابن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: «عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة تسع ليال».وعند مقاتل: «سبع ليال، وهي آخر آية نزلت».وعند القرطبي: «ثلاث ليال»، وقيل: «ثلاث ساعات»، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوها بين آية الربا وآية الدين»، وقيل: «إنه صلى الله عليه وسلم عاش بعدها أحد وعشرين يومًا».وروي عن البراء أن آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُوْنَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيْكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176].وقال أبي بن كعب: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 129].وقراءة أبي عمرو «تَرجعون» بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، وذهب جمهور المفسرين على أن اليوم المحذر منه هو يوم القيامة، وقال بعضهم: هو يوم الموت.
(1/6)
قوله جلَّ وعزَّ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهفَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 284] في «تفسير ابن المنذر» عن ابن عباس ومولاه قالا: «نزلت هذه الآية في كتمان الشهادة».قال ابن أبي حاتم: وروي عن الشعبي ومقسم مثله. وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة: «لما نزلت هذه الآية الكريمة قالت الصحابة: يا رسول الله! كُلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت هذه الآية ولا نطيقها، فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم، [16/أ] فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {آمن الرسول} إلى: {وإليك المصير}، فلما فعلوا ذلك نسخها الله جلَّ وعزَّ، فأنزل: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} إلى قوله: {أخطأنا}».وعند الواحدي: الصحابة الذين قالوا ذلك: أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار فقالوا: ما نزلت آية أشد علينا من هذه، فقال صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، قولوا: سمعنا وأطعنا، فمكثوا بذلك حولًا، فأنزل الله جلَّ وعزَّ: الفرج والراحة بقوله: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فنسخت هذه الآية ما قبلها، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلموا به.
(1/7)
وفي «تفسير ابن المنذر»: حدَّثنا زكريا، حدَّثنا محمد بن يحيى، حدَّثنا محمد بن يوسف، حدَّثنا سفيان، حدَّثنا موسى بن عبيدة، عن خالد بن زيد، عن محمد بن كعب القرظي قال: «ما بعث الله من نبي ولا أرسل من رسول إلا أنزل عليه هذه الآية، فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها ويقولون: نؤاخذ بما نحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا، فيكفرون ويضلون، فلما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم واشتد على الصحابة فقال لهم: تقولون كما قالت أهل الكتاب سمعنا وعصينا؟ فلما قالوا: سمعنا وأطعنا وضع الله جلَّ وعزَّ عنهم حديث الأنفس إلا ما عملت الجوارح».وعند النحاس قال ابن عباس: «هذه الآية لم تنسخ».وعن عائشة قالت: «ما همَّ به العبد من خطيئة من غير عمل يعاقب على ذلك ما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا».وقال مجاهد: «هذه الآية في الشك واليقين».وقال أبو جعفر: «وهذه الأقوال يقرب بعضها من بعض، فقول مجاهد قريب من قول [16/ب] ابن عباس أنها لم تنسخ وأنها عامة. وقول ابن عباس أنها في الشهادة يصح على أن غير الشهادة بمنزلتها. وقول عائشة رضي الله عنها تكون عامة أيضًا، فأما أن تكون منسوخة، فيصح من جهة ويبطل من جهة، فأما الجهة التي تبطل فيها، فإن الأخبار لا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، ومن زعم أن في الأخبار ناسخًا ومنسوخًا فقد ألحد أو جهل، قد أخبر الله جلَّ وعزَّ بأنه يحاسب من أبدى شيئًا أو أخفاه فمحال أن يخبر بضده، وأيضًا فإن الحكم إذا كان منسوخًا فإنما ينسخ بنفيه وبآخر ناسخ له نافٍ له من كل جهاته، فلو كان: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ناسخًا؛ لنسخ تكليف مالا طاقة به، وهذا منفي عن الله عز وجل أن يتعبد به كما قال جلَّ وعزَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يلقن أصحابه إذا بايعوه: «فيما استطعتم». انتهى.
(1/8)
لقائل
أن يقول: إن هذا وإن كان خبرًا فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس، والتعبد
ما أمرهم به صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وهي أقوال وأعمال اللسان
والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. قال أبو جعفر: فأما الوجه الذي يصح
منه وهو الذي ينبغي أن يتبين ويُوقَف عليه؛ لأن المعاند ربما عارض بقول الصحابة
والتابعين في أشياء من الأخبار ناسخة ومنسوخة، فالجاهل باللغة إما أن يحيَّر فيها
وإما أن يلحِد فيقول في الأخبار ناسخ ومنسوخ، وهو يعلم أن الإنسان إذا قال: قام
فلان ثم نسخ هذا فقال لم يقم فقد (كذب) (1).قول ابن عباس حين بلغه [17/أ] أن ابن
عمر تلا هذه الآية فدمعت عيناه: «رحم الله أبا عبد الرحمن صنع كما صنع الصحابة حين
أنزلت، ونسختها الآية التي بعدها {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
فنسخ الله الوسوسة وأثبت القول والفعل».وفي رواية عند الطبري: «فكانت هذه الوسوسة
مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله للنفس ما كسبت وعليها ما
اكتسبت في القول والفعل».وفي لفظ: «فنسخها {آمَنَ الرَّسُوْلُ} إلى قوله:
{وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فتجوز لهم من حدث النفس وأخذوا بالأعمال».وفي «تفسير
ابن أبي حاتم» من حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: «هذه الآية لم تنسخ، ولكن إذا
جمع الله الخلائق يقول: إني أخبركم مما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه
ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الريب فيخبرهم بما أخفوا من
التكذيب، فذلك قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}.وعند
الطبري عنه: «يقول الله جلَّ وعزَّ: إن كُتَّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر،
فأما ما أسررتموه فأنا أجاوبكم به اليوم».
__________
(1) () ما بين قوسين هو عبارة أبي جعفر في «الناسخ والمنسوخ»، على غير ما جاءت في
الأصل.
(1/9)
قال
أبو جعفر: معنى نسختها نزلت بنسختها سواء، وليس هذا من الناسخ والمنسوخ في شيء،
وكذا قاله الطبري، وعنه قاله النحاس، ويحتمل أن يكون نسختها نسخت الشدة التي
لحقتهم أي إزالتها كما يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته، ومن حُسن ما قيل في الآية
وأشبهه بالظاهر قول ابن عباس: إنها عامة يدل على ذلك جواب ابن عمر في النجوى: «أن
الله يدني المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، وفيه: فإني سترتها عليك في الدنيا،
فيه: فأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على
الله»، قال الضحاك: «يعلمه الله بما كان [17/ب] يسره ليعلم أنه لم يخف عليه».قال
أبو جعفر: وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة وإسناده صحيح لا يدخل القلب منه لبس،
وفيه حقيقة معنى الآية، وأنه لا نسخ فيها. ولما ذكر ابن الحصار قول أبي هريرة وعلي
في نسخ هذه الآية قال: هذه حكاية حال جرت بالاتفاق، وإنما أسلم أبو هريرة عام
خيبر، وهذا الحكم ثابت في السور المكيات؛ بل نسخ حكم الله عز وجل الدائم منذ كلف
عباده، وهو الذي يقتضيه قوله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًًا إِلَّا
وُسْعَهَا}، والنفس تعم الملَك والجن والإنس. ومثله قوله جلَّ وعزَّ: {لَا
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 62]، وقد تكرر هذا المعنى في سورة الأنعام وفي سورة
الأعراف، وكلها مكيات باتفاق، فهذا الحكم نزل قبل نزول هذه الآية، والآيات متظاهرة
في السور المكيات والمدنيات كما بينا ... (1).أخبرنا الإمام القدوة أبو الفتح نصر
بن سلمان، عن عمر المسبحي إذنًا، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن شجاع القرشي،
أخبرنا أبو القاسم الطوسي، أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات بن هلال
النحوي قال: المنسوخ من الآية الكريمة قوله عز وجل: {أَوْ تُخْفُوْهُ} لا غير ...
__________
(1) () في هذه الفقرة بضع كلمات غير واضحات في الأصل.
(1/10)
(1)
وفي «الناسخ» لهبة الله بن سلامة بن نصر قال ابن مسعود: «هي عموم في سائر أهل
القبلة».ثم إن العلماء اختلفوا في تكليف ما لا يطاق مع تجويزهم وقوعه عقلًا، هل
وقع التعبد به في الشريعة أم لا؟ وزعم المازري أن في تسمية نسخًا نظر؟ لأنه إنما
يكون نسخًا إذا تعذر الجمع ولم يمكن رد إحدى الاثنين إلى الأخرى، وقوله تعالى:
{وَإِنْ تُبْدُوْا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} عموم يصح أن يحمل على ما يملك من الخواطر
دون [87/ب] ما لا يملك، فتكون الآية الأخرى مخصصة إلا أن يكون الصحابة رضي الله
عنهم قد فهموا بقرينة الحال تعبدهم بما لا يدرك من الخواطر فيكون حينئذ نسخًا،
لأنه رفع ثابت مستقر. قال عياض: هذا كلام ظاهر لكن فيما لم يرد فيه نص بالنسخ،
فإذا ورد وقفنا عنده. على أن الأصوليين اختلفوا في قول الصحابي: نسخ بكذا، هل يكون
حجة يثبت بها النسخ؟ أم لا، على أنه لا وجه (2) لإبعاد النسخ في هذه القضية، فإن
راويها قد روى النسخ، وطريق النسخ إنما الخبر والتاريخ، وهما مجتمعان في هذه
الآية. وقال الواحدي: المحققون يختارون أن تكون محكمة (3). 4545 - حَدَّثَنَا
مُحَمَّدٌ، حدَّثنا النُّفَيْلِيُّ، حدَّثنا مِسْكِينٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَن
الحَذَّاءِ، عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ، عَنْ رَجُلٍ مِن الصَّحَابَة وَهْوَ ابْنُ
عُمَرَ: «قَدْ نُسِخَتْ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة:
284].4546 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَنَا رَوْحٌ، أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ،
عَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله
عليه وسلم أَحْسِبُهُ ابْنَ عُمَرَ قال: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}
قَالَ: «نَسَخَتْهَا الَّتِي بَعْدَهَا».
__________
(1) () في هذه الفقرة بضع كلمات غير واضحة في الأصل.
(2) () العبارة غير واضحة، كتبتها تقديرا مع الاستئناس بشرح مسلم للنووي.
(3) () في هذه الفقرة بضع كلمات غير واضحة في الأصل.
(1/11)
كذا
في روايتنا. وقال الإسماعيلي وأبو نعيم: رواه البخاري عن محمد، حدَّثنا النُّفيلي.
وقال الجياني: كذا هو في أكثر النسخ، وسقط من كتاب ابن السكن ذكر محمد، إنما فيه:
حدَّثنا النفيلي - يعني عبد الله بن محمد بن نفيل شيخ البخاري، والصواب: (حدثنا
محمد حدَّثنا النفيلي).وزعم أبو نصر أن محمدًا هذا أراه الذُّهلي، قال: وقال لي
أبو عبد الله الحاكم: محمد هذا غير محمد بن إبراهيم البُوشَنْجي، وهذا الحديث مما
أملاه البوشنجي بنيسابور. وإسحاق المذكور في السند الثاني قال أبو علي: لم أجده
منسوبًا عند أحد من شيوخنا. وقد حدث البخاري عنه في تفسير [88/أ] الأحزاب، وروى عن
إسحاق بن إبراهيم عن روح، وحدث أيضًا عن إسحاق بن منصور، وعن روح في غير موضع ...
(1) وكذا ذكره أبو نعيم وأبو مسعود وخلف. قال البخاري: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
{إِصْرًا}: عَهْدًا. هذا التعليق رواه أبو بكر بن المنذر عن علان بن المغيرة،
حدَّثنا أبو صالح، حدَّثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عنه. ورواه الطبري
عن محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عنه. وعن عبد الرحمن،
عن أبي زرعة، حدَّثنا عثمان، أنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عنه. قال:
وروي عن مجاهد والسدي نحوه، وعن الحسن والضحاك ومقاتل: ميثاقًا. وفي «تفسير عبد
الرزاق»: أنا معمر، عن قتادة: «لا تحمل عهدًا وميثاقًا، كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
الذِّيْنَ مِنْ قَبْلِنَا، كما غلظ على الذين من قبلنا».وفي «تفسير الطبري» عن
عطاء: «لا تحمل علينا إصرًا، قال: لا تمسخنا قردة ولا خنازير».وعن ابن وهب: «لا
تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبة ولا كفارة».وعند الزمخشري: قرئ: «آصارًا» بالجمع،
وقرئ: «ولا تحَمِّل»، مبالغة في حمل عليه. سُوْرَةُ آلِ عِمْرَانَ
قال مقاتل: هي مدنية كلها.
وقال صاحب «مقامات التنزيل»: لم يبلغنا في ذلك خلاف.
__________
(1) () هذه العبارة غير واضحة في الأصل، والمثبت من «التوضيح».
(1/12)
وحكى
غيره الإجماع، قال ابن إسحاق: سمعت جعفر بن محمد ومحمد بن جعفر بن الزبير يقولان
في سبب نزول هذه السورة قدوم وفد نجران.
وقال البخاري رحمه الله:
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {المُسَوَّمَةُ}: المُطَهَّمَةُ الحِسَانُ.
هذا التعليق رواه عبد، عن روح، عن شبل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، وحدثنا أبو
نعيم وقَبيصة عن سفيان وعن حبيب بن أبي ثابت عنه.
وفي «تفسير الطبري» حدَّثنا محمد قال: حدثت عن عمار [19/أ]
ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد أنه كان يقول: «الخيل المسومة هي الخيل
الراعية»، وحكاه أيضًا عن ابن عمر وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى وابن عباس
والحسن والربيع.
وعن ابن عباس: «المسومة: المعلمة»، وكذا ذكر قتادة.
وقال ابن زيد: «هي المعدة للجهاد».
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هي المعلمة.
قال البخاري:
قَالَ سعيد بنُ جُبَيْرٍ: {وَحَصُورًا}: لاَ يَأْتِي النِّسَاءَ.
ذكر هذا التعليق عبد فقال: حدَّثنا جعفر بن عبد الله السلمي، عن أبي بكر الهذلي،
عن الحسن وسعيد بن جبير وعطاء وأبي الشعثاء أنهم قالوا: «السيد الذي يغلب غضبه،
والحصور الذي لا يغشى النساء.
وكذا ذكره ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: وروي عن ابن مسعود وسعيد بن جبير وأبي
صالح، وهو أحد قولي الضحاك وعكرمة ومجاهد وعطية.
وقال البخاري:
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {مِنْ فَوْرِهِمْ}: مِنْ غَضَبِهِم.
هذا التعليق رواه الطبري في «تفسيره» عنه.
قال البخاري:
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُخْرِجُ الحَيَّ، النُّطْفَةِ تَخْرُجُ مَيِّتَةً، فيُخْرِجُ
مِنْهَا الحَيّ.
هذا التعليق رواه محمد بن جرير، عن القاسم بن الحسين، حدَّثنا حجاج، عن ابن جريج،
عنه، قال: وحدثني محمد بن عمر، حدَّثنا أبو عاصم، عن ابن أبي نَجيح، عنه.
وحكاه أيضًا عن ابن مسعود والضحاك والسدي وإسماعيل بن أبي خالد وقتادة وسعيد بن
جبير.
(1/13)
وعن
عكرمة: «هي البيضة تخرج من الحي وهي ميتة، ثم يخرج منها الحي».
وعن أبي مالك: «النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة والسنبلة
من الحبة».
وقال الحسن (1): [19/ب]
ومحمد بن إسحاق.
قال جابر عبد الله ـ وهو مقتضى قول الشعبي والثوري وغيرهما: المحكمات من آي الكتاب
العزيز: ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لا سبيل لأحد إلى علمه
مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه.
قال بعضهم: مثل قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال، ونحو الحروف المقطعة في
أوائل السور وشبهها.
وقال الربيع بن خُثيم: إن الله جلَّ وعزَّ أنزل القرآن واستأثر منه بعلم ما شاء.
وقد قيل: إن القرآن العظيم كله محكم لقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:
1]، وقيل: كله متشابه لقوله تعالى: {مُتَشَابِهًِا مَثَانِيَ} [الزمر: 23].
قال أبو عبد الله القرطبي: ليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله: {أُحْكِمَتْ
آيَاتُهُ} أي في النظم وأنه الحق من عند الله جلَّ وعزَّ، ومعنى: {كِتَابًا
مُتَشَابِهًا} أي يشبه بعضه بعضًا، وليس المراد بقوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٍ} هذا المعنى، إنما المتشابه هنا من باب قوله: {إِنَّ
البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}.
وقال الطبري: المحكمات هن اللواتي قد حكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن
على ما جعلن أدلة عليه، ثم وصف هؤلاء المحكمات بأنهن أم الكتاب أي أصله من فرائض
وحدود وسائر ما بالخلق إليه الحاجة.
__________
(1) () يوجد سقط ظاهر في الأصل، لا أعلم مقداره، ولكنه كان يتكلم عن تفسير قوله
تعالى: «يخرج الحي من الميت ... »، ثم
(1/14)
وسموا
أصل (1) الكتاب؛ لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، ووحَّد
{أُمُّ الكِتَابِ}؛ لأنه أراد جميع الآيات المحكمات أم الكتاب، لا أن كل آية منهن
أم الكتاب، ولو كان معناه أن كل آية منهن أم الكتاب لقيل: أمهات الكتاب.
وقال بعض نحويي البصرة: إنما قيل: {هُنَّ} على وجه الحكاية.
قال أبو جعفر: وهو قول لا معنى له.
و {أُخَرُ}: جمع أخرى، قال بعضهم: لم يصرف من أجل أنها نعت كما لا تصرف [20/أ]
«جُمَع» و «كُتَع»؛ لأنهن نعوتٌ.
[وقال آخرون] (2): إنما لم تصرف لزيادة الياء التي في واحدتها، وأن جمعها مبني على
واحدها في ترك الصرف، قالوا: وإنما ترك صرف «أخرى» كما ترك صرف «حمراء» و «بيضاء»
في النكرة والمعرفة؛ لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو، ثم افترق جمع «حمراء» و
«أخرى»، فبنى جمع «أخرى» على واحدته فقيل: «فُعَلٌ» و «أخر»، فترك صرفها كما ترك
صرف «أخرى» وبنى جمع «حمراء» و «بيضاء» على خلاف واحدته فصرف، فقيل: «حمر» و
«بيض»، فلاختلاف حالتهما في الجمع اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف، ولاتفاق حالتيهما
في الواحدة اتفقت حالتاهما فيها (3).
[باب: لا هامة] 5757 - ... في المعنى إن خيف من شيء أن يكون سببًا لما يخاف شره
ويتشاءم به فهذِه الأشياء لا على السبيل التي يظنها أهل الجاهلية من الطيرة
والعدوى.
وقال الخطَّابي: لما كان الإنسان لا يستغني عن هذِه الأشياء: الدار والفرس
والزوجة، وكن لا يَسلمنَ من عارض مكروه، فأضيف إليها الشؤم إضافة محلٍّ.
__________
(1) () كذا في الأصل، وفي التنزيل، وعند الطبري: «أمُّ».
(2) () بياض بالأصل، والمثبت من «تفسير الطبري».
(3) () الفقرة الأخيرة فيها طمس شديد واستعصاء في القراءة، وقد نقل الشيخ كلامه من
«تفسير الطبري» بتصرف
(1/15)
قال
ابن التِّين: الشؤم مهموز، ويسمى كل محذور ومكروه شؤمًا، ومشأمة، والشؤمى الجهة
اليسرى، وأصحاب المشأمة: الذين سلك فيهم طريق النار لأنها على الشمال، وقيل لأنهم
شؤمٌ على أنفسهم، وقيل: لأنهم أخذوا كتابهم بشمالهم.
وقال ابن العربي: اختلف الناس في تأويل قوله: (لا طِيَرَة) فمنهم من قال: معناه
الإخبار عما تعتقده الجاهلية، وقيل: معناه الإخبار عن حكم الله الثابت في الدار
والمرأة والفرس بأن الشؤم فيها عادة أجراها الله تعالى، وقضاء أنفذه يوجده حيث شاء
منها متى شاء.
قال: والأول ساقط؛ لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليخبر عن الناس
ما كانوا يعتقدونه.
وعند الترمذي صحيحًا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان إذا خرج لحاجته
يعجبه أن يسمع يا نَجِيحُ يا رَاشِد».
وعند أبي داود عن بُريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان لا يتطير من شيء، وكان
إذا بعث غلامًا يسأل عن اسمه فإذا أعجبه اسمه فَرِح به، وإن كره اسمه: رؤي كراهة
ذلك في وجهه».
«من عرض له من هذِه الطيرة شيء، فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك،
ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وروى قاسم بن أَصْبَغ أن بريدة لما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاصد
المدينة، قال له: «ما اسمك؟» قال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر [64/ب]،
فقال: «بَرُد أمرنا وصلح، ممن؟» قال: من أسلم. فقال لأبي بكر: «سَلِمنا»، ثم قال:
«ممن؟» قال: من بني سهم. فقال: «خرج سهمنا».
وفي كتاب «المناسك» لابن صاعِد عن حَدْرَد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الحديبية: «من يسوق إبلنا؟» فقال رجل: أنا. قال: «ما اسمك؟» قال: فلان. قال:
«اجلس»، فقام آخر، فقال: «ما اسمك؟» قال: ناجية. قال: «سقها».
(1/16)
وفيه
عن يَعيش الغِفَاري قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بناقة، فقال: «من
يحلبها؟» فقام رجل، فقال: «ما اسمك؟» قال: مُرّة. قال: «اقعد»، ثم قام آخر، فقال:
«ما اسمك؟» قال: جمرة. قال: «اقعد» فقام يعيش، فقال: «ما اسمك؟» قال: يعيش. قال:
«احلِبها».
وعند ابن عَدِي عن أبي هُرَيْرَة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا
تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا».
وعند جار الله (1): «ليسَ مِنَّا مَن تَطَيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو
تُكُهِّن له».
وفي رواية عن أنس يرفعه: «ويعجبني الفأل الصالح». قالوا: وما الفأل الصالح؟ قال:
«الكلمة الطيبة».
وعن أبي هُرَيْرَة: سمع النبي صلى الله عليه وسلم كلمة طيبة فأعجبته، فقال: «أخذنا
فألك من فيك».
وقال عُروة بن عامر: ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنها
الفأل، ولا ترد مسلمًا، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا
أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
(2): سَمِعْت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الْعِيَافَةُ، وَالطَّرْقُ،
وَالطِّيَرَةُ مِنَ الْجِبْتِ».
وعن أبي هُرَيْرَة يرفعه: «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد بَرِئ مما أنزل على
مُحمَّد صلى الله عليه وسلم».
وقد أخذ مالك رحمه الله تعالى بظاهر قوله: (الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ) وحمله على
ظاهره.
قال القُرطُبي: ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي يُرخص فيه من الطِّيَرة
بهذِه الثلاثة الأشياء، إنما هو مثل نحو ما كانت الجاهلية تعتقد فيها فإن ذلك خطأ،
وإنما معنى هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها؛ لملازمتهم إياها ولذلك خصها
بالذكر، وقد سلف ذلك (3).
__________
(1) () هو الزمخشري كما في التوضيح لابن الملقن.
(2) () بياض في الأصل ولعله "وعن قبيصة" كما في الطبراني.
(3) () في المخطوط غير واضحة، وهذه الجملة من التوضيح لابن الملقن.
(1/17)
وقد
يصحُّ حمله على أعم من ذلك، فيدخل فيه الدكان والفندق والحارة وغيرها، فمن وقع في
نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه،
ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو مع امرأة يكرهها؛ بل قد فسح له في ترك
ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله هو الفعال لما يريد.
أنشد المبرد في الكامل:
~ لايعلم المرء ليلًا ما يصبحه ... إلا كواذب مما يخبر الفال
~ والفأل والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال
وقال صابئ بن الحارث البُرْجُمِي:
~ وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحًا ولا عن ريثهن يخيب
~ ورب أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن (1) وجيب (2)
~ ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
وأيضًا للبيد بن ربيعة:
~ لَعَمركَ ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
~ فَسَلهنّ إن أحدثن علمًا متى الفتى ... يذوق المنايا أم متى الغيب واقع
وقال خُزَزُ بن لَوْذَان:
~ لا يبعدنّك عن بغاء الخير تعقاد العمائم
~ ولقد غدوتُ وكنت لا أغدو على واق وحاتم
~ فإذا الأشائم كالأيامن والأيامن كالأشائم
~ وكذاك لا خير ولا شرّ على أحدٍ بدائم
~ قد خطّ ذلك في كتاب الأوليات القدائم
ورأى أعرابي في دِهليز عبيدِ الله بن زياد صورةَ أسد وكبش وكلب، فقال: أسد كالح،
وكبش ناطح، وكلب نابح. أما والله لا يُتمتع بهذِه الدار أبدًا. فما لبث عبيد الله
أيامًا حتى قتل.
وتفاءل هشام بن عبد الملك بِنَصْر بن سَيَّار فقلده خراسان، فكان بها عشرة أحوال.
ولما سار عامر بن إسماعيل صاحب السَّفَّاح في طلب [65/ب]
مروان بن مُحمد اعترضه بالفَيُّوم ناس، فسأل رجلًا منهم عن اسمه فقال: منصور بن
سعد من سعد العشيرة. فتبسم تفاؤلًا به، فظفر بمروان في تلك الليلة.
وتفاءل المأمون بمنصور بن بسام فكان ذلك سبب مكانته عنده.
__________
(1) () المخشاة: الخشية.
(2) () الوجيب: خفقان القلب واضطرابه.
(1/18)
وقال
بعضهم: خرجت في بغاء ناقة لي ضلَّت، فسمعت قائلًا يقول:
~ ولئن بعثت لنا البغاة فما البغاة بواجدينا
فلم أتطيَّر أن أحول منه ومضيت، فلقيني رجل قبيح الصورة به ما شئتَ من عاهة، فما
ثناني ذلك وتقدمتُ، فلاحت لي أَكَمَة فسمعت منها: والشر تلقى مطالع الأكم. فلم
أكترث له، فلما علوتها وجدت ناقتي تفاجَّتْ للولادة فنتجتها وعدت إلى أهلي مع
ولدها.
وقال بشير غلام حرب الرَّاوَنْدي للمنصور يومَ قتلِ أبي مُسلم: يا أمير المؤمنين،
رأيت اليوم ثلاثة أشياء تطيرت لأبي مسلم منها. قال: وما ذاك؟ قال: ركب فوقعت
قَلَنْسُوته عن رأسه، وكَبَا به فرسه، وسمعته يقول: إني مقتول وإنما أخادع نفسي،
فإذا رجل ينادي في الصحراء: لآخر اليوم آخر الأجل بيني وبينك. فقال المنصور: الله،
ذهب أجله وانقطع من الدنيا أثره، فكان كذلك.
~ ألا أيها الغادي على ذمّ طائر ... ليلزمه جرمًا وليس له جرم
~ وما لغراب البَين بالبَين خبرة ... ولا لغراب البين بالملتقى علم
وخرج النابغة الذبياني - واسمه زياد - مع زَبَّان بن سَيَّار الفَزارِي للغزو،
فلما أراد الرحيل نظر إلى جرادة سقطت عليه فقال:
~ جرادة تجرّدت وذات ... لونين غيري من حرج
فلم يلتفت زَبَّان إلى طيرته وسار فرجع غانمًا، فقال زبان:
~ تخير طيرة فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير
~ أقام كأن لقمانَ بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
~ يعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو البتور
~ بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحاييناَ وباطله كثير
...... (1) [66/أ]
تقدم ذكرها وكذا في كتاب الوقف وآخر التفسير.
__________
(1) () هنا جملة غير واضحة في الأصل.
(1/19)
وقال
البُخارِي في باب السحر من الموبقات:5763 - تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ (1)، وَأَبُو
ضَمْرَةَ، وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عن أبيه، عن عائشة. [خ 5763]
وَقَالَ: اللَّيْثُ بن سعد، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ: «فِي مُشْطٍ
وَمُشَاقَةٍ».ذكر الدَّارَقُطْني في كتاب «العلل الكبير» من هذه المتابعات متابعة
اللَّيث وابن عُيَيْنَة وأبي أسامة وأبي ضمرة. وأخرج البُخارِي نفسه حديث أبي
أسامة في «الصحيح» عن عبد الله بن إسماعيل عنه. وحديث أبي ضَمْرة رواه عن إبراهيم
بن المثنى عنه، وحديث ابن عُيَيْنَة رواه إسماعيل عن عبد الله بن مُحمَّد عنه.
وقوله: (أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ) أي: أجابني
فيما دعوته، سمَّى الدعاء استفتاء، لأن الداعي طالب، والمجيب مُفتٍ، فاستعير
أحدهما للآخر. وقوله: (جَاءَني رَجُلان) أي: ملكان في صورة رجلين، وظاهره يقتضي أن
يكون يقظة، وإن كان منامًا فرؤياه وحي. وقوله: (في مُشْط ومِشَاطَة) الْمشْط:
بِضَم الْمِيم وسكون الشين وَضَمِّهَا، وبكسر الْمِيم وسكون الشين، ومِمْشط ومِشطأ
بالهمز وتركه، ومِشطاء ممدود، وممكّد ومرجَّل، وقَليم بفتح القاف ذكره الزاهد في
«التواقيت».والمشط نبتٌ صغير يقال لها مشط الزيت (2)، والمُشط: سلاميات ظهر القدم،
مشط الكتف: العظم العريض. قال القُرطُبي: يحتمل أن يكون الذي سُحر فيه صلى الله
عليه وسلم أحد هؤلاء الأربعة. وفي «المحكم»: والمشط سمةٌ من سمات البعير يكون في
العين والفخذ، والمشط سبحة فيها أسنان وفي وسطها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الجب.
وأما الجُفُّ: بجيم مضمومة بعدها فاء كذا هو المشهور. وقال أبو عمر: روي بالباء
الموحدة.
__________
(1) () في الأصل: أسامة.
(2) () في فتح الباري: مشط الذنب، وفي عمدة القاري: مشط الذئب.
(1/20)
قال
النووي: أكثر نسخ بلادنا بضم الجيم والباء الموحدة، وفي بعضها بالفاء وهما بمعنى
واحد وهو [66/ب] الغشاء الذي يكون على الطلع، ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده
في الحديث بقوله: «طلعة ذكر»، بإضافة «طلعة» إلى «ذكر»، انتهى. ذكر القُرطُبي أن
الذي بالفاء هو وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون عليه، وبالباء. قال شَمَّر: أراد
به داخل الطلعة إذا خرج منها الكُفُرى، كما يقال: لداخل الرَّكِيَّة من أسفلها إلى
أعلاها جُب، وقيل فيه: إنه من القطع؛ يعني: ما قطع من قشورها. (في بِئْرِ
ذَرْوَان): كذا في البُخارِي، وفي بعض نسخه: «ذي أَرْوان»، وهو بالمدينة في بني
زُرَيق. ووقع في كتاب الدعوات منه: «ذروان في بني زُرَيق».وعند الأَصِيلي عن أبي
زيد: «ذي أوان» بواو من غير راء، قال ابن قُرْقُول: هو وهم، إنما «ذو أوان» موضع
آخر على ساعة من المدينة، وبه بني مسجد الضرار. وقال ابن التِّين: «ذروان» ضبط في
بعض الكتب بفتح الراء، وهو الذي قرأته، وفي بعضها بسكونها، وهو أشبه في العربية؛
لأن حروف العلة إذا تحركت وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا. وفي كتاب البَكري: قال
القُتَبِي: هي بئر أَرْوان، بالهمز مكان الذال. وقال الأَصْمَعِي: وبعضهم يخطئ
فيقول: ذَرْوان. وقوله: (نُقاعَة الحِنّاء) بضم النون ومد الحنّاء. وقوله: (كأنَّ
نخلَها رُؤوسُ الشَّياطِين) قال ابن التِّين: يعني أن السِّحر عملَ في النخل، حتى
صار أعلاها أو على طلعها كأنَّه رؤوس الشياطين. وعن الفَرَّاء فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يشبه طلعَها في قُبحِه برؤوس الشياطين؛ لأنها موصوفة بالقبح. ثانيها: أن
العرب تسمي بعض الحيَّات شيطانًا. الثالث: يقال إنه نبت قبيح يسمى رؤوس الشياطين
باليمن، يقال: إنه الأسربات (1).
__________
(1) () ليست واضحة في المخطوط وذكر في التوضيح لان الملقن هنا كلمة الأسربات وذكر
المحقق أنها ليست واضحة في الأصل أيضًا.
(1/21)
وزعم
القُرطُبيأنَّ هذه الأرض التي فيها النخيل والبئر خرابٌ لا تعمر لرداءتها، فبئرها
معطلة ونخلها مهملة، وتغير ماء البئر إما لرداءته وطول إقامته، وإما لما خالطه مما
ألقي فيه. وفي رواية عند البُخارِي: «طبّهُ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ (1)، رَجُلٌ
مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ وكَانَ مُنَافِقًا».وعند النَّسائي: «لبَيد
بن الأعْصم رجل من اليهود».قال أبو الفَرَج: وهذا يدل على أنه كان أسلم وهو منافق.
و (الرَّاعُوفَة): البئر، وراعوفها وأرعوفها: حجر ناتئ على رأسها لا يستطاع قلعه
يقوم عليه المستقي. وقيل: هو في أسفلها، قاله ابن سِيْدَه. وقال أبو عُبَيد بن
سَالم: هي صَخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت تكون باقية هناك، فإذا أرادوا تنقية
البئر جلس المنقي فوقها. وقيل: هو حجر يأتي فِي بعض الْبِئْر صلبًا لَا يُمكنهُم
حفره فَيتْرك على حَاله. و في «التهذيب» للأزهري: قال شَمَّر عن خالد: راعُوفة
البئر: النطَّافة، قال: وهي مثل عَين على قَدْر جُحْر العَقرب نِيطَ في أعلى
الرَّكِيَّة، فيجاوزونها في الحفر خَمْس قِيَم فأكثر، فربما وجدوا ماء كثيرًا
تَحْبِسه. قال شَمَّر: من ذهب بالرَّاعوفة إلى النطَّافة فكأنه أخذه من رُعاف
الأنف، وهو: سَيَلانُ دمِه وقطرانُه، ويقال ذلك سَيَلان الأذنين (2)، وأنشد قوله:~
كِلا مِنْخَرَيْهِ سَابِقًا ومعشرًا ... بما انفضَّ مِن مَاء الخياشيم رَاعِفُومن
ذهب بالراعوفة إلى الحَجَر الذي يتقدم طيَّ البئر على ما ذكر عن الأَصْمَعي، فهو
مِن رَعَف الرَّجل أو الفَرَس إذا تقدم وسَبَق، وكذلك استرعف. قال ابن بَطَّال:
واختلفوا في النُّشرة فذكر عبد الرزاق، عن عَقيل بن مَعْقِل عن هَمّام بن مُنَبِّه
قال: سئل جابر بن عبد الله عن النُّشرة فقال: مِن عَمَل الشيطان.
__________
(1) () في المخطوط "الأعصم" وما اثبتناه من البخاري المطبوع.
(2) () غير واضحة في الأصل ولعلها الأذنين.
(1/22)
وقال
الشَّعبي: لا بأس بالنُّشرة العربية التي لا تضر إذا وطئت، وهي أن يخرج الإنسان في
موضع عضاه فيأخذ عن يمينه وشماله من كلٍ [67/ب] ثم يدبغه ويقرأ فيه ثم يغتسل به.
وفي كتب وَهْب بن مُنَبِّه: أن يأخذ سبع ورقات من سِدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم
يضربه بالماء ثم يقرأ فيه آية الكرسي، وذوات «قُلْ»، ثم يحسو منه ثلاث حَسَوات
ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل عاهة، وجيدٌ للرجل إذا حبس عن أهله. وتركُهُ صلى الله
عليه وسلم النكيرَ على عائشة لمّا ذكرت له النُّشرة دليلٌ على جواز استعمالها. وفي
«فتاوى أبي يعقوب يوسُف الخاصيِّ الصُّغرى»: السَّاحر لا يُستتاب في قول أبي حنيفة
ومُحمّد خلافًا لأبي يوسف، والزنديق يُستتاب عند أبي يوسف ومُحمَّد، وعند أبي
حنيفة روايتان. وقال ابن بَطَّال: واختلف السلف هل يقتل الساحر على حلِّ مَن سحره؟
فأجازه سعيد بن المسَيَّب، وكرهه الحسن بن أبي الحسن وقال: لا يَعلم ذلك إلا ساحر.
ولا يجوز إتيان الساحر لما روى سُفْيان عن أبي إسحاق عن هُبَيرة عن ابن مَسْعود:
«من مشى إلى ساحر أو كاهن فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على مُحمَّد صلى الله
عليه وسلم».قال الطبَري: وليس ذلك سواء، وذلك أنَّ مسألةَ الساحر عقدُ السِّحر
مسألة منه (1) أن يضر من لا يحل ضرره، وذلك حرام، وحل السحر عن المسحور نفع له.
وقد أذن الله تعالى لذوي العلل في العلاج على صفة دون صفة وأمر بالتعالج. ونهيه
صلى الله عليه وسلم عن إتيان الساحر لما هو على التصديق له فيما يقول، وأما من
أتاهم لغير ذلك وهو عالم به وبحاله فليس بمنهي عنه ولا عن إتيانه. 5767 - قوله:
«مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا» تقدَّم في النكاح. قوله: (العَجْوَة) تقدَّم في
الأطعمة. وحديث العدوى تقدم قريبًا. وحديث السّمّ تقدَّم في المغازي.
__________
(1) () هكذا في المخطوط وهي غير واضحة المعنى.
(1/23)
[باب
شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث] قال ابن التِّين قول البُخارِيّ:
(بابٌ: شُرْب السُّمّ والدَّوَاء بِهِ وَمَا يُخَاف مِنْه) وأراد مَن شَرِبَهُأن
يقتل نفسه، وقد يتداوى بيسير السُّم إذا جُعل مع غيره. 5778 - وقوله: (سَمًّا) فيه
ثلاث لغات: الفتح اللغة الغالبة، والكسر والضم ذكره في «المطالع».وقوله: (خالدًا
مُخَلّدًا) قيل: إنه محمول على مَن فَعَله مستحلًا مع علمه بالتحريم (1)، فهذا
كافر. وقيل: المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام، كما
يقال: خلَّد الله ملك السلطان. وقيل: هذا جزاؤه، ولكن المولى جلَّ وعزَّ تكرم عليه
أنه لا يخلده في النار لكونه مسلمًا. وقوله: (فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ
بِهَا بَطْنَهُ) بالهمزة وبالتسهيل ومعناه يطعن. قال عِياض: وفيه دليل على أن
القصاص من القاتل يكون بما قتل به محددًا كان أو غيره اقتداء بعقاب الله لقاتل نفسه.
قال النَّووي: وهذا استدلال ضعيف. قال ابن التِّين: وقيل إن هذا قاله صلى الله
عليه وسلم في كافر بعينه، فحمله الراوي على ظاهره، والله تعالى أعلم. كِتَابُ
اللِّبَاسِ باب: قَوْلِ اللَّهِ جلَّ وعزَّ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32].وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ
مَخِيلَةٍ».هَذَا التَّعْلِيق رواه ابْن أبي شَيبة عَن يزِيد بن هَارُون: أَخبرنا
هَمَّام عَن قَتَادَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ رَسُول
الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أَبِيْ، وحدثنا عن
الفَضل بن الصبَّاح عن أبي عبيدة الحدَّاد عن هَمَّام عن قَتادة عن عمرو بن شعيب
عن أنس ومَعْبد: «كلوا واشربوا» الحديث.
__________
(1) () يوجد إشارة لعلها متعلقة بالكلام في الحاشية
(1/24)
قال
أبي: أخطأ فيه إنما هو قَتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. [68/ب] وعن ابن
عَبَّاس: «كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبِسْ مَا شِئْتَ مَا أخْطيتَ اثْنَانِ: سَرفٌ
أَوْ مَخِيلةٌ».هذا التعليق أيضًا رواه أبو بكر في «مصنفه» عن ابن عُيَيْنَة، عن
إبراهيم بن مَيْسَرة عن طاوس عنه. قال ابن التِّين: كذا وقع بغير همز، وصوابه:
«أخطأَتْك».قال الجوهري: يقال أخطأتُ ولا يقال أخطيتُ .... عن ابن عمر مرفوعًا:
«لا ينظر الله إلى من جرَّ ثوبه خيلاء».زاد الترمذي: «فقالت أم سلمة: كَيْفَ
يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا، فَقَالَتْ: إِذًا
تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: يُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لاَ يَزِدْنَ
عَلَيْهِ».وعند البُخارِي (1) من رواية سالم عن أبيه فقال ... : فقال أبو بكر: يا
رسول الله إنَّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:
«إنك لست ممن يصنعه خيلاء».وعند ابن أبي شَيبة عن عبد الله بن أبي الهذيل أن أبا
بكر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن موضع الإزار فقال: «مستدق الساق فيما أسفل من
ذلك ولا خير فيما فوق ذلك» انتهى. يعارض هذا ما رواه أيضًا من حديث أبي مكين عن
خالد أبي أمية: «أن عليًا اتزر فلحق إزاره بركبتيه».وقد تقدم حديث ابن عمر من عند
البُخارِي: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ، خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ
يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».وحديث أبي هُرَيْرَة: «مَا
أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَهو فِي النَّارِ».وفي لفظ: «لاَ
يَنْظُرُ اللَّهُ يوم القيامة إِلَى مَنْ جَرَّ إزاره بطرًا».وعنه بلفظ:
«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ إِذْ خسفَ بِهِ،
فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ يعني إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ».
__________
(1) () في الحاشية جملة: يا رسول الله، لم أجد لها مكانا.
(1/25)
وعند
ابن أبي شيبة بسندٍ لا بأس به عن ابن مَسْعود: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن جرِّ الإزار».وعن ابن عَبَّاس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا
ينظر إلى المُسْبِل إزارَه».وعن عبد الله بن عمرو يرفعه: «لا يَنْظر الله إلى الذي
يُجُرُّإِزَاره خيلاء».وعن أبي ذر يرفعه: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة
المسبل إزاره».وبسند صحيح: «أن ابن مَسْعود كان يسبل، فقيل له في ذلك، فقال: إني
حَمْشُ السَّاقَين».وروى الترمذي مصححًا عن حذيفة قال: «أخذ سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعَضَلة ساقِي أو ساقِه، وقال: هذا موضعُ الإزار، فإن أبيتَ فأسفل،
فإن أبيتَ فلا حقَّ للإزار في الكعبين».وعند النَّسائي من حديث الأشْعث بن سليم:
سمعتُ عمتي تحدِّث عن عمه أنه كان بالمدينة فسمع قائلًا: ارفع ثوبك فإنه أتقى
وأنقى وأبقى (1)، فنظرتُ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنما هي
بُرْدَة مَلْحَاء. قال: «أوَ مَا لَكَ فيَّ أُسوة؟ فنظرتُ فإذا إزاره إلى نصف
الساق».وعند أبي داود عن ابن عَبَّاس وقال له عِكْرِمة وقد اتّزر فوضع حاشية إزاره
من مُقَدَّمِه على ظهر قدمه ورفع من مُؤَخَّرِه، فقلت: لِمَ تَأتَزِر هَذه
الأِزْرَة؟ قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتزرها. وعند مسلم عن ابن عمر قال
النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله ارفَع إزارك، فرفعتُه، ثم قال: زِد،
فزدتُّ، قال بعض القوم: إلى أين؟ قال: إلى أنصاف الساقين».وعند أبي داود عن أبي
سعيد [1/أ] يرفعه: «إِزْرَة المؤمن إلى أنصاف الساقين، لا جناح عليه فيما بينه
وبين الكعبين، ما أسفل من الكعبين ففي النار، لا ينظر الله إلى من جر إزاره
بطرًا».وروى ابن أبي شيبة حديثًا عن ابن عمر مرفوعًا: «الإسبال في الإزار والقميص
والعمامة، من جر منها شيئًا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة».
__________
(1) () في الحاشية يوجد كلام غير واضح.
(1/26)
وقوله في حديث ابن عمر:5790 - تَابَعَهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. [خ 5790] وصله الإسماعيلي عن الهِسِنْجاني، حدَّثنا محمد بن مسلم، وأخبرنا القاسم، حدَّثنا ابن زَنْجُوَيه قالا: حدثنا أبو اليمان عن شعيب عن الزهري، أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر قال: «بينما امرؤ جر إزاره» الحديث. وروى البخاري من حديث سعيد بن عُفير، حدثني الليث، حدثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل يجر»، هو المشار إليه في ذكر بني إسرائيل عقب حديث يونس عن الزهري مرفوعًا بقوله: تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. [خ 3485] وقوله أيضًا: وتَابَعَهُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَزَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ. [خ 5791] أما حديث جبلة: ففي «صحيح مسلم» والنسائي، وقد ذكره البخاري في كتاب اللباس مسندًا في أول الكتاب أيضًا. وَقَالَ: اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، مِثْلَهُ. يريد بقول الليث هنا ما خرجه مسلم في «صحيحه» عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن الليث أيضًا. وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. يريد ما سلف مسندًا عنده. وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ. يريد بذلك ما خرجه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب عنه.
(1/27)
وروى
ابن أبي شيبة عن [أبي] جري الهُجيمي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [1/ب]
«الإزار إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك والمخيلة، فإن الله لا يحب
المخيلة» (1).ومن حديث أبي قَزَعة عن الأَسْقَع بن الأَسْلَع، عن سمرة بن جندب عن
النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار».وعن عثمان بن
عفان: «كان إزاره إلى نصف ساقيه، وقال: هذه إِزْرَة حبيبي، يعني النبي صلى الله
عليه وسلم».وعن حصين بن قبيصة عن المغيرة بن شعبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم
لسفيان بن سهل: «لا تسبل، فإن الله لا يحب المسبلين».قال صاحب «التنبيه»: اختلف في
السدل في غير الصلاة؟ فقيل: يكره بدون القميص، ولا يكره على القميص وفوق الإزار،
وقيل: يكره كما في «الكفاية»، والصحيح أنه لا يكره (2).وقوله: تَابَعَهُ يُونُسُ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ. [خ 5790] أخرج هذه المتابعة الإسماعيلي عن ابن ... (3)،
حدَّثنا محمد بن عبد الرحيم، حدَّثنا عتاب بن زياد، حدَّثنا ابن المبارك قال: ...
بن أحمد بن شَبيب، حدَّثنا أبي شَبيب عن يونس عن الزهري فذكره.
__________
(1) () الحديث غير واضح في الأصل، وفي «المصنف» قريب مما في المخطوط، وهو عبارة عن
حديثين دخل بعضهما في بعض:×- الأول: عن أبي تميمة الهُجيمي عن أبي جري الهُجيمي
قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال: لا
تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، وإياك وإسبال الإزار فإنها من
المخيلة».×- الثاني: عن حذيفة قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسفل عضلة
ساقي أو ساقه فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت
فلا حق للإزار في الكعبين».
(2) () وقع في هامش الأصل هنا تعليق ولكنه غير مقروء.
(3) () غير واضحة في الأصل.
(1/28)
حديث زوج رفاعة [5792] المتقدم في باب: «الإزار المُهَدَّب»:قال المهلب: ليس فيه أكثر من أن الثياب المُهَدَّبة من لباس السلف وأنه لا بأس بها. وقال ابن التين: هي التي لم يكف من أسفلها، وهدب الثوب وهدابه: تباعد أطرافه. وقال الداودي: هو ما بقي من الخيوط من أطراف الأردية والأزر، يكون لها كالكف لئلا ينسل، وليس ذلك من الخيلاء. قال الهَرَوي: هدبت الشيء قطعته. وحديث جابر عند أبي داود: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ بشَمْلة، وقد وقع هدبها على قدميه»، وفيه: «وإياك [2/أ] وإسبال الإزار فإنه من المخيلة».- الثاني: عن حذيفة قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسفل عضلة ساقي أو ساقه فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين». وقال في: باب الأَرْدِيَةِوَقَالَ أَنَسٌ: «جَبَذَ أَعْرَابِيٌّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم».يريد بذلك ما ذكره هو في باب البرود والحِبَرة بعدُ مسندًا. الحديث في: بَابُ لُبْسِ القَمِيصِفي إلباسه صلى الله عليه وسلم القميص عبد الله بن أبي قميصه المذكور في كتاب اللباس. وكذا حديث ابن عمر [5794] المذكور في الحج. وكذا حديث: ليس فيها قميص رواه الترمذي عن أم سلمة: «كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص» وقال: حسن غريب، إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن بن خالد عن عبد الله بن بُريدة عن أم سلمة. وروى بعضهم هذا الحديث عن أبي تُميلة عن عبد المؤمن عن عبد الله بن بُريدة عن أمه عن أم سلمة، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث ابن بُريدة عن أمه عن أم سلمة أصح. وعن أسماء بنت يزيد ابن السكن قالت: «كان كم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ»، وقال: حسن غريب.
(1/29)
وعن أبي هريرة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصًا بدأ بميامنه»، قال أبو عيسى: روى هذا الحديث غير واحد عن شعبة ولم يرفعه، وإنما رفعه عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة، ومن هذا الوجه أخرجه البُسْتي في «صحيحه».وعن أبي سعيد: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اسْتَجَدَّ ثوبًا سماه باسمه، عمامة أو قميصًا أو رداء» الحديث. وروى أبو داود أن حماد بن سلمة وعبد الوهاب أرسلاه. وذكر ابن العربي في كتاب «سراج المريدين»: ما سمعت للقميص ذكرًا صحيحًا إلا قوله تعالى: {اِذْهَبُوُا بِقَمِيْصِيْ} [يوسف: 93]، وحديث ابن أبي وتكفينه. [2/ب] وقد لبسه أبو بكر الصديق، وابن عباس، وأبو قتادة، وسعد بن أبي وقاص، وابن أبي أوفى، وجابر وأنس وأبو سعيد وأبو هريرة وابن الزبير وعائشة، ومن التابعين الأحنف بن قيس وابن أبي ليلى وشُريح والشعبي وعروة وأبو بكر بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز أيام إمارته. وزاد ابن أبي شيبة في «المصنف»: القاسم بن محمد وعبيد الله بن عبد الله والحسين بن علي وأبا بكرة وقيس بن أبي حازم وشُبيل بن عَزْرة وأبا عبيدة بن عبد الله ومحمد بن علي بن حسين وعلي بن حسين وسعيد بن المسيب وعلي بن زيد وابن عون. وعن خيثمة: أن ثلاثة عشر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الخز. قال ابن بطال: وروي عن مالك أنه قال: لا يعجبني لبس الخز ولا أحرمه. قال الأبهري: إنما كرهه لأجل السرف ولم يحرمه من أجل من لبسه، وقد كرهه ابن عمر وسالم والحسن ومحمد وابن جبير. وعند أبي داود من حديث عبد الله بن سعيد عن أبيه قال: «رأيت رجلًا ببخارى على بغلة عليه عمامة خز سوداء، فقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النسائي: قال بعضهم: قيل: إن هذا الرجل عبد الله بن حازم السلمي أمير خراسان. ولما ذكره البخاري في «تاريخه» قال: ما أرى أنه أدرك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/30)
وقال
أبو داود: وقد لبس الخز من الصحابة عشرون نفسًا، أقل أو أكثر. ذكر الزاهدي: أن ما
كان من الثياب الغالب عليه القز كالخز وغيره فلا بأس به، ويكره ما كان ظاهره القز،
وكذا ما كان خط منه قز وهو ظاهر فلا خير فيه. وظاهر مذهب أبو حنيفة عدم الجمع في
المتفرق إلا إذا كان خط منه خز وخيط منه غيره بحيث يرى كله خزًا [3/أ] فلا يجوز،
فأما إذا كان كل واحد مستبينًا كالطرز في عمامته فظاهر المذهب أنه لا يجمع، والله
تعالى أعلم. بَابُ لُبْسِ القَمِيصِ فذكر:
5795 - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ
فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ،
وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ (1). [خ 5795]
وحديث ابن عباس وابن عمر [5794] ذكرا في الحج.
وأما ما وقع في باب: «الأكسية والخمائص» في نسخة أبي محمد عن أبي أحمد من قوله:
__________
(1) () الجملة غير واضحة في الأصل، والمثبت من البخاري.
(1/31)
5815 - عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عن أبيه، أَنَّ عَائِشَةَ، وابْنَ عَبَّاسٍ، أخبراه، لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .. [خ 5815] فذكر الجياني أن قوله: «عن أبيه» وهم، والصواب: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة وابن عباس، لا ذكر لأبيه فيه. قال مالك: العِمَّةُ والاحتباءُ والانتعال من عمل العرب. وسئل مالك عن الذي يعتمُّ بالعمامة ولا يجعلها من تحت حلقه فأنكرها، وقال: ذلك من عمل النبط، وليست من عِمَّةِ الناس، إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ أو يفعل ذلك في بيته أو في مرضه فلا بأس به، قيل له: فيرخي بين الكتفين؟ قال: لم أر أحدًا ممن أدركته يرخي بين كتفيه إلا عامر بن عبد الله بن الزبير، وليس ذلك بحرام، ولكن يرسلها بين يديه وهو أكمل. ورد عند أبي داود من حديث الحسن بن علي قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه».وروى الترمذي محسنًا عن ابن عمر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعْتَمَّ سدل عِمامته بين كتفيه»، قال نافع: وكان ابن عمر يفعله، قال عبيد الله بن عمر: ورأيت القاسم وسالمًا يفعلان ذلك. وفي كتاب «الجهاد» لابن أبي عاصم: حدَّثنا أبو موسى حدَّثنا عثمان بن عمر عن الزبير بن جوان، عن رجل من الأنصار قال: «جاء رجل [3/ب] إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن! العمامة سنة؟ فقال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن ابن عوف: اذهب فأسدل عليك ثيابك وألبس سلاحك، ففعل، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض ما سدل بنفسه ثم عممه فسدل من بين يديه ومن خلفه».وعند أبي داود من حديث شيخ من أهل المدينة قال عبد الرحمن بن عوف: «عمَّمَني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي».
(1/32)
قال ابن أبي شيبة: وحدثنا الحسن بن علي، حدَّثنا ابن أبي مريم، عن رِشدين عن عُقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّمَ عبد الرحمن ابن عوف بعمامة سوداء من قطن وأفضل له من بين يديه مثل هذه».ومن حديث شهر بن حوشب عن عائشة قالت: «رأيت جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة حُرْقانيَّة فسدلها بين كتفيه».وحدثنا المسيب ابن واضح، حدَّثنا عبد الله بن نافع، عن ابن جريج، عن نافع، عن عبد الله قال: «عمَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَ عوف بعِمامة سوداء كرابيس وأرخاها من خلفه قدر أربع أصابع، وقال: هكذا فاعتم، فإنه أجمل».قال أبو حاتم في كتاب «العلل»: ابن جريج لم يسمع منه ابن نافع شيئًا، والحديث باطل. ومن حديث موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر من حديث جابر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء» وسنده صحيح. وعند ابن أبي عاصم: «وعليه عمامة سوداء».ومن حديث جعفر بن عمرو بن حُريث عن أبيه: «قد أرخى طرفها بين كتفيه» وسنده صحيح. وعن ابن عمر: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه» وكان ابن عمر يفعله. ومن حديث أشعث بن سعيد: أخبرني عبد الله هو ابن بسر الحُبراني عن أبي راشد الحُبراني: سمعت عليًا قال: [4/أ] عمَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بعمامة سوداء، سدل طرفها على منكبي وقال: «إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين بهذه العمة»، وقال: «العمامة حجز بين المسلمين والمشركين».وفي حديث أبي عبيدة الحمصي عن عبد الله بن بسر: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا يوم خيبر فعممه بعمامة سوداء أرسلها من ورائه وعن منكبه اليسرى».وفي «الشمائل» للترمذي بسند جيد عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة دسماء».
(1/33)
وعند أبي داود عن رُكانة قال صلى الله عليه وسلم: «فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس».وفي «العلل» للترمذي من حديث أبي المليح عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعتموا تزدادوا حلمًا» وقال: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: عبيد الله بن أبي حميد راويه عن أبي المليح ضعيف ذاهب الحديث، لا أروي عنه شيئًا. وذكر الكلبي عن الشرقي بن القِطامي: أن أول من اعتم من العرب عدي بن نُمَارة بن لخم بن عدي بن الحارث بن مرة بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فلقب: عممًا. قال الجواني: كانوا قبل ذلك يلبسون عصائب الملك وتيجانه. وفي «الكامل» للمبرد: لما طلق خالد بن يزيد بن معاوية آمنة بنت سعيد بن العاصي بن أمية قال فيها:~فتاة أبوها ذو العصابة وابنه أخوها فما أكفاؤها بكثيروزعم الدمياطي أن هذا قاله عمرو بن سعيد حين خطبها عبد الملك، قال: وزعم بعضهم أن هذا اللقب إنما لزمه للسيادة، وذلك أن العرب تقول: فلان معتم، يريدون أن كل جناية يجنيها الجاني من قبيلته معصوبة برأسه. وقال المبرد: يعني بذي العاصبة؛ أباها سعيد بن العاص، وذلك أن قومه يذكرون أنه كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظامًا له وينشدون: [4/ب] ~أبو أُحيحة من يعتم عمته يُضرب وإن كان ذا مال وذا ولدوذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد في كتابه «الوشاح» أن ذا العصابة هو أبو أُحيحة خالد بن سعيد بن العاصي، قال: ويقال له: ذو العمامة أيضًا. وفي «قطب السرور» للرفيق: كان حرب بن أمية أبو أبي سفيان بن حرب له عمامة سوداء، إذا لبسها لم يعتم ذلك اليوم أحد. قال الزاهدي: لف العمائم الطويلة ولبس الثياب الواسعة حسن في حق الفقهاء الذين هم أعلام الهدى دون الناس. وفي الحديث: «صلاة بعمامة خير من سبعين صلاة بغير عمامة».وروي: «من صلى وجنبه مشدود كان خيرًا ممن صلى سبعين صلاة وجنبه مكشوف». [باب التقنع] حديث التقنع [5807] تقدم أول الصلاة.
(1/34)
قال الإسماعيلي: ما ذكره من العصابة لا يكون له مدخل في التقنع لتغطية الرأس، والعصابة لشد الخرقة على ما أحاط بالرأس كله. وحديث المِغْفَر [5808] تقدم في الحج. وحديث خباب تقدم مرفوعًا في الصلاة. وحديث أنس [5809] تقدم قريبًا. وحديث سهل [5810] تقدم. وكذا حديث أبي هريرة [5811] وأنس [5812] وعائشة [5814] تقدم في الصلاة. واشتمال الصماء [5819] تقدم في الصلاة. وكذا الخميصة [5823] تقدم. وحديث رفاعة [5825] تقدم في النكاح. وكذا ما بعده. بَابُ لُبْسِ الحَرِيرِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ، وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ
(1/35)
5834 - حدَّثنا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي ذِبْيَانَ. [خ 5834] كذا روي عن الفربري بذال معجمة ونون وهو الصواب. وقال الأصيلي: في كتب بعض أصحابنا عن أبي زيد، عن أبي دينار بالراء، وكذا ذكره البخاري في «التاريخ»، والذي عند مسلم وابن الجارود والدارقطني بالنون، وقاله أيضًا أحمد بن حنبل, ولعل الذي في «تاريخ البخاري» تصحيف من الكاتب؛ لأنه لم يتعقب من البخاري بحرف [5/أ] لمعجم، وكان في نسخة محمد بن راشد بخطه وروايته عن أبي علي بن السكن عن أبي ظبيان بالظاء المشالة المعجمة، وهو خطأ فاحش؛ إنما هو بذال معجمة. وذكر حديث عمر:5828 - أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ، قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الأَعْلاَمَ. [خ 5828] وفي لفظ:5829 - وَصَفَّ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِصْبَعَيْهِ، وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ. [خ 5829] وفي رواية:5830 - وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ، بِإِصْبَعَيْهِ: المُسَبِّحَةِ وَالوُسْطَى. [خ 5830] وعند مسلم: «نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع».وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: «أنه كان ينهى عن الحرير والديباج».وفي حديث زِرٍّ عنه موقوفًا: «لا تلبسوا من الحرير إلا إصبعين أو ثلاثة».وفي لفظ قال عمر: «لا يصلح من الحرير إلا ما كان في تكفيف أو تزرير».وزعم الدارقطني: أن جماعة وقفوا هذا اللفظ، وفي لفظ: ولم يرخص في الديباج إلا موضع أربع أصابع، وقال الدارقطني: فنحا به نحو الرفع، وضَعَّفَ رواية من روى: «ولا تلبسوا الديباج ولا الحرير، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» وصححه من رواية حذيفة.
(1/36)
ولما ذكر ابن أبي حاتم في «العلل» عن أبي زرعة حديث قتادة عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان: «أنه كتب إلى عامل الكوفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا قدر إصبعين وثلاثة» قال: هذا خطأ، إنما هو قتادة عن أبي عثمان عن عمر. وقوله إثر حديث عمران بن حِطان:5835 - وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ. [خ 5835] يشبه أن يكون أخذه عنه مذاكرة. ومن حديث حوشب عن ابن عباس عند أبي داود: «إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير وسداء الثوب فلا بأس به».ولابن حزم من طريق فيها ضعف عن الحكم [74/أ] ابن عمير ـ وله صحبة ـ قال: «رخص صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير عند القتال».وقد تقدمت رخصته لعبد الرحمن في لبسه من الحكة. ذكر الزاهدي: أن العمامة إذا كانت طرتها قدر أربع أصابع من إبريسم بأصابع عمر بن الخطاب، وذلك قيس شبرنا يرخص فيه، والأصابع لا مضمومة ولا منشورة كل النشر. وقيل: أربع أصابع كما هي على هيئتها لا أصابع السلف، وقيل: أربع أصابع منشورة. وقال بعضهم: التحرز عن مقدار المنشورة أولى. والعلم في العمامة في مواضع، قال بعضهم: تجمع، وقيل: لا تجمع. ولا بأس بالعلم المنسوج بالذهب للنساء، وأما الرجال فقدر أربع أصابع وما فوقه يكره، فإن كان نظره الدائم إلى الثلج يضره فلا بأس أن يسدل على عينيه خمارًا أسود من إبريسم. قال: ففي العين الرمدة أولى، وقيل: لا يجوز. وعن أبي حنيفة: لا بأس بالعلم من الفضة في العمامة قدر أربع أصابع، ويكره من الذهب، وقيل: لا يكره، والذهب المنسوج في العلم كذلك. وعن محمد: لا يجوز، ويجوز لبس الثوب والقلنسوة المنسوجة. وقال في: بَابُ مَنْ مَسِّ الحَرِيرِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍوَيُرْوَى فِيهِ عَن الزُّبَيْدِيِّ عَن الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1/37)
قال
البخاري: 5834 - وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ عَنْ
يَزِيدَ. [خ 2834] هذا التعليق رواه الإسماعيلي عن الحسن، حدَّثنا يعقوب بن سفيان،
حدَّثنا أبو معمر. محمد بن الوليد الزبيدي: هذا ذكره أبو الحسن الدارقطني في كتاب
«الأفراد والغرائب» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له حلة من إستبرق،
وقال: تفرد به محمد بن الوليد عن الزهري ولم يروه غير عبد الله بن سالم الحمصي.
وحديث البراء [5836] تقدم. وليس النهي عن لبس الحرير من أجل لمسه، فيحرم منه اللبس
(1). وقال البخاري في: بَابُ افْتِرَاشِ الحَرِيرِوَقَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ
كَلُبْسِهِولا يكره الاستناد إلى الوسادة من الديباج. قال [6/أ] الزاهدي: لا يجوز
استعمال اللحاف من الحرير؛ لأنه نوع لبس. قال ابن بطال: هذا الباب رد على من أجاز
افتراش الحرير والديباج وأن يجلس عليه، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، وروى وكيع
عن مسعر عن راشد مولى بني تميم: رأيت في مجلس ابن عباس مرفقة حرير. والجمهور على
خلافه، وحجتهم حديث أبي هريرة: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الحرير وعن
الجلوس عليه».وتقدم طرف منه في كتاب البيوع. ولا بأس بملاءة حرير توضع في مهد
الصبي لأنه ليس بلبس، وكذا الحلة من الحرير للرجال لأنها كاليسير. ولبس الحرير فوق
الدثار لا يكره عند أبي حنيفة؛ لأنه اعتبر حرمة استعمال الحرير إذا كان يتصل
ببدنه، وأبو يوسف اعتبر المعنى يعني اللبس، قال: وهذا تنصيص عند أبي حنيفة، ولا
يكره لبس الحرير إذا لم يتصل بجسده حتى لو لبسه فوق شيء من غزل أو نحوه لا يكره
عنده، فكيف إذا لبسه فوق قباء أو شيء آخر محشو، أو كانت جبة من حرير وبطانتها ليست
بحرير، وقد لبسها فوق قميص عزلي.
__________
(1) () هذا السطر غير واضح في الأصل.
(1/38)
قال الزاهدي: في هذا رخصة عظيمة في موضع عم فيه البلوى، ولكن طلبت هذا القول عن أبي حنيفة في كثير من الكتب، فلم أجد سوى هذا، ومن الناس من يقول: إنما يكره إذا كان يمس الجلد وما لا فلا. وعن ابن عباس: أنه كان عليه جبة من حرير، فقيل له في ذلك، فقال: ما نرى إلى ما يلي الجسد، وكان تحته ثوب من قطن. وقال الزاهدي: إلا أن الصحيح ما ذكرناه من أن الكل حرام. وفي «شرح الجامع الصغير» للبَزْدوي: ومن الناس من أباح لبس الحرير والديباج للرجال، ومنهم من قال: هو حرام على النساء، وعامة الفقهاء على أنه يحل للنساء دون الرجال، فإن لبس منطقة فيها من الديباج أقل من أربعة أصابع، ولكن جعلها طاقين، كل طاق منها ثلاثة أصابع فلا يجوز. ذكر البخاري حديث علي من رواية: [6/ب] 5840 - شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيِّ قَالَ: كَسَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ، الحديث. [خ 5840] قال الجياني: كذا إسناد هذا الحديث عند رواية الهروي وغيرهم من رواة البخاري إلا ابن السكن قال في روايته: شعبة عن عبد الملك عن النزال عن علي، والأول هو المحفوظ، وقد ذكره البخاري أيضًا في غير موضع كما قلنا، وكذلك مسلم وغيرهما. بَابُ لُبْسِ القَسِّيِّذكر البخاري أن عاصمًا قال: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عن عَلِيٍّ ?: أَنَّهَا ثِيَابٌ مِنَ الشَّامِ، أَوْ مِنْ مِصْرَ، مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ وَفِيهَا أَمْثَالُ الأُتْرُنْجِ. هذا التعليق عن عاصم وصله أبو عبيد بن سلام في «غريبه» وبين أنه عاصم بن كليب. قال ابن بطال: الحرير حرام، قليله وكثيره، مصمتًا كان أو غير مصمت، في الحرب وغيرها، على الرجال والنساء؛ لأن التحريم بذلك قد جاء عامًا فليس لأحد أن يخص منه شيئًا؛ لأنه لم يصح بخصوصه خبر.
(1/39)
وقال
آخرون: هذه الأخبار الواردة بالنهي عن لبسه أخبار منسوخة، وقد رخص فيه صلى الله
عليه وسلم بعد النهي عن لبسه وأذن لأمته فيه. وقال آخرون ممن قال بتحليل لبسه:
ليست هذه الأخبار وإن كانت قد وردت بالنهي عن لبسه فإن المراد بها الخصوص، وإنما
أريد بها الرجال دون النساء، وما عنى به الرجال من ذلك فإنما هو ما كان منه حريرًا
مصمتًا، فأما ما اختلف سداه ولحمته أو كان علمًا في ثوب فهو مباح. وقال آخرون ممن
قال بخصوص هذه الأخبار: إنما عنى بالنهي عن لبسه في غير لقاء العدو، فأما عند
اللقاء فلا بأس يلبسه مباهاة وفخرًا (1).أما من قال بالأول: فعلي وابن عمر وأبو
هريرة وحذيفة والحسن ومحمد. والذين قالوا: التحريم على الرجال دون النساء؛ حذيفة
وابن عمر وأبو موسى. والقائلون بالنسخ اعتمدوا إذنه صلى الله عليه وسلم [7/أ]
للزبير في لبسه، قال أنس: «لقي عمر ابن عوف فجعل ينهاه عن لبس الحرير، وابن عوف
يضحك وقال: لو أطعتنا للبسته معنا»، رواه معمر عن ثابت عن أنس، وفي رواية: «والله
إني لأرجو أن ألبسه في الدنيا والآخرة».وعن ابن عباس وقد سئل عن الثوب عليه من
إستبرق: «ما أظن النهي عنه إلا للتكبر والتجبر ولسنا كذلك بحمد الله تعالى».وسئل
جبير بن حية عن ثوب لبسه من وشاح منسوج بذهب أنه يدفئني وألبسه في الحرب. قال
الطبري: من لبسه لباس اختيال وتكبر دون ضرورة تدعو إلى لباسه فهو الذي لا خلاق له
في الآخرة. وقال بعضهم: هو من لباس المشركين في الدنيا فينبغي أن لا يلبسه
المؤمنون. وقوله في: بَاب الأَكْسِيَةِ والخَمَائِصِ
__________
(1) () العبارة غير واضحة في الأصل، والمثبت من «التوضيح».
(1/40)
5815 - حدَّثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ عَبَّاسٍ قَالاَ: «لمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم طَفِقَ». [خ 5815] قال أبو علي الجياني: وقع في نسخة أبي محمد عن أبي أحمد في هذا الإسناد وهم، قال فيه عن ابن شهاب عن عبيد الله عن عبد الله بن عتبة أن عائشة وابن عباس، قال: وهو خطأ؛ وإنما هم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وهو الراوي عن عائشة وابن عباس لا أبوه. قال في «المحكم»: قس، والقس موضع ينسب إليه ثياب تجلب من نحو مصر، وقال القزاز: قس بفتح القاف، موضع تنسب إليه الثياب، وأصحاب الحديث يقولون: القِسي بكسر القاف، والفتح؛ لأنه منسوب إلى هذا البلد المذكور. وقال أبو عبيد بن سلام: القسي الذي ينسب إليه الثياب رأيتها ولم يعرفها الأصمعي، قال: وأصحاب الحديث يقولونه بكسر القاف، وأهل مصر بالفتح. وذكر الحسن بن محمد المهلبي المصري: أن القس لسان خارج في البحر عنده حصن يسكنه الناس، بينه [7/ب] وبين القرناء عشرة فراسخ من جهة الشام. وقال الحازمي: هي من بلاد الساحل. وفي «الغريبين»: قال شمر: القسي، قال بعضهم: هو القزي، أبدلت الزاي سينًا. وعبارة النووي: هو بفتح القاف وكسر السين المشددة، وبعض أهل الحديث يكسر القاف، والأول هو الصحيح المشهور، قال: والقس قرية من تِنِّيس، وقيل: هي ثياب كتان مخلوطة بالحرير، وقيل: هي ثياب من القز وهو رديء الحرير. وفي البخاري: «هي مثل القطائف تصنعها النساء لبعولتهن».وفي «سنن أبي داود»: القس: قرية بالصعيد. قال أبو عبيد: كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير. وعند الهروي: نهي عن مَيثرة الأرجوان، قال: وهي مرفقة، تتخذ لصفة السُّرج، وكانوا يحمرونها، والأرجوان صبغ أحمر.
(1/41)
وفي
«المحكم»: المَيثرة: الثوب تجلل به الثياب فيعلوها، والمثيرة: هنة كهيئة المرفقة
تتخذ للسرج كالصفة، وهي المواثر والمياثر على المعاقبة. وفي «مجمع الغرائب»
للفارسي: الميثرة: النقرة. قال الخطابي ـ وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «لا أركب
الأرجوان» ـ قال: الأرجوان: الأحمر، وأراد به المياثر الحمر، وقد تتخذ من ديباج
وحرير، وقد ورد فيها النهي، لما في ذلك من الشقة، وليست من لباس الرجال، وإنما
سميت هذِه المراكب مياثر؛ لوثارتها ولينها، وكانت من مراكب العجم. وقال النووي: هي
وطاء كانت النساء تصنعه لأزواجهن على السروج تكون من الحرير، وتكون من الصوف
وغيره. وقيل: هي أغشية للسروج تتخذ من الحرير، وقيل: هي سروج من الديباج، وقيل: هي
شيء كالفراش الصغير يتخذ من الحرير ويحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب على البعير تحته
فوق الرحل، وهي مفعلة من الوثار، وأصلها موثرة، فقلبت الواو بالكسرة قبلها كما في
ميراث وميقات، وأصله موراث وموقات. وفي بعض نسخ البخاري: وَالمِيثَرَةُ: جُلُودُ
السِّبَاعِ (1).والحلة السيراء التي رآها عمر تباع تقدم ذكرها في الصلاة، وأنها
كانت لعطارد.
__________
(1) () كذا وقع هنا في الأصل، وسيعيد ذكرها بعد قليل.
(1/42)
وذكر
البخاري في: بَاب الحَرِيرِ لِلنِّسَاءِ 5840 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ،
حدَّثنا شُعْبَةُ، [8/أ] قال: وحَدَّثَنِي ابْنُ بَشَّارٍ، حدَّثنا غُنْدَرٌ،
حدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
وَهْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «كَسَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً
سِيَرَاءَ» [خ 5840] كذلك عند رواة الفربري وغيرهم من رواة البخاري إلا ابن السكن،
فإن في روايته: شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال عن علي، جعل النزال بدل زيد،
والأول هو المحفوظ، ذكره الجياني. قال: وكذا خرجه مسلم، ورواه البخاري في موضعين
آخرين، وفي كليهما عند ابن السكن عبد الملك عن زيد على الصواب، والله تعالى أعلم.
وفي بعض نسخ البخاري: وَالمِيثَرَةُ: جُلُودُ السِّبَاعِ (1).يؤيد هذا ما في كتاب
النسائي من حديث المقدام ابن معدي كرب: وجلود النمور. وعند أبي داود من حديث أبي
هريرة: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر».وعند النسائي عن علي: «نهاني النبي
صلى الله عليه وسلم ولا أقول نهاهم عن القسي» الحديث. وفي كتاب «الخاتم» لأبي عبد
الله الحسين بن محمد ابن منجويه الدِّيْنَوَري: حدَّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان،
حدَّثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان، حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا حماد، عن
قتادة قال عمر بن الخطاب: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مياثر الأرجوان
والتختم بالذهب».وعند أبي داود بسند جيد عن معاوية يرفعه: «لا تركبوا الخز ولا
النمار».وفي كتاب «المشكل» للطحاوي: ... (2).قال أبو جعفر: في هذا حديث معاوية:
«نهى صلى الله عليه وسلم عن ثياب الحرير»، النهي عن لبس الحرير مطلقًا للرجال
والنساء، وروي هذا المذهب عن عبد الله بن الزبير. وقد روي عن سيدنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما يدل على هذا النهي أيضًا.
__________
(1) () كذا في الأصل، وقد ذكرها قبل قليل.
(2) () عدة كلمات غير واضحة في الأصل.
(1/43)
روى
عقبة بن عامر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منع أهله الحلية والحرير،
ويقول: إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها فلا تلبسنها في الدنيا».شد هذا الحديث
مذهب [8/ب] ابن الزبير، وقد حمل الآثار الأولى على دخولها في الرجال والنساء، وهذا
في القياس صحيح؛ لأنا رأينا آنية الذهب والفضة قد نهي عن استعمالهما؛ لأنه آنية
أهل الجنة، وكان الحرير لباس أهل الجنة، فكان في القياس أن يكون النساء في النهي
عنه كالرجال، ولكن أكثر الآثار يخالف ذلك، وقد ذكرنا منها ما فيه كفاية في الباب
الذي قبل هذا الباب وقد روي عن أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
لباسها من ذلك. روى البخاري عن أنس بن مالك:5842 - «أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ
كُلْثُومٍ بِنْتِ النبي صلى الله عليه وسلم، بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ». [خ 5842]
فإن كان ذلك في زمن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسد ما يعارض حديث عقبة،
وإن كان بعده كان دالًا على الصحة، والله الموفق. وفيه نظر في موضعين: الأول: لا
يكاد يخفى على أصغر طلبة الحديث فكيف مشايخها وهو أن وفاة أم كلثوم بإجماع ... (1)
كان في سنة تسع من الهجرة في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال
لأم عطية: «اغسلنها بماء وسدر» الحديث. والثانية: في نفس الحديث دلالة على أن ذلك
كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وقبل بلوغ أنس مبلغ الرجال، إذ لا يجوز لبالغ أن
ينظر إليهن، وبلوغ أنس كان في حياته صلى الله عليه وسلم إجماعًا، ولا وجه لقول
الطحاوي وإن كان بعده (2).
__________
(1) () غير واضحة في الأصل
(2) () غير واضحة في الأصل، والعبارة في «عمدة القاري»: وإن كان بعده كان دليلًا
على نسخ حديث عقبة.
(1/44)
قيل:
قد ورد في كتاب ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أنس: «أنه رأى على زينب بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم قميص حرير سيراء»، هذا اضطرب حديثه، قلنا: لا اضطراب؛ لأنه كان
يدخل على بنات النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجاب وقبل بلوغه فيراهن، ولا بعد في
لبسهن ذلك؛ لأنه من عادة الأخوات أن تلبس زيًا واحدًا. ذكر ابن أبي حاتم في كتاب
«العلل» حديث بقية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن يرى بالقز والحرير للنساء بأسًا»، قال أبو زرعة: هذا حديث [77/ب] منكر، قلت:
تعرف له علة، قال: لا. وحديث أنس لا يعارضه حديث عقبة لأمرين: الأول: حديث أنس عند
البخاري، وحديث عقبة عند ابن حبان في «صحيحه»، ومن المعلوم أن صحيح البخاري أرجح
من صحيح غيره على تقدير المساواة (1)، فلا يعارضه لاحتمال النسخ، ولا يقال: بل
ينزه أهله عن أمر مباح ليعظم لهم الأجر المسهم إياه. حديث أنس وعلي وابن عباس تقدم
ذكرها. وكذا حديث أم خالد وأنس وابن عمر والبراء وابن عمر وابن عباس وعائشة تقدم
ذكرها. بَابُ الثَّوْبِ الأَحْمَرِ ... (2). ذكر حديث البراء:
5848 - «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ». [خ 5848]
قال الطبري: يعارض هذا ما حدثنا به حماد بن محمد، عن عمارة الأسدي، حدَّثنا علي بن
قادم، حدَّثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهَب، عن عمه، عن أبي هريرة: «أن عثمان
رأى رجلًا وعليه ملحفة معصفرة فقال: تلبس المعصفر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عنه؟ فقال علي بن أبي طالب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينهه ولا
إياك؛ إنما نهاني أنا، فسكت عثمان».
وليس في هذا معارضة للأول بحال، وقد رويت أخبار تعارض حديث البراء لو كانت مستقيمة
الإسناد.
__________
(1) () غير واضحة في الأصل، والعبارة في «عمدة القاري»: فالمعارضة تقتضي المساواة.
(2) () مقدار كلمتين غير واضحتين، كأنهما: يتلوه الورقة.
(1/45)
منها:
أن أنسًا روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يكره الحمرة، ويقول: الجنة
ليس فيها حمرة».
ومنها: حديث عباد بن كثير عن هشام عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب
الخضرة ولا يحب الحمرة».
ومنها: حديث خارجة بن مصعب عن عبد الله بن سعيد ابن أبي هند عن أبيه مثله.
وحديث الحسن بن أبي الحسن: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحمرة زينة
الشيطان، والشيطان يحب الحمرة».
قال الطبري: قد اختلف [9/ب]
السلف في ذلك، فمنهم من رخص في لبس ألوان الثياب المصبوغة بالحمرة، مشبعة كانت أو
غير مشبعة.
ومنهم من كره المشبعة، ورخص فيما لم يكن مشبعًا.
ومنهم من كره لبس جميع الثياب الحمرة مشبعها وغير مشبعها.
ومنهم من رخص فيه للمهنة، وكرهه للبس.
حجة من رخص في جميع ألوان الثياب المعصفرة: قال بُريدة: «علي حملها يوم خيبر وعليه
حلة أرجوان حمراء».
وقال أبو ظبيان: رأيت عليه إزارًا أصفر.
وقال الأحنف: رأيت على عثمان ملاءةً صفراء.
وقال عبد الله بن الزبير: كان على الزبير يوم بدر ملاءة صفراء.
وكان أنس يلبس إزارًا معصفرًا.
وكان ابن المسيب يصلي وعليه برنس أرجوان.
ولبس المعصفر: عروة والشعبي وأبو وائل والنخعي والتيمي وأبو قِلابة وجماعة.
وقال مالك في الملاحف المعصفرة للرجال: لا أعلم شيئًا من ذلك حرام.
قال ابن بطال: وأجاز لباس المعصفر: البراء، وطلحة بن عبيد الله، وهو قول الكوفيين
والشافعي، وقال ابن عباس: لا بأس بما امتهن من المعصفر ويكره ما لبس منه.
وروي عن عطاء ومجاهد وطاووس كراهة ما اشتدت حمرته، وأباح ما خف منها.
روى إبراهيم الخزاعي عن عجوز: «أن عمر كان إذا رأى على رجل الثوب المعصفر ضربه».
ورأى ابن مُحيريز على ابن علية رداء موردًا فقال: «دع ذا عنا».
وقال عبد الله بن عمرو: رأى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثياب معصفرة فقال:
«ألقها فإنها ثياب الكفار».
(1/46)
وروى
ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم أغلظ له القول في الثياب المعصفرات.
والذين رخصوا فيما خفت حمرته احتجوا بحديث قيلة قال: «رأيت النبي صلى الله عليه
وسلم وعليه أسمال ملائتين كانتا بزعفران [10/أ] قد نفضتا».
قال الطبري: والصواب عندنا أن لبس المعصفر وشبهه من الثياب المصبغة وغيرها من
الأصباغ غير حرام؛ بل ذلك مطلق مباح، غير أني أحب للرجال توقي لبس ما كان مشبعًا
صبغة، وأكره لهم لبسه ظاهرًا لمعنيين:
أحدهما: ما روي عنه من الكراهة.
والثاني: أنه شهرة، وليس من لباس أهل المروءة في زماننا هذا، وإن كان قد لبسه كثير
من أهل الدين والفضل، فالذي [ينبغي للرجل أن يتزيَّا] (1) في كل زمن بزي أهله ما
لم يكن إثمًا؛ لأن مخالفة الناس في زيهم ضرب من الشهرة.
ويكون الجمع بين الحديثين أنه صلى الله عليه وسلم ليعلم أمته الاستنان به.
حديث أبي هريرة:
5856 - «لاَ يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ» (2). [خ 5856]
5857 - حدَّثنا حَجَّاجُ ابْنُ مِنْهَالٍ، حدَّثنا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عن
أَنَس: «أَنَّ نَعْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهَا قِبَالاَنِ». [خ
5857]
قال الجياني: كذا إسناد هذا الحديث، وفي نسخة أبي محمد بن راشد عن ابن السكن:
«هشام» بدل «همام»، وليس من رواة.
وفي «السنن» عن محمد بن معمر، حدَّثنا حبان، حدَّثنا همام، عن قتادة فذكر الحديث.
«لاَ يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ
لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا». [خ 5856]
لفظ بعضها ... ابن أبي شيبة «وفي خف واحد».
وفي لفظ: «إذا انقطع شِسْع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتى يصلحها».
__________
(1) () غير واضحة في الأصل، والعبارة موجودة هكذا في «التوضيح».
(2) () غير واضحة في الأصل، والحديث في البخاري.
(1/47)
قال
الطحاوي في «المشكل»: النهي فيه صحيح، ومعناه بَيِّن؛ لأن من لبس نعلًا واحدًا أو
خفًّا واحدًا كان ذلك عند الناس سخرية؛ لأنه ليس يستحسن من لباس الناس، فمثل هذا
لو لم يكن فيه نهي لوجب أن ينهى عنه.
وفي «الجعديات»: أنا زهير، عن أبي الزبير، عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في نعل واحد حتى يصلح شسعه، ولا يمشي في الخف
الواحد».
فإن قلت: ورد حديث يخالف هذا ذكره ابن شاهين في كتاب «الناسخ والمنسوخ» قال: حدثنا
جعفر بن محمد بن العباس الكرْخي، حدَّثنا جُبارة بن المُغَلِّس، حدَّثنا مِنْدَل،
[10/ب]
ـ يعني ابن علي ـ عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر قال: «ربما انقطع شسع نعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيمشي في نعل واحدة حتى يصلحها أو تصلح له».
وفي كتاب «العلل» من حديث ليث [بن أبي سليم]، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه،
عن عائشة قالت: «ربما مشى النبي صلى الله عليه وسلم في نعل واحدة».
وروى ابن عُلية والثوري عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة: «أنها مشت في خف واحد».
قال: سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: الصحيح عن عائشة موقوف ... صحيح لا تحسن به
المعارضة ولا النسخ.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: «أن عائشة
كانت تمشي في خف واحد وتقول: لأخالفن أبا هريرة».
ومن حديث رجل من مزينة: «رأيت علي ابن أبي طالب يمشي في نعل واحدة بالمدائن».
وعن زيد بن محمد: «أنه رأى سالمًا يمشي في نعل واحدة بالمدائن».
على حديث عائشة لصحته ولأنها خالفت رواية أبي هريرة ... حديث ابن عمر فعله وفعل
ولده من بعده، والله تعالى أعلم.
فائدة:
الشِّسْع: بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة ساكنة بعدها عين، أحد سيور النعل الذي
يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام،
والزمام هو السير الذي يعقد فيه الشسع، قال عياض: وجمعه شُسُوع. ==
ج8. التلويح إلى شرح الجامع الصحيح للحافظ مغلطاي
قال البخاري في: بَابُ القُبَّةِ الحَمْرَاءِ مِنْ أَدَمٍ 5860 - حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ قَالَ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْأَنْصَارِ وَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ». [خ 5860] وصله الإسماعيلي، عن ابن هانئ، حدَّثنا الرمادي، حدَّثنا أبو صالح، حدَّثنا الليث بن سعد، حدثني يونس به. وروى البخاري في: بَابُ المُزَرَّرِ بِالذَّهَبِ 5862 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ المِسْوَرِ. [خ 5862] هذا التعليق وصله الإسماعيلي عن يوسف القاضي، حدَّثنا كامل بن طلحة، حدَّثنا الليث فذكره. حديث أنس تقدم. وحديث [11/أ] أبي جُحيفة تقدم في الصلاة. وكذا حديث أنس تقدم في المغازي. وحديث الليث تقدم في الصيام. وحديث المسور تقدم في الشهادات. ورواه قتيبة عن الليث. وهو عند الحازمي موصولًا قال: حدَّثنا الخطيب، أخبرنا أبو زكريا العَبْدي، أخبرنا أبو طاهر بن عبد الرحيم، أنا أبو الشيخ، حدَّثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، حدَّثنا ابن خالد الرملي، حدَّثنا الليث فذكره. وفي بعض نسخ البخاري: «حدَّثنا قتيبة، حدَّثنا الليث»، كذا ذكره خلف وغيره. ولم أره في شيء من الأصول، والله تعالى أعلم. قال الحازمي: إن خروجه صلى الله عليه وسلم لمخرمة وعليه قباء من ديباج مزرر بذهب منسوخ بحديث جابر: «لبس صلى الله عليه وسلم يومًا قباء ديباج أهدي له، ثم أوشك أن ينزعه»، وبحديث عقبة بن عامر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في فروج حرير ثم نزعه، وقال: إن هذا ليس من لباس المتقين».وذكر البخاري حديث: 5864 - شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ».
[خ 5864] 5865 - وعَنْ عَبْدِ الله بن عمر: «أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ». [خ 5862] وفي كتاب «الخاتم» لابن منجويه حدثنا أحمد بن عمر، حدَّثنا أبو مسلم الكشي، حدَّثنا حجاج بن نصير، عن شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن خاتم الذهب»، وفي رواية: «رأى صلى الله عليه وسلم على رجل خاتمًا من ذهب فأخذه فحذف به. وعند البخاري:5866 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، فَاتَّخَذَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدِ اتَّخَذُوهَا رَمَى بِهِ وَقَالَ: لاَ أَلْبَسُهُ أَبَدًا، ثُمَّ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ الفِضَّةِ، [11/ب] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ الخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسَ». [خ 5866] وفي لفظ:5867 - «كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذَهُ فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ». [خ 5867] وفي حديث:5868 - أَنَس: «أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ النبي صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اصْطَنَعُوا الخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ». [خ 5868] قال أبو عبد الله: تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَزِيَادٌ، وَشُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
انتهى
كلامهوروى أبو داود من حديث إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عنه: «أنه رأى في يد
النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ورق يومًا واحدًا، فصنع الناس، فلبسوا، وطرح
النبي صلى الله عليه وسلم، وطرح الناس».قال أبو داود: رواه عن الزهري زياد بن سعد
وشعيب بن أبي ضَمْرة وابن مسافر كلهم قال: «من ورق».وقال الإسماعيلي: حدَّثنا أبو
يعلى، حدَّثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة وبشر بن الوليد. وقال عبد
العزيز: حدثني إبراهيم بن سعد فذكر: «من ورق».وحديث شعيب رواه عن الفضل ابن عبد
الله، حدَّثنا عمر بن عثمان، حدَّثنا بشر بن بشر بن شعيب بن أبي حمزة. وحديث زياد
رواه الإسماعيلي أيضًا عن الحسن، حدَّثنا محمد بن عبد الله بن نمير وإسحاق بن
منصور، حدَّثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن زياد. وروى الإسماعيلي عن إبراهيم
بن موسى، أخبرنا أبو الأحوص، حدَّثنا ابن عُفير، حدَّثنا الليث عنه، وكلهم قال:
«من ورق».وقال الإسماعيلي: وحديث ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة أولى، فإن ابن ناجية
وموسى بن العباس أخبراني عن أبي إسماعيل الترمذي على أن [12/أ] النبي صلى الله
عليه وسلم لبس الخاتم. وكذلك روى ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ
خاتمًا من ورق على لون من الألوان، وكره أن يتخذ الناس مثله، فلما اتخذوه رمى به
حتى رموا به، ثم اتخذ بعد ما اتخذه ونقش عليه لما احتاج إلى الختم. وقوله
للمتزوج:5871 - «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ». [خ 5871] فيه دليل على
استعمالهم خواتيم الفضة إلى أدناها. قال: وقول البخاري: بَابُ فَصِّ الخَاتَمِ
5869 - وذكر فيه حديث أنس: «فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ في
أصبعِهِ». [خ 5869]
ليس في الباب الذي ترجمه.
وفي الباب أحاديث أخرى:
منها: ما هو عند ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن أبي زياد، عن أبي سعيد، عن أبي
الكَنود، عن ابن مسعود قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن خاتم
الذهب».
(1/51)
ومنها:
حديث علي بن مُسهِر، عن يزيد بن أبي زياد، عن الحسن بن سهيل، عن ابن عمر قال: «نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب» وسنده صحيح.
وبسند صحيح عن عائشة قالت: «أهدى النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة
فيها خاتم من ذهب، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود وإنه لمعرض عنه، ثم
دعا بابنة ابنته أُمامة فقال: «تحلي به يا بنية».
ومن حديث جعفر بن محمد، عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم
بخاتم من ذهب، فطفق الناس ينظرون إليه، فوضع يده اليمنى على خنصره، ثم رجع إلى
البيت فرمى به».
وأخرج ابن منجويه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: «نهاني النبي صلى
الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وخاتم الحديد».
وأخرج ابن شاهين من حديث ميمون بن سنباذ، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا:
«من لبس الذهب من أمتي فمات وهو يلبسه حرم الله جلَّ وعزَّ عليه ذهب الجنة، ومن
لبس الحرير فكذلك».
ووقع في كتاب ابن منجويه من حديث عمرو، عن طاوس قال: «كان في يد رسول الله صلى
الله عليه وسلم [81/أ] [خاتم من ذهب، فنظر إليه نظرة وإليهم نظرة، ثم ألقاه فلم
يلبسه»].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق